دراسات فی المکاسب المحرمه [شیخ انصاری]

اشارة

سرشناسه : منتظری، حسینعلی، - 1301

عنوان و نام پديدآور : دراسات فی المکاسب المحرمه [شیخ انصاری]/ لمولفه حسینعلی المنتظری

مشخصات نشر : قم: نشر تفکر، 1415ق. = - 1373.

شابک : 7000ریال(ج.1) ؛ 7000ریال(ج.1)

يادداشت : جلد سوم این کتاب توسط انتشارات سرایی: 1380 منتشر شده است

يادداشت : ج. 2 (چاپ اول: مکتب آیت الله العظمی المنتظری، 1417ق. = 1375)؛ 9000 ریال

يادداشت : ج. 2، 1381، 28000 ریال

يادداشت : 1423 = 1381

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : المکاسب. شرح

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214ق. المکاسب -- نقد و تفسیر

موضوع : معاملات (فقه)

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214ق. المکاسب. شرح

رده بندی کنگره : BP190/1/الف 8م 70218 1373

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : م 73-2362

الجزء الأوّل

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

أمّا بعد، فبعد ما وقع الفراغ من البحث عن زكاة المال، مستطردا في أثنائه البحث عن ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية بالتفصيل- و قد طبعت الأبحاث بحمد اللّه تعالى و منّه- أبرز الأصدقاء أطروحات مختلفة بالنسبة إلى موضوع البحث الجديد، و منها البحث عن المكاسب المحرّمة و البيع، فاستخرت اللّه- تعالى- و تفألت بكتابه العزيز لذلك- على ما هو دأبي و عادتي في طول حياتي، و إن كان ثقيلا على بعض- فكان أوّل ما يرى منه قوله- تعالى- في سورة التوبة: التّٰائبُونَ الْعٰابدُونَ الْحٰامدُونَ السّٰائحُونَ الرّٰاكعُونَ السّٰاجدُونَ الْآمرُونَ بالْمَعْرُوف وَ النّٰاهُونَ عَن الْمُنْكَر وَ الْحٰافظُونَ لحُدُود اللّٰه وَ بَشِّر الْمُؤْمنينَ «1»، فعزمت و صمّمت على تنفيذ ما هداني اللّه- تعالى- إليه.

______________________________

(1) سورة التوبة (9)، الآية 112.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1،

ص: 8

و حيث كان كتاب المكاسب، الذي ألّفه خرّيت فنّ الفقاهة في الأعصار الأخيرة و أستاذ الأعاظم الشيخ الأعظم الأنصاري- أعلى اللّه مقامه الشريف-، من أعظم ما صنّف في هذا الموضوع و أتقنها بيانا و استدلالا و كان مطرحا لأنظار العلماء و الأفاضل و مدارا لأبحاثهم، كان الأولى جعله محورا للبحث، فنراعي في بحثنا ترتيبه و نذكر ما نلقيه في أبحاثنا حول إفاداته الشريفة. فشكر اللّه- تعالى- سعيه، و وفّقنا لفهم مقاصده الرفيعة و الاهتداء إلى ما هو الحقّ في المسائل المطروحة، و عليه نتّكل و به نستعين.

و قد شرعنا في البحث في يوم الأربعاء، 11 ربيع الأول 1413 ه. ق، الموافق ل 18/ 6/ 1371 ه. ش.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 9

[خطبة الماتن]

______________________________

قال المصنّف: بسْم اللهِ الرَّحْمٰن الرَّحيم الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

[الآيات الواردة في المكاسب]

اشارة

في المكاسب (1) و ينبغي أوّلا التيمّن بذكر بعض الأخبار الواردة على سبيل الضابطة

(1) أقول: قد يقال: إنّ عنوان الكتاب بالمكاسب- كما في المتن- أولى من عنوانه بالمتاجر. إذ التجارة فسّرت بخصوص البيع و الشراء بقصد الربح و زيادة المال، فلا تعمّ ما إذا وقعا لرفع الحاجات فقط من دون أن يقصد الربح، فضلا عمّا إذا لم يقع بيع و شراء بل كان

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 10

للمكاسب من حيث الحلّ و الحرمة (1).

______________________________

هنا استيجار و إيجاد للصنائع و الأعمال المحلّلة أو المحرّمة. و هذا بخلاف المكاسب، فإنّه جمع للمكسب بمعنى ما يطلب به المال، فيعمّ الإجارة أيضا. و المقصود هنا البحث في طرق تحصيل المال و تمييز المحلّل منها عن المحرّم و إن كان بنحو الإجارة، و لذا أفرد البحث عن المكاسب عن بحث البيع.

و لكن يمكن أن يناقش ما ذكر بأنّ عنوان المكاسب أيضا لا يكون جامعا لمحطّ البحث، إذ الكسب أيضا لا يصدق على مبادلة ضروريّات المعاش من الأرزاق و الألبسة مثلا و لا سيّما بالنسبة إلى المشتري، مع أنّ الغرض من البحث هنا بيان حكم جميع المعاملات الواقعة على الأعيان أو المنافع و تمييز المحلّل منها عن المحرّم بنحو العموم. فالعنوان الجامع أن يقال هكذا: «ما تحلّ المعاملة عليه عينا أو منفعة أو انتفاعا و ما تحرم.»

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الكسب بحسب اللغة يصدق على كلّ ما حصّله الإنسان و ناله من الأشياء أو الأعمال، فيصدق

على تحصيل ضروريات المعاش أيضا.

(1) أقول: التيمّن بالكتاب العزيز أنسب، فكان الأولى قبل ذكر الروايات التعرّض لبعض الآيات التي يمكن أن يصطاد منها الضوابط الكلّية في باب المعاملات و بها يرفع اليد عن الأصل الأوّلي فيها أعني أصالة الفساد. فلنتعرض لها:

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 11

[الآية الأولى آية النداء]

______________________________

الآية الأولى قال اللّه- تعالى- في سورة الجمعة: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إذٰا نُوديَ للصَّلٰاة منْ يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إلىٰ ذكْر اللّٰه وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذٰلكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* فَإذٰا قُضيَت الصَّلٰاةُ فَانْتَشرُوا في الْأَرْض وَ ابْتَغُوا منْ فَضْل اللّٰه وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ كَثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ* وَ إذٰا رَأَوْا تجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائماً ... «1»

يظهر من سياق هذه الآيات و ممّا ورد في تفسيرها أنّ النبي «ص» حينما كان قائما يخطب الناس لمّا ارتفع صوت الطبل أو المزامير إعلانا بالتجارات الواردة تركه المستمعون و انفضّوا إليها بقصد التجارة أو اللهو. فالمنع عن البيع وقع لأجل إدراك الخطبة و الجمعة، و أمّا بعد ما قضيت الصلاة فجاز لهم الانتشار في الأرض و الابتغاء من فضل اللّه- تعالى- فيعلم من ذلك جواز الاستفادة ممّا يترقّب منه حصول الفائدة و الاستفادة من فضله- تعالى- و منها البيوع و التجارات الرائجة المفيدة و الصناعات و الإجارات.

ففي المجمع في ذيل قوله- تعالى-: وَ ابْتَغُوا منْ فَضْل اللّٰه قال: «أي اطلبوا الرزق

______________________________

(1) سورة الجمعة (62)، الآيات 9- 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 12

..........

______________________________

في البيع و الشراء. و هذا إباحة و ليس بأمر و إيجاب.» «1»

و فيه أيضا: روى عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إنّي لأركب في الحاجة التي كفاها اللّه.

ما أركب فيها إلّا التماس أن يراني اللّه أضحي في طلب الحلال. أما تسمع قول اللّه- عزّ اسمه-: فَإذٰا قُضيَت الصَّلٰاةُ فَانْتَشرُوا في الْأَرْض وَ ابْتَغُوا منْ فَضْل اللّٰه؟ ...» «2»

و في دعائم الإسلام: روّينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي- عليهم السلام-: أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إذا أعسر أحدكم فليخرج من بيته و ليضرب في الأرض يبتغي من فضل اللّه، و لا يغمّ نفسه و أهله.» «3» و راجع رواية السكوني في هذا المجال. «4»

و بالجملة فظاهر هذه الآيات جواز تحصيل المال بالتجارات و نحوها من مظاهر فضل اللّه- تعالى- إلّا أن يثبت منع من قبل الشارع.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الآيات ليست في مقام تشريع جواز تحصيل المال و ابتغاء فضل اللّه حتّى يؤخذ بإطلاقها، بل في مقام بيان عقد النفي و هو عدم جواز البيع و غيره ممّا يزاحم الجمعة. و التصريح في الذيل بمفهوم الصّدر وقع تطفّلا، فيكون إشارة إلى التجارات التي ثبتت مشروعيتها بأدلّة أخر.

______________________________

(1) مجمع البيان 5/ 288 و 289 (الجزء العاشر من التفسير)؛ و روى الحديث في الوسائل 12/ 16، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب مقدماتها، الحديث 9.

(2) مجمع البيان 5/ 288 و 289 (الجزء العاشر من التفسير)؛ و روى الحديث في الوسائل 12/ 16، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب مقدماتها، الحديث 9.

(3) دعائم الإسلام 2/ 13، كتاب البيوع ...، الفصل 1 (ذكر الحضّ على طلب الرزق)، الحديث 1.

(4) راجع الوسائل 12/ 12، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب مقدماتها، الحديث 12.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 13

[الآية الثانية آية التجارة]

______________________________

الآية الثانية قوله- تعالى- في سورة النساء: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا

تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل إلّٰا أَنْ تَكُونَ تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ منْكُمْ. «1»

أقول: 1- أصل الأكل: التغذّي بالشي ء بالتقامه و بلعه. و حيث إنّه مستلزم للتسلّط على الشي ء و إفنائه شاع استعماله في إفناء الشي ء مطلقا فيقال: أكلت النار الحطب، و يقال: أكل زيد مال عمرو إذا استولى عليه و تصرّف فيه تصرّف الملّاك في أموالهم المستلزم أحيانا لإعدامها و إفنائها، و ذلك بعناية أنّ الأكل أشدّ ما يحتاج إليه الإنسان و أعمّ تصرّفاته في الأشياء. و هذا الاستعمال شائع عند العرف و العقلاء حتّى الفصحاء منهم. و على أساسه شاع استعماله في الكتاب و السنة أيضا. فالمقصود في الآية، النهي عن الاستيلاء على مال الغير بالطرق الباطلة.

2- و لا يخفى أنّ حرمة أكل المال الحاصل بالأسباب الباطلة كناية عن فسادها عند الشرع و عدم تأثيرها في النقل. كما أنّ حلّيته بالتجارة عن تراض كناية عن صحّتها عنده و تأثيرها في النقل، فذكر اللازم و أريد الملزوم.

و بعبارة أخرى: ظاهر النهي في أمثال المقام الإرشاد إلى فساد الأسباب لا التكليف المحض.

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 29.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 14

..........

______________________________

اللّهم إلّا إذا علم بمناسبة الحكم و الموضوع إرادة التكليف المحض كالنهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة مثلا. حيث إنّ الغرض منه إدراك الجمعة من دون أن يكون في البيع بما هو بيع و معاملة خاصّة مفسدة توجب فساده. إذ لا موضوعية للبيع، و إنما يحرم كلّ فعل زاحم الجمعة. فتعلّق النهي بالبيع بما أنّه فعل من الأفعال المزاحمة، لا بما أنّه معاملة خاصّة. و قد ذكر البيع من باب المثال و شأن النزول و من باب ذكر الفرد الشائع من المزاحمات.

و إن

شئت قلت: إنّ النهي هنا تبعي، و الغرض منه تأكيد السعي إلى الجمعات و خطبها، فتدبّر.

و بالجملة قد تكون المعاملة محرّمة تكليفا فقط كالبيع وقت النداء، و قد تكون محرّمة وضعا فقط كبيع الميتة مثلا، حيث إنه لا دليل على حرمته تكليفا إلّا من جهة التشريع، و قد تكون محرّمة تكليفا و وضعا كالمعاملات الربويّة و كالقمار مثلا.

3- و إضافة الأموال إلى ضمير الجمع بلحاظ توزيع الأموال بينهم. و لعلّ فيها مضافا إلى ذلك إشعارا بأنّ الأموال لوحظ فيها مصالح المجتمع و ليس للشخص التصرّف فيها بنحو يضرّ بهم، نظير قوله- تعالى-: وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قيٰاماً «1».

4- و في قوله: بَيْنَكُمْ الدّال على تجمّعهم على المال و وقوعه بينهم إشعار بكون المنهيّ عنه مداورة المال و تداوله بينهم بنقله من يد إلى يد.

5- و الباء في قوله: بالْبٰاطل ظاهرة في السببية، فأريد النهي عن الاستيلاء على

______________________________

(1) سورة النساء (5)، الآية 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 15

..........

______________________________

مال الغير و تملكه بالأسباب و الطرق الباطلة. و يشهد لذلك استثناء التجارة، و هي من الأسباب المملّكة. و المستثنى و المستثنى منه مسانخان إجمالا.

و ربّما يستفاد من بعض الكلمات في التفاسير و كتب الفقه حمل الباء على المقابلة، نظير ما يدخل على الثمن في المعاوضات، فأريد النهي عن أكل مال الغير بإزاء الأمر الباطل، أعني ما لا يفيد مقصودا و لا قيمة له عرفا أو شرعا.

قال في مجمع البيان: «و في قوله: بالْبٰاطل قولان: أحدهما أنّه الربا و القمار و النجش (البخس- البرهان) و الظلم، عن السدّي و هو المرويّ عن الباقر «ع». و الآخر أنّ معناه بغير استحقاق من

طريق الإعواض، عن الحسن.» «1»

أقول: الظاهر كما عرفت أنّ النظر في الآية إلى الأسباب المملّكة لا إلى جنس الثمن و أنه باطل أم لا.

6- ثمّ هل يراد بالأسباب الباطلة خصوص ما ثبت بطلانها شرعا كالقمار و الغصب و الغارات و بيع الملامسة و أمثال ذلك ممّا ورد المنع عنها من ناحية الشرع، كما يظهر من بعض الأخبار و من تفسير الميزان، بل لعلّه المترائى من مصباح الفقاهة أيضا «2» فتأمل.

قال في تفسير الميزان: «و هي المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا و القمار و البيوع الغررية كالبيع بالحصاة و النواة و ما أشبه ذلك.» «3»

______________________________

(1) مجمع البيان 2/ 37، (الجزء الثالث من التفسير)؛ و تفسير البرهان 1/ 363.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 35.

(3) تفسير الميزان 4/ 317 (طبعة أخرى 4/ 337)، في تفسير سورة النساء.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 16

..........

______________________________

و لعلّه أخذ ذلك من زبدة البيان للمقدّس الأردبيلي، قال بعد ذكر الآية الشريفة:

«أي لا يتصرّف بعضكم في أموال البعض بغير وجه شرعي مثل الربا و الغصب و القمار، و لكن تصرّفوا فيها بطريق شرعي و هو التجارة عن تراض من الطرفين و نحو ذلك.» «1»

و مقتضى هذا البيان كون هذه الآية ناظرة إلى تلك الأدلّة المتعرّضة للأسباب المحرّمة شرعا.

أو يراد بها مطلق ما يصدق عليه عنوان الباطل كما هو الظاهر من اللفظ. إذ الخطابات المتوجّهة إلى الناس تحمل بموضوعاتها و متعلّقاتها و قيودها على المفاهيم العرفيّة المتبادرة عندهم. و العقلاء أيضا يحكمون بفطرهم ببطلان بعض الأسباب و كونها ظالمة باطلة عند العقل الصريح. نعم من جملة مصاديقها أيضا ما حكم الشرع ببطلانه تخطئة للعقلاء و توسعة للموضوع من باب الحكومة؟

الظاهر هو الثاني. إذ كون

الآية ناظرة إلى الأدلّة الأخر خلاف الظاهر جدّا. و ظاهر القضيّة كونها حقيقية ما لم يكن دليل على إرادة الخارجيّة. مضافا إلى أن جعل الآية ناظرة إلى تلك الأدلّة الشرعيّة يوجب حمل النهي فيها على التأكيد و الإرشاد المحض، نظير قوله- تعالى-: أَطيعُوا اللّٰهَ*، و هذا خلاف ظاهر النهي لظهوره في التأسيس و المولويّة.

فإن قلت: قد فسّر الباطل في أخبار مستفيضة بالقمار و أمثاله، فيعلم من ذلك نظر الآية الشريفة إلى الأسباب المحرّمة من قبل الشارع:

______________________________

(1) زبدة البيان/ 427، كتاب البيع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 17

..........

______________________________

1- ففي رواية زياد بن عيسى قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن قول اللّه- عزّ و جلّ-:

وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل، فقال: «كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه- عزّ و جلّ- عن ذلك.» «1»

2- و في رواية محمد بن علي عن أبي عبد اللّه «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل، قال: «نهى عن القمار، و كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه عن ذلك.» «2»

3- و في رواية أسباط بن سالم قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» فجاء رجل فقال:

أخبرني عن قول اللّه- عزّ و جلّ-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل، قال: «يعني بذلك القمار.» «3»

4- و في رواية النوادر قال: قال أبو عبد اللّه «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل قال: «ذلك القمار.» «4»

5- و في تفسير البرهان عن نهج البيان عن الباقر و الصادق «ع»: «إنّه القمار و السحت و الربا و الإيمان.» «5»

قلت: تطبيق الموضوعات القرآنية

في أخبارنا على بعض المصاديق لا يدلّ على

______________________________

(1) الوسائل 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) الوسائل 12/ 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.

(3) الوسائل 12/ 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(4) الوسائل 12/ 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 14.

(5) تفسير البرهان 1/ 364.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 18

..........

______________________________

الحصر. و قد يذكر مورد نزول الآية بعنوان التفسير، و لكن أحكام القرآن عامّة لا تختصّ بمورد دون مورد. و قد نادى بذلك الأخبار الواردة عن أهل البيت «ع». هذا مضافا إلى أنّ القمار بنفسه ممّا يحكم العقلاء أيضا ببطلانه إذا خلّوا و فطرتهم السليمة، و لذا يذمّون من خسر ماله في طريقه.

7- و أمّا قوله: تجٰارَةً فقرأها أهل الكوفة بالنصب و الباقون بالرفع- كما في المجمع-. «1» فالرفع على أنّ «تكون» تامّة. و النصب على أنها ناقصة، و اسمها الضمير المستتر العائد إلى التجارة المفهومة من السياق أو إلى الأموال أو إلى الأكل و شبهه.

8- و أمّا معنى التجارة فقال الراغب في المفردات: «التجارة: التصرّف في رأس المال طلبا للربح. يقال: تَجر يتجُر و تاجر و تجر كصاحب و صحب. و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ.» «2»

أقول: ليس في كلامه اسم من البيع و الشراء فيشمل إطلاق كلامه من اشترى عينا ليربح فوائدها الحاصلة من الصنع فيها أو الإجارة. و لا يشمل البيوع الحاصلة لا بقصد الاسترباح. و على هذا فبين البيع و التجارة عموم من وجه.

و في مجمع البحرين: «التجارة بالكسر هي انتقال شي ء مملوك من شخص آخر بعوض مقدّر على جهة

التراضي.» «3»

______________________________

(1) راجع مجمع البيان 2/ 36 (الجزء الثالث من التفسير).

(2) مفردات الراغب/ 69.

(3) مجمع البحرين 3/ 233 (ط. أخرى/ 234).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 19

..........

______________________________

و في أوّل تجارة الجواهر: «المراد بها مطلق المعاوضة.» «1»

أقول: ظاهر قوله- تعالى-: رجٰالٌ لٰا تُلْهيهمْ تجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذكْر اللّٰه «2» أيضا كون التجارة أعمّ، إلّا أن يقال كما في تفسير الميزان: إنّ التجارة البيع المستمر و البيع أعمّ من ذلك. «3»

و لكن في لسان العرب: «تجر يتجر تجرا و تجارة: باع و شرى، و كذلك اتّجر و هو افتعل.

و قد غلب على الخمّار.» «4»

و في مجمع البيان في تفسير قوله: تجٰارَةً قال: «أي مبايعة» «5». و على هذا فيختصّ اللفظ بالبيع و الشراء و لا يتقيّد بالربح و قصده، و إن كان المقصود في الآية الشريفة بقرينة المستثنى منه صورة حصول الربح المستلزم لجرّ مال الغير إلى نفسه.

و يظهر من قانون التجارة الرائج في بلادنا- و لعلّه أخذ من البلاد الأخر- حمل لفظ التجارة على معنى أوسع من البيع و الشراء بمراتب ففسّر في المادة الثانية منه المعاملات التجارية بالاشتراء أو تحصيل أيّ نوع من المال المنقول بنيّة بيعه أو إجارته، و تصدّي الحمل و النقل من الطرق البحريّة و البريّة و الجويّة، و عمليّة السمسرة و الوساطة في

______________________________

(1) الجواهر 22/ 4.

(2) سورة النور (24)، الآية 37.

(3) تفسير الميزان 15/ 127 (طبعة أخرى 15/ 137).

(4) لسان العرب 4/ 89.

(5) مجمع البيان 2/ 37 (الجزء الثالث من التفسير).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 20

..........

______________________________

المعاملات، و تأسيس المعامل و تهيئة الخدمات و التداركات، و تأسيس المصانع و إدارتها، و تأسيس المصارف لصرف النقود و

الأوراق المعتبرة، و عمليّات التأمين بأنواعه، و صنع السفن و بيعها و شرائها و المعاملات المرتبطة بها و أمثال ذلك، فراجع. «1»

و لكن هذا لا يفيدنا في تحصيل معنى الكلمة بحسب لغة العرب كما لا يخفى.

9- و ظاهر قوله: عَنْ تَرٰاضٍ اشتراط صحّة التجارة بوقوعها عن رضى الطرفين بحيث يوجد رضاهما حين العقد و يكون الإقدام على العقد ناشئا عن الرضا.

و مقتضى ذلك عدم صحّة الفضولي و إن تعقّبته الإجازة.

اللّهم إلّا أن يصحّ إسناد البيع إلى المالك بعد تحقّق رضاه بحيث يصدق أنّه باع ماله عن رضاه. و لكنّه مشكل. فالعمدة في تصحيح الفضولي بالإجازة اللاحقة استفادة ذلك من الأخبار و لا سيّما ما ورد في نكاح الفضولي. أو يقال باستقرار سيرة العقلاء على تصحيحه بعد تحقّق رضا المالك حيث إنّه الركن الأعظم في المعاملة.

10- و يظهر من الآية الشريفة أيضا كفاية وقوع العقد عن الرضا في انتقال المبيع إلى المشتري و جواز أكله له، و لا يتوقّف ذلك على القبض كما في الهبة، و لا على انقضاء زمان الخيار و إن حكي ذلك عن الشيخ. «2» و لا ينافي ذلك ثبوت خيار الفسخ لهما أو لأحدهما في موارد الخيار. اللّهم إلّا أن يمنع كون المستثنى في الآية في مقام البيان و سيأتي الإشارة إلى ذلك، و التفصيل يطلب من محلّه.

11- ثمّ هل الاستثناء في الآية متّصل أم منقطع؟ لا يخفى أن الأصل في الاستثناء

______________________________

(1) كتاب «قانون تجارت»/ 9.

(2) راجع المكاسب/ 298، مسألة أنّ المبيع يملك بالعقد و أثر الخيار تزلزل الملك.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 21

..........

______________________________

أن يكون متّصلا. و توجيهه في المقام بأحد وجهين:

الأوّل: أن يجعل المستثنى منه بدون قوله: بالْبٰاطل

و يجعل هو بمنزلة كلام مستقل جي ء به لبيان حال المستثنى منه بعد إخراج المستثنى و تعلّق النهي. فكأنّه قال:

«لا تأكلوا أموالكم بينكم إلا بطريق التجارة عن تراض، فإنكم إن أكلتموها بغير هذا الطريق كان أكلا بالباطل».

الثاني: أن يقال: إنّ أكل المال بالحقّ و عن استحقاق واقعي ينحصر فيما إذا بني الملكيّة على أساس الملكيّة التكوينيّة بأن ملك الأشياء بتوليدها أو بالصنع عليها و تغيير صورها بحيث يحدث فيها قيمة. و أمّا التّاجر فلا يكون مولّدا لا للموادّ و لا للآثار و الصّور، بل يبيع العين الذي اشتراها بلا تغيير فيها بقيمة زائدة على ما اشتراه. فأكل المقدار الزائد باطل حقيقة، و لكنّ الضرورة الاجتماعيّة أحوج المجتمع إلى تصحيح التجارة فصحّحها الشارع أيضا تسهيلا للأمّة. هذا.

و لا يخفى بعد كلا الوجهين: أمّا الأوّل فلأنّ جعل قوله: بالْبٰاطل بمنزلة جملة مستقلّة معترضة خلاف الظاهر، إذ الظاهر كونه من قيود المستثنى منه.

و أمّا الثاني: فلأنّ الباطل ما لا يترتّب عليه أغراض عقلائيّة. و بعد احتياج المجتمع إلى مبادلة التوليدات لتوقّف الحياة و التعيّش عليها لا يصح إطلاق الباطل عليها. و التاجر يصرف أوقاته و طاقاته و أمواله في تحصيل ما يحتاج إليه النّاس من الأمتعة و في نقلها و حفظها و توزيعها، فلا يكون أخذه للمقدار الزائد على ما اشتراه جزافا و أكلا بالباطل إلّا أن يجحف في التقويم فيحدّده حاكم الإسلام.

ثم كيف يحكم الشرع على أمر بكونه باطلا ثمّ يرخّص فيه بل ربّما يأمر به و يحث

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 22

..........

______________________________

عليه كما وقع منه بالنسبة إلى التجارة؟!:

1- ففي صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ترك التجارة ينقص العقل»

«1».

2- و في خبر أسباط بن سالم قال: «دخلت على أبي عبد اللّه «ع» فسألنا عن عمر بن مسلم ما فعل؟ فقلت: صالح و لكنّه قد ترك التجارة. فقال أبو عبد اللّه «ع»: «عمل الشيطان- ثلاثا- أما علم أنّ رسول اللّه «ص» اشترى عيرا أتت من الشام فاستفضل فيها ما قضى دينه و قسّم في قرابته؟ يقول اللّه- عزّ و جلّ: رجٰالٌ لٰا تُلْهيهمْ تجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذكْر اللّٰه ...» «2»

3- و عن النبي «ص» قال: «تسعة أعشار الرزق في التجارة، و الجزء الباقي في السابيا، يعني الغنم.» «3»

4- و عنه «ص» قال: «تسعة أعشار الرزق في التجارة و العشر في المواشي.» «4»

5- و عنه «ص» أيضا قال: «التاجر الصدوق في ظلّ العرش يوم القيامة.» «5» إلى غير ذلك من الأخبار.

و على هذا فيتعيّن كون الاستثناء منقطعا و هو شائع في محاورات الناس. و يقع غالبا

______________________________

(1) الوسائل 12/ 5، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب مقدّماتها، الحديث 1.

(2) الوسائل 12/ 6، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب مقدّماتها، الحديث 5.

(3) الوسائل 12/ 3، كتاب التجارة، الباب 1 من أبواب مقدّماتها، الحديث 5.

(4) الدّر المنثور 2/ 144، تفسير سورة النساء.

(5) الدّر المنثور 2/ 144.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 23

..........

______________________________

لدفع الوهم المحتمل. ففي المقام حيث إنّه- تعالى- نهى عن أكل المال بالباطل و كانت المعاملات الباطلة شائعة رائجة في المجتمع كان مظنّة أن يتوهم المخاطبون أنّه ينهدم بترك هذه المعاملات الرائجة البنية الاقتصادية للمجتمع، فنبّه الشارع بهذا الاستثناء على أن البنية الاقتصاديّة لا تقوم على أساس هذه المعاملات الباطلة بل على التجارات الناشئة عن تراضي الطرفين. و لعلّ التجارة أعمّ من البيع

كما مرّ أو ذكرت من باب المثال و ذكر الفرد الأجلى من المعاملات و أهمّها و أنفعها. و إلّا فالهبات و الإجارات و الجعالات و أمثالها أيضا محلّلة مؤثرة في حفظ النظام الاقتصادي. فالمقصود بالمستثنى في الحقيقة جميع المعاملات الدارجة غير الباطلة التي أظهرها و أهمّها التجارة. و حيث إنّ النهي تعلق بالأسباب الباطلة و التعليق على الوصف يشعر بالعلّيّة فبقرينة المقابلة يفهم أنّ المستثنى هو كلّ ما ليس باطلا عند العرف و العقل الصريح. هذا.

12- و في زبدة البيان: «لو كان الاستثناء متّصلا لزم التأويل، لعدم حصر التصرّف المباح في التجارة عن تراض.» «1»

أقول: أراد بذلك أنّ الاستثناء المتّصل يفيد الحصر و أنّ غير المستثنى بأجمعها داخلة في المستثنى منه و هذا غير صحيح في المقام. و هذا بخلاف المنقطع لكونهما بمنزلة جملتين مستقلتين، فلا مفهوم للمستثنى حتّى ينفي غيره إذ إثبات الشي ء لا ينفي غيره.

و لكن في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لهذا الفرق بين المتصل و المنقطع قال: «إلّا أنّه- تعالى- حيث كان بصدد بيان الأسباب المشروعة للمعاملات و تمييز صحيحها عن

______________________________

(1) زبدة البيان/ 427. كتاب البيع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 24

..........

______________________________

فاسدها و كان الإهمال ممّا يخلّ بالمقصود فلا محالة يستفاد الحصر من الآية بالقرينة المقاميّة و تكون النتيجة أن الآية مسوقة لبيان حصر الأسباب الصحيحة بالتجارة عن تراض سواء كان الاستثناء متّصلا أم منقطعا.» «1»

أقول: يمكن أن يناقش ما في مصباح الفقاهة بأنّ كون الآية بصدد بيان الأسباب المشروعة للمعاملات و تمييز صحيحها عن فاسدها غير واضح، إذ الغالب في الاستثناءات كون المتكلّم بصدد بيان الحكم في ناحية المستثنى منه فقط. و إنّما يذكر الاستثناء تطفّلا دفعا لتوهّم إرادة

العموم الذي في المستثنى منه له. فالمتفاهم من الآية الشريفة في المقام كونها بصدد نهي المؤمنين عن تملك أموال الغير و التصرّف فيها بالأسباب الباطلة عقيب نهيهم عن نكاح النساء المحرّمات، لا بيان الأسباب المشروعة للمعاملات.

نعم، لازم كونها بصدد بيان الحكم في المستثنى منه عموم حكمه لجميع أفراده الحقيقية إلّا ما خرج بالاستثناء و إلّا لزم الإهمال و هذا خلف. و هذا معنى دلالة الاستثناء على الحصر. و لكن هذا البيان يجري في المتّصل و كذا في المنقطع بالنسبة إلى أفراد المستثنى منه. و أمّا المستثنى المنقطع فيكون من هذه الجهة بمنزلة كلام مستقلّ، و دلالته على الحصر و نفي الغير يكون من قبيل مفهوم اللقب و هو غير حجّة عند العرف. فما ذكره المحقق الأردبيلي في المقام لعلّه الأظهر، إلّا أن يلتزم بما مرّ من كون التجارة أعمّ من البيع أو أنّها ذكرت من باب المثال.

و بما ذكرناه من أنّ الغالب في الاستثناءات كون المتكلّم بصدد بيان حكم المستثنى منه فقط يظهر أمر آخر أيضا. و هو أنّه لو شكّ في ناحية المستثنى في اعتبار جزء أو قيد

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 35.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 25

..........

______________________________

فيه فلا مجال لنفيه بالإطلاق، إذ الإطلاق لا يجري إلّا بعد كون المتكلّم في مقام البيان بالنسبة إلى ما يراد الأخذ بإطلاقه.

و بالجملة من شرائط التمسّك بالإطلاق- على المشهور- كون المتكلّم في مقام البيان.

و الغالب في موارد الاستثناء كون المتكلّم في مقام بيان حكم المستثنى منه فقط فلا مجال للتمسّك به في ناحية المستثنى. ففي المقام إذا شك في اعتبار قيد زائد بالنسبة إلى التجارة المحلّلة شرعا لا مجال للتمسّك لنفيه بإطلاق المستثنى.

فإن قلت: ما

ذكرت صحيح في الاستثناء المتّصل حيث إنّه جملة واحدة و العمدة فيه حكم المستثنى منه. و أمّا في المنقطع فهما بمنزلة جملتين مستقلّتين متعرضتين لحكمين مستقلّين كما مرّ. و على هذا فكما أنّ إطلاق المستثنى منه يقتضي عدم جواز أكل المال بالأسباب الباطلة مطلقا، فكذلك إطلاق المستثنى أيضا يقتضي جواز التجارة عن تراض بإطلاقها إلّا ما ثبت بالدليل خلافه.

قلت: لا نسلّم هذا التفصيل في المقام، إذ المنقطع أيضا لا يخرج عن طبيعة الاستثناء و كون المستثنى منه فيه أصلا في الكلام و المستثنى فرعا ذكر تطفّلا.

و إن شئت قلت: الاستثناء المنقطع أيضا يرجع إلى المتّصل و لكن بتأويل في المستثنى منه بحيث يعمّ المستثنى حتّى يصحّ إخراجه منه.

و يتحصّل ممّا ذكرناه المناقشة في عدّ الآية الشريفة بلحاظ ذيلها من الضوابط الكليّة التي يتمسّك بها في موارد الشكّ.

نعم، على القول بعدم اشتراط الأخذ بالإطلاق على كون المتكلّم في مقام البيان بل يكفي فيه عدم ذكر القيد و عدم الانصراف إلى المقيّد- كما قرّب ذلك المحقّق الحائري

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 26

..........

______________________________

«قده» في الدرر «1»- لا يرد ما أوردناه من الإشكال.

قال في مبحث المطلق و المقيّد ما محصّله: «يمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد عند عدم القرينة إذ المهملة مردّدة بين المطلق و المقيد. و لا إشكال أنّه لو كان المراد المقيّد تكون الإرادة متعلّقة به بالأصالة، و إنما نسبت إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد. فلو قال القائل: جئني برجل يكون ظاهرا في أن الإرادة أولا و بالذات متعلّقة بالطبيعة لا أنّ المراد هو المقيّد و لكنّه أضاف إرادته إلى الطبيعة بالتبع. و بعد تسليم هذا

الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد، و هذا معنى الإطلاق.

إن قلت: إنّ المهملة ليست قابلة لتعلّق الإرادة الجديّة بها لعدم تعقّل الإهمال ثبوتا فلا محالة تعلّقت إمّا بالمقيد أو المطلق فيكون تعيين الإطلاق بلا دليل.

قلت: عروض الإطلاق للمهملة لا يحتاج إلى لحاظ زائد. و هذا بخلاف التقييد فإذا فرضنا عدم دخل شي ء في تعلّق الحكم سوى المهملة حصل وصف الإطلاق قهرا.

إن قلت: سلّمنا لكنّه من الممكن تقدير القيد أو جعل الطبيعة مرآة للمقيّد فيحتاج في نفي هذين إلى إحراز كونه بصدد البيان.

قلت: يمكن نفي كل من هذين الأمرين بالظهور اللفظي و لو لم يحرز كونه بصدد البيان.»

أقول: ما ذكره من ظهور كون الطبيعة مرادة بالذات لا بالتبع عبارة أخرى عن كون المولى في مقام بيان تمام مراده. و المفروض عدم إحراز ذلك و احتمال كونه بصدد الإهمال

______________________________

(1) الدّرر/ 234 (طبعة أخرى 1/ 201).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 27

..........

______________________________

و الإجمال. و المهملة متحقّقة في ضمن المقيّد أيضا بحيث لو أراد المقيّد واقعا و نسب الحكم إلى الطبيعة المهملة لم يعدّ كذبا و لا مجازا.

و بعبارة أخرى: معنى الإطلاق كون الطبيعة المذكورة بوحدتها تمام الموضوع للحكم.

و الحكم بذلك يتوقّف على إحراز كونه بصدد بيان تمام الموضوع لحكمه و لو بالقرينة أو ببناء العقلاء على ذلك. و ليس هذا من باب ظهور اللفظ المستند إلى الوضع بل من باب حكم العقلاء بكون المذكور تمام مراده.

و بالجملة فمقدّمات الحكمة المتوقّف عليها الحكم بالإطلاق ثلاث:

1- كون المولى في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه لا في مقام الإهمال.

2- عدم ذكر القيد في كلامه.

3- عدم انصراف اللفظ إلى المقيّد بحيث يكون في حكم ذكر القيد.

نعم هنا أمر تعرّض

له الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- فقال ما محصّله «1»:

«أنّه لا يلزم العلم القطعي بكون المولى في مقام البيان بل التكلّم بما أنّه فعل من الأفعال الصادرة عن الفاعل المختار يدلّ على كون الغرض منه إفهام ظاهر اللفظ و كونه مرادا للمولى إلّا إذا كان هنا قرينة على كونه بصدد الإهمال و الإجمال. إذ الكلام الصادر عن المتكلّم العاقل المختار يحمل عند العقلاء على كونه صادرا لغرض إفادة ما هو قالب له، و لا يحمل على الإهمال إلّا مع القرينة عليه. كما أنّ سائر الأفعال التي تصدر عن العقلاء تحمل عندهم على وقوعها لأغراضها العادية المتعارفة الغالبة لا لأغراض نادرة غير عاديّة. و لعلّ هذا أيضا مراد المحقّق الحائري.»

______________________________

(1) نهاية الأصول/ 344، في المطلق و المقيّد.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 28

..........

______________________________

و لكن لو صحّ ما بيّناه من كون الغالب في الاستثناءات ذكرها تطفّلا و تبعا صارت هذه الغلبة قرينة عامّة على عدم الإطلاق في المستثنيات، فتدبّر.

اللّهم إلا أن يقال في خصوص المقام كما قيل بأنّ ذكر قوله: عَنْ تَرٰاضٍ شاهد على كونه بصدد بيان شرعية التجارة أيضا و لذا ذكر القيد الدخيل في شرعيّتها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 29

[الآية الثالثة آية الوفاء]

اشارة

______________________________

الآية الثالثة قوله- تعالى- في أوّل سورة المائدة: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود. أُحلَّتْ لَكُمْ بَهيمَةُ الْأَنْعٰام إلّٰا مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ. «1»

[تفسير الآية]

1- في تفسير علي بن إبراهيم القمي: حدثني أبي، عن النضر بن سويد، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «بالعهود.» «2»

و الرواية بهذا السند صحيحة.

2- و لكن في تفسير العيّاشي: عن النضر بن سويد، عن بعض أصحابنا، عن عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن قول اللّه: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «العهود». عن ابن سنان مثله. «3» و رواه في تفسير البرهان «4». فالسند على ذلك مشتمل على الإرسال. و لكن التعبير ببعض أصحابنا يشعر بكون المرويّ عنه صحيح العقيدة معتمدا عليه. و لعلّ قوله بعد ذلك: «عن ابن سنان مثله» إشارة إلى رواية علي بن إبراهيم في تفسيره.

______________________________

(1) سورة المائدة (5)، الآية 1.

(2) تفسير القمى/ 148، (ط. أخرى 1/ 160).

(3) تفسير العيّاشى 1/ 289.

(4) تفسير البرهان 1/ 431.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 30

..........

______________________________

و كيف كان فمقتضى رواية عبد اللّه بن سنان عدم الفرق بين العقد و العهد خارجا هنا أو مطلقا و إن فرض تفاوتهما مفهوما كما قيل.

3- و في دعائم الإسلام: عن جعفر بن محمد «ع» قال: «أَوْفُوا بالْعُقُود في البيع و الشراء و النكاح و الحلف و العهد و الصدقة.» «1»

4- و في تفسير البرهان بسنده عن ابن أبي عمير عن أبي جعفر الثاني «ع» في قوله: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «إنّ رسول اللّه «ص» عقد عليهم لعليّ «ع» بالخلافة في عشرة مواطن ثم أنزل اللّه: «يٰا أَيُّهَا

الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين «ع».» «2»

5- و في الدّر المنثور بسنده عن ابن عباس قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود يعني بالعهود ما أحلّ اللّه و ما حرّم، و ما فرض و ما حدّ في القرآن كلّه، لا تغدروا و لا تنكثوا «3».

6- و فيه أيضا بسنده عن قتادة في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود أي بعقد الجاهلية. ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه «ص» كان يقول: «أوفوا بعقد الجاهلية: و لا تحدثوا عقدا في الإسلام.» «4»

7- و فيه أيضا بسنده عن قتادة في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «بالعهود و هي عقود الجاهلية: الحلف.» «5»

8- و فيه أيضا بسنده عن عبد اللّه بن عبيدة قال: «العقود خمس: عقدة الأيمان و عقدة النكاح و عقدة البيع و عقدة العهد و عقدة الحلف.» «6»

إلى غير ذلك ممّا رواه في الدّر المنثور و لكنّها لم ترفع إلى النبي «ص» فلعلّها اجتهادات

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2/ 28، كتاب البيوع ...، الفصل 5 (ذكر ما نهى عنه من الغشّ ...)، الحديث 53.

(2) تفسير البرهان 1/ 431.

(3) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

(2) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

(3) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

(4) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

(5) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

(6) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 31

..........

______________________________

من المفسرين بذكر المصاديق للعقود. هذا كلّه فيما يرتبط بروايات المسألة.

و أمّا كلمات أهل اللغة و التفسير:

1- ففي مفردات الراغب: «العقد: الجمع بين أطراف الشي ء. و يستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل و عقد البناء ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع و العهد و

غيرهما.» «1»

2- و في الصحاح: «عقدت الحبل و البيع و العهد فانعقد. و عقد الربّ و غيره أي غلظ.» «2»

3- و في لسان العرب: «و العقد: العهد، و الجمع: عقود، و هي أوكد العهود.» «3»

4- و فيه أيضا: «و عقد العسل و الربّ و نحوهما يعقدُ و انعقد و أعقَدتُه فهو مُعقَد و عقيد: غَلُظ.» «4»

أقول: الظاهر أنّ العقود المتعارفة الواقعة بين اثنين روعي فيها شدّ أحد الالتزامين، كما في عقد رأسي الحبل أو الحبلين. و يؤيّد ذلك التعبير عنها بالعقدة كما في قوله- تعالى-:

وَ لٰا تَعْزمُوا عُقْدَةَ النِّكٰاح حَتّٰى يَبْلُغَ الْكتٰابُ أَجَلَهُ. «5» بل لعلّ التعبير بالعقد في

______________________________

(1) مفردات الراغب/ 353.

(2) صحاح اللغة 2/ 510.

(3) لسان العرب 3/ 297.

(4) لسان العرب 3/ 298.

(5) سورة البقرة (2)، الآية 235.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 32

..........

______________________________

العسل و الربّ أيضا يكون بلحاظ اجتماع أجزائهما و اشتداد بعضها إلى بعض كما في الحبلين.

5- و في مجمع البيان: «العقود جمع عقد بمعنى معقود و هو أوكد العهود. و الفرق بين العقد و العهد أنّ العقد فيه معنى الاستيثاق و الشدّ و لا يكون إلّا بين متعاقدين. و العهد قد ينفرد به الواحد. فكلّ عقد عهد و لا يكون كلّ عهد عقدا. و أصله عقد الشي ء بغيره و هو وصله به كما يعقد الحبل. و يقال: أعقد العسل فهو معقد و عقيد.» «1»

ثمّ قال في تفسير الآية ما ملخّصه: «أي بالعهود، عن ابن عباس و جماعة من المفسّرين.

ثمّ اختلف في هذه العهود على أقوال:

أحدها: أنّ المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا على النصرة و المؤازرة و المظاهرة، و ذلك هو معنى الحلف، عن ابن

عبّاس و مجاهد و الربيع و الضحّاك و قتادة و السدّي.

و ثانيها: أنّها العهود التي أخذ اللّه على عباده بالإيمان به و طاعته فيما أحلّ لهم أو حرّم، عن ابن عباس أيضا. و في رواية أخرى قال: هو ما أحلّ و حرّم و ما فرض و ما حدّ في القرآن كلّه.

و ثالثها: أنّ المراد بها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم و يعقدها المرء على نفسه كعقد الأيمان و عقد النكاح و عقد العهد و عقد البيع، عن ابن زيد و زيد بن أسلم.

و رابعها: أنّ ذلك أمر من اللّه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما

______________________________

(1) مجمع البيان 2/ 151 (الجزء الثالث من التفسير).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 33

..........

______________________________

في التوراة و الإنجيل في تصديق نبيّنا و ما جاء به، عن ابن جريج و أبي صالح.

و أقوى الأقوال قول ابن عباس أنّ المراد بها عقود اللّه التي أوجبها اللّه على العباد في الحلال و الحرام و الفرائض و الحدود. و يدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر.» «1»

6- و في الكشاف: «و العقد: العهد الموثق، شبّه بعقد الحبل و نحوه ... و الظاهر أنّها عقود اللّه عليهم في دينه من تحليل حلاله و تحريم حرامه، و أنه كلام قدّم مجملا ثمّ عقّب بالتفصيل و هو قوله: أُحلَّتْ لَكُمْ و ما بعده.» «2»

7- و في تفسير الميزان: «العقود جمع عقد و هو شدّ أحد شيئين بالآخر نوع شدّ يصعب معه انفصال أحدهما عن الآخر، كعقد الحبل و الخيط بآخر من مثله. و لازمه التزام أحدهما الآخر و عدم انفكاكه عنه. و قد كان معتبرا عندهم في الأمور المحسوسة أوّلا ثمّ استعير فعمّم

للأمور المعنويّة كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك. و كجميع العهود و المواثيق فأطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذي عرفت أنّه اللزوم و الالتزام فيها. و لما كان العقد- و هو العهد- يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها اللّه من عباده من أركان و أجزاء كالتوحيد و سائر المعارف الأصلية و الأعمال العباديّة و الأحكام المشروعة تأسيسا أو إمضاء و منها عقود المعاملات و غير ذلك، و كان لفظ العقود أيضا جمعا محلّى باللام، لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعمّ كلّ ما يصدق عليه أنّه عقد.» «3»

______________________________

(1) مجمع البيان 2/ 151 (الجزء الثالث من التفسير).

(2) الكشّاف 1/ 590 و 591 (ط. أخرى 1/ 600).

(3) تفسير الميزان 5/ 157 (ط. أخرى 5/ 167)، تفسير سورة المائدة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 34

..........

______________________________

أقول:

هنا جهات من البحث:
الأولى: [المراد بالعقود في الآية]

يظهر ممّا مرّ من الروايات من طرقنا و من طرق السنّة و كذا من تفاسير الفريقين في المقام: أنّ العقود في الآية يراد بها العهود مطلقا. و لكنّ مرّ عن المجمع: أنّ العقد لا يكون إلّا بين متعاقدين و العهد قد ينفرد به الواحد.

أقول: مقتضى كلامه هذا كون العهد أعمّ من العقد. و لكن يرد عليه أنّ العقد في اصطلاح الفقهاء و إن كان مختصّا بما يقع بين اثنين لكن العقود في الآية لا تحمل على اصطلاح الفقهاء بعد تفسيرها في روايات الفريقين بالعهود لأنّه اجتهاد في قبال النصّ.

فيجب حملها على الأعمّ لتشمل العهود الواقعة بين الإنسان و خالقه بحسب إيمانه أو بحسب الفطرة أيضا.

إلّا أن يقال: إنّها أيضا بحسب الحقيقة واقعة بين اثنين: أحدهما الخالق، كما أنّ العهد العهود في

الفقه في قبال اليمين و النذر أيضا و إن كان إيقاعا لا يحتاج إلى القبول لكنّه أيضا يقع بين الشخص و خالقه و يصحّ أن يعبّر عنه بالعقدة.

نعم القرار الذي قد يعقدها الإنسان في نفسه على نفسه عهد ينفرد به الواحد و يشكل إطلاق العقد عليه كما لا دليل على لزوم العمل به.

الجهة الثانية: [الأصل في العقود اللزوم]

المستفاد من تفسيري الميزان و المجمع و غيرهما: أنّ في العقد معنى الاستيثاق و الشدّ و اللزوم. و مقتضى ذلك كون الأصل في العقود اللزوم، فيكون إطلاقه على العقود الجائزة من أصلها، كالهبة و المضاربة و نحوهما، بنحو من العناية و المسامحة.

نعم لأحد أن ينكر اعتبار الشدّ في مفهوم العقد و العقدة، بل قيل بحكايتهما عن مطلق ربط أحد الشيئين بالآخر بنحو خاصّ يحصل منه العقدة سواء وقع بشدّة أو مع الخفّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 35

..........

______________________________

نعم وجوب الإيفاء لعلّه دالّ على اللزوم و عدم جواز الحلّ إلّا فيما ثبت خلافه، إلّا أن يراد بالوفاء أيضا مطلق العمل على طبق ما أنشأ من العقدة مشدودة أو مخفّفة، فتدبّر.

و سيأتي تفصيل لذلك في الجهة السادسة.

الجهة الثالثة: [في معنى العقد]

قد ظهر من كلامهم أنّ العقد بحسب اللغة هو الجمع بين أطراف الشي ء أو شدّ أحد شيئين بالآخر، و لازمه تلازم الشيئين.

فنقول: الظاهر أنّ الأمرين المتلازمين في العقود المصطلحة في الفقه هو التزام الموجب بمفاد إيجابه و التزام القابل بمفاد قبوله. فشدّ أحد الالتزامين بالآخر.

و إن شئت قلت: إنّ العقد المصطلح هو شدّ أحد العهدين و القرارين بالآخر. فهذا الذي يتبادر إلى الذهن في المقام.

و لكن في تفسير الميزان في مقام بيان معنى العقد قال: «و العقد هو كلّ فعل أو قول يمثّل معنى العقد اللغوي، و هو نوع ربط شي ء بشى ء آخر بحيث يلزمه و لا ينفك عنه كعقد البيع الذي هو ربط المبيع بالمشتري ملكا بحيث كان له أن يتصرّف فيه ما شاء ...

و كعقد النكاح الذي يربط المرأة بالرجل ...» «1»

فجعل المتلازمين في البيع المبيع و المشتري و في النكاح نفس الرّجل و المرأة لا التزامهما.

و الظاهر عدم صحة ما ذكره و صحّة ما ذكرناه. إلّا أن يقال: إنّ العقود في الآية فسّرت بالعهود و ليس ربط مجموع العهدين و الالتزامين مصداقا للعهد، فتدبّر.

الجهة الرابعة: [في شمول الآية للعقود المصطلحة]

الظاهر عدم صحّة حمل العقود في الآية الشريفة على خصوص العقود المتعارفة المصطلحة في الفقه. إذ لا تناسب على هذا بين قوله: «أَوْفُوا بالْعُقُود»

______________________________

(1) تفسير الميزان 5/ 158 (طبعة أخرى 5/ 168)، تفسير سورة المائدة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 36

..........

______________________________

و بين ما تعقّبه من إحلال بهيمة الأنعام و غيره من الأحكام. فالظاهر تفسير الآية بنحو تشمل تعهد الإنسان في فطرته أو بسبب إيمانه للعمل بأحكام اللّه- تعالى- و الالتزام بمحلّلاته و محرّماته و حدوده و فرائضه و إن شملت العقود المصطلحة أيضا.

و لذا فسّرها ابن عباس- على ما مرّ من المجمع- بأنّها العهود التي أخذ اللّه على عباده بالإيمان به و طاعته فيما أحلّ أو حرّم.

و مرّ عن الكشاف قوله: «إنّه كلام قدّم مجملا ثمّ عقّب بالتفصيل و هو قوله:

أُحلَّتْ لَكُمْ و ما بعده.» «1»

فالسورة كأنّها سورة العهود و المواثيق، ذكر فيها الأحكام النازلة على رسول اللّه «ص» في السنة الأخيرة من عمره الشريف و منها نصبه لوليّ أمر المسلمين من بعده في غدير خمّ بأمر اللّه- تعالى- و صرّح فيها بالمواثيق المأخوذة من اللّه- تعالى- على المسلمين و على اليهود و النصارى:

فصدّر السورة- مخاطبا للمؤمنين- بقوله: أَوْفُوا بالْعُقُود. ثمّ شرع في ذكر المحلّلات و المحرمات و الواجبات، إلى أن قال في الآية السّابعة منها: وَ اذْكُرُوا نعْمَةَ اللّٰه عَلَيْكُمْ وَ ميثٰاقَهُ الَّذي وٰاثَقَكُمْ به إذْ قُلْتُمْ سَمعْنٰا وَ أَطَعْنٰا ... إلى أن قال في الآية الثانية عشرة: وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّٰهُ ميثٰاقَ بَني

إسْرٰائيلَ ... و في الآية الثالثة عشرة: فَبمٰا نَقْضهمْ ميثٰاقَهُمْ لَعَنّٰاهُمْ ... و في الآية الرابعة عشرة: وَ منَ الَّذينَ قٰالُوا إنّٰا نَصٰارىٰ أَخَذْنٰا ميثٰاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا ممّٰا ذُكِّرُوا به .... و في الآية السبعين: لَقَدْ أَخَذْنٰا ميثٰاقَ بَني إسْرٰائيلَ وَ أَرْسَلْنٰا إلَيْهمْ رُسُلًا ....

______________________________

(1) الكشّاف 1/ 591 (ط. أخرى 1/ 601).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 37

..........

______________________________

و العقد و العهد و الميثاق متقاربة المعنى و إن فرض اختلافها مفهوما. فإمّا أن يراد المواثيق المأخوذة منهم في فطرهم على أن يؤمنوا باللّه و يوحدوه و يطيعوه في أوامره و نواهيه. و إمّا أن يراد المواثيق المأخوذة منهم بعد الإيمان بالأنبياء على العمل بما جاؤوا به من أحكام اللّه- تعالى-.

و بالجملة فيشكل الحكم بقطع ارتباط الجزء الأوّل من الآية الأولى من السورة عمّا بعده و الحكم بكونه ناظرا إلى العقود المتعارفة المصطلحة فقط التي تتعاقدها الناس بينهم.

نعم، يمكن تفسيرها بنحو يشمل هذه العقود أيضا كما يأتي بيانه.

الجهة الخامسة [في شمول الآية للعقود الحديثة أيضا]

و هي العمدة في المقام: قد مرّ عن مجمع البيان قوله: «و أقوى الأقوال قول ابن عباس أنّ المراد بها عقود اللّه التي أوجبها اللّه على العباد في الحلال و الحرام و الفرائض و الحدود. و يدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر.» «1»

و مقتضى هذا الكلام أنّ القول الثالث أعني العقود التي يتعاقدها الناس بينهم أيضا داخل في هذا القول بلحاظ صيرورتها بعد إمضاء الشرع لها من عقود اللّه التي أوجبها اللّه على العباد.

و على هذا فالعقود في الآية الشريفة ناظرة إلى ما شرّعها و أنفذها الشارع و لو إمضاء مع قطع النظر عن هذه الآية، فلا يجوز التمسّك بهذه الآية لصحّة العقود التي لم تكن في عهد

الشارع و لم يثبت صحّتها بإمضائه كعقد التأمين مثلا.

و يرد هذا الإشكال على ما مرّ من تفسير الميزان أيضا، حيث أدخل عقود المعاملات أيضا في المواثيق الدينيّة التي أخذها اللّه على عباده، فما لم يثبت صحة المعاملة شرعا

______________________________

(1) مجمع البيان 2/ 152 (الجزء الثالث).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 38

..........

______________________________

و لو بإمضاء سيرة العقلاء لم تكن من المواثيق الدينيّة فلا تشملها العقود في الآية الشريفة.

و بالجملة وجوب الوفاء في الآية- على ما ذكره هذان العلمان- موضوعه المواثيق الدينية و ما أوجبها اللّه- تعالى-. فما لم يثبت صحّة العقد شرعا بدليل خاصّ أو بإطلاق دليل أو ببناء العقلاء بضميمة عدم ردع الشارع لم يدخل تحت هذين العنوانين.

و لا يمكن إثباتهما بنفس الحكم في الآية، إذ الحكم لا يثبت موضوع نفسه للزوم الدّور.

و إذا فرض ثبوت صحّة العقد و شرعيّته بدليل آخر لا نحتاج في تصحيحه إلى التمسّك بهذه الآية بل تقع تأكيدا.

فالأولى أن يقال: إنّ لفظ العقود جمع محلّى باللام فمفاده العموم و قد فسّر بالعهود كما مرّ. و الألفاظ الواردة في الكتاب و السنّة تحمل على مفاهيمها و مصاديقها العرفيّة إلّا أن يرد دليل شرعي على خروج بعضها تعبّدا أو دخول غيرها فيها من باب الحكومة.

و على هذا فيشمل العقود في الآية الشريفة كلّ ما حكم العرف أو الشرع بكونه معاهدة و ميثاقا سواء كان ممّا تعاقدها الناس بينهم أو تعاقدوه مع اللّه- تعالى- بإجراء صيغة العهد و ما شابهه، أو بالالتزام بما جاء به أنبياؤه بعد الإيمان بهم أو بما قبلوه و تعهّدوه بحسب الفطرة.

و استعمال لفظ العهد أو الميثاق في الأخير أيضا شائع في الكتاب و السنّة: قال اللّه- تعالى-: أَ

لَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يٰا بَني آدَمَ أَنْ لٰا تَعْبُدُوا الشَّيْطٰانَ. «1» و في نهج البلاغة: «و واتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته و يذكّر و هم منسيّ نعمته.» «2»

______________________________

(1) سورة يس (36)، الآية 60.

(2) نهج البلاغة، عبده 1/ 17؛ فيض/ 33؛ صالح/ 43، الخطبة 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 39

..........

______________________________

قال الجصّاص في أحكام القرآن بعد كلام طويل حول الآية: «و قد روي عن ابن عبّاس في قوله- تعالى-: أَوْفُوا بالْعُقُود أي بعقود اللّه فيما حرّم و حلّل. و عن الحسن قال: يعني عقود الدين. و اقتضى أيضا الوفاء بعقود البياعات و الإجارات و النكاحات و جميع ما يتناوله اسم العقود. فمتى اختلفنا في جواز عقد أو فساده و في صحّة نذر و لزومه صحّ الاحتجاج بقوله- تعالى-: أَوْفُوا بالْعُقُود. لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات و الإجارات و البيوع و غيرها. و يجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس و المال و جواز تعلّقها على الأخطار، لأنّ الآية لم تفرّق بين شي ء منها ...» «1».

أقول: قوله: «و جواز تعلّقها على الأخطار.» ينطبق على عقد التأمين الشائع في عصرنا. هذا.

نعم هنا إشكال ينبغي التأمّل لدفعه، و هو أنّ مفاد الآية الشريفة بالنسبة إلى أحكام اللّه المشروعة من قبل مفاد قوله- تعالى-: أَطيعُوا اللّٰهَ* فيكون إرشادا محضا إلى حكم العقل بلزوم الإطاعة و لا يقبل المولوية للزوم التسلسل كما حرّر في محلّه. و الجمع بين إرادة الإرشاد المحض بالنسبة إلى هذه الأحكام و بين الحكم بالصحّة تأسيسا بالنسبة إلى العقود و الإيقاعات يرجع إلى الجمع بين اللحاظين و استعمال لفظ واحد في معنيين.

اللّهم إلّا أن يقال: إن للأمر معنى واحدا و هو البعث و التحريك

نحو متعلّقه، غاية الأمر أن البعث الإنشائي قد يتحقّق بداعي الإرشاد إلى حكم العقل، و أخرى بداعي التأسيس و التشريع. و تعدّد الداعي في استعمال واحد لا يوجب استعمال اللفظ في

______________________________

(1) أحكام القرآن للجصّاص 2/ 362.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 40

..........

______________________________

معنيين، إذ اللفظ لم يستعمل في الداعي بل لإنشاء البعث نحو متعلّقه. و المفروض تحقّقه في كليهما.

أو يقال: إنّ لزوم العمل على طبق المواثيق و الوفاء بها و عدم نقضها أيضا ممّا يحكم به العقل نظير لزوم إطاعة المولى. و على هذا فالأمر في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود ممحّض في الإرشاد إلى حكم العقل مطلقا و ليس فيه تأسيس و تشريع أصلا، فتأمّل.

و كيف كان فالظاهر جواز عدّ الآية الشريفة من الضوابط الكليّة الدالّة على صحّة العقود مطلقا إلّا فيما ثبت خلافه.

الجهة السادسة: [كلام النراقي حول الآية و النقض عليه]
اشارة

لا يخفى أنّ المحقّق النراقي «قده» خصّ العائدة الأولى من عوائده بالبحث حول الآية الشريفة و قال في أثناء بحثه: «و من جميع ما ذكرنا ظهر أنّه يلزم في العقد الاستيثاق و الشدّ، و أنّ للعهد معاني متكثرة، و أنّ المعاني التي ذكروها للعقود في الآية بين ستّة بل ثمانية: الأوّل: مطلق العهود. و الثاني: عهود أمير المؤمنين «ع».

و الثالث: عهود الجاهليّة على النحو المتقدم. و الرابع: العقود التي بين اللّه- سبحانه- و بين عباده؛ إمّا التكاليف و الواجبات خاصّة أو مطلق ما حدّه و شرّعه لهم. و الخامس:

العقود التي بين الناس. و المراد منها يحتمل أن يكون العقود المتداولة بينهم المقرّرة لهم من الشرع، أي العقود الفقهيّة، و أن يكون مطلقها و لو كان باختراعهم. و السّادس: جميع ذلك.»

ثم قال ما ملخّصه: «أنّ فقهاءنا الأخيار في كتبهم الفقهية بين

تارك للاستدلال بتلك الآية لزعم إجمالها، و بين حامل لها على المعنى الأعمّ فيستدلّ بها على حلّية كلّ ما كان عقدا لغة أو عرفا، و بين حامل لها على العقود المتداولة في الشريعة و يتمسّك بها في

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 41

..........

______________________________

تصحيح هذه إذا شكّ في اشتراط شي ء فيها أو وجود مانع عن تأثيرها و نحو ذلك، لا تصحيح عقد برأسه.

و منهم من ضمّ مع العقود المتداولة سائر ما عقده اللّه- سبحانه- على عباده أيضا.

و يظهر من بعضهم احتمال حملها على العقود التي يتعاقدها الناس بعضهم على بعض مطلقا سواء كان من العقود المتداولة في الكتب الفقهية أم لا.

ثمّ إنّ منهم من يفسّر الأمر بالإيفاء على لزوم نفس العقد و وجوب الالتزام به إلّا إذا تحقّق ما يرفع لزومه شرعا. و منهم من يفسّره بالعمل على مقتضى العقد ما دام باقيا فلا ينافي كون بعض العقود جائزا. و منهم من فسّره بوجوب اعتقاد لزوم اللازم و جواز الجائز. و منهم من حمله على الرخصة و نفي الحظر.»

ثم شرع في تفصيل الأقوال المذكورة و الاستدلال لها بالآية إلى أن قال ما ملخّصه:

«و مع ذلك ففي صحّة التمسك به كلام من وجوه:

[الإشكال الأول منه]

الأول: أنّه و إن كان مقتضى الجمع المحلّى كونه مفيدا للعموم لكن الثابت من أصالة الحقيقة إنما هو فيما إذا لم يقترن بالكلام حين التكلّم به ما يوجب الظنّ بعدم إرادة الحقيقة، بل لم يقترن بما يصلح لكونه قرينة.

و ممّا لا شكّ فيه أنّ تقدّم طلب بعض أفراد الماهية أو الجمع المحلّى ممّا يظنّ معه إرادة الأفراد المتقدّمة. و لا أقلّ من صلاحية كونه قرينة لإرادتها.

و سورة المائدة نزلت في أواخر

عهد النبيّ «ص». و لا شكّ أنّ قبل نزولها قد علم من الشارع وجوب الوفاء بطائفة جمّة من العقود، كالعقود التي بين اللّه- سبحانه- و بين عباده، بل بعض العقود التي بين الناس بعضهم مع بعض. و تقدّم طلب الوفاء بتلك

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 42

..........

______________________________

العقود يورث الظنّ لإرادتها من قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود خاصّة أو يصلح قرينة لإرادتها، فلا يمكن التمسّك لإرادة جميع الأفراد من الجمع المحلّى. مضافا إلى أنّ قوله- تعالى-:

أُحلَّتْ لَكُمْ بَهيمَةُ الْأَنْعٰام إلى آخره تفصيل لبعض العقود أيضا كما مرّ في كلام بعض المفسّرين. و هذا أيضا ممّا يضعّف الحمل على العموم.

[الإشكال الثاني منه]

الثاني: أنّ حمل الآية على العموم يوجب كونها تأكيدا بالنسبة إلى العقود التي تقدّم طلبها على نزول الآية و تأسيسا بالنسبة إلى ما لم يسبق طلبه، فيكون أمر واحد تأكيدا و تأسيسا معا كما في استعمال المشترك في معنييه. و هذا غير جائز إلّا أن يحمل على باب التناسي.

[الإشكال الثالث منه]

الثالث: أنّه قد عرفت اتفاقهم على اشتراط الاستيثاق و الشدّة في معنى العقد و أنّه العهد الموثّق، فلو أبقينا العقود على العموم أيضا لما دلّ إلّا على وجوب الوفاء بالعهود الموثقة لا كلّ عهد. ففي كلّ عهد يراد إثبات لزومه شرعا لا بد أوّلا من إثبات استحكامه و شدّته، و لا يثبت ذلك إلّا بعد ثبوت اللزوم الشرعي لمنع كون غير ما ثبت لزومه شرعا موثقا.

[الإشكال الرابع منه]

الرابع: أنّه بعد ما علمت من اتفاقهم على كون العقد هو العهد الموثق أقول: قد عرفت أنّ للعهد معاني متكثرة كالوصيّة و الأمر و الضمان و اليمين و غير ذلك، و شي، منها لا يصدق على ما هم بصدد إثبات لزومه أو صحّته في المباحث الفقهيّة. و لو سلمنا أنّ للعهد معنى يلائم ذلك أيضا فإرادة ذلك المعنى في الآية غير معلوم. فيمكن أن يراد من العقود الوصايا الإلهية الموثقة أي المشدّدة، و يمكن أن يراد مطلق الوصايا، و يمكن أن يراد منها الأوامر أو الأيمان أو الضمانات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 43

[الإشكال الخامس منه]

______________________________

الخامس: أنه قد عرفت أنّ معنى العقد لغة الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال بينهما. و إذا كان هذا معناه اللغوي حقيقة فيكون المراد منه في الآية معناه المجازي. و إذا كان كذلك فيتّسع دائرة الكلام و مجال الجدال في التمسّك بالآية. و حيث انحصر الدليل على أصالة لزوم كلّ عقد بتلك الآية فيكون تلك الأصالة غير ثابتة بل الأصل عدم اللزوم إلّا أن يثبت لزوم عقد بدليل خاصّ كالبيع و أمثاله.» «1» انتهى ما أردنا نقله من العوائد ملخّصا.

[الرّد على الوجه الأوّل]

و يرد على الوجه الأوّل: أنّ تقدّم طلب بعض الأفراد تدريجا في خلال عشرين سنة لا يوجب رفع اليد عن العامّ المتأخر الظاهر في الاستغراق إلّا إذا كان كالقرينة المتّصلة بحيث ينصرف اللفظ إليها و لا ينعقد معها ظهور في العموم، و كون المقام كذلك ممنوع.

قال الأستاذ الإمام «ره» في بيعه ما ملخّصه: «ألا ترى أنّه إذا قال المولى: أكرم زيدا كلّما جاءك، ثم بعد سنين قال: أكرم عمروا كلّما جاءك، و هكذا أمر بإكرام عدّة أشخاص كلّهم من العلماء ثمّ بعد سنين عديدة قال: أكرم العلماء كلّما جاؤوك، لا يمكن ترك إكرام غير العلماء المذكورين قبله باعتذار احتمال كون المراد بالعموم المعهودين.

مع أنّ في ثبوت نزول المائدة بجميع آياتها في آخر عمره الشريف كلاما و إن وردت به رواية.

مضافا إلى أنّ ذلك مؤيّد للعموم و مؤكّد له. لأن الوحي لمّا كان ينقطع بعدها فلا بدّ من تقنين قوانين كليّة يرجع إليها في سائر الأدوار إلى آخر الأبد. مع أنّ ما ذكره مبنيّ

______________________________

(1) العوائد 1- 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 44

..........

______________________________

على أنّ جميع المحرّمات و الواجبات التكليفيّة داخلة في مفهوم العقد، و

هو ضعيف.» «1»

أقول: لقد أجاد فيما أفاد، و لكن تضعيفه الأخير لا يمكن المساعدة عليه لما مرّ في الجهة الرابعة من الارتباط الوثيق بين قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود و ما بعده و كون مضمونه بمنزلة الضابطة لما بعدها، فراجع.

[الرّد على الوجه الثاني]

و يرد على الوجه الثاني: ما في بيع الأستاذ أيضا من منع لزوم استعمال الأمر في الأكثر، لأنّ لفظ الأمر لا يستعمل في التأسيس أو التأكيد، بل هو مستعمل في معناه أي البعث لكنّه ينتزع منه التأكيد إن كان مسبوقا بأمر متعلّق بعين ما تعلّق ثانيا و ثالثا و إلّا يكون تأسيسا. «2»

[الرّد على الوجه الثالث]

و أمّا الجواب عن الوجه الثالث فيظهر ممّا فصّله الأستاذ الإمام في المقام إنكار أخذ الاستيثاق و الشدّة في مفهوم العقد. قال ما محصّله: «أنّ الكلمة وضعت أوّلا للربط الخاصّ الواقع في الحبل و نحوه بنحو يحصل منه مجموعة تسمّى بالعقدة المعبّر عنها بالفارسية: «گره» و ليس في العقدة معنى الشدّة بل هي أعمّ من المشدودة و غيرها. و في الصحاح: «العاقد: الناقة التي قد أقرّت باللقاح لأنّها تعقد بذنبها.» و من الواضح أنّها لا تعقده مستوثقا. و في القاموس فسّر العاقد كما في الصحاح. و على هذا يمكن أن يكون مراد القاموس من قوله: «عقد الحبل و البيع و العهد يعقده: شدّه» مطلق الربط الخاصّ لا تشديده و توثيقه. و يشهد لعدم اعتبار الاستيثاق و التوكيد في معناه قول من فسّره بمطلق العهود كابن عباس و جماعة من المفسّرين.

______________________________

(1) كتاب البيع للإمام الخمينى- قدّس سرّه- 1/ 72.

(2) كتاب البيع للإمام الخمينى 1/ 73.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 45

..........

______________________________

و بالجملة الظاهر أنّه ليس في المعنى الحقيقي من العقد اعتبار التوكيد و التوثيق كما أنّ الظاهر استعارة اللفظ الموضوع للطبيعة للعقد في المقام، و مصحّحها دعوى أنّ الربط الاعتباري هو الحبل و تبادل الاعتبارين كتبادل طرفي الحبل بنحو يرتبط و تحصل فيه العقدة، و لا سبيل إلى القول باستعارة اللفظ بمناسبة

أحد مصاديق معناه و هو العقد الموثّق. فتحصّل ممّا مرّ أنّ العقد بالمعنى الاستعاري هو مطلق المعاملة بلحاظ الربط الاعتباري المتبادل.» «1»

أقول: ما ذكره «ره» قابل للمنع إذ المترائى من كلمات أهل اللغة و التفسير و موارد استعمال الكلمة اعتبار الشدّ و التوثيق في مفهوم العقد و العقدة:

ففي المقاييس: «العين و القاف و الدّال أصل واحد يدلّ على شدّ و شدّة وثوق، و إليه ترجع فروع الباب ... و عقدة النكاح و كلّ شي ء: وجوبه و إبرامه. و العقدة في البيع:

إيجابه.» «2»

و قال الخليل بن أحمد في العين: «عقدة كلّ شي ء: إبرامه. و عقدة النكاح: وجوبه.

و عقدة البيع: وجوبه ... و اعتقد الشي ء: صلب. و اعتقد الإخاء و الموادّة بينهما: أي ثبت.» «3»

و في الصحاح: «عقدت الحبل و البيع و العهد فانعقد. و عقد الربّ و غيره: أي غلظ ...

و اعتقد الشي ء أي اشتدّ و صلب.» «4»

______________________________

(1) كتاب البيع للإمام الخمينى- قدس سرّه- 1/ 68 و 69.

(2) المقاييس 4/ 86.

(3) العين 1/ 140.

(4) صحاح اللغة 2/ 510.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 46

..........

______________________________

و في القاموس: «عقد الحبل و البيع و العهد: شدّه ... و العقد: الضمان و العهد و الجمل الموثّق الظهر ... و العقدة من النكاح و من كلّ شي ء: وجوبه.» «1»

و في المصباح المنير: «عقدت الحبل عقدا من باب ضرب فانعقد. و العقدة: ما يمسكه و يوثقه. و منه قيل: عقدت البيع و نحوه. و عقدة النكاح و غيره: إحكامه و إبرامه.» «2»

و في لسان العرب: «عقدة اللسان: ما غلظ منه، و في لسانه عُقدَة و عَقَد أي التواء ...

عقدة النكاح و البيع: وجوبهما. قال الفارسي: هو من الشدّ و الربط ...

و عقدة كلّ شي ء:

إبرامه.» «3»

و في مجمع البحرين: «و الفرق بين العهد و العقد: أنّ العقد فيه معنى الاستيثاق و الشدّ.» «4»

و في أقرب الموارد: «عقد الحبل و البيع و العهد و اليمين و نحوها عقدا: أحكمه و شدّه و هو نقيض حلّه ... عقد العسل و الربّ و نحوهما: أغلاه حتّى غلظ.» «5» إلى غير ذلك من كلمات أهل الفنّ.

و بالجملة فالظاهر أنّ لفظ العقد و مشتقاته أخذ في مفهومها اللغوي الاستيثاق و الشدّ.

______________________________

(1) القاموس المحيط 1/ 327.

(2) المصباح المنير/ 575.

(3) لسان العرب 3/ 298.

(4) مجمع البحرين 3/ 103 (ط. أخرى/ 208).

(5) أقرب الموارد 2/ 807.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 47

..........

______________________________

فلنتعرّض للجواب عن الإشكال الثالث للمحقّق النراقي، و نجيب عنه بما لوّح إليه نفسه عقيب إشكاله:

بيان ذلك: أنّ العقود في الآية فسّرت بالعهود كما مرّ. و التشكيك في ذلك اجتهاد في قبال النصوص. و التوثيق في العهود لا يدور مدار حكم الشرع فيها باللزوم، بل يكفي فيه حكم العرف و العقلاء بذلك. إذ بناؤهم في المعاهدات و المواثيق في جميع الأعصار كان على الإبرام و لزوم الحفظ و كانوا يذمّون ناقضها و المستخفّ بها. فكأنّ الإبرام أخذ في طبيعتها و إن اختلفت مراتبه حسب اختلاف مراتبها كسائر الطبائع المشكّكة. و قال الراغب في تفسير العهد:

«العهد حفظ الشي ء و مراعاته حالا بعد حال، و سمّي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا.» «1» فلزوم المراعاة أخذ في مفهوم العهد.

و بالجملة فالعهود بلحاظ إبرامها و شدّها بالطبع و في اعتبار العقلاء وجب الإيفاء بها عرفا و شرعا، لا أنّ وجوب الإيفاء بها شرعا صار موجبا لشدّها كما في كلام النراقي.

فلا ينقسم العهد إلى لازم و غير

لازم، و مبرم و غير مبرم، بل إلى اللازم و الألزم، و المبرم و الأشدّ إبراما. و هذا هو الملحوظ في مفهوم العقدة أيضا، إذ من يقدم على إيجادها بين الحبلين أو الخيطين أو البنائين لا يوجدها إلّا بداعي الاستحكام و عدم الانحلال و إن اختلفت مراتبها حسب اختلاف القوى و الدواعي.

و على هذا فيكون الحكم بوجوب الإيفاء من ناحية الشارع إرشادا في الحقيقة إلى ما يحكم به العقلاء بفطرتهم بلحاظ كون الموضوع بطبيعته المعتبرة مما يستدعي اللزوم

______________________________

(1) مفردات الراغب/ 363.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 48

..........

______________________________

و الثبات. قال اللّه- تعالى-: وَ أَوْفُوا بالْعَهْد إنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا «1» فرتّب وجوب الإيفاء على طبيعة العهد بإطلاقها.

و يتفق في هذا الحكم جميع الأقوام و الأمم على اختلاف الأهواء و المذاهب، ففي كتاب أمير المؤمنين «ع» لمالك حين ولّاه مصر: «و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة، و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فإنّه ليس من فرائض اللّه شي ء الناس أشدّ عليه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم و تشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود. و قد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب العذر فلا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك ...» «2»

و يظهر من كلامه هذا ترادف العقد و العهد أو تقاربهما حيث إنّه قد يستعمل هذا و قد يستعمل ذاك.

و تمام الموضوع لوجوب الإيفاء عند العقلاء هو العهد بما هو عهد و عقد من غير فرق بين موارده إلّا إذا وقع عن إكراه و إجبار أو تغرير و خداع. و على هذا الأساس أيضا حكم الشرع.

ثمّ لو

سلّم إهمال العقود بالنسبة إلى اللزوم و عدمه و كونها بالذات أعمّ كان الأمر بالإيفاء بها دالا على الحكم باللزوم و عدم جواز النقض في كلّ عقد إلّا فيما ثبت خلافه. فيجوز الاستدلال بعموم الآية في موارد الشكّ في اللزوم. و يكون وزان قوله-

______________________________

(1) سورة الإسراء (17)، الآية 34.

(2) نهج البلاغة، عبده 3/ 117؛ فيض/ 1027؛ صالح/ 442، الكتاب 53.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 49

..........

______________________________

تعالى-: أَوْفُوا بالْعُقُود وزان قوله: وَ أَوْفُوا بالْعَهْد إنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا، و لا سيّما بعد تفسير العقود في أخبار الفريقين بالعهود. و لم يشكّك أحد في عموم آية العهد و دلالتها على لزوم العهود.

فإن قلت: معنى الوفاء بالعهد و النذر و العقد و نحوها هو العمل على طبق مقتضياتها، فوفاء النذر مثلا هو الإتيان بالمنذور لا عدم فكّ النذر، و وفاء البيع بتسليم العين لا بعدم فسخه. فمن لم يفسخ عقد البيع مثلا و لكن لم يعمل بمقتضاه من تسليم العين لا يقال عرفا إنّه و في بعقده.

و إن شئت قلت: إنّ الوفاء و عدمه من لواحق العقد بعد فرض وجوده، و الحكم لا يحفظ موضوع نفسه، فإعدام العقد خارج عن عدم الوفاء به كما أنّ إيجاده غير الوفاء به.

إلّا أن يقال: إنّ الوفاء إبقاء العقد الحادث و عدم الوفاء إعدامه، و لكن هذا غير صحيح.

قلت: هذا ما ذكره الأستاذ الإمام في المقام «1»، و لكن الظاهر خلاف ذلك، إذ الإيفاء بالشي ء الأخذ به تامّا وافيا و عدم نقصه أو تركه. و ضدّه الغدر و هو ترك الشي ء أو نقصه، فانظر إلى قوله- تعالى-: وَ حَشَرْنٰاهُمْ فَلَمْ نُغٰادرْ منْهُمْ أَحَداً. «2» أي لم نترك منهم أحدا. و قوله:

وَ يَقُولُونَ يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لهٰذَا الْكتٰاب لٰا يُغٰادرُ صَغيرَةً وَ لٰا كَبيرَةً إلّٰا أَحْصٰاهٰا «3» أي لم يترك منهما شيئا. و يقال: «غدير» للماء المتروك المنقطع من السيل.

قال الراغب في المفردات: «الوافي: الذي بلغ التمام. يقال: درهم واف و كيل واف،

______________________________

(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 1/ 70.

(2) سورة الكهف (18)، الآية 47.

(3) سورة الكهف (18)، الآية 49.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 50

..........

______________________________

و أوفيت الكيل و الوزن. قال- تعالى-: وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إذٰا كلْتُمْ. و في بعهده يفي وفاء و أوفى: إذا تمّم العهد و لم ينقض حفظه. و اشتقاق ضدّه و هو الغدر يدلّ على ذلك و هو الترك ...» «1»

و كما يتحقّق ترك العقد بعدم ترتيب آثاره عليه يتحقّق بفسخه و نقضه من رأس أيضا، بل هذا أولى بصدق الترك و التجاوز.

ثمّ لو فرض وجوب ترتيب الأثر على العقد بمقتضى الآية بنحو الإطلاق كان مقتضاه بقاءه و عدم انتقاضه.

قال الشيخ الأعظم في أوّل الخيارات من مكاسبه: «فإذا حرم بإطلاق الآية جميع ما يكون نقضا لمضمون العقد و منها التصرّفات الواقعة بعد فسخ المتصرّف من دون رضا صاحبه كان هذا لازما مساويا للزوم العقد و عدم انفساخه بمجرد فسخ أحدهما، فيستدلّ بالحكم التكليفي على الحكم الوضعي أعني فساد الفسخ من أحدهما بغير رضا الآخر و هو معنى اللزوم.» «2» هذا. و قد فسّرنا العقد بالعهد و مرّ عن الراغب تفسير العهد بحفظ الشي ء و مراعاته حالا بعد حال.

و بالجملة فالأصل في العقود و العهود هو اللزوم من غير فرق بين مواردها عند كافة العقلاء في جميع الأعصار و من جميع الأمم. و الشرع أيضا نفّذ ذلك. و في هذا القبيل من

الأحكام لا يصلح المورد لتخصيص العامّ. فكون آية العقود ملحوقا بذكر المحلّلات و المحرّمات لا يوجب الترديد في عمومها، فتدبّر.

______________________________

(1) مفردات الراغب/ 565. و الآية من سورة الإسراء (17)، رقمها 35.

(2) المكاسب للشيخ الأنصاري «ره»/ 215.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 51

..........

______________________________

بقي الإشكال في العقود الجائزة ذاتا كالهبة و الوكالة و العارية و المضاربة و الشركة و أمثالها. فقد يقال: إنّ مقتضى ما ذكرنا لزومها أيضا بعد صدق العقد عليها، غاية الأمر خروجها تعبّدا بالإجماع في كلّ مورد حصل.

و قد يقال- كما في مباني العروة-: إنّ أدلّة اللزوم قاصرة عن شمولها إذ اللزوم من آثار كون مفاد العقد التزاما و تعهّدا. و هذه العقود لا تتضمّن لذلك، بل للإباحة و الإذن فقط و تسمّى عقودا إذنية «1».

أقول: يرجع كلامه هذا إلى منع كون هذه العقود بحسب الحقيقة داخلة تحت عنوان العقد. إذ العقد فسّر بالعهد، و العهد متضمن للالتزام قهرا. فنقول: يمكن القول بأنّ أمثال الوكالة و العارية لا تتضمّن إلّا الإذن. و أمّا الهبة و المضاربة و أنواع الشركة فلم يظهر لي وجه عدم تضمّنها للالتزام. و أيّ فرق بين المضاربة مثلا و بين المزارعة و المساقاة المعدودتين من العقود اللازمة مع كون الجميع على مساق واحد متضمّنة لنحو من الشركة في المال و العمل؟

و المركوز في أذهان العقلاء في مثل المضاربة التزام المالك بجعل رأس المال تحت اختيار العامل و التزام العامل بالعمل فيه و التزامهما معا بتسهيم الربح على ما توافقا عليه، نظير ما في المزارعة و المساقاة. فلو لم يثبت إجماع في البين كان مقتضى العمومات لزوم المضاربة و الشركة أيضا، و كذا الهبة.

و على فرض كون عقد جائزا بالذات

فإدراجه تحت عموم قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود و التمسّك به لبعض الخصوصيّات مشكل بعد ما مرّ من اعتبار الشدّ و اللزوم في مفهوم

______________________________

(1) مبانى العروة 3/ 39.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 52

..........

______________________________

العقد. و لعلّ إطلاق العقد عليه مجاز لشباهته بالعقود صورة.

و أمّا ما مرّ نقله في كلام النراقي من بعض من يفسّر الإيفاء باعتقاد لزوم اللازم و جواز الجائز، أو حمله على الرخصة و نفي الحظر فمخالفان للظاهر جدّا. و قال الشيخ في ردّ الاحتمال الأوّل: «إنّ اللزوم و الجواز من الأحكام الشرعيّة للعقد و ليسا من مقتضيات العقد في نفسه مع قطع النظر عن حكم الشارع.» «1» هذا.

و لكن يمكن أن يقال من رأس في العقود و الإيقاعات و جميع المعاملات و المبادلات و الأمور العادية المتعارفة بين الأقوام و الأمم حسب احتياجاتهم في ظروف معيشتهم المتفاوتة حسب تفاوت الشروط و الإمكانات المتطوّرة حسب تكامل العقل و الإدراكات و الصنائع و التكنيكات: إنا لا نحتاج في تصحيحها و خصوصيّاتها إلى إحراز إمضاء الشارع لها، بل يكفي فيها عدم ثبوت ردعه عنها. إذ ليس غرض الشريعة السمحة السهلة و هدفها الأصلي هدم أساس التعيّش و الحياة و التدخّل في الأمور العاديّة التي ينتظم بها شئون الحياة، بل الغرض الأصلي لها هداية الإنسان إلى سعادته الأبدية و سوقه إلى الكمال. و أمّا أمور الحياة الدنيويّة فهي محوّلة غالبا إلى شعور المجتمع و عقولهم الكافية في إدراك صلاحها غالبا إلّا فيما إذا كان أمر مضرّا بحال الناس و لم يلتفت إليه عقول عقلائهم كالمعاملات الربويّة مثلا فيردع عنها، فتدبّر.

[الرّد على الوجه الرابع]

و أمّا الإشكال الرابع الّذي أورده المحقّق النراقي «ره» في المقام- و محصّله أنّ العقد فسّر

بالعهد و للعهد معاني متكثرة كالوصيّة و الأمر و الضمان و اليمين و غير ذلك، و شي ء منها لا يصدق على ما هم بصدد إثبات لزومه، و لو سلّم فإرادة هذا

______________________________

(1) المكاسب للشيخ الأعظم الأنصاري «ره»/ 215.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 53

..........

______________________________

المعنى في الآية غير معلوم-

فلنا أن نجيب عنه بأنّ الظاهر أنّ لفظ العهد لم يوضع لهذه الأمور المتكثّرة بالاشتراك اللفظي. بل وضع لمفهوم عامّ ينطبق على هذه الأمور بالاشتراك المعنوي، و لم يستعمل اللفظ في الموارد المختلفة إلّا في المفهوم العامّ، و الخصوصيّات تفهم بالقرائن. و إذا ذكر اللفظ في مورد بنحو الإطلاق بلا قرينة معيّنة كقوله: أَوْفُوا بالْعَهْد مثلا حمل على العموم.

و المترائى من مجموع كلمات أهل اللغة و موارد استعمال الكلمة باشتقاقاتها أنّها وضعت لمراقبة الشي ء بداعي حفظه أو للقرار المؤكّد الذي يُهتمّ بمراقبته و حفظه بحيث يحكم العقلاء بلزوم حفظه و حرمة نقضه و نقصه.

فالقرار المؤكّد بأنواعه ملزوم، و المراقبة و الحفظ من لوازمه، و اللفظ قد يستعمل في هذا و قد يستعمل في ذاك و الأوّل أكثر. و استعارة اللفظ الموضوع بإزاء الملزوم للازم و بالعكس كثيرة في الاستعمالات. و القرار يعتبر غالبا بين اثنين أو أكثر بأن يجعل الشي ء أو العمل في عهدة أحدهما للآخر أو في عهدة كلّ منهما للآخر. و إن أمكن أحيانا أن يعتبره الشخص بانفراده في سويداء قلبه أيضا فكأنّه وقع بينه و بين نفسه.

و بمقتضى تأكّد القرار اعتبارا و تشبّهه بالعقدة التي توجد خارجا بين الحبلين مثلا بداعي الشدّ و الإبرام يطلق عليه لفظ العقد أيضا بنحو الاستعارة بلحاظ لازم المعنى الحقيقي أعني اللزوم و عدم الانفكاك. و قد مرّ في

عبارة نهج البلاغة استعمال كلا اللفظين بإزاء معنى واحد. فلنذكر هنا بعض كلمات أهل اللغة في معنى العهد:

1- قال الراغب في المفردات: «العهد: حفظ الشي ء و مراعاته حالا بعد حال. و سمّي

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 54

..........

______________________________

الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا ... و عهد فلان إلى فلان يعهد أي ألقى إليه العهد و أوصاه بحفظه ... و عهد اللّه تارة يكون بما ركزه في عقولنا، و تارة يكون بما أمرنا به بالكتاب و بألسنة رسله، و تارة بما نلتزمه و ليس بلازم في أصل الشرع كالنذور ما يجري مجراها.» «1»

2- و في كتاب العين للخليل بن أحمد: «العهد: الوصيّة و التقدّم إلى صاحبك بشي ء و منه اشتق العهد الذي يكتب للولاة و يجمع على عهود. و قد عهد اللّه يعهد عهدا.

و العهد: الموثق و جمعه عهود ... و التعاهد: الاحتفاظ بالشي ء و إحداث العهد به و كذلك التعهّد و الاعتهاد ...» «2»

3- و في معجم مقاييس اللغة: «العين و الهاء و الدالّ، أصل هذا الباب عندنا دالّ على معنى واحد قد أومأ إليه الخليل. قال: أصله الاحتفاظ بالشي ء و إحداث العهد به. و الذي ذكره من الاحتفاظ هو المعنى الّذي يرجع إليه فروع الباب. فمن ذلك قولهم: عهد الرجل يَعهَدُ عهدا، و هو من الوصية. و إنّما سميّت بذلك لأنّ العهد ممّا ينبغي الاحتفاظ به.

و منه اشتقاق العهد الذي يكتب للولاء من الوصيّة، و جمعه عهود. و العهد: الموثق، و جمعه عهود ...» «3»

4- و في الصحاح: «العهد: الأمان و اليمين و الموثق و الذمّة و الحفاظ و الوصيّة. و قد عهدت إليه أي أوصيته، و منه اشتقّ العهد الذي يكتب للولاة.

و تقول: عليّ عهد اللّه ...

______________________________

(1) المفردات/ 363.

(2) العين 1/ 102.

(3) مقاييس اللغة 4/ 167.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 55

..........

______________________________

و التعهّد: التحفّظ بالشي ء و تجديد العهد به.» «1»

5- و في نهاية ابن الأثير: «و قد تكرّر ذكر العهد في الحديث و يكون بمعنى اليمين و الأمان و الذمّة و الحفاظ و رعاية الحرمة و الوصيّة، و لا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أحد هذه المعاني.» «2» و راجع القاموس و أقرب الموارد أيضا. «3»

أقول: الظاهر من عبارة النهاية تعدّد المعنى بنحو الاشتراك اللفظي، و لكن المترائى من أكثر الكتب رجوع الجميع إلى معنى واحد. و هل هذا المعنى الواحد هو الاحتفاظ المستمرّ ثم استعمل فيما من شأنه و حقّه أن يحتفظ فاستعير اللفظ الموضوع بإزاء اللازم للملزومات، أو بالعكس و أنّ اللفظ وضع للقرار المجعول مؤكّدا بداعي الاحتفاظ و الاستمرار ثمّ استعير لنفس الاحتفاظ؟ و جهان.

و كيف كان فالمستعمل فيه غالبا القرار الاعتباري المؤكّد الذي يكون عند العقلاء موضوعا للّزوم و وجوب الاحتفاظ. و يشمل هذا المفهوم الوصيّة و الأمان و الذمّة و الأمر و العهد المصطلح فقها و النذر و اليمين، و لكن أظهر مصاديقه عند الإطلاق القرار الواقع بين اثنين، و يعبّر عنه بالفارسية: «پيمان»، و يدخل في ذلك جميع العقود المصطلحة، فليس اللفظ مجملا مردّدا بين المعاني المختلفة بحيث لا يظهر المقصود منه.

فهل الآيات الكثيرة النازلة في شأن العهد كقوله- تعالى-: وَ أَوْفُوا بالْعَهْد إنَّ

______________________________

(1) صحاح اللغة 2/ 515.

(2) نهاية ابن الأثير 3/ 325.

(3) القاموس المحيط 1/ 331؛ و أقرب الموارد 2/ 842.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 56

..........

______________________________

الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا «1» و قوله: وَ الْمُوفُونَ بعَهْدهمْ إذٰا عٰاهَدُوا

«2» و قوله: وَ الَّذينَ هُمْ لأَمٰانٰاتهمْ وَ عَهْدهمْ رٰاعُونَ* «3» و قوله: بَلىٰ مَنْ أَوْفىٰ بعَهْده وَ اتَّقىٰ فَإنَّ اللّٰهَ يُحبُّ الْمُتَّقينَ «4» و قوله: فَأَتمُّوا إلَيْهمْ عَهْدَهُمْ إلىٰ مُدَّتهمْ «5» و قوله: الَّذينَ يُوفُونَ بعَهْد اللّٰه وَ لٰا يَنْقُضُونَ الْميثٰاقَ «6» و قوله: وَ أَوْفُوا بعَهْد اللّٰه إذٰا عٰاهَدْتُمْ «7» إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، نزلت للقلقة الألسنة بها إلى يوم القيام من دون أن يفهم المقصود منها، أو أنّها نزلت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور و تهديهم للتي هي أقوم؟ و هكذا قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود «8» المفسّر في أخبار الفريقين بالعهود.

و الخطاب في الآيات القرآنية متوجّهة إلى الناس، و ألفاظها تحمل على المفاهيم العرفيّة: فكلّ ما يراه العرف تعهّدا و التزاما يشمله المطلقات. و من أوضح مصاديق العهود: العقود المصطلحة المنعقدة بين اثنين.

و بما ذكرنا يظهر إمكان التمسّك بآيات العهد و رواياته أيضا على صحة العقود

______________________________

(1) سورة الإسراء (17)، الآية 34.

(2) سورة البقرة (2)، الآية 177.

(3) سورة المؤمنون (23)، الآية 8؛ و سورة المعارج (70)، الآية 32.

(4) سورة آل عمران (3)، الآية 76.

(5) سورة التوبة (9)، الآية 4.

(6) سورة الرعد (13)، الآية 20.

(7) سورة النحل (16)، الآية 91.

(8) سورة المائدة (5)، الآية 1/

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 57

..........

______________________________

و لزومها. و عدم معهودية تمسّك الفقهاء بها لا يدلّ على عدم الدلالة، فكم ترك الأوّلون للآخرين. و القرآن بحر واسع موّاج عميق يسبح فيها أفكار العلماء على اختلافهم إلى يوم القيام.

فإن قلت: إنّا نعلم من مذاق الشرع و ممّا ارتكز في أذهان المتشرعة عدم وجود إطلاق في أدلّة العناوين الثانويّة الطارئة من قبيل النذور

و العهود و الأيمان و الشروط و الوعود بحيث تشمل بإطلاقها الأمور المحرّمة أيضا حتّى نحتاج في إخراجها إلى أدلّة خاصّة، بل أدلّتها بالذات قاصرة عن شمول المحرّمات و تكون ناظرة إلى الأمور المشروعة بالذات.

فهل ترى مثلا: أنّ قوله «ص»: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليف إذا وعد» «1» له إطلاق يشمل الوعود المحرّمة أيضا؟! أو أنّه من أوّل الأمر ينصرف إلى خصوص العدات المشروعة بالذات؟

لا مجال للاحتمال الأوّل. و لأجل ذلك لم يتمسّك أحد من الفقهاء بصحة العقود المشكوكة لزومها بآيات العهد و الوعد و رواياتها. إذ بعد انصرافها إلى الأمور المشروعة بالذات يكون التمسّك بها لصحّة الأمر المشكوك فيه من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية لنفسه.

قلت: إن كان الشكّ في مشروعيّة نفس العقد أو العهد مثلا بعد إحراز شرعيّة المتعلّق ذاتا فنقول: إنّ الموضوع في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود مثلا يحمل على المفهوم العرفي و اللام للاستغراق، و على هذا فبنفس هذا الدليل يثبت شرعية كلّ ما سمّي عقدا إلّا ما خرج بالدليل.

______________________________

(1) الكافى 2/ 364، كتاب الإيمان و الكفر، باب خلف الوعد، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 58

..........

______________________________

و إن كان الشكّ في شرعيّة المتعلّق ذاتا مع قطع النظر عن تعلّق العقد به فنقول: نحن نسلّم انصراف الدليل عمّا إذا كان المتعلّق محرّما شرعا للعلم بأنّ المولى لا يريد هدم أساس تشريعاته بتنفيذ هذه العناوين الطارئة.

و لكن أوّلا: نفرض الكلام في المتعلقات المشروعة ذاتا و لا نريد تحليل المحرّمات الشرعيّة بهذه العناوين.

و ثانيا: أنّ كلّ فرد من المتعلّقات شكّ في حرمته ذاتا يتمسّك لنفي حرمته بأدلّة الحلّ فيرتفع المانع عن إجراء حكم العنوان العامّ عليه.

و ثالثا: أنّ المخصّص

في المقام لبّي يقتصر فيه على صورة العلم بحرمة المتعلّق.

و رابعا: أنّه يمكن أن يقال: إنّ تعيين مصاديق المخصّص في المقام لمّا كان من وظائف الشارع لأنّه الحاكم بحرمة الشي ء و عدمها فيجوز في الفرد المشتبه التمسّك بالعامّ و يحرز بذلك عدم حرمته، إذ الحجة في ناحية العامّ تامّ من قبل الشارع و لم تتمّ من قبله في ناحية المخصّص إلّا بالنسبة إلى الأفراد المعلومة. و بالجملة يفترق هذا المقام عن سائر موارد الشبهة المصداقيّة للمخصّص حيث إنّ رفع الشبهة في المقام من وظائف الشارع.

و في الحقيقة كلّ محرّم مخصّص مستقلّ، فيدور الأمر بين قلّة التخصيص و كثرته، فتأمّل هذا.

و يظهر من الأستاذ الإمام في الخيارات ما محصّله: «أنّ بملاحظة تفسير العقود في الآية بالعهود تخرج العقود المصطلحة عنها غالبا، ضرورة أنّ البيع و الإجارة و نحوهما ليس فيها معنى العهدة و العهد و التعهّد لا مطابقة و هو واضح، و لا التزاما لما تقدّم من أنّ الفعل الاختياري لا يعقل أن يكون من المداليل الالتزاميّة. مضافا إلى وضوح أنّ البيع ليس إلّا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 59

..........

______________________________

تبادل مال بمال. نعم في عقد الضمان و الكفالة التعهّد و الالتزام ثابت فيدخلان في عنوان العهود.

إلّا أنّ الأصحاب تمسّكوا بالآية لنفوذ العقود الاصطلاحيّة و لزومها. و التعبير بعقدة النكاح في الآيتين من القرآن أيضا شاهد لدخول مثل عقد النكاح في العقود، و الاعتبار فيه و في غيره سواء ...» «1»

أقول: البيع و الإجارة و أمثالهما و إن لم تتضمّن لمفهوم التعهّد و الالتزام مطابقة و بالحمل الأوّلي، لكن اعتبارها عند العقلاء و اعتمادهم عليها يكون بلحاظ الالتزام و التعهّد أعني تعهّد البائع مثلا بمفاد

إيجابه و تعهّد المشتري بمفاد قبوله. فالتعهّد متحقّق في نفسهما مع الإنشاء الجدّي الصادر عنهما و ملازم معه، فيدلّ عليه دلالة أحد المتلازمين على الآخر، نظير دلالة المعلول على وجود علّته. و ليست الدلالة منحصرة في الدلالة اللفظية الوضعيّة المنقسمة إلى المطابقة و التضمن و الالتزام. و تسمية العقود المصطلحة بالعقد و العقدة لعلّها من جهة ربط أحد الالتزامين بالآخر اعتبارا فيوجد فيها عهدتان و عقدة بينهما، و بالجملة فيوجد فيها العهدة و العقدة معا. بل يمكن إطلاق العقد و العقدة على كلّ من التعهّدين أيضا بلحاظ شدّه و لزومه، و إن كان المصطلح إطلاقهما على ربط التعهّدين، فتأمّل.

[يرد على الوجه الخامس]

بقي الكلام على الإشكال الخامس الذي أورده في العوائد على الاستدلال بآية العقود. و محصّله أنّ لفظ العقد في الآية استعمل مجازا، و المجازات ممّا تتّسع دائرتها.

و أجاب عنه الأستاذ الإمام في بيعه «بمنع اتّساع دائرة الكلام مع المجازية لأن للمجازات

______________________________

(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 4/ 14 و 15.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 60

..........

______________________________

بواسطة القرائن ظهورات عرفيّة عقلائية و هي حجّة رافعة للاحتمالات المخالفة.» «1»

و بعبارة أخرى: المكالمات و المخاطبات تقع للإفهام، فلا محالة من يستعمل المجازات و الاستعارات ينصب قرينة لفظية أو يعتمد على قرائن حاليّة ينسبق بسببها اللفظ إلى المعنى المقصود و يرتفع بها الإجمال، فتدبّر.

و قد طال البحث عن الآية الثالثة في المقام و مع ذلك لم نؤدّ حقّه فنحيل ذلك إلى وقت و مجال آخر.

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 73.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 61

الآية الرابعة [آية إحلال البيع و تحريم الربا]

اشارة

______________________________

قوله- تعالى- في سورة البقرة: ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا. «1»

فربّما يستدلّ بها لصحّة كلّ ما يصدق عليه البيع بل للزومه أيضا إلّا فيما دلّ الدليل على خلاف ذلك.

[في ماهية البيع]

أقول: بيان ماهية البيع و شرح الآية بالتفصيل يأتي في أوّل البيع و في أوّل الخيارات إن بقيت الحياة و ساعد التوفيق. و نقول هنا إجمالا: إنّ البيع مبادلة عين بمال، أو السبب المنشأ به ذلك من القول أو الفعل، على الخلاف في إرادة السبب أو المسبّب.

و لا يخفى: أنّ ما يتحقّق عند إنشاء البيع أمور:

الأوّل: العقد المركّب من الإيجاب و القبول، أو التعاطي خارجا بقصد تحقّق المبادلة، و يقال له البيع السببي.

الثاني: مضمون ذلك أعني تبادل الإضافتين المتحقّق باعتبار الطرفين و إنشائهما، و يقال له البيع المسبّبي. و يعتبر أمرا باقيا في عالم الاعتبار ما لم يتعقّبه الفسخ من ذي الخيار أو الإقالة.

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 62

..........

______________________________

الثالث: نتيجة المبادلة المذكورة أعني إضافة الملكيّة الحادثة بين المشتري و المبيع و بين البائع و الثمن.

الرابع: حصول الربح أحيانا للبائع مثلا بسبب هذه المعاملة.

الخامس: تصرّف كلّ من المتعاملين فيما انتقل إليه أو في الربح الحاصل بلحاظ الانتقال إليه و صيرورته مالكا لا مطلق التصرّف.

[في المحكوم بالحليّة في الآية]

إذا عرفت هذا فنقول: هل المحكوم بالحليّة في الآية الشريفة نفس العقد السببي أو المسببي، أو الملكيّة الحادثة التي هي نتيجة المبادلة، أو الربح الحاصل أحيانا، أو التصرّفات المترتّبة على الملكيّة الحادثة؟ فيه احتمالات. و كذا الكلام في قوله: وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.

قال الأستاذ في بيعه ما محصّله: «الظاهر من صدر الآية و ذيلها أي قوله: فَلَهُ مٰا سَلَفَ و قوله: يَمْحَقُ اللّٰهُ الرِّبٰا هو التعرّض للربا الحاصل بالمعاملة لا نفس المعاملة الربويّة. فحينئذ يحتمل في قوله- تعالى-: ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا أن يكون مرادهم بالمثليّة مماثلة الربح الحاصل بالبيع للزيادة الحاصلة بالمعاملة

الربويّة، أو يكون مرادهم مماثلة البيع الذي فيه الربح للمعاملة الربويّة بنفسها.

فعلى الاحتمال الأوّل معنى قوله: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا: أحلّ اللّه الربح الحاصل بالبيع و حرّم الزيادة الحاصلة بالمعاملة الربويّة. و مقتضى ذلك صحّة البيع قهرا، ضرورة أن تحليل نتيجة المعاملة ليس تحليلا مالكيا لأنّ عمل المتعاملين ليس إلّا تمليك الأعيان. و أمّا حلّية التصرّف في جميع المال أو في الربح فهي من أحكام الملكيّة المنشأة و تترتّب عليها قهرا، و ليست بإنشاء المالك لها. فتحليل اللّه- تعالى- للربح في البيع يدلّ على تنفيذه لمالكيّة المشتري للمبيع مثلا و ليس تحليلا تعبديّا مستقلا. و تنفيذ مالكيّة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 63

..........

______________________________

المشتري تنفيذ للسبب المحصّل لها. و بهذا البيان يمكن أن يستدل بالآية على بطلان المعاملة الربويّة أيضا.

و على الاحتمال الثاني يكون قوله: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا بصدد دفع المماثلة بين نفس المعاملتين. و لا شبهة أيضا في دلالته على صحّة البيع سواء أريد به السبب أو المسبّب، بتقريب أنّ قوله هذا لردع توهّم المماثلة، و كانت دعواهم المماثلة لتصحيح أكل الربا فردعهم بأنّهما في ترتّب هذه النتيجة ليسا مثلين، حيث إنّ اللّه- تعالى- أحلّ البيع فتكون نتيجته الحاصلة حلالا، و حرّم الربا فنتيجته حرام. و لازم ذلك صحّة هذا و فساد ذاك.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 63

ثمّ إنّ المراد بالحليّة و الحرمة التكليفيّتان على الاحتمال الأول، و تحتمل التكليفيّة على الاحتمال الثاني و إن كان الأظهر هو الوضعية لأنّ الحلّ و الحرمة إذا نسبا إلى

الأسباب التي يتوصّل بها إلى شي ء آخر، بل إلى مسببات يتوصّل بها إلى النتائج يكونان ظاهرين في الحكم الوضعي لا بمعنى استعمالهما في الحكم الوضعي أو التكليفي كما يتخيّل، بل بمعنى استعمالهما في معناهما اللغوي أي المنع و عدمه و إنّما يفهم التكليف و الوضع بمناسبات الحكم و الموضوع ...» «1»

أقول: إرجاع الإحلال و التحريم في الآية الشريفة إلى التصرّفات في العين أو في الربح الحاصل كما صنعه أوّلا يوهم حملهما على التكليفيّتين بداعي الكناية عن الصحّة و الفساد. و لكن هذا الطريق تبعيد للمسافة بلا وجه و مخالف لظاهر الآية أيضا، إذ ليس المتعلّق لقوله: أحلّ و حرّم التصرّفات أو نتيجة المعاملتين، بل نفس البيع و الربا،

______________________________

(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 1/ 55- 58.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 64

..........

______________________________

و الظاهر منهما نفس المعاملتين. و التقدير خلاف الأصل. فالظاهر- كما التفت إليه هو أخيرا- أنّ المقصود من الحلّ و الحرمة هنا الوضعيّتان منهما أعني الصحّة و الفساد.

و استعمال اللفظين في خصوص التكليف و تبادره منهما إنما حدث في ألسنة الفقهاء و المتشرعة. و أمّا في الكتاب و السنة فكانا يستعملان في المعنى الجامع للتكليف و الوضع و يتعين كلّ منهما بحسب الموضوع و القرائن. فكان يراد بحلّية الشي ء: إطلاقه و عدم المنع بالنسبة إليه من ناحية الشرع، و بحرمة الشي ء: المنع و المحدوديّة من ناحيته. و إطلاق كلّ شي ء و محدوديّته يلاحظان بحسب ما يراد و يترقب من الشي ء. فالمقصود من إحلال البيع: صحّته و نفوذه شرعا، و من تحريم الربا: فساده و عدم نفوذه.

و من هذا القبيل أيضا قوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ إلى قوله:

وَ أُحلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ

ذٰلكُمْ. «1» إذ الظاهر منهما إرادة فساد النكاح و صحّته لا حرمة الوطي و حلّيته كما قيل.

و قد ترى استعمال اللفظين في الوضع في روايات أجزاء الصلاة و شرائطها كقوله «ع» في صحيحة محمّد بن عبد الجبّار: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض.» «2»

و قوله «ع» في معتبرة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن المريض هل تمسك المرأة شيئا فيسجد عليه؟ فقال: «لا إلّا أن يكون مضطرّا ليس عنده غيرها. و ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه.» «3»

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآيتان 23 و 24.

(2) الوسائل 3/ 267، كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

(3) الوسائل 4/ 690، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 65

..........

______________________________

و في رواية سماعة قال: سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينتزع الماء منها فيستلقي على ظهره الأيّام الكثيرة: أربعين يوما أو أقل أو أكثر، فيمتنع من الصلاة الأيّام إلّا إيماء و هو على حاله؟ فقال: «لا بأس بذلك، و ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه.» «1»

و نظير عنواني الحلّ و الحرمة فيما ذكرنا عناوين الجواز و الوجوب و الفرض و المنع و الرخصة و نحوها، بل مطلق الأمر و النهي، فتعمّ التكليف و الوضع و يتعيّن كلّ منهما بمناسبة الحكم و الموضوع و القرائن الحاليّة و المقاليّة. و يأتي تفصيل لذلك في شرح رواية تحف العقول الآتية و بعض المباحث الأخر.

[المناقشة في كلام الشيخ الأعظم]

و بما ذكرنا يظهر المناقشة في كلام الشيخ الأعظم «ره» في أوّل الخيارات، فإنّه بعد ما حكم باستفادة اللزوم من قوله-

تعالى-: أَوْفُوا بالْعُقُود و أنّ المستفاد منه ليس إلّا حكما تكليفيّا يستلزم حكما وضعيّا قال: «و من ذلك يظهر الوجه في دلالة قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ على اللزوم فإنّ حليّة البيع التي لا يراد منها إلّا حلّية جميع التصرّفات المترتبة عليه التي منها ما يقع بعد فسخ أحد المتبايعين بغير رضاء الآخر مستلزمة لعدم تأثير ذلك الفسخ و كونه لغوا غير مؤثّر.» «2»

أقول: قد مرّ أنّ الإحلال في الآية لم يتعلّق بالتصرّفات بل بنفس عنوان البيع فأريد منه الوضع أعني صحّته و ترتيب الآثار عليه. و يشكل دلالته على اللزوم، و تقريب الشيخ لذلك قابل للمناقشة. و الشيخ قد تكلّف فيما ذكره جريا على مبناه من عدم صلاحيّة

______________________________

(1) الوسائل 4/ 690، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 6.

(2) المكاسب للشيخ/ 215، القول في الخيار و أقسامه و أحكامه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 66

..........

______________________________

الأحكام الوضعيّة للجعل و التشريع و أنّها تنتزع دائما من الأحكام التكليفيّة. و نحن نمنع هذا المبنى، و الجعل و التشريع خفيف المؤونة.

و كيف كان فالآية تدلّ على صحّة البيع إجمالا إمّا بالمباشرة كما اخترناه أو بنحو الكناية كما في كلام الشيخ و غيره.

[في ثبوت الإطلاق للآية و عدمه]

و لكن لا يخفى أنّ ثبوت الإطلاق لها بنحو يتمسّك بها في موارد الشكّ يتوقّف على كونها في مقام بيان شرعيّة البيع بنحو الإطلاق إمّا بنحو الإنشاء مطلقا أو بنحو الإخبار عن التشريع المطلق، و كلاهما قابلان للمنع.

قال الأستاذ الإمام «ره» في المقام ما محصّله: «ثمّ إن في إطلاق الآية إشكالا:

أمّا أوّلا: فلأنّ الظاهر أنّها ليست في مقام تشريع حلّية البيع و حرمة الربا، بل بصدد نفي التسوية بينهما في قبال من قال:

إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا فتكون في مقام بيان حكم آخر.

و أمّا ثانيا: فلأنّ الظاهر منها كونها إخبارا عن حكم شرعي سابق لا إنشاء فعليا للحلّ و الحرمة بقرينة قوله: الَّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ منَ الْمَسِّ ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا: إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا. «1» فلا بدّ و أن يكون حكم البيع و الربا مجعولا سابقا حتى يتوجّه التعيير و التوعيد على القائل بالتسوية.

فظاهر الآية: أنّ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كذا لأجل قولهم خلاف قوله- تعالى- حيث قالوا: إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا مع أنّ اللّه أحلّ البيع و حرّم الربا. فقولهم

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 67

..........

______________________________

هذا صار موجبا للعذاب و العقاب الأخروي فلا تكون الآية بصدد بيان الحلّ و الحرمة، بل بصدد الإخبار عن حلّية و حرمة سابقتين فلا إطلاق لها لاحتمال أن يكون الحكم المجعول سابقا بنحو خاصّ فلا يظهر حال المجعول هل كان مطلقا أو مقيّدا.

و يمكن الذبّ عنهما بأنّ قوله- تعالى-: ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا إخبار عن قولهم فلا بدّ و أن يكون قولهم: الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا من غير تقييد صونا لكلامه- تعالى- عن الكذب. فحينئذ يكون إخبار اللّه- تعالى- بأنّ اللّه أحلّ البيع و حرّم الربا موافقا لقولهم موضوعا، فيكون إخبارا بتحليله مطلق البيع و تحريمه مطلق الربا، تأمّل.» «1»

ثم ذكر في الحاشية وجها للتأمّل الأخير فقال: «وجهه أنّ قولهم: «إن البيع مثل الربا» أيضا في مقام بيان التسوية فلا إطلاق له، مع إمكان أن يقال: إنّ الظاهر من الآية صدرا و ذيلا أنّها بصدد بيان تحريم الربا لا تحليل البيع لأنّ تحليله لم يكن محطّ كلامهم

فلا إطلاق فيه من هذه الجهة.» «2»

أقول: دلالة الآية على صحّة البيع إجمالا ممّا لا إشكال فيها، و لكن الإنصاف ورود الإشكالات المذكورة، فلا إطلاق لها حتى يتمسّك به لصحّة البيوع المشكوكة و شروطها و خصوصيّاتها شرعا. إلّا أن يقال بما أشرنا إليه سابقا من عدم الاحتياج في صحّة المعاملات و خصوصيّاتها إلى جعل الشارع و بيانه و لو إمضاء و أنّه يكفي فيها بناء العقلاء و سيرتهم في جميع الأقوام و الأمم ما لم يصل ردع من الشارع نظير ما وصل منه في الربا و القمار و بيع الغرر، فتدبّر.

______________________________

(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 1/ 59 و 61.

(2) نفس المصدر 1/ 61.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 68

[المراد بالعقوبة في الآية]

______________________________

ثمّ لا يخفى أنّ حمل الأستاذ «ره» القيام المذكور في الآية على العقوبة الأخرويّة و أنّ أكلة الربا يقومون في القيامة قيام من صرعه الشيطان و مسّه أمر ذكره أكثر المفسرين أخذا من بعض الأخبار الواردة.

و لكن من المحتمل أن يكون المقصود من القيام في الآية قيامهم في مسير الحياة و التفكّر في النظام الاقتصادي و كونه على سبيل الانحراف و التعدّي عن الطريق المعتدل، حيث لم يتوجّهوا إلى أنّ الأثمان و النقود وسائل و آلات للمبادلات الاقتصاديّة النافعة و ليست بنفسها أهدافا. و الأصل في المبادلات جلب الأمتعة التي يحتاج إليها المجتمعات من البلاد النائية و حفظها و توزيعها على الوجه الصحيح، و إنّما جاز الاسترباح فيها عوضا عمّا يتحمّله التجار من المشقّات و تشويقا لهم في الإقدام على ذلك، و هو المراد بقوله: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ. فترك هؤلاء التوليدات و التجارات النافعة و صرفوا همهم في تكثير النقود و الأثمان و جعلوها

مقصودة بالذات و قاسوا عملهم الانحرافي بالبيوع و التجارات النافعة، فهذا فكر انحرافي خارج عن الاعتدال يقوم به أكلة الربا في مسير الحياة و قد ولهوا في عملهم هذا و أولعوا به بحيث يشبه حركاتهم و أعمالهم في هذه النشأة حركات المصروعين و السكارى. نعم يمكن أن يكون قيامهم في الآخرة أيضا كذلك، إذ الحشر في القيامة يقع على وفق الملكات التي حصّلها الأفراد في هذه النشأة:

و لتحقيق هذا المعنى مقام آخر. هذا.

و إلى هنا تعرضنا لأربع آيات شريفة من الكتاب العزيز بعنوان الضابطة للمكاسب.

فلنشرع في شرح الروايات التي تعرّض لها الشيخ الأعظم في المقام و هي أيضا أربع روايات:

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 69

[الروايات المربوطة بالمكاسب]

اشارة

فنقول- مستعينا باللّه تعالى- (1): روى في الوسائل و الحدائق عن الحسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول عن مولانا الصادق- صلوات اللّه و سلامه عليه- حيث سئل عن معايش العباد فقال:

الرواية الأولى [رواية تحف العقول]

اشارة

______________________________

(1) ذكر المصنّف بعنوان الضابطة أربع روايات: رواية تحف العقول، و عبارة فقه الرضا، و رواية عن دعائم الإسلام، و رواية نبويّة عامّية:

فالرواية الأولى: ما في تحف العقول عن الصادق «ع»، و هي رواية طويلة جامعة رواها المصنّف عن الوسائل و الحدائق. و لكن المتن الموجود فيهما و كذا في المكاسب يختلف جدّا عمّا في تحف العقول بحيث يتغيّر به المعنى في بعض الموارد. و كأنّهما كانا بصدد تلخيص الرواية و تهذيبها، و لعلّه أخذ أحدهما من الآخر.

نعم في البحار و كذا في جامع أحاديث الشيعة روياها بتمامها، فراجع. «1» و الأولى نقلها من نفس المصدر. و من أراد ما في الكتابين فليراجع إليهما.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 54، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ و 13/ 242، الباب 1 من كتاب الإجارة، الحديث 1؛ و الحدائق 18/ 67، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة؛ و بحار الأنوار 100/ 44

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 70

جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات، و يكون فيها حلال من جهة و حرام من جهة.

فأوّل هذه الجهات الأربع الولاية ثمّ التّجارة ثمّ الصّناعات ثمّ الإجارات و الفرض من اللّه تعالى على العباد في هذه المعاملات الدّخول في جهات الحلال و العمل بذلك و اجتناب جهات الحرام منها.

______________________________

ففي تحف العقول المطبوع أخيرا بتصدّي جماعة المدرّسين «1» في عداد ما روى عن الصادق «ع» قال: «سأله

سائل فقال: كم جهات معايش العباد [1] التي فيها الاكتساب [أ] و التعامل بينهم و وجوه النفقات؟ فقال- عليه السلام-: جميع المعايش كلّها من وجوه المعاملات [2] فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب [3] أربع جهات من المعاملات.

______________________________

[1] الظاهر أنّ المراد بمعايش العباد ما يقوم به حياتهم و تعيّشهم، و يطلق على الأسباب القريبة له كالمأكول و المشروب و الملبوس و نحوها، و على البعيدة منها أعني أسباب تحصيل القريبة منها من الصناعات و العقود و نحوها. و هي المقصودة في الحديث.

[2] الظاهر أنّ المقصود بالمعاملة في الرواية معناها الأعمّ، و لذا عدّ من مصاديقها الصناعات و الحرف. فأريد بها مطلق الأعمال المتعارفة في قبال الأعمال العبادية، فتأمّل.

[3] جمع المكسب مصدر ميمى بمعنى الكسب. و يحتمل بدوا أن يكون اسم مكان فيراد به ما يقع عليه الكسب من العوض و المعوّض، و لكن الظاهر عدم جريان هذا الاحتمال في عبارة الحديث.

______________________________

- (ط. إيران 103/ 44)، كتاب العقود و الإيقاعات، الباب 4 من أبواب المكاسب؛ و جامع أحاديث الشيعة 17/ 145، الباب 1 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 15.

(1) تحف العقول/ 331.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 71

[تفسير معنى الولايات]

فاحدى الجهتين من الولاية ولاية ولاة العدل الّذين أمر اللّه بولايتهم على النّاس. و الجهة الأخرى ولاية ولاة الجور.

______________________________

فقال: أ كل هؤلاء الأربعة الأجناس حلال، أو كلّها حرام، أو بعضها حلال و بعضها حرام؟ فقال «ع»: قد يكون في هؤلاء الأجناس الأربعة حلال من جهة و حرام من جهة.

و هذه الأجناس مسمّيات معروفات الجهات.

فأوّل هذه الجهات الأربعة: الولاية و تولية بعضهم على بعض. فالأوّل ولاية الولاة و ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية

على من هو وال عليه. ثم التجارة في جميع البيع و الشراء بعضهم من بعض. ثم الصناعات في جميع صنوفها، ثم الإجارات في كلّ ما يحتاج إليه من الإجارات.

و كلّ هذه الصنوف تكون حلالا من جهة و حراما من جهة. و الفرض من اللّه- تعالى- على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال منها و العمل بذلك الحلال و اجتناب جهات الحرام منها.

تفسير معنى الولايات

و هي جهتان: فإحدى الجهتين من الولاية ولاية ولاة العدل الذين أمر اللّه بولايتهم و توليتهم على الناس، و ولاية ولاته و إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه.

و الجهة الأخرى من الولاية ولاية ولاة الجور و ولاة ولاته إلى أدناهم بابا من الأبواب التي هو وال عليه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 72

فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل و ولاية ولاته بجهة ما أمر به الوالي العادل بلا زيادة و نقيصة. فالولاية له و العمل معه و معونته و تقويته حلال محلّل.

______________________________

فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل الذي أمر اللّه بمعرفته و ولايته و العمل له في ولايته، و ولاية ولاته و ولاة ولاته بجهة ما أمر اللّه به الوالي العادل بلا زيادة فيما أنزل اللّه به و لا نقصان منه [1]. و لا تحريف لقوله و لا تعدّ لأمره إلى غيره.

فإذا صار الوالي والي عدل بهذه الجهة فالولاية له و العمل معه و معونته في ولايته و تقويته حلال محلّل و حلال الكسب معهم. و ذلك أنّ في ولاية والي العدل و ولاته إحياء حقّ و كلّ عدل، و إماتة كلّ ظلم و جور و فساد، فلذلك كان السّاعي في تقوية

سلطانه و المعين له على ولايته ساعيا إلى طاعة اللّه مقوّيا لدينه.

______________________________

[1] الظاهر من الحديث أنّ الوالي يجب أن يكون أساس ولايته و حكمه ما أمره اللّه به من الأحكام، و أنّ الولاة من قبله يكون ولايتهم في إطار ما أنزل اللّه و في جهته، فليس لهم الزيادة فيما أنزل اللّه و لا النقص منه و لا التحريف لقول اللّه أو لقول الوالي المبتني على ما أمره اللّه به.

و قد قال اللّه- تعالى- مخاطبا لنبيه الأكرم «ص»: وَ أَن احْكُمْ بَيْنَهُمْ بمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ «1».

و أمّا على ما في المكاسب من تلخيص العبارة تبعا للوسائل و الحدائق فيفهم منه أنّ الولاة من قبل الوالي الأعظم ليس لهم الزيادة و النقصان فيما أمر به الوالي الأعظم من دون إشارة إلى كونه على أساس ما أمر اللّه به. و لا يخفى أنّ بين الأمرين بونا بعيدا.

______________________________

(1) سورة المائدة (5)، الآية 49.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 73

و أمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر و ولاية ولاته فالعمل لهم و الكسب لهم بجهة الولاية معهم حرام محرّم معذّب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير لأنّ كلّ شي ء من جهة المعونة له معصية كبيرة من الكبائر و ذلك أنّ في ولاية والي الجائر دروس [دوس] (1) الحقّ كلّه و إحياء الباطل كلّه و إظهار الظّلم و الجور و الفساد و إبطال الكتب و قتل الأنبياء و هدم المساجد و تبديل سنّة اللّه و شرائعه فلذلك حرم العمل مَعَهم و معُونتهم و الكسب معهم إلّا بجهة الضّرورة نظير الضّرورة إلى الدّم و الميتة. (2)

______________________________

و أمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر و ولاية ولاته:

الرئيس منهم و اتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه.

و العمل لهم و الكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام و محرّم، معذّب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير. لأنّ كلّ شي ء من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر.

و ذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دوس الحقّ كلّه، و إحياء الباطل كلّه و إظهار الظلم و الجور و الفساد، و إبطال الكتب و قتل الأنبياء و المؤمنين و هدم المساجد و تبديل سنّة اللّه و شرائعه. فلذلك حرم العمل معهم و معونتهم و الكسب معهم إلّا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم و الميتة.

(1) من داس الشي ء أي وطئه برجله، فيكون كناية عن إذلال الحقّ. و في البحار و الوسائل: «دروس الحقّ».

(2) الظاهر أنّه يراد بالاستثناء الجواز و الحلّية حتى بالنسبة إلى الوضع أيضا، فيتملّك الأجرة المأخوذة في قبالها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 74

[تفسير التّجارات]

و أمّا تفسير التّجارات في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التّجارات الّتي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز له و كذلك المشتري الّذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جميع المنافع الّتي لا يقيمهم غيرها و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصّلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و امساكه و استعماله و هبته و عاريته.

______________________________

و أمّا تفسير التجارات

في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التجارات

التي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز له [1] و كذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز له، فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح [2] الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جهة ملكهم، و يجوز لهم الاستعمال له من جميع جهات المنافع التي لا يقيمهم غيرها من كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات. فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.

______________________________

[1] الظاهر أنّه متعلّق بالتفسير لتضمّنه معنى التمييز.

[2] الظاهر أنّ المراد بوجه الصلاح في الحديث ما لا فساد فيه سواء كان واجبا مأمورا به أو كان مباحا مرخّصا فيه و إن لم يصل إلى حدّ الضرورة و الوجوب. و التعبير بالمأمور به من جهة وجوبه الكفائي عند الضرورة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 75

و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشّراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالرّبا أو بيع الميتة

______________________________

و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته، أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا لما في ذلك من الفساد. أو البيع

______________________________

و في حاشية الوسائل من المصنف قال: «قد تضمّن

الحديث حصر المباح في المأمور به و المنافع التي لا بدّ منها، و حصر الحرام في المنهي عنه و ما فيه الفساد. فلا دلالة له على أصالة الإباحة و لا أصالة التحريم، فتبقى بقية المنافع و الأفراد التي لا يعلم دخولها في أحد الطرفين و يحتاج إلى نصّ آخر، فإن لم يكن فالاحتياط.» «1»

[1] يظهر منه أنّ الشي ء إن كان مشتملا على وجه من وجوه الفساد لم يجز المعاملة عليه و إن كان واجدا لوجوه الصلاح أيضا. و هذا ممّا لا يمكن الالتزام به، إذ الواجد للمنافع المحلّلة المقصودة عند العقلاء يكون مالا عرفا و شرعا فتصحّ المعاملة عليه بلحاظ المنافع المحلّلة.

اللّهم إلّا أن يكون المقصود في الحديث صورة المعاملة عليه بقصد منافعه المحرّمة فيمكن القول ببطلانها حينئذ، و يأتي التفصيل لذلك في مسألة بيع العنب بقصد صنعه خمرا.

و يحتمل أن يكون «أو شي ء» مجرورا عطفا على قوله «عاريته»، فيراد به معاملة يوجد فيها الفساد، فيكون قوله: «نظير البيع بالربا» مثالا له.

[2] يظهر منه أنّ المقصود ممّا فيه الفساد هو الأعمّ ممّا كان الفساد في المعاملة كالبيع بالربا أو في نفس المبيع كبيع الميتة و الدّم و نحوهما.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 54، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 76

أو الدّم أو لحم الخنزير أو لحوم السّباع من صنوف سباع الوحش أو الطّير أو جلودها أو الخمر أو شي ء من وجوه النّجس فهذا كلّه حرام محرّم لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التّقلب فيه فجميع تقلّبه في ذلك حرام كذلك كلّ مبيع ملهوّ به

______________________________

للميتة أو الدّم أو لحم الخنزير أو لحوم

السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شي ء من وجوه النجس. فهذا كلّه حرام و محرّم.

لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد. فجميع تقلّبه في ذلك حرام. و كذلك كلّ بيع ملهوّ به.

______________________________

[1] عطف جلود السباع على لحومها و عدّها ممّا يحرم بيعها مع أنّ الظاهر جواز لبسها مع التذكية في غير حال الصلاة فيجوز بيعها لذلك، إمّا أن يحمل على صورة عدم التذكية، أو على بيعها بقصد الصلاة فيها بناء على حرمة ذلك حينئذ، أو على ما إذا لم يتعارف لبسها بحيث صارت بلا منفعة معتدّ بها، أو على منع طهارتها بالصيد بمنع إطلاق لأدلّته و المفروض كونها من سباع الوحش فلا يمكن ذبحها.

هذا و لكن الظاهر جواز صيدها بالآلة الجماديّة لموثّقة سماعة، قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده و أمّا الميتة فلا.» «1» نعم يمكن منع جواز صيدها بالكلاب، فراجع الجواهر. «2»

[2] استعمل المصدر بمعنى المفعول، أو وقع في العبارة تصحيف كما لا يخفى.

______________________________

(1) الوسائل 16/ 368، الباب 34 من كتاب الأطعمة و الأشربة، الحديث 4.

(2) الجواهر 36/ 54، كتاب الصيد و الذباحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 77

و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّه- عزّ و جلّ- أو يقوى به الكفر و الشّرك في جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته و جميع التّقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك.

[تفسير الإجارات]

و أمّا تفسير الإجارات فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من قرابته أو دابّته أو ثوبه بوجه الحلال من جهات الإجارات أن يوجر

______________________________

و كلّ منهي عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّه، أو يقوّى به الكفر و الشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب من الأبواب يقوّى به باب من أبواب الضلالة، أو باب من أبواب الباطل، أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم. حرام بيعه و شراؤه و إمساكه [1] و ملكه و هبته و عاريته و جميع التقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك.

و أمّا تفسير الإجارات

فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من قرابته أو دابّته أو ثوبه بوجه

______________________________

[1] يظهر من الرواية حرمة إمساك الأصنام و الصلبان في المتاحف و إن كان لها قيمة عند أهل الدنيا، بل يجب كسرها و إفناؤها كما صنع رسول اللّه «ص» بأصنام الكعبة، و موسى «ع» بالعجل الذي صنعه السّامريّ. فأمثال هذه الأمور لما كانت من جذور الفساد و الانحراف وجب إفناؤها، فتأمّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 78

نفسه أو داره أو أرضه أو شيئا يملكه فيما ينتفع به من وجوه المنافع أو العمل بنفسه و ولده و مملوكه و أجيره من غير أن يكون وكيلا للوالي أو واليا للوالي فلا بأس أن يكون أجيرا يوجر نفسه أو ولده أو قرابته أو ملكه أو وكيله في إجارته لأنّهم وكلاء الأجير من عنده ليس هم بولاة الوالي نظير الحمّال الّذي يحمل شيئا معلوما بشي ء معلوم فيجعل ذلك الشي ء الّذي يجوز له حمله بنفسه أو بملكه أو دابّته أو يوجر نفسه في عمل يعمل ذلك بنفسه أو بمملوكه

أو قرابته أو بأجير من قبله فهذه

______________________________

الحلال من جهات الإجارات: أن يوجر نفسه أو داره أو أرضه او شيئا يملكه فيما ينتفع به من وجوه المنافع، أو العمل بنفسه [1] و ولده و مملوكه أو أجيره من غير أن يكون وكيلا للوالي أو واليا للوالي فلا بأس أن يكون أجيرا يوجر نفسه أو ولده أو قرابته [2] أو ملكه أو وكيله في إجارته [3] لأنّهم وكلاء الأجير من عنده، ليس هم بولاة الوالي،

______________________________

[1] يحتمل أن يراد به الجعالة أو العمل بالإذن بدون عقد الإجارة أو الجعالة فيستحقّ به أجرة المثل.

[2] لعلّ المراد بالقرابة المذكورة بعد الولد أقرباؤه الصغار إذا كانوا تحت قيمومته الشرعيّة.

[3] يحتمل أن يكون معطوفا على قوله: «أجيرا» أي لا بأس أن يكون أجيرا يوجر نفسه ... أو وكيلا للأجير في أن يؤجره. و يمكن أن يراد به أجير الأجير الذي يعدّ وكيلا له في أعماله كائنا في إجارته بنحو الإطلاق فيوجره لذلك. و يشهد لذلك قوله بعد ذلك:

«لأنّهم وكلاء الأجير من عنده».

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 79

وجوه من وجوه الإجارات حلال لمن كان من النّاس ملكا أو سوقة أو كافرا أو مؤمنا فحلال إجارته و حلال كسبه من هذه الوجوه.

فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة نظيران يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم أكله أو شربه أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشي ء أو حفظه أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا أو قتل النّفس بغير حقّ أو عمل التّصاوير و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدّم أو شي ء من وجوه الفساد الّذي كان محرّما عليه من غير جهة الإجارة فيه

______________________________

نظير الحمّال الذي يحمل

شيئا بشي ء معلوم إلى موضع معلوم، فيحمل ذلك الشي ء الذي يجوز له حمله بنفسه أو بملكه أو دابّته. أو يؤاجر نفسه في عمل يعمل ذلك العمل بنفسه أو بمملوكه أو قرابته أو بأجير من قبله.

فهذه وجوه من وجوه الإجارات حلال لمن كان من الناس ملكا أو سوقة [1] أو كافرا أو مؤمنا، فحلال إجارته و حلال كسبه من هذه الوجوه.

فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارات نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم عليه أكله أو شربه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشي ء أو حفظه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا أو قتل النفس بغير حلّ، أو حمل التصاوير و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدّم أو شي ء من وجوه الفساد الذي كان محرّما عليه من غير جهة الإجارة فيه، و كلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات.

______________________________

[1] المراد بالسوقة: الرعيّة و من دون الملك، لأنّ الملك يسوقهم إلى ما شاء من أمره.

و يطلق على الواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 80

و كلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له أو شي ء منه أو له إلا لمنفعة من استأجرته كالّذي يستأجر له الأجير ليحمل الميتة ينحيها عن أذاه أو أذى غيره و ما أشبه ذلك- إلى أن قال:

______________________________

فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له [1] أو شي ء منه أو له إلّا لمنفعة من استأجرته [2] كالذي يستأجر الأجير يحمل له الميتة ينحيها عن أذاه أو أذى غيره، و ما أشبه ذلك.

و الفرق بين معنى الولاية

و الإجارة و إن كان كلاهما يعملان بأجر: أنّ معنى الولاية أن يلي الإنسان لوالي الولاة أو الولاة فيلي أمر غيره في التولية عليه و تسليطه و جواز أمره و نهيه و قيامه مقام الوليّ إلى الرئيس، أو مقام وكلائه في أمره و توكيده في معونته و تسديد ولايته و إن كان أدناهم ولاية فهو وال على من هو وال عليه يجري مجرى الولاة الكبار الذين يلون ولاية الناس في قتلهم من قتلوا و إظهار الجور و الفساد.

______________________________

[1] يمكن أن يراد بالأوّل إجارة نفسه في صنع الشي ء كصنع الخمر مثلا، و بالثاني إجارة نفسه لمقدّماته، أو بالعكس بأن يراد بالأوّل: الإيجار لمقدّمات العمل الواقعة في طريقه، و بالثاني الإيجار لنفس العمل. و يمكن أن يراد بالأوّل: الإتيان بالعمل مباشرة، و بالثاني الإتيان به و لو بالتسبيب.

و قوله: «أو شي ء منه أوله» يعني به في شي ء منه أو شي ء له، فيراد بذلك الاستيجار لإتيان الجزء من العمل أو مقدّماته في قبال كلّ العمل أو كلّ مقدّماته.

[2] الظاهر كونه غلطا، و الصحيح: «إلّا لمنفعة من استأجره» كما في الحدائق و البحار.

و قيل: إنّ المراد به: من طلبت منه كونك أجيرا له، و هذا معنى غريب لباب الاستفعال.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 81

و كلّ من آجر نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من كافر أو مؤمن أو ملك أو سوقة على ما فسّرنا ممّا يجوز الإجارة فيه فحلال محلّل فعله و كسبه.

[تفسير الصّناعات]

و أمّا تفسير الصّناعات فكلّ ما يتعلّم العباد أو يعلّمون غيرهم من أصناف الصّناعات مثل الكتابة و الحساب و التّجارة و الصّياغة و البناء و الحياكة و السّراجة و القصارة و الخياطة و

صنعة صنوف التّصاوير ما لم

______________________________

و أمّا معنى الإجارة فعلى ما فسّرنا من إجارة الإنسان نفسه أو ما يملكه من قبل أن يؤاجر الشي ء من غيره فهو يملك يمينه لأنّه لا «1» يلي أمر نفسه و أمر ما يملك قبل أن يؤاجره ممن هو آجره.

و الوالي لا يملك من أمور الناس شيئا إلّا بعد ما يلي أمورهم و يملك توليتهم. و كلّ من آجر نفسه أو آجر ما يملك نفسه أو يلي أمره من كافر أو مؤمن أو ملك أو سوقة على ما فسّرنا ممّا تجوز الإجارة فيه فحلال محلّل فعله و كسبه.

و أمّا تفسير الصناعات

فكلّ ما يتعلّم العباد أو يعلّمون غيرهم من صنوف الصناعات مثل الكتابة و الحساب و التجارة (النجارة- ظ.) و الصياغة و السراجة و البناء و الحياكة و القصارة و الخياطة، و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني، و أنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها

______________________________

(1)- الظاهر زيادة كلمة: «لا» كما لا يخفى و يظهر ممّا بعده.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 82

يكن مثل الرّوحاني و أنواع صنوف الآلات الّتي يحتاج إليها العباد منها منافعهم و بها قوامهم و فيها بلغة جميع حوائجهم فحلال تعلّمه و تعليمه و العمل به و فيه لنفسه أو لغيره.

و إن كانت تلك الصّناعة و تلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد و وجوه المعاصي و تكون معونة على الحقّ و الباطل فلا بأس بصناعته و تقلّبه نظير الكتابة الّتي هي على وجه من وجوه الفساد تقوية و معونة لولاة الجور و كذلك السّكّين و السّيف و الرّمح و القوس و غير ذلك من وجوه الآلات الّتي تصرف إلى وجوه الصّلاح و جهات

الفساد، و تكون آلة و معونة عليهما، فلا بأس بتعليمه و تعلّمه و أخذ الأجر عليه و العمل به و فيه لمن كان له فيه جهات الصّلاح من جميع الخلائق و محرّم عليهم

______________________________

العباد التي منها منافعهم و بها قوامهم و فيها بلغة جميع حوائجهم، فحلال فعله و تعليمه و العمل به و فيه لنفسه أو لغيره، و إن كانت تلك الصناعة و تلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد و وجوه المعاصي و يكون معونة على الحقّ و الباطل. فلا بأس بصناعته و تعليمه، نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد من تقوية معونة ولاة ولاة الجور، و كذلك السّكّين و السيف و الرمح و القوس و غير ذلك من وجوه الآلة التي قد تصرف إلى جهات الصلاح و جهات الفساد، و تكون آلة و معونة عليهما، فلا بأس بتعليمه و تعلّمه و أخذ الأجر عليه و فيه و العمل به و فيه لمن كان له فيه جهات الصلاح من جميع الخلائق، و محرّم عليهم فيه تصريفه إلى جهات الفساد و المضارّ، فليس على العالم و المتعلّم إثم و لا وزر لما فيه من الرجحان في منافع جهات صلاحهم و قوامهم به و بقائهم. و إنّما الإثم و الوزر على المتصرّف بها في وجوه الفساد و الحرام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 83

تصريفه إلى جهات الفساد و المضارّ فليس على العالم (المعلّم خ. ل) و لا المتعلّم إثم و لا وزر لما فيه من الرّجحان في منافع جهات صلاحهم و قوامهم و بقائهم و إنّما الإثم و الوزر على المتصرّف فيه (بها خ. ل) في جهات الفساد و الحرام. و ذلك

إنّما حرّم اللّه الصّناعة الّتي هي حرام كلّها الّتي يجي ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشّطرنج و كلّ ملهوّ به و الصّلبان و الأصنام و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام (المحرّمة. ظ) و ما يكون منه و فيه الفساد محضا و لا يكون منه و لا فيه شي ء من وجوه الصّلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجرة عليه و جميع التّقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها إلّا أن يكون صناعة قد تصرف إلى جهة المنافع (المباح خ. ل) و إن كان قد يتصرّف فيها

______________________________

و ذلك إنّما حرّم اللّه الصناعة التي حرام هي كلّها التي يجي ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كلّ ملهوّ به و الصلبان و الأصنام و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام و ما يكون منه و فيه الفساد محضا [1] و لا يكون فيه و لا منه شي ء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه، و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها إلّا أن تكون صناعة قد تنصرف إلى جهات الصنائع (الصلاح- ظ.) و إن كان قد يتصرّف بها و يتناول بها وجه من وجوه المعاصي، فلعلّه

______________________________

[1] يحتمل أن يراد بالأوّل كونه مقدمة للفساد و بالثاني ما يكون الفساد في نفسه، أو يراد بالأوّل جزء العلّة و بالثاني العلّة التامّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 84

و يتناول بها وجه من وجوه المعاصي فلعلّة ما فيه من الصّلاح حلّ تعلّمه و تعليمه و العمل به و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ و الصّلاح

فهذا تفسير بيان وجوه اكتساب معايش العباد و تعليمهم في وجوه اكتسابهم. الحديث (1).

______________________________

لما فيه (فلعلّة ما فيه- الوسائل) من الصلاح حلّ تعلّمه و تعليمه و العمل به و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ و الصلاح. فهذا تفسير بيان وجه اكتساب معايش العباد و تعليمهم في جميع وجوه اكتسابهم. الحديث.»

[جهات من البحث حول الرواية]
اشارة

(1) إذا وقفت على متن الحديث فلنبحث حوله في جهات:

[الجهة الأولى: وجوه معايش الخلق أزيد ممّا ذكر في الحديث]

الجهة الأولى: الظاهر- كما في حاشية العلامة الطباطبائي- «1»: أنّ وجوه معايش الخلق أزيد ممّا ذكر في الحديث، إذ منها الزراعات و العمارات و النتاجات و إجراء القنوات و إحياء الموات و كري الأنهار و غرس الأشجار و حيازة المباحات و مطلق الإباحات و الأخماس و الصدقات و حقوق الوكالة و الوصاية و النظارة و مال الجعالة و أمثال ذلك.

و لو فرض إدراج بعضها في الإجارات أو الصناعات بتكلّف فيبقى الإشكال في البقيّة.

فإن قلت: الغرض في الحديث ذكر خصوص المعاملات لا جميع طرق المعاش، و إنّما ذكرت الولايات بحيالها مع كونها من قبيل الإجارات اهتماما بشأنها و لذا ذكرت في أوّل الرواية.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للعلامة السيّد محمّد كاظم الطباطبائى/ 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 85

..........

______________________________

قلت: ذكر الصناعات في الحديث دليل على كون المراد بالمعاملات هنا المعنى الأعمّ لا خصوص العقود و الإيقاعات، فيراد بها مطلق الأعمال غير العباديّة، مضافا إلى أن قوله في آخر ما حكيناه من الحديث: «فهذا تفسير بيان وجه اكتساب معايش العباد ...»

أيضا يدلّ على كون المقصود ذكر جميع المعايش. اللّهم إلّا أن يقال بالنسبة إلى الصناعات إنّها بنفسها لا يستفاد منها غالبا إلّا بالمبادلة على المصنوعات فذكرها في الحديث من جهة وقوعها موضوعا للتجارات أو الإجارات، فتأمّل.

[الجهة الثانية: الرواية متعارضة فقراتها في ضابطي الحلّ و الحرمة]

الجهة الثانية: في حاشية المحقّق الإيرواني «ره» ما ملخّصه: «أنّ الرواية متعارضة فقراتها في ضابطي الحلّ و الحرمة: فضابط الحلّ فيها أن يكون الشي ء فيه جهة من جهات الصلاح. و ضابط الحرمة أن يكون في الشي ء وجه من وجوه الفساد. ففي ذي الجهتين يقع التزاحم. فإمّا أن يرجّح ضابط الحلّ و يحكم فيه بالحلّ بما يستفاد من قسم الصناعات من تقديم

جهة الصلاح في ذات الجهتين منها، أو يحصل الإجمال بالتعارض فيرجع إلى عمومات أدلّة التجارة و أصالة الحلّ.» «1»

أقول: الظاهر من الرواية الحكم على الشي ء بلحاظ الأثر الغالب المترقّب منه عند العقلاء و المصرف المتعارف فيه. فإن كان الأثر المتعارف المترقّب منه من وجوه الصلاح و ممّا يتقوّم به المعاش حلّ بيعه و إجارته و سائر التقلّبات فيه لذلك. و إن كان الأثر المتعارف المترقب منه عند العقلاء من وجوه الفساد حرم بيعه و شراؤه لذلك.

و بالجملة فالمعيار الآثار و الفوائد المتعارفة المترقّبة من الأشياء. و المقصود في الحديث بيان حكم المعاملات على الأشياء بلحاظ هذه الآثار. نعم لو فرض للشي ء مضافا إلى

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 86

..........

______________________________

منفعة المحرّمة الشائعة منفعة محلّلة عقلائية أيضا و وقعت المعاملة عليه بلحاظها فالظاهر صحّتها بلا إشكال، كما يستفاد ذلك ممّا ذكر في الصناعات ذات الجهتين.

و بذلك يظهر أن ذكر وجوه النجس أيضا في عداد ما يحرم المعاملة عليها ينصرف إلى المعاملة عليها بلحاظ ما كان يترقّب منها غالبا في تلك الأعصار، حيث كانوا يستفيدون منها بالأكل أو الشرب أو اللبس و يعاملون عليها لذلك و قد علّل التحريم فيها بقوله «ع»: «لما فيه من الفساد.» فلو فرض ترتّب فائدة عقلائية محلّلة عليها في طريق صلاح المجتمع كالدّم للتزريق بالمرضى مثلا و وقعت المعاملة عليها لذلك فلا وجه للإشكال فيها.

و بالجملة فليست النجاسة بنفسها مانعة عن صحة المعاملة و إنّما المانع حرمة الفوائد العقلائيّة المترقّبة منها.

[الجهة الثالثة: المراد بالحلّية و الحرمة هو الأعمّ من التكليفيّة و الوضعيّة]

الجهة الثالثة: الظاهر أنّ المراد بالحلّية و الحرمة في هذه الرواية هو الأعمّ من التكليفيّة و الوضعيّة أعني صحة المعاملة و فسادها. فأريد بالحلال ما

أطلقه الشرع بحسب ما يترقّب منه تكليفا أو وضعا أو كليهما، و بالحرام ما منعه كذلك. و إطلاق اللفظين في الوضع كان شائعا في لسان الشرع المبين. و منه قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.

بل قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ إلى قوله: وَ أُحلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بأَمْوٰالكُمْ «1». فيراد بهما فساد النكاح و صحّته وضعا لا حرمة الوطي و حلّيته تكليفا.

و قد كثر هذا النحو من الاستعمال في الروايات، و من ذلك روايتا سماعة و أبي بصير

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآيتان 23 و 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 87

..........

______________________________

في أبواب القيام من الوسائل «1». و قد مرّ ذكرهما في بيان الآية الرابعة.

و لأجل ذلك أردف في الحديث في المقام موضوعات التكليف و الوضع و ذكرها في سياق واحد فقال في وجوه الحلال من التجارات: «فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.» و في وجوه الحرام منها قال: «حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته.»

و من الواضح أنّ المترتّب على مثل الإمساك و الاستعمال الحلّ أو الحرمة تكليفا، و على مثل البيع و الهبة الحلّ أو الحرمة تكليفا و وضعا أعني صحتهما أو فسادهما، و هو المتفاهم من التعبيرين في أمثالهما. هذا.

و لا يبعد إرادة الإطلاق في أخبار الحلّية في موارد الشك أيضا كقوله «ع» في صحيحة عبد اللّه بن سنان: «كلّ شي ء يكون فيه حلال و حرام فهو حلال لك أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.» «2» و في موثقة مسعدة بن صدقة: «كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه

حرام بعينه فتدعه.» «3» بعد كون المستعمل فيه و المتبادر من اللفظين في تلك الأعصار الجواز و المنع تكليفا و وضعا سواء جعلا وصفين للأفعال أو للذوات بلحاظ الأفعال المتعلقة بها، و إن شاع في ألسنة الفقهاء المتأخّرين استعمالهما في التكليف فقط.

و ليس الاستعمال من قبيل استعمال اللفظ في المعنيين بل في الجامع بينهما أعني كون الذات أو الفعل مطلقا من قبل الشارع أو ممنوعا عنه بما يناسبه من الإطلاق أو المنع.

و على هذا فيجوز الاستدلال بهذه الأخبار على صحّة الصلاة في اللباس المشكوك فيه

______________________________

(1) الوسائل 4/ 690، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديان 6 و 7.

(2) الكافى 5/ 313، كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديث 39.

(3) الكافى 5/ 313، كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديثان 40.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 88

..........

______________________________

بالشبهة الموضوعيّة مثلا. و هذا باب واسع. و قد حكى الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- فيما قرّرناه من بحثه الشريف في اللباس المشكوك فيه هذا المعنى من المحقّق القمي و استحسنه.

[الجهة الرابعة: سند الحديث]
اشارة

الجهة الرابعة: البحث في سند الحديث. و هو العمدة في المقام:

لا يخفى أنّ الحديث و إن كان حاويا لضوابط كليّة مهمّة في باب المكاسب المحرّمة و غير المحرّمة و استدل بها المتأخّرون في أبواب كثيرة، إلّا أنّ الاعتماد عليه بانفراده في قبال العمومات الدالّة على صحة العقود و الإيقاعات مشكل و إن كان صالحا للتأييد و الاستيناس.

[مؤلّف كتاب تحف العقول]

و السرّ في ذلك أنّ مؤلّف الكتاب: الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّاني أو الحلبي و إن كان من قدماء أصحابنا الإمامية و وجائهم و كان كتابه معتمدا عليه إجمالا:

ففي رجال المامقاني حاكيا عن الروضات: «إنّه فاضل ففيه و متبحّر نبيه و مترفّع وجيه له كتاب تحف العقول عن آل الرسول «ص» مبسوط كثير الفوائد معتمد عليه عند الأصحاب.» «1»

و في الذريعة عدّه معاصرا للصدوق «ره» و حكى عن الشيخ عليّ بن الحسين بن صادق البحراني قال: «إنّه من قدماء أصحابنا حتّى إنّ شيخنا المفيد ينقل عنه و كتابه ممّا لم يسمح الدهر بمثله.» «2»

و في كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام قال في حقّه: «شيخنا الأقدم و إمامنا

______________________________

(1) راجع روضات الجنّات 2/ 289، الرقم 200؛ و تنقيح المقال 1/ 293.

(2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 3/ 400.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 89

..........

______________________________

الأعظم له كتاب تحف العقول فيما جاء في الحكم و المواعظ عن آل الرسول، كتاب جليل لم يصنّف مثله ...» «1»

و قال مؤلّف تحف العقول في مقدّمة كتابه: «و أسقطت الأسانيد تخفيفا و إيجازا و إن كان أكثره لي سماعا.» «2» ممّا يشعر باعتماده على أكثر ما فيه.

[إرسال الرواية و الإعراض عنها]

لكن مع ذلك كلّه فرواياته كلّها مراسيل محذوفة الأسناد. مضافا إلى أنّ هذه الرواية بخصوصها كما ترى معقّدة مضطرب المتن مشتملة على التكرار و التطويل بنحو يطمئن الناقد البصير بعدم كون الألفاظ بعينها للإمام «ع» و أنّ الراوي لم يكن يحسن الضّبط.

قال المحقّق الإيرواني في حاشيته في المقام: «هذه الرواية مخدوشة بالإرسال و عدم اعتناء أصحاب الجوامع بنقلها مع بُعد عدم اطلاعهم عليها، مع ما هي عليه في متنها من القلق و

الاضطراب. و قد اشتبهت في التشقيق و التقسيم كتب المصنّفين. فالاعتماد عليها ما لم تعتضد بمعاضد خارجي مشكل. و الخروج بها عن عموم مثل أَوْفُوا بالْعُقُود و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ أشكل.» «3» هذا.

و لو فرض اعتماد المؤلّف على روايات كتابه و قوّة أسانيدها عنده فلا يكفي هذا في اعتمادنا عليها، لاختلاف المباني في باب حجيّة الأخبار و شرائط الرواة. و من الإغراق في هذا المجال قولهم في حقّ تحف العقول: إنّه ممّا لم يسمح الدهر بمثله «4»، مع وجود مثل

______________________________

(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام/ 413.

(2) تحف العقول/ 3.

(3) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 2.

(4) راجع الكنى و الألقاب 1/ 318؛ و الذريعة 3/ 400.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 90

..........

______________________________

الكافي بسعته و جامعيّته. هذا.

[عمل المشهور و قيمة الشهرة]

و بما ذكرنا يظهر المناقشة فيما ذكره العلامة الطباطبائي في حاشيته في المقام، قال:

«ثمّ إنّ هذه الرواية الشريفة و إن كانت مرسلة لا جابر لها ... لكن مضامينها مطابقة للقواعد و مع ذلك فيها أمارات الصدق فلا بأس بالعمل بها.» «1»

أقول: قال في مصباح الفقاهة: «و أمّا قوله: إنّ آثار الصدق منها ظاهرة فلا ندري ما ذا يريد هذا القائل من هذه الآثار، أ هي غموض الرواية و اضطرابها أم تكرار جملها و ألفاظها أم كثرة ضمائرها و تعقيدها أم اشتمالها على أحكام لم يفت بها أحد من الأصحاب و من أهل السنة؟ ...» «2» هذا.

و في مصباح الفقاهة أيضا بعد ما منع حجيّة هذه الرواية لإرسالها و اختصاص الحجيّة بالخبر الموثوق بصدوره قال ما ملخّصه: «و هم و دفع: ربّما يتوهّم انجبار ضعفها بعمل المشهور، لكنّه فاسد كبرى و صغرى: أمّا الكبرى فلعدم كون الشهرة

في نفسها حجّة فكيف تكون موجبة لحجّية الخبر و جابرة لضعفه لأنّه كوضع الحجر في جنب الإنسان.

لا يقال: عمل المشهور بالخبر كاشف عن احتفافه بقرائن قد اطلعوا عليها توجب الوثوق، كما أنّ إعراضهم عن الخبر الصحيح يوجب وهنه و سقوطه، و من هنا اشتهر أنّ الخبر كلّما ازداد صحّة ازداد بإعراض المشهور و هنا.

فإنّه يقال- مضافا إلى أنّه دعوى بلا برهان-: إنّ المناط في حجيّة خبر الواحد هي وثاقة الراوي. و يدلّ على ذلك الموثقة التي أرجع السائل فيها إلى العمري و ابنه، حديث

______________________________

(1) حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائى/ 2.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 91

..........

______________________________

علّل هذا الحكم فيها بأنّهما ثقتان «1»، و الروايات المتواترة التي أرجع فيها إلى أشخاص موثّقين. و على هذا فإن كان عمل المشهور راجعا إلى توثيق رواة الخبر و شهادتهم بذلك فبها، و إلّا فلا يوجب انجبار ضعفه.

و من هنا يعلم أنّه بعد ثبوت صحّة الخبر لا يضرّه إعراض المشهور عنه إلّا أن يرجع إلى تضعيف رواته.

و أمّا الوجه في منع الصغرى فهو عدم ثبوت عمل المتقدّمين بها. و أمّا عمل المتأخرين فهو على تقدير ثبوته غير جابر لضعفها مضافا إلى أنّ استنادهم إليها في فتياهم ممنوع جدّا.» «2»

أقول: ما ذكره- قدّس سرّه- أخيرا من منع الصغرى صحيح، إذ جبران الضعف أو كسر صحّة الخبر من جهة أن شهرة الفتوى بين من لا يفتي بالأقيسة و الاستحسانات الظنيّة، بل يكون بناؤهم على التعبّد بالنصوص و أقوال العترة الطاهرة، ربّما تكشف كشفا قطعيّا عن تلقّيهم الفتوى عنهم «ع» يدا بيد أو اطلاعهم على قرائن حاليّة أو مقاليّة اختفت علينا. و هذا البيان لا يجري في شهرة

المتأخرين، لانقطاعهم عن الأئمة- عليهم السلام-، فلا محالة استندوا في فتاواهم على اجتهادات عقليّة حول الأخبار الموجودة.

و من الواضح أنّ مضامين رواية تحف العقول لا توجد في كتب القدماء من أصحابنا لا بنحو الفتوى و لا بعنوان الحديث و الرواية، فليس في المقام شهرة يجبر بها ضعف الرواية.

______________________________

(1) الكافى 1/ 330، كتاب الحجّة، باب في تسمية من رآه «ع»، الحديث 1.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 6 و 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 92

..........

______________________________

و أمّا ما ذكره- قدّس سرّه- في منع الكبرى فهو أمر كان يصرّ عليه في الأبواب المختلفة من الفقه كما يظهر لمن تتبع تقارير أبحاثه.

و قد اتفق لي في سفري الأول إلى النجف الأشرف: أن قلت له في لقائي: إنّ إجزاء جميع الأغسال عن الوضوء أمر يدلّ عليه روايات صحيحة دلالة واضحة و كانت هذه الروايات بمرأى الأعاظم من فقهائنا المتقدّمين و مع ذلك نراهم لا يفتون بمضامينها و يفتون بمضمون مرسلة ابن عمير و خبره عن حماد أو غيره الدالّتين على عدم إجزاء غير غسل الجنابة عنه «1»، فهل يبقى مع ذلك وثوق بصحّة تلك الروايات و عدم احتفافها بقرائن مانعة عن ظهورها؟

و بعكس ذلك كان الأستاذ آية اللّه البروجردي- أعلى اللّه مقامه- مصرّا على الاعتناء بشهرة القدماء من أصحابنا في المسائل الأصلية المتلقّاة عن الأئمة «ع» يدا بيد- في قبال المسائل الفرعيّة المستنبطة عنها بالاجتهاد- و كان يقول: إنّ بناء الأصحاب كان على أخذ الفقه من الفحول و الأساتذة يدا بيد و إنّ سلسلة فقهنا لم تنقطع في عصر من الأعصار، بل كان أصحاب الأئمة «ع» معتنين بفتاوى الأئمة «ع» مهتمين بها ناقلين إيّاها لتلاميذهم، و كان الخلف يأخذها عن

السّلف إلى عصر الصدوقين و المفيد و المرتضى و الشيخ و أقرانه، و كانوا يذكرونها في كتبهم بألفاظها حتّى اتّهمهم العامّة بأنهم يقلّدون الأوائل و ليسوا من أهل الاجتهاد و الاستنباط كما ذكر ذلك الشيخ في أوّل المبسوط، و كانت الشيعة في عصر الأئمة «ع» يعتنون عملا بفتاوى بطانة الأئمة «ع» و بما اشتهر بينهم و يأخذون بها في مقام العمل، حتّى إنّهم ربّما تركوا ما سمعوه من شخص الإمام

______________________________

(1) الوسائل 1/ 516، كتاب الطهارة، الباب 35 من أبواب الجنابة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 93

..........

______________________________

بعد إشارة البطانة إلى خلافه، و هذا يكشف عن شدّة اعتمادهم على فتاوى البطانة، فراجع خبر عبد اللّه بن محرز في باب الميراث «1».

و مخالفة ابن الجنيد و العماني في أغلب المسائل ناشئة من عدم كونهما في المعاهد العلميّة و لم يتلقّيا الفقه من الأساتذة بل من الكتب التي كانت عندهما.

و كان يقول أيضا: إنّ من تتبع كتب الأخبار و وقف على اختلاف راويين مثلا في نقل مضمون واحد عن إمام واحد، أو اختلاف مصنّفين في ألفاظ رواية واحدة بل مصنّف واحد في موضعين من كتابه و اختلاف النسخ الكثيرة، يظهر له أنّ الاعتماد على رواية واحدة مثلا في مقام الإفتاء مشكل، و إن فرض كون جميع رواته ثقات، إلّا إذا أفتى بمضمونها الأعلام. بل لو فرض وجود روايات مستفيضة في مسألة يظهر لنا بذلك صدور المضمون المشترك بينها عن الأئمة «ع» إجمالا و لكن الحكم بخصوصيّات كلّ واحدة منها مشكل.

و بالجملة فهو- قدّس سرّه- كان يقسم المسائل الفقهية إلى قسمين: مسائل أصليّة مأثورة متلقّاة عن الأئمة المعصومين «ع» و مسائل تفريعية استنبطها الفقهاء من المسائل الأصلية.

و كان

يقول: إنّ كتب القدماء من أصحابنا كالمقنع و الهداية للصدوق، و المقنعة للمفيد، و النهاية للشيخ، و المراسم لسلار، و الكافي لأبي الصلاح الحلبي، و المهذّب لابن البرّاج و أمثالها كانت حاوية للمسائل الأصلية فقط. و الشيخ ألّف المبسوط لذكر التفريعات.

و كان المرز الفاصل بين الصنفين من المسائل محفوظا إلى عصر المحقّق، فهو في الشرائع

______________________________

(1) راجع الوسائل 17/ 445، كتاب الفرائض و المواريث، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديثان 4 و 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 94

..........

______________________________

يذكر في كلّ باب أوّلا المسائل الأصلية المأثورة ثمّ يعقّبها بالتفريعات بعنوان: «مسائل» أو «فروع»، و إنّما وقع التخليط بين الصنفين في عصر الشهيدين و من بعدهما.

ففي الصنف الأوّل من المسائل تكون الشهرة حجّة فضلا عن الإجماع، و في الصنف الثاني لا يفيد الإجماع أيضا فضلا عن الشهرة، لأنّ وزانها وزان المسائل العقليّة التي لا مجال فيها للتمسّك بالإجماع و الشهرة «1».

أقول: إطلاق ما ذكره هذان العلمان في هذا المجال قابل للمناقشة:

أمّا ما ذكره الأستاذ- قدّس سرّه- فلأنّ الشهرة بين القدماء إن أوجبت الوثوق و الاطمينان بتلقّيهم المسألة من الأئمة «ع» يدا بيد، أو اطلاعهم على ما لو وصل إلينا كان حجّة قطعا كما هو المدّعى، صحّ الاعتماد عليها.

و لكن من المحتمل كونها في أكثر المسائل على أساس الروايات الموجودة بأيدينا، بل هو المظنون غالبا. و مجرّد الاحتمال كاف في منع الاعتماد عليها، نظير الإجماعات المبتنية و لو احتمالا على الأخبار و المدارك الموجودة عندنا، فليسا دليلين مستقلّين.

ألا ترى أنّ اشتهار تنجّس البئر في كتب القدماء من أصحابنا شهرة قاطعة كيف انهدم أساسها بسبب صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع الحاكمة بأنّ ماء

البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغير ريحه أو طعمه. الحديث «2».

و الأستاذ أيضا أفتى بعدم تنجّسها بعذر أنّ القول بالتنجّس كان مستندا إلى الأخبار التي بأيدينا فنحملها على التنزيه.

______________________________

(1) راجع البدر الزاهر في صلاة الجمعة و المسافر/ 8- 10.

(2) الوسائل 1/ 105، كتاب الطهارة، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحديث 12، و أيضا الحديث 10.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 95

..........

______________________________

نعم لو فرض اشتهار الفتوى بين القدماء من أصحابنا في مسألة، من دون أن يكون له دليل ظاهر فيما بأيدينا من الأخبار و لم يساعده أيضا إطلاق دليل أو اعتبار عقلي، كشفت الشهرة لا محالة عن تلقّي المسألة عن الأئمة «ع» يدا بيد، أو وصول دليل معتبر إليهم غير واصل إلينا، نظير الإفتاء بإتمام الصلاة و إفطار الصيام في سفر الصيد للتجارة و ازدياد المال، مع عدم وجود رواية بذلك فيما بأيدينا و أنّ مقتضى القواعد و الإطلاقات هو التلازم بين الصلاة و الصيام في القصر و الإتمام. و لكن أمثال هذه المسألة قليلة جدّا.

[في إعراض المشهور]

كما أنّ الإنصاف أنّ إعراض المشهور من القدماء عن الروايات الصحيحة مع ظهورها و عدم تطرّق التأويل إليها يوجب و هنها و عدم الوثوق بإرادة ظواهرها، فيشكل الإفتاء بها فتطرح أو يحتاط في المسألة و هو طريق النجاة.

و أمّا ما ذكره آية اللّه الخوئي- طاب ثراه- فيرد عليه أنّ ما دلّ على الإرجاع إلى ثقات الروات لا يدلّ على نفي غير ذلك و عدم حجّية غير خبر الثقة.

بل الظاهر منها أنّ الملاك تحصيل الوثوق بالحكم من أيّ طريق حصل، إذ التعليق على الوصف يدل على العلية، و على ذلك بناء العقلاء أيضا حيث يرون الوثوق و

سكون النفس علما عاديّا يعتمدون عليه في أمورهم.

و ليس هذه الأخبار في مقام إعمال التعبّد و جعل خبر الثقة حجّة تعبّدا. بل في مقام ذكر المصداق لما عليه العقلاء.

فقوله «ع» في حقّ العمري: «فاسمع له و أطع فإنّه الثقة المأمون» و في حقّه و حقّ ابنه:

«فاسمع لهما و أطعمها فإنّهما الثقتان المأمونان» «1» علّل الإرجاع بأمر ارتكازي يحكم به

______________________________

(1) الكافى 1/ 330، كتاب الحجّة، باب في تسمية من رآه «ع»، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 96

..........

______________________________

العقلاء، كما هو الغالب في التعليلات الواردة في الكتاب و السنّة حيث تقع لاستيناس ذهن السّامع و دفع استيحاشه المحتمل.

و يشهد لذلك قول الراويين للرضا «ع»: «أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟» قال: «نعم.» «1»

إذ يظهر منه أنّ جواز الاعتماد على الثقة كان واضحا مفروغا عنه بلا تعبّد، و إنّما السؤال وقع عن تعيين المصداق.

و على هذا فإن حصل بسبب عمل المشهور المتعبّدين بالنصّ وثوق بمضمون الرواية وجب الأخذ به، و إذا حصل بإعراضهم عن الصحيح الترديد فيه و ارتفع الوثوق بمضمونه لم يجز الأخذ به، و هذا معنى كون عمل المشهور جابرا لضعف الرواية، و إعراضهم كاسرا لصحّتها.

و بطانة الأئمة «ع» و أصحابهم و تلاميذ أصحابهم الملازمون لهم كانوا واقفين على فتاواهم. و قد مرّ في خبر عبد اللّه بن محرز أنّ الراوي ترك ما سمعه من شخص الإمام و أخذ بقول أصحابه اعتمادا عليه، و استحسنه الإمام لذلك «2». و يظهر من أخبار كثيرة في أبواب مختلفة اعتماد الشيعة على أصحاب الأئمة و بطانتهم و أخذ الأحكام منهم و إمضاء الأئمة «ع» ذلك، فتأمل. هذا.

و في

ذيل مقبولة عمر بن حنظلة الوارد في علاج الخبرين المتعارضين قال «ع»: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به

______________________________

(1) الوسائل 18/ 107، كتاب القضاء، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33، و نحوه الحديث 34.

(2) الوسائل 17/ 445، كتاب الفرائض و المواريث، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديثان 4 و 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 97

..........

______________________________

من حكمنا و يترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، و إنّما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و أمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه و إلى رسوله ... قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ ...» «1»

و الظاهر أن المقصود بالمجمع عليه في الحديث ما اشتهر العمل به و الإفتاء بمضمونه استنادا إليه كما يظهر من مقابلته بالشاذّ. و إذا وصل العمل بالرواية و الاعتماد عليها إلى حدّ عدّ خلافه شاذّا نادرا صارت عند العقلاء ممّا لا ريب فيها، إذ يحصل بمضمونها الوثوق غالبا. و حمل الشهرة في الحديث على الشهرة الروائية فقط بعيد في الغاية.

[أنواع الشهرة]

توضيح ذلك: أنّ الشهرة على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الشهرة في الرواية بمعنى كثرة الناقلين لها، سواء عملوا بها أم لا.

الثاني: الشهرة العمليّة بمعنى عمل المشهور برواية و استنادهم إليها في مقام الإفتاء.

الثالث: الشهرة الفتوائيّة بمعنى إفتاء المشهور بحكم من الأحكام من دون أن يعلم مستند فتواهم كما مرّ من مسألة سفر الصيد للتجارة من التفصيل بين الصلاة و الصيام.

و يظهر من الشيخ الأعظم في الرسائل و كثير من الأعاظم حمل الشهرة في

الحديث و كذا في مرفوعة زرارة الآتية على القسم الأوّل أعني الشهرة الروائيّة «2»، مع وضوح أنّ مجرّد نقل الرواية فقط من دون اعتماد عليها لا يجعلها ممّا لا ريب فيه، بل يكون من قبيل الإعراض الذي يزيد في ريبه. فالمقصود اعتماد الأصحاب على أحد الخبرين

______________________________

(1) الكافى 1/ 68، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.

(2) راجع فرائد الأصول/ 66 و 447.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 98

..........

______________________________

المتعارضين في مقام العمل و الإفتاء بمضمونه. و على ذلك كان يصرّ الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه-.

نعم كان بناء القدماء من أصحابنا على ذكر متن الخبر في مقام الإفتاء، و لكن الذي يجعل الرواية ممّا لا ريب فيه ليس مجرد نقلها، بل العمل بها و الاعتماد عليها من ناحية المتعبدين بالنصوص أعني بطانة الأئمة «ع» و أصحابهم الواقفين على فتاواهم، و قد عرفت أنّ التعليل في الكتاب و السنة بل في التعليلات العرفيّة أيضا يقع غالبا بما هو المركوز في أذهان السّامعين.

و بالجملة فما هو المرجّح للرواية عند التعارض و يجعلها ممّا لا ريب فيه هو الشهرة العملية.

و مورد المقبولة و إن كان هو الخبران المتعارضان في باب الحكم، لكن عموم التعليل يقتضي الترجيح بها و لو في غير باب الحكم أيضا، كما يقتضي جبرها للخبر الضعيف أيضا.

بل يمكن الاستدلال به لحجيّة الشهرة الفتوائية مطلقا و لا سيّما إذا لم يكن لها مدرك فيما بأيدينا من الأخبار، و كذا كونها موهنة للخبر الصحيح الوارد على خلافها. كلّ ذلك بعموم التعليل المنصوص، إذ ظاهره كون المجمع عليه عند الأصحاب بمعنى المشهور لديهم في مقام العمل ممّا لا ريب فيه بنحو الإطلاق. و السّر في ذلك

أنّ الشهرة العمليّة عند أهل النصّ المتعبّدين به يوجب الوثوق بتلقّيهم المسألة من الأئمة «ع».

اللّهم إلّا أن يقال: بعد اللتيّا و الّتي: سلّمنا أنّ المقصود بالشهرة في الحديث الشهرة العمليّة و لكن ترجيح الرواية بها في مقام التعارض أخفّ مئونة من جبر الخبر الضعيف

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 99

..........

______________________________

بها أو كونها حجة مستقلّة، إذ بعد فرض كون كلّ واحد من المتعارضين حجّة في نفسه يكفي في ترجيح أحدهما على الآخر وجود مزيّة ما فلا يقاس به غيره.

قال الشيخ الأعظم في الرسائل: «ألا ترى أنّك لو سئلت عن أنّ أيّ المسجدين أحبّ إليك؟ فقلت: ما كان الاجتماع فيه أكثر، لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر ... و كذا لو أجبت عن سؤال المرجح لأحد الرّمانين، فقلت ما كان أكبر.» «1» هذا.

و لكن يرد عليه: أنّا لا نريد إثبات العموم بالأمر بأخذ المجمع عليه من المتعارضين، بل بعموم التعليل. و ظهور التعليل في العموم و الإطلاق في المقام قويّ، و احتمال الخصوصيّة فيه و حمل اللام على العهد مخالف للظاهر جدّا.

و أمّا ما في كلام المحقّق النائيني- قدّس سرّه- من أنّ المراد ممّا لا ريب فيه في المقام عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله من الشاذّ، و هذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّية، لأنّه لا يصحّ أن يقال: يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله و إلّا لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره، و بأقوى الشهرتين و بالظنّ المطلق و غير ذلك. «2»

ففيه: أنّ حمل التعليل على عدم الريب الإضافي ممّا لا وجه له بعد ظهوره في عدم الريب بنحو

الإطلاق. بل لا نتصوّر لعدم الريب الإضافي معنى صحيحا، إذ الظاهر ممّا لا ريب فيه ما حصل اليقين أو الاطمينان به، و هذا مفهوم مطلق.

______________________________

(1) فرائد الأصول/ 66.

(2) راجع فوائد الأصول 3/ 54، في أقسام الشهرة و حجّيتها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 100

..........

______________________________

و حمل المجمع عليه في المقبولة على الخبر الذي أجمع على صدوره من المعصوم فيكون المراد به الخبر المعلوم صدوره- كما في مصباح الأصول «1»- مخالف للظاهر أيضا، لما مرّ من ظهور الرواية في الشهرة العمليّة أعني الظهور عند الأصحاب عملا و تلقّيهم بالقبول، و هي كما مرّ موجبة للوثوق و سكون النفس غالبا فتكون ممّا لا ريب فيه عند العقلاء و من البيّن رشده عندهم.

و لو فرض العلم بصدوره و لكن وقع الإعراض عنه من قبل بطانة الأئمة «ع» الواقفين على فتاواهم لم يكن ممّا لا ريب فيه، بل كلّه ريب فيترك و يؤخذ بقول البطانة كما ظهر ذلك من خبر عبد اللّه بن محرز الذي مرّت الإشارة إليه «2».

فإن قلت: قول السائل بعد ذلك: «فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم» «3» ظاهر في الشهرة الروائيّة، و إلّا فكيف يتصوّر الشهرة العمليّة في كلا المتعارضين؟

قلت: الشهرة بمعنى الظهور لا الأكثرية المطلقة و لذا يصحّ استعمال الأشهر. فيمكن ظهور كلتا الروايتين عند الأصحاب في مقام العمل في قبال ما فرض أوّلا من كون أحدهما مجمعا عليه و الآخر شاذّا. و رواية الثقات لهما كناية عن عملهم بهما يفتي جمع منهم بهذا و جمع آخر بذاك. إذ الإفتاء في تلك الأعصار كان بنقل الرواية المعتبرة عندهم. و لو شك في أنّ المقصود بالشهرة في المقبولة الشهرة الروائيّة أو العمليّة

أخذ

______________________________

(1) مصباح الأصول 2/ 141، المبحث الرابع في حجّية الشهرة.

(2) الوسائل 17/ 445، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديثان 4 و 7.

(3) الكافى 1/ 68، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 101

..........

______________________________

بالقدر المتيقّن أعني كون إحدى الروايتين مشهورة رواية و عملا كما لا يخفى. هذا.

و المقبولة رواها المشايخ الثلاثة و تلقّاها الأصحاب بالقبول حتّى اشتهرت بالمقبولة.

و صفوان بن يحيى في سندها من أصحاب الإجماع. و عن الشيخ في العدّة: أنّه لا يروي إلّا عن ثقة «1». و محمّد بن عيسى بن عبيد و إن ضعّفه الشيخ لكن قال النجاشي في حقّه: «إنّه جليل في أصحابنا ثقة عين.» «2» و قال في حقّ داود بن حصين الأسدي أيضا: «إنّه كوفي ثقة.» «3»

فيبقى الكلام في عمر بن حنظلة نفسه و قد رويت روايتان يستفاد منهما مدحه و صدقه و لكن في سند أحدهما يزيد بن خليفة و هو واقفي لم يثبت وثاقته و إن مال إليها بعض، و الخبر الآخر رواية نفس عمر بن حنظلة. و لكن كبار الأصحاب رووا عن عمر بن حنظلة و اعتنوا برواياته، و روايته هنا متلقّاة بالقبول و لعلّه يظهر آثار الصدق من متنها و فقراتها فيحصل الوثوق بصحّتها، فتدبّر. و راجع ما حرّرناه في سند الرواية و مفادها في كتاب ولاية الفقيه. «4»

و بالجملة يستفاد من المقبولة الاعتماد على الشهرة إجمالا. و على ذلك استقرّت الفتاوى في علاج الخبرين المتعارضين.

و يؤيّد ذلك مرفوعة زرارة المرويّة في عوالي اللآلي عن العلامة، قال: سألت الباقر «ع» فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال: «يا

______________________________

(1) عدّة

الأصول 1/ 386- 387؛ و تنقيح المقال 2/ 100- 101.

(2) رجال النجاشى/ 333 (ط. أخرى/ 235)؛ و تنقيح المقال 3/ 167.

(3) رجال النجاشى/ 159 (ط. أخرى/ 115)؛ و تنقيح المقال 1/ 408.

(4) راجع دراسات في ولاية الفقيه 1/ 428.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 102

..........

______________________________

زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ...» و رواه عنه في قضاء المستدرك. «1»

و لكن المرفوعة ضعيفة جدّا حتى إنّه طعن فيها و في أصل الكتاب من لم يكن من دأبه المناقشة في الأخبار كصاحب الحدائق «2». و لم يوجد منها أثر في ما بأيدينا من كتب العلامة، و إن أمكن أن يقال: إنّه في العوالي بعد ذكر المرفوعة قال: «و قد ورد هذا الحديث بلفظ آخر و هو ما روى محمد بن عليّ بن محبوب، عن محمد بن عيسى، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة.» و ذكر المقبولة بطولها، و لعلّ هذا يوجب الاطمينان بأنّ ابن أبي جمهور رأى المرفوعة في كتاب من كتب العلامة و لكنّه لم يصل إلينا هذا.

و قد طال الكلام في الجهة الرابعة حول حديث تحف العقول. فأعتذر من القرّاء الكرام.

[الجهة الخامسة: الأمور على ثلاثة أقسام]
اشارة

الجهة الخامسة: لا يخفى أنّ الأمور على ثلاثة أقسام:

[الأوّل: الحقائق المتأصّلة و الموجودات الخارجيّة]

الأوّل: الحقائق المتأصّلة و الموجودات الخارجيّة التي شغلت وعاء الخارج بمراتبه، مجرّدة كانت أو مادّية، جوهرية أو عرضية محمولة بالضميمة كالأبيض المحمول على الجسم و العالم المحمول على النفس.

[الثاني: المفاهيم الانتزاعية المنتزعة عن الخارجيّات]

الثاني: المفاهيم الانتزاعية المنتزعة عن الخارجيّات من دون أن يكون لها وجودات على حدة وراء وجودات مناشئ الانتزاع فتحمل عليها بنحو الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة.

______________________________

(1) عوالي اللآلي 4/ 133، الرقم 229؛ و مستدرك الوسائل 3/ 185، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضى، الحديث 2.

(2) الحدائق 1/ 99، المقدمة السادسة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 103

..........

______________________________

قال في المنظومة:

«و الخارج المحمول من صميمه يغاير المحمول بالضميمة.»

«1» قوله: «من صميمه» متعلّق بالخارج لا بالمحمول، فيراد أنّه خارج من حاقّ الذات و لكنّه يحمل عليها.

و قد يمثل لذلك في كلماتهم بالفوقيّة و التحتيّة و القبليّة و البعديّة و الأبوّة و البنوّة و أمثال ذلك من الإضافات المتكرّرة، و يقال: إنّ الخارج ظرف لأنفسها لا لوجوداتها إذ لا وجود لواحد منها وراء وجود منشأ انتزاعه.

أقول: لنا فيما مثّلوا به كلام، إذ الخارجيّة مساوقة لنحو من الوجود و إن كان ضعيفا كما في جميع الأعراض النسبيّة. و المقسم للجوهر و المقولات العرضيّة بأجمعها هو الموجود الممكن فيجب أن يتحقّق المقسم في جميع الأقسام و مرتبة وجود العرض غير مرتبة وجود المعروض لتأخّره عنه رتبة. فلا يبقى فرق من هذه الجهة بين البياض و العلم و غيرهما من الكيفيّات و بين مثل الفوقيّة و التحتيّة و الأبوّة و البنوّة و غيرها من الإضافات المتكرّرة و إن تفاوتت في شدّة الوجود و ضعفه، فيكون الجميع من أقسام المحمول بالضميمة.

نعم في المفاهيم العامّة المنتزعة عن الماهيّات الخارجيّة كمفهوم الذات أو

الماهيّة أو الشيئيّة أو الإمكان و نحوها من المعقولات الثانية باصطلاح الفلسفي و كذلك المفاهيم العامّة المنتزعة عن الوجودات الخارجيّة كمفهوم الوحدة أو التشخّص يشكل القول بتحقّق الوجود لها خارجا وراء وجودات مناشئ الانتزاع للزوم التسلسل و غيره من المحاذير

______________________________

(1) شرح المنظومة للحكيم المتألّه السبزواري- قسم المنطق-/ 30، غوص في الفرق بين الذاتى و العرضى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 104

..........

______________________________

المذكورة في محلّه «1». و يعبّرون عن مثلها بأنّ الاتصاف بها في الخارج و لكن عروضها لمعروضاتها في الذهن بعد تحليله و انتزاعها منها. و ملاك انتزاعها مع أنّ الانتزاع لا يكون جزافا يحتاج إلى تأمّل و بيان أوفى.

[الثالث: الأمور الاعتبارية المحضة]

الثالث: الأمور الاعتبارية المحضة التي لا واقعيّة لها في عالم الخارج أصلا، و إنما توجد في وعاء الفرض و الاعتبار باعتبار من له الاعتبار عرفا أو شرعا بلحاظ الآثار المترقّبة منها المترتبة عليها عند العقلاء، فيكون تكوينها بعين وجودها الإنشائي الاعتباري، و ذلك كالمناصب الاعتبارية بمراتبها و الأحكام الشرعيّة التكليفيّة و الوضعيّة. و من هذا القبيل الزوجيّة المعتبرة بين الزوجين و الملكيّة الاعتبارية التي هي موضوع بحثنا في باب المعاملات، لا الملكيّة الحقيقيّة التكوينيّة:

توضيح ذلك: أنّ الملكيّة أعني إضافة الواجديّة المتحقّقة بين المالك و الملك تكون على نوعين: ملكيّة حقيقيّة تكوينيّة، و ملكيّة اعتباريّة محضة:

فالأولى كمالكيّة اللّه- تعالى- لنظام الوجود من الأعلى إلى الأدون بمعنى واجديّته لها و إحاطته القيّوميّة بها تكوينا لتقوّمها به ذاتا. و كذا مالكيّة الإنسان لفكره و قواه و حركاته الصادرة عنه. و من هذا القبيل أيضا مقولة الجدة كواجدية الإنسان خارجا لألبسته المحيطة ببدنه، و يقال لها مقولة الملك أيضا.

و الثانية كمالكية زيد مثلا لداره و بستانه و سائر

أمواله، حيث إنّها إضافة اعتباريّة محضة يعتبرها العرف و الشرع بينهما و إن فرض كون أحدهما بالمغرب و الآخر بالمشرق مثلا. هذا.

______________________________

(1) راجع شرح المنظومة للحكيم السبزواري/ 39، في تعريف المعقول الثانى و بيان الاصطلاحين فيه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 105

..........

______________________________

و في مصباح الفقاهة مثل للملكيّة التكوينيّة بالإضافات الموجودة بين الأشخاص و أعمالهم و أنفسهم و ذممهم، ثمّ قال: «فإنّ أعمال كلّ شخص و نفسه و ذمّته مملوكة له ملكيّة ذاتيّة و له واجديّة لها فوق مرتبة الواجديّة الاعتبارية و دون مرتبة الواجديّة الحقيقيّة التي لمكوّن الموجودات.» «1»

أقول: واجديّة الشخص لنفسه ليس من قبيل الإضافات، إذ الإضافة تحتاج إلى طرفين. اللّهم إلّا أن يفرض الاثنينية بين الشي ء و نفسه ثمّ يعتبر الإضافة بينهما، فمآله إلى الاعتبار قهرا، و بهذا اللحاظ أيضا يحمل الشي ء على نفسه، فتدبّر.

و واجديّة الشخص لذمّته ليست تكوينيّة ذاتية بل هي اعتباريّة محضة، إذ الذمّة أمر اعتباريّ يعتبره العقلاء للأشخاص على حسب ما يرون لهم من الإمكانات كما هو واضح.

ثمّ لا يخفى أنّ اعتبار الملكيّة و فرضها ليس جزافيّا، بل الظاهر أنّ منشأه و أساسه وجود نحو من الملكيّة الحقيقيّة التكوينيّة، و الحاصل أنّ نظام التشريع الصحيح ينطبق على نحو من نظام التكوين.

بيان ذلك أنّ الشخص يملك تكوينا لفكره و قواه و أعضائه و جوارحه في الرتبة الأولى كما مرّ، و يتبع ذلك يملك لحركاته و أفعاله من الصنع و الزرع و الحيازة و نحو ذلك كذلك في الرتبة الثانية. و يتبع ذلك قهرا وجود مصنوعاته و محصولاته و ما أحياه و حازه تحت سلطته فيعتبر إضافة الملكيّة بينها و بينه لكونها من ثمرات حركاته و أفعاله، و يعدّ المستولي

عليها بدون إذنه عند العرف و العقلاء غاصبا لحقّ الغير. فالمرتبة الأولى من الملكيّة الاعتبارية ترتّبت على مرتبتين من التكوينيّة و نتاجات هذه و منافعها تعدّ ملكا له

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 106

..........

______________________________

في الرتبة المتأخّرة و هكذا. هذا كلّه مع قطع النظر عن المبادلات.

ثم إنّ الصنائع و الحركات توجد لرفع الحاجات، و لما كانت مصنوعات الشخص و توليداته قد لا تفي بجميع حاجاته و قد يزيد بعضها عن مقدار حاجته، فهو بسلطنته عليها ربّما يهبها لمن يحتاج إليها مجانا و ربّما يبادل بعضها عينا أو منفعة في قبال مصنوعات الغير و توليداته لاحتياجه إلى مصنوع الغير و احتياج الغير إلى مصنوعه، فمن هنا انعقدت نطفة المبادلات و المعاملات الدائرة من البيع و الإجارة و نحوهما. فتصير مالكيته لمصنوع الغير في قبال ما كان يملكه من مصنوع نفسه، فيضاف إليه إضافة ثانويّة لكونها متفرّعة على الإضافة الأوّليّة الحاصلة بصنعه، و هكذا ثالثة و رابعة حسب تعاقب المبادلات على الأعيان أو المنافع.

و حيث إنّ جميع الحاجات لا ترتفع بمبادلة نفس الأمتعة بعضها ببعض، إذ ربّما يحتاج الشخص إلى مصنوع الغير و الغير لا يحتاج إلى مصنوع هذا بل إلى متاع آخر يوجد عند ثالث، صار هذا سببا لاعتبار الأثمان بعنوان الواسطة رفعا للحاجات و تسهيلا لأمر المبادلات فيباع المصنوع الزائد بثمن معتبر ثمّ يشتري به عند الحاجة المتاع المحتاج إليه من ثالث أو يستأجر منه. فتشريع المعاملات كان أوّلا على أساس مبادلة الأمتعة على حسب الحاجات، و إنّما جعلت الأثمان في الرتبة الثانية بعنوان الواسطة و الآلة.

و الأثمان قد تغيّرت و تكاملت بحسب الأعصار و الأمم المختلفة و تكاملهم في

المدنيّة.

و للبحث في ذلك محلّ آخر.

و كيف كان فمن المعاملات الدائرة في جميع المجتمعات البيع، و هو مبادلة العين بمال معيّن سواء في ذلك مبادلة متاع بمتاع أو متاع بثمن. و بعبارة أخرى لما كانت الملكيّة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 107

..........

______________________________

الاعتبارية عبارة عن إضافة خاصّة معتبرة بين المالك و ملكه كان الملك أحد طرفي الإضافة، فالبيع عبارة عن تبديل هذا الطرف من الإضافة بإزاء طرف إضافة أخرى للغير.

فبالبيع يقع التبادل بين الملكين، لا بأن تبقى الإضافة نفسها إذ هي معنى حرفي متقوّم فتدبّر.

و أمّا في باب المواريث فالظاهر اعتبار التبدّل بين المالكين، فالملك كأنّه يبقى في محلّه، و المالك بموته يخلفه وارثه الذي يعتبر وجودا بقائيا له على حسب طبقات الإرث. ففي كتاب أمير المؤمنين «ع» لابنه الحسن «ع»: «و وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي حتى كأنّ شيئا لو أصابك أصابني، و كأنّ الموت لو أتاك أتاني ...» «1»

[الجهة السادسة: اشتمال الحديث على جملة من القواعد الكلّية]

الجهة السادسة: في نقل كلام من حاشية السيّد الطباطبائي «ره» حول حديث تحف العقول. قال: «لا يخفى اشتمال هذا الحديث الشريف على جملة من القواعد الكلّية:

منها: حرمة الدخول في أعمال السلطان الجائر و حرمة التكسّب بهذه الجهة.

و منها: حرمة الإعانة على الإثم.

و منها: جواز التجارة بكلّ ما فيه منفعة محلّلة.

و منها: حرمة التجارة بما فيه مفسدة من هذه الجهة.

و منها: حرمة بيع الأعيان النجسة بل المتنجّسة إذا جعل المراد من الوجوه الأعمّ.

و منها: حرمة عمل يقوى به الكفر.

و منها: حرمة كلّ عمل يوهن به الحقّ.

______________________________

(1) نهج البلاغة، عبده 3/ 43؛ فيض/ 907؛ صالح/ 391، الكتاب 31.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 108

..........

______________________________

و منها: جواز الإجارة بالنسبة إلى كلّ منفعة محلّلة.

و منها: حرمة

الإجارة في كلّ ما يكون محرّما.

و منها: حلّية الصناعات التي لا يترتّب عليها الفساد.

و منها: حرمة ما يكون متمحضا للفساد.

و منها: جواز الصناعة المشتملة على الجهتين بقصد الجهة المحلّلة. بل يظهر من الفقرة الأخيرة جوازها مع عدم قصد الجهة المحرّمة و إن لم يكن قاصدا للمحلّلة حيث قال:

«فلعلّه لما فيه من الصّلاح حلّ ...» بل التأمّل في فقراته يعطي جواز التجارة أو الإجارة أو الصناعة بقصد الجهة المحلّلة النادرة، حيث إنّ المستفاد منها أنّ الملاك ترتّب المفسدة و قصد الصّرف في الجهات المحرّمة ...» «1» انتهى كلام السيّد في الحاشية.

أقول: ما احتمله من شمول وجوه النجس للمتنجّسات ليس ببعيد، إذ لفظ المتنجّس ليس في الروايات و كلمات القدماء من أصحابنا بل كان يطلق على الجميع لفظ النجس أو القذر كما لا يخفى على من تتّبع. و بهذا البيان كان يريد الأستاذ: آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- المناقشة فيما قيل من عدم الدليل على تنجيس المتنجّس لغيره بتقريب أن سراية النجس و القذر إلى غيره معلوم، و اللفظان يشملان للمتنجّس أيضا. و إن كان لنا فيما ذكره كلام ليس هنا محلّ ذكره. هذا.

و لكن يرد على العلّامة الطباطبائي في المقام: أنّ رواية تحف العقول على ما مرّ ضعيفة عليلة سندا و متنا، فلا تصلح إلّا للاستيناس و التأييد.

هذا كلّه حول رواية تحف العقول.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للعلامة المحقّق الطباطبائى/ 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 109

و حكاه غير واحد عن رسالة المحكم و المتشابه للسّيد- قدّس سرّه- (1)

______________________________

(1) أقول: الظاهر أن نظره في ذلك إلى نقل الوسائل و الحدائق:

قال في الوسائل: «و رواه المرتضى في رسالة المحكم و المتشابه كما مرّ في الخمس و نحوه.» «1»

و

في الحدائق: «و رواه المرتضى في رسالة المحكم و المتشابه.» «2»

و ما ذكروه عجيب، إذ ليس في المحكم و المتشابه من هذه الرواية عين و لا أثر. نعم فيه نقلا عن تفسير النعماني عن عليّ «ع» قال: «و أمّا ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق و أسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلك من خمسة أوجه: وجه الإمارة و وجه العمارة و وجه الإجارة و وجه التجارة و وجه الصدقات.» ثمّ شرح الوجوه الخمسة بما لا يرتبط بما في رواية تحف العقول، فراجع كتاب الخمس من الوسائل «3» و تفسير النعماني المطبوع بتمامه في البحار «4»، و ذكر فيه بدلا عن لفظ الإمارة لفظ: «الإشارة» و الظاهر أنّه غلط.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 57، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به.

(2) الحدائق 18/ 70، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة فيما يكتسب به.

(3) الوسائل 6/ 341، كتاب الخمس، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 12.

(4) بحار الأنوار 90/ 46 (ط. إيران 93/ 46)، كتاب القرآن، الباب 128.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 110

[الرواية الثانية: رواية فقه الرضوي]

اشارة

و في الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا- صلوات اللّه و سلامه عليه-:

«اعلم- يرحمك اللّه- أنّ كلّ مأمور به ممّا هو صلاح للعباد و قوام لهم في أمورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره- ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون- فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و هبته و عاريته. و كلّ أمر يكون فيه الفساد- ممّا قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه، لوجه الفساد، ممّا قد نهي عنه، مثل الميتة و الدّم و لحم الخنزير

و الربا و جميع الفواحش و لحوم السباع و الخمر و ما أشبه ذلك- فحرام ضارّ للجسم و فاسد (فساد- خ.)

للنفس.» (1) انتهى.

______________________________

الرواية الثانية

(1) هذه هي الرواية الثانية من الروايات الأربع التي ذكرها المصنّف بعنوان الضابطة في المقام. و قد كتبناها في المتن على طبق فقه الرضا المطبوع أخيرا من قبل المؤتمر

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 111

..........

______________________________

العالمي للإمام «ع»، فراجع «1».

و الدقة في عبارتها و مقايسة سياقها مع سياق رواية تحف العقول الماضية تعطي الوثوق بأخذ العبارة من تلك الرواية بنحو الخلاصة.

و الكلام يقع تارة في دلالتها و أخرى في سندها:

[الرواية من جهة الدلالة]

أمّا من جهة الدلالة فنقول:

أوّلا: الظاهر أنّ المأمور به في العبارة لا يراد به ما بلغ حدّ الضرورة و الوجوب فعلا، بل يراد به ما يوجد فيه شأنيّة الوجوب و ملاكه كثيرا لتوقّف حفظ الإنسان عليه إجمالا. فمثل هذه الأمور حلال و إن لم تصل إلى حدّ الوجوب و الضرورة.

و ثانيا: المراد بالحلال و كذا الحرام هنا أعمّ من التكليف و الوضع، فيستفاد من حلّية البيع و نحوه مثلا صحّتها و ترتّب الأثر عليها أيضا.

و استعمال اللفظين في الوضع في لسان الكتاب و السنة شائع كثير كقوله- تعالى-:

وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا. «2» و قد مرّ بيان ذلك في الجهة الثالثة حول رواية تحف العقول، فراجع.

و بذلك يظهر الإشكال على ما في مصباح الفقاهة، حيث قال: «إنّ ظاهر الرواية هو حرمة بيع الأمور المذكورة تحريما تكليفيّا كما تقدّم نظير ذلك في رواية تحف العقول، و كلامنا في الحرمة الوضعيّة.» «3»

______________________________

(1) فقه الرضا/ 250، باب التجارات و البيوع و المكاسب.

(2) سورة البقرة (2)، الآية 275.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 18.

دراسات في

المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 112

..........

______________________________

و ثالثا: ظاهر العبارة أنّ كلّ ما فيه الفساد يحرم إمساكه لوجه الفساد. و المقصود من ذلك إمساكه بقصد أن يستعمل في المآل في الفساد، فلا دلالة في العبارة على حرمة إمساك كلّ ما فيه الفساد بنحو الإطلاق. و بذلك يظهر أيضا المناقشة فيما في مصباح الفقاهة، حيث قال: «كيف يتفوّه فقيه أو متفقّه بحرمة إمساك الدم و الميتة و لحوم السباع كما أنّ ذلك مقتضى الرواية.» «1»

و رابعا: يظهر من العبارة أنّ الملاك في حرمة الأشياء بنحو الإطلاق ليس إلّا إضرارها بالجسم أو إفسادها للنفس. و لكن يشكل الالتزام بذلك و أنّ ما يحرم لبسه أو نكاحه مثلا أيضا لا ملاك لحرمته إلّا ذلك. نعم على مذهب العدليّة لا يكون تكليف أو وضع بلا ملاك، و لكنّه لا ينحصر في المنافع و المضارّ الشخصيّة فقط كما لا يخفى.

و خامسا: ليس في عبارة فقه الرضا بالنسبة إلى ما فيه الفساد من المنهيّات اسم من حرمة المعاملات عليه و فسادها، إذ ظاهر قوله أخيرا: «فحرام ضارّ للجسم و فساد للنفس» حرمة استعماله بالأكل و الشرب و أمثال ذلك. اللّهم إلّا أن يحكم بمقتضى المقابلة لقوله:

«حلال بيعه و شراؤه» أنّ المقصود هنا حرمة المعاملات أيضا، فتدبّر.

البحث في سند كتاب فقه الرضا
[الكتاب وزين جامع جيّد الأسلوب]

و اعلم أنّ كتاب فقه الرضا من جهة المتن كتاب وزين جامع جيّد الأسلوب يظهر من سياقه و المسائل المعنونة فيه أنّ مؤلّفه كان محيطا إجمالا بفقه الشيعة الإمامية و رواياتهم المأثورة عن الأئمة «ع»، عارفا بمذهب أهل البيت مطّلعا على موازين الجمع بين الأخبار

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 17.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 113

..........

______________________________

المتعارضة، بحيث لو صحّ سند الكتاب و ثبت اعتباره كان

وافيا بحلّ كثير من المعضلات و دليلا لكثير من المسائل و الفتاوى التي وقع الإشكال في مداركها، و إن اشتمل أيضا على بعض الفتاوى التي لا يلتزم بها الشيعة و لكنّها قليلة جدّا.

و آخر الكتاب هو باب القضاء و المشيّة و الإرادة. و أمّا باب فضل صوم شعبان و ما بعده «1» فالظاهر أنّه كتاب آخر ألحق به في الطبع السابق، و هو نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى، و قد طبع أخيرا كلّ من الكتابين مستقلا.

[القول الأول أنّه من الإمام «ع»]
[المجلسيّان و جمع من الفحول اعتمدوا عليه بعنوان أنّه لشخص الإمام «ع»]

فالعمدة هنا البحث في ماهيّة الكتاب و أنّه معتبر أم لا؟ و قد ظهر الكتاب في عصر المجلسيّين- قدّس سرّهما- ثمّ وقع الاختلاف في أنّه من الإمام «ع» أو من مؤلّفات بعض الأصحاب. فالمجلسيّان و جمع من الفحول اعتمدوا عليه بعنوان أنّه لشخص الإمام «ع»:

1- قال المجلسي في مقدمة البحار: «و كتاب فقه الرضا «ع» أخبرني به السيّد الفاضل المحدّث القاضي أمير حسين- طاب ثراه- بعد ما ورد أصفهان. قال: قد اتفق في بعض سني مجاورتي بيت اللّه الحرام أن أتاني جماعة من أهل قم حاجّين، و كان معهم كتاب قديم يوافق تاريخه عصر الرضا «ع»، و سمعت الوالد- رحمه اللّه- أنّه قال سمعت السيّد يقول: كان عليه خطّه- صلوات اللّه عليه- و كان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء.

و قال السيّد: حصل لي العلم بتلك القرائن أنّه تأليف الإمام «ع» فأخذت الكتاب و كتبته و صحّحته. فأخذ والدي- قدّس اللّه روحه- هذا الكتاب من السيّد و استنسخه و صحّحه. و أكثر عباراته موافق لما يذكره الصدوق أبو جعفر بن بابويه في

______________________________

(1) راجع فقه الرضا/ 56 و ما بعدها من الطبع السابق.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص:

114

..........

______________________________

كتاب من لا يحضره الفقيه من غير سند، و ما يذكره والده في رسالته إليه. و كثير من الأحكام التي ذكرها أصحابنا و لا يعلم مستندها مذكورة فيه كما ستعرف في أبواب العبادات.» «1»

2- و قال المجلسي الأوّل في حاشيته على روضة المتّقين تأليف نفسه ما مختصره:

«اعلم أنّ السيّد الثقة الفاضل المعظّم القاضي مير حسين- طاب ثراه- كان مجاورا في مكّة المعظمة سنين، و بعد ذلك جاء إلى أصفهان و ذكر أني جئت بهديّة نفيسة إليك و هو الكتاب الذي كان عند القمّيين و جاؤوا به إليّ عند ما كنت مجاورا، و كان على ظهره أنّه يسمّى بالفقه الرضوي. و كان فيه بعد الحمد و الصلاة: «أمّا بعد فيقول عبد اللّه عليّ بن موسى الرضا.» و كان في مواضع منه خطّه «ع».

و من كان عنده الكتاب ذكر أنّه وصل إلينا عن آبائنا أنّه تصنيف الإمام «ع»، و كان نسخة قديمة مصحّحة فانتسخت منها. و لما أعطاني القاضي نسخته انتسخت منها ثم أخذه منّي بعض التلامذة و نسيت الأخذ فجاءني به بعد تأليفي لهذا الشرح، فلمّا تدبّرته ظهر أنّ جميع ما يذكره علي بن بابويه في الرسالة فهو عبارة هذا الكتاب ممّا ليس في كتب الحديث.

و الظاهر أنّه كان هذا الكتاب عند الصدوقين و حصل لهما العلم بأنّه تأليفه «ع».

و الظاهر أنّ الإمام «ع» ألّفه لأهل خراسان و كان مشهورا عندهم. و لما ذهب الصدوق إليها اطّلع عليه بعد ما وصل إلى أبيه قبل ذلك فلمّا كتب أبوه إليه الرسالة و كان ما كتبه موافقا لهذا الكتاب تيقّن عنده مضامينه فاعتمد عليها الصدوق.

______________________________

(1) بحار الأنوار 1/ 11، مصادر الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 115

..........

______________________________

و الذي ظهر لي بعد التتبع أنّ علّة عدم إظهار هذا الكتاب أنّه لمّا كان التأليف في خراسان و كان أهلها من العامّة- و الخاصّة منهم قليلة- اتّقى- صلوات اللّه عليه- فيه في بعض المسائل تأليفا لقلوبهم مع أنّه «ع» ذكر الحقّ أيضا، لم يظهر الصدوق ذلك الكتاب و كان محذوفا عندهما و كانا يفتيان بما فيه و يقولان إنّه قول المعصوم.» «1»

أقول: و راجع في هذا المجال أيضا ما حكاه في المستدرك عن فوائد العلامة الطباطبائي و مفاتيح الأصول نقلا عن المجلسي الأوّل- قدّس اللّه تعالى أسرارهم. «2»

و ما ذكره لتوجيه اشتمال الكتاب على الفتاوى المختصّة بالعامّة ضعيف، إذ الإمام «ع» في خراسان لم يكن مبتلى بالتقيّة في قبال العامّة، فعلى فرض كون الكتاب تأليفا له كيف يخرّب و يوهن كتابه المتقن الجامع بذكر عدد قليل من الفتاوى الباطلة فيه مع عدم الإجبار؟! و أئمتنا «ع» كانوا بصدد بيان الحقّ و قلع أساس الباطل مهما أمكن، كما يظهر من مخالفاتهم في المسائل المختلف فيها بين الشيعة و السنة في الأبواب المختلفة كالعول و التعصيب و نحوهما. هذا.

3- و استند المجلسي الأوّل في كتاب الحجّ من الشرح الفارسي للفقيه في باب ما يجب على من بدأ بالسعي قبل الطواف بالفقه الرضوي و قال في أثناء كلامه: «قال شيخان فاضلان صالحان ثقتان: إنّهما أتيا بهذه النسخة من قم إلى مكّة، و كانت النسخة قديمة و عليها خطوط إجازات العلماء، و في مواضع منها خطّه «ع».

______________________________

(1) روضة المتّقين 1/ 16، شرح خطبة الفقيه.

(2) مستدرك الوسائل 3/ 337، الفائدة الثانية من الخاتمة، في شرح حال الكتب و مؤلفيها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 116

..........

______________________________

و القاضي مير حسين-

طاب ثراه- كان استنسخ منها نسخة أتى بها إلى هذا البلد فاستنسخت أنا من نسخته ...» «1»

أقول: ظاهر هذه العبارة أنّ الشيخين المذكورين أخبرا المجلسي بذلك، و لكن الظاهر أنّهما أخبرا القاضي مير حسين بمكّة و القاضي أخبر المجلسي بأصفهان. و ليس في إخبار الثقتين كون الكتاب للإمام «ع» و إنّما أخبرا بإتيانهما الكتاب الخاصّ من قم، فتدبّر.

[قول المحقق النراقي]

4- و المحقق النراقي- قدّس سرّه- خصّ عائدة من كتاب العوائد بتحقيق حال هذا الكتاب و قال ما ملخّصه: «إنّ هذا الكتاب لم يكن متداولا بين الطبقة المتوسّطة من الأصحاب إلى زمان الفاضل محمد تقي المجلسي و هو أوّل من روّج هذا الكتاب، و بعده ولده العلامة محمد باقر المجلسي، فإنّه أورده في كتاب بحار الأنوار.» إلى أن قال ما ملخّصه: «فقد عرفت أنّ الفاضلين المجلسيين و الفاضل الهندي و جمعا من مشايخنا العظام و منهم السيّد السند الأستاذ، و منهم صاحب الحدائق و هو من المصرّين على ذلك و يجعله حجّة بنفسه، و منهم صاحب رياض المسائل، و منهم الوالد الماجد صاحب اللوامع، و بعض من تقدّم عليهم كالفاضل الكاشاني شارح المفاتيح قد سلكوه في مسلك الأخبار و أدرجوه في كتب أحاديث الأئمة الأطهار «ع».»

5- و قال أيضا: «قال السيّد الأستاذ: و ممّا يشهد باعتباره و صحّة انتسابه إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا «ع» مطابقة فتاوى الشيخين الجليلين الصدوقين لذلك حتّى إنّهما قدّماه في كثير من المسائل على الروايات الصحيحة، و خالفا لأجله من تقدّمهما من

______________________________

(1) شرح كتاب من لا يحضره الفقيه، كتاب الحج/ 198 (المجلد الخامس حسب تجزئة الشارح).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 117

..........

______________________________

الأصحاب، و عبّرا في الغالب بنفس عباراته،

و يلوح من الشيخ المفيد الأخذ به و العمل بما فيه من مواضع من المقنعة. و معلوم أنّ هؤلاء الأعاظم الذين هم أركان الشريعة لا يستندون إلى غير مستند و لا يعتمدون على غير معتمد. و قد رجع إلى فتاويهم أصحابنا المتأخّرون عنهم لاعتمادهم عليهم بأنّهم أرباب النصوص و أنّ فتواهم عين النصّ الثابت عن الحجج. و قد ذكر الشهيد [في الذكرى] أن الأصحاب كانوا يعملون بشرائع عليّ بن بابويه. و مرجع كتاب الشرائع و مأخذه هذا الكتاب كما هو معلوم على من تتبّعها و تفحّص ما فيها و عرض أحدهما على الآخر. و من هنا يظهر عذر الصدوق في عدّ رسالة أبيه من الكتب التي إليها المرجع و عليها المعوّل لأنّ الرّسالة مأخوذة من الفقه الرضوي و هو حجّة عنده و لم يكن الصدوق ليقلّد أباه فيما أفتاه حاشاه، و كذلك اعتماد الأصحاب على كتاب عليّ بن بابويه.» «1»

أقول: أراد بالسيّد الأستاذ: العلامة الطباطبائي المشتهر ببحر العلوم، حيث إنّه عقد في فوائده فائدة للبحث في هذا الكتاب «2».

6- و في العوائد أيضا عن سيّده الأستاذ أنّه قال: «قد اتفق لي في سني مجاورتي في المشهد المقدّس الرضوي أنّي وجدت في نسخة من هذا الكتاب من الكتب الموقوفة على الخزانة الرضوية: أنّ الإمام عليّ بن موسى الرضا- عليهما السلام- صنّف هذا الكتاب لمحمّد بن السكين، و أنّ أصل النسخة وجدت في مكة المشرّفة بخطّ الإمام «ع» و كان بالخطّ الكوفي فنقله المولى المقدّس الآميرزا محمد- و كان صاحب الرجال- إلى الخطّ

______________________________

(1) العوائد/ 247- 251.

(2) راجع الفوائد/ 144، الفائدة 45 و هى في آخر الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 118

..........

______________________________

المعروف.» و راجع المستدرك

أيضا. «1»

[قول صاحب رياض العلماء]

7- و في كتاب رياض العلماء في شرح حال السيّد عليّ خان شارح الصحيفة قال:

«ثمّ اعلم أنّ أحمد السكين- و قد يقال: أحمد بن السكين- هذا الذي قد كان في عهد مولانا الرضا- صلوات اللّه عليه- و كان مقرّبا عنده في الغاية. و قد كتب لأجله الرضا «ع» كتاب فقه الرضا. و هذا الكتاب بخطّ الرضا «ع» موجود في الطائف بمكّة المعظّمة في جملة من كتب السيّد عليّ خان المذكور التي قد بقيت في بلاد مكّة. و هذه النسخة بالخطّ الكوفي و تاريخها سنة مأتين من الهجرة، و عليها إجازات العلماء و خطوطهم. و قد ذكر الأمير غياث الدين المذكور نفسه أيضا في بعض إجازاته بخطّه هذه النسخة، ثمّ أجاز هذا الكتاب لبعض الأفاضل، و تلك الإجارة بخطّه أيضا موجود في جملة كتب السيّد علي خان عند أولاده بشيراز.» «2»

أقول: في رياض العلماء ذكر غياث الدين منصور من أجداد السيّد علي خان، و أنهى نسبه إلى أحمد السكين بن جعفر بن محمّد بن زيد الشهيد. و يشبه أن يكون أحمد بن السكين في العبارة الأخيرة و محمد بن السكين فيما قبلها أحدهما مصحّف الآخر.

و لكن المذكور في الرجال: محمد بن سكين بن عمّار النخعي. قال النجاشي إنّه ثقة روى أبوه عن أبي عبد اللّه «ع» «3». و لا يهمّنا فعلا تحقيق ذلك.

______________________________

(1) العوائد/ 249، عائدة في حال الفقه الرضوي. و مستدرك الوسائل 3/ 340، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.

(2) رياض العلماء 3/ 364.

(3) رجال النجاشى/ 361 (ط. أخرى/ 256)؛ و عنه في تنقيح المقال 3/ 121.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 119

..........

______________________________

و يظهر من العبارتين أنّ نسخة

الخزانة الرضوية كانت مأخوذة من نسخة السيّد عليّ خان في مكّة، و أنّ هذه النسخة غير ما أتى بها القاضي مير حسين من مكّة، لأنّها كانت لحجّاج قم أتوا بها من قم.

و الظاهر أنّ نسخة القاضي و نسخة القميين كانتا بالخط المعروف لا بالخطّ الكوفي و إلّا لأشار إلى ذلك السيّد و المجلسيّان فيما مرّ من كلامهما، فاحتمال وحدة النسختين بعيد.

و أبعد من ذلك احتمال أن تكون النسخة بالخطّ الكوفي كتابا آخر للرضا «ع» كتبه لابن السكين غير فقه الرضا الموجود عندنا كما يظهر من مصباح الفقاهة «1»، إذ بحر العلوم شهد أنّ النسخة كانت عين فقه الرضا الموجود عندنا.

8- و في الحدائق نقلا عن السيّد المحدّث السيّد نعمة اللّه الجزائري في مقدّمات شرحه على التهذيب قال: «و كم قد رأينا جماعة من العلماء ردّوا على الفاضلين بعض فتاويهم لعدم الدليل فرأينا دلائل تلك الفتاوى في غير الأصول الأربعة، خصوصا كتاب الفقه الرضويّ الذي أتي به من بلاد الهند في هذه الأعصار إلى أصفهان، و هو الآن في خزانة شيخنا المجلسي، فإنّه قد اشتمل على مدارك كثيرة للأحكام و قد خلت عنها هذه الأصول الأربعة و غيرها.» «2»

أقول: يظهر من هذه العبارة أنّ نسخة من فقه الرضا أيضا أتي بها للمجلسي من الهند، فلا محالة تكون غير نسخة القاضي التي أتى بها من مكّة، و لعلّها كانت في خلال الكتب التي كان يؤتى بها للمجلسي من البلاد النائية حين تأليفه للبحار. و من

______________________________

(1) مصاح الفقاهة 1/ 15.

(2) الحدائق 1/ 25، المقدّمة الثانية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 120

..........

______________________________

المحتمل و لو ضعيفا أنّها كانت مأخوذة من نسخة السيّد علي خان و لو بالواسطة، إذ

السيّد كما في رياض العلماء «1» كان مجاورا بمكّة ثمّ رحل في أوائل حاله إلى حيدرآباد من بلاد الهند و أقام بها مدة طويلة.

و كيف كان فهل الكتاب كان من إنشاء الإمام «ع» و لو إملاء على غيره كما عليه المجلسيان و جمع من فحول المتأخرين، و يؤيّد ذلك موافقة فتاوى الصدوقين لعباراته إذ دأب القدماء كان على الإفتاء بمتون الأخبار، أو أنّه كتاب مكذوب على الإمام «ع» بداعي دسّ بعض الفتاوى الباطلة فيه، أو أنّه رسالة عليّ بن بابويه إلى ابنه الذي اعتمد عليها الصدوق في فتاويه في الفقيه و غيره و كان الأصحاب يرجعون إليها عند إعواز النصوص كما ربّما يستشهد لذلك بموافقة ما حكاه عنها ابنه في الفقيه و المقنع لما في هذا الكتاب، و كذا ما حكاه عنها العلامة في المختلف، و ما أفتى به في الفقيه بلا ذكر مأخذ، أو أنّه كتاب التكليف الّذي ألّفه محمّد بن عليّ الشلمغاني فعرضوه على وكيل الناحية المقدّسة أبي القاسم حسين بن روح فقال: ما فيه شي ء إلّا و قد روي عن الأئمة «ع» إلّا موضعين أو ثلاثة فإنّه كذب عليهم كما في غيبة الشيخ الطوسي «2»؟ في المسألة احتمالات بل أقوال:

[دليل القائلين بحجّية هذا الكتاب]
اشارة

و استدلّ القائلون بحجّية هذا الكتاب و اعتباره بوجوه عمدتها- كما في مصباح الفقاهة- و جهان:

الوجه الأوّل: أنّ القاضي أمير حسين أخبر بأنّه للإمام «ع»

و وثّقه المجلسيّان و اعتمدا

______________________________

(1) رياض العلماء 3/ 365.

(2) الغيبة لشيخ الطائفة/ 252.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 121

..........

______________________________

عليه، و خبر الثقة حجّة بمقتضى صحيحة أحمد بن إسحاق الماضية «1» و غيرها.

قال في المستدرك: «إنّ السيّد الثقة الفاضل القاضي أمير حسين أخبر بأنّ هذا الكتاب له «ع» و أخبره بذلك ثقتان عدلان من أهل قم. و هذا خبر صحيح داخل في عموم ما دلّ على حجّية خبر العدل.» «2»

و أورد على ذلك: بأن إخبار السيّد المذكور إمّا أن يكون مستندا إلى القرائن التي أوجبت له العلم: من خطوط العلماء عليه، و خطّ الإمام نفسه في مواضع منه، أو إلى إخبار الشيخين الثقتين له كما يظهر من عبارة المستدرك.

أمّا الأوّل فلا يفيدنا، إذ أدلّة حجيّة خبر الثّقة لا تشمل الأخبار الحدسية، إذ الظاهر من الخبر ما كان يحكي عن الواقع مباشرة، و في الحدسيّات يكون المخبر به في الحقيقة حدس المخبر و اجتهاده لا الواقع.

فإن قلت: الحدس هنا مبني على مقدّمات حسيّة فيكون من قبيل الإخبار بالملكات النفسانيّة كشجاعة زيد مثلا أو سخاوته أو عدالته- بناء على كونها من قبيل الملكات- بسبب مشاهدة آثارها الدالّة عليها. و في هذه الصورة يكون الخبر حجّة عند العقلاء و يكون عندهم بحكم الخبر الحسّي. و عمدة الدليل على حجيّة الأخبار بناء العقلاء و سيرتهم.

قلت: نعم و لكن بشرط وجود الملازمة العادية بين الآثار المشهودة و بين مباديها من الملكات بحيث يحصل العلم بها لكلّ من شاهد الآثار. و ليس المقام من هذا القبيل

______________________________

(1) الكافى 1/ 330، كتاب الحجّة، باب في

تسمية من رآه «ع»، الحديث 1.

(2) مستدرك الوسائل 3/ 339، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 122

..........

______________________________

لاختلاف الأشخاص جدّا في قوّة الإدراك و التشخيص و التخصّصات اللازمة. و لعلّ الخطوط التي رآها السيّد المذكور لو كانت بمرآنا لم تحصّل العلم لنا. و احتمال الجعل و التزوير أو الاشتباه في أمثال المقام مع طول الزمان ممّا لا دافع له.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ حجيّة الخبر عندنا ليست من جهة التعبد بل من جهة بناء العقلاء و سيرتهم، و هم كما يعملون بخبر الثقة يعملون في الأمور التخصصية بقول أهل الخبرة الموثوق به أيضا، و تشخيص الخطوط من أهمّ الأمور التخصصية، فتأمّل.

فإن قلت: كيف يمكن التشكيك في إسناد الكتاب إلى الإمام «ع» مع أنّه يوجد فيه عبارات كثيرة تدلّ على كونه له «ع» و لا تنطبق على غير الإمام كقوله في أوّل الكتاب:

«يقول عبد اللّه علي بن موسى الرضا» و قوله: «هي الليلة التي ضرب فيها جدّنا أمير المؤمنين «ع» و قوله: «أروي عن أبي العالم» و قوله: «نحن معاشر أهل البيت» إلى غير ذلك من العبارات التي لا ينبغي صدورها عن غير الإمام «ع».

قلت أوّلا: إنّ احتمال الكذب و الافتراء ممّا لا دافع له. و ربّما يؤلّف كتاب مشحون من المطالب الحقّة الصحيحة بداعي دسّ جملة باطلة فيه. و قد كثر الكذب على النبيّ «ص»، و الدسّ في أخبار الأئمة «ع» بدواع مختلفة، كما هو الشائع الذائع في جميع الأعصار بالنسبة إلى الشخصيّات البارزة الاجتماعية. و من المؤسف عليه أنّ فقه الرضا أيضا يوجد فيه بعض ما لا يمكن الالتزام به.

و ثانيا: إنّ أكثر العبارات المذكورة

قابلة للانطباق على أولاد الأئمة «ع» أيضا، فلعلّ المؤلّف للكتاب كان من السادة العلويّين الخبير بفقه الشيعة الإماميّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 123

..........

______________________________

و أمّا أن جعل إخبار السيّد القاضي مستندا إلى إخبار الثقتين من أهل قم كما مرّ عن المستدرك

فيرد عليه: أنّ الثقتين المذكورين لم يخبرا بكون الكتاب للإمام «ع» و إن أوهم ذلك عبارة المستدرك، و إنّما أخبرا بأنّهما أتيا بالكتاب من قم، فراجع ما مرّ من عبارة المجلسي الأوّل في كتاب الحجّ من الشرح الفارسي للفقيه. و لو سلّم فليس خبرهما مسندا معنعنا إلى الرضا «ع» حتى يخرج عن الإرسال. و لا دليل على تلقّيهما إيّاه عن آبائهما يدا بيد إلى الإمام «ع» و إن احتمل ذلك في المستدرك. و بالجملة فخبر السّيد أو الثقتين بكون الكتاب للإمام من قبيل الأخبار المرسلة.

نعم مرّ في عبارة المجلسي الأوّل في حاشيته على روضة المتقين نقلا عن السيد القاضي قوله: «و من كان عنده الكتاب ذكر أنّه وصل إلينا عن آبائنا أنّ هذا الكتاب من تصنيف الإمام.» «1»

و لكن يرد على ذلك أنّه على فرض الوثوق بمن كان عنده الكتاب أنا لا نطلع على حال آبائهم أجمعين فلا يثبت صحة الخبر في جميع الوسائط، فتدبّر.

الوجه الثاني

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 123

ممّا تمسّك به المثبتون لحجّية فقه الرضا: موافقة عباراته و مضامينه لما رواه الصدوق من رسالة أبيه إليه و لفتاوى الصدوق في الفقيه و المقنع. و قد كان بناؤهما كسائر القدماء من أصحابنا على الإفتاء بمتون الأخبار، فيظهر بذلك أنّ الكتاب كان عندهما

معتمدين عليه.

و قد ذكر المجلسي الأوّل في كتاب الحجّ من الشرح الفارسي عقيب ما مرّ منه:

______________________________

(1) روضة المتّقين 1/ 16، شرح خطبة الفقيه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 124

..........

______________________________

«و العمدة في الاعتماد على هذا الكتاب مطابقة فتاوى عليّ بن بابويه في رسالته و فتاوى ولده الصدوق لما فيه من دون تغيير أو تغيير يسير في بعض المواقع.» «1»

و مرّ عن العوائد عن بحر العلوم قوله: «و مما يشهد باعتباره و صحّة انتسابه إلى الإمام علي بن موسى الرضا «ع» مطابقة فتاوي الشيخين الجليلين الصدوقين لذلك حتى إنّهما قدّماه في كثير من المسائل على الروايات الصحيحة و خالفا لأجله من تقدّمهما من الأصحاب و عبّرا في الغالب بنفس عباراته.» «2»

و يرد على ذلك- كما في مصباح الفقاهة- «3»: أنّ هذا لا يوجب اعتبار الكتاب، لاحتمال العكس و أنّ الكتاب أخذ من رسالة ابن بابويه، بل هو الظاهر، إذ من المستبعد جدّا بل من المستحيل عادة أن يسند عليّ بن بابويه كتاب الإمام- عليه السلام- إلى نفسه من دون أن يشير هو أو ابنه إلى أنّ هذا الكتاب من تأليف الإمام. و هل يرضى أحد أن ينسب مثل هذه السرقة إلى الصدوقين؟! و يحتمل أيضا أخذ كلا الكتابين من كتاب ثالث.

هذا مضافا إلى أنّ سياق الكتاب لا يشبه سياق الروايات الصادرة عن الأئمة «ع» بل يشبه سياق كتب الفتوى المتضمنة لنقل بعض الروايات بعنوان الدليل.

و مضافا إلى اشتمال الكتاب على بعض الفتاوى المخالفة لمذهبنا كقوله مثلا في باب التخلّي و الوضوء: «و إن غسلت قدميك و نسيت المسح عليهما فإنّ ذلك يجزيك، لأنّك

______________________________

(1) الشرح الفارسى للفقيه، كتاب الحج 1/ 198 (المجلد الخامس حسب تجزئة الشارح).

(2)

العوائد/ 250.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 15.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 125

..........

______________________________

قد أتيت بأكثر ما عليك و قد ذكر اللّه الجميع في القرآن: المسح و الغسل، قوله- تعالى-:

وَ أَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْن أراد به الغسل بنصب اللام، و قوله: وَ أَرْجُلَكُمْ بكسر اللام أراد به المسح، و كلاهما جائزان: الغسل و المسح.» «1»

و قوله في باب اللباس و ما يكره فيه الصلاة في حكم جلد الميتة: «إنّ دباغته طهارته.» «2»

و قوله: «قد يجوز الصلاة فيما لم تنبته الأرض و لم يحلّ أكله مثل السنجاب و الفنك و السّمور و الحواصل.» «3»

و قوله في تحديد الكر: «و العلامة في ذلك أن تأخذ الحجر فترمي به في وسطه فإن بلغت أمواجه من الحجر جنبي الغدير فهو دون الكرّ و إن لم يبلغ فهو كرّ.» «4»

و نهيه عن قراءة المعوّذتين في الفريضة لأنه روي أنهما من الرقية ليستا من القرآن دخلوها في القرآن «5».

و قوله في بيان افتتاح الصلاة: «و انو عند افتتاح الصلاة ذكر اللّه و ذكر رسول اللّه «ص» و اجعل واحدا من الأئمة نصب عينيك.» «6» إلى غير ذلك من الموارد. هذا.

و في الفصول في باب حجّية الأخبار في فصل عقده لحجّية أخبار غير الكتب الأربعة قال في شأن فقه الرضا: «و ممّا يبعّد كونه تأليفه «ع» عدم إشارة أحد من علمائنا

______________________________

(1) فقه الرضا/ 79.

(2) فقه الرضا/ 302.

(3) فقه الرضا/ 302.

(4) نفس المصدر/ 91.

(5) نفس المصدر/ 113.

(6) نفس المصدر/ 105.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 126

..........

______________________________

السلف إليه في شي ء من المصنّفات التي بلغت إلينا، مع ما يرى من خوضهم في جمع الأخبار و توغّلهم في ضبط الآثار المرويّة عن الأئمة الأطهار «ع». بل

العادة قاضية بأنّه لو ثبت عندهم مثل هذا الكتاب لاشتهر بينهم غاية الاشتهار و لرجّحوا العمل به على العمل بسائر الأصول و الأخبار لما يتطرّق إليها من احتمال سهو الراوي أو نسيانه أو قصوره في فهم المراد أو في تأدية المفهوم أو تقصيره أو تعمّد الكذب، لا سيّما مع تعدّد الوسائط، و سلامة الكتاب المذكور عن ذلك. و لبعد ما فيه عن التقيّة بخلاف غيره. مع أنّ الصدوق قد جمع في كتاب العيون جميع ما وقف عليه من الأخبار و الآثار المرويّة عن الرضا- عليه السلام-. فلو كان قد عثر على الكتاب المذكور لنقله. و لو منعه عنه طول الكتاب لنبّه على وجوده و اكتفى بذكر بعض صفاته. مضافا إلى شواهد أخر في نفس الكتاب يؤكّد الظن بما ذكرناه ...» «1»

و في المستدرك عن بعض معاصريه ما ملخّصه: «لو كان هذا الكتاب للإمام «ع» لما كان يخفى على ولده: الأئمة الأربعة بعده. و من الظاهر أنّهم ما كانوا يخفون أمثال ذلك عن شيعتهم و مواليهم و لا سيّما خواصهم و معتمديهم، كما أخبر الأئمة «ع» بكتاب علىّ و صحيفة فاطمة- عليهما السلام-، و لكانوا يصرّحون به في كثير من أخبارهم و يأمرون الشيعة بالرجوع إليه و الأخذ منه، و لو وقع هذا لاشتهر بين القدماء و لكان يصل إليهم أثر منه. و لما كان يخفى على مشايخنا المحمّدين الثلاثة المصنّفين للكتب الأربعة و لا سيّما الصدوق «ره» المؤلف نحوا من ثلاثمائة مصنّف في الأخبار و من جملتها عيون أخبار الرضا. و لكان يطلع عليه جملة من فقهاء الشيعة و ما كان يبقى في زاوية الخمول

______________________________

(1) الفصول/ 312، باب حجيّة الأخبار، فصل حجيّة أخبار غير

الكتب الأربعة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 127

..........

______________________________

فيما يقرب من ألف سنة.» «1»

هذا كله حول القول بكون الكتاب من إنشاء شخص الإمام الثامن علي بن موسى الرضا «ع». و قد ظهر لك عدم ثبوت ذلك.

[القول الثاني: أنّه رسالة عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي]

القول الثاني: أنّه بعينه رسالة عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي إلى ولده الصدوق، و هو المعروف بشرائع عليّ بن بابويه. و ممّن مال إلى هذا القول العالم المتتبّع الخبير. الميرزا عبد اللّه الأفندي الأصفهاني مؤلّف رياض العلماء. قال في شرح حال ابن بابويه: «و أمّا الرسالة إلى ولده فظنّي أنّه بعينه ما هو الآن يعرف بالفقه الرضوي، لأنّه ينادي على ذلك سياق ذلك الكتاب، و لعلّ ذلك الاشتباه لأنّهم لمّا وجدوا أنّ مؤلّفها هو أبو الحسن عليّ بن موسى كما هو الشائع في حذف بعض الأسامي من النسب حسبوا ذلك، فتأمّل. و تلك الرسالة هي بعينها التي ينقل عنها ولده في الفقيه و في سائر كتبه و يقول:

«قال أبي في رسالته إليّ ...»، لكن قال الأستاد الاستناد أيّده اللّه في أوّل البحار ...» «2»

و قال في شرح حال السيّد القاضي الأمير حسين بعد نقل ما مرّ من البحار في شأن فقه الرضا: «ثمّ إنّه قد يقال: إنّ هذا الكتاب بعينه رسالة عليّ بن بابويه إلى ولده الشيخ الصدوق. و انتسابه إلى الرضا «ع» غلط نشأ من اشتراك اسمه و اسم والده، فظنّ أنّه لعليّ بن موسى الرضا- عليه السلام- حتى لقّب تلك الرسالة بفقه الرضا. و كان الأستاد العلامة أيضا يميل إلى ذلك ...» «3»

أقول: و قد كان هذا القول في الأيّام السابقة راجحا لديّ لما أحصيت موارد نقل

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3/ 346، الفائدة الثانية

من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.

(2) رياض العلماء 4/ 9.

(3) رياض العلماء 2/ 31.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 128

..........

______________________________

الصدوق في الفقيه من رسالة أبيه و كانت قريبا من ثلاثين موردا ثمّ قايستها على فقه الرضا فرأيت موافقتهما إلّا في بعض الموارد المشتملة على تغيير يسير، و كذلك قايست بعض ما يحكيه العلامة في المختلف عن الرسالة مع فقه الرضا فوجدتهما موافقين.

و لكن مع ذلك يشكل الالتزام بذلك، إذ لو فرض توجيه عبارة صدر الكتاب بالاشتراك في الاسم و زيادة كلمة: «الرضا» من قبل النسّاخ فكيف نوجّه العبارات الدالة على كون المؤلّف من أهل بيت النبوّة نظير قوله في باب الأغسال: «و ليلة تسع عشرة من شهر رمضان هي الليلة التي ضرب فيها جدّنا أمير المؤمنين «ع»» «1» و في باب الزكاة: «و إنّي أروي عن أبي العالم- عليه السلام- في تقديم الزكاة و تأخيرها أربعة أشهر أو ستّة أشهر.» «2» و في باب الخمس بعد ذكر آية الخمس: «فتطوّل علينا بذلك امتنانا منه و رحمة» «3». و في باب الدعاء في الوتر: «و هذا ممّا نداوم به نحن معاشر أهل البيت- عليهم السلام-.» «4» إلى غير ذلك من الموارد. و راجع في هذا المجال المستدرك «5»، و الفصول باب حجّية خبر الواحد الفصل الذي مرّ ذكره.

[القول الثالث: أنّه بعينه كتاب التكليف]

القول الثالث: أنّه بعينه كتاب التكليف الذي ألّفه محمد بن عليّ الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر فعرضوه على وكيل الناحية المقدّسة أبي القاسم الحسين بن روح فقال: «ما فيه شي ء إلّا و قد روي عن الأئمة- عليهم السلام- إلّا موضعين أو ثلاثة

______________________________

(1) فقه الرضا/ 83.

(2) فقه الرضا/ 197.

(3) فقه الرضا/ 293.

(4) فقه الرضا/ 402.

(5)

راجع مستدرك الوسائل 3/ 343، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 129

..........

______________________________

فإنّه كذب عليهم في روايتها لعنه اللّه.» «1»

و قد حكي في مقدّمة فقه الرضا المطبوع أخيرا بتحقيق مؤسّسة آل البيت «ع» هذا القول عن السيّد حسن الصدر في كتابه فصل القضاء «2». و قد جاء السّيد لإثبات ذلك بشواهد:

منها: ما نقله عن كثير من علماء الشيعة كابن إدريس و الشهيدين و غيرهم من تفرّده بنقل رواية الشهادة للشاهد الواحد، و هذا موجود في فقه الرضا باللفظ المرويّ عن كتاب التكليف:

قال العلامة في الخلاصة في شرح حال الشلمغاني: «و له من الكتب التي عملها في حال الاستقامة كتاب التكليف، رواه المفيد- رحمه اللّه- إلّا حديثا منه في باب الشهادات: أنّه يجوز للرجل أن يشهد لأخيه إذا كان له شاهد واحد من غير علم.» «3»

و في غيبة الشيخ الطوسي: «و أخبرني جماعة عن أبي الحسن محمّد بن أحمد بن داود و أبي عبد اللّه الحسين بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه أنّهما قالا: ممّا أخطأ محمّد بن عليّ في المذهب في باب الشهادة: أنّه روى عن العالم «ع» أنّه قال: إذا كان لأخيك المؤمن على رجل حقّ فدفعه و لم يكن له من البيّنة عليه إلّا شاهد واحد و كان الشاهد ثقة رجعت إلى الشاهد فسألته عن شهادته فإذا أقامها عندك شهدت معه عند الحاكم على مثل ما يشهده عنده لئلا يتوى حقّ امرئ مسلم.» «4» و روى الخبر في عوالي

______________________________

(1) الغيبة لشيخ الطائفة/ 252.

(2) راجع فقه الرضا/ 46. المقدمة.

(3) خلاصة العلامة/ 254.

(4) الغيبة لشيخ الطائفة/ 252.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 130

..........

______________________________

اللآلي أيضا «1» عن كتاب التكليف.

و الخبر موجود في فقه الرضا بقوله: «و بلغني عن العالم «ع» أنّه قال: إذا كان لأخيك المؤمن» «2» و ذكر نحو ما في الغيبة.

و منها: أنّ جماعة من متقدّمي الأصحاب حكوا عن الشلمغاني في تحديد الكرّ: أنّه ما لا يتحرّك جنباه بطرح حجر في وسطه، و أنّه خلاف الإجماع. و هذا التحديد مذكور في فقه الرضا كما مرّ «3».

ثمّ أدام البحث في مقدّمة فقه الرضا فقال: «علما بأنّ راوي كتاب التكليف عن الشلمغاني هو أبو الحسن عليّ بن موسى بن بابويه والد الشيخ الصدوق كما نصّ عليه أرباب الفهارس كالشيخ و العلامة و غيرهم فالاحتمال الوارد هنا أن أبا الحسن علي بن موسى- المصدّر به الكتاب- ليس الإمام الرضا «ع» بل هو ابن بابويه. و عادة القدماء جارية في ذكر اسم الجامع الراوي أو المؤلّف في ديباجة الكتاب و ينسب إليه الكتاب ...

و أمّا عمل الطائفة برواياته و كتبه فقد نقله الشيخ في العدّة، قال: عملت الطائفة بما رواه أبو الخطّاب في حال استقامته و تركوا ما رواه في حال تخليطه. و كذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي و ابن أبي العزاقر و غير هؤلاء.» «4»

أقول: و على هذا فمن المحتمل استفادة الصدوقين و المفيد في الرسالة و الفقيه و المقنعة من هذا الكتاب لعلمهم بصحّة ما فيه إلّا في المواضع الخاصّة، و لم يشيروا إلى المدرك

______________________________

(1) عوالى اللآلى 1/ 315.

(2) فقه الرضا/ 308، باب الشهادة.

(3) فقه الرضا/ 91 باب المياه و شربها ...

(4) فقه الرضا/ 46- 49، المقدمة؛ و راجع أيضا عدّة الأصول 1/ 381.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 131

..........

______________________________

حذرا من ترويج الشخص الفاسد.

نعم

يرد على هذا القول أيضا ما ورد على القول السابق من وجود عبارات في الكتاب تدلّ على كون المؤلّف من أهل بيت النبوّة كقوله: «هي الليلة التي ضرب فيها جدّنا أمير المؤمنين «ع» و قوله: «نحن معاشر أهل البيت» و غير ذلك ممّا لا ينطبق على مثل الشلمغاني. هذا.

[لم يثبت لنا ماهيّة الكتاب و لا حجّيته و اعتباره]

و إلى هنا تعرّضنا لثلاثة أقوال في شأن فقه الرضا. و بعد اللتيّا و التي لم يثبت لنا ماهيّته و لا حجّيته و اعتباره بنحو يعتمد عليه مستقلا. نعم، الروايات المنقولة فيه عن الأئمة «ع» تكون بحكم سائر المراسيل، فيمكن جبرها بعمل المشهور مع حصول الوثوق بها. كما أنّ ما وجد من مسائله مفتى به للصدوقين و المفيد لا تقلّ قطعا عن الأخبار المرسلة بعد ما نعلم إجمالا بأنهم لم يكونوا ممّن يفتي بالأقيسة و الاستحسانات الظنيّة بل كانوا متعبّدين بالنصوص الواردة و كان بناؤهم على الإفتاء بمتون الأخبار.

و لنذكر في الختام كلام صاحب الفصول في المقام: قال في باب حجّية الخبر في الفصل الذي مرّ ذكره: «و بالجملة فالتحقيق أنّه لا تعويل على الفتاوى المذكورة فيه. نعم ما فيه من الروايات فهي حينئذ بحكم الروايات المرسلة لا يجوز التعويل على شي ء ممّا اشتملت عليه إلّا بعد الانجبار بما يصلح جابرا لها. و لو استظهرنا اعتماد مثل المفيد و الصدوقين عليه في جملة من مواضعه فذلك لا يفيد حجّيته في حقّنا، لأنّه مبنيّ على نظرهم و اجتهادهم. و ليس وظيفتنا في مثل ذلك اتّباعهم، و إلّا لكانت الأخبار الضعيفة التي عوّلوا عليها حجّة في حقّنا ...» «1»

______________________________

(1) الفصول/ 313، باب حجّية الأخبار، فصل حجيّة أخبار غير الكتب الأربعة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 132

[الرواية الثالثة: رواية الدعائم]

اشارة

و عن دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري عن مولانا الصادق «ع»:

«أنّ الحلال من البيوع كلّ ما كان حلالا من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للنّاس و يباح لهم الانتفاع. و ما كان محرما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» (1) انتهى.

______________________________

الرواية الثالثة

[في متن الحديث]

(1) هذه هي الرواية الثالثة. ففي الدعائم المطبوع: و عن جعفر بن محمد «ع» أنّه قال: «الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به. و ما كان محرّما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» و هذا من قول جعفر بن محمد «ع» قول جامع لهذا المعنى «1».

أقول: من المحتمل أخذ هذه الرواية أيضا ممّا مرّ من رواية تحف العقول بنحو التلخيص و النقل بالمعنى، نظير ما قلناه في عبارة فقه الرضا السّابقة. و النقل بالمعنى و المضمون كان أمرا شائعا و لا سيّما بالنسبة إلى الروايات المفصّلة.

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع ...، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 133

..........

______________________________

و في مصباح الفقاهة اعترض على الاستناد بالرواية بأنّ قوله: «و ما كان محرّما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه» يقتضي حرمة بيع الأشياء التي تعلّق بها التحريم من جهة ما، مع أنّه ليس بحرام قطعا. على أنّ الظاهر منه هي الحرمة التكليفية، مع أنّها منتفية جزما في كثير من الموارد التي نهي عن بيعها و شرائها. و إنّما المراد من الحرمة في تلك الموارد هي الحرمة الوضعيّة ليس إلّا، فلا تكون الرواية معمولة بها «1». انتهى.

أقول:

يرد على ما ذكره أوّلا: أنّ الظاهر من قوله: «و ما كان محرّما أصله» خصوص المتمحّض في الفساد، لانصراف اللفظ إلى ما كان محرّما بنحو الإطلاق لا من جهة خاصّة. هذا مضافا إلى أن المتبادر من عدم جواز بيع المحرّم عدم جواز بيعه بما أنّه محرّم يعني بقصد الجهة المحرّمة و صرفه في المنفعة المحرّمة لا مطلقا. إذ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية و دوران الحكم مداره: فإن كان الشي ء متمحّضا في الحرمة و الفساد لم يجز بيعه مطلقا، و إن كان ذا جهتين حرم بيعه لجهته المحرّمة فقط.

و يرد على ما ذكره ثانيا: ما مرّ في الجهة الثالثة حول رواية تحف العقول. و محصّله:

أنّ المراد بالحلّية و الحرمة في لسان الكتاب و السنة أعمّ من التكليف و الوضع، فيراد بحلّية الشي ء إطلاقه من ناحية الشرع، و بحرمته محدوديّته من قبله. و إطلاق كلّ شي ء و محدوديّته بحسب ما يراد و يترقّب من هذا الشي ء. و حيث إنّ المترقّب من الصلاة المأتي بها مثلا صحّتها و سقوط أمرها و من إنشاء العقود و الإيقاعات صحّتها و ترتّب الآثار عليها فلا محالة يتبادر من الحلّية فيها الصّحة و من الحرمة الفساد كما في قوله- تعالى-:

أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا و في حديث سماعة قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 22.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 134

..........

______________________________

و أنا حاضر فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: «حرام بيعها و ثمنها.» «1»

فنقول: نظير الحلّية و الحرمة و الجواز و عدم الجواز أيضا، فيراد بجواز الشي ء مضيّه و إمضاؤه من ناحية الشرع، و بعدم الجواز عدم مضيّه و إمضائه، فانظر

إلى قوله «ع» في موثقة ابن بكير: «فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في و بره و بوله و روثه و ألبانه و كلّ شي ء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ.» «2»

و في رواية إبراهيم بن محمّد الهمداني قال: كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر و الشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة و لا ضرورة؟ فكتب: «لا تجوز الصلاة فيه.» «3»

و في مرفوعة محمّد بن إسماعيل إلى أبي عبد اللّه «ع» قال: «لا تجوز الصلاة في شعر و وبر ما لا يؤكل لحمه.» «4»

و في صحيحة ابن مهزيار قال: كتب إليه إبراهيم بن عقبة: عندنا جوارب و تلك تعمل من وبر الأرانب فهل تجوز الصلاة في وبر الأرانب من غير ضرورة و لا تقيّة؟

فكتب: «لا تجوز الصلاة فيها.» «5»

و في صحيحة عليّ بن الريّان قال: كتبت إلى أبي الحسن «ع»: هل تجوز الصلاة في ثوب يكون فيه شعر من شعر الإنسان و أظفاره من قبل أن ينفضه و يلقيه عنه؟ فوقّع: «يجوز.» «6»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل 3/ 250، كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب 3/ 251، الحديث 4.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 7.

(5) الوسائل 3/ 258، كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 3.

(6) الوسائل 3/ 277، كتاب الصلاة، الباب 18 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 135

..........

______________________________

إلى غير ذلك من الأخبار. و المتبادر من جميع هذه الاستعمالات صحّة الصلاة و فسادها. و هذا النحو من الاستعمال كان شائعا في لسان الكتاب و السنّة. نعم، في

أعصارنا غلب الاستعمال في التكليف فقط، و لكن الواجب حمل ألفاظ الكتاب و السنّة على ما كان مصطلحا فيهما.

و العجب من آية اللّه الخوئي- قدّس سرّه- مع كونه خبيرا بلسان الكتاب و السنّة كيف خفيت عليه هذه النكتة في المقام و في الروايتين السابقتين.

البحث في سند كتاب دعائم الإسلام

و بالجملة فدلالة رواية الدعائم على فساد المعاملة على المحرمات بقصد جهاتها المحرمة ممّا لا إشكال فيها، و إنّما الإشكال في السند.

فنقول: كتاب دعائم الإسلام تأليف أبي حنيفة الشيعي نعمان بن محمّد بن منصور، طبع في مجلّدين. و هو كتاب وزين جامع يظهر لمن تطلّع عليه أنّ مؤلّفه كان عالما متضلّعا بصيرا بالكتاب و السنّة مطّلعا على أخبار أهل البيت «ع» محبّا لهم. و كان قاضي القضاة بمصر في عهد الدولة الفاطميّة، و توفّي بالقاهرة سنة 363، و صلّى عليه الخليفة الفاطمي المعزّ لدين اللّه، و كان كتابه هذا القانون الرسمي منذ عهد المعزّ حتّى نهاية الدولة الفاطميّة. و اختلف في مذهبه و أنّه مات إماميا اثني عشريا أو إسماعيليّا بعد ما كان في بادي الأمر مالكيا:

1- قال ابن خلّكان في الوفيات: «أبو حنيفة النعمان بن أبي عبد اللّه محمّد بن منصور بن أحمد بن حيون (حيوان- خ.) أحد الأئمة الفضلاء المشار إليهم، ذكره الأمير المختار المسبّحي في تاريخه فقال: كان من أهل العلم و الفقه و الدين و النبل على ما لا مزيد

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 136

..........

______________________________

عليه، و له عدّة تصانيف: منها كتاب «اختلاف أصول المذاهب» و غيره، انتهى كلام المسبّحي في هذا الموضع. و كان مالكيّ المذهب ثمّ انتقل إلى مذهب الإماميّة و صنّف كتاب «ابتداء الدعوة للعبيديين»، و كتاب «الأخبار» في الفقه، و كتاب

«الاقتصار» في الفقه أيضا. و قال ابن زولاق في كتاب «أخبار قضاة مصر» في ترجمة أبي الحسن عليّ بن النعمان المذكور ما مثاله: و كان أبوه النعمان بن محمّد القاضي في غاية الفضل، من أهل القرآن و العلم بمعانيه. و عالما بوجوه الفقه و علم اختلاف الفقهاء، و اللغة و الشعر الفحل و المعرفة بأيّام الناس مع عقل و إنصاف. و ألّف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف و أملح سجع، و عمل في المناقب و المثالب كتابا حسنا. و له ردود على المخالفين: له ردّ على أبي حنيفة و على مالك و الشافعي و على ابن سريج. و كتاب «اختلاف الفقهاء» ينتصر فيه لأهل البيت- رضي اللّه عنهم- و له القصيدة الفقهية لقّبها بالمنتخبة ...» «1» انتهى ما أردنا نقله عن ابن خلّكان.

أقول: لم يذكر هو فيما عدّ من كتبه كتاب دعائم الإسلام إلّا أن يريد بكتاب «الأخبار» كتاب الدعائم. و انتقاله إلى مذهب الإمامية لا يدلّ على كونه اثني عشريّا، إذ لفظ الإماميّة بحسب مفهومه يعمّ الإسماعيلية أيضا كلفظ الشيعة. و إن تبادر منهما في أعصارنا خصوص الاثني عشريّة.

2- و في مقدمة البحار قال: «و كتاب دعائم الإسلام قد كان أكثر أهل عصرنا يتوهّمون أنّه تأليف الصدوق «ره». و قد ظهر لنا أنّه تأليف أبي حنيفة: النعمان بن محمد بن منصور قاضي مصر في أيّام الدولة الإسماعيلية. و كان مالكيّا أوّلا ثم اهتدى و صار

______________________________

(1) وفيات الأعيان 5/ 415، الرقم 766.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 137

..........

______________________________

إماميّا. و أخبار هذا الكتاب أكثرها موافقة لما في كتبنا المشهورة. لكن لم يرو عن الأئمة بعد الصادق «ع» خوفا من الخلفاء الإسماعيليّة.

و تحت ستر التقيّة أظهر الحقّ لمن نظر فيه متعمّقا. و أخباره تصلح للتأييد و التأكيد. قال ابن خلّكان»- و ذكر ما حكيناه عنه، ثمّ قال-: «و نحوه ذكر اليافعي و غيره. و قال ابن اشوب آشوب في كتاب معالم العلماء: القاضي:

النعمان بن محمّد ليس بإماميّ. و كتبه حسان: منها شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار.» «1» انتهى ما أردنا نقله عن البحار.

3- و في كتاب لسان الميزان لابن حجر العسقلاني: «النعمان بن محمّد بن منصور أبو حنيفة كان مالكيّا ثمّ تحوّل إماميّا، و وليّ القضاء للمعزّ العبيدي صاحب مصر فصنّف لهم التصانيف على مذهبهم، و في تصانيفه ما يدلّ على انحلاله. مات بمصر في رجب سنة ثلاث و ستين و ثلاثمائة. و من تصانيفه كتاب «تأويل القرآن.» «2»

أقول: هو أيضا لم يتعرّض لكتاب دعائم الإسلام.

4- و المحقّق التستري الكاظمي في المقابس في مسألة نجاسة الماء القليل بعد ما حكى عن الدعائم عدم النجاسة قال: «و هذا الرجل كما يلوح من كتابه من أفاضل الشيعة بل الإماميّة و إن لم يرو في كتابه إلّا عن الصادق و من قبله من الأئمة «ع» ... فما في معالم السّروي من نفي كونه إماميّا منظور فيه. و قد ذكر السّروي أنّ له كتبا حسانا في الإمامة و فضائل الأئمة و غيرها ... و أكثر الأخبار التي أوردها في كتاب الدعائم موافقة لما في كتب أصحابنا المشهورة ... إلّا أنّه مع ذلك خالف فيه الأصحاب في جملة من الأحكام

______________________________

(1) بحار الأنوار 1/ 38، الفصل الثانى توثيق المصادر.

(2) لسان الميزان 6/ 167.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 138

..........

______________________________

المعلومة عندهم بل بعض ضروريّات مذهبهم كحلّية المتعة. فربّما كان مخالفته لهم

هنا و بقاؤه على مذهب مالك من هذا الباب. و لعلّه لبعض ما ذكر، و لعدم اشتهاره بين الأصحاب و عدم توثيقهم له و عدم تصحيحهم لحديثه أو كتابه لم يورد صاحب الوسائل شيئا من أخباره و لم يعدّ الدعائم من الكتب التي يعتمد عليها. و قال صاحب البحار: إنّ أخباره تصلح للتأييد و التأكيد. مع أنّ أخبار كثير من الأصول و المصنّفات يعتمد عليها و إن كان مؤلّفوها فاسدي المذهب كابن فضّال و غيرهم.» «1»

أقول: ظاهر الدعائم عدم انفعال الماء مطلقا ما لم يتغيّر بأوصاف النجاسة كالعماني منّا و مالك من فقهاء السنّة. و مقصوده بالسّروي: ابن اشوب آشوب المازندراني السّروي مؤلّف معالم العلماء و المناقب. و قد حكى عنه في البحار كما مرّ نفي كون القاضي إماميّا. و هو المختار لصاحب الروضات أيضا:

5- فقال بعد نقل كلمات الأعلام في المقام: «و لكن الظاهر عندي أنّه لم يكن من الإمامية الحقّة، و إن كان في كتبه يظهر الميل إلى طريقة أهل البيت- عليهم السلام- و الرواية من أحاديثهم من جهة مصلحة وقته و التقرّب إلى السّلاطين من أولادهم ...» «2»

أقول: ظاهر كلام الروضات عدم اعتقاد القاضي بمذهب الإسماعيليّة أيضا و كونه باقيا على مذهبه الأوّل. و لكن يشكل جدّا لمن لا يعتقد بفقه أهل البيت- عليهم السلام- أن يكتب عن فقههم و يدافع عنهم و يعترض على المذاهب الأخر بنحو صنع هذا الرجل جامعا للدقّة و المتانة كما يظهر لمن مارس كتاب الدعائم في الأبواب المختلفة. هذا.

______________________________

(1) مقابس الأنوار 1/ 85 و 86 (ط. أخرى/ 66).

(2) روضات الجنات 8/ 149، الرقم 725.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 139

..........

______________________________

و من أراد تفصيل البحث في هذا

الكتاب و مؤلّفه و مذهبه فليراجع المستدرك «1»، فقد أطال البحث في إثبات كون الرجل من الإمامية الحقّة و أنكر كونه من الإسماعيليّة و لا سيّما الباطنيّة منهم. و ذكر مواضع من كتاب الدعائم روى فيه عن أبي الحسن و أبي جعفر الثاني «ع» و قال: إنّ الإسماعيليّة يعتقدون بإمامة إسماعيل بن جعفر و ابنه محمد بن إسماعيل، و ليس في الكتاب ذكر منهما حتّى في مقام إثبات الإمامة و ردّ مقالات العامّة، بل صرّح في كتابه بكفر الغلاة و الباطنيّة و ضلالتهم و خروجهم من الدين، مع أنّ خلفاء عصره كانوا منهم في الباطن، فكيف يرضى المصنف أن ينسب إليه هذا المذهب؟

أقول: و ملخّص الكلام في المقام أنّ تأليفات الرجل و منها كتاب الدعائم تشهد بنفسها على سعة باعه و نبوغه في العلم و الفقه و الحديث و معرفته بأحاديث أهل البيت- عليهم السلام-، بل و حبّه و ولائه لهم إجمالا. مضافا إلى شهادة علماء التاريخ و الرجال بكونه إماميّا. و هذا اللفظ كان يطلق على من يعتقد بكون الإمامة حقا لعليّ و أولاده المعصومين في قبال المذاهب الأخر، فلا يصغى إلى ما مرّ من ابن اشوب آشوب و صاحب الروضات من التشكيك في ذلك. نعم يشكل إثبات كونه من الإمامية الاثني عشرية.

و لم يثبت كون اصطلاح الإماميّة في تلك الأعصار ممحّضا لهم بل اللفظ بإطلاقه يشمل الإسماعيليّة أيضا.

و ردّ القاضي للغلاة و الباطنيّة و تبريه من أقاويلهم لا يدلّ على عدم كونه من الإسماعيلية المعتدلة. و ليس كلّ إسماعيلي باطنيّا معتقدا بخرافات الباطنيّة و لم يثبت كون الخلفاء الفاطميّين في عصره أيضا منهم.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3/ 313، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال

الكتب و مؤلّفيها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 140

[اعتبار الحديث بكون الراوي ثقة يحصل الوثوق و سكون النفس بأخباره]

______________________________

و الذي يهوّن الخطب عدم تأثير هذا البحث فيما هو محطّ النظر في المقام، إذ الملاك في اعتبار الحديث كون الراوي ثقة يحصل الوثوق و سكون النفس بأخباره سواء كان صحيح المذهب أم لا. و الثابت من كتب التاريخ و الرجال علم الرجل و نبوغه و مذهبه إجمالا و لم يتعرّضوا لوثاقته بنحو يعتمد على حديثه. و لو سلّم فهو لم يكن في عصر الأئمة «ع».

و على هذا يكون رواياته في الكتاب مراسيل، فلا تفيد غالبا إلّا للتأييد و التأكيد كما مرّ عن البحار. اللّهم إلّا إذا فرض في مورد خاصّ جبر الإرسال بشهرة عمليّة. هذا.

و قد عثرت أنا في بعض الأبواب من كتاب الدعائم على أخبار تفسّر بعض المشكلات الموجودة في أخبارنا الصحاح بحيث يرتفع بها الشبهة الموجودة، و هذه بنفسها فائدة مهمّة، نظير روايات العياشي في تفسيره مع كونها مراسيل أيضا.

فإن قلت: قال في أوّل الدعائم: «نقتصر فيه على الثابت الصحيح ممّا رويناه عن الأئمة من أهل بيت رسول اللّه «ص».» «1»

قلت: ثبوت الصحّة عنده لا يوجب الثبوت عندنا، لاحتمال اكتفائه في تصحيح الحديث بما لا نكتفي به.

[اشتمال الكتاب على فروع كثيرة مخالفة لمذهبنا]

هذا مضافا إلى اشتمال الكتاب على فروع كثيرة مخالفة لمذهبنا، فلا يمكن الاعتماد عليه:

1- منها: ما مرّ من المقابس من إنكاره مشروعية المتعة و قال: «هذا زنا، و ما يفعل هذا إلّا فاجر.» «2»

2- و منها: جعله كلّ واحد من المذي و الدود و الحيات و حب القرع و الدم و القيح

______________________________

(1) دعائم الإسلام 1/ 2.

(2) دعائم الإسلام 2/ 229، كتاب النكاح، الفصل 7 (ذكر الشروط في النكاح).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 141

..........

______________________________

الخارج من أحد المخرجين ناقضا للوضوء «1».

3- و منها: قوله

في الوضوء: «و لا ينبغي أن يتعمد البدء بالمياسر. و إن جهل ذلك أو نسيه حتّى صلّى لم تفسد صلاته.» «2»

4- و منها: قوله في مسح الرأس: «ثمّ أمروا بمسح الرأس مقبلا و مدبرا، يبدأ من وسط رأسه فيمرّ يديه جميعا على ما أقبل من الشعر إلى منقطعه من الجبهة، ثم يردّ يديه من وسط الرأس إلى آخر الشعر من القفا، و يمسح مع ذلك الأذنين ظاهرهما و باطنهما، و يمسح عنقه.» «3»

5- و منها: قوله في الرجلين: «و من غسل رجليه تنظّفا و مبالغة في الوضوء و لابتغاء الفضل و خلّل أصابعه فقد أحسن.» «4»

6- و منها: قوله في الوضوء التجديدي: «و ما غسل من أعضاء الوضوء أو ترك فلا شي ء عليه فيه. و قد روينا عن الحسين بن عليّ «ع» أنّه سئل عن المسح على الخفيّن فسكت حتّى مرّ بموضع فيه ماء و السائل معه فنزل فتوضّأ و مسح على خفّيه و على عمامته و قال: هذا وضوء من لم يحدث.» «5»

______________________________

(1) دعائم الإسلام 1/ 101 و 102، كتاب الطهارة، ذكر الأحداث التى توجب الوضوء.

(2) دعائم الإسلام 1/ 107، كتاب الطهارة، ذكر صفات الوضوء. و راجع أيضا نفس الكتاب و الفصل ص 109.

(3) نفس المصدر 1/ 108.

(4) نفس المصدر 1/ 108.

(5) نفس المصدر 1/ 110.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 142

..........

______________________________

7- و منها: قوله في مسجد الجبهة: «و كلّ ما يجوز لباسه و الصلاة فيه يجوز السجود عليه، و الكفّان و القدمان و الركبتان من المساجد، فإذا جاز لباس ثوب الصوف و الصلاة فيه فذلك ممّا يسجد عليه. و كذلك يجزي السجود بالوجه عليه.» «1»

إلى غير ذلك من الفتاوى المخالفة التي يعثر

عليها المتتبع.

و اعتذر له في المستدرك فقال: «إنّه معذور في ذلك من وجوه:

الأوّل: أنّه لم يخالف في موضع منها إلّا لما ساقه الدليل من ظاهر كتاب أو سنّة، و لم يتمسّك في موضع بالقياس و الاستحسان و الاعتبارات العقليّة و المناطات الظنيّة ...

الثاني: أنّه لم تكن الأحكام في تلك الأعصار بين فقهاء أصحابنا منقّحة متميّزة يتبين لكلّ أحد المجمع عليه منها من غيره، و المشهور منها عمّا سواه ...

الثالث: أنّه ما خالف في فرع غالبا إلّا و معه موافق معروف، و لو لا خوف الإطالة لذكرنا نبذة من ذلك، نعم في مسألة المتعة لا موافق له ...

الرابع: بعد محلّ إقامته عن مجمع العلماء و المحدّثين و الفقهاء الناقدين و تعسّر اطلاعه على زبرهم و تصانيفهم ...» «2»

أقول: على فرض كونه في هذه الآراء قاصرا معذورا فالكتاب المشتمل على هذا السنخ من الآراء و الفتاوى يخرج عن مرحلة الصحّة و الاعتماد، فتأمّل. و لعلّه لأمثال ذلك لم يعتدّ أعاظم الفقهاء و المحدّثين من قبيل شيخ الطائفة و معاصريه و من تابعه بهذا الكتاب و صار متروكا من قبل أصحابنا، فتدبّر.

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 178، كتاب الصلاة، ذكر اللباس في الصلاة.

(2) مستدرك الوسائل 3/ 317، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 143

[الرواية الرابعة: النبوي المشهور]

و في النبوي المشهور: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» (1).

______________________________

الرواية الرابعة

(1) هذه هي الرواية الرابعة ممّا ذكرها المصنّف بعنوان الضابطة. و قد ذكرها شيخ الطائفة بهذا المتن في بيوع الخلاف و استدلّ بها لعدم جواز بيع المسوخ و سرجين مالا يؤكل لحمه، فراجع «1».

و الرواية عامّية نقلها أرباب السنن و المسانيد عن ابن

عباس عن النبي «ص»، و لكن ذكر في أكثر النقول كلمة الأكل:

ففي سنن أبي داود السجستاني في باب ثمن الخمر و الميتة بسنده عن ابن عباس قال: رأيت رسول اللّه «ص» جالسا عند الركن. قال: فرفع بصره إلى السماء فضحك فقال: «لعن اللّه اليهود»- ثلاثا- «إنّ اللّه- تعالى- حرّم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها. و إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه.» «2»

و رواها البيهقي في السنن بسنده عن ابن عباس «3». و رواها أيضا أحمد في المسند

______________________________

(1) كتاب الخلاف 3/ 184 و 185 (ط. أخرى 2/ 81 و 82)، المسألتان 308 و 310.

(2) سنن أبى داود 2/ 251، كتاب الإجارة.

(3) سنن البيهقى 6/ 13، كتاب البيوع، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 144

..........

______________________________

بسنده عن ابن عباس «1». و رواها أيضا المحدّث النوري في المستدرك عن عوالي اللآلي «2».

و المذكور في الجميع كلمة الأكل.

نعم، رواها أحمد في موضع ثالث من المسند عن ابن عباس بدونها، فقال: إنّ النبي «ص» قال: «لعن اللّه اليهود حرّم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها، و إن اللّه إذا حرّم على قوم شيئا حرّم عليهم ثمنه.» «3»

أقول: بعد اختلافهم في نقل كلمة الأكل و عدمه و العلم برجوع الروايات إلى رواية واحدة لوحدة الراوي و المرويّ عنه و المضمون، يكون المظنون وجود كلمة الأكل في الحديث و سقطه في النقل الأخير.

و إن شئت قلت: إنّ أصالة عدم الزيادة و أصالة عدم النقيصة و إن كان كلتاهما أصلين معتبرين عند العقلاء لأصالة عدم غفلة الراوي، إلّا أنّه مع تعارضهما تقدّم الأولى عندهم، إذ يبعد جدّا أن

يزيد الراوي من عند نفسه كلمة، و هذا بخلاف السقط فإنّ احتماله ليس بهذه المثابة من البعد.

و بالجملة فما في الخلاف و متن المكاسب من نقلها بدون هذه الكلمة غير ثابت.

و على هذا فتخرج الرواية عن كونها ضابطة كليّة في المقام.

و استدل البيهقي بهذه الرواية على تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.

و أورد عليه في حاشية الكتاب المسمّاة بالجوهر النقيّ بقوله: «عموم هذا الحديث

______________________________

(1) مسند أحمد 1/ 247 و 293.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8؛ و عوالي اللآلي 2/ 110، الرقم 301.

(3) مسند أحمد 1/ 322.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 145

..........

______________________________

متروك اتّفاقا بجواز بيع الآدمي و الحمار و السنّور و نحوها ...» «1»

أقول: يمكن أن يدافع عن البيهقي بأنّ الظاهر من الحديث حرمة بيع ما يحرم أكله إذا كان معدّا للأكل و بيع لذلك لا مطلقا. و الحاصل: أنّ حرمة الثمن في الرواية كناية عن فساد البيع، فيظهر منها وجود الملازمة بين حرمة أكل الشي ء و فساد بيعه، فلا محالة يجب حملها على صورة كون المبيع ممّا يصرف عادة في الأكل و كان بيعه لذلك و إلّا لم يمكن الالتزام بمضمونه.

و أمّا على فرض عدم وجود كلمة الأكل في الرواية فيصير ظاهر قوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا» حرمته المطلقة بمعنى عدم وجود منفعة محلّلة له و كونه ممحّضا في الفساد أو ندرة منفعته المحلّلة بحيث تلحق بالعدم. و هذا يقتضي فساد البيع قطعا و به أفتى الأصحاب أيضا. و لكن لم يثبت كون هذه الفتوى منهم مستندة إلى هذه الرواية العاميّة حتى يجبر بسببها ضعفها. بل الفساد في هذه الصورة واضح،

إذ بعد حرمة جميع منافع الشي ء يصير الشي ء بمنزلة ما لا منفعة له أصلا فيسقط عن الماليّة شرعا.

و لو قيل بشمول قوله: «إذا حرّم شيئا» لحرمة بعض الانتفاعات منه فلا محالة يراد من الجزاء أيضا بمناسبة الحكم و الموضوع فساد بيعه بقصد هذه المنفعة المحرّمة لا مطلقا، فتأمّل.

و بالجملة فالرواية مضافا إلى الاختلاف في نقلها لم تنقل بطرقنا و لم يثبت استناد أصحابنا إليها في فتاويهم. و استناد الشيخ و أمثاله إلى هذا النسخ من الروايات العاميّة في الكتب الاستدلاليّة لعلّه كان بقصد المماشاة مع أهل الخلاف. هذا.

و قصّة بيع اليهود للشحوم رواها جابر أيضا و لكن بدون الضابطة المذكورة في

______________________________

(1) راجع ذيل «سنن البيهقى» 6/ 13، باب تحريم بيع ما يكون نجسا ... من «الجوهر النقى».

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 146

..........

______________________________

الذيل برواية ابن عبّاس:

ففي سنن أبي داود بسنده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟ فقال:

«لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه «ص» عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود، إنّ اللّه لما حرّم عليهم شحومها أجملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه.» «1»

و راجع في هذا المجال أيضا روايات عمر و أنس و عكرمة بن خالد عن أبيه «2».

أقول: جمله و أجمله و جمّله: أذابه. و الظاهر أنّ الشحوم كانت محرّمة على اليهود مطلقا و إن كان المتبادر بدوا من هذه الرواية أنّها كانت من قبيل الميتة. و سيأتي البحث في جواز الانتفاع بالميتة

و عدمه.

و ممّا يقرب من الرواية مضمونا ما رواه أبو داود أيضا بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه حرّم الخمر و ثمنها، و حرّم الميتة و ثمنها، و حرّم الخنزير و ثمنه.» «3»

إذ بإلغاء الخصوصيّة من الموارد الثلاثة المذكورة يستفاد من الرواية وجود التلازم بين حرمة الشي ء و حرمة ثمنه.

و قد ظهر بما ذكرناه بطوله أنّه ليس بين الروايات الأربع التي ذكرها المصنّف بعنوان الضابطة الكليّة ما يعتمد عليه بانفراده بحيث يقاوم عمومات صحّة العقود و التجارات.

نعم، يصلح كلّها للتأييد و التأكيد في الأبواب المختلفة.

______________________________

(1) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

(2) كنز العمّال 4/ 160- 163، بيع الخمر، الروايات 9980- 9987.

(3) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 147

[في تقسيم المكاسب]

اشارة

إذا عرفت ما تلوناه و جعلته في بالك متدبّرا لمدلولاته فنقول: قد جرت عادة غير واحد على تقسيم المكاسب إلى محرّم و مكروه و مباح مهملين للمستحبّ و الواجب بناء على عدم وجودهما في المكاسب. مع إمكان التمثيل للمستحب بمثل الزراعة و الرعي ممّا ندب إليه الشرع. و للواجب بالصناعة الواجبة كفاية خصوصا إذا تعذّر قيام الغير به، فتأمّل. (1)

______________________________

في تقسيم المكاسب

(1) المكاسب جمع المكسب إمّا مصدر ميميّ بمعنى الكسب أو اسم مكان و يراد به هنا ما يقع عليه أو به الكسب أعني ما يكتسب به من الأشياء أو الأعمال، و بعبارة أخرى موضوع الكسب.

قال الراغب في المفردات: «الكسب: ما يتحرّاه الإنسان ممّا فيه اجتلاب نفع و تحصيل حظّ ككسب المال.» «1».

______________________________

(1) مفردات الراغب/ 447.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 148

..........

______________________________

و قد مثّلوا للمحرّم بصنع آلات اللهو و القمار و الأصنام و نحوها و كذا المعاملة عليها بالبيع و الشراء و الإجارة و نحوها. و للمكروهة بالذباحة و الصرف و بيع الأكفان و الرقيق و نحو ذلك. و للمباح بالصنائع و المعاملات المتعارفة التي لا حزازة فيها.

[الأخبار في الندب إلى الزرع و الرعي]

و الأخبار الواردة في الندب إلى الزرع و الرعي كثيرة جدّا رواها الفريقان:

1- ففي خبر محمّد بن عطيّة قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «إنّ اللّه- عزّ و جلّ- اختار لأنبيائه الحرث و الزرع كيلا يكرهوا شيئا من قطر السماء.» «1»

2- و في خبر سهل بن زياد رفعه قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «إنّ اللّه جعل أرزاق أنبيائه في الزرع و الضّرع لئلا يكرهوا شيئا من قطر السماء.» «2»

3- و في خبر سيّابة عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سأله رجل فقال له: جعلت فداك، أسمع قوما يقولون: إنّ الزراعة مكروهة. فقال له: «ازرعوا و اغرسوا، فلا و اللّه ما عمل الناس عملا أحلّ و لا أطيب منه. و اللّه ليزر عنّ الزرع و ليغرسنّ النخل بعد خروج الدجّال.» «3»

4- و في خبر أحمد بن أبي عبد اللّه عن بعض أصحابنا قال: قال أبو جعفر «ع»: كان أبي يقول: «خير الأعمال الحرث تزرعه فيأكل منه البرّ و الفاجر: أمّا البرّ فما أكل من شي ء استغفر لك. و أمّا الفاجر فما أكل منه من شي ء لعنه. و يأكل منه البهائم و الطير.» «4»

5- و في خبر السكوني عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سئل النبي «ص»: أيّ المال خير؟

قال: «الزرع زرعه صاحبه و أصلحه و أدّى حقّه يوم حصاده.» قال: فأيّ المال بعد الزرع

______________________________

(1) الكافى 5/

260، كتاب المعيشة، باب فضل الزراعة، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 149

..........

______________________________

خير؟ قال: «رجل في غنم له قد تبع بها مواضع القطر ...» «1»

6- و في رواية يزيد بن هارون قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيّبا أخرجه اللّه- عزّ و جلّ-، و هم يوم القيامة أحسن الناس مقاما و أقربهم منزلة يدعون المباركين.» «2»

7- و في روايته الأخرى قال: سألت جعفر بن محمّد «ع» عن الفلاحين فقال: «هم الزارعون كنوز اللّه في أرضه. و ما في الأعمال شي ء أحبّ إلى اللّه من الزراعة. و ما بعث اللّه نبيّا إلّا زرّاعا إلّا إدريس فإنّه كان خيّاطا.» «3»

8- و عن محاسن البرقي بسنده عن عليّ «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «عليكم بالغنم و الحرث، فإنّهما يغدوان بخير و يروحان بخير.» «4»

9- و في باب فضل الزرع و الغرس من البخاري بسنده عن أنس قال: قال رسول اللّه «ص»: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلّا كان له به صدقة.» «5»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة. و راجع في هذا المجال تجارة الوسائل، و البحار «6».

______________________________

(1) الكافى 5/ 260، كتاب المعيشة، باب فضل الزراعة، الحديث 6.

(2) الكافى 5/ 261، كتاب المعيشة، باب فضل الزراعة، الحديث 7.

(3) الوسائل 12/ 25، كتاب التجارة، الباب 10 من أبواب مقدّماتها، الحديث 3.

(4) الوسائل 8/ 393، كتاب الحجّ، الباب 48 من أبواب أحكام الدّوابّ، الحديث 3.

(5) صحيح البخاري 2/ 45، ما جاء في الحرث و المزارعة،

باب فضل الزرع و الغرس ...

(6) راجع الوسائل 12/ 24، الباب 10 من أبواب مقدّمات التجارة؛ و البحار 100/ 63 (ط. إيران 103/ 63) كتاب العقود و الإيقاعات، باب استحباب الزرع و الغرس ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 150

..........

______________________________

و أما أمر المصنّف أخيرا بالتأمّل فلعلّه إشارة إلى ما ذكره الأعلام في المقام:

قال المحقّق الإيرواني في حاشيته: «المستحبّ هو عنوان الزراعة و الرعي دون التكسّب بهما و أخذ الأجرة عليهما و دون التعيّش بهما بصرف الحاصل منهما في المعاش.» «1»

و قال أيضا: «الواجب في الصناعات الواجبة كفاية هو نفس القيام بالصنعة و تصدّيها و عدم التأبي عنها دون عنوان التكسّب بها و أخذ الأجرة عليها. إلّا أن يقال: إنّ القيام المجاني ربّما يزيد في اختلال النظام. و لكن مع ذلك لا يكون التكسّب بعنوان نفسه واجبا، بل يجب بعنوان إقامة النظام. و لو بني على التمثيل للواجب بما وجب بمثل هذه العناوين دخل في الواجب ما وجب بالنذر و اليمين و بعنوان الإنفاق على العيال الواجب النفقة و لأجل أداء الدين.» «2»

أقول: لقد أجاد فيما أفاد.

و يمكن أن يقال في الزرع أنّ الندب إليه لعلّه من جهة توفير أرزاق الناس و ما يقوم به حياتهم و تعيّش البهائم و الطيور و إن وقع العمل عليه مجّانا، و يشعر بذلك بعض ما مرّ من الأخبار.

و في الرعي أيضا لذلك، أو لتحصيل ملكة الانقياد و التواضع للنفس و تمرينها على الأخلاق الحسنة و حسن المعاشرة و العطف على الضعفاء. فإنّ المعتاد بتربية الحيوانات و الأنس بها يصير لا محالة واسع النفس مقتدرا على المعاشرة مع الروحيات النازلة السافلة و الطبقات المختلفة الأهواء و الآراء و يصير

بذلك نافعا لنفسه و للمجتمع. و ذلك أمر مرغوب فيه شرعا.

و يدلّ على ذلك ما ورد من مباشرة الأنبياء العظام لرعي الأغنام كخبر عقبة عن أبي

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 3.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 151

..........

______________________________

عبد اللّه «ع» قال: «ما بعث اللّه نبيّا قطّ حتّى يسترعيه الغنم يعلّمه بذلك رعيه الناس.» «1»

و في النبوي: «ما من نبيّ إلّا و قد رعى الغنم.» قيل: و أنت يا رسول اللّه؟ قال: «و أنا.» «2»

و أمّا الصناعات الواجبة- و يقال لها الواجبات النظاميّة- فيجاب عنها أوّلا بما مرّ عن الإيرواني من أنّ الواجب فيها نفس القيام بها و لو مجّانا لا التكسب بها.

لا يقال: القيام بها مجانا من قبل الجميع يوجب بنفسه اختلال النظام فلا بدّ و أن يكون الواجب هو التكسّب بها.

فإنّه يقال: ما يوجب الاختلال هو تعيّن المجانيّة و لا نقول بذلك، و إنّما نقول بوجوب الطبيعة الجامعة بين المجانيّة و بين الاكتساب. و قد أوضح ذلك في مصباح الفقاهة، فراجع «3».

و ثانيا: أنّ الصنائع ليست بواجبة أصلا بل هي مباحة بالذات إلّا الصنائع المحرّمة.

و الواجب هو حفظ النظام. و توقفه عليها لا يقتضي وجوبها لمنع وجوب المقدّمة شرعا.

و ثالثا: أنّ كلامنا في الوجوب النفسي الثابت للشي ء بعنوانه- نظير الكراهة النفسيّة الثابتة للصرف و بيع الأكفان و أمثالهما- لا الوجوب المقدّمي التبعيّ.

و رابعا: لو صحّ التمثيل للواجب بما وجب و لو تبعا و بعنوان آخر لدخل فيه أيضا ما وجب بعقد الإجارة أو النذر و أخويه أو لأجل أداء الدين أو النفقة الواجبة عليه، فما وجه الاقتصار على التمثيل بالصنائع الواجبة كفاية؟

و في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لبعض

ما مرّ قال: «و التحقيق: أنّ التقسيم إن كان باعتبار نفس التكسّب فلا محيص عن تثليث الأقسام كما تقدّم. و إن كان بلحاظ فعل

______________________________

(1) بحار الأنوار 11/ 64، كتاب النبوّة، الباب 2 (باب نقش خواتيمهم ...)، الحديث 7.

(2) بحار الأنوار 61/ 117، كتاب السماء و العالم، الباب 2 (باب أحوال الأنعام ...).

(3) مصباح الفقاهة 1/ 27.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 152

..........

______________________________

المكلّف و العناوين الثانويّة الطارئة عليه فلا مانع من التخميس.» «1»

[كلمات الأصحاب حول تقسيم المكاسب]

أقول: هذا بعض الكلام حول عبارة الشيخ الأعظم «ره» في المقام. و لكن ينبغي التعرّض لبعض كلمات الأصحاب أيضا لزيادة البصيرة، يظهر من بعضها تثليث الأقسام و من بعضها تخميسها:

1- فيظهر من عبارة الشيخ الطوسي «ره» في النهاية تثليث الأقسام، حيث سرد فيها المكاسب المحرّمة ثمّ المباحة ثمّ المكروهة. و المراجعة إليها لازمة لمن أراد أن يطّلع على نظر قدماء الأصحاب في المقام «2». و كذا إلى مقنعة المفيد و إن لم يتعرّض للمكروهة منها «3».

2- و المحقّق في الشرائع ثلّث الأقسام و لكن جعل المقسم ما يكتسب به فقال: «الأوّل:

فيما يكتسب به و هو ينقسم إلى محرّم و مكروه و مباح.» ثمّ قسّم المحرّم إلى خمسة أنواع:

«الأوّل: الأعيان النجسة كالخمر ... الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو ...

الثالث: ما لا ينتفع به كالمسوخ ... الرابع: ما هو محرّم في نفسه كعمل الصور المجسّمة و الغناء ... الخامس: ما يجب على الإنسان فعله ...» «4»

و ناقشه الأستاذ الإمام «ره» في مكاسبه فقال ما محصّله: «أنّ ما لا ينتفع به و ما يجب فعله ليسا من أقسام ما جعله مقسما أعني ما يكتسب به، و كذا ما ذكرها في

المكروهات كبيع الصرف و الأكفان و غيرهما ممّا هي من المكاسب المكروهة لا ما يكتسب به المكروه.

و الظاهر أن مراده ما يكون الاكتساب به محرّما أو مكروها أو مباحا.» «5»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 27.

(2) النهاية لشيخ الطائفة/ 363، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) المقنعة/ 586 (ط. أخرى/ 90)، أبواب المكاسب.

(4) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9- 11)، في أوّل كتاب التجارة.

(5) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 153

..........

______________________________

أقول: لأحد أن يدافع عن المحقّق أوّلا: بأنّ حمل ما يكتسب به على الاكتساب خلاف الظاهر جدّا. و ظاهر تقسيم ما يكتسب به إلى المحرّم و المكروه و المباح، انقسامه إليها مع قطع النظر عن الاكتساب العارض له لا تقسيم الاكتساب إلى المحرّم و المكروه و المباح.

و على هذا فيمكن أن يقال بأنّ المحرّم فيما لا ينتفع به أخذ الثمن بإزائه، و في الفعل الواجب أخذ الأجرة بإزائه. فيراد بما يكتسب به الأعمّ من الأعيان الخارجيّة و الأعمال، إذ معنى الكسب تحرّي المال و طلبه بنحو الإطلاق. و من يبيع المسوخ مثلا و يأخذ الثمن بإزائها يصدق عليه أنّه يكتسب بعمله هذا. و كذا من يأخذ الأجرة بإزاء العمل الواجب، فتأمّل. كما أنّ في الصرف و نحوه يكون العمل مكروها و يصدق عليه أنّه ممّا يكتسب به.

و ثانيا: أنّ الثمن المأخوذ بإزاء ما لا ينتفع به و كذا الأجرة المأخوذة بإزاء العمل الواجب تكونان بأنفسهما من الأعيان الخارجيّة المحرّمة وضعا لعدم انتقالهما إليه شرعا و قد وقع الاكتساب بهما، فيراد بالمحرّم الأعمّ من التكليف و الوضع نظير ما إذا كان المبيع أو الثمن غصبا. فالخمر محرّمة بلحاظ

شربها و الغصب محرّم بلحاظ غصبها، هذا وضعا و ذاك تكليفا.

و يشهد لذلك ما في متن اللّمعة حيث قسم موضوع التجارة إلى ثلاثة أقسام و عدّ من أقسام المحرّم الأجرة على تغسيل الموتى و الأجرة على الأفعال الخالية من غرض حكمي كالعبث. و لا يراد بموضوع التجارة إلّا ما يكتسب به، فتأمّل.

و بما ذكرناه أوّلا من احتمال كون ما يكتسب به أعمّ من الأعيان الخارجية و الأعمال يظهر أنّ المقسم في كلمات الأصحاب لو كان ما يكتسب به لا نفس الاكتساب أمكن فرض المندوب فيه أيضا و التمثيل له بمثل الزرع و الرعي بناء على استحبابهما شرعا كما قيل.

و لا يرد على ذلك ما مرّ من أنّ المندوب نفس الزرع و الرعي و لو مجانا لا الاكتساب

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 154

..........

______________________________

بهما، إذ المفروض أنّ التقسيم لما يكتسب به لا للاكتساب. و كذلك يمكن فرض الواجب فيه أيضا و التمثيل له بالواجبات النظاميّة بناء على كفاية الوجوب المقدّمي في ذلك.

و لا يرد على ذلك بأنّ الواجب نفس الصناعات و لو مجانا لا الاكتساب بها، فتدبّر.

3- و في المراسم عدّ الأقسام خمسة فقال: «المكاسب على خمسة أضرب: واجب و ندب و مكروه و مباح و محظور. فأمّا الواجب فهو كلّ حلال بيعه أو الاحتراف به إذا كان لا معيشة للإنسان سواه. و أمّا الندب فهو ما يكتسب به على عياله ما يوسّع به عليهم. و أمّا المكروه فأن يكتسب محتكرا أو له عنه غنى و يحتمل به مشقّة. و أمّا المباح فأن يكتسب ما لا يضرّه تركه و لا يقيم بأوده بل له عنه غنى. و أمّا المحظور فأن يكتسب مالا لينفق في

الفساد أو يحترف بالحرام.» ثم قال: «المعايش على ثلاثة أضرب: مباح و محظور و مكروه.» «1» و مثل للثلاثة بنحو ما في الشرائع لأقسام ما يكتسب به.

أقول: يظهر من كلامه «ره» أنّه أراد بالمكسب: المعنى المصدري أعني نفس الاكتساب، و بالوجوب و الحرمة و الندب: الأعمّ من النفسيّ و المقدّمي. و بناء كلامه على كون مقدّمة الواجب واجبة و مقدّمة المندوب مندوبة و مقدّمة الحرام محرّمة شرعا. و قد مرّ منّا منع ذلك.

4- و في متن اللمعة قسّم موضوع التجارة إلى محرّم و مكروه و مباح و بعد ذكر أمثلتها نحو ما في الشرائع قال: «ثمّ التجارة تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة.» «2» فأراد بموضوع التجارة ما يكتسب به و بالتجارة المعاملات الواقعة.

5- و العلامة في القواعد جعل المقسم المتاجر و قال: «و هي تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة» «3»

______________________________

(1) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(2) اللمعة الدمشقية/ 62؛ و الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية 1/ 312، الفصل الأوّل من كتاب المتاجر.

(3) القواعد 1/ 119، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 155

..........

______________________________

ثمّ مثّل للواجب بما يحتاج إليه الإنسان لقوته و قوت عياله. و للمندوب بما يقصد به التوسعة على العيال أو نفع المحاويج. و للمباح بما يقصد به الزيادة في المال. و للمكروه بالصرف و بيع الأكفان و نحو ذلك. و للمحظور بما اشتمل على وجه قبيح و قسّمه بخمسة أقسام كما مرّ من الشرائع.

أقول: يرد عليهما نحو ما أوردناه على المراسم بالنسبة إلى الواجب و المندوب.

6- و في المسالك بعد التعرّض لتثليث الأقسام و تخميسها قال ما ملخّصه: «أنّ كلا من التقسيمين حسن، إذ لا

خلل في الثلاثة كما لا خلل في الخمسة، فإنّ مورد القسمة في الثلاثة ما يكتسب به و هو العين و المنفعة، و مورد الخمسة الاكتساب الذي هو فعل المكلّف و من شأنه أن يقبل الأقسام الخمسة.» «1»

أقول: يرد عليه أنّهم ذكروا في أمثلة المحرّم بيع السلاح لأعداء الدين مثلا و بيع ما لا ينتفع به كالحشرات و المسوخ. و لم يتعلّق الحرمة فيهما بالعين أو المنفعة، بل بنفس العمل أعني المعاملة و أخذ الثمن، كما أنّ المكروه أيضا نفس الصرف و بيع الأكفان و هما من قبيل الأعمال. نعم يمكن أن يقال: إنّ المقصود بما يكتسب به ليس خصوص الأعيان أو المنافع بل يعمّ الأعمال أيضا كما مرّ بيانه، فتأمّل.

7- و الأستاذ الإمام «ره» بعد الإشارة إلى ما في القواعد اعترض عليه بما محصّله: «و الظاهر منه أنّ الأقسام للتجارة و أن الأحكام الخمسة هي التكليفيّة لا مع الوضعيّة، فيرد عليه:

أوّلا: أنّ التجارة لا تصير واجبة شرعا و لو كان الطريق لتحصيل قوت العيال منحصرا فيها لمنع وجوب المقدّمة شرعا. و لو سلّم يتعلّق الوجوب بعنوان آخر (: عنوان المقدّميّة) غير ذات الموقوف عليها.

______________________________

(1) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 156

..........

______________________________

و ثانيا: أنّ الحرمة في كثير ممّا ذكره غير ثابتة، أو ثبت عدمها كالتجارة بما لا ينتفع به، فإنّها من حيث هي تجارة و نقل و انتقال ليست محرّمة. و التصرّف في مال الغير- بعد بطلان المعاملة- و إن كان محرّما لكنّه غير عنوان التجارة. و كذلك التجارة بالأعيان النجسة غير ثابتة الحرمة.

و ثالثا: أنّ المقسم في التجارة الواجبة و المستحبّة هو الكسب المنتهي إلى النقل و الانتقال العقلائي الممضى

شرعا أعني ما يوصل المكلّف إلى حفظ النظام، بناء على ما هو التحقيق من أنّ الواجب من المقدّمة- على القول به- خصوص الموصلة منها. و في المحرّمة لو كان كذلك لزم صحّة المعاملة فيها و هي خلاف الواقع المسلّم عندهم، فلا بدّ و أن يكون المراد فيها المعاملة العقلائية و إن لم تصحّ شرعا فلا يكون المقسم واحدا، إلّا أن يقال:

المقسم نفس الطبيعة الجامعة بين الصحيحة و الفاسدة.» «1»

أقول: ما ذكره أوّلا وارد كما مرّ منّا. و أمّا الثاني فمبنيّ على حمل حرمة التجارة على الحرمة التكليفيّة و هو غير واضح. و إرادة التكليف من الوجوب و الندب لا تستلزم إرادته من الحرمة أيضا بعد كون اللفظ بحسب المفهوم قابلا لكليهما بالاشتراك المعنويّ كما مرّ بيانه و كون محطّ نظرهم في أبواب المعاملات بيان صحتها و فسادها. و من قسّم المعاملات و المكاسب إلى المحرّم و المكروه و المباح أيضا كان قصده من المحرّم و المحظور الفاسد منها لا المحرّم تكليفا فقط، فراجع المقنعة و النهاية و الشرائع و غيرها.

و التعبير عن الفساد بلفظ الحرمة و عدم الجواز وقع على لسان الكتاب و السنّة. و قد مرّ في شرح رواية تحف العقول و الروايات الأخر أنّ المقصود بالحرمة المضافة فيها إلى

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 157

..........

______________________________

المعاملات فسادها و عدم ترتّب الآثار عليها لا الحرمة التكليفيّة.

و أمّا ما أورده ثالثا فيمكن أن يقال فيه- كما أشار إليه- أنّ المقسم العقود العقلائية الرائجة فهي موضوع الأحكام الخمسة. و لازم الحكم بوجوبها أو استحبابها صحّتها، و يعني بحرمتها فسادها و عدم ترتّب الأثر عليها.

تتمة [الملحوظ في المقسم نفس الاكتساب أو ما يكتسب به]

لا يخفى أنّ الملحوظ

في المقسم إمّا نفس الاكتساب بما أنّه فعل المكلّف، أو ما يكتسب به أعني موضوع كسبه.

و على الأوّل فإمّا أن يلحظ الاكتساب بذاته مع قطع النظر عن انطباق عنوان آخر عليه، و إمّا أن يلحظ مطلقا و لو بلحاظ انطباق عنوان آخر عليه.

فإن لوحظ الاكتساب بذاته فقد يقال: إنّه ليس إلّا مباحا. و ما دلّ على الترغيب في التجارة و في طلب الحلال و كونه من أفضل العبادة و أنّ اللّه- تعالى- يحبّ المحترف الأمين و نحو ذلك فلا تدلّ على كون الاكتساب بذاته عبادة و محبوبا للّه- تعالى- و إلّا لكان الأثرياء المتكاثرون من أعبد الناس و أحبّهم إلى اللّه- تعالى-، بل الرجحان للآثار المترتّبة على الاكتساب: من الاعتماد على النفس، و زيادة العقل، و التوكّل على اللّه- تعالى-، و الاستعفاف، و الاستغناء عن الناس و عدم الكلّ عليهم، و عدم الابتلاء بصرف الحرام، و التوسعة على العيال، و صلة الرحم، و التعطّف على الجيران، و الإنفاق في سبل الخير و أمور الآخرة و نحو ذلك من العناوين المترتّبة على الاكتساب. و قد أشعر بما ذكرناه الأخبار الواردة في الباب.

كيف؟ و ليس الاكتساب من العبادات بالمعنى الأخصّ المتقوّمة بقصد القربة نظير

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 158

..........

______________________________

الصلاة و الصوم و نحوهما. و كونه من العبادات بالمعنى الأعمّ أعني ما يمكن أن يتقرّب بها- إن أتي بها بقصد القربة- لا يتوقّف على حسنه الذاتي بل يكفي فيها حسنه و لو بلحاظ ما يترتّب عليه من الآثار.

اللّهم إلّا أن يقال: يكفي في الحكم باستحباب الشي ء ترغيب الشرع فيه بعنوانه و أمره به و التوبيخ على تركه و إن كان بلحاظ فوائده و الآثار المترتّبة

عليه. فالمستحبّ شرعا نفس هذا العنوان المرغّب فيه. ألا ترى أنّ الصلاة مثلا شرّعت لذكر اللّه- تعالى- و التوجّه إليه. و مع ذلك نحكم بكون نفس الصلاة مستحبّة و عبادة لوقوع الأمر بها دون الآثار. و مقتضى ذلك كون نفس التجارة أو طلب الحلال من الأمور المستحبّة المحبوبة للّه- تعالى- لكثرة بركاتهما للمسلمين و ترتّب آثار جمّة عليهما غالبا، و إن كان الثواب و الأجر الأخروي متفرّعا على قصد التقرّب بهما. فهما من العبادات الشأنيّة، أي ما يصلح لأنّ يتقرّب بها إليه- تعالى-. و ليس المستحبّ منحصرا في العبادات المحضة.

و نظير التجارة و طلب الحلال الزراعة و الرعي المرغّب فيهما في أخبار الفريقين، فيمكن الحكم باستحبابهما شرعا. هذا كلّه إذا لوحظ الاكتساب بذاته.

و أمّا إذا لوحظ بنحو الإطلاق حتّى بلحاظ العناوين المنطبقة عليه فالظاهر انقسامه بانقسام الأحكام الخمسة كما مرّ من المراسم. «1» و كذا ما يكتسب به إن أريد به الأعمّ من الأعيان الخارجيّة و الأعمال، كما مرّ بيانه في دفع ما استشكل به الأستاذ على عبارة الشرائع، فراجع. «2»

______________________________

(1) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(2) راجع ص 152.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 159

[معنى حرمة الاكتساب تكليفا]

اشارة

و معنى حرمة الاكتساب حرمة النقل و الانتقال بقصد ترتّب الأثر المحرّم. و أمّا حرمة أكل المال في مقابلها فهو متفرّع على فساد البيع لأنّه مال الغير وقع في يده بلا سبب شرعي و إن قلنا بعدم التحريم. لأنّ ظاهر أدلّة تحريم بيع مثل الخمر منصرف إلى ما لو أراد ترتيب الأثار المحرّمة. أمّا لو قصد الأثر المحلّل فلا دليل على تحريم المعاملة إلّا من حيث التشريع. (1)

______________________________

معنى حرمة الاكتساب تكليفا

(1) لا يخفى أنّ

حرمة الاكتساب قد تكون تكليفيّة محضة، و قد تكون وضعيّة فقط، و قد تكون تكليفيّة و وضعيّة معا. فالبيع وقت النداء يحرم تكليفا فقط. و إن شئت قلت: ليس البيع بما أنّه معاملة خاصّة حراما بل بما أنّه شاغل عن الجمعة، فيعمّ الحرمة كلّ فعل شاغل بما أنّه فعل. و بيع ما لا ينتفع به حرام وضعا فقط. و بيع الخمر حرام تكليفا و وضعا و كذلك المعاملة الربويّة.

[ما يفرض حين إنشاء المعاملة]

ثمّ اعلم: أنّه حين إنشاء المعاملة يفرض هنا أمور:

الأوّل: السبب أعني القول أو الفعل الصادر بقصد الإنشاء.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 160

..........

______________________________

الثاني: المسبّب المنشأ في عالم الاعتبار بنحو الجدّ.

الثالث: اعتبار العقلاء و الشرع لما اعتبره المتعاملان و أنشئاه.

الرابع: الآثار المترتبة خارجا من تسليم العوضين و التصرّف فيهما على أساس ما اعتبراه.

الخامس: قصد تحقّق المسبّب و قصد ترتّب الآثار المتحقّق في قلب المتعاقدين.

[الأقوال حول موضوع الحرمة التكليفيّة]

اشارة

فما هو موضوع الحرمة التكليفيّة من بين هذه الأمور الخمسة؟ في المسألة أقوال:

القول الأوّل: أن يكون الموضوع لها حقيقة المعاملة،

أعني النقل و الانتقال الجدّي بقصد ترتّب الآثار المحرّمة عليها. و بعبارة أخرى: المحرّم هو المسبّب و لكن مقيّدا بقصد ترتّب الآثار المحرّمة عليه، و هو الظاهر من كلام المصنّف.

أقول: النقل و الانتقال في كلام المصنّف يحتمل بدوا أن يراد بهما إنشاء النقل و الانتقال، و أن يراد بهما حقيقة النقل و الانتقال الاعتبارية المتحقّقة بالإنشاء و القصد الجدّي، و أن يراد بهما النقل و الانتقال الخارجيان أعني الإقباض و القبض.

و لكن الظاهر منه إرادة الثاني، فيكون الحرام عنده تكليفا هو العقد المسبّبي أعني حقيقة النقل و الانتقال الجديّة الاعتباريّة مقيّدة بقصد ترتيب الآثار المحرّمة عليها، و علّل ذلك أخيرا بقوله: «لأنّ ظاهر أدلّة تحريم بيع مثل الخمر منصرف ...» يعني أنّه لو قصد الآثار المحلّلة لم تحرم المعاملة تكليفا بالحرمة الذاتيّة و إن كانت فاسدة بحسب الوضع فتحرم حينئذ إن أتي بها تشريعا. فلو باع الخمر لا بقصد الشرب بل بقصد التخليل أو التطيين بها مثلا أو بنحو الإطلاق لم يشمله دليل حرمة بيعها و إن حرم من باب التشريع.

و يرد على ما ذكره أوّلا: ما أورده في مصباح الفقاهة و محصّله: «أن تقييد دليل حرمة البيع بالقصد المذكور لا موجب له بعد إطلاق الدليل. نعم لو كان الدليل لها الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة مقدّمته أو عموم دليل الإعانة على الإثم لتمّ ما ذكره في الجملة،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 161

..........

______________________________

لكن كلام الشيخ أعمّ من ذلك. و دعوى الانصراف المذكور جزافيّة. و نظير ذلك أن يدّعى انصراف أدلّة تحريم الزنا إلى ذات البعل مثلا. و الالتزام بمثل

هذه الانصرافات يستدعي تأسيس فقه جديد.» «1»

و ثانيا: لو سلّم انصراف دليل التكليف إلى صورة القصد المذكور فلم لا يقال بانصراف دليل الوضع أيضا إلى هذه الصورة؟! و على هذا فلا تفسد المعاملة مع قصد المنافع المحلّلة العقلائيّة و إن كانت نادرة إذا كانت يرغب فيها. بل مرّت دلالة رواية تحف العقول على دوران حرمة المعاملة مدار الآثار المحرّمة، حيث علّل فيها حرمة بيع النجس و غيره بقوله: «لما فيه من الفساد» و صرّح فيها بحلّية الصنائع المشتملة على جهة الفساد و الصلاح معا. و في ذلك إشعار بحلّية المعاملة عليها أيضا إذا وقعت بقصد المنافع المحلّلة.

و عمدة الدليل على حرمة بيع المحرّمات و فساده هو الإجماع. و المتيقّن من موارده صورة القصد المذكور. و مقتضى ذلك جواز بيع الخمر للتخليل و الدّم للتزريق بالمرضى مثلا.

و الشيخ و أمثاله و إن حملوا لفظ الحرمة في الرواية على الحرمة التكليفيّة لكن نحن منعنا ذلك و قلنا باستعمال اللفظ في الأعمّ من التكليف و الوضع و أقمنا لذلك شواهد.

هذا مضافا إلى أنّ الشيخ «ره» لا يقول بجعل الأحكام الوضعيّة مستقلّا بل بانتزاعها من الأحكام التكليفيّة «2». فإذا قال بانصراف التكليف في المقام إلى صورة القصد المذكور كان اللازم أن يقول بانصراف الوضع أيضا لأنّه فرعه.

و ثالثا: أنّ مقتضى كون الموضوع للحرمة التكليفية المسبّب أعني حقيقة النقل

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 29.

(2) راجع فرائد الأصول/ 350.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 162

..........

______________________________

و الانتقال هو صحّة المسبّب و تحقّقه بإيجاد سببه، إذ الحرمة التكليفيّة تتعلّق بما هو تحت اختيار المكلّف. فإن كان المسبّب يتحقّق بسبب إيجاد سببه كان مقدورا للمكلّف بالقدرة على سببه. و إن كان لا يتحقّق

بذلك فلا يكون تحت اختياره حتّى يحرم عليه.

و بعبارة أخرى: النهي عن حقيقة المعاملة يكشف عن صحّتها لو أوقعت و إلّا لم يكن معنى للنهي التحريمي عنها. و لكنّ المشهور القائلين بحرمة بيع الخمر و أمثالها قائلون بفساد المعاملة أيضا، فلا يمكن كون متعلّق النهي حقيقة المسبّب.

فإن قلت: صحّة المعاملة تتقوّم باعتبار المتعاملين لها جدّا مضافا إلى اعتبار العرف و الشرع لذلك. و ليس اعتبار العرف و الشرع تحت اختيار المكلّف حتّى يتعلّق به التحريم، فالتحريم يتعلّق بالقسمة التي تكون تحت اختياره أعني النقل بقصد الجدّ مع قطع النظر عن إمضاء الشرع له.

قلت: هذا رجوع عن كون المتعلّق للحرمة حقيقة النقل و الانتقال، و مآله إلى كون المحرّم إنشاء المتعاملين أو المنشأ في اعتبارهما فقط.

و رابعا: أنّ ما ذكره الشيخ أخيرا من أنّه لو قصد الأثر المحلّل تكون المعاملة محرّمة من حيث التشريع.

يرد عليه أوّلا: أنّ التشريع إنّما يصدق إذا أتى بالمعاملة بقصد أن يكون صحيحا في الشرع، و ليس كلّ من يقدم على معاملة فاسدة يريد إدخالها في الشرع، بل ربّما يريد التسلّط على العوض المأخوذ، صحيحة كانت المعاملة أو فاسدة.

و ثانيا: أنّ المحرّم في باب التشريع هو القصد الذي يتحقق في قلب المشرّع، و سراية الحرمة إلى العمل المشرّع فيه محلّ كلام. نظير ما قيل في التجرّي من عدم سراية

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 163

..........

______________________________

المبغوضيّة و الحرمة إلى الفعل المتجرّأ به، فتأمّل.

القول الثاني: أن يكون الموضوع للحرمة التكليفيّة: حقيقة النقل و الانتقال

من دون تقييدها بقصد الأثر المحرّم.

قال في منية الطالب ما ملخّصه: «ثمّ إنّ الحرمة المتعلّقة بالمعاملة عبارة عن حرمة تبديل المال أو المنفعة لا حرمة إنشاء المعاملة و لا حرمة آثارها كالتصرّف في الثمن أو المثمن، و لا

قصد ترتّب الأثر عليها. و ذلك لأنّ نفس الإنشاء من حيث إنّه فعل من الأفعال و تلفّظ بألفاظ لا وجه لأن يكون حراما. و هكذا قصد تحقّق المنشأ من حيث إنّه أمر قلبيّ. و أمّا حرمة الآثار فهي مترتّبة على فساد المعاملة و حرمتها لا أنّها هي المحرّمة ابتداء. فما يكون محرّما حقيقة هو نفس التبديل الذي اعتباره بيد مالكه لو لا نهي الشارع الّذي هو مالك الملوك. و بعبارة أخرى: نفس المنشأ بالعقد هو المحرّم لا آلة الإيجاد و لا القصد و لا الآثار.» «1»

أقول: بيانه في الحقيقة تنقيح لكلام الشيخ بنحو لا يرد عليه ما مرّ من الإشكالات.

و يظهر من قوله: «لو لا نهي الشّارع» أنّ مقصوده بالتبديل ليس حقيقة التبديل و التبدّل بل القسمة التي تكون بيد المتعاملين، و بعبارة أخرى: النقل و الانتقال اللولائي، فلا يرد عليه الإشكال الثالث أيضا. نعم يمكن أن يقال: إنّ المنشأ مع قطع النظر عن إمضاء الشرع لا واقعيّة له إلّا بواقعيّة الإنشاء. فمآل هذا القول و القول الرابع الذي يأتي عن الأستاذ الإمام إلى أمر واحد، فتأمّل.

القول الثالث: [الحرام هو الإنشاء عن جدّ في قبال الإنشاء الصوري]

ما في حاشية المحقّق الإيرواني، قال: «بل معنى حرمة الاكتساب هو حرمة إنشاء النقل و الانتقال بقصد ترتيب أثر المعاملة أعني التسليم و التسلّم للمبيع

______________________________

(1) منية الطالب 1/ 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 164

..........

______________________________

و الثمن، فلو خلّي عن هذا القصد لم يتّصف الإنشاء الساذج بالحرمة. و أمّا قصد ترتيب المشتري للأثر المحرّم و صرف المبيع في الحرام فلا دليل على اعتباره. و دعوى انصراف مثل لا تبع الخمر إلى ما لو أراد بالبيع شرب المشتري لها مجازفة.» «1»

أقول: لو اقتصر على هذا الكلام أمكن توجيهه

بأنّه لا يريد تقييد الإنشاء المحرّم شرعا بقصد التسليم و التسلّم حتّى يورد عليه بعدم الدليل على هذا التقييد، بل يريد بيان أنّ الحرام هو الإنشاء عن جدّ في قبال الإنشاء الصوري. و علامة الجدّ أنّه يرضى بالتسليم عقيبه فذكر القصد المزبور لبيان كون الموضوع للحرمة الإنشاء الجدّي كما في القول الرابع.

و لكنّه- قدّس سرّه- ذكر قبل ذلك ما يستفاد منه أنّ المحرّم في الحقيقة هو الإقباض و التسليم لا البيع. قال: ما ملخّصه: «أنّ ظاهر الرواية التحريم بعنوان الإعانة، و عنوان الإعانة لا ينطبق على الإنشاء الساذج، بل الإعانة حاصلة بالتسليط و الإقباض للمبيع سواء أنشأ بيعها أم لم ينشأ، و كأنّ توصيف البيع بالإعانة لأجل ملازمتها العرفيّة للإقباض فيكون التحريم ملحقا أوّلا و بالذات بالتسليط و ثانيا و بالعرض بالبيع.» «2»

و ناقشه في مصباح الفقاهة و محصّلها: «أنّ تقييد موضوع الحرمة بالتسليم و التسلّم إنّما يتمّ في الجملة لا في جميع البيوع المحرّمة. و تحقيقه: أنّ النواهي المتعلّقة بالمعاملات على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون النهي عنها بلحاظ انطباق عنوان محرّم عليها كالنهي عن بيع

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 3.

(2) نفس المصدر/ 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 165

..........

______________________________

السلاح لأعداء الدين عند حربهم مع المسلمين. فإنّه لانطباق عنوان تقوية الكفر عليه، و لذا يجوز بيع السلاح لهم إذا لم يفض إلى تقويتهم عليهم، و حرم نقل السلاح إليهم بغير البيع أيضا كالهبة و الإجارة و العارية إذا أفضى إلى ذلك.

و من هنا يتّضح أن بين عنوان بيع السّلاح منهم و بين تقوية الكفر و الإعانة عليه عموما من وجه.

الثاني: أن يتوجه النهي إلى المعاملة من جهة تعلّقها بشي ء مبغوض ذاتا كالنهي عن

بيع الخمر و الخنزير و الصليب و الصنم.

الثالث: أن يكون النهي عنها باعتبار ذات المعاملة لا المتعلّق كالنهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة و النهي عن بيع المصحف و المسلم من الكافر بناء على حرمة بيعهما منه.

إذا عرفت ذلك ظهر أنّ تقييد موضوع حرمة البيع بالتسليم و التسلّم إنّما يتمّ في القسم الأوّل فقط، إذ المحرّم فيه في الحقيقة هو تسليم المبيع لا أصل البيع. و أمّا في الثاني و الثالث فلا بدّ من الأخذ بإطلاق أدلّة التحريم. نعم لو كان دليلنا على التحريم عموم دليل الإعانة على الإثم أو الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة مقدّمته لجاز تقييد موضوع حرمة البيع بالتسليم و التسلّم، فإنّ الإعانة و المقدّمية لا تتحقّقان إلّا بهما.» «1»

أقول: قد مرّ منّا: أنّ المحرّم في البيع وقت النداء ليس البيع بما أنّه معاملة بل بما أنّه عمل شاغل عن الجمعة، و لذا يحرم كلّ عمل شاغل عنها و لا يحرم البيع غير الشاغل كما يقع في طريق السعي إليها. و أمّا في بيع المصحف و المسلم من الكافر و كذا في بيع الخمر و الميتة و نحوهما فلا يبعد صحّة ما ذكره المحقّق الإيرواني «ره»، إذ المقصود من

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 28 و 29.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 166

..........

______________________________

النهي عنها عدم تسليط الكافر على المصحف و المسلم و عدم إشاعة الخمر و الميتة في المجتمع. فالمحرّم فيها في الحقيقة هو التسليم و الإقباض، فتدبّر.

القول الرابع: [المحرّم هو المعاملة العقلائيّة]

ما اختاره الأستاذ الإمام «ره» في مكاسبه، و لعلّه الأظهر و ملخّصه: «أنّ المحرّم على فرض ثبوته هو المعاملة العقلائيّة أي إنشاء السبب جدّا لغرض التسبيب إلى النقل و الانتقال، لا النقل

و الانتقال، و لا هو بقصد ترتّب الأثر، و لا تبديل المال أو المنفعة.

و لا يعقل أن يكون المحرّم النقل و ما يتلوه، لأنهما غير ممكن التحقّق بعد وضوح بطلان تلك المعاملة نصّا و فتوى. و إرادة النقل العقلائي مع قطع النظر عن حكم الشرع و لو لا عدم الإنفاذ، لا ترجع إلى محصّل لعدم الوجود للنقل اللولائي. و ما يمكن أن يتّصف بالحرمة هو المعاملة السببيّة أي الإنشاء الجديّ بقصد حصول المسبّبات لا بمعنى كون القصد جزء الموضوع، بل بمعنى أنّ موضوع الحرمة الإنشاء الجدّي الملازم له.» «1»

القول الخامس: [الحرام هو المركّب من الإنشاء و القصد]

ما اختاره آية اللّه الخوئي «ره» على ما في مصباح الفقاهة، و محصّله:

«أنّ ما يكون موضوعا لحلّية البيع بعينه يكون موضوعا لحرمته. بيان ذلك: أنّ البيع ليس عبارة عن الإنشاء الساذج سواء كان الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى باللفظ كما هو المعروف عند الأصوليين، أم كان بمعنى إظهار ما في النفس من الاعتبار كما هو المختار عندنا، و إلّا لزم تحقق البيع بلفظ بعت خاليا عن القصد.

و لا أنّ البيع عبارة عن مجرّد الاعتبار النفساني من دون أن يكون له مظهر، و إلّا لزم صدق البائع على من اعتبر ملكيّة ماله لشخص آخر في مقابل الثمن و إن لم يظهرها بمظهر.

بل حقيقة البيع عبارة عن المجموع المركّب من ذلك الاعتبار النفساني مع إظهاره بمبرز

______________________________

(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 4 و 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 167

..........

______________________________

خارجي سواء تعلّق به الإمضاء من الشرع و العرف أم لم يتعلّق. و إذن فذلك المعنى هو الذي يكون موضوعا لحرمة البيع و كذا لحلّيته، و هكذا الكلام في سائر المعاملات.» «1»

أقول: مآل هذا القول أيضا إلى

القول الرابع و إن افترقا من جهة، حيث إنّ الحرام على هذا القول هو المركّب من الإنشاء و القصد، و على القول الرابع الإنشاء الجدّي الملازم للقصد من دون أن يكون القصد جزء للموضوع. و هذا هو الأظهر، إذ موضوع الأحكام التكليفيّة أفعال المكلفين بشرط صدورها عن قصد لا القصود و لا المركب من الأفعال و القصود كما لا يخفى.

القول السّادس: [المراد من حرمة البيع حرمة إيجاده بقصد ترتّب إمضاء العرف و الشرع عليه]

ما حكاه في مصباح الفقاهة، قال: «الوجه الثاني: أن يراد من حرمة البيع حرمة إيجاده بقصد ترتّب إمضاء العرف و الشرع عليه بحيث لا يكفي مجرّد صدوره من البائع خاليا عن ذلك القصد.» «2»

و أورد عليه بما محصّله: «أنّه لا وجه لتقييد موضوع حرمة البيع بذلك، لإطلاق دليل الحرمة. فلو باع أحد شيئا من الأعيان المحرّمة كالخمر مع علمه بكونه منهيّا عنه فقد ارتكب فعلا محرّما و إن كان غافلا عن قصد ترتّب إمضاء الشرع و العرف عليه.» «3»

أقول: لعلّ القائل بالقول السّادس أراد إرجاع الحرمة في المقام إلى الحرمة التشريعيّة و بيان أنّ المحرّم قصد التشريع. فتقييده موضوع الحرمة بقصد ترتّب إمضاء الشرع و العرف لبيان تحقّق التشريع الذي هو بنفسه من العناوين المحرّمة عندهم.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 30.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 29.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 29.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 168

..........

______________________________

كما يحتمل بعيدا أنّ الشيخ أيضا أراد من قوله: «بقصد ترتّب الأثر المحرّم» ذلك أي قصد البائع حلّية الآثار المحرّمة تشريعا.

و لكن يرد على ذلك ما مرّ أوّلا من أنّه ليس كلّ من يقدم على معاملة محرّمة يريد التشريع و إدخالها في الشريعة.

و ثانيا: أن سراية الحرمة في التشريع إلى نفس العمل محلّ كلام بينهم.

و في الختام نقول تتميما للبحث: حيث

إنّ المعاملة في المعاملات المحرّمة فاسدة من رأس لا يترتّب عليها أثر شرعا و يكون وجودها من جهة الأثر كالعدم لا محالة، و من ناحية أخرى لا بدّ في بعضها من القول بالحرمة التكليفيّة المؤكّدة أيضا كالربا الذي درهم منه أشدّ عند اللّه من ثلاثين زنية بذات محرم «1» و الآكل له في معرض الحرب من اللّه و رسوله، و كبيع الخمر التي لعن رسول اللّه «ص» فيها عشرة، و منها بائعها و مشتريها و آكل ثمنها، «2» لوضوح أنّ هذه التأكيدات ليست بجهة فساد المعاملة و التصرّف في مال الغير فقط، فلأجل ذلك وقع الإشكال في تعيين موضوع الحرمة التكليفيّة، و وقع الأعلام لأجل ذلك في حيص و بيص.

و لا يخفى أنّ الموضوع لها لا بدّ أن يكون من أفعال المكلّفين و تحت اختيارهم، و الذي يصدر عن المكلّف في المعاملات و يكون فعلا له حلالا كانت المعاملة أو حراما هو الإنشاء لها بالقول أو الفعل، و لا يصدق عليه المعاملة عرفا إلّا إذا كان ناشئا عن قصد جدّي، و المنشأ أيضا من حيث انتسابه إلى الفاعل عبارة أخرى عن الإنشاء إذ نسبة المنشأ

______________________________

(1) الوسائل 12/ 423، كتاب التجارة، الباب 1 من أبواب الرّبا، الحديث 4.

(2) راجع الوسائل 17/ 300، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 34 من أبواب الأشربة المحرمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 169

..........

______________________________

إلى الإنشاء نسبة الوجود إلى الإيجاد، و قد حقّق في محلّة اتحادهما ذاتا و اختلافهما بحسب الاعتبار فقط: فبالإضافة إلى الفاعل يقال له الإيجاد و بالإضافة إلى القابل يقال له الوجود. و على هذا فالحرام هو الإنشاء الناشئ عن قصد جدّي، و هو الحلال أيضا في المعاملات

المحلّلة، فتدبّر.

معنى حرمة المعاملة وضعا

ما ذكرناه كان في بيان معنى حرمة المعاملة تكليفا. و أمّا حرمتها وضعا فيراد بها بطلانها و عدم ترتّب الأثر عليها.

و لا فرق عندنا و كذا عند العامّة غير الحنفيّة بين البطلان و الفساد؛ فكلّ باطل فاسد و بالعكس. و أمّا الحنفية ففرّقوا بينهما:

قال في متن الفقه على المذاهب الأربعة: «الفاسد و الباطل بمعنى واحد في عقود البيع، فكلّ فاسد باطل و بالعكس و هو ما اختلّ فيه شي ء من الشروط و الأركان التي سبق ذكرها. و البيوع الفاسدة كلّها محرّمة فيجب على الناس اجتنابها و هي كثيرة.»

و علّق على ذلك ما ملخّصه: «الحنفية قالوا: إنّ الباطل و الفاسد في البيع مختلفان، فالباطل هو ما اختلّ ركنه أو محلّه. و ركن العقد: الإيجاب و القبول، فإذا اختلّ الركن كأن صدر من مجنون أو صبيّ لا يعقل كان البيع باطلا غير منعقد. و كذلك إذا اختلّ المحلّ و هو المبيع كأن كان ميتة أو دما أو خنزيرا.

و أمّا الفاسد فهو ما اختلّ فيه غير الركن و المحلّ كما إذا وقع خلل في الثمن بأن كان خمرا، فإذا اشترى سلعة يصحّ بيعها و جعل ثمنها خمرا انعقد البيع فاسدا ينفذ بقبض

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 170

..........

______________________________

المبيع و لكن على المشتري أن يدفع قيمته غير الخمر لأنّ الخمر لا يصلح ثمنا. و كذلك إذا وقع الخلل فيه من جهة كونه غير مقدور التسليم أو من جهة اشتراط شرط لا يقتضيه العقد، فإن البيع في كلّ هذه الأحوال يكون فاسدا لا باطلا ...» «1»

أقول: ظاهر عبارة الماتن أنّ جميع المعاملات الباطلة تكون محرّمة عندهم بحسب التكليف. و لكن لا دليل على هذا التعميم.

و الظاهر أنّ محطّ نظر القدماء من أصحابنا في باب المعاملات المحرّمة بيان بطلانها و فسادها لا الحرمة التكليفيّة و إن عبّروا عن ذلك بلفظ الحرمة تبعا لما ورد في بعض الأخبار.

[أنواع الاكتساب المحرّم]

اشارة

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 224، كتاب البيع، مبحث البيع الفاسد.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 171

و كيف كان فالاكتساب المحرّم أنواع نذكر كلا منها في طيّ مسائل. (1)

______________________________

الاكتساب المحرّم خمسة

(1) قد مرّ عن الشرائع و القواعد تقسيم المعاملات المحرّمة إلى خمسة أنواع: الأوّل:

الأعيان النجسة الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو مثلا. الثالث:

ما لا ينتفع به. الرابع: ما هو محرّم في نفسه كعمل الصور المجسّمة مثلا. الخامس:

ما يجب على الإنسان فعله. و يأتي تفصيل هذه الأنواع.

و قبل الورود في البحث ينبغي ذكر عبارة النهاية للشيخ الطوسي «ره» في سرد المكاسب المحرّمة، إذ هو من كتب القدماء من فقهائنا المعدّة لذكر خصوص المسائل المأثورة عن الأئمة عليهم السلام- على ما كان يصرّ عليه خرّيت فن الفقه في الأعصار الأخيرة:

الأستاذ الأعظم آية اللّه البروجردي «طاب ثراه»- و هي و إن كانت طويلة لكن التوجّه إليها لازم لأنّها بمنزلة الفهرست للمكاسب المحرّمة التي نحن بصدد تنقيحها و إقامة الدليل عليها. و الالتفات إليها يوجب زيادة البصيرة لمن رام التحقيق في المعاملات المحرّمة.

قال الشيخ في النهاية: «باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة:

كلّ شي ء أباحه اللّه- تعالى- أو ندب إليه و رغّب فيه، فالاكتساب به و التصرّف فيه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 172

..........

______________________________

حلال جائز سائغ من صناعة و تجارة و غيرهما. و كلّ شي ء حرّمه اللّه- تعالى- و زهّد فيه فلا يجوز التكسّب به و لا التصرّف فيه على

حال.

فمن المحرّمات: الخمر. فالتصرّف فيها حرام على جميع الوجوه: من البيع و الشراء و الهبة و المعاوضة و الحمل لها و الصنعة لها و غير ذلك من أنواع التصرّف.

و من ذلك: لحم الخنزير فبيعه و هبته و أكله حرام و كذلك كلّ ما كان من الخنزير من شعر و جلد و شحم و غير ذلك.

و منها: عمل جميع أنواع الملاهي و التجارة فيها و التكسّب بها: مثل العيدان و الطنابير و غيرهما من أنواع الأباطيل محرّم محظور.

و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار حتّى لعب الصبيان بالجوز، فالتجارة فيها و التصرّف و التكسب بها حرام محظور.

و كلّ شراب مسكر حكمه حكم الخمر على السواء، قليلا كان أو كثيرا. و كذلك حكم الفقّاع حكمه. فإنّ شربه و عمله و التجارة فيه و التكسّب به حرام محظور. و كلّ طعام أو شراب حصل فيه شي ء من الأشربة المحظورة أو شي ء من المحظورات و النجاسات، فإنّ شربه و عمله و التجارة فيه و التكسّب به و التصرّف فيه حرام محظور.

و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما إلّا أبوال الإبل خاصّة فإنّه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة.

و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ لغير اللّه به و التصرّف فيه و التكسّب به حرام محظور.

و بيع سائر المسوخ و شراؤها و التجارة فيها و التكسّب بها محظور، مثل القردة و الفيلة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 173

..........

______________________________

و الدّببة و غيرها من أنواع المسوخ.

و الرشا في الأحكام سحت.

و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيا للصيد، فإنّه لا بأس ببيعه و شرائه و أكل ثمنه و التكسّب به.

و بيع جميع السباع و التصرّف فيها و التكسّب بها محظور إلّا الفهود خاصّة، فإنّه لا بأس بالتكسّب بها و التجارة فيها لأنّها تصلح للصيد. و لا بأس بشري الهرّ و بيعه و أكل ثمنه.

و بيع الجرّي و المارماهي و الطّافي و كلّ سمك لا يحلّ أكله، و كذلك الضفادع و السلاحف و جميع ما لا يحلّ أكله، حرام بيعه و التكسّب به و التصرّف فيه.

و معونة الظالمين و أخذ الأجرة على ذلك محرّم محظور.

و كلّ شي ء غشّ فيه فالتجارة فيه و التكسّب به بالبيع و الشراء و غير ذلك حرام محظور.

و تعليم ما حرّمه اللّه- تعالى- و تعلّمه و أخذ الأجرة على ذلك محظور في شريعة الإسلام. و معالجة الزينة للرجال بما حرّمه اللّه عليهم حرام.

و بيع السلاح لسائر الكفّار و أعداء الدين حرام. و كذلك عمله لهم و التكسّب بذلك و معونتهم على قتال المسلمين و أخذ الأجرة على ذلك حرام. و كسب المغنّيات و تعلّم الغناء حرام. و كسب النوائح بالأباطيل حرام. و لا بأس بذلك على أهل الدين بالحقّ من الكلام.

و أخذ الأجرة على غسل الأموات و حملهم و مواراتهم حرام، لأنّ ذلك فرض على الكفاية على أهل الإسلام. و أخذ الأجر على الأذان و الصلاة بالناس حرام.

و التكسّب بحفظ كتب الضلال و نسخه حرام محظور. و التكسّب بهجاء أهل الإيمان حرام. و لا بأس بهجاء أهل الضلال و أخذ الأجر على ذلك. و كسب الزانية و مهور البغايا محرّم محظور.

و تعلّم السحر و تعليمه و التكسّب به و أخذ الأجرة

عليه حرام محظور. و كذلك

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 174

..........

______________________________

التكسّب بالكهانة و القيافة و الشعبذة و غير ذلك محرّم محظور. و لا يجوز التصرّف في شي ء من جلود الميتة و لا التكسّب بها على حال ...» «1»

أقول: الظاهر أنّ المقصود بالحرام و المحرّم في كلامه هو الوضع، أعني فساد المعاملة، و لا أقل التكليف و الوضع معا كما لا يخفى. إذ لم يهمل في كلامه هذا حكم الوضع قطعا.

حكم المعاملة على الأعمال المحرّمة قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّ محلّ الكلام في المسائل الآتية إنّما هو في الأعيان المحرّمة كالخمر و الخنزير و نحوهما. و أمّا الأعمال المحرمة كالزنا و النميمة و الكذب و الغيبة و نحوها فيكفي في فساد المعاملة عليها الأدلّة الدالّة على تحريمها. إذ مقتضى وجوب الوفاء بالعقود وجوب الوفاء بالعقد الواقع عليها، و مقتضى أدلّة تحريمها وجوب صرف النفس عنها و إيقاف الحركة نحوها، فاجتماعهما في مرحلة الامتثال من المستحيلات العقليّة. و على أقل التقادير فإنّ أدلّة صحّة العقود و وجوب الوفاء بها مختصّة بحكم العرف بما إذا كان العمل سائغا في نفسه.

و ربّما يظهر من كلام شيخنا الأستاذ في حكم الأجرة على الواجبات أنّ الوجه في ذلك هو عدم كون الأعمال المحرّمة من الأموال أو عدم إمكان تسليمها شرعا. و بملاحظة ما تقدّم يظهر لك ما فيه، فإنّك قد عرفت أنّ صحة المعاملة عليها و وجوب الوفاء بها لا يجتمعان مع الحرمة النفسية سواء اعتبرنا الماليّة أو القدرة على التسليم في صحة العقد أم لم نعتبر شيئا من ذلك.» «2»

______________________________

(1) النهاية لشيخ الطائفة/ 363- 366.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 175

..........

______________________________

أقول:

إن أراد أنّ مورد بحث فقهائنا «ره» الأعيان المحرّمة لا الأعمال فهذا ممنوع، إذ النوع الرابع من المكاسب المحرّمة التي تعرّضوا لها هي الأعمال المحرّمة كالغناء و النوح بالباطل و نحوهما، فراجع. و إن أراد عدم احتياج حرمة الاكتساب بها إلى البحث و الاستدلال لوضوح حرمة المعاملة بها فله وجه. و لكن مع ذلك لا غنى فيها عن البحث.

إذ يمكن أن يتوهّم أحد أن مفاد أدلّة تحريمها هو التكليف، و مفاد دليل وجوب الوفاء هو الوضع أعني صحّة المعاملة. و لكون العقد عنوان طارئا فلعلّ اللازم تقديم حكمه على الأحكام الأوّليّة كما في سائر موارد تحكيم العناوين الثانويّة على العناوين الأوّليّة.

و مناقشته على ما استدلّ به أستاذه أيضا مدفوعة، إذ مضافا إلى حسن تكثير الدليل على الحكم إنّ ما استدلّ به أستاذه مقدّم بحسب الرتبة على ما استدلّ به، إذ البيع مبادلة مال بمال و مع فرض عدم الماليّة لشي ء و لو شرعا لا يبقى موضوع للمبادلة حتّى يبحث عن صحّتها أو فسادها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 176

[النوع الأوّل: الاكتساب بالأعيان النجسة و فيه مسائل ثمان:]

اشارة

الأولى: الاكتساب بالأعيان النجسة عدا ما استثني. و فيه مسائل ثمان: (1)

______________________________

الاكتساب بالأعيان النجسة

[بحث كليّ حول حرمة بيع النجس]
اشارة

(1) تعرّض فيها لحكم البول، و العذرة، و الدم، و المني، و الميتة، و الكلب، و الخمر، و الأعيان المتنجّسة غير القابلة للتطهير.

و ظاهره كظاهر كثير من فقهاء الفريقين أنّ لخصوصية كون الشي ء نجسا لا يقبل التطهير دخالة في منع الاكتساب به و إن فرض أنّ له منفعة محلّلة مقصودة عند العقلاء، و لذا عدّوا هذا النوع قسيما للنوع الثالث أعني ما لا منفعة له. فلعلّ الشرع المبين أراد بتشريعه هذا تطهير محيط التعيّش عن النجاسات لئلا يتلوّث بها مظاهر حياة الناس و تعيشهم.

و المصنّف و إن عقد لكلّ واحدة من النجاسات مسألة على حدة، لكنّ الأولى أن نبحث أوّلا بحثا جامعا عن حكم الاكتساب بالنجاسات تكليفا و وضعا ثم نخصّ كلّ واحدة منها ببحث يخصّها.

[التعرّض لبعض الكلمات من الفريقين]

و قبل الورود في البحث نتعرّض لبعض الكلمات من الفريقين:

1- قال المفيد في المقنعة: «و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ به لغير اللّه و كلّ

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 177

..........

______________________________

محرّم من الأشياء و نجس من الأعيان حرام، و أكل ثمنه حرام.» «1»

2- و قال الشيخ في النهاية بعد ذكر حرمة بيع الخمر و الخنزير و كلّ شراب مسكر:

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 177

«و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما، إلّا أبوال الإبل خاصّة، فإنّه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة. و بيع الميتة و الدّم و لحم الخنزير و ما أهّل لغير اللّه به و التصرّف

فيه و التكسب به حرام محظور.» «2»

أقول: لا يخفى أنّ في كلامه نحو اغتشاش، إذ موضوع بحثه النجاسات و لكن استثناء بول الإبل يشهد بأنّ المستثنى منه مطلق العذرات و الأبوال.

و الظاهر من أهل اللغة اختصاص العذرة بمدفوع الإنسان و هو الظاهر مما يأتي من المبسوط أيضا، و لكن ذكر لفظ الأنواع قرينة على إرادة الأعمّ و لو مجازا.

و هل المراد بالتصرف خصوص التصرفات الناقلة، أو يشمل الانتفاعات أيضا و لازمه عدم جواز الانتفاع بها و لو بصرفها في التسميد و هذا خلاف ما يأتي من المبسوط؟!

3- و في المبسوط: «و إن كان نجس العين مثل الكلب و الخنزير و الفأرة و الخمر و الدّم و ما توالد منهم و جميع المسوخ و ما توالد من ذلك أو من أحدهما فلا يجوز بيعه و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال إجماعا إلّا الكلب فإنّ فيه خلافا ... فأمّا نجس العين فلا يجوز بيعه كجلود الميتة قبل الدباغ و بعده و الخمر و الدّم و البول و العذرة و السّرقين مما لا يؤكل لحمه و لبن ما لا يؤكل لحمه من البهائم ...

______________________________

(1) المقنعة/ 589، باب المكاسب.

(2) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 178

..........

______________________________

و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب و الدم فإنّه لا يجوز بيعه و يجوز الانتفاع به في الزروع و الكروم و أصول الشجر بلا خلاف. يجوز بيع الزّيت النجس لمن يستصبح به تحت السّماء و لا يجوز إلّا لذلك.» «1»

أقول: ظاهره اختصاص العذرة بالإنسان، و يظهر منه أيضا نجاسة الفأرة و المسوخ و لبن

ما لا يؤكل لحمه، و المشهور خلاف ذلك.

4- و في المراسم لم يذكر عنوان النجس و لكنّه سرد الأعيان النجسة فيما لا يجوز بيعه فقال: «و بيع المسكرات من الأشربة و الفقاع ... و الأدوية الممزوجة بالخمر و التصرف في الميتة و لحم الخنزير و شحمه و الدّم و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «2»

5- و في بيع الغنية بعد ما قيّد المعقود عليه بكونه منتفعا به منفعة مباحة قال:

«و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرّزا مما لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها. و قيّدنا بكونها مباحة تحفّظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السّماء، و هو إجماع الطائفة.» «3»

أقول: يظهر منه أنّ النجاسة ليست مانعة بنفسها و إنّما يمنع من بيع النجس لعدم كونه ذا منفعة مباحة فلا يشمل ما إذا اشتمل عليها كالتسميد و نحوه.

______________________________

(1) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصح.

(2) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 179

..........

______________________________

6- و في الشرائع قسّم المحرّم مما يكتسب به إلى خمسة أنواع فقال: «الأوّل: الأعيان النجسة كالخمر و الأنبذة و الفقاع و كل مائع نجس عدا الأدهان لفائدة الاستصباح بها تحت السّماء، و الميتة و الدّم و أرواث و أبوال ما لا يؤكل لحمه ... و الخنزير و جميع أجزائه و جلد الكلب و ما يكون منه.» «1» و راجع

المختصر النافع أيضا «2».

7- و ذيّله في المسالك بقوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه. و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «3»

8- و في الجواهر: «و كيف كان فلا خلاف يعتدّ به في حرمة التكسب في الأعيان النجسة التي لا تقبل الطهارة بغير الاستحالة.» «4»

9- و قال العلامة في القواعد في بيان أنواع المتاجر المحظورة: «الأوّل: كلّ نجس لا يقبل التطهير سواء كانت نجاسته ذاتيّة كالخمر و النبيذ و الفقاع و الميتة و الدّم و أبوال ما لا يؤكل لحمه و أرواثها و الكلب و الخنزير و أجزائهما، أو عرضية كالمائعات النجسة التي لا تقبل التطهير إلّا الدهن النجس لفائدة الاستصباح تحت السّماء خاصّة. و لو كانت نجاسة الدهن ذاتية كالألية المقطوعة من الميتة أو الحيّة لم يجز الاستصباح به و لا تحت السّماء.» «5»

______________________________

(1) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(2) المختصر النافع/ 116 (الجزء 1)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(3) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(4) الجواهر 22/ 8، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(5) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 180

..........

______________________________

10- و في التذكرة: «مسألة: يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية، فلا تضرّ النجاسة العارضة مع قبول التطهير. و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا لقوله- تعالى-: فَاجْتَنبُوهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. و الأعيان لا يصحّ تحريمها. و أقرب مجاز إليها جميع وجوه الانتفاع، و أعظمها البيع فكان حراما. و لقول جابر: سمعت رسول اللّه

«ص» و هو بمكة يقول: إن اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» «1»

11- و راجع في هذا المجال المنتهى أيضا و فيه: «و قد احتجّ العلماء كافّة على تحريم بيع الميتة و الخمر و الخنزير بالنصّ و الإجماع.» «2»

12- و في متن الفقه على المذاهب الأربعة: «و من البيوع الباطلة بيع النجس أو المتنجّس على تفصيل في المذاهب.»

و ذيّل ذلك بقوله: «المالكية قالوا: لا يصحّ بيع النجس كعظم الميتة و جلدها و لو دبغ لأنّه لا يطهر بالدبغ، و كالخمر و كالخنزير و زبل ما لا يؤكل لحمه، سواء كان أكله محرّما كالخيل و البغال و الحمير، أو مكروها كالسّبع و الضبع و الثعلب و الذئب و الهرّ، فإنّ فضلات هذه الحيوانات و نحوها لا يصحّ بيعها. و كذلك لا يصحّ بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كزيت و عسل و سمن وقعت فيه نجاسة على المشهور، فإنّ الزيت لا يطهر بالغسل ...

الحنابلة قالوا: لا يصحّ بيع النجس كالخمر و الخنزير و الدم و الزبل النجس، أمّا الطاهر

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع. و الآيتان من سورة المائدة (5)، رقمهما 90 و 3.

(2) المنتهى 2/ 1008، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 181

..........

______________________________

فإنّه يصحّ كروث الحمام و بهيمة الأنعام، و لا يصحّ بيع الميتة و لا بيع شي ء منها و لو لمضطرّ إلّا السمك و الجراد و نحوهما، و لا يصحّ بيع دهن نجس العين كدهن الميتة، كما لا يصحّ الانتفاع به في أيّ شي ء من الأشياء. أمّا الدهن الذي سقطت فيه نجاسة فإنّه لا يحلّ بيعه

و لكن يحلّ الانتفاع به في الاستضاءة في غير المسجد ...

الشافعية قالوا: لا يصحّ بيع كلّ نجس كالخنزير و الخمر و الزبل و الكلب و لو كان كلب صيد ...

الحنفية قالوا: لا يصحّ بيع الخمر و الخنزير و الدّم، فإذا باع خمرا أو خنزيرا كان البيع باطلا ... و كذلك لا ينعقد بيع الميتة كالمنخنقة و الموقوذة و المتردّية و نحوها كما لا يحلّ بيع جلدها قبل الدبغ أمّا بعد الدبغ فإنّه يصحّ لأنّه يطهر بالدبغ ما عدا جلد الخنزير فإنّه لا يطهر بالدبغ ...» «1»

أقول: يظهر من كلامهم أنّ محطّ النظر الوضع، أعني صحّة المعاملة أو فسادها لا الحرمة التكليفية، و أنّ الملاك لعدم الصحة عنوان النجاسة.

13- و في المهذّب لأبي إسحاق الشيرازي في فقه الشافعية: «الأعيان ضربان: نجس و طاهر. فأمّا النجس فعلى ضربين: نجس في نفسه و نجس بملاقاة النجاسة. فأمّا النجس في نفسه فلا يجوز بيعه، و ذلك مثل الكلب و الخنزير و الخمر و السرجين و ما أشبه ذلك من النجاسات. و الأصل فيه ما روى جابر- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه- تعالى- حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» و روى أبو مسعود البدري و أبو هريرة أنّ رسول اللّه «ص» نهى عن ثمن الكلب. فنصّ على الكلب و الخنزير و الخمر

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 182

..........

______________________________

و الميتة و قسنا عليها سائر الأعيان النجسة.» «1»

أقول: حديث جابر مرّ منّا عن أبي داود «2» في ذيل الرواية الرابعة من الروايات الأربع التي رواها الشيخ و يأتي أيضا.

[ما يظهر من كلمات فقهاء الفريقين]

و بالجملة يظهر من كلمات هؤلاء الأعلام من فقهاء الفريقين- سوى عبارة الغنية- أنّ النجاسة عندهم مانعة بنفسها عن صحّة المعاملة و أنّها موضوع مستقل للمنع و إن فرض في البين منفعة محلّلة عقلائية، و لذا ذكروها عنوانا مستقلا في قبال ما لا ينتفع به.

نعم ظاهر عبارة الغنية كما مرّ أنّ المنع مستند إلى عدم كون النجس ذا منفعة مباحة.

و يظهر هذا من التنقيح و الإيضاح «3» أيضا كما يأتي.

و الظاهر من أبي إسحاق أنّه لم يكن عند فقهاء السنّة نصّ بهذا العنوان، و إنّما المذكور في النصّ عندهم بيع الخمر و الخنزير و ثمن الكلب، فقاسوا عليها سائر النجاسات، و ظاهرهم حمل الحرمة و النهي الواردين في الحديثين على الحرمة الوضعية أعني بطلان المعاملة.

و من المحتمل أنّ فقهاءنا أيضا وقفوا على النواهي الواردة في الموارد الخاصّة كالكلب و الخمر و الميتة و العذرة فالتقطوا منها عنوانا جامعا بإلغاء الخصوصية و تنقيح المناط القطعي. و من المظنون أنّ نظرهم أيضا كان إلى الحكم الوضعي لا التكليف المحض. هذا.

و لكن مع ذلك كلّه يشكل رفع اليد عن دعاوي الإجماع في المبسوط و التذكرة

______________________________

(1) المهذّب 9/ 225، المطبوع مع شرحه «المجموع» للنووي.

(2) راجع سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

(3) راجع ص 212 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 183

..........

______________________________

و المنتهى و غيرها، و عن ظاهر عباراتهم في الكتب المعدّة لنقل خصوص المسائل المأثورة عن الأئمة «ع» كالمقنعة و النهاية و الغنية بسهولة بمجرد الاحتمال المذكور.

و كان الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- يقسم مسائل الفقه إلى قسمين:

مسائل أصلية تلقّاها الأصحاب يدا بيد عن الأئمة «ع» و كانوا

يهتمّون فيها بحفظ التعبيرات الواصلة أيضا. و مسائل تفريعية استنبطها فقهاؤنا- رضوان اللّه عليهم- من كلّيات تلك المسائل بإعمال النظر و الاجتهاد.

فالقسم الأوّل بمنزلة متون الروايات المأثورة، و لعلّها كانت مذكورة في كتب الحديث أيضا و لكن لم يصل إلينا بعضها، فتكون الشهرة في هذه المسائل أيضا حجة فضلا عن الإجماع، إذ على فرض ضعف أسانيدها تكون الشهرة جابرة لها.

و القسم الثانى منها لا يفيد فيها الإجماع فضلا عن الشهرة لحصولها بإعمال نظر الأشخاص و اجتهادهم، فوزانها وزان المسائل العقلية التي لا مجال لادّعاء الإجماع فيها.

و الشيخ الطوسي «ره» على ما نصّ عليه في أوّل المبسوط عمل كتاب النهاية لذكر خصوص المسائل الأصلية المأثورة و كتاب المبسوط لذكر جميع المسائل: أصلية كانت أو فرعية، فراجع أوّل المبسوط تقف على تفصيل ذلك.

و مثل النهاية في ذلك مقنعة المفيد و مراسم سلار و المقنع و الهداية للصدوق و الكافي لأبي الصلاح الحلبي و المهذّب لابن البراج.

و على هذا فتعرّض النهاية و المقنعة لعنوان النجاسة في المقام و جعلها مانعا مستقلا أمر يجب الاهتمام به و التوجيه له. و تبعهما في ذلك المحقق و العلامة و غيرهما كما مرّ بعض كلماتهم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 184

..........

______________________________

نعم لم يتعرّض الصدوق في المقنع و الهداية لعنوان النجاسة في المقام، بل ذكر في المقنع خصوص الكلب و بيع الخمر في بابين منه «1». و لم أجد العنوان في المهذّب أيضا.

فهذا ربما يوهن دعوى الإجماع المذكور. هذا.

و قد عرفت أنّ الظاهر كون محطّ نظر الفقهاء في هذا الباب هو بيان الحكم الوضعي أعني بطلان المعاملة.

و التعبير بلفظ الحرمة لا ينافي ذلك لكونها أعم في لسان الكتاب و السنّة و القدماء

من أصحابنا كما مرّ «2».

و لكنّ الأستاذ الإمام «ره» جعل المهمّ في المقام البحث عن الحرمة التكليفية، بمعنى أنّ إيقاع المعاملة عليها محرّم و إن لم يترتب عليها المسبّب و أطال البحث في الاستدلال لها و المناقشة فيها.

ثم تعرّض لجهة أخرى و قال: هي أيضا مهمّة أصيلة في المقام، و هي أنّ الأثمان المأخوذة في مقابل الأعيان النجسة هل هي محرّمة بعنوان ثمن النجس أو الحرام أو ثمن الخمر و الخنزير و غيرهما أم لا؟ و قال: إنّ هذا غير حرمة التصرّف في مال الغير. و استدلّ لذلك ببعض الروايات المتعرضة لحكم أثمان الأعيان المحرّمة ثم قال: «الظاهر استفادة جهة أخرى من تلك الروايات غير أصيلة في البحث عنها في المقام، و هي بطلان المعاملة، لأن تحريم الثمن لا يجتمع عرفا مع الصحة و إيجاب الوفاء بالعقود، فلازمه العرفي بطلانها و إن كان الثمن بعنوانه محرّما، مضافا إلى الإجماع على البطلان ...» «3»

______________________________

(1) راجع الجوامع الفقهية ص 30 و 37، بابى المكاسب و شرب الخمر من المقنع.

(2) راجع ص 64، 86. و راجع أيضا ص 196.

(3) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 15.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 185

..........

______________________________

أقول: جعله «ره» البحث عن حرمة المعاملة و كذا حرمة الثمن تكليفا أصيلا و مهمّا، و البحث عن فساد المعاملة غير أصيل خلاف ما مرّ منّا من أنّ محطّ نظر الفقهاء في المقام بيان الحكم الوضعي و إن عبّروا عن ذلك بلفظ الحرمة.

نعم في بعض المعاملات الفاسدة نلتزم بالحرمة التكليفية أيضا كما في بيع الخمر و المعاملات الربوية، لوضوح أنّ اللعن و التأكيدات الواردة في أخبارها تدلّ على مبغوضية أشدّ من مبغوضيّة أكل مال الغير.

و أمّا

حرمة الثمن المذكورة في الروايات فالظاهر كونها كناية عن فساد المعاملة و كون المال مال الغير، و إلّا فلا وجه لحرمته بذاته بعد فساد المعاملة و عدم كونه ثمنا حقيقة، إلّا أن يقال: إنّ أخذه مع التوجّه إلى فساد المعاملة يكون مظهرا للتشريع فيكون حرمته بلحاظ مبرزيّته للتشريع المبغوض شرعا، فتأمّل.

[ما يمكن أن يستدلّ بها للمنع عن بيع النجس تكليفا أو وضعا]
اشارة

إذا عرفت هذا فلنتعرّض لما يمكن أن يستدلّ بها للمنع عن بيع النجس تكليفا أو وضعا مشيرا إلى كلمات الأعلام و ما هو الحق في المقام:

[الأوّل: أصالة الفساد في موارد الشك في صحّة المعاملة]

الأوّل: أصل الفساد الجاري في جميع موارد الشك في صحّة المعاملة. و إن شئت قلت:

استصحاب عدم ترتّب الأثر.

و فيه: أنّ الأصل محكوم بما دلّ على صحّة العقود و الشروط و التجارة عن تراض و عناوين المعاملات الخاصّة من البيع و الإجارة و الصلح و نحو ذلك، سواء كان عموما أو إطلاقا شرعيّا أو استقرار سيرة العقلاء في جميع الأعصار، فكلّ ما تمسّكت به في سائر موارد المعاملة نتمسّك به في المقام أيضا. اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التمسّك بعموم العقود و إطلاقها إنّما يصحّ فيما إذا شكّ في اشتراط شي ء في صحّة العقد لا في قابلية المحلّ

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 186

..........

______________________________

كما في المقام، و لكنّ الظاهر بطلان هذا القول بعد تحقق المالية العرفية.

الثاني: الإجماع

المدّعى في كلام الشيخ و العلامة و غيرهما كما مرّ و الشهرة المحققة في كلمات الأصحاب. و الظاهر أنّ النظر فيهما إلى الوضع أو التكليف و الوضع معا.

و هذا الدليل هو العمدة في المقام إن ثبت.

و فيه: أنّ كون الإجماع أو الشهرة في المقام بنحو يكشف كشفا قطعيا عن قول المعصوم «ع» قابل للمناقشة كما عرفت. لعدم تعرّض بعض القدماء كالصدوق في كتابيه إلّا لبعض المصاديق كالكلب و الخمر في بابين من المقنع «1». و لاحتمال أن المتعرضين للعنوان الكلي التقطوه من الموارد الخاصّة المذكورة في الروايات بإلغاء الخصوصيّة أو استندوا فيه إلى رواية تحف العقول التي يأتي المناقشة فيها.

و يظهر من عبارة الغنية كما مرّ أنّ علّة المنع هي التحفّظ من المنافع المحرّمة.

و المقنعة و النهاية و نحوهما من كتب القدماء ملاء من تعبيرات و تقسيمات و ذكر أقوال و احتمالات في كثير من المسائل نقطع بعدم

صدورها بهذا النحو عن الأئمة «ع».

و بالجملة يوجد فيها كثيرا إعمال اجتهادات و صناعات فقهية. فالعلم بصدور عنوان النجس بإطلاقه موضوعا مستقلا لعدم جواز المعاملة من طريق عبارات هذه الكتب مشكل جدّا، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

و في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أن إثبات الإجماع التعبّدي هنا مشكل للاطمينان بل العلم بأنّ مستند المجمعين إنما هو الروايات العامّة أو الخاصّة المذكورة في بيع الأعيان النجسة و الحكم بحرمة الانتفاع بها.» «2»

______________________________

(1) راجع الجوامع الفقهية ص 30 و 37، بابى المكاسب و شرب الخمر من المقنع.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 33.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 187

..........

______________________________

أقول: حصول العلم أو الاطمينان ممنوع، و لكن يكفي الاحتمال في إبطال الاستدلال كما عرفت.

الثالث: قوله- تعالى- في سورة المائدة:

يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رجْسٌ منْ عَمَل الشَّيْطٰان فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ. «1»

و قد مرّ في عبارة التذكرة الاستدلال به. و تقريبه أنّ وجوب الاجتناب في الآية متفرع على الرجس فيدل على علّية الرجس لذلك و مقتضاها وجوب الاجتناب عن كل رجس، و إطلاقه يقتضي وجوب الاجتناب عن جميع التقلّبات فيه و منها البيع و الشراء.

و أجاب عنه الأستاذ الإمام «ره» في المكاسب بما محصّله: «أوّلا: أنّ وجوب الاجتناب ليس متفرعا على الرجس بإطلاقه بل على الرجس الذي يكون من عمل الشيطان، فمع الشك في كون البيع و الشراء من عمله لا يمكن التمسك بالآية لوجوب الاجتناب عنهما.

و ثانيا: أنّ نفس الخمر من الأعيان الخارجية فليست من عمله فلا بدّ من تقدير و لعلّه خصوص الشرب لا مطلق التقلّبات. إلّا أن يقال: إنّ التقدير أمر مستهجن و إنّما جعل الخمر من عمله ادّعاء، و المصحّح له كون

جميع تقلّباتها من عمله.

و ثالثا: أنّ الرجس مطلقا أو في الآية لا يراد به النجس المصطلح إذ حمله على المسير و الأنصاب و الأزلام يقتضي حمله على معنى آخر غير النجاسة المصطلحة.» «2»

أقول: يمكن أن يناقش الجواب الأوّل بأنّ الظاهر من قوله: منْ عَمَل الشَّيْطٰان

______________________________

(1) سورة المائدة (5)، الآية 90.

(2) المكاسب المحرمة 1/ 12.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 188

..........

______________________________

كونه خبرا ثانيا لا قيدا للرجس، فيكون كل منهما مقتضيا لوجوب الاجتناب. و لا نحتاج إلى إثبات كون البيع و الشراء من عمل الشيطان و ليس بناء الاستدلال على ذلك، بل على دخولهما في وجوب الاجتناب عن جميع التقلّبات المستفاد من الإطلاق.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ كون: منْ عَمَل الشَّيْطٰان خبرا مستقلا لا ينافي كون وجوب الاجتناب حكما لمجموع الخبرين لا لخصوص الرجسية، و كون جميع النجاسات من عمل الشيطان غير معلوم.

و يناقش الجواب الثالث بأنّ الظاهر كون الرجس في الآية أعمّ من النجس المصطلح و إذا اقتضى الأعمّ وجوب الاجتناب فالأخصّ يقتضي ذلك في ضمنه، اللّهم إلّا أن ينكر الأعمّية لاحتمال كون النسبة بنحو العموم من وجه، فتدبّر.

و الأولى في جواب الاستدلال بالآية أن يقال: إنّ المتبادر من اجتناب الشي ء عدم ترتيب الآثار التي كانوا يترقبونها منه و يرتّبونها عليه في تلك الأعصار كالشرب مثلا في الخمر لا جميع التقلبات. هذا.

و لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الاجتناب عن جميع التقلبات فمقتضى ذلك فساد المعاملة عليه قهرا، إذ الأمر بالاجتناب عنها نظير النهي عنها و ظاهره الإرشاد إلى فسادها.

الرابع: قوله- تعالى- في سورة المدّثر:

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «1» بتقريب أنّ الرجز بمعنى الرجس، و الهجر المطلق يحصل بهجر جميع التقلبات.

و فيه: أنّ كون الرجز بمعنى النجس المصطلح عليه غير

واضح و لم يفسّروه بذلك. و لو

______________________________

(1) سورة المدّثر (74)، الآية 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 189

..........

______________________________

سلّم فلعلّ المراد بهجره هجره في الصلاة أو في الأكل و الشرب و نحوهما، كما هو المحتمل أيضا في قوله: وَ ثيٰابَكَ فَطَهِّرْ. «1» فيكون من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ، فلا دلالة له على منع المعاملة عليه. و يحتمل اختصاص الحكم بالنبي «ص» بقرينة السياق، فتأمّل.

و في التبيان: «قال الحسن: كل معصية رجز. و قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و الزهري: معناه فاهجر الأصنام. و قال إبراهيم و الضحاك: الرجز: الإثم. و قال الكسائي:

الرجز بكسر الراء: العذاب، و بفتحها: الصنم و الوثن. و قالوا: المعنى اهجر ما يؤدّي إلى العذاب. و لم يفرّق أحد بينهما.» «2»

و روى في المجمع «3» عن المفسّرين تفسير الرجز بالأصنام و الأوثان و العذاب و المعاصي و الفعل القبيح و الخلق الذميم و حبّ الدنيا، و لم يرو عنهم تفسيره بالنجس.

و في تفسير علي بن إبراهيم القمي تفسيره بالخسي ء الخبيث «4». و معنى الخسي ء:

الردي ء.

و في الدّر المنثور روى روايات كثيرة عن الصحابة و التابعين في معناه قريبا مما ذكر.

و روى عن جابر «رض» قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: و الرجز فاهجر- برفع الراء- و قال: هي الأوثان «5».

______________________________

(1) سورة المدّثّر (74)، الآية 4.

(2) التبيان 2/ 724.

(3) مجمع البيان 5/ 385 (الجزء 10 من التفسير).

(4) تفسير القمّى/ 702 (ط. الحجرية، سنة 1313 ه. ق). و ليست في طبعته الحديثة 2/ 393 لفظة «الخسى ء».

(5) راجع الدرّ المنثور 6/ 281.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 190

..........

______________________________

و في مفردات الراغب- بعد ذكر آيات الرجز بالكسر الظاهرة في إرادة العذاب- ذكر

هذه الآية و قال: «قيل: هو صنم. و قيل: هو كناية عن الذنب فسمّاه بالمآل كتسمية الندى شحما.» «1» فيظهر منه تفسير اللفظين بالعذاب.

و كيف كان فلم يثبت كون الرجز بمعنى النجس المصطلح عليه.

الخامس: قوله- تعالى- في سورة الأعراف:

وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ. «2»

بتقريب أنّ النجس من أظهر مصاديق الخبائث و أنّ تحريمها يشمل تحريم بيعها أيضا.

أقول: الخبائث في الآية بأيّ معنى كانت لا يدلّ تحريمها على تحريم المعاملات الواقعة عليها، إذ على فرض كون المراد بالخبائث الأعيان الخبيثة و كون النجاسات منها فالظاهر من تحريم الأعيان تحريم الانتفاعات و الآثار الأوليّة المناسبة لها لا تحريم النقل و الانتقال الحقيقيين فضلا عن الاعتباريين. و سيأتي البحث في الآية في مسألة بيع الأبوال الطاهرة فانتظر.

السادس: قوله- تعالى- في سورة النساء:

يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل إلّٰا أَنْ تَكُونَ تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ منْكُمْ. «3»

بتقريب أنّ المراد بالباطل ما حكم العرف أو الشرع بكونه باطلا. و النهي إرشاد إلى الفساد، فكما لا تصحّ المعاملة على مالا ماليّة له عرفا و يكون باطلا عندهم لا تصحّ أيضا على ما ألقى الشارع ماليّته كالخمر مثلا.

______________________________

(1) المفردات/ 193.

(2) سورة الأعراف (7)، الآية 157.

(3) سورة النساء (4)، الآية 29.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 191

..........

______________________________

و فيه:- مضافا إلى عدم جريان هذا التقريب فيما إذا كان للنجس منفعة محلّلة مقصودة توجب ماليّته كالتسميد مثلا- أنّ الباء في قوله: بالْبٰاطل يحتمل فيها أمران:

الأوّل: أن تكون للسببية فيراد النهي عن تملك الأموال بالأسباب الباطلة كالقمار و السرقة و نحوهما.

الثاني: أن تكون للمقابلة نظير ما تدخل في المعاوضات على ما يجعل ثمنا.

و الظاهر في الآية هو الأوّل بقرينة استثناء التجارة عن تراض حيث إنّها من الأسباب المملّكة. فالنظر في الآية الشريفة إلى الأسباب و الطرق المملّكة لا إلى جنس الثمن أو المثمن و أنّهما باطلان أم لا. و إن شئت التفصيل فراجع ما حرّرناه سابقا في تفسير الآية «1».

السابع: حرمة الأعيان النجسة و نجاستها و عدم الانتفاع بها

منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء. و قد استدل بذلك المصنّف لحرمة المعاوضة على بول غير مأكول اللحم كما يأتي.

و ناقشه في مصباح الفقاهة بأنّه خلط بين الحرمة التكليفية و الوضعية، إذ الأوّلان دليلان على الحرمة التكليفية و الثالث دليل على الحرمة الوضعية أعني فساد المعاملة «2».

أقول: لم يظهر لي وجه هذه المناقشة. و كيف يكون نجاسة الشي ء أو حرمته دليلا على حرمة بيعه تكليفا دون فساده؟! و لعلّ الاستدلال بالحرمة و النجاسة لبيان تحقق

______________________________

(1) راجع ص 14 من الكتاب.

(2) راجع مصباح

الفقاهة 1/ 32.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 192

..........

______________________________

موضوع الروايات العامّة، كرواية تحف العقول حيث ذكر فيها حرمة المعاملة على المنهي عنه و وجوه النجس و نحن حملناها على الوضع. أو أنّهما ذكرتا مقدّمة لبيان عدم الانتفاع بها منفعة محلّلة، فالأمور الثلاثة في هذا الدليل ترجع إلى أمر واحد و هو خروج الشي ء عن كونه مالا، إذ الممنوع شرعا كالممتنع عادة و عقلا فلا يتحقق فيه البيع المعرّف بمبادلة مال بمال.

و كيف كان فيرد على الاستدلال بالحرمة ما أورده في مصباح الفقاهة و محصّله: «أنّه إن أراد منها حرمة الأكل و الشرب فالكبرى ممنوعة لعدم الدليل على أنّ كلّ ما يحرم أكله و شربه يحرم بيعه. و لو فرض ما يدلّ على ذلك وجب تخصيص أكثر أفراده و هذا مستهجن يوجب سقوط الدليل عن الحجية.

و إن أراد منها حرمة جميع منافعه فالصغرى ممنوعة لعدم الدليل على حرمة جميع منافع الأعيان النجسة.» «1»

و يرد على الاستدلال بالنجاسة: أنّه استدلال بنفس المدّعى، و ليس لنا ما يدلّ على حرمة بيع النجس بإطلاقه إلّا رواية تحف العقول، و يأتي البحث فيها.

و أمّا الروايات الواردة في الموارد الخاصّة كالخمر و الميتة و الخنزير و نحوها فيقرب إلى الذهن أنّ النهي عنها كان بلحاظ أنّ المعاملة عليها في تلك الأعصار كان بداعي الأكل و الشرب و سائر الانتفاعات المحرّمة. فينصرف جدّا عن مثل شراء الخمر للتخليل أو التطيين مثلا أو الدم للتزريق بالمريض و العذرة و نحوها للتسميد.

و أمّا عدم الانتفاع بها منفعة محلّلة الموجب لخروجها عن المالية فأورد عليه في

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 33.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 193

..........

______________________________

مصباح الفقاهة بما محصّله:

«أوّلا: أنّه لا دليل

على اعتبار المالية في البيع و إنّما المناط صدق عنوان المعاوضة عليه.

و ما عن المصباح من أنّه مبادلة مال بمال لا دليل عليه لعدم حجيّة قوله.

و ثانيا: أنّ المالية تختلف بحسب الأزمنة و الأمكنة، فلعلّها كانت في زمان صدور الروايات بلا منفعة محلّلة عقلائية و لكنها في أعصارنا و في البلاد الواجدة للمصانع الحديثة تستخرج منها الأدوية و الغازات و الموادّ النافعة الموجبة للرغبة فيها و أداء المال بإزائها. و القول بأن الشارع ألغى ماليتها مطلقا بتحريم جميع منافعها أوّل الكلام.

و ثالثا: يكفي في صحّة البيع كون المبيع مالا بنظر المتبايعين و لا يلزم كونه مالا بنظر جميع العقلاء.

و رابعا: أنّه على فرض عدم المالية فغاية ما يلزم كون المعاملة سفهية و لا دليل على بطلانها بعد إطلاق أدلّة البيع. و ما هو الفاسد معاملة السفيه لكونه محجورا عليه شرعا لا المعاملة السفهية. هذا مضافا إلى صحّة المعاملة عليها بمقتضى آية التجارة و إن لم يصدق عليه البيع.» «1»

أقول: بعض ما ذكره «ره» لا يخلو من مناقشة، إذ لا يكفي صدق مفهوم المعاوضة لغة بل يجب أن تكون بحيث يعتبرها العقلاء، و هم لا يصحّحون إلّا مالها دخل في رفع الحاجات و إدارة الحياة، و لا محالة يصير لكلّ من العوضين حينئذ قيمة و مالية و لو في شرائط خاصّة و تخرج المعاوضة عن كونها سفهية، و أمّا مع كونها سفهيّة بنحو الإطلاق فلا يقبلها العقل و لا الشرع و ينصرف عنها إطلاق الأدلّة قطعا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 34.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 194

الثامن من الأدلّة: رواية تحف العقول الماضية

______________________________

عن الصادق «ع»، حيث قال: «و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد مما

هو منهي عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا لما في ذلك من الفساد. أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شي ء من وجوه النجس فهذا كلّه حرام و محرّم، لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد، فجميع تقلّبه في ذلك حرام.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ الرواية مع إرسالها و تفرّد تحف العقول بنقلها و خلوّ جوامع الحديث عنها بالكلّية، مضطربة المتن مشتملة على التطويل و التكرار و التهافت في بعض الفقرات بحيث يطمئن الناقد البصير بعدم كون الألفاظ و التعبيرات بعينها للإمام «ع» و أنّ الراوي لم يكن يحسن الضبط، و مثل هذه لا تصلح لأن تكون دليلا للحكم الشرعي، و لم يثبت أيضا اعتماد المشهور عليها حتى يجبر بذلك ضعفها بل الظاهر عدم ذلك لعدم وجود إيماء إلى ذلك في مؤلّفاتهم. و قد مرّ شرح الرواية بالتفصيل عند نقلها بتمامها، فراجع «2».

هذا مضافا إلى التعليل في المقام بقوله: «لما فيه من الفساد». و الظاهر منه الفساد الظاهر للعقلاء و المتشرّعة، إذ التعليل لا يحسن إلّا بأمر ظاهر واضح. و على هذا فينصرف النهي فيها إلى النجاسات التي كانت تعامل عليها لأجل الانتفاعات المحرّمة الفاسدة على ما كان متعارفا في تلك الأعصار. و لا يشمل بيعها للانتفاعات المحلّلة العقلائية النافعة

______________________________

(1) تحف العقول/ 333.

(2) راجع ص 69 و ما بعدها

من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 195

..........

______________________________

لصلاح المجتمع. و قد صرّح في آخر الرواية بالنسبة إلى الصناعات المشتملة على الصلاح و الفساد معا بحلّية تصريفها إلى جهات الصلاح و جواز تعليمها و تعلّمها لذلك و حرمة تصريفها إلى جهات الفساد و المضارّ، فيمكن أن يستشعر من ذلك حكم المعاملة أيضا و أنّ المعاملة على ذي الجهتين تحرم بلحاظ منافعه المحرّمة و تصحّ بلحاظ منافعه المحلّلة، إذ الظاهر أنّ هذا السنخ من الأحكام ليست بداعي التعبّد المحض بل بلحاظ المصالح و المفاسد المترتبة على موضوعاتها، فتدبّر.

و يظهر من الأستاذ الإمام «ره» أنّ مفاد رواية تحف العقول الحرمة التكليفية لا الوضعية.

قال في المكاسب بعد ذكر الرواية: «و حمل الحرام على الوضعي بدعوى عدم ظهوره في التكليفي سيّما في زمان الصدور، غير صحيح كما يتّضح بالنظر إلى فقرات الرواية، سيما مع ذكر اللبس و الإمساك و سائر التقلّبات فيها. فقوله: جميع التقلب في ذلك حرام نتيجة لما تقدّم. فكأنّه قال: كما أنّ الأكل و الشرب و اللبس و غيرها حرام، كذلك سائر التقلّبات كالبيع و الشراء و الصلح و العارية و غيرها أيضا حرام، فهي كالنصّ في الحرمة التكليفية.» «1»

و هكذا صنع في مصباح الفقاهة أيضا فقال: «إنّ ظاهر الرواية هو حرمة بيع الأمور المذكورة تحريما تكليفيا. و يدلّ على ذلك من الرواية قوله «ع»: «فهو حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته و التقلب فيه.» فإنّ الإمساك و التقلّب يشمل جميع أنواع التصرّف حتّى الخارجي منه و لا معنى لحرمته وضعا. و الفقهاء «رض» لم يلتزموا في أكثر المذكورات بذلك و إنّما ذهبوا إلى الحرمة الوضعية.» «2»

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/

6.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 196

..........

______________________________

أقول: قد مرّ منّا في الجهة الثالثة حول الرواية و في بعض المباحث الأخر: أنّ استعمال الحلّ و الحرمة في خصوص التكليف و تبادره منهما إنما حدث في ألسنة المتشرّعة و المتأخرين من الفقهاء.

و أمّا في الكتاب و السنّة و ألسنة القدماء من فقهائنا فكانا يستعملان في كلّ من التكليف و الوضع و في الجامع بينهما و يتعيّن كل منهما بحسب القرائن و الموضوعات.

فكان يراد بحلّية الشي ء إطلاقه و عدم المنع و المحدوديّة بالنسبة إليه من قبل الشارع، و بحرمته المنع و المحدوديّة. و إطلاق كل شي ء و محدوديّته يلاحظان بحسب ما يترقّب منه و يناسبه، فالمناسب للأفعال التكليف، و للعقود و الإيقاعات مثلا التي تنشأ بداعي ترتّب الآثار هو الوضع أعني صحّتها أو فسادها:

قال اللّه- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا. «1»

و في صحيحة محمد بن عبد الجبّار: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض.» «2»

و ليس استعمال اللفظين في التكليف و الوضع معا من قبيل استعمال اللفظ في معنيين حتى يتحاشى منه بل في الجامع بينهما. و لأجل ذلك أردف في الرواية موضوعات التكليف و الوضع معا و سردها بسياق واحد. فالمناسب لمثل الأكل و الشرب و الإمساك هو التكليف، و للبيع و الهبة و نحوهما هو الوضع، و الظاهر من جميع التقلب بقرينة عطفه على هبته و عاريته التقلّبات المعامليّة لا الخارجية. و على هذا فظهور الرواية في فساد المعاملة على النجس و نحوه واضح. و أمّا الحكم بحرمتها تكليفا فيحتاج إلى عناية زائدة

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

(2) الوسائل 3/ 267، الباب 11 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

دراسات

في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 197

..........

______________________________

و دليل آخر، كما التزمنا بذلك في مثل بيع الخمر بلحاظ التأكيدات الواردة بالنسبة إليه نظير التأكيدات الواردة بالنسبة إلى الربا. و نظير عنواني الحلّ و الحرمة فيما ذكرنا عناوين الجواز و الرخصة و المنع، بل مطلق الأمر و النهي مادّة و صيغة. و بذلك يظهر وجه الاستدلال للحكم الوضعي أعني البطلان بالروايات التالية، فتدبّر.

التاسع: ما مرّ عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد «ع» أنّه قال:

«الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك مما هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به. و ما كان محرما أصله منهيا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» «1»

بتقريب أنّ الأعيان النجسة تكون محرّمة منهيا عنها فلم يجز بيعها و لا شراؤها.

و المراد بعدم الجواز هو الفساد كما مرّ.

و فيه- مضافا إلى إرسال الرواية و عدم ثبوت حجية دعائم الإسلام و رواياته كما مرّ- أنّ الظاهر من قوله: «و ما كان محرما أصله منهيا عنه» كونه متمحضا في الحرمة و الفساد بحيث لا يوجد له منفعة محلّلة أصلا و إلّا لزم منه حرمة بيع الأشياء التي تعلّق بها التحريم من جهة ما مع وضوح بطلان ذلك.

هذا مضافا إلى أنّ المتبادر من عدم جواز بيع المحرّم عدم جواز بيعه بما أنّه محرّم أي بقصد جهته المحرّمة لا مطلقا، إذ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية.

و إن شئت قلت: مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي ذلك. و على هذا فذات الجهتين لا يجوز بيعها لمنافعها المحرّمة و يجوز لمنافعها المحلّلة.

و ظاهر الرواية حلّية المعاملة على كلّ ما هو قوام للناس و صلاح لهم.

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث

23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 198

..........

______________________________

و عليك بمراجعة ما بينّاه عند ذكر الرواية بعنوان الضابطة الكلّية «1».

العاشر: ما مرّ من عبارة فقه الرضا،

قال: «اعلم- يرحمك اللّه- أنّ كلّ مأمور به مما هو صلاح للعباد و قوام لهم في أمورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره- مما يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون- فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و هبته و عاريته. و كلّ أمر يكون فيه الفساد- ممّا قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه لوجه الفساد مما قد نهي عنه مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير و الربا و جميع الفواحش و لحوم السباع و الخمر و ما أشبه ذلك- فحرام ضارّ للجسم و فساد (فاسد- خ.) للنفس.» «2»

أقول: مقايسة هذه العبارة مع رواية تحف العقول تعطي الوثوق بأخذها منها بنحو التلخيص و النقل بالمعنى.

و يرد على الاستدلال بها- مضافا إلى عدم ثبوت حجية فقه الرضا كما مرّ تفصيله- أنّه ليس فيها بالنسبة إلى المنهيات المذكورة اسم من المعاملة عليها، بل التعليق بالإضرار بالجسم و الإفساد للنفس لعلّه يشهد بأنّ المقصود من حرمتها حرمة استعمالها.

إلّا أن يقال بمقتضى المقابلة للصدر: إنّ المقصود بالذيل أيضا حرمة البيع و الشراء و نحوهما.

و لكن يرد على ذلك: أنّ المتبادر من النهي عن بيع مثل هذه الأشياء المحرّمة بيعها بقصد ما كان يترقّب منها و يترتّب عليها في تلك الأعصار عند شرائها من المنافع المحرّمة التي تضرّ بالجسم و تفسد النفس فينصرف عن بيعها و اشترائها لغير ذلك كالخمر

______________________________

(1) راجع ص 132 و ما بعدها من الكتاب.

(2) فقه الرضا/ 250، باب التجارات و البيوع و

المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 199

..........

______________________________

للتخليل و الدم للتزريق بالمرضى مثلا. و عليك بمراجعة ما فصّلناه في بيان العبارة و سند الكتاب و ماهيته «1».

الحادي عشر: ما مرّ من النبوي المشهور:

«إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و استدلّ به الشيخ «ره» في مسائل الخلاف «2».

و الرواية عامية نقلها أرباب المسانيد و السنن عن ابن عباس عن النبي «ص»، و لكن ذكر في أكثر النقول كلمة الأكل:

ففي سنن أبي داود السجستاني في باب ثمن الخمر و الميتة بسنده عن ابن عباس قال: رأيت رسول اللّه «ص» جالسا عند الركن. قال: فرفع بصره إلى السّماء فضحك فقال:

«لعن اللّه اليهود»- ثلاثا- «إنّ اللّه- تعالى- حرّم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها، و إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه.» «3»

و راجع البيهقي «4» و مسند أحمد «5» و مستدرك الوسائل «6» عن عوالي اللآلي. و المذكور في الجميع كلمة الأكل.

نعم، رواها أحمد في موضع ثالث من المسند «7» بدون كلمة الأكل، فراجع.

______________________________

(1) راجع ص 110 و ما بعدها من الكتاب.

(2) راجع الخلاف 3/ 184 و 185 (ط. أخرى 2/ 81 و 82)، كتاب البيوع، المسألتان 308 و 310.

(3) سنن أبي داود 2/ 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

(4) سنن البيهقى 6/ 13، كتاب البيوع، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.

(5) مسند أحمد 1/ 247 و 293، مسند عبد اللّه بن عباس.

(6) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8؛ عن العوالى 1/ 181.

(7) مسند أحمد 1/ 322، مسند عبد اللّه بن عباس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 200

..........

______________________________

و قد مرّ منّا أنّ الرواية

واحدة، لوحدة الراوي و المرويّ عنه و المضمون إلّا في ذكر كلمة الأكل و عدمه.

و في تعارض أصالة عدم الزيادة و أصالة عدم النقيصة تقدّم الأولى على الثانية، إذ احتمال زيادة الراوي من عند نفسه بعيد جدّا، و ليس احتمال النقيصة بهذه المثابة. فما في الخلاف «1» و المكاسب من نقل الرواية بدون كلمة الأكل غير ثابت.

و استدلّ البيهقي بهذه الرواية على تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله. و أورد عليه المحشيّ بقوله: «عموم هذا الحديث متروك اتفاقا بجواز بيع الآدمي و الحمار و السنّور و نحوها.»

أقول: إشكال المحشيّ وارد إلّا أن يريد البيهقي حرمة بيع ما يعتاد أكله لأجل أكله مع كونه محرما.

و الحاصل أنّ حرمة الثمن في الرواية كناية عن فساد البيع، فيظهر من الرواية وجود الملازمة بين حرمة أكل الشي ء و فساد بيعه، و هذا مما لا يلتزم به أحد، فلتحمل الرواية على صورة كون المبيع مما يعتاد أكله و بيع لأجل ذلك، فلا مانع من بيعها للمنافع الأخر.

و أمّا على فرض عدم وجود كلمة الأكل في الرواية فيصير ظاهر قوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا» حرمته المطلقة بمعنى عدم وجود منفعة محلّلة له و كونه ممحّضا في الفساد، و هذا يقتضي فساد بيعه قطعا لسقوطه عن المالية شرعا و به أفتى الأصحاب أيضا. و لكن لم يثبت كون فتواهم مستندة إلى هذه الرواية العامية حتّى يجبر ضعفها بذلك. و استناد الشيخ و أمثاله إلى أمثال هذه الروايات العامية لعلّه كان للمماشاة مع أهل الخلاف.

______________________________

(1) راجع الخلاف 3/ 184 و 185 (ط. أخرى 2/ 81 و 82)، كتاب البيوع، المسألتان 308 و 310.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 201

..........

______________________________

و قصّة بيع اليهود للشحوم و أكل أثمانها رواها جابر أيضا عن النبي «ص» و لكن بدون هذه الضابطة و قد مرّت و تأتي أيضا.

و نظير رواية ابن عباس في المقام عن النبي «ص» ما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إنّ رجلا من ثقيف أهدى إلى رسول اللّه «ص» راويتين من خمر فأمر بهما رسول اللّه «ص» فأهريقتا و قال: إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها.» «1»

و في رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن ثمن الخمر، قال: أهدي إلى رسول اللّه «ص» راوية خمر بعد ما حرّمت الخمر فأمر بها أن تباع، فلمّا أن مرّ بها الذي يبيعها ناداه رسول اللّه «ص» من خلفه: يا صاحب الرواية، إنّ الذي حرّم شربها فقد حرّم ثمنها، فأمر بها فصبّت في الصعيد ...» «2»

يستشعر من الروايتين وجود الملازمة بين حرمة شرب الشي ء و فساد بيعه و لا يمكن الالتزام بذلك.

و الجواب أنّ الخمر كانت مما يعتاد شربها و كان بيعها في تلك الأعصار لذلك لا محالة فتصحّ الملازمة، و لا دلالة في الحديثين على منع بيعها للتخليل أو التطيين بها مثلا فمقتضى العمومات جوازه.

الثاني عشر: ما عن الجعفريّات بإسناده عن جعفر بن محمد،

عن أبيه، عن جدّه عليّ بن الحسين، عن عليّ بن أبي طالب «ع»، قال: «بائع الخبيثات و مشتريها في الإثم سواء.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 165، الحديث 6.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 425، الباب 1 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 202

..........

______________________________

بتقريب أنّ الأعيان النجسة من أظهر مصاديق الخبيثات، و مقتضى ثبوت الإثم

في بيعها حرمته، بل يمكن القول بفساده أيضا، إذ الشرع لا ينفّذ عقدا حرّمه.

و في البيع وقت النداء ليس المحرّم البيع بما أنّه بيع و معاملة، بل بما أنّه عمل شاغل عن الجمعة.

و تأمّل الأستاذ الإمام في دلالة الرواية، قال: «لعدم ظهورها في أنّ الإثم لنفس البيع و الشراء، فإنّها في مقام بيان حكم آخر بعد فرض إثم لهما، فلا يظهر منها أنّ الإثم المفروض لأجل نفس عنوان البيع و الشراء أو لأخذ الثمن و التصرّف فيه و أخذ الخمر و شربه، و إن لا تخل من إشعار على أنّ المحرّم البيع و الشراء.» «1»

أقول: و الذي يسهّل الخطب ضعف الرواية. و يأتي معنى الخبيث في مسألة بيع الأبوال.

الثالث عشر: الأخبار المتعرضة للنهي عن النجاسات الخاصّة و ثمنها

بناء على إلغاء الخصوصية منها و استنباط أنّ علّة الحكم فيها هي النجاسة.

فلنتعرّض لبعضها الحاوي لجمع من أفراد النجس، إذ احتمال إلغاء الخصوصيّة فيها قريب و نؤخّر ما تفرّد بذكر واحدة منها إلى فصل البحث عنها:

1- رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع» في ذيل قصّة إهداء راوية من خمر لرسول اللّه «ص» أنه قال: «ثمن الخمر و مهر البغيّ و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السّحت.» «2»

2- معتبرة السّكوني عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «السّحت: ثمن الميتة و ثمن الكلب

______________________________

(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 7.

(2) الوسائل 12/ 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6؛ و ص 63، الباب 5 منها، الحديث 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 203

..........

______________________________

و ثمن الخمر و مهر البغيّ و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.» «1»

3- ما عن الفقيه، قال: قال- عليه السلام-: «أجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الذي

ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت، و أجر الكاهن سحت، و ثمن الميتة سحت، فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم.» «2»

4- ما في حديث وصايا النبي «ص» لعليّ «ع»، قال: «يا عليّ، من السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر الزانية و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.» «3»

5- و في كتاب التفسير من الجعفريات بإسناده عن عليّ «ع» قال: «من السحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح و مهر البغيّ و كسب الحجّام و أجر الكاهن و أجر القفيز و أجر الفرطون و الميزان إلّا قفيزا يكيله صاحبه أو ميزانا يزن به صاحبه، و ثمن الشطرنج و ثمن النرد و ثمن القرد و جلود السّباع و جلود الميتة قبل أن تدبغ و ثمن الكلب و أجر الشرطيّ الذي لا يعديك إلّا بأجر، و أجر صاحب السجن و أجر القافي (القائف- المستدرك) و ثمن الخنزير و أجر القاضي و أجر الصاحب (السّاحر- المستدرك) و أجر الحاسب بين القوم لا يحسب لهم إلّا بأجر، و أجر القارئ الذي لا يقرأ القرآن إلّا بأجر و لا بأس أن يجرى له من بيت المال. و الهدية يلتمس أفضل منها ...» «4»

و رواه عنه في المستدرك. «5»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(3) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 9.

(4) الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد)/ 180.

(5) مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 204

..........

______________________________

1- قال الخليل بن أحمد في العين: «السحت:

كلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار نحو ثمن الكلب و الخمر و الخنزير.» «1»

2- و في معجم مقاييس اللغة: «المال السحت: كلّ حرام يلزم آكله العار، و سمّي سحتا لأنّه لا بقاء له. و يقال: أسحت في تجارته: إذا كسب السحت. و أسحت ماله:

أفسده.» «2»

3- و في المفردات: «السحت: القشر الذي يستأصل، قال- تعالى-: فَيُسْحتَكُمْ بعَذٰابٍ و قرئ: فَيُسْحتَكُمْ يقال: سحته و أسحته. و منه السحت للمحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنّه يسحت دينه و مروءته. قال- تعالى-: أَكّٰالُونَ للسُّحْت أي لما يسحت دينهم.» «3»

4- و في النهاية: «يقال: مال فلان سحت أي لا شي ء على من استهلكه، و دمه سحت أي لا شي ء على من سفكه. و اشتقاقه من السّحت و هو الإهلاك و الاستيصال.

و السحت: الحرام الذي لا يحلّ كسبه.» «4»

5- و في المنجد: «السحت، جمعه أسحات: الحرام. ما خبث و قبح من المكاسب فلزم منه العار كالرشوة. مال سحت و سحت: متلف هالك.» «5»

______________________________

(1) العين 3/ 132.

(2) مقاييس اللغة 3/ 143.

(3) المفردات للراغب/ 231. و الآية الأولى من سورة طه (20)، رقمها 61؛ و الثانية من سورة المائدة (5)، رقمها 42.

(4) النهاية لابن الأثير 2/ 345.

(5) المنجد/ 323.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 205

..........

______________________________

أقول: يظهر منهم أنّ السحت حرام خاصّ يتنفّر عنه طباع الكرام و يذهب بالدين أو المروّة و لا بركة له و لا بقاء.

و الظاهر من حرمة ثمن المعاملة بنحو الإطلاق بطلانها، إذ مقتضى صحتها انتقال العوضين و جواز التصرّف فيهما. فحرمة الثمن كناية عن عدم انتقاله إلى البائع.

و بعبارة أخرى: حرمة الثمن شرعا و عدم جواز التصرّف فيه لا يجتمع عرفا مع صحّة المعاملة و إيجاب الوفاء

بها.

و هل يستفاد من هذه الروايات و غيرها مما حكم فيها بكون الثمن سحتا أو حراما حرمة الثمن شرعا بعنوان أنّه ثمن لشي ء من المذكورات وراء حرمته بما أنّه مال الغير بحيث يستلزم أخذه و التصرّف فيه استحقاق عقوبة زائدة وراء استحقاقها على التصرف في مال الغير و استحقاقها على معوّض هذا الثمن إن كان عملا محرما كالزنا مثلا و على نفس المعاملة أيضا في مثل بيع الخمر و الربا كما التزمنا بذلك؟

ظاهر كلام الأستاذ الإمام «ره» في مكاسبه «1» ذلك كما مرّ.

و قال أيضا: «و الظاهر منها أنّ الثمن محرّم بعنوان ثمن الحرام أو ثمن النجس، لأنّ الظاهر من تعلّق حكم على عنوان موضوعيته، فالحمل على حرمته باعتبار التصرف في مال الغير بلا إذنه خلاف ظواهر الأدلّة.» «2»

أقول: الظاهر أنّ تحريم الثمن كناية عن بطلان المعاملة و فسادها، و مقتضى ذلك عدم انتقال الثمن و حرمة التصرف فيه لذلك.

و لو أريد استفادة ذلك من لفظ السحت بظنّ دلالته على شدّة الحرمة و المبغوضية

ففيه أنّ التعبير بالسحت ليس لبيان شدّة الحرمة بل لبيان خسّة الاكتساب و مهانته

______________________________

(1) المكاسب المحرمة 1/ 13 و 14.

(2) المكاسب المحرمة 1/ 13 و 14.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 206

..........

______________________________

بحيث يتنفر عنه طباع أهل المروّة و المكرمة و إن فرض كون نفس العمل شريفا كالقضاء و قراءة القرآن مثلا كما في رواية الجعفريات، فأراد النبي «ص» أو الإمام «ع» بهذا التعبير تأنّفهم من هذه الاكتسابات و أثمانها.

و يشهد لما ذكرنا أنّ كثيرا مما أطلق عليها السحت في رواية الجعفريات و غيرها مما يشكل الالتزام بشدّة حرمتها و عقوبتها بل بأصل حرمتها أيضا، و إنّما أطلق عليها السحت

بلحاظ حزازة الاكتساب بها و تأبّي النفوس الكريمة منها كأجر الحجّام و القاضي و القارئ و الحاسب و ثمن اللقاح و القرد و عوض الهدية أزيد منها.

و في موثقة سماعة قال: قال «ع»: «السّحت أنواع كثيرة، منها: كسب الحجّام و أجر الزانية و ثمن الخمر.» «1» و نحوها رواية أخرى لسماعة إلّا أنّ فيها: «كسب الحجّام إذا شارط.» «2»

و الظاهر أنّ سحتيّة أجر الحجّام ليست بلحاظ الحرمة و العقوبة، بل الملاك المشترك بينه و بين ما رادفه هو الحزازة و تأبّي النفوس الكريمة منها. و في بعض الروايات أنّ رسول اللّه «ص» احتجم و أعطى أجر الحجّام، و في بعضها أنّه قال: «اعلفه ناضحك.» «3»

و ملخّص الكلام أنّه من أقدم على بيع الخمر مثلا فمعاملته باطلة قطعا، و مقتضاه عدم انتقال الثمن إليه و حرمة تصرّفه فيه بما أنّه مال الغير، و التزمنا بثبوت الحرمة التكليفية أيضا لهذه المعاملة لما ورد من التأكيدات في رواياته و لعلّها لإيجابها إشاعة

______________________________

(1) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(3) راجع الوسائل 12/ 71، الباب 9 من أبواب ما يكتسب به؛ و سنن ابن ماجة 2/ 731، الباب 10 من كتاب التجارات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 207

..........

______________________________

الخمر في المجتمع قهرا.

و أمّا الالتزام بحرمة الثمن بما أنّه ثمن الخمر زائدا على كونه مال الغير فيشكل الالتزام به، و إن اختاره الأستاذ الإمام.

و لو شكّ في ذلك فالأصل يقتضي العدم بناء على جريانه فيما إذا شكّ في و جهة الحرمة زائدا على ما يعلم في موضوع واحد.

هذا كلّه فيما يرتبط بروايات

السحت.

6- ما في دعائم الإسلام: «روّينا عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ «ع»: أنّ رسول اللّه «ص» نهى عن بيع الأحرار، و عن بيع الميتة و الدم و الخنزير و الأصنام، و عن عسب الفحل، و عن ثمن الخمر، و عن بيع العذرة، و قال: هي ميتة.» «1»

و رواه عنه في المستدرك «2».

قال في النهاية: «فيه: أنّه نهى عن عسب الفحل. عسب الفحل: ماؤه فرسا كان أو بعيرا أو غيرهما. و عسبه أيضا: ضرابه ... و لم ينه عن واحد منهما، و إنما أراد النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه، فإنّ إعارة الفحل مندوب إليها.» «3»

7- و في باب ثمن الخمر و الميتة من سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه حرّم الخمر و ثمنها، و حرّم الميتة و ثمنها، و حرّم الخنزير و ثمنه.» «4»

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 22.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(3) النهاية لابن الأثير 3/ 234.

(4) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 208

..........

______________________________

8- و فيه أيضا بسنده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة؛ فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه «ص» عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود،

إنّ اللّه لمّا حرّم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.» و في رواية أخرى عن جابر نحو ذلك و لم يقل:

«هو حرام». «1» و رواية جابر رواها مسلم أيضا و ابن ماجة «2».

أقول: جمله و جمّله و أجمله: أذابه. و المترائى من هذه الرواية أنّ الشحوم المحرّمة على اليهود كانت من قبيل الميتة.

و رواية جابر هي التي ذكرها أبو إسحاق في المهذّب دليلا لبطلان بيع النجس مطلقا بقياس سائر النجاسات على ما ذكر فيها كما مرّ.

و محصّل الدليل الثالث عشر إلغاء الخصوصيّة من هذه الروايات المستفيضة المتعرّضة لجمع من أفراد النجس باستظهار أنّ العلّة في منعها هي النجاسة.

هذا، و لكنّ المتبادر من الجميع منع بيعها بلحاظ المنافع التي كانوا يشترونها غالبا لأجلها و يرتّبونها عليها في تلك الأعصار من الأكل و الشرب و نحوهما، فالاستدلال بها على كون عنوان النجاسة بنفسها موضوعا مستقلا للمنع عن المعاملة قابل للمناقشة.

و قد عرفت أنّ المهمّ من هذه الأدلّة هو الإجماع المدّعى و الشهرة المحققة بين الفريقين.

و قد مرّت المناقشة فيهما أيضا.

______________________________

(1) سنن أبى داود 2/ 250 و 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

(2) راجع صحيح مسلم 3/ 1207، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر ...، الحديث 71؛ و سنن ابن ماجة 2/ 732، كتاب التجارات، باب ما لا يحلّ بيعه، الحديث 2167.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 209

..........

______________________________

و إذا منعنا دلالة هذه الأدلّة على منع المعاملة فمقتضى عمومات العقود و التجارة و البيع صحّتها بلحاظ المنافع المحلّلة العقلائية. و لكنّ الأحوط مع ذلك كلّه- كما في كلام الأعلام- ترك المعاملة عليها بأنحائها.

قالوا: نعم، إذا كانت أعيان النجاسة تحت سلطة أحد فالعقلاء يعتبرون له

بالنسبة إليها حقّ الاختصاص و التقدّم، بحيث يعدّون إجباره على رفع اليد ظلما و تعدّيا، نظير حق السبق بالنسبة إلى الأمكنة المشتركة، فله أن يأخذ شيئا لا بإزاء هذه الأعيان النجسة بل في قبال رفع اليد عنها، فإذا رفع يده عنها استولى عليها من يريدها.

و ممن تعرّض لذلك صاحب الجواهر، فراجع «1».

أقول: لا يخفى أنّ مسائل المعاملات ليست مسائل تعبّدية محضة نظير خصوصيات العبادات الشرعية، بل الملحوظ فيها مصالح المجتمع. فإن فرض أنّ الشارع منع من المعاملة على النجس بأنحائها فلا محالة يكون هذا ناشئا من إرادته تطهير محيط التعيّش منها بالكلية و عدم تلوّث مظاهر الحياة بها أصلا.

و على هذا فلا يرضى الشارع بالاستيلاء عليها بنحو المجّان أيضا بقصد الانتفاع بها كما دلّت على ذلك رواية تحف العقول، حيث نهى فيها عن ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد. و حينئذ فيحرم جميع الانتفاعات بها كما التزم بذلك المشهور بالنسبة إلى الميتة و أجزائها. و لذا قالوا بعدم جواز الاستصباح بها حتى تحت السّماء أيضا كما مرّ عن القواعد و فرّقوا بينها و بين الزيت المتنجس في ذلك و هو المستفاد من خبر جابر أيضا.

______________________________

(1) راجع الجواهر 22/ 9، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 210

..........

______________________________

و أمّا إذا فرض أنّ الشارع يرضى بالانتفاع بها بغير مثل الأكل و الشرب الاختياريين فبأيّ وجه نحرّم المعاملة عليها؟ مع أنّ المعاملات شرّعت لرفع الحاجات و تحصيل ما يحلّ الانتفاع به و لو في موارد خاصّة و لا منع فيها إلّا بالنسبة إلى ما يضرّ بحال المجتمع كالغرر و الربا و نحوهما، و ليست أحكام الشارع جزافية، فتدبّر.

تكميل للبحث

قد مرّ أنّ الظاهر من كلمات أكثر الأعلام من فقهاء الفريقين: أنّ النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة المعاملة و أنها موضوع مستقل للمنع و إن فرض أنّ للشي ء منفعة محلّلة مقصودة، و لذا ذكروها عنوانا مستقلا في قبال ما لا ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة.

و مرّ عن العلامة في التذكرة قوله: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية ...» «1»

و عن الشهيد في المسالك قوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «2» هذا.

و لكن يظهر من كثير من كلماتهم أنّ عدم جواز بيعها معلول لعدم جواز الانتفاع بها.

و مقتضى ذلك أنّه لو قلنا بجواز بعض الانتفاعات المقصودة من الأعيان النجسة كالتسميد من العذرات مثلا لم يمنع عن بيعها لذلك، فليست النجاسة بما هي نجاسة مانعة بل المنع فيها ناش من عدم المنفعة المحلّلة المقصودة الموجبة لماليّتها عرفا و شرعا.

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 211

..........

______________________________

و على هذا تكون الأعيان النجسة لكونها ممنوعة الانتفاع شرعا و لو إجمالا في الحقيقة قسما من النوع الثالث الآتي أعني ما لا منفعة له محلّلة:

1- ففي الخلاف في مسألة بيع الزيت النجس (المسألة 312) قال: «و روى أبو علي أبي هريرة في الإفصاح أنّ النبي «ص» أذن في الاستصباح بالزيت النجس، و هذا يدل على جواز بيعه.» «1» و نحو ذلك في الغنية إلّا أنّه قال: «في الأوضاح.» «2»

يظهر من هذه العبارة أنّ جواز البيع دائر

مدار وجود المنفعة المحلّلة.

2- و في الغنية بعد ما قيّد المعقود عليه بكونه منتفعا به منفعة مباحة قال: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرزا مما لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها. و قيّدنا بكونها مباحة تحفظا من المنافع المحرمة. و يدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل ...» «3»

3- و في المنتهى في مسألة جواز بيع كلب الماشية و نحوها قال: «و لأنّه يصحّ الانتفاع به و نقل اليد فيه و الوصية به فيصحّ بيعه كالحمار.» «4»

4- و فيه أيضا في مسألة جواز إجازة الكلب قال: «لنا أنّه منفعة مباحة فجازت المعاوضة عليها كبيع الحمار.» «5» و نحو ذلك أيضا في التذكرة «6».

5- و في التذكرة: «إن سوّغنا بيع كلب الصيد صحّ بيع كلب الماشية و الزرع و الحائط

______________________________

(1) الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83)، كتاب البيوع.

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(4) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثاني، البحث الأوّل.

(5) نفس المصدر و الصفحة.

(6) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 212

..........

______________________________

لأنّ المقتضي و هو النفع حاصل هنا.» «1»

6- و فيه أيضا بعد استدلاله لجواز بيع كلب الصيد بأنّه يحلّ الانتفاع به و نقله استدلال المانع بأنّه نجس العين فأشبه الخنزير قال في جوابه: «و النجاسة غير مانعة كالدهن النجس. و الخنزير لا ينتفع به بخلافه.» «2»

7- و فيه أيضا: «يجوز بيع كل ما فيه منفعة لأنّ الملك سبب إطلاق التصرّف، و المنفعة المباحة كما يجوز استيفاؤها يجوز أخذ العوض عنها فيباح لغيره

بذل ماله فيها توصّلا إليها و دفعا للحاجة بها كسائر ما أبيح بيعه.» «3»

أقول: يظهر من هذه العبارة ما كنّا نصرّ عليه من الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي ء و لو في حالة خاصّة و بين صحة المعاملة عليه.

8- و نظير ذلك ما في السرائر فإنّه بعد ما حكى عن نهاية الشيخ المنع عن التكسب بالفيلة و الدببة و غيرها قال: «قال محمد بن إدريس: قوله- رحمه اللّه-: الفيلة و الدببة، فيه كلام و ذلك أنّ كلّ ما جعل الشارع و سوّغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه و ابتياعه لتلك المنفعة و إلّا يكون قد حلّل و أباح و سوّغ شيئا غير مقدور عليه. و عظام الفيل لا خلاف في جواز استعمالها مداهن و أمشاطا و غير ذلك ...» «4»

9- و في التنقيح في ذيل قول المصنّف: «الأوّل: الأعيان النجسة» قال: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصحّ بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية. و أمّا الكبرى فلقول النبي «ص»: «لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها.» علّل استحقاق اللعنة ببيع المحرّم فيتعدّى إلى كلّ محرّم الانتفاع به، و لما رواه ابن عبّاس عن

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(4) السرائر 2/ 220، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 213

..........

______________________________

النبيّ «ص»: إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» «1»

أقول: و العجب منه أنّه استدل للكبرى بالروايات العامية و لم يتعرض لرواية تحف العقول و غيرها، فيظهر منه عدم اعتمادهم عليها. و كون الأعيان النجسة محرّمة الانتفاع

بنحو الإطلاق محلّ كلام و سيأتي البحث فيه عند تعرض المصنّف للمسألة.

10- و فخر المحققين في الإيضاح أطال الكلام في هذا المجال نذكره ملخّصا: قال: «و أنا أذكر قاعدة يعرف منها مسائل الخلاف و الوفاق و منشأ الاختلاف في كلّ مسائل البيع، فأقول: ما لا منفعة فيه أصلا لا يجوز العقد عليه لأنّ ذلك من أكل المال بالباطل. و هذا الذي لا منفعة فيه لا يصحّ تملكه كالخمر و الميتة.

و أمّا ما فيه منفعة مقصودة فلا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون سائر منافعه محرّمة. و الثاني: أن يكون سائر منافعه محلّلة. و الثالث: أن يكون بعضها محلّلا و بعضها محرّما.

فإن كانت سائر منافعه محرّمة صار كالقسم الأوّل الذي لا منفعة فيه كالخمر و الميتة.

و إن كانت سائر منافعه محلّلة جاز بيعه إجماعا كالثوب و العبد و العقار و غير ذلك.

و إن كانت منافعه مختلفة فهذه المواضع من المشكلات. فنقول: إن كان جلّ المنافع و المقصود منها محرّما حتّى صار المحلّل من المنافع كالمطرح فإنّ البيع ممنوع لأنّ المطرح من المنافع كالعدم. و إليه أشار «ع» بقوله: «لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها.» و إن كان الأمر بعكس ذلك كان الحكم بعكسه، و هو أن يكون المقصود من المنافع و جلّها مباحا و المحرّم مطرح.

______________________________

(1) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 214

..........

______________________________

و أشكل من هذا القسم ما يكون فيه منفعة محرّمة مقصودة و سائر منافعه محلّلة مقصودة، فإنّ هذا ينبغي إلحاقه بالقسم الممنوع، لأنّ كون هذه المنفعة المحرمة مقصودة يؤذن بأنّ لها حصّة من الثمن و لأنّ العقد اشتمل عليها كما اشتمل على سائر المنافع

و هو عقد واحد على شي ء واحد لا سبيل إلى تبعيضه. و المعاوضة على المحرّم منه ممنوع فيمنع الكلّ.» «1»

أقول: لا وجه لبطلان المعاملة على ما اشتمل على المنفعة المحلّلة المقصودة للعقلاء و إن اشتمل على المنفعة المحرّمة أيضا، و إلّا لفسدت المعاملة على كثير من الأشياء كالعنب و الزبيب مثلا، اللّهم إلّا أن تكون المنفعة المحرّمة مقصودة للمتعاملين و وقعت المعاملة بلحاظها و سيأتي البحث في ذلك في مسألة بيع العنب بقصد التخمير.

ثم إنّه قلّما يوجد شي ء ممحّض في المنافع المحرّمة أو المحلّلة فقط، إذ كلّ محرّم يمكن أن يباح في بعض الأمكنة و الشرائط. و كلّ مباح يمكن أن يوجد له مصرف حرام.

فالملاك في صحة المعاملة مالية الشي ء و كونه مرغوبا فيه مع قطع النظر عن منافعه المحرمة هذا.

بقي البحث عن جواز الانتفاع بالأعيان النجسة و عدمه و سيأتي من المصنّف البحث في ذلك، فانتظر.

إذا عرفت ما ذكروه من الأدلّة للمنع عن بيع النجس بعنوانه الكلّي الجامع لجميع النجاسات و المناقشة فيها فلنتعرّض لكلّ واحدة منها على ترتيب المتن، و قد عقد هو للاكتساب بالأعيان النجسة ثماني مسائل.

______________________________

(1) إيضاح الفوائد 1/ 401، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 215

[النجاسات التي يحرم المعاوضة عليها ثمانية]
[المسألة الأولى: المعاوضة على أبوال ما لا يؤكل لحمه]
اشارة

الأولى: يحرم المعاوضة على بول غير مأكول اللحم بلا خلاف ظاهر، لحرمته و نجاسته و عدم الانتفاع به منفعة محلّلة مقصودة، فيما عدا بعض أفراده كبول الإبل الجلالة أو الموطوءة. (1)

______________________________

1- المعاوضة على أبوال ما لا يؤكل لحمه

[مرجع الاستثناء الأخير احتمالات:]

(1) في مرجع الاستثناء الأخير احتمالات:

الأوّل: ما في حاشية المحقق الإيرواني، قال: «لعلّ هذا استثناء من صدر الكلام أعني قوله: «يحرم المعاوضة على بول غير مأكول اللحم.» بتوهم شمول الإجماع المنقول على جواز بيع بول الإبل له و إن حرم شربه.» «1»

الثاني: أن يكون استثناء من صدر الكلام أيضا و لكن بلحاظ عدم كون بول الجلّالة و الموطوءة نجسا، إذ المتيقن من نجاسة بول ما حرم أكله نجاسة بول ما حرم أكله ذاتا لا ما حرم بالعرض.

الثالث: ما في مصباح الفقاهة «2»، و هو كونه استثناء من قوله: «و عدم الانتفاع به.»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 3.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 32.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 216

..........

______________________________

أي ليس لأبوال ما لا يؤكل لحمه نفع ظاهر إلّا بول الإبل الجلّالة أو الموطوءة، فإنّ له منفعة ظاهرة و إن حرم شربه لنجاسته.

و كيف كان 1- ففي مكاسب المقنعة في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و بيع العذرة و الأبوال كلّها حرام إلّا أبوال الإبل خاصّة، فإنّه لا بأس ببيعها و الانتفاع بها و استعمالها لضرب من الأمراض.» «1»

أقول: المفيد «ره» و إن ذكر في عداد ما يحرم بيعه كلّ نجس من الأعيان كما مرّت عبارته، و ظاهره كون النجاسة بنفسها مانعا مستقلا في قبال عدم المنفعة، لكن ظاهر كلامه هنا بقرينة الاستثناء هو الحكم بالمنع على العذرة و الأبوال النجسة و الطاهرة معا بملاك واحد و هو عدم

الانتفاع بها، و أنّ الانتفاع و البيع متلازمان جوازا و منعا. و هذا يؤيّد ما مرّ منّا من جواز البيع و المعاملة على فرض جواز الانتفاع و كون المنفعة مقصودة. و الظاهر أنّه أراد بالحرمة الأعمّ من التكليف و الوضع كما لا يخفى.

2- و في مكاسب المراسم أيضا في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «2» فهو أيضا لم يفرّق بين النجسة و الطاهرة منهما، فيظهر منه حرمة بيعهما بملاك واحد.

3- و مرّ عن نهاية الشيخ قوله: «و جميع النجاسات محرّم التصرف فيها و التكسب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما، إلّا أبوال الإبل خاصّة،

______________________________

(1) المقنعة/ 587، باب المكاسب.

(2) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 217

..........

______________________________

فإنّه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة.» «1»

أقول: في هذا الكلام أيضا نوع خلط بين الأبوال النجسة و الطاهرة، إلّا أن يحمل المستثنى على خصوص أبوال الإبل النجسة كالجلّالة أو الموطوءة.

4- و قد مرّ عن المبسوط و الشرائع و القواعد «2» أيضا المنع عن بيع أبوال ما لا يؤكل لحمه و أرواثها. و كلّ من منع من الفريقين عن بيع الأعيان النجسة بإطلاقها فكلامه لا محالة شامل للأبوال و الأرواث النجسة.

5- و قد مرّ عن المسالك قوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «3»

6- و في المستند في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و منها

الأرواث و الأبوال. و تحريم بيعها مما لا يؤكل لحمه شرعا موضع وفاق كما في المسالك.» «4»

أقول: و لأجل ذلك كلّه ترى المصنّف قال: «بلا خلاف ظاهر».

و لكن قد مرّ منّا أنّ كون الإجماع المنقول و الشهرة المحققة في المقام بنحو يكشف بهما قول المعصوم كشفا قطعيا مشكل، و لا سيما و أنّ المترائى من بعضهم كون الملاك في المنع عدم المنفعة أو عدم المنفعة المحلّلة، و لذا أجرى الحكم بالمنع على الأبوال بإطلاقها من غير فرق بين النجسة و الطاهرة منها و استثنى بول الإبل خاصّة لترتب منفعة الاستشفاء عليه.

______________________________

(1) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

(2) راجع ص 177- 179 من الكتاب.

(3) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(4) مستند الشيعة 2/ 334، كتاب مطلق الكسب، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 218

..........

______________________________

و قد مرّ عن ابن زهرة في الغنية «1» اشتراط المنفعة المباحة في المعقود عليه و فرّع على ذلك عدم جواز بيع النجس.

و في التنقيح في منع بيع الأعيان النجسة قال: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع، و كلّ محرمة الانتفاع لا يصحّ بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية، و أمّا الكبرى فلقول النبي «ص»: لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها ...» «2»

فرتّب حرمة البيع على حرمة الانتفاع، و على هذا فلو فرض لها منفعة محلّلة عقلائية فلا وجه لعدم جواز بيعها.

و أمّا قول المصنّف: «لحرمته و نجاسته و عدم الانتفاع به» فيحتمل أن يكون إشارة إلى ثلاثة أدلّة مستقلة. و يحتمل أيضا أن يكون ذكر الحرمة و النجاسة توطئة لبيان عدم الانتفاع منفعة محلّلة، فيكون هو الدليل في الحقيقة.

و كيف كان فقد ناقشنا سابقا في هذا

الدليل بالتفصيل، فراجع الدليل السابع مما مرّ.

و محصّله: أنّ حرمة جميع المنافع لا دليل عليها، و حرمة بعضها كالأكل و الشرب و نحوهما غير مانعة عن صحّة المعاملة بلحاظ المنافع الأخر. و المنافع تختلف بحسب اختلاف الأزمنة و الأمكنة و الشرائط، و لم يثبت كون النجاسة بنفسها مانعا مستقلا. و إذا فرض لها منافع محلّلة عقلائية و صارت لها مالية بلحاظها، فلا وجه للحكم ببطلان المعاملة عليها بإطلاقها.

______________________________

(1) راجع ص 178- 211 من الكتاب.

(2) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 219

[فرعان]
اشارة

فرعان

[الأوّل: بحث استطراديّ حول أبوال ما يؤكل لحمه]
اشارة

الأوّل: ما عدا بول الإبل من أبوال ما يؤكل لحمه المحكوم بطهارتها عند المشهور إن قلنا بجواز شربها اختيارا، كما عليه جماعة من القدماء و المتأخرين بل عن المرتضى دعوى الإجماع عليه، فالظاهر جواز بيعها (1).

و إن قلنا بحرمة شربها كما هو مذهب جماعة أخرى لاستخباثها ففي جواز بيعها قولان:

من عدم المنفعة المحلّلة المقصودة فيها، و المنفعة النادرة لو جوّزت المعاوضة لزم منه جواز معاوضة كلّ شي ء. و التداوي بها لبعض الأوجاع لا يوجب قياسها على الأدوية و العقاقير، لأنّه يوجب قياس كلّ شي ء عليها للانتفاع به في بعض الأوقات.

و من أنّ المنفعة الظاهرة و لو عند الضرورة المسوّغة للشّرب كافية في جواز البيع. و الفرق بينها و بين ذي المنفعة الغير المقصودة حكم العرف بأنّه لا منفعة فيه. و سيجي ء الكلام في ضابطة المنفعة المسوّغة للبيع.

______________________________

بحث استطراديّ حول أبوال ما يؤكل لحمه

(1) لا يخفى أنّ صحّة المعاملة عليها لا تدور مدار جواز شربها، إذ لا تنحصر

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 220

..........

______________________________

منافعها في الشّرب، بل لا يعدّ الشّرب من منافعها بحسب العادة و إن امكن التداوي بها في بعض الأحيان. و لكن يمكن أن يستخرج منها في المصانع الحديثة موادّ كيمياوية نافعة فتصير بذلك ذات قيمة و ماليّة. و حديث: «إنّ اللّه إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه» على فرض صحّته منصرف- كما مرّ- إلى صورة كون الشي ء معدّا للأكل و بيع لأجل ذلك و إلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن.

و بالجملة فصحّة المعاملة على الأبوال الطاهرة لا تتوقف على جواز شربها، بل على ماليّتها عند العقلاء بحيث يرغبون في شرائها لأغراض عقلائية. فيكون بين جواز شربها و صحّة

المعاملة عليها بحسب المورد عموم من وجه؛ إذ على فرض جواز الشرب يمكن أن لا يكون لها في مورد ماليّة و قيمة لعدم الرغبة فيها أصلا كما هو الغالب فلا يصحّ بيعها لذلك. و على فرض عدم جواز الشرب يمكن أن يتصوّر لها منافع عقلائية توجب لها قيمة و رغبة فيصحّ بيعها لذلك.

[الأقوال في المسألة]

و كيف كان فهل يجوز شرب الأبوال الطاهرة مطلقا، أو لا يجوز مطلقا، أو يفصّل بين بول الإبل و غيره، أو بين حالة الاضطرار و غيرها؟:

1- قد مرّ عن المقنعة و المراسم حرمة بيع الأبوال كلّها إلّا بول الإبل، فيمكن أن يستشعر من كلامهما حرمة شربها أيضا إلّا بول الإبل.

2- و في الأطعمة و الأشربة من النهاية قال: «و لا بأس بأن يستشفى بأبوال الإبل.» «1»

و ظاهر كلامه الاختصاص بها للاستشفاء فقط.

3- و في الأشربة من الوسيلة: «و لا يجوز شرب دماء الحيوانات و لا أبوالها مختارا إلّا

______________________________

(1) النهاية/ 590، باب الأطعمة المحظورة و المباحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 221

..........

______________________________

بول الإبل، فإنّه يجوز شربه للاستشفاء.» «1»

4- و في الأطعمة و الأشربة من الشرائع بعد التعرّض لحرمة البول ممّا لا يؤكل لحمه قال: «و هل يحرم مما يؤكل؟ قيل: نعم إلّا أبوال الإبل، فإنّه يجوز الاستشفاء بها. و قيل:

يحلّ الجميع لمكان طهارته. و الأشبه التحريم لمكان استخباثها.» «2»

أقول: دليله الأخير ناظر الى آية الخبائث و سيأتي البحث فيها.

5- و لكن في أشربة الانتصار: «مسألة: و ممّا يظن قبل التأمّل انفراد الإمامية به القول بتحليل شرب أبوال الإبل و كلّ ما أكل لحمه من البهائم إمّا للتداوي أو غيره. و قد وافق الإمامية في ذلك مالك و الثوري و زفر. و

قال محمّد بن الحسن في البول خاصّة مثل قولنا و خالف في الروث. و قال أبو حنيفة و أبو يوسف و الشافعي: بول ما أكل لحمه نجس و روثه أيضا، كنجاسة ذلك ممّا لا يؤكل لحمه.

و الذي يدلّ على صحة مذهبنا بعد الإجماع المتردّد: أنّ الأصل فيما يؤكل لحمه أو يشرب لبنه في العقل الإباحة ... و أيضا فإنّ بول ما يؤكل لحمه طاهر غير نجس. و كلّ من قال بطهارته جوّز شربه، و لا أحد يذهب إلى طهارته و المنع من شربه ...» «3»

أقول: فهو «ره» حكم بحلّية بول ما أكل لحمه و جواز شربه مطلقا من الإبل و غيره و للتداوي و غيره و ادّعى على ذلك الإجماع، و أطال الكلام في الاستدلال عليه. و ظاهره ابتناء المسألة على طهارة الأبوال و أنّ القول بطهارتها يستلزم القول بحلّيتها مع وضوح بطلان ذلك.

______________________________

(1) الوسيلة/ 364، كتاب المباحات، فصل في بيان أحكام الأشربة.

(2) الشرائع/ 755 (ط. أخرى 3/ 227)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الخامس.

(3) الانتصار/ 201، مسائل الصيد و الذبائح و الأطعمة و الأشربة و اللباس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 222

[الدليل على جواز البيع]

______________________________

و كيف كان فحيث إنّ المسألة مما يقلّ الابتلاء بها- إذ في حال الاختيار يتأبّى كلّ إنسان و يشمئزّ من شرب الأبوال بالطبع، و لذا قد يتعجّب من عنوانها في الروايات و كلمات الأصحاب، و في حالة الاضطرار من وجود عطش مهلك في القفار أو للتداوي المنحصر يحلّ كلّ شي ء محرّم قطعي فضلا عن الأبوال الطاهرة المختلف فيها- كان تطويل البحث فيها تضييعا للوقت، و لكن التعرض لها إجمالا يشتمل على فوائد. و قد تعرّض للمسألة في الجواهر «1». و عمدة

الدليل على الجواز أصالة الحلّ و الإباحة، فيحتاج المنع إلى الدليل الرادع.

و قد يستدلّ للجواز أيضا بما عن قرب الإسناد عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه «ع» أنّ النبيّ «ص» قال: «لا بأس ببول ما اكل لحمه.» «2»

أقول: أبو البختري هو وهب بن وهب. قيل في حقّه: إنّه كان كذّابا. و دلالة الخبر أيضا غير واضحة، إذ المتبادر منه عدم البأس ببوله من جهة النجاسة لا الشرب، لعدم تعارف شربه و قلّة الابتلاء به.

و الخبر مرويّ من طرق السنّة أيضا عنه «ص»، فراجع البيهقي «3». و رواه في الانتصار أيضا في مسألتنا هذه عن البراء بن عازب عنه «ص»، و لكن نظره ظاهرا الاستدلال به للطهارة لا لجواز الشرب كما يظهر من سائر ما رواه، غاية الأمر أنّه بنى جواز الشرب على الطهارة كما مرّ.

و يستدلّ للجواز في أبوال الإبل بنحو الإطلاق بخبر الجعفري، قال: سمعت أبا

______________________________

(1) راجع الجواهر 36/ 391 و ما بعدها، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الخامس.

(2) الوسائل 17/ 87، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.

(3) راجع سنن البيهقى 1/ 252، كتاب الطهارة، باب الخبر الذي ورد في سؤر ما يؤكل لحمه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 223

..........

______________________________

الحسن موسى «ع» يقول: «أبوال الإبل خير من ألبانها، و يجعل اللّه- عزّ و جلّ- الشفاء في ألبانها.» «1» و في السند بكر بن صالح، و فيه كلام. و حيث إن ألبان الإبل محلّلة مطلقا فخيريّة أبوالها منها تقتضي حلّيتها بطريق أولى.

إلّا أن يقال- كما في مصباح الفقاهة «2»-: إنّ رواية الجعفري ليست بصدد بيان الجواز التكليفي، بل هي مسوقة لبيان الوجهة الطبّية كما يشهد بذلك

ذيل الرواية، فتأمّل، فإنّ شأن الإمام «ع» هو بيان الأحكام لا الطبّ المحض.

و أكثر الأخبار الواردة في المسألة موردها سؤالا أو جوابا صورة الاستشفاء و التداوي.

و عمدتها في أبوال الإبل فقط، و إن كان بعضها يدلّ على بول غير الإبل أيضا.

و بالجملة فاستفادة العموم منها غير واضحة، بل ربما يستفاد من مفهوم بعضها اختصاص الحلّية و الجواز بصورة الاستشفاء. و بها يرفع اليد عن أصالة الحلّ و عن ظهور روايتي أبي البختري و الجعفري في عموم الحلّ لو سلّم ظهورهما في ذلك.

فلنتعرّض لبعض الروايات:

1- موثّقة عمار بن موسى عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سئل عن بول البقر يشربه الرجل. قال: «إن كان محتاجا إليه يتداوى به يشربه. و كذلك أبوال الإبل و الغنم.» «3»

أقول: ظاهر الجواب كون بول الإبل و غيرها مما يؤكل لحمه على وزان واحد و اختصاص حلّ الجميع بصورة الاحتياج للتداوي، و إلّا كان ذكر الشرط لغوا. فبمفهوم الشرط يرفع اليد عن أصالة الحلّ.

______________________________

(1) الكافى 6/ 338، كتاب الأطعمة، باب ألبان الإبل، الحديث 2؛ عنه الوسائل 17/ 87.

(2) راجع مصباح الفقاهة 1/ 38.

(3) الوسائل 17/ 87، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 224

..........

______________________________

2- رواية سماعة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن شرب الرجل أبوال الإبل و البقر و الغنم ينعت له من الوجع هل يجوز له أن يشرب؟ قال: «نعم، لا بأس به.» «1»

أقول: مورد الرواية بحسب السؤال و إن كان خصوص صورة الوجع، و الجواب وارد عليها، لكن لا دلالة له على نفي الغير بحيث يرفع به اليد عن أصالة الحلّ. و بالجملة فليس خبرا سماعة و عمّار على وزان واحد،

و إن كان يظهر من عبارة الشيخ في المكاسب ذلك.

3- خبر موسى بن عبد اللّه بن الحسن، قال: سمعت أشياخنا يقولون: «ألبان اللقاح شفاء من كل داء و عاهة. و لصاحب البطن أبوالها.» «2»

أقول: هكذا في الكافي. و في الوسائل عن الكافي: «و لصاحب الربو أبوالها.» «3»

و الخبر لم يرفع إلى المعصوم «ع». و موسى بن عبد اللّه هو موسى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب «ع».

4- خبر المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه «ع» أنّه شكا إليه الربو الشديد فقال: «اشرب له أبوال اللقاح، فشربت ذلك فمسح اللّه دائي.» «4»

أقول: اللقاح جمع لقوح بالفتح: النوق ذوات الألبان. و الربو بالفتح قد يفسّر بالنهيج و تواتر النفس و قد يفسّر بانتفاخ البطن.

5- خبر أبي صالح عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قدم على رسول اللّه «ص» قوم من بني ضبّة مرضى، فقال لهم رسول اللّه «ص»: «أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سريّة.»

______________________________

(1) الوسائل 17/ 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث

(2) الكافى 6/ 338، كتاب الأطعمة، باب ألبان الإبل، الرقم 2.

(3) راجع الوسائل 17/ 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الرقم 4.

(4) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 225

..........

______________________________

فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها و يأكلون من ألبانها. فلمّا برءوا و اشتدّوا قتلوا ثلاثة ممّن كان في الإبل فبلغ رسول اللّه «ص» الخبر ...» «1»

6- خبر دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين «ع»، قال: «قدم على رسول اللّه «ص» قوم من بني ضبّة مرضى، فقال لهم رسول اللّه «ص»: «أقيموا عندي

فإذا برئتم بعثتكم في سريّة. فاستوخموا المدينة فأخرجهم إلى إبل الصدقة و أمرهم أن يشربوا من ألبانها و أبوالها يتداوون بذلك ...» «2»

7- خبر ابن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إن في أبوال الإبل و ألبانها شفاء للذربة بطونهم.» «3» و راجع في هذا المجال سنن البيهقي أيضا «4».

و قد تحصّل ممّا ذكرنا أن مقتضى أصالة الحلّ و إن كان هو الحلّ مطلقا لكن مقتضى مفهوم الشرط في موثقة عمار هو الحلّية للتداوي فقط، فبه يرفع اليد عن الأصل. هذا.

الاستدلال للحرمة بآية تحريم الخبائث

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 225

قد مرّ عن المحقق في الشرائع الاستدلال لحرمة الأبوال باستخباثها. و الظاهر كونه إشارة إلى قوله- تعالى- في سورة الأعراف: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ «5»

و قد شاع في المحافل العلمية الاستدلال بالآية لحرمة كلّ ما يتنفر عنه الطباع،

______________________________

(1) الوسائل 18/ 535، الباب 1 من أبواب حدّ المحارب، الحديث 7.

(2) مستدرك الوسائل، الباب 23 من أبواب الأشربة المباحة، الحديث 2.

(3) مسند أحمد 1/ 293، مسند عبد اللّه بن عباس.

(4) راجع سنن البيهقى 10/ 4، كتاب الضحايا، باب ما يحلّ من الأدوية النجسة بالضرورة.

(5) سورة الأعراف (7)، الآية 157.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 226

..........

______________________________

و استدلّوا بها أيضا لحرمة الانتفاع بالأعيان النجسة و المتنجسات غير القابلة للتطهير.

و في مصباح الفقاهة حكى عن بعض الأعاظم الاستدلال بالآية في المقام ثم ردّه بما لفظه: «إنّ المقصود من الخبائث كلّ ما فيه مفسدة و رداءة و لو كان من الأفعال المذمومة المعبّر عنه في الفارسية بلفظ «پليد». و يدلّ على ذلك إطلاق الخبيث

على العمل القبيح في قوله- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ منَ الْقَرْيَة الَّتي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائثَ. و يساعده العرف و اللغة. و إذن فالآية ناظرة إلى تحريم كلّ ما فيه مفسدة و لو من الأعمال القبيحة، فلا تعمّ شرب الأبوال الطاهرة و نحوها مما تتنفّر عنها الطبائع.» «1»

أقول: الظاهر أنه أراد بذلك أنّ المتبادر من لفظ الخبيث هو ما يكون بذاته رديّا و قبيحا بأن يترتّب عليه المفاسد و المضارّ، و لا دخل لابتهاج الإنسان بالشي ء أو تنفره عنه في حسنه أو قبحه و رداءته. فما لم يحرز كون شي ء أو فعل قبيحا مشتملا على المفسدة لم يثبت حرمته، و ليس الشك في خباثة شي ء من قبيل الشك في المحصّل حتى يجب الاحتياط فيه. هذا.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ الألفاظ الملقاة من ناحية الشرع المبين لا تحمل على خصوص المصاديق المعهودة من قبل الشرع. بل على المطلق الشامل للمصاديق العرفية و الشرعية.

و المتبادر من لفظ الخبيث عند العرف كلّ ما يكون رديّا قبيحا في طباعهم و فطرتهم من الأعيان القذرة المكروهة و الأفعال القبيحة المستبشعة المعبّر عن جميع ذلك بالفارسية ب «پليد». و هذا معنى عام يشمل استعمال ما يتنفّر عنه الطباع السّليمة في الأكل و الشرب اختيارا، و لا دليل على اعتبار المفسدة في صدق الخبيث. و لو سلّم اعتبار كون رداءة الشي ء

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 38، و الآية المذكورة من سورة الأنبياء (21)، رقمها 74.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 227

..........

______________________________

بحسب مضارّه و مفاسده فاستعمال الإنسان العاقل لما يتنفّر منه طبعه و روحه أيضا مشتمل على المفسدة: إذ أيّ مضرّة و مفسدة أقوى من مسّ كرامة الإنسان و تحميل المنفّرات الروحية عليه

بلا جهة مبرّرة لذلك. و ليس للإنسان هتك نفسه و الإضرار بها روحا كان أو جسما إلّا لمصلحة أقوى. نعم للخبيث مراتب، و أقواها ما حكم العقل و الشرع معا بقبحه و رداءته مثل الزنا و السرقة و نحو ذلك.

قال الراغب في المفردات: «المخبث و الخبيث: ما يُكرَه رداءة و خساسة، محسوسا كان أو معقولا. و أصله الردي ء ... و ذلك يتناول الباطل في الاعتقاد، و الكذب في المقال، و القبيح في الفعال.

قال- عزّ و جلّ-: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ. أي ما لا يوافق النفس من المحظورات.

و قوله- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ منَ الْقَرْيَة الَّتي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائثَ فكناية عن إتيان الرجال.

و قال- تعالى-: مٰا كٰانَ اللّٰهُ ليَذَرَ الْمُؤْمنينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْه حَتّٰى يَميزَ الْخَبيثَ منَ الطَّيِّب. أي الأعمال الخبيثة من الأعمال الصالحة، و النفوس الخبيثة من النفوس الزكيّة.

و قال- تعالى-: وَ لٰا تَتَبَدَّلُوا الْخَبيثَ بالطَّيِّب أي الحرام بالحلال ...» «1»

و راجع في هذا المجال نهاية ابن الأثير و مجمع البحرين «2» أيضا.

و ناقش الأستاذ الإمام «ره» على الاستدلال بآية الخبائث بما محصّله: «أنّها ليست

______________________________

(1) المفردات/ 141. و الآية الأولى من سورة الأعراف (7)، رقمها 157؛ و الثانية من سورة الأنبياء (21)، رقمها 74؛ و الثالثة من سورة آل عمران (3)، رقمها 179؛ و الرابعة من سورة النساء (4)، رقمها 2.

(2) راجع النهاية 2/ 4؛ و مجمع البحرين 2/ 251 (ط. أخرى/ 148).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 228

..........

______________________________

بصدد بيان تحريم الخبائث، بل بصدد بيان أوصاف النبي «ص» و ما يصنعه في زمان نبوّته بنحو الحكاية و الإخبار، و ليس المقصود أنّه «ص» يحرّم عليهم عنوان الخبائث بأن يجعل حكم الحرمة على هذا

العنوان.

بل المقصود أنّه يحرّم عليهم كلّ ما كان خبيثا بالحمل الشائع كالميتة و الخمر و الخنزير مثلا، فإذا نهى عن أكل الميتة و لحم الخنزير و الدم مثلا صدق أنّه نهى عن الخبائث.

فعنوان الخبائث عنوان مشير إلى العناوين الخاصّة التي يحرّمها بالتدريج و يكون من قبيل الجمع في التعبير. و كذلك سائر فقرات الآية من قوله: يَأْمُرُهُمْ بالْمَعْرُوف وَ يَنْهٰاهُمْ عَن الْمُنْكَر وَ يُحلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰات.

و بالجملة فليس هنا حكم تحريمي موضوع على عنوان الخبائث حتّى يبحث عن شموله للأبوال أو الأعيان النجسة مثلا.» «1»

أقول: يمكن أن يناقش عليه بأنّ الخبائث جمع محلّى باللام، و مفاده العموم.

فالجملة و إن لم يكن في مقام إنشاء الحرمة و لم تشرّع الحرمة قطّ على هذا العنوان العام بجعل واحد، لكنها بعمومها تحكي عن تشريع الحرمة على كلّ ما هو من مصاديق الخبيث عرفا أو شرعا. فإذا ثبت خباثة شي ء أو فعل بحكم العرف فلا محالة تدلّ الآية على تشريع الحرمة عليه في ظرفه، فتدبّر. هذا.

و كيف كان فالبحث عن جواز شرب الأبوال في أعصارنا قليل الجدوى. و ليس الشرب الاختياري من المنافع الظاهرة لها، و كذا الأكل بالنسبة إلى الأرواث. فوزانهما في أعصارنا وزان الطين الذي صرّح الشيخ بأنّ المنافع الأخر للطين أهمّ و أعمّ من منفعة الأكل

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 34. و الآية المذكورة من سورة الأعراف (7)، رقمها 157.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 229

..........

______________________________

المحرّم بل لا يعدّ الأكل من منافعه و إن فرض الاستشفاء به في بعض الموارد.

و على هذا فلا يدور جواز بيع الأبوال و الأرواث مدار جواز الشرب و الأكل، بل مدار رغبة العقلاء فيها و ماليّتها عندهم للتسميد أو لاستخراج

الموادّ الكيمياوية مثلا. و لا فرق في ذلك بين الأبوال و الأرواث الطاهرة و النجسة إن فرض لها منافع محلّلة مقصودة للعقلاء و احتاجوا لتحصيلها إلى بذل الأموال. و تختلف هذه بحسب الأزمنة و الأمكنة و الشرائط و الرغبات.

نظير الماء الذي لا قيمة له في ساحل الشطّ و لكن يبذل بإزائه المال في الأمكنة الأخر، اللّهم إلّا أن يثبت الإجماع على المنع في خصوص النجاسات، و قد مرّ الكلام في ذلك.

نعم يمكن أن يفرض التداوي بها أيضا في بعض البلاد لبعض الأمراض نادرا و إذا فرض ذلك فلا مانع من بيعها حينئذ لذلك، نظير سائر الأدوية المنفرة للطبع. فالملاك تحقق الرغبة و المالية و لو في ظرف خاص.

و ما في المتن من قوله: «و المنفعة النادرة لو جوّزت المعاوضة لزم منه جواز معاوضة كل شي ء. و التداوي بها لبعض الأوجاع لا يوجب قياسها على الأدوية و العقاقير، لأنّه يوجب قياس كل شي ء عليها للانتفاع بها في بعض الأوقات»

فيرد عليه ما في مصباح الفقاهة. و ملخّصه: «أنّ التداوي بها لبعض الأوجاع يجعلها مصداقا لعنوان الأدوية، فكما يجوز بيعها و لو كانت نجسة فكذلك الأبوال مطلقا لكونها من الأدوية. و انطباق الكلّي على أفراده غير مربوط بالقياس.

و ماليّة الأشياء تدور مدار رغبات الناس بلحاظ حاجاتهم إليها على حسب الحالات

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 230

..........

______________________________

و الأزمنة و الأمكنة. و لا شبهة أنّ المرض من الحالات التي لأجلها يحتاج الإنسان إلى الأدوية و العقاقير طاهرة كانت أو نجسة. و لأجل ذلك يجلبها الناس من أقاصي البلاد.

اللّهم إلّا أن يكون مراد المصنّف سقوط ماليّة الأبوال لكثرتها. و فيه- مضافا إلى كونه خلاف الظاهر من كلامه، و

إلى منع كثرتها في البلاد-: أنّ الكثرة لا توجب سقوط ما ليتها بعد إمكان الانتفاع بها في بعض الأمكنة، و إلّا لزم سلب المالية عن أكثر المباحات.

نعم لا يبعد الالتزام بسقوط ماليتها إذا لم ينتفع بها في محلّها و لم يمكن نقلها إلى محلّ ينتفع بها.» «1»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 39.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 231

[ضابطة المنع تحريم الشي ء اختيارا]

نعم يمكن أن يقال: إنّ قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و كذلك الخبر المتقدّم عن دعائم الإسلام يدلّ على أنّ ضابطة المنع تحريم الشي ء اختيارا و إلّا فلا حرام إلّا و هو محلّل عند الضرورة. و المفروض حرمة شرب الأبوال اختيارا، و المنافع الأخر غير الشرب لا يعبأ بها جدّا، فلا ينتقض بالطين المحرّم أكله، فإنّ المنافع الأخر للطين أهمّ و أعمّ من منفعة الأكل المحرّم، بل لا يعدّ الأكل من منافع الطين.

فالنبوي دالّ على أنّه إذا حرّم اللّه شيئا بقول مطلق بأن قال: يحرم الشي ء الفلاني، حرم بيعه. لأنّ تحريم عينه إمّا راجع إلى تحريم جميع منافعه أو إلى تحريم أهمّ منافعه الذي يتبادر عند الإطلاق بحيث يكون غيره غير مقصود منه. و على التقديرين يدخل الشي ء لأجل ذلك فيما لا ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة.

و الطين لم يحرم كذلك بل لم يحرم إلّا بعض منافعه الغير المقصودة منه و هو الأكل، بخلاف الأبوال، فإنّها حرمت كذلك فيكون التحريم

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 232

راجعا إلى شربها، و غيره من المنافع في حكم العدم. و بالجملة فالانتفاع بالشي ء حال الضرورة منفعة محرّمة في حال الاختيار لا يوجب جواز بيعه. (1)

______________________________

(1). أقول: قد حكم المصنّف أوّلا بأنّ الأبوال الطاهرة على القول بحرمة

شربها لا يجوز بيعها لعدم المنفعة المقصودة فيها. و المنفعة النادرة لو جوّزت المعاوضة لزم منه جواز معاوضة كل شي ء. ثم أعاد الإشكال هنا ثانيا من طريق آخر فوجّهه إلى حيثية الاضطرار بتقريب أنّ حلّية الشي ء عند الاضطرار لا تجوّز بيعه.

و ملخّص كلامه بعد جمع كلماته: «أنّ قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و كذلك خبر دعائم الإسلام يدلان على أنّ ضابطة المنع تحريم الشي ء اختيارا و إلّا فلا حرام إلّا و هو محلّل عند الضرورة.

و بالجملة فالانتفاع بالشي ء حال الضرورة منفعة محرّمة في حال الاختيار لا يوجب جواز بيعه. و ممّا ذكرنا يظهر أنّ قوله «ع» في رواية تحف العقول: «كل شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات» يراد به جهة الصلاح الثابتة حال الاختيار دون الضرورة.

و في بول الإبل أيضا لو قلنا بحرمة شربه اختيارا أشكل الحكم بجواز البيع إن لم يكن إجماعيّا. لا لأنّه منفعة جزئية نادرة كما يظهر من العلامة في النهاية و ابن سعيد في النزهة. بل لأن المنفعة المحلّلة للاضطرار و إن كانت كلّية لا تسوّغ البيع كما عرفت.»

أقول: لو فرضنا أنّ أحدا مرض مرضا شديدا فاضطرّ إلى شرب أحد من المحرّمات أو أكله لحفظ نفسه من التلف أو الأمراض المزمنة و لم يكن هذا الشي ء عنده و لم يتمكن من تحصيله بنفسه لا لعدم المال بل لعدم القدرة على صنعه و لكن تمكن غيره من صنعه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 233

..........

______________________________

فهل يتعين بنظر الشيخ الأعظم «ره» على هذا الشخص المريض أن يموت صبرا.

أو أنّه يتعين على هذا الغير صرف ماله و وقته و إمكاناته في تحصيل هذا الشي ء و

صنعه لهذا المريض مجّانا و بلا عوض.

أو أنّه يتعين أن يعطي له المال و لكن لا بإزاء هذا الشي ء بل في قبال رفع يده عمّ صنعه و حصّله مخافة أن تقع المعاملة الباطلة؟!

لا أظنّ أن يلتزم الشيخ بأحد هذه الوجوه الثلاثة، إذ كلها مخالف للحكمة و العقل الصريح و الشريعة السمحة السهلة التي شرّعها اللّه- تعالى- لمصالح عباده إلى يوم القيام.

و في الأدوية الّتي تصنع في أعصارنا لبعض الأمراض الصعب العلاج ما يشتمل على موادّ محرّمة لا بدّ منها، فلا محالة يجب أن يحصّل الدواء اللازم بالشراء ممن حصّله و لو بثمن غال حفظا لحقوق الطرفين. و أيّ صلاح أقوى من حفظ الحياة و السلامة؟!

و قد تبدّل في هذه الموارد عنوان الحرام بعنوان الجواز بل الوجوب لوجوب حفظ النفس.

و كيف يحلّ بقوله «ع» في موثّقة سماعة: «ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه» «1» استعمال هذا الشي ء الحرام و لا يجوز بيعه لأجل ذلك؟! و قد مرّ منّا أن الحلّ و الحرمة أعمّ من التكليف و الوضع. و المورد في هذه الرواية أيضا هو الوضع أعني صحّة الصلاة. و معاملة المضطرّ صحيحة كما حقّق في محلّه.

و المعاملات- كما مرّ- أمور عقلائية اعتبرها العقلاء فيما بينهم لرفع حاجات المجتمع

______________________________

(1) الوسائل 4/ 690، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 234

..........

______________________________

و لم يردع الشارع إلّا عمّا يضرّ منها من أساسه كالرّبا و الغرر مثلا.

و ليست المعاملات أمورا تعبّدية محضة نظير العبادات المحضة التابعة للمصالح الغيبية الخفيّة التي لا يعلمها إلّا اللّه- تعالى-.

فليحمل قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم على قوم شيئا حرّم عليهم ثمنه»- على

فرض صدوره عنه «ص»- على صورة وقوع المعاملة على الشي ء المحرّم بقصد ترتيب آثاره المحرّمة كالشرب الاختياري في الخمر مثلا. إذ تعليق الجزاء على الشرط ظاهر في التقييد و دورانه مداره فينصرف عن البيع بقصد المنافع غير المحرّمة و منها العلاج عند الضرورة.

و هكذا الكلام في خبري الدعائم و تحف العقول. و قد مرّ أنّ المصنّف أيضا خصّ حرمة الاكتساب بما إذا وقع النقل و الانتقال بقصد ترتيب الأثر المحرّم.

بل يمكن القول بجواز البيع و الشراء فعلا بلحاظ الضرورات المحتملة في المستقبل أيضا و إن لم تتحقق فعلا. و قد تعرّض لهذا المعنى المحقق الإيرواني في حاشيته في المقام. قال: «و يمكن أن يلتزم بجواز بيع المحرّمات أيضا لأجل التداوي كبيع لحم الأفعى و بيع السمك السقنقور و لو قبل فعلية الاضطرار مقدّمة لزمان الاضطرار كما في الأدوية أيضا كذلك تباع قبل زمان الحاجة. و لعلّ المراد من قوله «ع» في رواية التحف: «إلّا في حال تدعو الضرورة إلى ذلك» أريد به هذا، فإنّ الضرورة تدعو إلى الاشتراء قبل حلول المرض لأجل التداوي عند حلوله أو لأجل البيع على المريض.» «1»

أقول: ما ذكره أمر متين يشهد به حكم العقلاء و سيرتهم و ينصرف عن مثله روايات المنع.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 235

[النقض بالأدوية المحرّمة في غير حال المرض لأجل الإضرار]

و لا ينتقض أيضا بالأدوية المحرّمة في غير حال المرض لأجل الإضرار، لأن حلّية هذه في حال المرض ليست لأجل الضرورة بل لأجل تبدّل عنوان الإضرار بعنوان النفع. (1)

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ قوله «ع» في رواية تحف العقول المتقدّمة: «و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات» يراد به جهة الصلاح الثابتة

حال الاختيار دون الضرورة.

______________________________

(1) في حاشية الإيرواني «ره» في مقام إبداء الفرق بين المقام و بين الأدوية المحرّمة لأجل الإضرار قال: «الفارق هو أنّ الحرمة بمناط الإضرار لا يلحق الشي ء بذاته و إنّما يلحقه بكمّه. و بهذا المناط الخبز و الماء أيضا مضرّان إن أكل الإنسان زائدا عن الحدّ، و ما هذا شأنه لا يحرم بيعه، بخلاف ما كان محرّما في ذاته زاد أو نقص.» «1»

أقول: يمكن أن يوجد دواء يضرّ بذاته لا بكمّه فقط فيحرم استعماله في الشرائط العادية، و لكن المرض مرض مهلك ينحصر الخلاص منه في هذا الدواء المضرّ فيستعمل من باب دفع الأفسد بالفاسد. و على هذا فوزانه وزان ما نحن فيه كما لا يخفى.

و الظاهر أنّ ما ذكره المصنّف من الفرق غير فارق بحسب الحكم لتبدّل موضوع الحرمة في الجميع، فالشي ء المحرّم إذا صار حلالا لشخص و لو لأجل الاضطرار إليه و احتاج في تحصيله إلى الشراء من الغير فلا وجه لمنع المعاملة عليه بعد ما توقف صنعه و تحصيله على صرف المال أو الوقت و صار له ماليّة و قيمة و لو بلحاظ الاضطرار إليه و بالنسبة إلى هذا الشخص الخاصّ.

إذ دليل الاضطرار كما يرفع حرمته تكليفا يرفع حرمته بحسب الوضع أيضا. و المنع في رواية تحف العقول و غيرها منصرف إلى البيع بلحاظ المنافع المحرّمة كما مرّ بيان ذلك، فتدبّر.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 236

[حرمة بيع لحوم السباع]

و مما ذكرنا يظهر حرمة بيع لحوم السباع دون شحومها. فإنّ الأوّل من قبيل الأبوال، و الثاني من قبيل الطين في عدم حرمة جميع منافعها المقصودة منها.

و لا ينافيه النبويّ: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم

فباعوها و أكلوا ثمنها.» لأنّ الظاهر أنّ الشحوم كانت محرّمة الانتفاع على اليهود بجميع الانتفاعات لا كتحريم شحوم غير مأكول اللحم علينا (1). هذا.

______________________________

(1) محصّل كلامه «ره» وجود الفرق بين لحوم السباع و شحومها، بتقريب عدم وجود المنفعة المحلّلة المقصودة للحومها فلا مالية لها فلا يجوز بيعها بخلاف الشحوم لإمكان صرفها في الإسراج و طلي السفن و نحوهما. و لا ينافي ذلك النبويّ، إذ الشحوم كانت محرّمة على اليهود بجميع انتفاعها بخلاف شحوم ما لا يؤكل لحمه علينا إذ المحرم علينا هو الأكل فقط.

أقول: لحوم السباع و إن حرم أكلها لكن يمكن إطعام الكلب و الهرّة بها و صرفها في التسميد، بل و استخراج الموادّ النافعة منها في أعصارنا. و المنفعة و الماليّة تختلفان بحسب الأزمنة و الأمكنة و الشرائط، فلا وجه لمنع بيعها بنحو الإطلاق.

ثم إنّ الأصل في حرمة الشحوم على اليهود هو قوله- تعالى- في سورة الأنعام:

وَ منَ الْبَقَر وَ الْغَنَم حَرَّمْنٰا عَلَيْهمْ شُحُومَهُمٰا إلّٰا مٰا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمٰا «1» الآية. و الظاهر منه و لا سيّما بقرينة السياق تحريم أكلها لا مطلق الانتفاع بها، فإنّ الأكل هو الأثر المتعارف المترقب منها و لا سيّما في تلك الأعصار.

______________________________

(1) سورة الأنعام (6)، الآية 146.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 237

و لكن الموجود من النبوي في باب الأطعمة على الخلاف: «إنّ اللّه إذا حرّم أكل شي ء حرّم ثمنه.»

______________________________

كما أنّ الظاهر كون اللعن في الحديث متوجّها إليهم بلحاظ بيعها لأجل ذلك من جهة كونه إعانة منهم على الأمر المحرّم.

و الحديث مع الضابطة المذكورة في الذيل المرويّ عن ابن عباس كما مرّ، رواه عنه أبو داود، «1» و البيهقي «2»، و أحمد في ثلاثة مواضع «3». و

المذكور في الجميع كلمة الأكل إلّا في الموضع الأخير من مسند أحمد. و في تعارض أصالة عدم الزيادة و أصالة عدم النقيصة تقدم الأولى كما مرّ.

و على هذا فيجب حمله على صورة كون الشي ء معدّا للأكل و بيع لذلك و إلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن، و أمّا مع قطع النظر عن ذلك فلا قصور في دلالته و إن ظهر من كلام المصنّف. هذا كلّه على رواية ابن عباس.

و لكن في رواية جابر أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟! فقال: «لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه «ص» عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود إنّ اللّه لمّا حرّم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.» «4»

______________________________

(1) راجع سنن أبى داود 2/ 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

(2) سنن البيهقى 6/ 13، كتاب البيوع، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.

(3) مسند أحمد 1/ 247 و 293 و 322، مسند عبد اللّه بن عباس.

(4) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 238

و الجواب عنه مع ضعفه و عدم الجابر له سندا و دلالة لقصورها لزوم تخصيص الأكثر.

[الثاني: بول الإبل يجوز بيعه إجماعا]

الثاني: بول الإبل يجوز بيعه إجماعا- على ما في جامع المقاصد و عن إيضاح النافع- إمّا لجواز شربه اختيارا كما يدل عليه قوله «ع» في رواية الجعفري: «أبوال الإبل خير من ألبانها»، و إمّا لأجل الإجماع المنقول لو

قلنا بعدم جواز شربها إلّا لضرورة الاستشفاء كما يدلّ عليه رواية سماعة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن بول الإبل و البقر و الغنم ينتفع به من الوجع هل يجوز أن يشرب؟ قال: «نعم، لا بأس.» و موثقة عمار عن بول البقر يشربه الرجل؟ قال: «إن كان محتاجا إليه يتداوى بشربه فلا بأس. و كذلك بول الإبل و الغنم.» (1)

______________________________

و يمكن أن يستشعر من هذه الرواية أنّ المحرّم على اليهود كان جميع الانتفاعات من الشحوم. و لكن يمكن منع ظهورها في ذلك، إذ المتيقن منها حرمة جميع الانتفاعات في خصوص الميتة و سيأتي البحث في ذلك.

(1) راجع الوسائل، أبواب الأطعمة المباحة «1».

و قد مرّ البحث عن حكم شرب الأبوال الطاهرة و أنّ الأصل و إن كان يقتضي الحلّية لكن ظاهر الشرط في موثّقة عمار اختصاص الحلّية بصورة الاحتياج للتداوي. و أمّا موثّقة سماعة فلا تدلّ على الاختصاص، إذ القيد في كلام الراوي.

______________________________

(1) راجع الوسائل 17/ 87 و 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديثان 3 و 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 239

لكن الإنصاف أنّه لو قلنا بحرمة شربه اختيارا أشكل الحكم بالجواز إن لم يكن إجماعيا، كما يظهر من مخالفة العلامة في النهاية و ابن سعيد في النزهة.

قال في النهاية: «و كذلك البول يعني يحرم بيعه و إن كان طاهرا، للاستخباث كأبوال البقر و الإبل و إن انتفع به في شربه للدواء لأنّه منفعة جزئية نادرة فلا يعتدّ به.» انتهى.

أقول: بل لأنّ المنفعة المحلّلة للاضطرار و إن كانت كلّية لا تسوّغ البيع كما عرفت. (1)

______________________________

و أمّا رواية الجعفري ففي سندها بكر بن صالح، و فيه كلام بل ربما يناقش في دلالتها

أيضا، فراجع ما مرّ في أول المسألة «1».

(1) قد مرّ بالتفصيل أنّ الملاك في جواز البيع الرغبة في الشي ء و ماليّته عند العقلاء بل عند الشخص الذي يشتريه بشرط عدم كون استعماله له محرّما شرعا و لو في حالة خاصّة، و هو المستفاد من رواية التحف و غيرها أيضا.

______________________________

(1) راجع ص 222 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 240

[المسألة الثانية: في بيع العذرة]
اشارة

الثانية: يحرم بيع العذرة من كلّ حيوان على المشهور (1)، بل في التذكرة كما عن الخلاف الإجماع على تحريم بيع السرجين النجس. (2)

______________________________

2- بيع العذرة

(1) ظاهر العبارة أنّ المشهور لم يفرّقوا في تحريم البيع بين العذرة النجسة و الطاهرة، و لعلّه المترائى من عبارات المقنعة و المراسم و النهاية كما يأتي. و لا محالة تكون حرمته في الطاهرة منها بلحاظ عدم الانتفاع بها و عدم ماليّتها فلا يتحقق البيع المعرّف بمبادلة مال بمال، و إلّا فلا وجه لحرمة بيعها إذا فرض كونها ذات منفعة محلّلة عقلائية.

و في بعض النسخ- على ما قيل- تقييد العذرة بالنجسة، فيكون الإسناد إلى المشهور مؤذنا بوجود الخلاف في مسألة بيع العذرة النجسة أيضا.

[كلمات الفقهاء في المقام]

(2) الأولى ذكر بعض الكلمات ثم نتبعها بذكر أخبار المسألة:

1- في بيع الخلاف (المسألة 310): «سرجين ما يؤكل لحمه يجوز بيعه. و قال أبو حنيفة: يجوز بيع السراجين. و قال الشافعي: لا يجوز بيعها و لم يفصّلا.

دليلنا على جواز ذلك أنّه طاهر عندنا. و من منع منه فإنّما منع لنجاسته.

و يدلّ على ذلك بيع أهل الأمصار في جميع الأعصار لزروعهم و ثمارهم، و لم نجد أحدا كره ذلك، و لا خلاف فيه، فوجب أن يكون جائزا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 241

..........

______________________________

و أمّا النجس منه فلدلالة إجماع الفرقة. و روي عن النبي «ص» أنّه قال: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و هذا محرّم بالإجماع فوجب أن يكون بيعه محرّما.» «1»

أقول: ظاهره أنّه أراد بالسرجين ما يعمّ عذرة الإنسان أيضا، إذ لم يبحث عنها مستقلا، إلّا أن يقال باتفاق الفريقين على عدم جواز بيعها، فلم يكن وجه للبحث عنها في كتاب الخلاف.

و الظاهر من الشيخ

و قدماء أصحابنا أنّهم أرادوا بجواز البيع و حلّيته و عدم جوازه و حرمته الصحة و عدم الصحة، لا الجواز و الحرمة التكليفين. و لو سلّم إرادتهم التكليف فلا إشكال في إرادة الوضع أيضا.

و بيع أهل الأمصار لزروعهم لو دلّ على الصّحة فيما يؤكل لدلّ عليها فيما لا يؤكل أيضا و لا سيّما في عذرة الإنسان، لشيوع الانتفاع بها في التسميد.

و استدلال الشيخ و أصحابنا بالرواية و أمثالها لعلّه من باب المماشاة مع أهل الخلاف، فلا يثبت بذلك اعتمادهم عليها.

مضافا إلى ما مرّ من أنّ الغالب في نقل هذه الرواية ذكر كلمة الأكل في الشرط فيقيّد الجزاء أيضا بما إذا كان الشي ء معدّا للأكل و وقع البيع و الشراء بهذا الداعي لا مطلقا و إلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن.

و قوله: «هذا محرّم بالإجماع» إن أراد به حرمة جميع الانتفاعات فهي أوّل الكلام بل ممنوعة. و إن أراد به حرمة بعضها فلازمها حرمة البيع لذلك لا مطلقا إلّا أن لا يكون لها مالية.

______________________________

(1) الخلاف 3/ 185 (ط. أخرى 2/ 82)، كتاب البيوع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 242

..........

______________________________

فالعمدة في كلام الشيخ ما ادّعاه من إجماع الفرقة. و قد مرّ منّا عدم ثبوته بنحو يكشف به قول المعصوم «ع» كشفا قطعيا و لا سيّما في المقام، إذ من المحتمل كون مدركهم الأخبار الواردة، فتدبّر.

2- و في النهاية: «و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما، إلّا أبوال الإبل خاصّة.» «1»

أقول: استثناء أبوال الإبل يقتضي كون المستثنى منه هو الأعمّ من النجسة و الطاهرة، و هذا ينافي صدر العبارة، ففيها نحو تهافت.

3- و في المبسوط:

«و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب و الدّم فإنّه لا يجوز بيعه. و يجوز الانتفاع به في الزروع و الكروم و أصول الشجر بلا خلاف.» «2»

أقول: ظاهر النهاية حرمة الانتفاع بها مطلقا. و ظاهر المبسوط جواز الانتفاع بها في التسميد بلا خلاف. إلّا أن يريد بتصرف المحرّم في النهاية معنى لا يشمل الانتفاع بالتسميد، كأن يريد التصرفات الناقلة مثلا.

ثمّ القول بعدم جواز البيع مع جواز الانتفاع بها في التسميد لا يخلو من مجازفة. إذ التسميد منفعة مهمّة عقلائية و وجود المنفعة المحلّلة العقلائية يقتضي جواز البيع لأجلها.

و لو قيل في مثل الخمر و الميتة مما يصرف في الشرب و الأكل عادة أنّ بيعها و لو بقصد المنفعة المحلّلة يوجب الإعانة على الإثم لعدم الاطمينان بعدم الانتفاع بها في المنافع

______________________________

(1) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

(2) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصح.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 243

..........

______________________________

المحرّمة فيحرم بيعها لذلك، فلا يجري هذا الإشكال في مثل العذرة و السّرجين، لوضوح أنّ شراءها ليس إلّا لأجل التسميد و نحوه من المنافع المحلّلة، و على هذا فلا وجه لحرمة بيعها.

4- و قد مرّ عن المقنعة قوله: «و بيع العذرة و الأبوال كلّها حرام إلّا أبوال الإبل خاصة ...» «1»

5- و مرّ عن المراسم: «و التصرّف في الميتة ... و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «2»

أقول: هما لم يفرّقا في العذرة و الأبوال بين النجسة و الطاهرة في حرمة البيع.

و ظاهرهما كونها بملاك واحد، و لعلّه فقد المنفعة المحللة لهما.

6- و ذكر

في الغنية أيضا فيما لا يصحّ بيعه: «سرقين ما لا يؤكل لحم.» «3»

7- و مرّ عن الشرائع ذكر الأعيان النجسة فيما يحرم الاكتساب بها و عدّ منها: «أرواث و أبوال ما لا يؤكل لحمه.» «4»

أقول: الظاهر من اللغة اختصاص الروث بمدفوع غير الإنسان اللّهم إلّا أن يراد عموم المجاز.

8- و ذيّل عبارة الشرائع في المسالك بقوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «5»

______________________________

(1) المقنعة/ 587، باب المكاسب.

(2) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(4) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(5) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 244

..........

______________________________

9- و ذيلها في الجواهر بقوله: «بلا خلاف معتدّ به أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه بل المنقول منهما مستفيض.» «1»

10- و مرّ عن القواعد في بيان المتاجر المحظورة قوله: «و أبوال ما لا يؤكل لحمه و أرواثها.» «2»

11- و في التذكرة: «لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعا منّا، و به قال مالك و الشافعي و أحمد للإجماع على نجاسته فيحرم بيعه كالميتة. و قال أبو حنيفة: يجوز، لأنّ أهل الأمصار يبايعونه لزروعهم من غير نكير، فكان إجماعا. و نمنع إجماع العلماء و لا عبرة بغيرهم. و لأنّه رجيع نجس فلم يصحّ بيعه كرجيع الآدميّ. و أمّا غير النجس فيحتمل عندي جواز بيعه.» «3»

أقول: ظاهره أنّ المراد بالسّرجين غير رجيع الآدميّ و أنّ المختلف فيه هو السرجين،

و أمّا رجيع الآدمي فلا اختلاف في حرمة بيعه.

12- و في المنتهى: «لا يجوز بيع السرجين النجس، و به قال الشافعي و أحمد. و قال أبو حنيفة: يجوز. لنا: أنّه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة. و ما رواه الشيخ عن يعقوب بن شعيب ...» «4»

أقول: ظاهر عبارة المنتهى كون معقد الإجماع نجاسة السرجين لا عدم جواز بيعه،

______________________________

(1) الجواهر 22/ 17، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(2) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(4) المنتهى 2/ 1008، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 245

..........

______________________________

غاية الأمر أنّه رتّبه عليها و استنتجه منها. و يستشعر هذا من عبارة التذكرة أيضا و أنّ الإجماع على عدم جواز البيع مستنتج من الإجماع على النجاسة. و استدلاله برواية يعقوب بن شعيب الواردة في العذرة دليل على مساواة السرجين و العذرة عنده في الحكم و إن فرض اختلافهما موضوعا.

13- و في نهاية العلامة: «بيع العذرة و شراؤها حرام إجماعا لوجود المقتضي و كذا البول ...» «1»

14- و في المقنع لابن قدامة الكبير: «و لا يجوز بيع السرجين النجس.»

و ذيّله في الشرح الكبير بقوله: «و بهذا قال مالك و الشافعي. و قال أبو حنيفة: يجوز، لأنّ أهل الأمصار يبتاعونه لزروعهم من غير نكير فكان إجماعا. و لنا: أنّه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة. و ما ذكروه ليس بإجماع لأنّ الإجماع اتفاق أهل العلم و لم يوجد. و لأنّه رجيع نجس فلم يجز بيعه كرجيع الآدمي.» «2»

أقول: إنّ العلامة أخذ في المنتهى و التذكرة من عبارة الشرح الكبير.

15- و في بدائع الصنائع في فقه

الحنفية: «و يجوز بيع السرقين و البعر، لأنّه مباح الانتفاع به شرعا على الإطلاق فكان مالا. و لا ينعقد بيع العذرة الخالصة، لأنه لا يباح الانتفاع بها بحال فلا تكون مالا، إلّا إذا كان مخلوطا بالتراب، و التراب غالب فيجوز بيعه لأنه يجوز الانتفاع به.» «3»

أقول: لم يعلّق في هذه العبارة جواز البيع و عدم جوازه على الطهارة و النجاسة بل على

______________________________

(1) نهاية الإحكام 2/ 463، كتاب البيع، الفصل الثالث، المطلب الأوّل، البحث الثانى.

(2) ذيل «المغنى» 4/ 16، كتاب البيع، في الشرط الثالث من شروط صحة البيع.

(3) بدائع الصنائع 5/ 144، كتاب البيوع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 246

..........

______________________________

جواز الانتفاع و عدمه، فيظهر منه الملازمة بين جواز الانتفاع و جواز البيع كما مرّ منّا، و لكنه لم يبيّن في كلامه وجه عدم جواز الانتفاع بالعذرة الخالصة. و خلطها بالتراب لا يخرجها من النجاسة إلّا إذا استحالت فصارت ترابا. نعم، يمكن كون ماليتها في تلك الأعصار متوقفة على خلطها بالتراب. و لعلّ السرقين كان يصرف في تلك الأعصار في الوقود فكان له مالية بنفسه بخلاف العذرة، إذ كان مصرفها التسميد فقط مع التراب.

16- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن المالكية: «لا يصحّ بيع النجس كعظم الميتة و جلدها ... و زبل ما لا يؤكل لحمه ... فإنّ فضلات هذه الحيوانات و نحوها لا يصحّ بيعها.»

و عن الحنابلة: «لا يصحّ بيع النجس كالخمر و الخنزير و الدم و الزبل و النجس. أمّا الطاهر فإنّه يصحّ.»

و عن الشافعية: «لا يصحّ بيع كلّ نجس كالخنزير و الخمر و الزبل و الكلب و لو كان كلب صيد.»

و عن الحنفية: «و لا ينعقد بيع العذرة

فإذا باعها كان البيع باطلا إلّا إذا خلطها بالتراب فإنّه يجوز بيعها إذا كانت لها قيمة ماليّة كأن صارت سباخا. و يصحّ بيع الزبل و يسمّى سرجين أو سرقين و كذا بيع البعر. و يصحّ الانتفاع و جعله وقودا.» «1»

17- و قد مرّ عن أبي إسحاق الشيرازي في المهذّب «2» أنّ دليل فقهاء السنّة في عدم جواز بيع النجس خبر جابر المتضمن لتحريم بيع الخمر و الميتة و الخنزير، و ما ورد من النهى عن بيع الكلب، فقاسوا عليها غيرها، فليس لهم في العذرة و السرقين نصّ خاصّ. هذا.

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجس.

(2) راجع ص 181 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 247

..........

______________________________

و قد طال الكلام في نقل الكلمات. و يظهر منها اتفاق فقهاء الفريقين على بطلان بيع العذرة بالمعنى الأعمّ إجمالا. و ظاهرهم كونه من جهة النجاسة المحضة و أنّ النجاسة عندهم موضوع مستقلّ لمنع المعاملة في قبال عدم المنفعة، و قد صرّح بهذا التعميم الشهيد فيما مرّ من عبارة المسالك.

مع أنّ الانتفاع بها في التسميد كان شائعا في جميع الأعصار، و التسميد بنفسه منفعة مهمّة عقلائية. و عن قرب الإسناد عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ «ع»: «أنّه كان لا يرى بأسا أن يطرح في المزارع العذرة.» «1»

و في أعصارنا ينتفع بها انتفاعات واسعة و يستخرج منها موادّ كيمياوية نافعة. فهل يمكن مع ذلك القول بحرمة جميع هذه الانتفاعات مع استقرار السيرة عليها، أو القول بجواز الانتفاع و حرمة المعاملة عليها، مع وضوح أنّ المعاملات شرّعت لرفع الحاجات و تبادل الأعيان النافعة، و

الشريعة السمحة الجامعة الباقية إلى يوم القيامة لا تريد إلّا مصالح العباد؟ فما ذا نقول في هذا المجال؟

و قد ورد في الرواية التي رواها المفضل عن الصادق «ع» في التوحيد ما يدلّ على موقع العذرات في الزراعات؛ فلنذكرها، إذ لها قيمة تاريخية و إن لم تثبت من جهة السند. قال:

«فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق و كبيره، و بما له قيمة و ما لا قيمة له. و أخسّ من هذا و أحقره الزبل و العذرة التي اجتمعت فيها الخساسة و النجاسة معا، و موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع الموقع الذي لا يعد له شي ء حتّى إنّ كلّ شي ء من الخضر لا يصلح و لا يزكو إلا بالزبل و السماد الذي يستقذره الناس و يكرهون الدنوّ منه.

______________________________

(1) الوسائل 16/ 358 (طبعة أخرى 16/ 435)، الباب 29 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 248

و يدلّ عليه مضافا إلى ما تقدّم من الأخبار رواية يعقوب بن شعيب:

«ثمن العذرة من السّحت.» (1)

______________________________

و اعلم أنّه ليس منزلة الشي ء على حسب قيمته، بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين. و ربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم، فلا تستصغر العبرة في الشي ء لصغر قيمته. فلو فطنوا طالبوا الكيميا لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان و غالوا بها.» «1»

أقول: في الرواية دلالة على الانتفاع بها في التسميد في عصر الأئمة «ع» و على جواز ذلك شرعا و كون قيمتها نازلة في تلك الأعصار و اشتمالها على مواد كيمياوية لو التفتوا إليها لاشتروها بالأثمان الغالية. و ليس فيها إشارة إلى منع المعاملة عليها بل فيها إشعار بجواز المعاملة عليها مع

اشتمالها على القيمة السّوقية. و الاعتبار أيضا يساعد على جواز المعاملة عليها مع فرض جواز الانتفاع بها و كونها ذات قيمة و مالية، إلّا أن يثبت المنع بالدليل.

(1) أقول: القائل بالمنع إمّا أن يستدلّ له بالأدلّة العامّة التي استدلّوا بها لبطلان المعاملة على النجس بإطلاقه. و قد مرّت بالتفصيل و أجبنا عنها بمنع حجيتها أو دلالتها أو إطلاقها، فراجع. «2»

و إمّا أن يستدلّ بما ورد في خصوص العذرة من الإجماع المدّعى و الروايات.

أمّا الإجماع فبعد احتمال كونه مدركيّا يسقط عن الاعتبار. مضافا إلى أن معقد إجماع الخلاف و محلّ البحث في التذكرة و المنتهى و كثير من العبارات هو السرجين،

______________________________

(1) بحار الأنوار 3/ 136، كتاب التوحيد، الباب 4 في الخبر المشتهر بتوحيد المفضل بن عمر، المجلس الثالث؛ مستدرك الوسائل 2/ 436، الباب 33 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) راجع ص 185 و ما بعدها من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 249

..........

______________________________

و شموله لعذرة الإنسان غير واضح. كما أنّ مورد الروايات هو العذرة و يشكل شمولها لما يخرج من غير الإنسان كما يأتي. اللّهم إلّا أن يدّعى العلم بمساواتهما في الحكم و إن اختلفا موضوعا، و لكنه كما ترى.

[الروايات الواردة في المقام]
اشارة

و أمّا الروايات الواردة في المقام فهي أربع روايات يظهر من اثنتين منها المنع، و من الثالثة الجواز، و جمع في الرابعة منها بين المنع و الجواز. فلنذكرها ثمّ نتبعها بما قيل في الجمع بينها:

فالأولى: رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه «ع»

، قال: «ثمن العذرة من السّحت.» «1»

و في السند علي بن مسكين أو سكن، و كلاهما مهملان لم يذكرا بمدح و لا قدح، فلا يعتمد على الرواية بانفرادها.

أقول: 1- في معجم مقاييس اللغة: «العذرة: فناء الدار. و في الحديث: «اليهود أنتن خلق اللّه عذرة.» أي فناء ثمّ سمّي الحدث عذرة لأنّه كان يلقى بأفنية الدور.» «2»

2- و في الصحاح: «و العذرة: فناء الدار، سمّيت بذلك لأنّ العذرة كانت تلقى في الأفنية.» «3»

3- و في القاموس: «و العاذر: عرق الاستحاضة و أثر الجرح و الغائط كالعاذرة و العذرة.

و العذرة: فناء الدار و مجلس القوم و أرد أما يخرج من الطعام.» «4»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) مقاييس اللغة 4/ 257.

(3) الصحاح 2/ 738.

(4) القاموس المحيط 2/ 86.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 250

..........

______________________________

4- و في النهاية: «و فيه: «اليهود أنتن خلق اللّه عذرة.» العذرة: فناء الدار و ناحيتها ...

و في حديث ابن عمر أنّه كره السّلت الذي يزرع بالعذرة. يريد الغائط الذي يلقيه الإنسان. و سمّيت بالعذرة لأنهم كانوا يلقونها في أفنية الدور.» «1»

5- و في لسان العرب: «و العاذر و العذرة: الغائط الذي هو السلح. و في حديث ابن عمر أنّه كره السلت الذي يزرع بالعذرة، يريد الغائط الذي يلقيه الإنسان. و العذرة: فناء الدار.

و في حديث عليّ «ع» أنّه عاتب قوما فقال: «مالكم لا تنظّفون عذراتكم.» أي أفنيتكم ...

قال أبو عبيد:

و إنّما سمّيت عذرات الناس بهذا لأنها كانت تلقى بالأفنية فكنّي عنها باسم الفناء كما كنّي باسم الغائط، و هي الأرض المطمئنّة، عنها.» «2»

و الظاهر من جميع هذه العبارات أنّ لفظ العذرة يطلق على خصوص ما يخرج من الإنسان كما لا يخفى.

نعم في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع- على ما عن الكافي- ما يشعر بصحة إطلاقها على ما يخرج من غير الإنسان أيضا. قال: «أو يسقط فيها شي ء من عذرة كالبعرة و نحوها.» و لكن في النقل عن الشيخ هكذا: «أو يسقط فيها شي ء من غيره كالبعرة.» فراجع الوسائل «3».

و في رواية كردويه عن أبي الحسن «ع» في بئر يدخلها ماء المطر فيه البول و العذرة و أبوال الدوابّ و أرواثها و خرء الكلاب «4».

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 3/ 199.

(2) لسان العرب 4/ 554.

(3) الوسائل 1/ 130، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 21 و ذيله.

(4) الوسائل 1/ 140، الباب 20 من أبواب الماء المطلق، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 251

..........

______________________________

و في رواية علي بن جعفر عن أخيه «ع» قال: سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل من عذرة رطبة أو يابسة أو زبيل من سرقين «1».

جعل العذرة قسيما للروث و الخرء و السرقين. فيظهر منهما كونها غيرها.

و قد مرّ عن المبسوط قوله: «و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب.» «2» و ظاهره تفاوت الألفاظ الثلاثة. و لكنه قال في النهاية: «أنواع العذرة و الأبوال.» «3» و ظاهره تعميم لفظ العذرة.

و أمّا الزبل ففي الصحاح: «الزبل بالكسر: السرجين. و موضعه مزبلة.» «4»

و في النهاية: «الزبل بالكسر: السرجين. و بالفتح مصدر زبلت الأرض إذا أصلحتها

بالزبل.» «5»

و أمّا السرجين ففي الصحاح: «السرجين بالكسر معرّب ... و يقال: سرقين.» «6»

و في القاموس: «السرجين و السرقين بكسرهما: الزبل، معرّبا سرگين بالفتح.» «7»

فيظهر منهم مرادفة الزبل و السرجين. و إطلاقهما على ما يخرج من غير الإنسان واضح. و هل يطلقان فيما يخرج منه أيضا؟ يحتاج إلى تتبّع أكثر.

و أمّا الروث ففي النهاية: «في حديث الاستنجاء: «نهى عن الروث و الرمّة.» الروث:

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 6.

(2) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(3) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

(4) الصحاح 4/ 1715.

(5) النهاية لابن الأثير 2/ 294.

(6) الصحاح 5/ 2135.

(7) القاموس المحيط 4/ 234.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 252

..........

______________________________

رجيع ذوات الحافر.» «1»

و في الصحاح: «الروثة واحدة الروث و الأرواث. و قد راثت الفرس. و في المثل: أحشّك و تروثني.» «2»

و في لسان العرب عن ابن سيدة: «الروث: رجيع ذي الحافر و الجمع: أرواث ...

التهذيب: يقال لكلّ ذي حافر: قد راث يروث روثا.» «3»

و لكن مرّ في بعض عبارات الأصحاب في المقام كالشرائع و القواعد لفظ الأرواث، فهل أرادا بذلك خصوص ما يخرج من غير الإنسان أو الأعمّ مجازا و مسامحة كما ربما يطلق لفظ العذرة على ما يخرج من غير الإنسان كذلك؟

و كيف كان فالمتيقن من لفظ العذرة الوارد في رواية يعقوب بن شعيب و غيرها خصوص ما يخرج من الإنسان و يشكل شموله لغيره. فما يظهر من الأستاذ «ره» «4» من التعميم ناسبا له إلى ظاهر اللغويين قابل للمنع.

و أمّا السّحت فقد مرّ عن الخليل في العين «5» تفسيره بكلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار.

و عن

مفردات الراغب تفسيره بالقشر الذي يستأصل قال: «و منه السحت للمحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنّه يسحت دينه و مروّته.» «6»

و في لسان العرب: «السحت و السحت: كلّ حرام قبيح الذكر، و قيل: هو ما خبث من

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 2/ 271.

(2) الصحاح 1/ 284.

(3) لسان العرب 2/ 156.

(4) راجع المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 40.

(5) راجع العين 3/ 132.

(6) المفردات/ 231.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 253

..........

______________________________

المكاسب و حرم فلزم منه العار ... و يرد في الكلام على المكروه مرّة و على الحرام أخرى، و يستدلّ عليه بالقرائن و قد تكرر في الحديث.» «1»

و قد مرّ استعماله كثيرا فيما لا حرمة له و لا عقوبة و لكنه ملازم لنحو من العار و الخسّة و عدم المناسبة لكرامة الإنسان:

ففي خبر الجعفريات «2» استعمل في أمور كثيرة منها: ثمن اللقاح و كسب الحجّام و أجر القفيز و الميزان و ثمن القرد و جلود السباع و أجر صاحب السجن و أجر القارئ و الهدية يلتمس أفضل منها.

و في موثّقة سماعة: «السحت أنواع كثيرة، منها: كسب الحجّام و أجر الزانية و ثمن الخمر.» «3» و نحوها رواية أخرى له إلّا أنّ فيها: «كسب الحجام إذا شارط.» «4»

مع وضوح عدم حرمة كسب الحجّام، كما يدلّ عليه أخبار مستفيضة، فراجع «5».

و عن عيون أخبار الرضا عنه، عن آبائه، عن عليّ «ع» في قوله- تعالى-: أَكّٰالُونَ للسُّحْت قال: «هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديّته.» «6»

______________________________

(1) لسان العرب 2/ 41 و 42.

(2) راجع مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث

6.

(4) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(5) راجع الوسائل 12/ 71، الباب 9 من أبواب ما يكتسب به؛ و سنن ابن ماجة 2/ 731، الباب 10 من كتاب التجارات.

(6) الوسائل 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11. و الآية المذكورة من سورة المائدة (5)، رقمها 42.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 254

..........

______________________________

و في المستدرك عن ابن عباس في قوله- تعالى-: أَكّٰالُونَ للسُّحْت قال: «أجرة المعلّمين الذين يشارطون في تعليم القرآن.» «1»

و بالجملة فقد أطلق لفظ السحت كثيرا على ما لا حرمة له و لكنه مكروه لا يناسب مقام الإنسان و كرامته، فراجع ما حرّرناه في الدليل الثالث عشر من أدلّة حرمة المعاملة على النجس بنحو الإطلاق «2».

و كما تسند الحرمة إلى الأعيان و الأثمان بلحاظ حرمة الانتفاع بها يجوز أن تسند الكراهة إليها أيضا بلحاظ كراهة أخذها و الانتفاع بها، فليس لفظ الثمن في هذه الأخبار قرينة على إرادة الحرمة.

و المناقشة بضعف هذه الأخبار مدفوعة بوجود الموثقة فيها كما مرّ، و بأنها دالّة على شيوع هذا الاستعمال في المحاورات العربية، و هذا كاف في الاحتجاج، فتأمّل.

نعم، لو لم يكن في البين قرينة على الجواز كان الظاهر من لفظ السحت الحرمة، بل يستفاد من حمله على الثمن بطلان المعاملة أيضا، لوضوح المنافاة بين حرمة الثمن و وجوب الوفاء بالعقد.

و الحاصل: أنّ المراد بالسّحت- على ما يظهر من أهل اللغة و موارد استعماله- القبيح الذي لا يناسب شئون الإنسانية و كرامتها و يلزم منه العار و يسحت دينه أو مروّته. و المتبادر منه مع الإطلاق و عدم القرينة ما بلغ حدّ الحرمة و المبغوضيّة. نظير النهي

المتبادر منه ذلك.

و لكن بعد وجود القرينة أو وجود دليل معتبر على الجواز كان حمل اللفظ على

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2/ 435، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) راجع ص 202 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 255

..........

______________________________

مطلق الخسّة و الرداءة قريبا جدّا من باب إطلاق لفظ الملزوم و إرادة اللازم كما في الكنايات، أو من باب كون القبيح ذا مراتب.

و خسّة التكسب بالعذرة و عدم مسانخته لكرامة الإنسان واضحة و إن ثبت عدم حرمته شرعا.

و قد عدّ في موثقة سماعة من السحت كسب الحجّام، مع وضوح جوازه كما مرّ.

و التكسب بالعذرة أخسّ منه بمراتب.

و بالجملة، رواية يعقوب بن شعيب ظاهرة في المنع و لكن يمكن رفع اليد عن ظاهرها إن فرض وجود دليل معتبر على الجواز. نظير ما نلتزم به في كسب الحجّام و في كلّ منهيّ عنه ورد الترخيص في خلافه. هذا مضافا إلى ضعف سند الرواية كما مرّ.

الرواية الثانية ممّا يدل على المنع: ما مرّ من خبر دعائم الإسلام

عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ «ع» أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن بيع الأحرار ... و عن بيع العذرة.» و قال: «هي ميتة.» «1»

و الرواية مرسلة، مضافا إلى عدم ثبوت اعتبار الكتاب كما مرّ بالتفصيل. و لم يظهر المقصود من قوله: «هي ميتة.» فهل أريد به انعدام الموادّ الحياتية الكامنة في الغذاء النافعة للبدن فخرجت عن المالية، أو أريد تشبيهها بالميتة في حرمة الانتفاع بها؟ كلّ منهما محتمل.

أقول: في كنز العمّال عن عليّ «ع» قال: «نهى رسول اللّه «ص» عن بيع العذرة.»

و في هامشه هكذا: «بيع العذرة هي طلوع خمسة كواكب ... و تطلع في وسط الحرّ. النهاية.

فيكون المعنى نهى عن البيع المؤجّل

إلى طلوع العذرة لعدم ضبطها في أيّ يوم مثلا.» «2»

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5؛ عن الدعائم 2/ 18.

(2) كنز العمّال 4/ 170، باب أحكام البيع و ... من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 10013 و هامشه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 256

نعم، في رواية محمد بن المضارب: «لا بأس ببيع العذرة.» (1)

و جمع الشيخ بينهما بحمل الأوّل على عذرة الإنسان و الثاني على عذرة البهائم. و لعلّه لأنّ الأوّل نصّ في عذرة الإنسان ظاهر في غيرها، بعكس الخبر الثاني، فيطرح ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر.

______________________________

أقول: لم يذكر في النهاية حديث بيع العذرة بل يذكر في تفسير حديث آخر طلوع العذرة و فسرها بما ذكر، فراجع «1».

[الرواية الثالثة: رواية محمد بن المضارب]

(1) هذه هي الرواية الثالثة في المسألة، رواها محمد بن مضارب عن أبي عبد اللّه «ع». رواها عنه في الوسائل عن الكليني و الشيخ. «2»

و في رجال المامقاني: إنّ ظاهر ما عن البرقي كون محمد بن مضارب إماميا و استشعر المولى التوحيد من رواية صفوان و ابن مسكان عنه وثاقته. ثم روى رواية تدلّ على أنّ الإمام الصادق «ع» حلّل له جارية يصيب منها و تخدمه و قال: إنّ فيه دلالة على كونه مورد لطف الإمام «ع». «3»

و باقي رجال السند ثقات لا بأس بهم.

و دلالتها على الجواز تكليفا و وضعا واضحة. بل الملحوظ في المعاملات غالبا جهة الوضع، أعني الصحة أو الفساد، و هو المتبادر من الجواز و عدم البأس فيها.

فاحتمال الجمع بينها و بين الرواية السابقة بحمل هذه على الجواز التكليفي المحض و حمل السابقة على الحرمة الوضعية أعني فساد المعاملة احتمال بعيد مخالف للذوق و

الفهم العرفي.

______________________________

(1) راجع النهاية لابن الأثير 3/ 198.

(2) الوسائل 12/ 127، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3. نقله عن الكافي 5/ 226، و التهذيب 6/ 372.

(3) راجع تنقيح المقال 3/ 188.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 257

[الرواية الرابعة: رواية سماعة]

و يقرّب هذا الجمع رواية سماعة، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع» و أنا حاضر (عن بيع العذرة- ليس في الوسائل) فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: «حرام بيعها و ثمنها.» و قال: «لا بأس ببيع العذرة» (1).

فإنّ الجمع بين الحكمين في كلام واحد لمخاطب واحد يدلّ على أنّ تعارض الأوّلين ليس إلّا من حيث الدلالة فلا يرجع فيه إلى المرجحات السّندية أو الخارجية.

و به يدفع ما يقال من أنّ العلاج في الخبرين المتنافيين على وجه التباين الكلّي هو الرجوع إلى المرجحات الخارجية ثمّ التخيير أو التوقف لا إلغاء ظهور كلّ منهما. و لهذا طعن على من جمع بين الأمر و النهي بحمل الأمر على الإباحة و النهي على الكراهة.

______________________________

(1) هذه هي الرواية الرابعة في المسألة جمع فيها بين المنع و الجواز. رواها في الوسائل «1» عن الشيخ بسنده عن سماعة. و الظاهر كونها موثقة.

و يستفاد من قوله: «أبيع العذرة» شيوع الانتفاع بها و بيعها و شرائها في تلك الأعصار.

و المتبادر من لفظ العذرة- كما مر- عذرة الإنسان.

أقول: قد يحتمل أن يرجع الضمير في «قال» الأوّل إلى السائل، و لعلّه كان مع الواو فحذفه النسّاخ، فيكون قوله: «حرام بيعها و ثمنها» من تتمة السؤال بنحو الاستفهام، فأجاب الإمام «ع» بقوله: «لا بأس ببيع العذرة.» و الواو في «و قال» زائدة أو مصحّفة من

______________________________

(1) الوسائل 12/ 126، الباب 40 من أبواب

ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 258

..........

______________________________

الفاء. و هذا النحو من الاشتباهات أو التصحيفات كثيرة في أخبارنا. و عدم البأس ببيعها يدلّ على عدم البأس بثمنها أيضا.

[أقوال الجمع بين الأخبار]
اشارة

و كيف كان فهذه هي أخبار المسألة. و لهم في الجمع بينها أقوال، فلنتعرّض لها:

[الأوّل: المانع محمول على عذرة الإنسان و المجوز على عذرة البهائم]

الأوّل: ما في التهذيب. قال بعد ذكر رواية محمد بن مضارب أوّلا و رواية يعقوب بن شعيب ثانيا و حكمه بعدم منافاتها لها: «لأنّ هذا الخبر محمول على عذرة الإنسان و الأوّل محمول على عذرة البهائم من الإبل و البقر و الغنم، و لا تنافي بين الخبرين.» ثم ذكر رواية سماعة شاهدة على ذلك و قال: «فلولا أنّ المراد بقوله: «حرام بيعها و ثمنها» ما ذكرناه لكان قوله بعد: «لا بأس ببيع العذرة» مناقضا له، و ذلك منفيّ عن أقوالهم عليهم السلام.» «1» و هكذا صنع في الاستبصار أيضا، إلّا أنّه ذكر بدل عذرة البهائم: «ما عدا عذرة الآدميين.» «2» و لعلّه أراد به ما كثر الابتلاء به و الانتفاع به في التسميد من الأرواث الطاهرة، فيوافق ما في التهذيب.

و يشكل إرادته الأعمّ، إذ هو في الخلاف ادّعى إجماع الفرقة على عدم جواز بيع السرجين النجس. هذا.

و المصنّف هنا أراد تقريب كلام الشيخ و توجيهه بنحو لا يرد عليه الإشكال و محصّله:

«أنّ رواية المنع نصّ على عذرة الإنسان و ظاهرة في غيرها، بعكس رواية الجواز، فيطرح ظاهر كل منهما بنصّ الآخر. و يقرّب هذا رواية سماعة، فإنّ الجمع فيها بين الحكمين في كلام واحد لمخاطب واحد يدلّ على أن موضوع المنع غير موضوع الجواز، فيكون قرينة

______________________________

(1) التهذيب 6/ 372 و 373، ذيل الحديثين 201 و 202 من باب المكاسب.

(2) الاستبصار 3/ 56، ذيل الحديثين 2 و 3 من باب النهى عن بيع العذرة من كتاب المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 259

..........

______________________________

على اختلاف موضوع الحكمين في روايتي المنع

و الجواز أيضا، و يكون رفع التنافي بينهما بالتصرف في الدلالة لا بأخذ إحداهما ترجيحا أو تخييرا و طرح الأخرى من رأس كما في سائر موارد التعارض بنحو التباين الكليّ.»

و ناقشه الأستاذ الإمام بما ملخّصه:

«أوّلا: أنّ رفع اليد عن قواعد باب التعارض لا يجوز إلّا بعد كون رواية سماعة صادرة في مجلس واحد لمخاطب واحد. و هو غير مسلّم لبعد صدور مثلها في كلام واحد، و احتمال كونهما روايتين جمعتا في نقل واحد، كما يشعر بذلك توسّط كلمة «قال» و ذكر كلمة «العذرة» ثانيا بالاسم الظاهر. و الراوي سماعة الذي قيل في مضمراته إنّها جمع روايات مستقلات في نقل واحد. و قد سمّى المرويّ عنه في صدرها و أضمر في البقية.

و ثانيا: أنّ كون تعارض روايتي المنع و الجواز من حيث الدلالة لا يوجب رفع اليد عن أدلّة العلاج بل هو محقق لموضوعها. نعم، لو كشف ذلك عن وجه الجمع بينهما كان لما ذكر وجه، و لكنه كما ترى. إذ الميزان في الجمع هو الجمع العقلائي المقبول عرفا و ليس أمرا تعبديا. و مع عدم تحقق الجمع العرفي يحرز موضوع أدلّة التعارض.

و عدم العمل بها في الرواية الواحدة المشتملة على حكمين متنافيين لا يوجب عدم العمل بها في الحديثين المختلفين كما في المقام.

مع إمكان أن يقال بصدق الخبرين المختلفين على الخبر الواحد المشتمل على حكمين أيضا. و دعوى الانصراف ممنوعة. بل مناسبات الحكم و الموضوع تقتضي عموم الحكم للمتّصلين أيضا.» «1»

______________________________

(1) المكاسب المحرمة 1/ 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 260

..........

______________________________

أقول: ما ذكره أخيرا من جريان أخبار العلاج في الجزءين لخبر واحد مشكل، إذ موضوعها الحديثان المختلفان واحد يأمرنا و الآخر ينهانا مثلا

فيؤخذ بأحدهما ترجيحا أو تخييرا و يطرح الآخر. و لا يجري هذا في الجزءين لخبر واحد، لتلازمهما عادة في الصدق و الكذب و الإرادة الجدّية و عدمها.

بل يشكل أصل حجية الخبر الواحد المشتمل على حكمين متنافيين في مجلس واحد مع عدم إمكان الجمع الدلالي بينهما. إذ العمدة في حجية الخبر سيرة العقلاء و هم لا يعتنون بالخبر الكذائي بل يعرضون عنه في مقام العمل و إن وجّهوه بتوجيهات تبرعية حفظا لحريم المرويّ عنه.

و لكن ما ذكره من أنّ الجمع الدلالي إنّما يصحّ فيما إذا كان الجمع عقلائيا مقبولا عند العرف كلام صحيح. و مجرّد أخذ المتيقن من كل من الدليلين المتنافيين بنحو التباين الكلّي كقوله: أكرم العلماء و لا تكرم العلماء مثلا لا يعدّ جمعا عرفيا و لا يوجب صيرورتهما نصّين أو ظاهرين فيهما. و كيف يعدّ كلمة واحدة مستعملة في معنى واحد نصّا على بعض مصاديقه و ظاهرا في بعضها؟! بل الجمع العرفي إنّما يتحقق فيما إذا ارتفع التهافت بين الدليلين عرفا بعد ضمّ أحدهما إلى الآخر و لحاظه معه، نظير ما في العامّ مع الخاصّ و المطلق مع المقيد و الأمر أو النهي مع الترخيص في الخلاف. و إذا لم يتحقق الجمع العرفي بين الدليلين فلا محالة يحكم فيهما بمقتضى أخبار العلاج.

و في مصباح الفقاهة: «بل لو جاز أخذ المتيقن من الدليل لانسدّ باب حجية الظواهر و لم يجز التمسّك بها، إذ ما من دليل إلّا و له متيقّن في إرادة المتكلم، إلّا أن يقال بتخصيص ذلك بصورة التعارض، و هو كما ترى.» «1»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 46.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 261

[القول الثاني: الجمع بحمل المانع على الكراهية و المجوز على الجواز]

و احتمل السبزواري حمل خبر المنع على الكراهة.

(1) و فيه ما لا

______________________________

ثم إنّ ما ذكره الشيخ من الجمع لو سلّم جريانه بين أخبار المنع و الجواز الصادرة في مجالس مختلفة باحتمال وجود قرائن مقامية فإجراؤه في جزئي موثقة سماعة بناء على كونها رواية واحدة صادرة في مجلس واحد يوجب القول بأن الإمام «ع» كان في مقام ذكر اللغز و المعمّى لا بيان الحكم الشرعي للسائل، و هذا بعيد من شأنه «ع». هذا ما يرد على الشيخ أوّلا.

و يرد عليه ثانيا: أنّ المتبادر من لفظ العذرة خصوص مدفوع الإنسان، و هو المتفاهم من كلمات أهل اللغة و من موارد استعمال اللفظ كما مرّ بيانه. و يشكل إطلاقها على مدفوع البهائم إلّا مجازا، و المتعارف فيها إطلاق الروث أو السّرجين أو الزبل أو الرجيع كما مرّ.

و ثالثا: أنّ ما ذكره من الجمع على فرض صحّته جمع تبرّعي لا شاهد له و لا يتعيّن بنحو يصحّ الإفتاء على وفقه، إذ يحتمل المحامل الأخر كما يأتي. و يحتمل أخذ المتيقن بأنحاء أخر، كالمخلوط بالتراب و غيره كما فصّل أبو حنيفة. و لو فرض شهادة موثقة سماعة على وجود جمع دلالي بين الطائفتين فلا دلالة لها على خصوص جمع الشيخ، فتدبّر.

(1) هذا هو القول الثاني في الجمع. قال في الكفاية: «و يمكن الجمع بحمل الأوّل على الكراهية و الثاني على الجواز، لكن لا أعلم قائلا به.» «1»

أقول: احتملها المجلسيّان أيضا، فاحتمل الأوّل منهما الكراهة الشديدة كما يأتي كلامه في الحاشية اللاحقة.

و قال الثاني منهما في مرآة العقول بعد ذكر جمع الشيخ: «و لا يبعد حملها على الكراهة و إن كان خلاف المشهور.» «2»

______________________________

(1) كفاية الأحكام/ 84، كتاب التجارة، المقصد الثانى، المبحث الأوّل.

(2) مرآة العقول 19/ 266، ذيل

الحديث 3 من باب جامع فيما يحلّ الشراء و البيع منه و ... من كتاب المعيشة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 262

يخفى من البعد. (1)

______________________________

(1) قال في مصباح الفقاهة: «لعلّ الوجه فيه هو أنّ استعمال لفظ السحت في الكراهة غير جار على المنهج الصحيح، فإنّ السحت في اللغة عبارة عن الحرام. إذن فرواية المنع آبية عن الحمل عليها.»

ثمّ ناقش في ذلك بما محصّله: «أوّلا: أنّ لفظ السحت قد استعمل في الكراهة في عدّة روايات، فإنّه أطلق فيها على ثمن جلود السباع و كسب الحجّام و أجرة المعلّمين الذين يشارطون في تعليم القرآن و قبول الهدية مع قضاء الحاجة، مع وضوح أنّه ليس شي ء منها بحرام، و قد نصّ بصحة ذلك الاستعمال غير واحد من أهل اللغة.

و ثانيا: لو سلّمنا حجية قول اللغوي فغاية ما يترتب عليه أنّ حمل لفظ السحت على المكروه خلاف الظاهر، و لا بأس به إذا اقتضاه الجمع بين الدليلين.

لا يقال: و إن صحّ إطلاق السّحت على الكراهة إلّا أنّ نسبته إلى الثمن صريحة في الحرمة.

فإنّه يقال: إنّ عناية تعلّق الكراهة بالثمن لا تزيد على عناية تعلّق الحرمة به، غاية الأمر أنّه إذا تعلّقت الحرمة به أفادت فساد المعاملة أيضا بخلاف الكراهة.» «1»

أقول: قد مرّ منّا معنى السّحت و بعض موارد استعماله في الكراهة و قلنا إنّ الملحوظ في مفهومه هو قبح الشي ء و رداءته. و إطلاقه و إن كان يحمل على الحرمة لكن مع الترخيص في الخلاف يحمل على الكراهة و مطلق الرداءة و الخسّة، نظير صيغة النهي و مادّته، فهذا أمر التزمنا به.

و لكن لا يخفى أنّ الدالّ على الحرمة في المقام لا ينحصر في رواية يعقوب بن

شعيب المشتملة على لفظ السحت، بل يدلّ عليها موثقة سماعة المشتملة على لفظ الحرام، و كذا خبر

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 46.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 263

[القول الثالث: حمل عدم الجواز على بلاد لا ينتفع بها فيها و الجواز على غيرها]

و أبعد منه ما عن المجلسي من احتمال حمل خبر المنع على بلاد لا ينتفع به و الجواز على غيرها. (1)

______________________________

الدعائم المشتمل على مادة النهي أيضا. و حمل لفظه الحرمة على الكراهة غير مأنوس. إلّا أن يقال: إنّ خبر سماعة مشتمل على المنع و الجواز معا فتسقط بذلك عن الاعتبار، و خبر الدعائم لا اعتبار به من أساسه، و لكن لا يخفى أنّ خبر ابن شعيب أيضا ضعيف كما مرّ.

(1) هذا هو القول الثالث في مقام الجمع. قال المجلسي في ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار في ذيل موثقة سماعة: «قال الوالد العلامة- قدّس سرّه-: يمكن حمل عدم الجواز على بلاد لا ينتفع بها فيها و الجواز على غيرها، و الكراهة الشديدة و الجواز، أو التقية في الحرمة فإنّ أكثرهم على الحرمة، بأن يكون أجاب السائل علانية ثم لما رأى غفلة منهم أفتى بعدم البأس، لكنه خلاف المشهور بل المجمع عليه.» «1»

أقول: قوله: «لكنه خلاف المشهور» لعلّه أراد بذلك أنّ أوّل المرجحات الشهرة الفتوائية، فالترجيح بها مقدّم على الترجيح بمخالفة العامّة و حمل الموافق على التقيّة.

و ناقش في مصباح الفقاهة الاحتمال الأوّل بما ملخصه: «أنّه مضافا إلى كونه تبرعيا أنّ إمكان الانتفاع بها في مكان يكفي في صحّة بيعها على الإطلاق. على أنّك عرفت أنّ غاية ما يلزم هو كون المعاملة على أمثال تلك الخبائث سفهية و لم يقم دليل على بطلانها. مع أنّ الظاهر من قول السائل في موثقة سماعة كونه بيّاع العذرة و أخذه

ذلك شغلا له. و هذا كالصريح في كون بيعها متعارفا في ذلك الزمان.» «2»

______________________________

(1) ملاذ الأخيار 10/ 379، ذيل الحديث 202 من باب المكاسب.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 46.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 264

[القول الرابع: حمل المنع على التقيّة و الجواز على غيرها]

و نحوه حمل المنع على التقيّة، لكونه مذهب أكثر العامّة. (1)

______________________________

أقول: إمكان الانتفاع بها في مكان يكفي في صحّة بيعها في الأمكنة الأخرى إذا فرض لها قيمة في تلك الأمكنة بأن أمكن نقلها مع حساب مصارف النقل إلى مكان الانتفاع و إلّا لم يكن مالا حينئذ فلم يصحّ بيعها لذلك، إلّا أن يقال- كما أشار إليه أخيرا-: إنّ قول السائل: «إنّي رجل أبيع العذرة» يدلّ على أنّ تجارتها كانت مربحة لا محالة و إلّا لم يتخذ ذلك شغلا لنفسه.

ثم إنّه قد مرّ أنّ المعاملات شرّعت لرفع الحاجات. و المعاملة السفهية مما لا يقبله العقل و لا الشرع فينصرف عنها إطلاقات الأدلّة. و نكتة منع السفيه عن التصرف في الأموال ليست إلّا كون معاملاته بحسب الأغلب سفهية، فتأمّل.

(1) هذا هو القول الرابع في المقام، و قد مرّ عن المجلسي الأوّل احتماله، و مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة «1» منع المالكية و الشافعية و الحنابلة لبيع النجس مطلقا، و ذكر المالكية من أمثلته زبل ما لا يؤكل لحمه، و الشافعية و الحنابلة الزبل النجس. و ظاهرهم شموله لعذرة الإنسان أيضا لاتفاق الجميع في نجاسته. و مرّ عن الحنفية التصريح بعدم انعقاد بيع العذرة إلّا مع خلطها بالتراب.

فالمنع عن البيع في العذرة الخالصة كأنّه إجماعي عندهم. مضافا إلى أنّ الشهرة عندهم تكفي في جريان التقية.

و بالجملة فأرضيّة التقية موجودة بلا إشكال، و لا وجه لاستبعاد المصنّف لها بهذا اللحاظ.

و لكن يرد على

ذلك: أنّ المنع مشهور عندنا أيضا إن لم يكن إجماعيا. و الترجيح بالشهرة الفتوائية أوّل المرجحات في مقبولة عمر بن حنظلة، فيكون الترجيح بها بل و كذا

______________________________

(1) راجع الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، مبحث بيع النجس و المتنجس من كتاب البيوع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 265

..........

______________________________

بموافقة الكتاب مقدما على الترجيح بمخالفة العامّة. و الجواز موافق لعمومات البيع و العقد و التجارة على القول بعمومها، فمن يقبل المقبولة لا مجال له لأن يقبل التقية في المقام.

نعم، آية اللّه الخوئي «ره» كان يمنع حجية الشهرة و كونها جابرة أو مرجّحة «1» و قال: إنّ الشهرة بالنسبة إلى الخبر كوضع الحجر في جنب الإنسان. فعلى مذاقه «ره» يجري احتمال حمل أخبار المنع على التقية، و لا بعد فيه بعد كون أخبار الجواز موافقا لعمومات الكتاب أيضا.

قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّه لما كان القول بحرمة البيع مذهب العامّة بأجمعهم فنأخذ بالطائفة المجوّزة لبيعها. و من هنا ظهر ما في كلام المصنّف من استبعاد الحمل على التقيّة.

و العجب من الفاضل المامقاني، فإنّه وجّه استبعاد المصنّف و قال: إنّ مجرّد كونه مذهب أكثر العامّة لا يفيد مع كون الرواية من الإمام الصادق «ع» و كون فتوى أبي حنيفة المعاصر له هو الجواز، فخبر الجواز أولى بالحمل على التقيّة. و وجه العجب أنّ أبا حنيفة قد أفتى بحرمة بيع العذرة كما عرفت.» «2»

الخامس من الأقوال: [الوضع بلحاظ البيع و التكليف بلحاظ الثمن]

ما ذكره الأستاذ «ره» في مقام توجيه موثقة سماعة على فرض كونها رواية واحدة. و ملخّصه: «أنّ المراد بقوله: «حرام بيعها و ثمنها» هو الجامع بين الحرمة الوضعية و التكليفية أعني الوضع بلحاظ البيع و التكليف بلحاظ الثمن. و يؤيّده أنّ الحرمة إذا

تعلّقت بالعناوين التوصّلية الآلية تكون ظاهرة في الوضع. و المراد بقوله: «لا

______________________________

(1) راجع مصباح الأصول 2/ 201 و ما بعدها؛ و مصباح الفقاهة 1/ 6 و 7.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 50.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 266

..........

______________________________

بأس ببيع العذرة» نفي الحرمة التكليفية بلحاظ البيع، فكأنّه قال: يحرم بيعها وضعا و لا بأس به تكليفا.» «1»

أقول: يمكن أن يناقش- مضافا إلى عدم قرينة على تعيّن ما ذكر و أنّه جمع تبرّعي محض لا يصلح للإفتاء على وفقه-: أنّ حمل قوله: «لا بأس ببيع العذرة» على نفي الحرمة التكليفية فقط خلاف الظاهر جدّا بل الظاهر منه صحّة بيعها و نفوذه. كما أنّ الظاهر من قوله: «حرام بيعها و ثمنها» بسبب ظهور لفظ الحرمة و بقرينة ضمّ الثمن إلى البيع هي التكليف فقط. و مقتضاه كون نفس البيع حراما بحسب التكليف صحيحا بحسب الوضع نظير البيع وقت النداء أو مع نهي الوالدين. إلّا أن يقال مع فرض صحّة البيع لا وجه لحرمته تكليفا في المقام و لا يجتمع معها أيضا حرمة الثمن فيرجع الأمر إلى أن يحمل الحرمة على الكراهة الشديدة، فتدبّر.

السادس من الأقوال: [أن يكون اللفظتان مختلفتين في هيئة التلفظ و المعنى]

ما حكاه في مصباح الفقاهة عن العلامة المامقاني «ره»، قال:

«الأقرب عندي حمل قوله «ع»: «لا بأس ببيع العذرة» على الاستفهام الإنكاري.» قال:

«و لعلّ هذا مراد المحدّث الكاشاني حيث قال: و لا يبعد أن يكون اللفظتان مختلفتين في هيئة التلفظ و المعنى و إن كانتا واحدة في الصورة.» «2»

أقول: الحمل على الاستفهام بأنحائه غير بعيد، إذ هو رائج في المحاورات. و لكن يحتمل أن يكون بعكس ما حكاه عن المامقاني، فإنّ الرجل السائل لما كان بنفسه بائعا للعذرة كان سؤاله- على الظاهر- ناشئا عن توهّم

حرمة شغله و كسبه لحرمة موضوعه و نجاسته، فأراد الإمام «ع» رفع توهمه و تزلزله بإبطال ما زعمه سببا لحرمة شغله ببيان أنّ حرمة ذات الشي ء

______________________________

(1) المكاسب المحرمة 1/ 8.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 49. و انظر كلام المحدّث الكاشانى في الوافي 3/ 42 (م 10).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 267

و الأظهر ما ذكره الشيخ «ره» لو أريد التبرّع بالحمل، لكونه أولى من الطرح و إلّا فرواية الجواز لا يجوز الأخذ بها من وجوه لا تخفى. (1)

______________________________

لا تقتضي حرمة بيعه و ثمنه على الإطلاق و لا ملازمة بين الحرمتين، فذكر ذلك بنحو الاستفهام الإنكاري لرفع التزلزل عنه ثم ذكر حكم المسألة بالصراحة و أنّه لا بأس ببيعها.

فيرتفع التهافت من الرواية و يكون المجموع رواية واحدة لقصة واحدة وقعت في حضور سماعة فنقلها. كيف؟! و لو كانت الجملة الثانية رواية أخرى مستقلة فلم لم يتعرض سماعة لخصوصيات السؤال فيها و موردها على نحو ما حكى خصوصيات الرواية الأولى؟

و قد مرّ أيضا في ذيل نقل الرواية احتمال أن يكون قوله: «حرام بيعها و ثمنها» كلاما للسائل و تتمّة لسؤاله، فراجع.

[السابع: أن يقال بأنّه يعامل مع رواية سماعة معاملة روايتين و الحمل على التعارض]

السابع: أن يقال بأنّه يعامل مع رواية سماعة معاملة روايتين مستقلتين على ما مرّ تقريبه، فيكون في الباب طائفتان من الأخبار و بينهما تهافت بنحو التباين فيرجع فيها إلى أخبار العلاج. و مقتضاها الأخذ بأخبار المنع لموافقتها للشهرة و هي أوّل المرجحات في المقبولة كما مرّ. فهذه سبعة احتمالات أو أقوال في الجمع بين أخبار الباب.

[الصحيح من الأقوال]

(1) قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «الوجوه المشار إليها هي الإجماعات المنقولة و الشهرة الفتوائية و الأدلّة العامّة المتقدّمة على المنع، و ضعف ما يدلّ على الجواز.

و جميع هذه الوجوه مخدوشة لا تصلح لترجيح ما يدلّ على المنع: أمّا الإجماعات فليست تعبّدية بل مدركها الوجوه المتقدمة و لو احتمالا.

و أمّا الشهرة الفتوائية فهي و إن كانت مسلّمة إلّا أنّ ابتناءها على رواية المنع ممنوع. و لو سلّم فلا توجب انجبار ضعف سند الرواية. على أنّ الذي يوجب الترجيح عند المعارضة هي الشهرة في الرواية دون الشهرة الفتوائية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 268

..........

______________________________

و أمّا الأدلّة العامّة فقد تقدّم الكلام فيها.

و أمّا تخيّل ضعف رواية الجواز سندا ففيه: أوّلا: أنّه محض اشتباه نشأ من خلط ابن مضارب بابن مصادف. و الأوّل منصوص على حسنه.

و ثانيا: أنّ اقتصار الكليني بنقل رواية الجواز فقط دون غيرها يشير إلى اعتبارها، كما هي كذلك لكون رواتها بين ثقات و حسان.» «1»

أقول: قد مرّ منّا أنّ أوّل المرجّحات المذكورة في المقبولة هي الشهرة و المراد بها الشهرة الفتوائية لا الروائيّة، فراجع.

و لكن هذا فيما إذا وقع التعارض بين الخبرين الواجدين لشرائط الحجيّة. و ليس المقام كذلك لوجود التهافت بين الجزءين في موثقة سماعة و هذا يوجب إجمالها. و احتمال كونها روايتين مستقلتين لا

يرفع الإجمال.

و رواية يعقوب بن شعيب ضعيفة جدّا كما مرّ و كذا رواية الدعائم. مضافا إلى اشتمال الأولى على لفظ السّحت و الثانية على مادّة النهي، و كلاهما قابلان للحمل على الكراهة مع وجود الترخيص في الخلاف. و المفروض أنّ رواية محمّد بن مضارب تدلّ على الجواز، و سندها أيضا لا يخلو من حسن كما في المصباح و اقتصر عليها الكليني أيضا.

فإن قلت: الشهرة كما عدّت من المرجّحات تكون جابرة لضعف الروايات أيضا فيجبر بها ضعف رواية ابن شعيب.

قلت: جبرها لها يتوقّف على كون فتواهم مستندة إليها و هو غير واضح. مضافا إلى أنّ الجمع الدّلالي مقدّم على الشهرة المحتمل المدركيّة. و قد عرفت أنّ ظهور لفظ السّحت

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 51.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 269

..........

______________________________

في الحرمة ليس بحدّ يتعارض الترخيص بل يكون وزانه وزان النهي الذي يحمل على الكراهة بقرينة الترخيص في الخلاف.

و كثيرا ما كان أصحابنا يراعون في مقام الإفتاء جانب الاحتياط نظير إفتائهم بنجاسة أهل الكتاب مع دلالة كثير من الأخبار على طهارتهم الذاتية.

و بالجملة، فرواية الجواز لا بأس بها سندا و دلالة و تكون موافقة لعمومات الكتاب و مخالفة لجمهور أهل الخلاف و لم يقم دليل معتبر على خلافها فيجوز الأخذ بها.

قال المحقق الإيرواني في حاشيته في المقام: «فالمتعيّن في مقام العمل طرح روايات المنع: أمّا رواية سماعة فبالإجمال. و أمّا رواية يعقوب بن شعيب فبضعف السند مضافا إلى الابتلاء بالمعارض. و المرجع عموم أَوْفُوا و أَحَلَّ و تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و قوله «ع» في رواية التّحف: و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات.»

و قال أيضا: «لا حاجة إلى رواية الجواز، فإنّ

الجواز هو مقتضى العمومات حتى يقوم دليل على المنع. و رواية المنع غير ناهضة لتخصيص العمومات.» «1» هذا.

مضافا إلى ما مرّ منا من أنّ العذرة كانت في جميع الأعصار و الأمصار ممّا ينتفع بها في السماد و إصلاح الأراضي. و هذا بنفسه منفعة عقلائية مهمّة عندهم.

و يدلّ على ذلك مضافا إلى وضوحه قول السائل في موثقة سماعة: «إنّي رجل أبيع العذرة»، حيث يدلّ على أنّه كان شغلا له.

و قول الصادق «ع» في رواية المفضل: «و إنّ موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شي ء.» «2» و قد استقرّ على الانتفاع بها السيرة القطعية المتّصلة إلى

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 4.

(2) بحار الأنوار 3/ 136، كتاب التوحيد، الباب 4 في الخبر المشتهر بتوحيد المفضّل بن عمر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 270

ثم إنّ لفظ العذرة في الروايات إن قلنا إنّه ظاهر في عذرة الإنسان كما حكي التصريح به عن بعض أهل اللغة فثبوت الحكم في غيرها بالأخبار العامّة المتقدّمة، و بالإجماع المتقدّم على السرجين النجس. (1)

______________________________

عصر المعصومين «ع». فاحتمال عدم المنفعة العقلائية لها في تلك الأعصار أو عدم جواز الانتفاع بها في التسميد و تحريم الشارع لذلك مما لا ينقدح في ذهن فقيه.

و إذا جاز الانتفاع بها كذلك و توقّف جمعها و جعلها سمادا إلى صرف الأوقات و الإمكانات فلا محالة تصير ذات قيمة و ماليّة.

و المعاملات شرّعت لرفع الحاجات و تبادل الأعيان النافعة. و ليست أهداف تشريعها أو إمضائها مصالح سرّية خفيّة لا يعلمها إلّا اللّه- تعالى- نظير التعبّديات المحضة.

و لا تريد الشريعة السمحة السهلة إلّا مصالح العباد و تسهيل الأمر عليهم. نعم، في مثل البيع الربوي و

بيع الغرر وقع النهي من ناحية الشارع لوضوح تحقق المفسدة و الضرر الاجتماعي عليهما.

و على هذا فبمقتضى جواز الانتفاع بها و صيرورتها مالا نحكم بجواز المعاملة عليها مضافا إلى عموم أدلّة العقود، فتدبّر.

و هكذا الحكم في السّرجين النجس بعد وضوح جواز الانتفاع بها في التسميد.

[المراد من العذرة]

(1) قد مرّ بالتفصيل «1» معنى العذرة و أنّ الظاهر اختصاصها بمدفوع الإنسان، و أنّ الإجماعات على المنع في السرجين النجس محتمل المدركية، و لعلّها على أساس ما ذكروه لعدم جواز بيع النجس و منها رواية تحف العقول، فلا تكشف كشفا قطعيّا عن قول المعصومين «ع».

______________________________

(1) راجع ص 249 و ما بعدها و ص 186 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 271

و استشكل في الكفاية في الحكم تبعا للمقدّس الأردبيلي «ره» إن لم يثبت إجماع، و هو حسن. إلّا أنّ الإجماع المنقول هو الجابر لضعف سند الأخبار العامّة السّابقة.

و ربما يستظهر من عبارة الاستبصار القول بجواز بيع عذرة ما عدا الإنسان لحمله أخبار المنع على عذرة الإنسان. (1) و فيه نظر. (2)

______________________________

(1) قد مرّ احتمال إرادة الشيخ من قوله في الاستبصار: «ما عدا عذرة الآدميين» خصوص عذرة البهائم كما في التهذيب. إذ هو في الخلاف ادّعى إجماع الفرقة على عدم جواز بيع السرجين النجس، فراجع «1».

(2) في حاشية المحقق الشيرازي «ره»: «لعلّ الوجه في ذلك: أنّ الجمع التبرعي بحمل أخبار الجواز على عذرة غير الإنسان لا يقتضي ثبوت قول بالجواز فيها بل يكفي فيه عدم العلم بالمنع فيها واقعا.» «2»

______________________________

(1) راجع ص 258 و 240 من الكتاب.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الشيرازي/ 10.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 272

[فرع: في بيع الأوراث الطاهرة]

فرع الأقوى جواز بيع الأرواث الطاهرة التي ينتفع بها منفعة محلّلة مقصودة. و عن الخلاف نفي الخلاف فيه. و حكي أيضا عن المرتضى «ره» الإجماع عليه. و عن المفيد حرمة بيع العذرة و الأبوال كلّها إلّا بول الإبل. و حكي عن سلار أيضا. (1)

______________________________

(1) لا إشكال في جواز الانتفاع بالأرواث الطاهرة في التسميد و

غيره. و لو فرض الشك في ذلك فأصالة الحل محكّمة. و بذلك تصير مالا يرغب فيها و يبذل بإزائها المال فيجوز المعاملة عليها أيضا.

و يشهد لذلك مضافا إلى استقرار السّيرة أدلّة المعاملات العامّة.

و حرمة أكلها للاستخباث و غيره- كما قيل- لا تخرجها عن الماليّة، نظير الطين الذي ليست منفعته المقصودة هي الأكل.

و الظاهر أنّ الإشكال فيها من بعض أهل الخلاف نشأ من القول بنجاستها. و نحن فرغنا من ذلك حيث قلنا بطهارتها. و بذلك تفترق عن السرجين النجس الذي مرّ البحث فيه.

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 310): «سرجين ما يؤكل لحمه يجوز بيعه.

و قال أبو حنيفة: يجوز بيع السّراجين. و قال الشافعي: لا يجوز بيعها و لم يفصّلا. دليلنا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 273

..........

______________________________

على جواز ذلك أنّه طاهر عندنا. و من منع منه فإنّما منع لنجاسته. و يدلّ على ذلك بيع أهل الأمصار في جميع الأعصار لزروعهم و ثمارهم، و لم نجد أحدا كره ذلك و لا خلاف فيه، فوجب أن يكون جائزا. و أمّا النجس منه فلدلالة إجماع الفرقة ...» «1»

2- و في الانتصار حكم بجواز شرب أبوال ما يؤكل لحمه و بنى ذلك على طهارتها.

و حكى عن أبي حنيفة و أبي يوسف و الشافعي نجاسة أبوالها و أرواثها، ثم استدلّ على مذهبنا بعد الإجماع المتردّد بأصالة الإباحة و قد مرّت عبارته في مسألة الأبوال، فراجع «2».

و ظاهره اتحاد حكم الأبوال و الأرواث. و لكن ليس في كلامه اسم من البيع إلّا أن يقال باستلزام جواز الانتفاع لجواز البيع كما هو الظاهر الذي كنّا نصرّ عليه.

3- و لكن مرّ عن المقنعة قوله: «و بيع العذرة و الأبوال كلّها حرام

إلا أبوال الإبل خاصّة.» «3»

4- و عن المراسم قوله: «و التصرّف في الميتة ... و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «4»

أقول: ظاهرهما بقرينة الاستثناء عدم الفرق بين النجسة و الطاهرة منهما، و إرادة جميع الأرواث من لفظ العذرة. و لا يرى في الطاهرة منهما وجه للمنع إلّا إذا فرض عدم وجود منفعة محلّلة مقصودة.

و روايات المنع عن بيع العذرة لا تشمل الأرواث الطاهرة لما عرفت من كون لفظ العذرة مخصوصا بمدفوع الإنسان.

______________________________

(1) الخلاف 3/ 185 (ط. أخرى 2/ 82)، كتاب البيوع.

(2) راجع ص 221 من الكتاب.

(3) المقنعة/ 587، باب المكاسب.

(4) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 274

و لا أعرف مستندا لذلك إلّا دعوى أنّ تحريم الخبائث في قوله- تعالى-: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ يشمل تحريم بيعها.

و قوله «ع»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و ما تقدّم من رواية دعائم الإسلام و غيرها.

و يرد على الأوّل: أنّ المراد بقرينة مقابلته لقوله- تعالى-: يُحلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰات الأكل لا مطلق الانتفاع. (1)

______________________________

(1) ظاهر المصنف اختصاص الطيّبات و الخبائث بالمأكولات و المشروبات، و قد مرّ في مسألة الأبوال البحث في الآية «1»، و أنّ الخبيث على ما في مفردات الراغب و غيره كلّ ما يكره رداءة و خساسة، محسوسا كان أو معقولا، فيتناول الباطل في الاعتقاد، و الكذب في المقال، و القبيح في الفعال.

قال اللّه- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ منَ الْقَرْيَة الَّتي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائثَ «2» يعني إتيان الرجال. و قال: مٰا كٰانَ اللّٰهُ ليَذَرَ الْمُؤْمنينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْه حَتّٰى يَميزَ الْخَبيثَ منَ الطَّيِّب «3» يعني الأعمال الخبيثة من الأعمال الصالحة

و النفوس الخبيثة من النفوس الزكيّة. و غير ذلك من الآيات الشريفة.

فالمقصود بالخبائث في الآية كلّ ما يحكم العقل و الفطرة السليمة ببطلانه و رداءته من أنواع الاعتقادات و الأخلاق و الأفعال و الأعيان الخارجية بلحاظ الأفعال المتعلقة بها. و يرادفه

______________________________

(1) راجع ص 225 و ما بعدها من الكتاب.

(2) سورة الأنبياء (21)، الآية 74.

(3) سورة آل عمران (3)، الآية 179.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 275

و في النبوي و غيره ما عرفت من أنّ الموجب لحرمة الثمن حرمة عين الشي ء بحيث يدلّ على تحريم جميع منافعه أو المنافع المقصودة الغالبة (1) و منفعة الروث ليست هي الأكل المحرّم، فهو كالطين المحرّم كما عرفت سابقا.

______________________________

لفظ «پليد» في الفارسية. و يقابله الطيبات في جميع ذلك.

و المراد بتحريم الأعيان تحريم ما يناسبها من الأكل أو الشرب أو اللبس أو النكاح أو غيرها من الانتفاعات المناسبة.

و يمكن أن يتحقق في شي ء واحد جهة طيب و جهة خباثة، فيحلّ من جهة و يحرم من جهة أخرى. و في الحقيقة تكون الخباثة و الطيب و صفين لنفس الانتفاعات و الأفعال المناسبة.

و على هذا فالأرواث مثلا يحرم أكلها و يحلّ سائر الانتفاعات بها.

و كيف كان فالظاهر أنّ الحلّية و الحرمة المتعلقين بهما تنصرفان إلى الأفعال و الانتفاعات الطبيعية الأوّلية لا مثل البيع و التصرّفات الناقلة الاعتبارية و الآليّة التوصلية، فتدبّر.

(1) إذ حرمة منفعة خاصّة من الشي ء لا يوجب حرمة بيعه بنحو الإطلاق قطعا، إذ ما من شي ء إلّا يحرم بعض الانتفاعات منه، فالمقصود بحرمة الشي ء حرمة جميع منافعه أو منافعه الغالبة بحيث يسقط عن المالية شرعا أو يراد صورة وقوع البيع بلحاظ خصوص المنفعة المحرّمة.

و الحاصل أنّ ظاهر تعليق الجزء

على الشرط كون عنوان الشرط علّة لحكم الجزاء فيدور مدارها، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 276

[المسألة الثالثة: المعاوضة على الدّم]
اشارة

الثالثة: يحرم المعاوضة على الدّم بلا خلاف، بل عن النهاية و شرح الإرشاد لفخر الدين و التنقيح الإجماع عليه. (1)

______________________________

3- المعاوضة على الدم

[كلمات الفقهاء]

(1) أقول: 1- قد مرّ فيما حكيناه عن المقنعة، و نهاية الشيخ، و المبسوط، و المراسم، و الشرائع و القواعد «1» ذكر الدّم في عداد النجاسات التي لا يصحّ بيعها.

2- و في نهاية العلامة: «بيع الدّم و شراؤه حرام إجماعا لنجاسته و عدم الانتفاع به.» «2»

أقول: ظاهر كلامه: أنّ الإجماع المدّعى ليس بنفسه بنحو يكشف به قول المعصوم «ع» فيعتمد عليه بل هو مستند إلى وصفي النجاسة و عدم الانتفاع.

و هل هما دليلان مستقلان، أو أنّ النجاسة أوجبت عدم الانتفاع به و هو الدليل لعدم جواز البيع؟ الظاهر هو الثاني. و لا محالة يراد به عدم جواز الانتفاع الذي كان متعارفا في تلك الأعصار من شربه أو أكله مشويا. و إلى ذلك ينصرف التحريم في الآيات الشريفة و الروايات أيضا كما يأتي بيانه.

______________________________

(1) راجع ص 166 و ما بعدها من الكتاب.

(2) نهاية الإحكام 2/ 463، كتاب البيع، الفصل الثالث، المطلب الأوّل، البحث الثانى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 277

..........

______________________________

3- و مرّ عن التذكرة: «يشترط في المعقود عليه: الطهارة الأصلية ... و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا (إلى أن قال:) و الدّم كلّه نجس فلا يصحّ بيعه، و كذا ما ليس بنجس منه كدم غير ذي النفس السائلة لاستخباثه.» «1»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 277

أقول في عبارته الأخيرة تهافت كما لا يخفى.

4- و قد مرّ

عن التنقيح في ذيل قول المحقق: «الأوّل: الأعيان النجسة» قوله: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع، و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصح بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية.

و أما الكبرى فلقول النبي «ص»: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها.» علّل استحقاق اللعنة ببيع المحرّم فيتعدى إلى كلّ محرّم الانتفاع به، و لما رواه ابن عباس عن النبي «ص»: إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» «2»

و حكي نحو ذلك عن فخر الدين في شرح الإرشاد «3».

أقول: لا يخفى أنّ ادّعاء الإجماع في كلاهما ليس على الكبرى أعني عدم جواز بيع النجس بل على الصغرى أعني عدم جواز الانتفاع به. و لا يظنّ الالتزام بذلك من ففيه، و يخالفه السيرة و الأخبار الواردة أيضا كما يأتي، فلا محالة يراد بذلك الانتفاعات المحرّمة التي كانت رائجة بين غير المتعبّدين بالشرع من الأكل و الشرب و نحوهما.

و كيف كان فظاهرهما دوران حرمة البيع مدار حرمة الانتفاع، و عدم كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحة المعاملة كما مرّ.

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(3) راجع مفتاح الكرامة 4/ 13، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 278

و يدلّ عليه الأخبار السابقة. (1)

______________________________

5- و في الشرح الكبير لابن قدامة الصغير: «لا يجوز بيع الميتة و لا الخنزير و لا الدّم.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به ...» ثم استدلّ لذلك بما مرّ من رواية جابر عن النبي «ص» «1».

6- و مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنفية و الحنابلة ذكر الدّم في عداد ما لا يصح بيعها. «2»

7- و كلّ من منع

بيع النجس بإطلاقه أو ادّعى الإجماع على ذلك فكلامه لا محالة يشمل الدم النجس أيضا، فراجع ما مرّ في تلك المسألة «3».

[استدلّ على المسألة بأمور]
اشارة

(1) أقول: استدلّ على المسألة بأمور:

[الأوّل: الأدلّة العامة على المنع عن بيع النجس بإطلاقه]

الأوّل: ما مرّ من الأدلّة العامة على المنع عن بيع النجس بإطلاقه و قد أنهيناها إلى ثلاثة عشر دليلا.

و يرد على ذلك ما مرّ تفصيلا من الجواب عنها، فراجع «4».

[الثاني: الإجماع المدّعى و الشهرة المحققة]

الثاني: الإجماع المدّعى و الشهرة المحققة في خصوص المسألة و قد مرّ بعض كلمات الفريقين.

و يرد على ذلك- مضافا إلى احتمال المدركية فلا اعتماد عليهما- أن المترائى من كثير من كلماتهم حتّى ممن ادّعى الإجماع في المسألة كالعلامة أنّ المنع عندهم كان

______________________________

(1) ذيل «المغنى» 4/ 13، كتاب البيع، الشرط الثالث من شروط صحّة البيع.

(2) راجع الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، مبحث بيع النجس و المتنجس من كتاب البيع.

(3) راجع ص 176 و ما بعدها من الكتاب.

(4) راجع ص 185 و ما بعدها من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 279

..........

______________________________

مستندا إلى عدم الانتفاع المحلّل، و لا محالة ينصرف إلى صورة عدم وجود المنفعة المحلّلة أصلا أو ندرتها بحيث لا توجب القيمة و المالية، أو وقوع البيع بقصد خصوص المنفعة المحرّمة. فلو فرضت منفعة عقلائية محلّلة كالدم للتزريق بالمرضى الرائج في أعصارنا أو لتهيئة السماد و إصلاح الأراضي مثلا فلا وجه لمنع بيعه لذلك. بل قد مرّ منّا وجود الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي ء و بين صحة المعاملة عليه لذلك.

فراجع ما حكيناه في آخر بحث بيع النجس بإطلاقه عن الخلاف و الغنية و السرائر و الإيضاح و التنقيح و مواضع من المنتهى و التذكرة، «1» حيث يظهر منهم دوران صحة البيع مدار وجود الانتفاع المحلّل.

الثالث: خصوص رواية تحف العقول

حيث ذكر فيها الدّم.

و يرد عليها- مضافا إلى ما فيها من الضعف و التشويش في المتن و عدم ثبوت اعتماد الأصحاب عليها- تعليل المنع فيها بقوله: «لما فيه من الفساد.» و التصريح بجواز الاستعمال و البيع لجهات المنافع من كل شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات. و على هذا فيصح بيع الدم للتزريق الذي هو

من أهمّ المصالح في أعصارنا.

الرابع: مرفوعة أبي يحيى الواسطي،

قال: مرّ أمير المؤمنين «ع» بالقصّابين فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة. نهاهم عن بيع الدّم و الغدد و آذان الفؤاد و الطحال و النخاع و الخصى و القضيب. فقال له بعض القصّابين: يا أمير المؤمنين، ما الكبد و الطحال إلّا سواء. فقال له: «كذبت يا لكع، ايتوني بتورين من ماء أنبئك بخلاف ما بينهما.» فأتي

______________________________

(1) راجع ص 211 و ما بعدها من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 280

..........

______________________________

بكبد و طحال و تورين من ماء فقال «ع»: «شقوا الطحال من وسطه و شقوا الكبد من وسطه.» ثم أمر «ع» فمرسا في الماء جميعا فابيضت الكبد و لم ينقص شي ء منه و لم يبيضّ الطحال و خرج ما فيه كلّه و صار دما كلّه حتى بقي جلد الطحال و عرقه فقال له:

«هذا خلاف ما بينهما، هذا لحم و هذا دم.» «1»

أقول: الخصى بضم الخاء جمع الخصية. و اللكع بضم اللام: اللئيم و الأحمق.

و التور بفتح التاء: الإناء الصغير. و مرس الشي ء: نقعه في الماء و مرثه بيده حتى تحلّلت أجزاؤه.

و تقريب الاستدلال بالرواية أن المراد بالدم المذكور فيه الدم النجس الذي تقذفه الذبيحة عند الذبح، و هو الذي تعارف في الجاهلية شربه أو أكله مشويّا و كان له عندهم قيمة، و لذا عبّر عنه في القرآن بقوله: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «2».

و أمّا الدم الطاهر المختلف في الذبيحة فإنّه من القلّة بمكان لا يلاحظ بنفسه، و يكون كالمستهلك في اللحوم، فلا يباع مستقلا.

و نهي القصّابين عن بيعه لا يدلّ على إرادة الدم المختلف، إذ لعلّ القصّابين في تلك الأعصار كانوا بأنفسهم متصدّين لذبح ما كانوا يبيعونه، كما هو

المتعارف في أعصارنا أيضا في كثير من البلاد.

و بيان الإمام «ع» لماهية الطحال من تحلّله بالدم مع كونه طاهرا لا يدلّ على كون المراد

______________________________

(1) الكافي 6/ 253، كتاب الأطعمة، باب ما لا يؤكل من الشاة و غيرها؛ الخصال/ 341 (الجزء 2)؛ عنهما الوسائل 16/ 359 (ط. أخرى 16/ 438).

(2) سورة الأنعام (6)، الآية 145.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 281

..........

______________________________

بالدم أيضا الدم الطاهر، لأنه ذكر قسيما له. ثم لو سلّم إرادة الدم الطاهر فالمنع عن بيعه يدلّ على المنع عن بيع النجس منه بطريق أولى.

و يرد على الاستدلال بالرواية أوّلا بضعف السند، و لم يثبت اعتماد الأصحاب عليها بنحو يجبر به ضعفها.

و ثانيا: بأنّ الظاهر منها النهي عن البيع بقصد الأكل المحرّم، كما يشهد بذلك سنخ شغل القصّابين و وقوعه في سياق سائر الأجزاء المحرّمة، حيث إنّ المنظور النهي عن بيعها للأكل لوضوح جواز اشترائها لطعمة الحيوانات أو لصرف النخاع في الصابون مثلا و على ذلك جرت السيرة في جميع الأعصار.

و مقايسة القصّاب للطحال و الكبد أيضا يدلّ على كون المتبادر النهي عن البيع للأكل، حيث إنّ الكبد مما يؤكل و الطحال مما لا يؤكل.

و كيف كان فلا يشمل النهي في الرواية لبيع الدم و الفضولات للتسميد و نحوه، كما هو المتعارف في أعصارنا. فضلا عن بيع الدم من الإنسان للتزريق بالمرضى، حيث إنّه لا ربط له بشغل القصّابين.

الخامس: ما في سنن البيهقي بسنده عن عون بن أبي جحيفة،

قال: سمعت أبي- و اشترى غلاما حجّاما- فعمد إلى المحاجم فكسرها و قال: إنّ رسول اللّه «ص» نهى عن ثمن الدم و عن ثمن الكلب و مهر البغيّ، و لعن آكل الربا و موكله و الواشمة و المستوشمة، و لعن المصوّر. أخرجه البخاري في

الصحيح من أوجه عن شعبة «1».

______________________________

(1) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 282

..........

______________________________

بتقريب أنّ النهى عن ثمن الدّم و حرمته يدلّ على فساد المعاملة عليه.

و يرد عليه- مضافا إلى عدم ثبوت حجيّة الرواية عندنا- أنّ الراوي أعني أبا جحيفة فهم من كلامه «ص» النهي عن الحجامة لا عن بيع الدّم. إلّا أن يقال: إنّ الملاك ظاهر اللفظ المنقول لا فهم الراوي، فتدبّر.

و اعلم أنّ أبا جحيفة اسمه وهب بن عبد اللّه السوائي بضم السين المهملة، كان من صغار صحابة رسول اللّه «ص»، توفّي «ص» و هو لم يبلغ الحلم و لكنه سمع منه «ص» و روى عنه، و جعله أمير المؤمنين «ع» على بيت المال بالكوفة و شهد معه مشاهده كلّها و كان يحبّه و يثق إليه و يسمّيه وهب الخير و وهب اللّه.

و روى عنه ابنه عون أنّه أكل ثريدة بلحم و أتى رسول اللّه «ص» و هو يتجشّى، فقال «ص»: «اكفف عليك جشاءك أبا جحيفة، فإنّ أكثرهم شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا يوم القيامة» قال: فما أكل أبو جحيفة ملأ بطنه حتّى فارق الدنيا، كان إذا تعشّى لا يتغدّى و إذا تغدّى لا يتعشى. راجع في ترجمته تنقيح المقال «1».

السادس: ما دلّ من الكتاب و السنّة على تحريم الدم،

مثل قوله- تعالى- في سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخنْزير وَ مٰا أُهلَّ لغَيْر اللّٰه به. «2» الآية.

بضميمة قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.»

و في حاشية المامقاني بعد ذكر هذا الدليل قال ما محصله: «و إن شئت قرّرت هذا الدليل بوجه آخر بأن تقول: إنّه غير منتفع به، حيث نهى الشارع عن المنفعة التي

من

______________________________

(1) راجع تنقيح المقال 3/ 281.

(2) سورة المائدة (5)، الآية 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 283

..........

______________________________

شأنها أن تترتّب عليه و هو الأكل، فلا عبرة بالانتفاع به في مثل الصبغ أو التسميد، فتكون المعاملة سفهية.

و إن شئت قرّرت بوجه ثالث بأن تقول: إنّ الدم غير مملوك باتفاق علمائنا بل هو من قبيل ما ليس بمتموّل عرفا و لذا لا يضمنه من أتلفه، و قد اشترط في صحّة البيع كون المبيع مملوكا.» «1»

و يرد على هذا الاستدلال: أن محطّ النظر في الآيات و الروايات المشار إليها ليس تحريم جميع الانتفاعات من الأشياء المذكورة بل تحريم أكلها الذي كان رائجا في الجاهلية، كما يشهد بذلك سياقها و القرائن الموجودة فيها:

ففي سورة البقرة و رد قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا منْ طَيِّبٰات مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اشْكُرُوا للّٰه إنْ كُنْتُمْ إيّٰاهُ تَعْبُدُونَ «2».

ثم عقّبه بقوله: إنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخنْزير وَ مٰا أُهلَّ به لغَيْر اللّٰه «3» الآية.

و الحصر وقع بلحاظ ما تعارف أكله من المحرمات، فلا ينتقض بمثل الكلب و السباع و نحوها لعدم تعارف أكلها في تلك الأعصار.

و وقع نظير ذلك في سورة النحل، فراجع «4».

______________________________

(1) غاية الآمال 1/ 18.

(2) سورة البقرة (2)، الآية 172.

(3) سورة البقرة (2)، الآية 173.

(4) سورة النحل (16)، الآيتان 114 و 115.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 284

..........

______________________________

و ورد في الأنعام قوله: قُلْ لٰا أَجدُ في مٰا أُوحيَ إلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعمٍ يَطْعَمُهُ إلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خنزيرٍ «1» الآية.

و في آية المائدة أيضا يظهر من الآيات بعدها كون النظر إلى الأكل، حيث ذكر فيها إحلال الطيبات و

طعام أهل الكتاب و جواز أكل ما يمسكه الكلاب.

و في الروايات الواردة في بيان ما يحرم من الذبيحة و منها الدم وقع التصريح في كثير منها بلفظ الأكل، و هو الظاهر من غيرها أيضا، فراجع الوسائل «2».

و أما قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» فقد مرّ حمله على صورة كون جميع المنافع محرّمة، أو ندرة المحلّلة منها بحيث لا توجب قيمة و ماليّة، أو صورة وقوع البيع بقصد المحرّمة، كما يشهد بذلك مناسبة الحكم و الموضوع و ظهور الشرط في كونه علّة للجزاء.

و أمّا ما ذكره المامقاني من كون التسميد من المنافع النادرة و كون المعاملة بلحاظه سفهية فالمناقشة فيه واضحة. و كذا قوله بعدم كون الدّم مملوكا متمولا عرفا، إذ الملكية و التموّل دائران مدار المنافع، و هي تختلف بحسب الدماء و الأزمنة و الأمكنة و الشرائط. و تزريق الدّم بالمرضى من أهمّ المصالح و المنافع في أعصارنا و له ماليّة ممتازة في المحافل الطبّية فلا وجه لمنع المعاملة عليه.

______________________________

(1) سورة الأنعام (6)، الآية 145.

(2) راجع الوسائل 16/ 359 و ما بعدها (طبعة أخرى 16/ 438 و ما بعدها)، الباب 31 من أبواب الأطعمة المحرمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 285

[فرع: الدم الطاهر إذا فرضت له منفعة محلّلة]

فرع و أمّا الدم الطاهر إذا فرضت له منفعة محلّلة كالصبغ و قلنا بجوازه (1) ففي جواز بيعه و جهان. أقواهما الجواز. لأنّها عين طاهرة ينفع بها منفعة محلّلة. (2)

و أمّا مرفوعة الواسطي المتضمنة لمرور أمير المؤمنين «ع» بالقصّابين و نهيهم عن بيع سبعة: بيع الدم و الغدد و آذان الفؤاد و الطحال، إلى آخرها (3) فالظاهر إرادة حرمة البيع للأكل. و لا شكّ في تحريمه لما سيجي ء من

أنّ قصد المنفعة المحرّمة في المبيع موجب لحرمة البيع بل بطلانه. (4)

و صرّح في التذكرة بعدم جواز بيع الدم الطاهر لاستخباثه. (5)

و لعلّه لعدم المنفعة الظاهرة فيه غير الأكل المحرّم.

______________________________

(1) أقول: لا وجه للترديد في جوازه، إلّا أن يقال: إنّ الأصل في الأشياء و الأفعال هو الحظر لا الإباحة.

(2) قد ظهر مما مرّ منا عدم الفرق بين النجس و الطاهر بعد وجود المنفعة المحلّلة الموجبة للمالية عرفا.

(3) قد مرّ منّا حمل الدم في المرفوعة على الدم النجس المسفوح الذي تقذفه الذبيحة عند الذبح، فراجع.

(4) سيجي ء البحث في ذلك في مسألة بيع العنب بقصد أن يجعل خمرا.

(5) قال في التذكرة: «و الدم كلّه نجس فلا يصحّ بيعه. و كذا ما ليس بنجس منه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 286

..........

______________________________

كدم غير ذي النفس السائلة الاستخباثه.» «1»

تتمة

قال في مصباح الفقاهه: «ربما يتوهم أن بيع الدم لما كان إعانة على الإثم فيكون محرّما لذلك.

و فيه- مضافا إلى ما سيأتي من عدم الدليل على حرمتها- أنّ النسبة بينها و بين بيع الدّم هو العموم من وجه، فإنّه قد يشتريه الإنسان لغير الأكل كالصبغ و التسميد و نحوهما، فلا يلزم منه إعانة على الإثم بوجه.

و على تقدير كونه إعانة على الإثم فالنهي إنّما تعلق بعنوان خارج عن البيع فلا يدل على الفساد.» «2»

أقول: أراد بذلك أنّ النهي إن تعلق بنفس عنوان المعاملة كان الظاهر منه الإرشاد إلى فساده. و أمّا إذا تعلق بعنوان آخر فغايته وقوع الفعل محرما، و لا يدلّ على فساد المعاملة.

و سيجي ء من المصنف البحث في آية التعاون، فانتظر.

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 56.

دراسات في المكاسب المحرمة،

ج 1، ص: 287

[المسألة الرابعة: في بيع المني]
اشارة

الرابعة: لا إشكال في حرمة بيع المنيّ لنجاسته و عدم الانتفاع به إذا وقع في خارج الرحم. (1)

______________________________

4- بيع المنيّ

[مفاهيم الكلمات المذكورة فيها]
اشارة

(1) قبل الورود في بيان حكم المسألة نتعرض إجمالا لمفاهيم الكلمات المذكورة فيها أعني المني، و العسب، و الملاقيح، و المضامين.

[أما المنيّ]

فنقول: أما المنيّ بتشديد الياء ففي أصله و جهان:

الأوّل: التقدير. قال الراغب في المفردات: «المني: التقدير. يقال: منى لك الماني، أي قدّر لك المقدّر ... و المنيّ للذي قدّر به الحيوانات. قال: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً منْ مَنيٍّ يُمْنىٰ منْ نُطْفَةٍ إذٰا تُمْنىٰ. أي تقدّر بالعزّة الإلهية ما لم يكن منه.» «1»

و في المصباح: «منى اللّه الشي ء من باب رمى: قدّره.» «2»

الثاني: الإراقة. قال في المجمع: «أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تُمْنُونَ، أي تدفقون في الأرحام من

______________________________

(1) المفردات/ 496. و الآية الأولى من سورة القيامة (75)، رقمها 37؛ و الثانية من سورة النجم (53)، رقمها 46.

(2) المصباح المنير/ 582 (الجزء 2).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 288

..........

______________________________

المنيّ، و هو الماء الغليظ الذي يكون منه الولد. قوله: منْ نُطْفَةٍ إذٰا تُمْنىٰ قيل: أي تدفق في الرحم. و قيل من المني. يقال: أمنى الرجل يمني: إذا أنزل المنيّ.» «1»

أقول: قالوا: و من هذا أخذ منى مكّة. قال في المصباح: «و سمّي منى لما يمنى به من الدماء، أي يراق.» «2»

و كيف كان فالظاهر أنّ المنيّ يطلق على الماء المذكور بعد خروجه من الفحل.

[و أمّا العسب]

و أمّا العسب و كذا العسيب فيطلقان على الماء المذكور حال كونه في صلب الفحل.

و كذا على عمل الطروقة و على أجرتها:

ففي نهاية ابن الأثير: «فيه: أنه نهى عن عسب الفحل. عسب الفحل: ماؤه فرسا كان أو بعيرا أو غيرهما. و عسبه أيضا: ضرابه. يقال: عسب الفحل الناقة يعسبها عسبا. و لم ينه عن واحد منها، و إنّما أراد النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه ... و قيل: يقال لكراء الفحل: عسب. و عسب فحله يعسبه، أي أكراه.» «3»

و في المجمع: «عسيب الفحل: أجرة

ضرابه، و منه نهي عن عسيب الفحل. و عسيب الفحل: ماؤه فرسا كان أو بعيرا أو غيرهما. يقال: عسب الفحل الناقة يعسبها عسبا. و لم ينه عنه، و إنّما أراد النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه للجهالة التي فيه من تعيين العمل و لأنه قد تلقح و قد لا تلقح.» «4»

______________________________

(1) مجمع البحرين 1/ 399 (ط. أخرى/ 80). و الآية الأولى من سورة الواقعة (56)، رقمها 58.

(2) المصباح المنير/ 582 (الجزء 2).

(3) النهاية 3/ 234.

(4) مجمع البحرين 2/ 121 (ط. أخرى/ 123).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 289

..........

______________________________

و في مبسوط الشيخ: «عسب الفحل: هو ضراب الفحل، و ثمنه: أجرته. و قد يسمّى الأجرة عسب الفحل مجازا لتسمية الشي ء باسم ما يجاوره، مثل المزادة؛ سمّوها راوية و هي اسم الجمل الذي يستقى عليه.

و إجارة الفحل للضراب مكروه و ليس بمحظور، و عقد الإجارة عليه غير فاسد.» «1»

[أمّا الملاقيح و المضامين]

و أمّا الملاقيح و المضامين ففي لغة لقح من النهاية: «و فيه: أنّه «نهى عن الملاقيح و المضامين.» الملاقيح: جمع ملقوح، و هو جنين الناقة. يقال: لقحت الناقة و ولدها ملقوح به إلّا أنّهم استعملوه بحذف الجارّ. و الناقة ملقوحة.» «2»

و في لغة ضمن منه: «و فيه: أنّه «نهى عن بيع المضامين و الملاقيح.» المضامين: ما في أصلاب الفحول و هي جمع مضمون. يقال: ضمن الشي ء بمعنى تضمّنه ... و الملاقيح:

جمع ملقوح و هو ما في بطن الناقة. و فسّرهما مالك في الموطّأ بالعكس ...» «3»

و في الوسائل نقلا عن الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن القاسم بن سلام بإسناد متصل إلى النبي «ص» أنه نهى عن المجر. و هو أن يباع البعير أو غيره مما في بطن

الناقة.

و نهى عن الملاقيح و المضامين. فالملاقيح: ما في البطون و هي الأجنّة، و المضامين: ما في أصلاب الفحول. و كانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة و ما يضرب الفحل في عامه و في أعوام.» «4»

______________________________

(1) المبسوط 2/ 155، كتاب البيوع، فصل في بيع الغرر.

(2) النهاية لابن الأثير 4/ 263.

(3) النهاية لابن الأثير 3/ 102. و انظر الموطّأ 2/ 654 (ط. أخرى 2/ 70)، في باب ما لا يجوز من بيع الحيوان من كتاب البيوع.

(4) الوسائل 12/ 262، الباب 10 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 290

..........

______________________________

و راجع في هذا المجال دعائم الإسلام أيضا «1».

و في التذكرة: «لا يجوز بيع الملاقيح، و هي ما في بطون الأمّهات، و لا المضامين و هي ما في أصلاب الفحول ... و منهم من عكس التفسيرين. و لا نعرف خلافا بين العلماء في فساد هذين البيعين للجهالة و عدم القدرة على التسليم. لأنّ النبي «ص» نهى عن بيع الملاقيح و المضامين. و لا خلاف فيه.» «2»

و في الشرح الكبير لابن قدامة الصغير في مسألة عدم جواز بيع الحمل في البطن قال: «و قد روى سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة: أنّ النبي «ص» نهى عن بيع الملاقيح و المضامين. قال أبو عبيد: الملاقيح: ما في البطون، و هي الأجنّة. و المضامين: ما في أصلاب الفحول. فكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة و ما يضربه الفحل في عامه أو في أعوام و أنشد:

«إنّ المضامين التي في الصلب ماء الفحول في الظهور الحدب.»

«3» أقول: الظاهر أنّ المقصود بيع الملاقيح و المضامين بيع ما تكوّن أو يتكون أو يولد حيوانا من هذا الفحل

أو من هذه الناقة لا بيع النطفة و الماء.

و هذا بخلاف العسب و العسيب؛ فإنّ المقصود به بيع الماء قبل خروجه من الفحل. كما أن المقصود ببيع المني بيعه بعد خروجه منه سواء أريق في خارج الرحم أو فيه.

و على هذا فلا يرتبط بيع الملاقيح و المضامين بمسألتنا هذه أعني بيع الماء بشقوقه. و لذا

______________________________

(1) راجع دعائم الإسلام 2/ 21، كتاب البيوع، الفصل 3 (ذكر ما نهى عنه من بيع الغرر)، الحديث 36.

(2) التذكرة 1/ 468، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) ذيل «المغنى» 4/ 27، كتاب البيع، الشرط السادس من شروط صحة البيع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 291

..........

______________________________

ذكروا مسألة بيع الملاقيح و المضامين في باب بيع الغرر و ما لا يقدر على تسليمه.

و نظيرهما بيع حبل الحبلة، أعني بيع نتاج النتاج. و أفردوا بيع العسيب و بيع المني و ذكروا بيع المني في باب بيع النجس.

و بما ذكرنا يظهر المناقشة فيما ذكره في جامع المقاصد و تبعه المصنّف فيما يأتي من عبارته و تبعهما في مصباح الفقاهة «1».

قال في جامع المقاصد في مسألة بيع العسيب: «و الفرق بينه و بين الملاقح: أنّ المراد بها النطفة بعد استقرارها في الرحم. و العسب هي قبل استقرارها. و المجر أعمّ من كلّ منهما.» «2»

أقول: في النهاية: «فيه: أنّه «نهى عن المجر.» أي بيع المجر، و هو ما في البطون كنهيه عن الملاقيح.» «3»

[شقوق بيع النطفة ثلاثة]
اشارة

و كيف كان فشقوق بيع النطفة ثلاثة عنونها المصنّف هنا:

الأوّل: بيع المني بعد ما أريق في خارج الرحم. الثاني: بيعه بعد ما أريق في الرحم.

الثالث: بيع ما في صلب الفحل من الماء، و هو المسمّى بعسيب الفحل. و يلحق بذلك إجارة

الفحل للضراب.

ففي المسألة ثلاثة فروع:

الأوّل: في بيع المني بعد ما خرج و وقع في خارج الرحم.

و المصنف حكم بحرمة بيعه حينئذ، لنجاسته و عدم الانتفاع به. و الظاهر منه إرادة الحرمة

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 58.

(2) جامع المقاصد 4/ 53، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الثانى.

(3) النهاية لابن الأثير 4/ 298.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 292

..........

______________________________

التكليفية. و لكن الظاهر من الأخبار و كلمات القدماء من أصحابنا و كذا فقهاء السنة في باب المعاملات إرادة الحرمة الوضعية أعني فساد المعاملة، و كذا في النهي و عدم الجواز كما مرّ تفصيله.

و قد تحصل مما حررناه سابقا منع كون النجاسة بنفسها مانعة عن الصحة و حكينا كلمات الفقهاء في هذا المجال. منها كلام ابن زهرة في الغنية و كلام ابن إدريس في السرائر و كلمات العلامة في التذكرة و فخر الدين في الإيضاح، فراجع «1».

و أمّا عدم الانتفاع فإن أريد به حرمة الانتفاع بالنجس مطلقا كما مرّ عن التنقيح و شرح الإرشاد الإجماع عليها «2» فهي ممنوعة.

و إن أريد بذلك عدم تحقق الانتفاع المحلّل خارجا فلا يعدّ مالا

فيرد عليه: أنّ هذا يختلف بحسب الأمكنة و الأزمنة و الشرائط.

و في أعصارنا يمكن أن ينتفع بالنطفة الملقاة في خارج الرحم في ظروف خاصة في المصانع الحديثة بالتجزية أو تهذيب النسل في الحيوانات أو بالتركيب مع نطفة الأنثى فتصير بذلك مالا يرغب فيه و يبذل بإزائه المال. هذا.

و يظهر من خلاف الشيخ أنّ النجاسة بنفسها مانعة في المقام كما في غيره. قال فيه (المسألة 270): «بيض ما لا يؤكل لحمه لا يجوز أكله و لا بيعه. و كذلك منيّ ما لا يؤكل لحمه. و للشافعي فيه و جهان. دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، فإنّها تتضمن ذكر البيض.

فأمّا المني فإنّه نجس عندنا و ما كان نجسا لا يجوز بيعه و لا

______________________________

(1) راجع ص 211 و ما بعدها من الكتاب.

(2) راجع ص 277 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 293

..........

______________________________

أكله بلا خلاف.» «1»

أقول: ذكره للبيض لعلّه يشهد على إرادته بيع المني بعد خروجه، بل قد مرّ أنّه قبل الخروج لا يسمّى منيّا، فراجع.

و الأخبار الواردة في بيض ما لا يؤكل لحمه تدلّ على حرمة أكلها و لا تعرّض فيها لعدم جواز بيعها، فراجع الوسائل «2».

نعم لو انحصرت منفعتها في الأكل فيحرم بيعها أيضا.

و أمّا إذا فرض الانتفاع بها في تكثير نسل الحيوان أو في المصانع الحديثة فلا نرى وجها لحرمة بيعها و فساده.

و مخالفة الشافعي في بيع المني يحتمل كونها مستندة إلى قوله بالطهارة في بعض أقسامه:

ففي أمّ الشافعي: «قال الشافعي: و المني ليس بنجس ... كلّ ما خرج من ذكر من رطوبة بول أو مذي أو ودي أو ما لا يعرف أو يعرف فهو نجس كلّه ما خلا المني. و المني:

الثخين الذي يكون منه الوالد، الذي يكون له رائحة كرائحة الطلع، ليس لشي ء يخرج من ذكر رائحة طيّبة غيره.» «3»

و راجع في هذا المجال الفقه على المذاهب الأربعة «4».

______________________________

(1) الخلاف 3/ 166 (ط. أخرى 2/ 73)، كتاب البيوع.

(2) راجع الوسائل 16/ 347 (طبعة أخرى 16/ 422)، الباب 20 من أبواب الأطعمة و الأشربة.

(3) الأمّ 1/ 47، كتاب الطهارة، باب المنى.

(4) راجع الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 13، كتاب الطهارة، مبحث الأعيان النجسة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 294

[الثاني: بيع المني بعد ما وقع في الرحم]

و لو وقع فيه فكذلك لا ينتفع به المشتري، لأنّ الولد نماء الأمّ في الحيوانات عرفا و للأب في الإنسان

شرعا. (1)

لكنّ الظاهر أنّ حكمهم بتبعيته الأمّ متفرّع على عدم تملك المني و إلّا لكان بمنزلة البذر المملوك يتبعه الزرع. فالمتعيّن التعليل بالنجاسة. لكن قد منع بعض من نجاسته إذا دخل من الباطن إلى الباطن.

______________________________

(1) هذا هو الفرع الثاني في المسألة، أعني بيع المني بعد ما وقع في الرحم. و اختار المصنّف في هذه الصورة أيضا حرمة البيع. و علّلها بأنّه لا ينتفع به المشتري، لأنّ الولد في الحيوانات تابع للأمّ و نماء لها عرفا، فإذا دخل المني في رحمها صار بمنزلة الجزء منها و صار ملكا لصاحب الأمّ قهرا، و ليس كالبذر المغروس في أرض الغير حيث قالوا بكون نمائه لصاحب البذر.

هذا محصّل ما أفاده المصنّف في مقام التعليل ثمّ ذكر أنّ هذا متفرّع على عدم تملّك المني و إلّا لكان بمنزلة البذر المملوك فالمتعين التعليل بالنجاسة.

أقول: كان الأولى التعليل بأنّه لا ينتفع المشتري بشرائه و معاملته لوضوح أنّه ينتفع بنفسه بتكوّن الولد منه. و قد أشار إلى ذلك المحقق الإيرواني في حاشيته فقال: «بل ينتفع به لكنه ملكه و نماء ملكه، فلا معنى لأن يشتريه.» «1»

و أمّا التعليل بالنجاسة فيرد عليه منع النجاسة كما أشار إليه و يأتي بيانه.

و إن شئت توضيح حكم هذا الفرع بنحو أو في فنقول: يمكن أن يستدل لمنع المعاملة فيه بأمور:

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 295

..........

______________________________

الأوّل: النجاسة.

و يرد عليه- مضافا إلى ما مرّ من منع كونها بنفسها مانعة عن الصحة ما لم توجب عدم الانتفاع المحلّل- منع أصل النجاسة في المقام، لانصراف أدلّة نجاسة المني و نحوه إلى صورة وقوعه في خارج البدن. و أمّا حال كونه في الباطن و إن

تحرّك من موضع إلى موضع أو من باطن إلى باطن آخر فلا دليل على نجاسته. و نظير المني في ذلك الدم و البول و الغائط.

الثاني: جهالة المبيع بحسب المقدار فتكون المعاملة غررية.

و يرد على ذلك أنّ الجهالة توجب البطلان إذا كان المطلوب كمية الشي ء بحيث تختلف القيمة باختلافها، و المني ليس كذلك إذ الولد يتكون من جزء صغير منه و الباقي يقع هدرا. هذا مضافا إلى أنّ جهالة المقدار تضرّ في مثل البيع و الإجارة دون مثل الصلح المبني على المسامحة. و قد تعرّض لذلك المحقق الإيرواني في حاشيته «1».

الثالث: الجهالة من جهة احتمال عدم تحقق اللقاح و صيرورته هدرا.

و يرد عليه أنّ هذا لا يوجب عدم القيمة و المالية عرفا. و نظيره البذر المحتمل لأن يفسد و لا ينبت و مع ذلك لا تسقط عن المالية و مثله الفسيلة تشترى و تغرس و ربما تفسد.

الرابع: عدم قدرة البائع على تسليم المبيع.

و فيه: أنّ المعتبر فيها القدرة العرفية، و هي حاصلة بكون الحيوان تحت يد المشتري.

الخامس: ما ذكره المصنّف، و هو أنّ المشتري لا ينتفع بهذا الشراء، إذ مرجعه إلى اشتراء مال نفسه كما مرّ بيانه.

______________________________

(1) راجع حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 296

..........

______________________________

قال في مصباح الفقاهة: «و الذي يسهّل الخطب أن السيرة القطعية من العقلاء و المتشرّعة قائمة على تبعية النتاج للأمّهات في الحيوانات. و قد أمضاها الشارع فلا يمكن التخطّي عنها، كما أنّ الولد للفراش في الإنسان بالنصّ و الإجماع القطعيين.

و من هنا يعاملون مع نتاج الحيوانات معاملة الملك حتّى مع العلم بأن اللقاح حصل من فحل شخص آخر. و إلّا فكان اللازم عليهم إمّا ردّ النتاج إلى

صاحب الفحل إن كان معلوما، أو المعاملة معه معاملة مجهول المالك إن كان المالك مجهولا. و هذا شي ء لا يتفوّه به ذو مسكة.» «1»

أقول: قيام السيرة على ما ذكر صحيح إجمالا.

و لكن يمكن أن يقال باستنادها إلى مهانة نطف الحيوانات عند العقلاء و عدم تقويمهم لها نظير سائر فضولات أبدانها. و لكن لو فرض قلّة الحيوان الفحل في مكان و شدّة الحاجة إلى نطفته بحيث صارت ذات قيمة و ماليّة معتنى بها فأجبر أحد فحل الغير على الطروقة فهل يحلّ نتاجه حينئذ لمالك الأنثى مع كون النطفة ذات قيمة و ماليّة معتنى بها؟ الالتزام بذلك مشكل و لا يبعد القول بجواز شراء النطفة حينئذ.

ثم لا يخفى أنّ قوله «ص»: «الولد للفراش» يكون في قبال العاهر المدّعي، و لا ربط له بمسألة كون الولد تابعا للأب أو الأمّ.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 59.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 297

[الثالث: بيع ماء الفحل قبل الاستقرار في الرحم]
اشارة

و قد ذكر العلامة من المحرّمات بيع عسيب الفحل، و هو ماؤه قبل الاستقرار في الرحم. (1)

______________________________

(1) هذا هو الفرع الثالث في المسألة. و حيث إنه محلّ للابتلاء و كان معنونا في الأخبار و فقه الفريقين فالأولى نقل بعض الكلمات فيه و إن كان محطّ النظر في كثير منها كراء الفحل لا بيع نطفته:

[نقل بعض كلمات علماء الفريقين]

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 269): «إجارة الفحل للضراب مكروه و ليس بمحظور. و عقد الإجارة عليه غير فاسد. و قال مالك: يجوز و لم يكرهه. و قال أبو حنيفة و الشافعي: إن الإجارة فاسدة و الأجرة محظورة. دليلنا: أنّ الأصل الإباحة، فمن ادعى الحظر و المنع فعليه الدلالة. فأمّا كراهية ما قلناه فعليه إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

أقول: لو شكّ في إباحة الضراب فالمرجع فيه أصل الإباحة. و أمّا لو شك في صحة الإجارة عليه فالأصل يقتضي فسادها و عدم ترتب الأثر عليها إلّا أن يراد بأصل الإباحة في كلامه عموم أدلّة الإجارات و العقود.

2- و في النهاية: «و كسب صاحب الفحل من الإبل و البقر و الغنم إذا أقامه للنتاج ليس به بأس، و تركه أفضل.» «2»

3- و في المبسوط: «عسب الفحل هو ضراب الفحل. و ثمنه أجرته. و قد يسمّى الأجرة عسب الفحل مجازا لتسمية الشي ء باسم ما يجاوره، مثل المزادة سمّوها رواية و هي اسم الجمل الذي يستقى عليه. و إجارة الفحل للضراب مكروه و ليس بمحظور. و عقد الإجارة

______________________________

(1) الخلاف 3/ 166 (ط. أخرى 2/ 73)، كتاب البيوع.

(2) النهاية/ 366، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 298

..........

______________________________

عليه غير فاسد.» «1»

أقول: قد مرّ في أوّل المسألة أنّ لفظ

العسب و العسيب يطلقان على ماء الفحل قبل الطروقة و على الطروقة و على أجرتها.

4- و قال العلّامة في التذكرة: «يحرم بيع عسيب الفحل، و هو نطفته، لأنه غير متقوّم و لا معلوم و لا مقدور عليه. و لا نعلم فيه خلافا لأنّ النبي «ص» نهى عنه. أمّا إجارة الفحل للضراب فعندنا مكروهة و ليست محرّمة، و هو أضعف وجهي الشافعي. و به قال مالك، لأنها منفعة مقصودة يحتاج إليها في كلّ وقت، فلو لم يجز الإجارة فيها تعذّر تحصيلها لعدم وجوب البذل على المالك. و قال أبو حنيفة و الشافعي في أصحّ وجهيه و أحمد: إنّها محرّمة، لأنه «ص» نهى عن عسيب الفحل. و لأنه لا يقدر على تسليمه فأشبه إجارة الآبق. و لأنه متعلق باختيار الفحل و شهوته. و لأن القصد هو الماء و هو مما لا يجوز إفراده بالبيع.

و نحن نقول بموجب النهي، لتناوله البيع أو التنزيه، و نمنع انتفاء القدرة، و العقد وقع على الإنزاء. و الماء تابع كالظئر.» «2»

أقول: و راجع في هذا المجال المنتهى أيضا «3».

و العلامة في التذكرة تعرّض لبيع الملاقيح و المضامين في مسألة ثمّ عقّبها بمسألة بيع عسيب الفحل، فيظهر بذلك أنّ بيع عسيب الفحل غير بيع المضامين. و قد مرّ منّا أنّ

______________________________

(1) المبسوط 2/ 155، كتاب البيوع، فصل في بيع الغرر.

(2) التذكرة 1/ 468، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) راجع المنتهى 1/ 1019، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الثانى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 299

..........

______________________________

المقصود من بيع الملاقيح و المضامين بيع الحيوان المقدّر الذي يتكوّن من هذه الأنثى أو من هذا الفحل. و من بيع العسيب بيع النطفة في صلب الفحل قبل

الضراب، فتدبّر و لا تخلّط.

و بذلك يظهر الإشكال على من توهم اتحاد بيع العسب مع بيع المضامين و اتحاد بيع النطفة في الرحم مع بيع الملاقيح.

و هاهنا إشكال معروف في كتاب الإجارة أشار إليه العلامة هنا في آخر كلامه، و هو أنّ البيع تمليك للعين و الإجارة تمليك للمنفعة لا للعين، و على هذا فيشكل إجارة الفحل للضراب و المرأة للرضاع و الشاة للانتفاع بلبنها و الشجرة للانتفاع بثمرها و نحو ذلك، لاستلزامها في هذه الموارد تملك المستأجر للأعيان و استهلاكها عنده، و هذا خلاف مقتضى الإجارة.

و أجاب عن هذا الإشكال في إجارة العروة بأنّ المناط في المنفعة هو العرف، و عندهم يعدّ اللبن منفعة للشاة و الثمرة منفعة للشجر «1».

و يرد عليه عدم الاعتبار بالإطلاق المسامحي العرفي هنا، إذ المنفعة في كتاب الإجارة يراد بها ما يكون قسيما للعين.

و أجاب عنه في إجارة مستند العروة بما محصّله: «أنّ النظر في العقد في هذه الموارد ليس إلى تمليك الأعيان المذكورة بل إلى تمليك منفعة العين المستأجرة، و هي وصف قائم بها حين الإجارة أعني أهليّتها و استعدادها لأن يتولّد منها الأعيان المذكورة. و هذه الأعيان

______________________________

(1) راجع العروة الوثقى 2/ 620 (ط. المكتبة العلمية الإسلامية، سنة 1399 ه. ق) كتاب الإجارة، الفصل 6، المسألة 12.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 300

..........

______________________________

تتكوّن قهرا في ملك من ملك الوصف المذكور. فالمستأجر لم يتملك بالمباشرة بسبب عقد الإجارة إلّا الاستعداد الخاصّ و هو من قبيل الأوصاف و المنافع. و تملك الأعيان المذكورة تابع عرفا لمن تملك الاستعداد المذكور. و هذا نظير من يستأجر شبكة للصيد، فإنّ استعداد الشبكة إذا انتقل إلى المستأجر فلا محالة تتبعه مالكيته للصيد

الملقى فيها.» «1»

و لكن الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- كان ينكر تعريف الإجارة بتمليك المنفعة و كان يقول: إنّ البيع و الإجارة كليهما إضافتان متعلقتان بالأعيان، فكما تقول:

بعتك هذه الدار تقول: آجرتك هذه الدار. غاية الأمر أنّ مفهوم الإجارة عند العقلاء تقتضي استحقاق المستأجر للانتفاع بالعين مع بقائها مدّة الانتفاع بها، و الانتفاع من كل شي ء بحسب ما يترقب منه.

و أمّا اقتضاؤها لبقاء العين المستأجرة بعد مدّة الانتفاع بها فضلا عن بقاء ما يتولد منها فلا دليل عليه. إلّا أن يثبت هذا بالإجماع.

فإن قلت: نعم الإجارة أيضا متعلقة بالعين و لكن مفاد الإجارة هو تمليك المنفعة و بذلك تفترق عن العارية و لذا يعدّ المستأجر نفسه مالكا للمنفعة و له نقلها إلى غيره.

قلت: لو صحّ هذا لزم صحة إنشاء إجارة الدار بقولنا: ملكتك سكنى هذه الدار.

و الالتزام بذلك مشكل. هذا. و تحقيق المسألة موكول إلى محلّه.

5- و في بيع الشرائع عدّ من المكاسب المكروهة: «ضراب الفحل.» «2»

6- و في مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة قال: «و بيع عسب الفحل غير جائز.»

______________________________

(1) مستند العروة/ 357 و ما بعدها، ذيل المسألة 7 من الفصل 6 من كتاب الإجارة.

(2) الشرائع/ 265 (- ط. أخرى 2/ 11)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 301

..........

______________________________

7- و ذيّله في المغني بقوله: «عسب الفحل: ضرابه. و بيعه أخذ عوضه، و تسمّى الأجرة عسب الفحل مجازا. و إجارة الفحل للضراب حرام و العقد فاسد. و به قال أبو حنيفة و الشافعي. و حكي عن مالك جوازه. قال ابن عقيل: و يحتمل عندي الجواز لأنّه عقد على منافع الفحل و نزوه، و هذه منفعة مقصودة، و

الماء تابع. و الغالب حصوله عقيب نزوه فيكون كالعقد على الظئر ليحصل اللبن في بطن الصبيّ.

و لنا: ما روى ابن عمر: أنّ النبي «ص»: «نهى عن بيع عسب الفحل.» رواه البخاري.

و عن جابر قال: «نهى رسول اللّه «ص» عن بيع ضراب الجمل.» رواه مسلم. و لأنّه ممّا لا يقدر على تسليمه فأشبه إجارة الآبق. و لأن ذلك متعلق باختيار الفحل و شهوته. و لأنّ المقصود هو الماء و هو مما لا يجوز إفراده بالعقد و هو مجهول. و إجارة الظئر خولف فيه الأصل لمصلحة بقاء الآدمي فلا يقاس عليه ما ليس مثله ...» «1»

أقول: العسب- كما مرّ- يطلق على نفس الماء في الصلب و على الضراب و على الثمن و الأجرة لهما. و المذكور في كلام الخرقي البيع، و في كلام الشارح الإجارة، و ليس في خبر ابن عمر لفظ البيع بل النهي عن عسب الفحل، فراجع البخاري «2».

و لا مجال للنهي عن نفس الماء و لا عن نفس الضراب، فلا محالة يراد به النهي عن الثمن أو الأجرة أو كليهما.

و خبر جابر رواه مسلم بسنده عنه، يقول: «نهى رسول اللّه «ص» عن بيع ضراب الجمل و عن بيع الماء و الأرض لتحرث.» «3»

______________________________

(1) المغنى 4/ 277، كتاب البيوع، باب المصراة و غير ذلك.

(2) راجع صحيح البخاري 2/ 37، كتاب الإجارة، باب عسب الفحل.

(3) صحيح مسلم 3/ 1197، كتاب المساقاة، باب تحريم فضل بيع الماء ... و تحريم بيع ضراب الفحل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 302

..........

______________________________

و بيع ضراب الجمل فيه ظاهر في إجارته له، كما أنّ المقصود ببيع الماء و الأرض أيضا إجارتهما للحرث.

و إطلاق لفظ البيع على نقل المنفعة كان شائعا كما

يظهر لمن تتبع أخبار الفريقين.

8- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنابلة: «و من الأشياء التي لا تصحّ إجارتها ذكور الحيوانات التي تستأجر لإحبال أنثاها، فلا يحلّ استيجار ثور ليحبل بقرة و لا جملا ليحبل ناقة و هكذا لأنّ المقصود من ذلك إنما هو منيه، و هو محرّم لا قيمة له فلا يصحّ الاستيجار عليه، فإذا احتاج شخص إلى ذلك و لم يجد من يعطيه فإنّه يصحّ له أن يدفع الأجرة و يكون الإثم على من أخذها ...» «1»

أقول: بعد حلّية العمل و الاحتياج إليه لا نرى وجها لحرمة أخذ الأجرة عليه. نعم يمكن كون خسّته موجبة لكراهة التكسب به.

هذه بعض كلماتهم في المقام.

[ما تمسّكوا به للمنع في المقام أمور]
اشارة

إذا عرفت هذا فنقول: الأصل الأوّلي في المعاملات و إن كان هو الفساد، إذ الأصل عدم ترتّب الأثر، لكن عمومات العقود و البيع و الإجارة تقتضي صحّتها إلّا فيما ثبت خلافها. و ما تمسّكوا به للمنع في المقام أمور:

الأوّل: النجاسة.

و يرد عليه- مضافا إلى منع نجاسة ما في الباطن كما مرّ- منع مانعية النجاسة بنفسها، و الملاك في الصحة تحقق المنفعة المحلّلة.

الثاني: عدم القيمة و المالية.

و يرد عليه اختلاف الأزمنة و الأمكنة و الشرائط في ذلك. و الملاك في المالية رغبة الشخص فيه بحسب حاجاته الفعلية العقلائية بحيث يبذل بإزائه المال.

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 3/ 145، مباحث الإجارة، مبحث ما تجوز إجارته و ما لا تجوز.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 303

الثالث: كونه مجهولا.

______________________________

و يرد عليه أنّه إن أريد بذلك الجهل بمقدار النطفة، ففيه أنّ الجهل به يوجب البطلان إذا كان المطلوب مقدار الشي ء و كميته بحيث تختلف الرغبة و القيمة باختلافها و تصير المعاملة غررية. و النطفة ليست كذلك في مقام الإحبال كما مرّ.

و إن أريد بذلك الجهل بأصل وجود النطفة، ففيه أنّ هذا يوجب بطلان البيع.

و أمّا الإجارة فإنّها تقع على عمل الإنزاء بترقّب الإحبال، فيكفي فيها الشأنية و ظنّ وجود النطفة.

و العقلاء يقدمون على ذلك و على أداء الأجرة لذلك، و عمل المسلم محترم. و نظير ذلك رائج في أعمال الناس و معاملاتهم، فيعملون و يعاملون بترقب النتائج.

الرابع: عدم القدرة على التسليم.

و يرد عليه أنّ تسليم كل شي ء بحسبه. و تسليم النطفة يحصل بإنزاء الفحل و ترغيبه في العمل.

الخامس: ما مرّ من كون الإجارة تمليكا للمنفعة فقط

، فلا تصحّ إذا استلزمت انتقال العين و استهلاكها. و قد مرّ الجواب عنه عن مستند العروة و عن السيّد الأستاذ- طاب ثراه-، فراجع.

و قد صحّت الإجارة على الإرضاع بلا إشكال، لقوله- تعالى-: فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. «1» و للأخبار الواردة.

فيظهر بذلك صحّة الإجارة لعمل يستتبع انتقال عين و استهلاكها.

و ليس هذا من القياس بعد إلغاء الخصوصيّة و العلم بوحدة المناط. و محلّ الإشكال لو سلّم صورة استتباع الانتفاع لتلف العين المستأجرة.

______________________________

(1) سورة الطلاق (65)، الآية 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 304

السادس: الأخبار الواردة من طرق الفريقين:

______________________________

1- ما في الخصال في باب التسعة بإسناده عن محمد بن عليّ، عن أبيه، عن الحسين بن عليّ- عليهم السلام-، قال: «لما افتتح رسول اللّه «ص» خيبر دعا بقوسه فاتكأ على سيتها ثم حمد اللّه و أثنى عليه و ذكر ما فتح اللّه له و نصره به و نهى عن خصال تسعة:

عن مهر البغيّ، و عن كسب الدابّة يعني عسب الفحل، و عن خاتم الذهب، و عن ثمن الكلب ...» «1»

و رواه عنه في الوسائل و فيه: «و عن عسيب الدابة، يعني كسب الفحل.» «2»

2- ما عن الفقيه، قال: «نهى رسول اللّه «ص» عن عسيب الفحل، و هو أجر الضراب.» «3»

أقول: التفسير للصدوق. و نقله عنه «ص» بلا ترديد يدلّ على قطعه بصدوره عنه «ص».

3- ما في دعائم الإسلام: «روّينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ «ع»: أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن بيع الأحرار و عن بيع الميتة و الدّم و الخنزير و الأصنام و عن عسب الفحل.» «4» و رواه عنه في المستدرك «5».

4- ما عن الجعفريات بإسناده عن عليّ «ع» في حديث طويل

مرّ، قال: «من السحت

______________________________

(1) الخصال/ 417 (الجزء 2)، الحديث 10.

(2) الوسائل 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 14.

(3) الوسائل 12/ 77، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(4) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 22.

(5) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 305

..........

______________________________

ثمن الميتة و ثمن اللقاح و مهر البغيّ و كسب الحجام ... و عسب الفحل، و لا بأس أن يهدي له العلف ...» «1»

5 و 6- ما مر عن المغني من حديثي البخاري و مسلم، فراجع.

7- ما في البيهقي بإسناده عن أبي هريرة: «نهى عن مهر البغي و عسب الفحل و عن ثمن السنور و عن الكلب إلّا كلب صيد.» «2»

و راجع البيهقي أيضا، روايتي أنس بن مالك و أبي سعيد الخدري «3».

8- و في مبسوط السرخسي في فقه الحنفية عن أبي نعيم، عن بعض أصحاب النبي «ص» أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن عسب التيس و كسب الحجام و قفيز الطّحان.» «4»

9- و فيه أيضا عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «من السحت عسب التيس و مهر البغيّ و كسب الحجام.» «5»

و هذه الأخبار و إن ضعفت بحسب الأسناد لكنها بلغت من الاستفاضة حدّا يطمئن الإنسان بصدور بعضها، و ليس المضمون ممّا يوجد الداعي إلى اختلاقه. و النهي فيها يشمل البيع و الإجارة معا.

و لكن في قبالها ما يدلّ على الجواز إجمالا:

1- خبر حنان بن سدير، قال: دخلنا على أبي عبد اللّه «ع» و معنا فرقد الحجّام ... فقال

______________________________

(1) نفس المصدر و

الباب 2/ 426، الحديث 1.

(2) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

(3) راجع سنن البيهقى 5/ 339، كتاب البيوع، باب النهى عن عسب الفحل.

(4) مبسوط السرخسى 8/ 83 (الجزء 15)، كتاب الإجارات.

(5) مبسوط السرخسى 8/ 83 (الجزء 15)، كتاب الإجارات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 306

..........

______________________________

له: جعلني اللّه فداك إنّ لي تيسا أكريه، فما تقول في كسبه؟ قال: «كل كسبه فإنّه لك حلال. و الناس يكرهونه.» قال حنان: قلت: لأيّ شي ء يكرهونه و هو حلال؟ قال:

«لتعيير الناس بعضهم بعضا.» «1»

2- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه ... قال: قلت له: أجر التيوس؟ قال: «إن كانت العرب لتعاير به، و لا بأس.» «2»

و صدر كلتا الروايتين يرتبط بكسب الحجام و كونه جائزا حلالا. هذا.

و يمكن الجمع بين هاتين الروايتين و بين أخبار المنع بوجوه:

الأوّل: حمل أخبار المنع على الكراهة حملا للظاهر على النصّ و كثرة استعمال النهي و كذا لفظ السحت في الكراهة. و يؤيد ذلك اشتمال أخبار المنع على ما ليس بحرام قطعا، مثل كسب الحجام و أجر القارئ و الهدية يلتمس أفضل منها و نحو ذلك في خبر الجعفريات مثلا، فتأمّل.

الثاني: حمل أخبار المنع على البيع و الروايتين على الإجارة، كما هي الظاهر منهما.

و يؤيد ذلك أنّ وجود النطفة في الصلب كثيرا ما مشكوك فيه و مع الشكّ في تحقق الشي ء لا يصحّ بيعه.

و على هذا الوجه فدلالة الروايتين على الكراهة أيضا لا تخلو من إشكال، إذ كراهة الناس و تعييرهم لا تكفي في الحكم بالكراهة الشرعية، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ حمل أخبار المنع على البيع حمل على الفرد النادر، إذ المتعارف كان هو الإجارة لا

البيع.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 77، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 307

كما أنّ الملاقيح هو ماؤه بعد الاستقرار، كما في جامع المقاصد و عن غيره. (1) و علّل في الغنية بطلان بيع ما في أصلاب الفحول بالجهالة و عدم القدرة على التسليم. (2)

______________________________

الثالث: حمل أخبار المنع على التقية، لكون المنع عندهم أشهر كما مرّ.

هذا و لكن حمل الأخبار النبوية على التقية غريب غير محتمل.

و أمّا احتمال حمل النهي على التكليف المحض و القول بالصحة وضعا فضعيف جدّا، إذ النهي كما مرّ لم يتعلق بنفس الماء و لا بنفس العمل بل بالثمن أو الأجرة، و مثله يكون ظاهرا في الإرشاد إلى الفساد كما لا يخفى.

و كيف كان فالإجارة ممّا تصحّ قطعا للروايتين و للآية الشريفة في الرضاع بعد إلغاء الخصوصية، و لحلّية العمل قطعا و كثرة الاحتياج إلى الاستيجار له.

(1) قد مرّ في صدر المسألة عبارة جامع المقاصد و المناقشة فيها، و قلنا إنّ المقصود ببيع الملاقيح و المضامين كان بيع ما يتكوّن حيوانا من هذه الأنثى أو من هذا الفحل لا بيع النطفة المبحوث عنه هنا.

(2) قال في الغنية: «و لما ذكرنا من الشرطين نهي أيضا عن بيع حبل الحبلة و هو نتاج النتاج، و عن بيع الملاقيح و هو ما في بطون الأمهات، و عن بيع المضامين و هو ما في أصلاب الفحول، لأنّ ذلك مجهول غير مقدور على تسليمه.» «1»

أقول: أنت ترى أنّ محطّ نظر الغنية بيع الملاقيح و المضامين، و قد عرفت أنّهما غير بيع النطفة المبحوث عنه هنا.

______________________________

(1) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب

البيع من الغنية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 308

[المسألة الخامسة: المعاوضة على الميتة و أجزائها]
اشارة

الخامسة: يحرم المعاوضة على الميتة و أجزائها التي تحلّها الحياة من ذي النفس السائلة على المعروف من مذهب الأصحاب. و في التذكرة كما عن المنتهى و التنقيح الإجماع عليه. و عن رهن الخلاف الإجماع على عدم ملكيتها. (1)

______________________________

5- المعاوضة على الميتة و أجزائها

[كلمات الأصحاب]

(1) أقول: 1- قد مرّ عن التذكرة قوله: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية ...

و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا.» «1»

2- و فيه أيضا: «لا يجوز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إجماعا منّا، و به قال أحمد. و قال أبو حنيفة: يجوز. أمّا بعد الدباغ فكذلك عندنا، لأنه لا يطهر خلافا للجمهور ...» «2»

3- و في المنتهى: «و قد احتجّ العلماء كافّة على تحريم بيع الميتة و الخمر و الخنزير بالنصّ و الإجماع.» «3»

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) المنتهى 2/ 1008، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 309

و يدلّ عليه- مضافا إلى ما تقدّم من الأخبار- ما دلّ على أنّ الميتة لا ينتفع بها، منضما إلى اشتراط وجود المنفعة المباحة في المبيع لئلا يدخل في عموم النهي عن أكل المال بالباطل. (1)

______________________________

4- و في التنقيح في ذيل قول المصنّف: «الأوّل: الأعيان النجسة» قال: «إنّما حرم بيعها لأنها محرّمة الانتفاع. و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصحّ بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية، و أمّا الكبرى فلقول النبي «ص» ...» «1»

5- و في رهن الخلاف (المسألة 34): «إذا كان الرهن شاة فماتت زال ملك الراهن عنها و انفسخ الرهن إجماعا ...

دليلنا: إجماع الفرقة على أنّ جلد الميتة لا يطهر

بالدباغ. و إذا ثبت ذلك لم يعد الملك إجماعا ...» «2»

هذه ما أشار إليه المصنّف من الكلمات. و أنت ترى أنّ إجماع التنقيح على عدم جواز الانتفاع لا عدم جواز المعاوضة.

حكم الانتفاع بالميتة
اشارة

(1) الكلام هنا يقع في مقامين: الأوّل: حكم الانتفاع بالميتة. الثاني: حكم بيع الميتة و أجزائها النجسة.

و المصنّف بنى البحث عن صحة البيع و عدمها إجمالا على جواز الانتفاع و عدمه.

فالأنسب تقديم هذا البحث فنقول:

______________________________

(1) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(2) الخلاف 3/ 239 (ط. أخرى 2/ 103)، كتاب الرهن.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 310

[كلمات الأصحاب]

______________________________

الأصل الأوّلي يقتضي حلّية الانتفاع بها و بكل شي ء إلّا فيما ثبت من الشرع خلافه.

و في الكتاب العزيز: هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ مٰا في الْأَرْض جَميعاً. «1»

و لكن يظهر من كثير من الكلمات و الأخبار الواردة حرمة أنواع التصرف في الميتة و الانتفاع بها. بل يظهر من بعضهم كونها إجماعية. و يظهر من البعض أيضا خلاف ذلك:

1- ففي مكاسب النهاية: «و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ لغير اللّه به، و التصرّف فيه و التكسب به حرام محظور ... و لا يجوز التصرّف في شي ء من جلود الميتة و لا التكسب بها على حال.» «2»

أقول: لفظ التصرّف يحتمل أن يراد به التصرفات الناقلة، و يحتمل أن يراد به مطلق الانتفاعات، و لعلّ الثاني أظهر.

2- و في الصيد و الذبائح منه: «و ما لم يذكّ و مات لم يجز استعمال جلده في شي ء من الأشياء لا قبل الدباغ و لا بعده.» «3»

3- و في المراسم: «و التصرّف في الميتة و لحم الخنزير و شحمه ... ببيع و غيره حرام.» «4»

أقول: ظهور لفظ التصرف في هذه العبارة في التصرفات الناقلة قويّ، فيشكل دلالتها على حرمة الانتفاعات.

4- و في مستطرفات السرائر في ردّ خبر البزنطي الدالّ على جواز الإسراج بأليات الغنم المقطوعة من الأحياء قال:

«الإجماع منعقد على تحريم الميتة و التصرّف فيها بكلّ

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 29.

(2) النهاية/ 364 و 366، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

(3) النهاية/ 586، باب ما يحلّ من الميتة ... و حكم البيض و الجلود.

(4) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 311

..........

______________________________

حال إلّا أكلها للمضطر غير الباغي و العادي.» «1»

5- و في الجواهر: «لا يجوز الانتفاع بشي ء منها ممّا تحلّه الحياة فضلا عن التكسب سواء كانت ميتة نجس العين أو طاهرها ذي النفس السائلة.» «2»

إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في كلمات فقهاء الفريقين.

و في قبال ذلك بعض الكلمات الظاهرة في جواز بعض الانتفاعات:

1- ففي المقنع للصدوق: «و لا بأس أن تتوضأ من الماء إذا كان في زقّ من جلد ميتة و لا بأس أن تشربه.» «3»

2- و في الصيد و الذبائح من النهاية: «و يجوز أن يعمل من جلود الميتة دلو يستقى به الماء لغير وضوء الصلاة و الشرب، و تجنّبه أفضل.» «4»

3- و عن التهذيب أنّه بعد نقل صحيحة زرارة (قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء قال: «لا بأس.») قال: «الوجه أنّه لا بأس أن يستقى به، لكن يستعمل ذلك في سقي الدوابّ و الأشجار و نحو ذلك.» «5»

4- و في الأطعمة و الأشربة من الشرائع: «و يجوز الاستسقاء بجلود الميتة و إن كان نجسا و لا يصلّي من مائها، و ترك الاستسقاء أفضل.» «6»

______________________________

(1) السرائر 3/ 574، في مستطرفاته عن جامع البزنطى.

(2) الجواهر 22/ 17، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(3) الجوامع الفقهية/ 3، باب الوضوء من المقنع.

(4) النهاية/ 587، باب ما يحلّ

من الميتة ... و حكم البيض و الجلود.

(5) الوسائل 1/ 129، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16 و ذيله؛ عن التهذيب 1/ 413.

(6) الشرائع/ 755 (ط. أخرى 3/ 227)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 312

..........

______________________________

5- و في الأطعمة من المختصر النافع: «و يجوز الاستقاء بجلود الميتة و لا يصلّي بمائها.» «1»

6- و في أطعمة الإرشاد: «و لا يجوز الاستقاء بجلد الميتة لغير الصلاة، و تركه أفضل.» «2»

7- و في أطعمة القواعد: «و لا يجوز الاستسقاء بجلد الميتة لغير الطهارة، و تركه أفضل.

و لو كان يسع كرّا فأملأه من الفرات جاز استعمال ما فيه، و لو كان أقلّ كان نجسا.» «3»

8- و في طهارة القواعد: «و جلد الميتة لا يطهر بالدباغ. و لو اتخذ منه حوض لا يتسع للكر نجس الماء فيه، و إن احتمله فهو نجس و الماء طاهر، فإن توضأ منه جاز إن كان الباقي كرا فصاعدا.» «4»

إلى غير ذلك مما يعثر عليه المتتبع.

9- و في مفتاح الكرامة بعد التعرّض لبعض كلمات المانعين قال: «و لا مخالف في عدم جواز الانتفاع بالميتة سوى الشيخ في النهاية و المحقق في الشرائع و النافع و تلميذه كاشف الرموز و المصنّف في الإرشاد، فجوّز و الاستقاء بجلودها لغير الصلاة و الشرب.

و مال إليه صاحب التنقيح للأصل و تبادر التناول من الآية الشريفة. و في السرائر أنّه مرويّ ...

و الصّدوق في المقنع جوّز الاستقاء بجلد الخنزير بأن يجعل دلوا لغير الطهارة. و قد وافقه المصنّف على ذلك في مطاعم الكتاب.

و حكى الشهيد في حواشيه على الكتاب أنّه نقل عن المصنّف في حلقة الدرس أنّه

______________________________

(1) المختصر النافع/ 254 (الجزء

2)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس.

(2) الإرشاد 2/ 113، كتاب الصيد و توابعه، المقصد الثالث، الباب الأوّل.

(3) القواعد 1/ 159، كتاب الصيد و الذباحة، المقصد الخامس، الفصل الأوّل.

(4) القواعد 1/ 7، كتاب الطهارة، المقصد الثالث، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 313

..........

______________________________

جوّز الاستصباح بأليات الغنم المقطوعة تحت السماء.

و صاحب الكفاية استشكل في حرمة التكسب بجلد الميتة نظرا إلى خبر أبي القاسم الصيقل و ولده.» «1»

أقول: غرضنا من التطويل في نقل كلمات الأصحاب منع تحقق الإجماع في المسألة، حيث تمسك به البعض في المقام حتّى ربما يشككون في جواز الانتفاع بها في التسميد أيضا، مع أنّ المسألة مختلف فيها؛ فترى الشيخ الطوسي مثلا يفتي في كتاب الصيد و الذبائح من نهايته الذي وضعه لنقل خصوص المسائل المأثورة تارة بعدم جواز استعمال جلد الميتة في شي ء من الأشياء. و أخرى بعد صفحة بجواز عمل الدلو منه و الاستقاء به لغير وضوء الصلاة و الشرب.

[ما يمكن أن يتمسك به في المقام]
اشارة

و مسألة بيع الميتة مبتلى بها في أعصارنا جدّا، حيث يشترون أجساد الأموات للتشريح و الترقيع و نحوهما بأثمان غالية. فإذا لم يثبت إجماع في البين فلنتعرّض لسائر ما يمكن أن يتمسك به في المقام:

[الآيات الدالة على التحريم]

فممّا استدلوا به لحرمة جميع الانتفاعات بها بل حرمة المعاوضة عليها أيضا ما ورد من الآيات في تحريم الميتة و ما قارنها:

قال اللّه- تعالى- في أوائل سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخنْزير وَ مٰا أُهلَّ لغَيْر اللّٰه به «2» الآية.

قال في التذكرة بعد ذكر الآية: «و الأعيان لا يصحّ تحريمها و أقرب مجاز إليها جميع

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(2) سورة المائدة (5)، الآية 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 314

..........

______________________________

وجوه الانتفاع، و أعظمها البيع فكان حراما.» «1»

و في مفتاح الكرامة: «و قد استدلّ على تحريم الانتفاع بالميتة: الطوسي و البيضاوي و الراوندي في أحد وجهيه و المرتضى في ظاهر الانتصار و المصنّف في التذكرة و نهاية الإحكام و المنتهى و المختلف و ولده في شرح الإرشاد و غيرهم بقوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.

قالوا: لأنه يستلزم إضافة التحريم إلى جميع المنافع المتعلقة بها، لأن التحريم لا يتعلق بالأعيان حقيقة فتعيّن المجاز. و أقرب المجازات تحريم جميع وجوه الاستمتاعات و الانتفاعات. و حكاه في كنز العرفان عن قوم. و احتمله المولى الأردبيلي في آيات أحكامه. و قد يرشد إلى ذلك تخصيص اللحم بالذكر في الخنزير دون الميتة. و قد تجعل الشهرة قرينة على ذلك.» «2»

أقول: قد مرّ في مسألة الدم أنّ محطّ النظر في هذه الآية و نظائرها ليس تحريم جميع الانتفاعات من الأشياء المذكورة فيها، بل تحريم أكلها الذي

كان متعارفا في تلك الأعصار، كما يشهد بذلك سياقها و القرائن الموجودة فيها.

ففي سورة البقرة مثلا ورد قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا منْ طَيِّبٰات مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اشْكُرُوا للّٰه إنْ كُنْتُمْ إيّٰاهُ تَعْبُدُونَ ثم عقّبه بلا فصل بقوله: إنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخنْزير «3» الآية.

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(3) سورة البقرة (2)، الآيتان 172 و 173.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 315

..........

______________________________

و قد وقع نظير ذلك في سورة النحل أيضا في آيتين متواليتين «1».

و الحصر وقع بلحاظ ما تعارف أكله من المحرّمات فلا ينتقض بمثل الكلب و السباع و نحوها، لعدم تعارف أكلها في تلك الأعصار. و بهذا اللحاظ أيضا ذكر اللحم في الخنزير.

و ورد في الأنعام قوله: قُلْ لٰا أَجدُ في مٰا أُوحيَ إلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعمٍ يَطْعَمُهُ إلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خنزيرٍ «2»

و في آية المائدة ذكر بعدها إحلال الطيبات و طعام أهل الكتاب و الترخيص في أكل ما يمسكه الكلاب المعلّمة «3».

و استثنى في الآيات الأربع من اضطرّ إليها و قيّد في المائدة بالمخمصة بمعنى المجاعة.

فمع هذه القرائن الكثيرة كيف يحتمل تعلق الحرمة فيها بجميع الانتفاعات؟!

و يشهد لما ذكرنا من كون النظر في الآيات إلى خصوص الأكل ما ورد في تعليل تحريم الأشياء المذكورة، فراجع الوسائل «4».

منها: خبر مفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: أخبرني- جعلت فداك- لم حرّم اللّه- تبارك و تعالى- الخمر و الميتة و الدّم و لحم الخنزير؟ قال: «إنّ اللّه- سبحانه و تعالى- لم يحرّم ذلك على عباده

و أحلّ لهم سواه رغبة منه فيما حرّم عليهم و لا زهدا فيما أحلّ لهم. و لكنه خلق الخلق و علم- عزّ و جلّ- ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم

______________________________

(1) سورة النحل (16)، الآيتان 114 و 115.

(2) سورة الأنعام (6)، الآية 145.

(3) سورة المائدة (5)، الآيات 3، 4، 5.

(4) راجع الوسائل 16/ 310 (طبعة أخرى 16/ 376)، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 316

..........

______________________________

فأحلّه لهم و أباحه تفضّلا منه عليهم به- تبارك و تعالى- لمصلحتهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّمه عليهم ثم أباحه للمضطرّ و أحلّه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك.»

ثم قال: «أمّا الميتة فإنّه لا يدمنها أحد إلّا ضعف بدنه و نحل جسمه و ذهبت قوّته و انقطع نسله و لا يموت آكل الميتة إلّا فجأة ...» «1»

و أمّا الأخبار الواردة في المسألة فعلى طائفتين: الأولى ما تدل على المنع. الثانية ما تدل على الجواز.

الأخبار الدّالّة على منع الانتفاع بالميتة

أمّا الطائفة الأولى فهي كثيرة:

1- موثقة سماعة، قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده و أمّا الميتة فلا.» «2»

يستفاد منها بإلغاء الخصوصيّة عدم جواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقا، إذ لا خصوصية للسّباع في ذلك. و حمل الانتفاع المنفيّ على انتفاع خاصّ كجعلها أوعية للمائعات مثلا خلاف الإطلاق لا يصار إليه إلّا بدليل.

و ما في الكفاية من توقف الإطلاق على انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب، على إطلاقه ممنوع؛ إذ المتيقن إن كان من الوضوح بمنزلة القيد المذكور في اللفظ بحيث ينصرف

______________________________

(1) الكافى 6/ 242، كتاب

الأطعمة، باب علل التحريم، الحديث 1.

(2) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 453)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 317

..........

______________________________

الإطلاق إليه فهو، و إلّا فلا حجة لرفع اليد عن ظهور المطلق.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ المنع في الموثقة و كذا في بعض الأخبار التالية توجّه إلى الانتفاع بالجلد، و لا نسلّم إلغاء الخصوصية منه إلى جميع أجزاء الميتة، إذ الانتفاع بالجلد في التعيّش يوجب السراية غالبا، فلا يسري المنع إلى الانتفاع بالميتة في مثل التسميد و إطعام الطيور مثلا، و بذلك تصير ذات قيمة و مالية قهرا، فيجوز بيعها أيضا لذلك.

2- خبر علي بن أبي المغيرة، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: الميتة ينتفع منها بشي ء؟

فقال: «لا.» قلت: بلغنا أنّ رسول اللّه «ص» مرّ بشاة ميتة فقال: «ما كان على أهل هذه الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها.» فقال «ع»: تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج النبي «ص» و كانت شاة مهزولة و لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت. فقال رسول اللّه «ص»: «ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها، أي تذكّى.» «1»

و دلالة الخبر واضحة. و قوله: «بشي ء» يحتمل أن يراد به بجزء من أجزائها. و يحتمل أن يراد به بانتفاع من الانتفاعات.

و أمّا السند فهو إلى علي بن أبي المغيرة صحيح، و لكن في عليّ كلام: فعن العلامة توثيقه. و نوقش في ذلك بأنّ منشأ التوثيق الخطأ في فهم كلام النجاشي حيث قال في شرح حال ابنه الحسن: «الحسن بن علي بن أبي المغيرة الزبيدي الكوفي ثقة هو، و أبوه روى عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه

«ع» و هو يروي كتاب أبيه عنه و له كتاب مفرد.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 452)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(2) رجال النجاشى/ 49 (ط. أخرى/ 37). و راجع تنقيح المقال 1/ 291 (في ترجمة الحسن بن على)؛

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 318

..........

______________________________

فتوهم من عبارته هذه كون التوثيق لابن و الأب معا، مع وضوح أنّ الواو في قوله:

«و أبوه» للاستيناف لا للعطف، اذ لا يروي الحسن عن أبي جعفر «ع».

قال الأستاذ الإمام «ره»: «فتعبير السّيد صاحب الرياض عنها بالصحيحة غير وجيه ظاهرا.» «1» هذا.

و قصّة مرور رسول اللّه «ص» بالشاة المذكورة رويت بأنحاء أخر أيضا و ربما يخالف بعضها بعضا:

فمنها: موثقة أبي مريم، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: السخلة التي مرّ بها رسول اللّه «ص» و هي ميتة فقال رسول اللّه «ص»: «ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها؟» قال: فقال أبو عبد اللّه «ع»: لم تكن ميتة يا أبا مريم، و لكنها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها فقال رسول اللّه «ص»: «ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها» «2»

أقول: فظاهر هذه الموثقة أنّ الشاة كانت مذكّاة لا ميتة. قال في الوسائل: «لا منافاة بينه و بين السابق لاحتمال تعدّد الشاة و القول.» «3»

أقول: احتمال تعدّد الواقعة بعيد و لا سيما بعد ملاحظة روايات السنة أيضا في هذا المجال، راجع البيهقي «4».

و منها: ما عن عوالي اللآلي، قال: صحّ عنه «ص» أنّه قال: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب

______________________________

- و 2/ 264 (في ترجمة على بن أبى المغيرة).

(1) المكاسب المحرمة 1/ 46.

(2) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 452)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث

3 و ذيله.

(3) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 452)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 3 و ذيله.

(4) راجع سنن البيهقى 1/ 15- 18، كتاب الطهارة، باب طهارة جلد الميتة بالدبغ، و باب طهارة باطنه ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 319

..........

______________________________

و لا عصب.» و قال في شاة ميمونة: «ألّا انتفعتم بجلدها؟» «1»

و منها: ما عن دعائم الإسلام عن عليّ «ع»، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عظم و لا عصب.» فلما كان من الغد خرجت معه فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق فقال: «ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها؟» قال:

قلت: يا رسول اللّه، فأين قولك بالأمس لا ينتفع من الميتة بإهاب؟ قال: ينتفع منها بالإهاب (باللحاف- الدعائم) الذي لا يلصق.» «2»

أقول: عظم الميتة لا يجري عليه حكم الميتة لعدم نجاسته، فلا وجه لعدم جواز الانتفاع به.

و لم يظهر لي وجه ذكر العصب في هذا الخبر و غيره، و أيّ نفع كان يترتب عليه؟

و الظاهر من عدم لصوق الجلد دباغته بنحو يخرج منه دسومته. و هذا يوافق مذاهب أهل الخلاف، حيث يقولون بطهارة جلد الميتة بالدباغة و على ذلك تدلّ أخبارهم، فراجع البيهقي «3».

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المقصود في خبر الدعائم ليس هو الطهارة بالدباغ، بل عدم سرايته إلى ما يلاقيه من الجوامد فيكون بيانه «ص» إرشادا إلى طريق الانتفاع به بلا سراية.

و لعلّ هذا أيضا كان هو المقصود فيما رواه أهل الخلاف عنه «ص» في هذا المجال،

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3/ 76، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(2) مستدرك الوسائل 3/ 77، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2؛

عن الدعائم 1/ 126.

(3) راجع سنن البيهقى 1/ 17، كتاب الطهارة، باب طهارة باطنه بالدبغ كطهارة ظاهره ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 320

..........

______________________________

حيث قال «ص»: «ألّا نزعتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟» فتوهّموا من كلامه هذا كون الدباغة مطهرة. و في بعضها قالوا: يا رسول اللّه، إنّها ميتة. قال: «إنّما حرم أكلها».

و ما رووه في قصّة الشاة المذكورة يظهر من بعضها أنّ الشاة كانت لميمونة زوج النبي «ص». و من بعضها أنّها كانت لمولاة لها. و من بعضها أنّها كانت لسودة زوجه «ص». و احتمال تعدّد الواقعة بعيد جدّا، فراجع البيهقي «1».

3- خبر الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن «ع»، قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا (إن ذكّي- الكافي). فكتب «ع»: «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب. و كلّ ما كان من السخال (من) الصوف و إن جزّ و الشعر و الوبر و الإنفحة و القرن. و لا يتعدّى إلى غيرها إن شاء اللّه.» «2»

و السند ضعيف، و فتح بن يزيد مجهول، و لكن دلالة الخبر واضحة إن قلنا بعدم الفرق بين الإهاب و العصب و بين غيرهما من الأجزاء التي تحلّها الحياة.

و الظاهر وجود سقط في الحديث، فيكون قوله: «كلّ ما كان» مبتدأ حذف خبره، مثل: «ينتفع به» مثلا.

و لم يظهر لي وجه عدم ذكر العظم أيضا في عداد الشعر و الوبر و غيرهما، و لا وجه تقييد الصوف بقوله: «و إن جزّ» مع أنّه فرد جليّ. و لعلّ عدم ذكر العظم لعدم ترتب الفائدة عليه في تلك الأعصار. و في الاستبصار «3»: «إن جزّ» بدون الواو فلا إشكال.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب

المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 320

______________________________

(1) راجع سنن البيهقى 1/ 15- 18، كتاب الطهارة، باب طهارة جلد الميتة بالدبغ، و باب طهارة باطنه ...

(2) الوسائل 16/ 366 (طبعة أخرى 16/ 448)، الباب 33 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 7؛ عن الكافى 6/ 258.

(3) الاستبصار 4/ 89، كتاب الصيد و الذبائح، باب تحريم جلود الميتة، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 321

..........

______________________________

4- خبر الكاهلي، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع» و أنا عنده عن قطع أليات الغنم. فقال:

«لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك.» ثم قال «ع»: «إنّ في كتاب عليّ «ع»: أنّ ما قطع منها ميّت لا ينتفع به.» «1»

و الظاهر أنّ المقصود بالكاهلي هنا عبد اللّه بن يحيى الكاهلي الوجيه عند أبي الحسن «ع» بقرينة رواية البزنطي عنه. و في السند سهل بن زياد، و الأمر فيه سهل، فلا بأس بالسند.

و يظهر منه أنّ عدم جواز الانتفاع بالميتة كان واضحا مفروغا عنه، فصار الجزء المقطوع من الحيّ بحكمها لكونه منها حقيقة أو تنزيلا.

اللّهم إلّا أن يناقش في ذلك بأنّ الخبر بصدد تنزيل الجزء المقطوع منزلة الميتة لا بصدد بيان حكم الميتة، فلا إطلاق لها من هذه الجهة، فلعلّ الانتفاع المنفي في الميتة كان انتفاعا خاصّا معلوما لأهله، مثل الأكل و نحوه، فيكون المقصود أنّه لا ينتفع به مثل ما ينتفع به لو كان مذكّى.

و يشهد لذلك ما عن مستطرفات السرائر نقلا عن جامع البزنطي صاحب الرضا «ع»، قال: سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟ قال:

«نعم، يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها.» و رواه في قرب الإسناد أيضا عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه «ع» «2».

5- ما مرّ من خبر العوالي عنه «ص» أنّه قال: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب و لا عصب.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 16/ 295 (طبعة أخرى 16/ 359)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 1.

(2) الوسائل 16/ 296 (طبعة أخرى 16/ 360)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 4.

(3) مستدرك الوسائل 3/ 76، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 322

..........

______________________________

6- ما في سنن البيهقي بإسناده عن عبد اللّه بن عكيم، قال: قرئ علينا كتاب رسول اللّه «ص» بأرض جهينة و أنا غلام شابّ أن: «لا تستمتعوا من الميتة بإهاب و لا عصب.»

و في معناه أخبار أخر عن عبد اللّه بن عكيم «1».

7- ما مرّ من رواية تحف العقول، حيث علّل فيها حرمة بيع الميتة و غيرها من وجوه النجس بقوله: «لأن ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه، لما فيه من الفساد، فجميع تقلّبه في ذلك حرام.» «2»

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التعليل بقوله: «لما فيه من الفساد» يحدّد الحكم بموارد ترتّب الفساد عليه. و التعليل يقع غالبا بأمر يدركه العقلاء و المتشرعة بحسب ارتكازهم لا بأمر غيبي لا يدركه الناس، فلا يعمّ الحكم للانتفاع بها في التشريح أو الترقيع أو إطعام الطيور و نحوها.

و لأجل ذلك حكم في الرواية في الصّناعات بحلّية ما اشتملت منها على جهتي الصلاح و الفساد معا و قال: «فلعلّه لما

فيه (فلعلّة ما فيه- الوسائل) من الصلاح حلّ تعلّمه و تعليمه و العمل به، و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ و الصلاح.» «3»

8- خبر الوشّاء، قال: سألت أبا الحسن «ع» فقلت: جعلت فداك إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها. قال: «هي حرام.» قلت: فنصطبح بها؟ قال: «أما تعلم أنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟» «4»

______________________________

(1) راجع سنن البيهقى 1/ 14- 15، كتاب الطهارة، باب في جلد الميتة.

(2) تحف العقول/ 333.

(3) تحف العقول/ 336؛ عنه الوسائل 12/ 57، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) الوسائل 16/ 295 (طبعة أخرى 16/ 359)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 323

..........

______________________________

بتقريب أنّ المقصود بحرمتها ليس حرمة الأكل فقط و إلّا لم يمنع من الاصطباح بها.

بل المقصود بها حرمة جميع الانتفاعات حذرا من تلوّث البدن و الثوب بها أحيانا.

أقول: يمكن أن يقال: إنّ السؤال الأوّل ناظر إلى أنّ المقطوع بحكم المذكّى أو الميتة.

و جواب الإمام «ع» ناظر إلى كونه بحكم الميتة التي ثبت حرمة أكلها بالكتاب و نجاستها بالسنّة و هما حكمان متلازمان في الميتة عند المتشرعة.

و السؤال الثاني وقع عن حكم الاصطباح بها بعد ما اتضح كونها بحكم الميتة.

و الإمام «ع» لم ينه عنه و إنّما أرشده إلى أنّ هذا يوجب التلوّث غالبا، فيكون ضرّه أكثر من نفعه. فهذا إرشاد محض و ليس حكما تحريميّا.

و إن شئت قلت: إنّ قوله أخيرا: «و هو حرام» لا يراد به حرمة إصابة اليد و الثوب، لوضوح عدم حرمة ذلك، بل الواو للحال و الضمير عائد إلى الجزء المقطوع و يراد بحرمته نجاسته أو مانعيته عن

الصلاة، و قد شاع استعمال لفظ الحرمة في الأحكام الوضعية.

قال في مصباح الفقاهة في هذا المجال: «بل عدم تعرّضه «ع» لحكم الانتفاع بها بالاستصباح المسؤول عنه و تصدّيه لبيان نجاستها أو مانعيّتها عن الصلاة أدلّ دليل على جواز الانتفاع بها دون العكس. سلّمنا ذلك و لكن لا بدّ من الاقتصار فيها على موردها أعني صورة إصابتها اليد و الثوب.» «1»

فإلى هنا ذكرنا ثمانية أخبار يظهر من بعضها حرمة الانتفاع بالميتة مطلقا، و من بعضها حرمة الانتفاع بجلدها كذلك، و ربما يقال برجوع القسم الثاني إلى الأوّل بإلغاء الخصوصيّة، و لكن مرّت المناقشة في ذلك. و يدلّ على تحريم جميع الانتفاعات خبر

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 63.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 324

..........

______________________________

جابر المذكور في كتب السنة أيضا و يأتي نقله في البحث عن بيع الميتة.

و هنا قسم ثالث ربما يظهر منها حرمة الانتفاع بها في اللبس و نحوه حتى في غير حال الصلاة:

1- ما عن قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: سألته عن لبس السمور و السنجاب و الفنك. فقال: «لا يلبس و لا يصلّى فيه إلّا أن يكون ذكيّا.» «1»

بتقريب أنّ السؤال وقع عن مطلق اللبس فيها. و الإمام «ع» فصّل في ذلك بين الميتة و المذكّى، فالاستثناء وقع بلحاظ أصل اللبس، إذ الصلاة فيها و لا سيما في السمور و الفنك لا تجوز عندنا مطلقا و المنع عنها في المستثنى منه ذكر تطفّلا.

أقول: عبد اللّه بن الحسن في السند مجهول لم يذكر في الرجال بمدح و لا قدح، فالخبر لا يعتمد عليه.

و يحتمل أن يكون السؤال وقع عن اللبس

بلحاظ الصلاة، فيحمل الجواب على التقية أو الضرورة، كما في الوسائل.

2- ما رواه في تحف العقول عن الصادق «ع» في جوابه عن جهات معايش العباد، قال: «و ما يجوز من اللباس: فكلّ ما أنبتت الأرض فلا بأس بلبسه و الصلاة فيه. و كلّ شي ء يحلّ لحمه فلا بأس بلبس جلده الذكي منه و صوفه و شعره و وبره. و إن كان الصوف و الشعر و الريش و الوبر من الميتة و غير الميتة ذكيا فلا بأس بلبس ذلك و الصلاة فيه.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 255، الباب 4 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 6.

(2) تحف العقول/ 338؛ عنه الوسائل 3/ 252، الباب 3 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 325

..........

______________________________

يظهر منه عدم جواز لبس الجلد غير المذكّى مطلقا و لو لغير الصلاة.

أقول: أجاب الأستاذ الإمام «ره» فقال: «و يمكن الخدشة في دلالتها بعد الغضّ عن سندها بأنّ الظاهر من قوله: «فلا بأس بلبسه و الصلاة فيه» أنّه بصدد بيان حكم اللبس في الصلاة فقوله: «فلا بأس بلبسه» كالأمر المقدّمي المذكور توطئة. كقوله: «لا بأس بلبس الحرير و الحرب فيه»، و «لا بأس بالجلوس في المسجد و القضاء فيه»، و «لا بأس بأخذ الماء من الدجلة و الشرب منه» إلى غير ذلك. فحينئذ يكون قوله: «و كلّ شي ء يحلّ أكله ...» بصدد بيان اللبس في الصلاة أيضا. و كذلك الفقرة الأخيرة، فلا يستفاد منها حكمان: تكليفي مربوط بأصل اللبس و وضعيّ مربوط بالصلاة.» «1»

أقول: يرد على ما ذكره: أنّ عنوان الكلام في الرواية هو قوله: «و ما يجوز من اللباس» و ليس فيه اسم من الصلاة، فراجع.

3- ما رواه علي بن

جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: سألته عن الماشية تكون لرجل فيموت بعضها أ يصلح له بيع جلودها و دباغها و يلبسها؟ قال: «لا، و إن لبسها فلا يصلّي فيها.» «2»

و يرد عليه- مضافا إلى منع ظهور عدم الصلاح في الحرمة- أنّ الظاهر منه هنا الكراهة، إذ فرض الإمام «ع» اللبس مع الحرمة لا يخلو عن بعد و غرابة. هذا مضافا إلى عدم ثبوت اعتبار الكتاب بنحو يعتمد عليه.

4- موثقة سماعة، قال: سألته عن أكل الجبن و تقليد السيف و فيه الكيمخت و الغرا.

______________________________

(1) المكاسب المحرمة 1/ 47.

(2) الوسائل 16/ 369 (طبعة أخرى 16/ 453)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 326

..........

______________________________

فقال: «لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة.» «1»

أقول: في المجمع: «في الحديث ذكر الغراء و الكيمخت. الغراء ككتاب: شي ء يتخذ من أطراف الجلود يلصق به و ربما يعمل من السمك، و الغرا كالعصا لغة.» «2»

و فيه أيضا في لغة كمخ: «الكيمخت بالفتح فالسكون. و فسّر بجلد الميتة المملوح.

و قيل: هو الصاغري المشهور.» «3»

و دلالة الموثقة على المنع بالمفهوم كما هو ظاهر.

و أجاب عنها الأستاذ الإمام «ره» «بأنّه لا إطلاق في مفهومها، فإنّه بصدد بيان حكم المنطوق لا المفهوم. فلا يستفاد منها إلّا ثبوت البأس مع العلم في الجملة. بل التحقيق أنّ المفهوم قضيّة مهملة حتّى في مثل قوله «ع»: الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شي ء.» «4»

أقول: و يمكن حمل المنع في الموثّقة على الكراهة بقرينة موثقة أخرى لسماعة؛ قال:

سألته عن جلد الميتة المملوح، و هو الكيمخت، فرخّص فيه و قال: «إن لم تمسّه فهو أفضل.» «5»

بناء على حمل الترخيص

فيها على أصل الانتفاع بها لا معاملة الطهارة معها، و إلّا كان اللازم حملها على التقية كما لا يخفى.

فقوله: «إن لم تمسّه فهو أفضل» فيه احتمالان: الأوّل: أن يكون كناية عن عدم الانتفاع بها مطلقا. فيدل على كراهة الانتفاع و يكون قرينة على الجمع بين روايات المنع

______________________________

(1) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 453)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 5.

(2) مجمع البحرين 1/ 315 (ط. أخرى/ 63).

(3) مجمع البحرين 2/ 441 (ط. أخرى/ 185).

(4) المكاسب المحرمة 1/ 48.

(5) الوسائل 16/ 369 (طبعة أخرى 16/ 454)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 327

..........

______________________________

و ما يأتي من أخبار الجواز بحمل الأولى على الكراهة.

الثاني: أن يراد به كراهة مسّها باليد و إن كان يابسا لاحتمال السراية أحيانا، و يكون أصل الانتفاع مرخّصا فيه بلا إشكال. و الضمير في قوله: «و هو الكيمخت» يحتمل أن يرجع إلى المملوح، و يحتمل أن يرجع إلى الموصوف و الصفة معا. فالثاني موافق لما مرّ عن المجمع في معنى الكلمة. و أمّا على الأوّل فيكون الكيمخت أعمّ من الميتة و غيرها. و هو الذي يظهر من الموثقة الأولى و من خبر علي بن أبي حمزة الآتية «1».

و كيف كان فهذه أخبار يستدلّ بها على منع الانتفاع بالميتة. و قد عرفت أنّها ثلاثة أقسام: بعضها تدلّ على حرمة الانتفاع بها مطلقا، و بعضها تدلّ على حرمة الانتفاع بجلدها و عصبها و قد مرّ احتمال رجوعها إلى القسم الأوّل بإلغاء الخصوصية، و بعضها تدلّ على حرمة اللبس و ما شابهه. و أكثر الأخبار ضعاف كما مرّ بيانه.

الأخبار الدالّة على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا

في قبال ما مرّ من أخبار المنع

بأقسامها طائفة أخرى من الأخبار يستفاد منها جواز الانتفاع بالميتة إجمالا إلّا فيما يتوقف على الطهارة كالأكل و الشرب و الصلاة:

1- موثقة سماعة الأخيرة الدالة على الترخيص في جلد الميتة المملوح.

2- ما مرّ عن مستطرفات السرائر نقلا عن جامع البزنطي، صاحب الرضا «ع»، قال:

سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟

قال: «نعم، يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها و لا يبيعها.» و رواه الحميري في قرب الإسناد

______________________________

(1) راجع الوسائل 2/ 1072، الباب 50 من أبواب النجاسات ...، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 328

..........

______________________________

بإسناده عن علي بن جعفر، عن أخيه «ع» «1».

و لعلّ النهي عن البيع كان من جهة أنّ الإسراج بها لم يكن بحيث يوجب لها قيمة و مالية عرفية. أو المراد النهي عن بيعها للأكل أو فيما إذا كان إعانة عليه، و إلّا فلا وجه لحرمة بيعها بقصد المنافع المحلّلة.

3- ما عن الشيخ «ره» بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي زياد النهدي، عن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء. قال: «لا بأس.» و رواه الصدوق «ره» مرسلا عن الصادق «ع». قال الشيخ: «الوجه أنّه لا بأس أن يستقى به لكن يستعمل ذلك في سقي الدوابّ و الأشجار و نحو ذلك.» «2»

و رجال السند كلهم ثقات إلّا أبا زياد النهدي، فإنه مجهول، إلّا أن يعتبر برواية ابن أبي عمير عنه.

و الظاهر أنّ السؤال عن حكم الانتفاع بالجلد لا عن طهارة الماء و نجاسته. كما أنّ الظاهر كون الاستقاء بجلد الخنزير

لمثل سقي الأشجار و الزراعات لا لشرب الإنسان، إذ يبعد جدّا استقاء المسلمين في عصر الإمام الصادق «ع» للشرب و الوضوء و نحوهما بجلد الخنزير الميتة المتفق على نجاسة ذاته فضلا عن ميتته.

و إذا جاز الانتفاع به فالانتفاع بجلود الحيوانات الطاهرة الميتة جائز بطريق أولى.

و قد مرّ عن الشيخ في ذبائح النهاية الإفتاء بذلك فقال: «و يجوز أن يعمل من جلود

______________________________

(1) الوسائل 16/ 296 (طبعة أخرى 16/ 360)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 4.

(2) الوسائل 1/ 129، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16 و ذيله.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 329

..........

______________________________

الميتة دلو يستقى به الماء لغير وضوء الصلاة و الشرب، و تجنّبه أفضل.» «1»

4- ما ذكره المصنّف من رواية الصيقل: فروى الشيخ «ره» بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن أبي القاسم الصيقل و ولده، قال: كتبوا إلى الرجل- عليه السلام-: جعلنا اللّه فداك، إنّا قوم نعمل السيوف، و ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها، و نحن مضطرّون إليها. و إنّما علاجنا من جلود الميتة من البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا؟ و نحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا لضرورتنا إليها. فكتب «ع»: «اجعل ثوبا للصلاة.» و كتبت إليه: جعلت فداك، و قوائم السيف التي تسمّى السفن أتخذها من جلود السمك، فهل يجوز لي العمل بها و لسنا نأكل لحومها؟ فكتب «ع»: «لا بأس به.»

أقول: هكذا في التهذيب «2»، و رواه عنه في الوسائل، و لكن فيه: «و إنما

علاجنا جلود الميتة و البغال و الحمير الأهلية.» و في آخره: «و كتب إليه: جعلت فداك ...» «3»

و السفن كفرس: جلد خشن يجعل على قوائم السيوف.

و رجال السند إلى محمد بن عيسى ثقات، و كذلك هو أيضا على الأقوى. و أمّا أبو القاسم الصيقل فمجهول.

و لكن في مكاسب الأستاذ الإمام قال: «و الرواية صحيحة و لا يضرّ بها جهالة

______________________________

(1) النهاية/ 587، باب ما يحلّ من الميتة ... و حكم البيض و الجلود.

(2) التهذيب 6/ 376، باب المكاسب، الحديث 221.

(3) الوسائل 12/ 125، الباب 38 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 330

..........

______________________________

أبى القاسم، لأنّ الراوي للكتابة و الجواب هو محمد بن عيسى. و قوله: قال: كتبوا، أي قال محمد بن عيسى: كتب الصيقل و ولده، فهو مخبر لا الصيقل و إلّا لقال: كتبنا.

و احتمال كون الراوي الصيقل مخالف للظاهر جدّا سيّما مع قوله في ذيلها: و كتب إليه، فلو كان الراوي الصيقل لقال: و كتبت إليه.» «1»

و قال المجلسي «ره» في ملاذ الأخيار أيضا: «القائل محمد بن عيسى، و الكاتب أبو القاسم و ولده مع رفيق أو تجوّزا.» «2»

أقول: احتمال كون القائل هو الصيقل حاكيا كتابة نفسه و ولده ليس بعيدا عن اللفظ. و حكى في الآخر كتابة نفسه. و الأستاذ «ره» اعتمد على نسخة الوسائل و لم يراجع التهذيب ظاهرا مع أنّه الأصل. و على هذا فصحّة الرواية غير واضحة.

و في ملاذ الأخيار أيضا: «و الظاهر أنّ المراد بالرجل: الحسن أو الحجّة، و يحتمل أبا الحسن الثالث أيضا صلوات اللّه عليهم أجمعين.» «3»

أقول: بل الظاهر أنّ المراد به الرضا «ع» بقرينة رواية أخرى يقاربها في المضمون بل

المظنون اتحادهما. و إن كان الراوي فيها قاسم الصيقل، فيكون أحد من أبي القاسم و قاسم مصحّفا عن الآخر، و كلاهما مجهولان:

ففي الوسائل بإسناده عن قاسم الصيقل، قال: كتبت إلى الرضا «ع»: إني أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فأصلّي فيها؟ فكتب «ع» إليّ: «اتّخذ ثوبا

______________________________

(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 49.

(2) ملاذ الأخيار 10/ 390، ذيل الحديث 221 من باب المكاسب.

(3) ملاذ الأخيار 10/ 390، ذيل الحديث 221 من باب المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 331

..........

______________________________

لصلاتك.» فكتبت إلى أبي جعفر الثاني «ع»: كنت كتبت إلى أبيك «ع» بكذا و كذا، فصعب عليّ ذلك فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية. فكتب «ع» إليّ: «كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك اللّه. فإن كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس.»

رواها في الوسائل عن الكافي و التهذيب، فراجع «1».

و الأستاذ «ره» استظهر كون القاسم في هذه الرواية ابن أبي القاسم الراوي مع ولده للسابقة «2». هذا.

و تقريب الاستدلال بالروايتين: أنّ الإمام «ع» قرّر الصيقل و ولده فيما كانوا يصنعون من استعمال جلود الميتة في أغماد السيوف، بل و بيعها، و إنّما منع من الصلاة فيها، و تقرير الإمام حجة كفعله و قوله.

و أجاب عنه المصنّف- فيما يأتي من عبارته- «بأنّ مورد السؤال عمل السيوف و بيعها و شراؤها لا خصوص الغلاف مستقلا و لا في ضمن السيف على أن يكون جزء من الثمن في مقابل عين الجلد ... مع أنّ الجواب لا ظهور فيه في الجواز إلّا من حيث التقرير الغير الظاهر في الرضا خصوصا في المكاتبات المحتملة للتقية.»

و ناقشه الأستاذ الإمام بما حاصله: «أنّ المظنون لو لا المقطوع

به: أنّ قوله في الرواية الأولى: «نعمل السيوف» مصحّف عن قوله: «نغمد السيوف.» و الشاهد عليه أوّلا رواية القاسم. و ثانيا: أنّ عمل السيوف بمعنى صنعتها أو تصقيلها عمل مستقل كان في تلك الأزمنة في غاية الأهمية. و هو عمل غير عمل تغميدها الذي كان مباينا لهما. و من

______________________________

(1) الوسائل 2/ 1050، الباب 34 من أبواب النجاسات ...، الحديث 4؛ عن الكافى 3/ 407؛ و التهذيب 2/ 358.

(2) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «قده» 1/ 50.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 332

..........

______________________________

البعيد قيام شخص بعملها معا في ذلك العصر. و يشهد له قوله: «ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها و نحن مضطرّون إليها.» فأيّة معيشة و تجارة أعظم من صنعة السيوف في تلك الأزمنة أزمنة الحروف السّيفية، و أيّ احتياج لصانع السيوف إلى عمل الجلود؟

فلا شبهة في أنّ أبا القاسم و ولده بحسب هذه الرواية كان عملهم إغماد السيوف فسألوا عن بيع الميتة و شرائها و عملها و مسّها. و حملها على بيع السيوف لا بيع الجلود كما صنع شيخنا الأنصاري «ره» طرح للرواية الصحيحة الصّريحة.

نعم في رواية أخرى عن أبي القاسم الصيقل قال: كتبت إليه «ع»: إنّي رجل صيقل أشتري السيوف و أبيعها من السلطان، أ جائز لي بيعها؟ فكتب «ع»: «لا بأس به.» «1»

يظهر منها أيضا أنّ شغله لم يكن عمل السيف بل كان صيقلا. و مقتضى الروايتين أنّه كان يشتري السيوف و يغمدها و يبيعها من السلطان. و كيف كان فلا شبهة في بيعه الأغماد و لا معنى لإعطائها بلا ثمن و بنحو المجانية.

و أمّا قوله: «و نحن مضطرّون إليها» فليس المراد من الاضطرار هو الذي يحلّ المحظورات سيّما في

مثل رجل كان يبيع من السلطان. بل المراد به الاضطرار و الاحتياج في التجارة و لهذا ترك القاسم العمل بالميتة بمجرّد صعوبة اتخاذ ثوب للصلاة. بل لا وجه للاضطرار إلى خصوص الميتة في بلاد المسلمين الشائع فيها الجلود الذكيّة في عصر الرضا و الجواد «ع».

و قوله: «لا يجوز في أعمالنا غيرها» يراد به أنّه لا تدور تجارتهم إلّا مع الابتلاء بها.

فالإنصاف أنّ الرواية ظاهرة الدلالة على جواز الانتفاع بجلود الميتة و بيعها و شرائها. بل

______________________________

(1) الوسائل 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 333

..........

______________________________

ظاهر قول أبي جعفر «ع»: «كلّ أعمال البرّ بالصبر»: أنّ الأرجح ترك العمل بالميتة، فيكون شاهد جمع بينها و بين ما دلّت على أنّ الميتة لا ينتفع بها و هو الحمل على الكراهة ...» «1»

أقول: ما ذكره الأستاذ «ره» من التفصيل بعضها حدسيّات يشكل إثباتها. و عمل السيوف يطلق على تصقيلها أيضا. و قد يقال: إنّ تصقيلها كان بسبب الجلود الخشنة الضخيمة. و قوله: «و إنّما علاجنا من جلود الميتة» يراد به أنّ عمل التصقيل لا يحصل إلّا بها، فليس في الرواية الأولى اسم من الإغماد، و إنّما كان يستعمل في التصقيل جلود الميتة من جهة أنّ البغال و الحمير لم يتعارف ذبحها بل كانت تستعمل غالبا إلى أن تموت حتف أنفها.

و لعلّ أبا القاسم و ولده كانوا متصدّين لجميع الأعمال الراجعة إلى السيوف من الصنع و التصقيل و الإغماد، و كان يختلف ذلك حسب اختلاف الطالبين و الأزمنة.

و في كلام الأستاذ «ره» يوجد نحو تهافت أيضا، إذ حمل قوله: «و نحن مضطرون إليها» تارة على مهانة شغلهم و جعل ذلك

شاهدا على عدم كون شغلهم عمل السيوف، و أخرى على توقف شغلهم و دوران تجارتهم عليها.

و كيف كان فما ذكره الشيخ «ره» من عدم وقوع الثمن في مقابل الجلود خلاف الظاهر جدّا. كيف؟! و ظاهر قوله: «فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا» رجوع الضمائر إلى جلود الميتة لا إلى السيوف كما لا يخفى.

فالرواية- كما ذكره الأستاذ- تدلّ على جواز الانتفاع بجلود الميتة إجمالا و بيعها و أخذ الثمن في قبالها.

______________________________

(1) المكاسب المحرمة 1/ 50.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 334

..........

______________________________

و أمّا احتمال التقية فيها فمدفوع بأنّ أهل الخلاف أيضا يمنعون من الانتفاع بالميتة و بيعها إلّا بعد دباغها. و ليس في الرواية اسم من الدباغة. و لو سلّم حملها على هذه الصورة فالأمر باتخاذ ثوب للصلاة لا يناسب التقية، إذ القائل بطهارتها بالدباغة يحلّ الصلاة فيها أيضا، فتدبّر.

5- ما مرّ عن دعائم الإسلام عن علي «ع»، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عظم و لا عصب.» فلمّا كان من الغد خرجت معه فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق فقال: «ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها؟» قال:

قلت: يا رسول اللّه، فأين قولك بالأمس: لا ينتفع من الميتة بإهاب؟ قال: «ينتفع منها باللحاف الذي لا يلصق.» «1» و رواه عنه في المستدرك إلّا أنّ فيه: «بالإهاب الذي لا يلصق.» «2»

إذ الظاهر منه عدم الانتفاع بالإهاب إلّا بعد الدباغة المزيلة لدسومته، فالممنوع الانتفاع به مع السراية لا مطلقا. و لا دليل على حمل الخبر على مطهّرية الدباغة و صدوره تقية.

و مؤلّف الدعائم أيضا ينكر مطهّرية الدباغة أشدّ

الإنكار، فراجع ما ذكره قبل هذه الرواية. هذا. و لكن الرواية مرسلة، و الكتاب أيضا لم يثبت اعتباره.

6- رواية علي بن أبي حمزة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» أو أبا الحسن «ع» عن لباس الفراء و الصلاة فيها. فقال: «لا تصلّ فيها إلّا ما كان منه ذكيا.» قال: قلت: أو ليس الذكيّ ممّا ذكّي بالحديد؟ قال: «بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه ...» «3»

______________________________

(1) دعائم الإسلام 1/ 126، كتاب الطهارة- ذكر طهارات الجلود و العظام و الشعر و الصوف.

(2) مستدرك الوسائل 3/ 77، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2.

(3) الوسائل 3/ 251، الباب 2 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 335

..........

______________________________

بتقريب أنّ السؤال وقع عن اللبس و الصلاة معا، فسكوته «ع» عن حكم اللبس ظاهر في جوازه، و لكن السند مخدوش و الدلالة أيضا ممنوعة لاحتمال كون السؤال عن الصلاة فقط.

7- رواية أخرى له، قال: إنّ رجلا سأل أبا عبد اللّه «ع» و أنا عنده عن الرجل يتقلّد السيف و يصلّي فيه؟ قال: «نعم.» فقال الرجل: إنّ فيه الكيمخت. قال «ع»: «و ما الكيمخت؟» قال: جلود دوابّ منه ما يكون ذكيا و منه ما يكون ميتة. فقال «ع»: «ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه.» «1»

بتقريب أنّ النهي وقع عن الصلاة فقط لا عن أصل تقليده. و لكن السند مخدوش بابن أبي حمزة، و الدلالة أيضا ممنوعة كما مرّ.

و استصحاب عدم التذكية يقتضي عدم جواز الصلاة في المشكوك أيضا إلّا أن يقال:

إنّ المفروض شراؤه من سوق المسلمين.

8- ما رواه أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الصلاة في الفراء. فقال: «كان عليّ بن الحسين

«ع» رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز لأن دباغها بالقرظ، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه و ألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك فقال: «إنّ أهل العراق يستحلّون لباس جلود الميتة و يزعمون أنّ دباغه ذكاته.» «2»

بتقريب أنّ فعله «ع» يدلّ على جواز الانتفاع بالميتة إلّا فيما يكون مشروطا بالطهارة كالصلاة.

______________________________

(1) الوسائل 2/ 1072، الباب 50 من أبواب النجاسات ...، الحديث 4.

(2) الوسائل 3/ 338، الباب 61 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 336

..........

______________________________

إلّا أن يقال مضافا إلى ضعف سند الرواية: إنّ المأخوذ من سوق المسلمين محكوم بالتذكية شرعا فلا بأس بلبسه و الصلاة فيه. و إنّما احترز هو «ع» عن الصلاة فيه احتياطا لأمر الصلاة التي هي معراج المؤمن. و إذا فرض كون الاحتياط المطلق موجبا للعسر و الحرج فلا محالة يحتاط في الأمور المهمّة كالصلاة مثلا، و الاحتياط حسن على كلّ حال.

9- ما عن الجعفريات بإسناده أنّ عليّا «ع» كان يصلّي في سيفه و عليه الكيمخت «1».

بتقريب أنّ الكيمخت- على ما مرّ عن مجمع البحرين- كان من الميتة و إلّا لما كان وجه لنقل فعله «ع».

أقول: قد مرّ منّا منع انحصار الكيمخت في الميتة، كما يشهد بذلك موثقة سماعة و كذا رواية علي بن أبي حمزة المتقدمتين.

و لعلّ نقل فعله «ع» كان لبيان ذلك أو لمنع كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه و إلّا لم يكن وجه لصلاته «ع» فيه مع فرض كونه ميتة.

فإلى هنا ذكرنا تسعة أخبار يستدلّ بها على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا و أكثرها ضعاف و لكن ربما يوجب استفاضتها الوثوق بصدور بعضها إجمالا،

مضافا إلى أنّ أخبار المنع أيضا أكثرها ضعاف كما مرّ.

و ما قيل في الجمع بين الطائفتين وجوه:

الأوّل: أنّ أخبار الجواز صريحة في الجواز و أخبار المنع ظاهرة في المنع فتحمل أخبار المنع على الكراهة.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 1/ 206، الباب 39 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 337

..........

______________________________

و يوجد في نفس الأخبار شواهد لذلك كما مرّ. مثل قوله «ع» في موثقة سماعة: «إن لم تمسّه فهو أفضل.»

و قوله «ع» في خبر الصيقل: «كلّ أعمال البرّ بالصبر»، و قوله «ع» في خبر الوشّاء: «أمّا تعلم أنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟»، حيث إنّ ظاهره الإرشاد و هو مناسب للكراهة، فتأمّل.

الثاني: حمل أخبار المنع على الانتفاع بها نحو ما ينتفع من المذكّى من الاستعمال فيما يتوقف على الطهارة كالصلاة و الأكل و الشرب. و يشهد لذلك ما مرّ من خبر البزنطي في قطع أليات الغنم و هي أحياء، حيث قال: «يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها و لا يبيعها.» و نحوه خبر الدعائم، حيث صرّح فيه بالانتفاع منها باللحاف الذي لا يلصق.

الثالث: حمل أخبار الجواز على خصوص ما وردت فيها من الجلود و الأليات لكثرة الابتلاء بهما.

و لكن يرد على ذلك القطع بعدم خصوصية لهما و إن احتملنا في أخبار المنع الخصوصية لمنع الجلود. و في أعصارنا قد كثر الابتلاء بالأجساد للتشريح و الترقيع و نحوهما.

الرابع: حمل أخبار الجواز على التقية.

و لكن يرد عليه أنّ أكثر أهل الخلاف أيضا يمنعون من الانتفاع بها حتى من الجلود قبل دباغتها.

قال في الشرح الكبير: «فأمّا شحوم الميتة و شحم الكلب و الخنزير فلا يجوز الاستصباح

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 338

..........

______________________________

به و لا الانتفاع به

في جلود و لا سفن و لا غيرها لما ذكرنا من الحديث.» «1»

الخامس: ما في حاشية الإيرواني «ره» قال: «و أحسن جمع بينها و بين الطائفة المانعة عن الانتفاع حمل الطائفة المانعة على صورة التلويث، كما يشهد به ما ورد من تعليل المنع عن الإسراج بأليات الغنم بأنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام. و حمل أخبار الرخصة على صورة التحفّظ من التلويث أو عدم استعمال ما يتلوّث بها فيما يشترط بالطهارة.

و في رواية الصيقل التصريح بذلك و أنّ المنع من استعمال جلد الميتة إنّما هو من جهة حصول التلويث.» «2»

أقول: تلويث اليد و الثياب بالنجاسة ليس بنفسه محرما شرعيا بلا إشكال و لم يفت به أحد. نعم لا يجوز الصلاة معها و لا استعمالها في الأكل و الشرب. و على هذا فيرجع ما ذكره إلى ما مرّ من الوجه الثاني.

و ظاهر التعليل بأنّه يصيب اليد و الثوب كونه للإرشاد لا لبيان الحكم التكليفي كما مرّ بيانه. هذا.

و لو سلّم تكافؤ أخبار المنع و أخبار الجواز و لم يظهر وجه للجمع بينهما كان المرجع بعد التساقط قاعدة الحلّ. و كذا قوله- تعالى-: هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ مٰا في الْأَرْض جَميعاً. «3»

و أمّا الإجماع المدّعى على المنع فقد عرفت في أوّل المسألة منعه و ذكرنا هناك كلمات كثيرة منهم في الجواز، فراجع.

______________________________

(1) ذيل «المغنى» 4/ 15، كتاب البيع، الشرط الثالث من شروط صحة البيع.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 5.

(3) سورة البقرة (2)، الآية 29.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 339

[حكم بيع الميتة]
اشارة

و خصوص عدّ ثمن الميتة من السحت في رواية السكوني. (1)

______________________________

حكم بيع الميتة

(1) ما مرّ إلى هنا كان في البحث عن المقام الأوّل أعني

حكم الانتفاع بالميتة، و قد قوّينا فيه الجواز.

[كلمات الفقهاء]

و أمّا المقام الثاني أعني البحث عن حكم بيعها فالمشهور عدم صحة بيعها و شرائها بل ادّعي على ذلك الإجماع في كلماتهم. و قد مرّ في أوّل المسألة نقله عن التذكرة و المنتهى و التنقيح، فراجع «1».

و في المستند: «حرمة بيعها و شرائها و التكسب بها إجماعي.» «2»

و مرّ المنع عن بيعها في عبارات المقنعة، و النهاية، و المبسوط، و المراسم، و الشرائع، و القواعد، و الفقه على المذاهب الأربعة نقلا عن الحنابلة و الحنفية و المالكية، و عن الشافعية: لا يصحّ بيع كل نجس «3».

و في الشرح الكبير: «لا يجوز بيع الميتة و لا الخنزير و لا الدم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به.» «4»

[استدلّ للمنع بوجوه]
اشارة

و كيف كان فاستدلّ للمنع بوجوه:

الأوّل: الإجماعات المدّعاة و الشهرة المحققة.

و يرد عليهما منع كونهما تعبّديين كاشفين عن قول المعصوم «ع» أو دليل معتبر و اصل

______________________________

(1) راجع ص 308 من الكتاب.

(2) مستند الشيعة 2/ 333، كتاب مطلق المكاسب، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

(3) راجع ص 176 و ما بعدها من الكتاب.

(4) ذيل «المغنى» 4/ 13، كتاب البيع، الشرط الثالث من شروط صحة البيع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 340

..........

______________________________

إليهم غير ما بأيدينا. بل المظنون كونهما مستندين إلى ما يأتي من الأدلّة المذكورة لعدم جواز بيعها و بيع كلّ نجس.

الثاني: ما مرّ في عبارة المصنّف و محصّله عدم جواز الانتفاع بالميتة،

فلا تكون مالا عند المتشرعة المتعبّدين بالشرع. لدوران مالية الأشياء مدار الانتفاعات الحاصلة منها. و إذا لم تكن مالا صار أخذ الثمن بإزائها أكلا للمال بالباطل.

و يرد على ذلك أوّلا: ما مرّ منّا بالتفصيل من جواز الانتفاع بها فيما لا يتوقف على الطهارة، و به أفتى كثير منّا كما مرّ.

و حينئذ فربما يرغب فيها من لا يجدها فيجوز بيعها منه، لما مرّ من أنّ المعاملات ليست بإبداع الشارع و اختراعه، بل هي أمور عرفية عقلائية اخترعها العقلاء لرفع الحاجات و تبادل الأعيان و المنافع، و يكفي في صحتها عدم ردع الشارع عنها. مضافا إلى عموم أدلّة العقود و التجارة.

اللهمّ إلّا أن يقال بردع الروايات الآتية عنها، فانتظر.

و ثانيا: ما مرّ من أنّ الظاهر من الباء في قوله- تعالى-: بالْبٰاطل بقرينة استثناء التجارة عن تراض كونها للسببية لا للمقابلة، فتكون الآية بصدد المنع عن أكل الأموال بالأسباب الباطلة من القمار و السرقة و نحوهما. و لا نظر لها إلى ماهية العوضين و أنّ لهما مالية أم لا. نعم لو لم يكن يترتب على الشي ء غرض عقلائي أصلا بحيث عدّت المعاوضة عليه سفهية أمكن القول ببطلانها لذلك.

الثالث: اتفاق المسلمين على نجاسة الميتة

مما له نفس سائلة، فتشملها الأدلّة العامّة التي أقاموها على عدم صحة بيع النجس، و منها رواية تحف العقول الماضية و قد ذكر فيها

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 341

..........

______________________________

الميتة بخصوصها، فراجع.

و يرد على ذلك: ما مرّ في تكملة البحث عن بيع النجس من عدم كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة البيع. و أنّه يظهر من كثير من كلماتهم أنّ عدم جواز بيعها مسبّب عن عدم جواز الانتفاع بها. و قد مرّ تفصيل ذلك فلا نعيد. و حينئذ

فلو قلنا بجواز الانتفاع بالميتة إجمالا فلا مانع من المعاملة عليها مع الحاجة.

و المصنّف أيضا و إن كان يظهر من كلماته السابقة كون النجاسة بنفسها مانعة عن الصحّة لكن صرّح هنا بأنّ مجرّد النجاسة لا تصلح علّة لمنع البيع لو لا الإجماع على حرمة بيع الميتة بقول مطلق.

الرابع: الأخبار التي عدّ فيها ثمن الميتة من السحت:

1- معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «السّحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغيّ و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.» «1»

2- مرسلة الصدوق، قال: و قال (أبو عبد اللّه «ع»): «أجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت، و أجر الكاهن سحت، و ثمن الميتة سحت. فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم.» «2»

و الرواية و إن أرسلها الصدوق لكن إسناده القطعي إلى الإمام «ع» يدلّ على صحّتها و اعتبارها عنده.

3- ما في خبر وصايا النبي «ص» لعليّ «ع»، قال: «يا عليّ، من السّحت ثمن الميتة

______________________________

(1) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 63، الحديث 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 342

..........

______________________________

و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر الزانية و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.» «1»

4- ما في كتاب التفسير من الجعفريات بإسناده عن عليّ «ع»، قال: «من السّحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح و مهر البغيّ و كسب الحجّام و أجر الكاهن ...» «2» و رواه عنه في المستدرك «3».

و تقريب الاستدلال بهذه الروايات أنّ لفظ السّحت و إن كان ربما يفسّر بمطلق ما فيه عار و خسّة و بهذا اللحاظ أطلق على المكروهات أيضا كأجر

الحجّام و ثمن اللقاح و ثمن القرد و أجر القارئ و نحو ذلك كما مرّ، لكن الظاهر منه مع الإطلاق خصوص الحرام.

و قد مرّ عن الخليل في العين «4» تفسير السحت بكلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار.

و عن معجم مقاييس اللغة قوله: «المال السحت: كلّ حرام يلزم آكله العار.» «5»

إلى غير ذلك من كلماتهم، فراجع ما ذكرناه في مسألة بيع العذرة.

و لا يخفى أنّ حرمة الثمن يكشف عن فساد المعاملة و عدم تحقق الانتقال، إذ لا وجه لحرمته مع صحّتها.

و كيف كان فدلالة هذه الروايات على المنع واضحة إلّا أن يعارضها دليل أقوى فتحمل على الكراهة.

الخامس: الأخبار التي وقع فيها النهي عن بيعها

أو صرّحت بتحريم البيع أو الثمن:

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 9.

(2) الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد)/ 180، كتاب التفسير.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) العين 3/ 132.

(5) مقاييس اللغة 3/ 143.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 343

..........

______________________________

1- ما مرّ عن مستطرفات السّرائر عن البزنطي، صاحب الرضا «ع»، قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها و لا يبيعها.»

و رواه في قرب الإسناد أيضا عن عبد اللّه بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه «ع» «1».

2- رواية علي بن جعفر عن أخيه «ع»، قال: سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها أ يصلح له بيع جلودها و دباغها و لبسها؟ قال: «لا، و لو لبسها فلا يصلّي فيها.» «2»

بناء على ظهور عدم الصلاح في الحرمة و رجوع النفي إلى البيع و اللبس معا.

3- ما

في دعائم الإسلام بإسناده عن عليّ «ع»: أنّ رسول اللّه «ص» نهى عن بيع الأحرار و عن بيع الميتة و الدّم و الخنزير و الأصنام ...» «3» و رواه عنه في المستدرك «4».

4- ما في سنن أبي داود بإسناده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟

فقال: «لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه «ص» عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود لمّا حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.» و بإسناد آخر عن جابر نحوه و لم يقل: «هو حرام.» «5»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 67، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6؛ و 16/ 296 (طبعة أخرى 16/ 360).

(2) الوسائل 12/ 65، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 17؛ و 16/ 369 (طبعة أخرى 16/ 453).

(3) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع، الفصل 2، الحديث 22.

(4) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(5) سنن أبى داود 2/ 250- 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 344

..........

______________________________

و رواية جابر رواها مسلم أيضا في كتاب المساقاة من صحيحه، و ابن ماجة في التجارات، فراجع «1».

أقول: قد مرّ أنّ السفن كفرس: جلد خشن يجعل على قوائم السيف. و جمله و جمّله و أجمله بمعنى أذابه.

و الظاهر أنّ الرواية أظهر رواية في حرمة جميع الانتفاعات، و هي المرجع لفقهاء السنة في تحريم بيع

جميع النجاسات بضميمة ما ورد في الكلب، فقاسوا على ما ذكر فيهما سائر النجاسات، كما مرّ عن أبي إسحاق الشيرازي في المهذّب، فراجع «2».

و في الرواية و لا سيما في السؤال دلالة على التلازم بين جواز الانتفاع بالشي ء و جواز بيعه، كما كنّا نصّر عليه.

5- ما في سنن أبي داود أيضا بإسناده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه حرّم الخمر و ثمنها، و حرّم الميتة و ثمنها، و حرّم الخنزير و ثمنه.» «3» و لكن الروايتين الأخيريتين عاميتان.

فهذه الروايات و ما قبلها من أخبار السحت ظاهرة في حرمة بيع الميتة و فساده بنحو الإطلاق. و حملها على الكراهة أو على ما إذا وقع البيع بقصد الأكل أو كان إعانة عليه مخالف للظاهر جدّا لا يصار إليه إلّا بدليل متقن.

______________________________

(1) راجع صحيح مسلم 3/ 1207، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر و الميتة و ...، الحديث 71؛ و سنن ابن ماجة 2/ 732، كتاب التجارات، باب ما لا يحل بيعه، الحديث 2167.

(2) راجع المهذّب 9/ 225 المطبوع مع شرحه «المجموع» للنووي.

(3) سنن أبى داود 2/ 250- 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 345

[ما ورد في الجواز]
[رواية الصيقل]

نعم قد ورد بعض ما يظهر منه الجواز، مثل رواية الصيقل، قال:

كتبوا إلى الرجل: جعلنا اللّه فداك إنّا قوم نعمل السيوف و ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها و نحن مضطرّون إليها. و إنما غلافها (1) من جلود الميتة من البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها. (2) فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا؟ و نحن

محتاجون إلى جوابك في المسألة يا سيدنا لضرورتنا إليها.

فكتب «ع»: «اجعلوا ثوبا للصلاة». الحديث. و نحوها رواية أخرى بهذا المضمون. (3)

______________________________

(1) في التهذيب و الوسائل «1»: «و إنّما علاجنا.» و قد يقال- كما مرّ- أنّه لا دليل على كون السؤال في هذه الرواية عن الغلاف و الأغماد، بل كان عن تصقيل السيوف بجلود الميتة حيث إنّها كانت وسيلة للتصقيل و هو المراد بعمل السيوف.

و لكن الأستاذ الإمام «ره» جعل قوله: «نعمل السيوف» مصحفا عن قوله: «نغمد السيوف» بقرينة رواية القاسم الصيقل كما مرّ.

(2) الضمير في غيرها يحتمل أن يرجع إلى جلود الميتة، و يحتمل أن يرجع إلى البغال و الحمير. و لكن الظاهر هو الأوّل كما لا يخفى.

(3) المقصود بها رواية قاسم الصيقل التي مرّت «2». و قد احتملنا اتحادهما و كون القاسم و أبي القاسم أحدهما مصحفا عن الآخر، فراجع ما مرّ في البحث عن الانتفاع بالميتة «3».

______________________________

(1) راجع التهذيب 6/ 376، باب المكاسب، الحديث 221؛ عنه الوسائل 12/ 125.

(2) راجع الوسائل 2/ 1050، الباب 34 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(3) راجع ص 330 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 346

..........

______________________________

و تقريب الاستدلال بالرواية على الجواز و الصحّة أنّ الإمام «ع» قرّر الصيقل و ولده على ما كانوا يصنعون من استعمال جلود الميتة و شرائها و بيعها، و إنّما منع عن الصلاة فيها، و تقريره «ع» حجة كقوله و فعله، إذ سكوته إغراء بالجهل و هو قبيح. و بضميمة إلغاء الخصوصية و عدم خصوصية للمورد يتم المطلوب.

و يؤيد ذلك ما مرّ من جلب علي بن الحسين «ع» الفرو من العراق ليدفئه و إلقائه عنه عند الصلاة. إذ الظاهر أنّه كان بالشراء منهم،

فكان فعله «ع» تنفيذا لبيعها. إلّا أن يقال: إنّ ذلك كان على مبنى يد المسلم و سوقه المقتضيين للتذكية و إنّ إلقاءه عند الصلاة كان لأجل الاحتياط في الصلاة التي هي عمود الدين كما مرّ.

أقول: قد مرّ أنّ أبا القاسم و القاسم الصيقل كليهما مجهولان. و لكن الأستاذ الإمام «ره» حكم بصحّة الرواية بجعل الراوي لها محمد بن عيسى لا الصيقل. و نحن قد ناقشنا في ذلك كما مرّ. و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

و يظهر من مصباح الفقاهة أيضا هنا «1» الاعتماد على الرواية، حيث جعل أخبار المنع معارضة بهذه الرواية، و لكنه بعد صفحتين صرّح بكونها ضعيفة السند. و كيف كان فلو فرض صحّة الرواية و الاعتماد عليها فلا محالة يجمع بينها و بين أخبار المنع إمّا بحمل أخبار المنع على التقية لما قيل من اتفاق العامّة على المنع، و إمّا على الكراهة و إن كان لا يجري هذا فيما اشتمل منها على لفظ الحرمة، و إمّا على صورة وقوع البيع عليها بنحو يقع على المذكّى من دون إعلام.

و لو سلّم عدم تطرّق جمع بينهما فمقتضى القاعدة التساقط و الرجوع إلى الأصول و القواعد. و الأصل في المعاملات و إن اقتضى الفساد و عدم ترتّب الأثر لكن مقتضى

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 69.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 347

..........

______________________________

عمومات العقود و التجارة هو الصّحة. و يؤيد ذلك ما مرّ منّا من التلازم بين جواز الانتفاع شرعا و صحّة البيع لذلك، إذ المعاملات شرّعت لرفع حاجات المجتمع في تبادل الأعيان و المنافع و ليس لتشريعها مصالح خفيّة سرّية لا يعلمها إلّا اللّه- تعالى-.

و على هذا فإذا فرض جواز بعض الانتفاعات منها و

صار لها قيمة و مالية لذلك فأيّ وجه يتصور لمنع المعاملة عليها؟ و هل هذا إلّا جزاف؟ اللّهم إلّا أن يكون بنحو التنزيه حذرا من أن ينتفع بها أحيانا بالنحو المحرّم.

فإن قلت: الاستدلال بخبر الصيقل كان من جهة التقرير. و من المحتمل أن تقريره «ع» كان لأجل أنّ الصيقل و ولده كانوا مضطرين، كما يشهد بذلك قولهم: «و نحن مضطرون إليها»، و قولهم: «لا يجوز في أعمالنا غيرها.»

قلت: قد أجاب عن ذلك الأستاذ الإمام «ره» كما مرّ بأنّ المراد بذلك دوران تجارتهم عليها لا الاضطرار الذي يبيح المحظورات. و لذا ترك القاسم الصيقل العمل بالميتة بمجرد صعوبة اتخاذ ثوب للصلاة. بل لا وجه للاضطرار إلى خصوص الميتة في بلاد المسلمين الشائع فيها الجلود الذكيّة في عصر الرضا و الجواد «ع».

و أجاب عنه في مصباح الفقاهة بما محصّله: «أنّ منشأ هذا التوهم إرجاع الضمير في «غيرها» إلى جلود الميتة، و لكنه فاسد، إذ لا خصوصية لها حتّى لا يمكن جعل الأغماد من غيرها.

بل مرجع الضمير إنما هي جلود البغال و الحمير سواء كانت من الميتة أو الذكيّ. و يدلّ على ذلك قوله في رواية القاسم الصيقل: فإن كان ما تعمل وحشيّا ذكيا فلا بأس.» «1»

أقول: ما ذكره الأستاذ «ره» قريب جدّا، إذ هو المتبادر من لفظ الاضطرار في أمثال المقام من محاورات التجار و أهل الحرف.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 70.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 348

..........

______________________________

و أمّا ما في مصباح الفقاهة فقابل للمناقشة، إذ ما ذكره الصيقل و ولده من الاضطرار و من عدم جواز غيرها ذكرا مقدمة لبيان ما بعدهما من السؤال عن حلّية عملها و شرائها و بيعها و مسّها بأيديهم و

ثيابهم و هم يصلّون. و إنّما يتطرق هذا الإشكال و السؤال لو فرض الاضطرار إلى خصوص الميتة. و أمّا الاضطرار إلى جلود البغال و الحمر الأهلية الذكية فلا يوجب إشكالا يحوج إلى السؤال، فتأمّل. هذا.

و قد يقال: لو فرض الاضطرار المبيح للمحظورات فهو يصلح لأن يرفع التكليف فقط و لا يصلح لأن يصحح المعاملة الفاسدة.

أقول: يمكن منع ذلك لدلالة بعض الأخبار المعتبرة على كون الاضطرار رافعا للوضع أيضا:

ففي صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل و المرأة يذهب بصره فيأتيه الأطبّاء فيقولون: نداويك شهرا أو أربعين ليلة مستلقيا، كذلك يصلّي؟

فرخص في ذلك و قال: فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إثْمَ عَلَيْه. «1»

و في موثقة سماعة قال: سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينتزع الماء منها فيستلقي على ظهره الأيام الكثيرة أربعين يوما أو أقل أو أكثر فيمتنع من الصلاة الأيام إلّا إيماء و هو على حاله. فقال: «لا بأس بذلك، و ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطر إليه.» «2»

و راجع موثقة أبي بصير أيضا «3» و المقصود بالحرمة و الحلّ في أمثال هذه الروايات هو الأعمّ من التكليف و الوضع كما مرّ.

______________________________

(1) الوسائل 4/ 699، الباب 7 من أبواب القيام، الحديث 1. و الآية المذكورة من سورة البقرة (2)، رقمها 173.

(2) الوسائل 4/ 690، الباب 1 من أبواب القيام، الحديثان 6.

(3) الوسائل 4/ 690، الباب 1 من أبواب القيام، الحديثان 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 349

و لذا قال في الكفاية و الحدائق: إنّ الحكم لا يخلو عن إشكال.

و يمكن أن يقال: إنّ مورد السؤال عمل السيوف و بيعها و

شراؤها لا خصوص الغلاف مستقلا و لا في ضمن السيف على أن يكون جزء من الثمن في مقابل عين الجلد. (1) فغاية ما يدلّ عليه جواز الانتفاع بجلد الميتة بجعله غمدا للسيف و هو لا ينافي عدم جواز معاوضته بالمال. (2) و لذا جوّز جماعة منهم الفاضلان في النافع و الإرشاد على ما حكي عنهما الاستقاء بجلد الميتة لغير الصلاة و الشرب. (3) مع عدم قولهم بجواز بيعه.

______________________________

(1) أقول: ما احتمله المصنف من القول عجيب لوضوح أنّ الضمائر في قول السائل:

«فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا؟» كلّها راجعة إلى الجلود لا السيوف، إذ مسّ السيوف لا يوجب إشكالا في الصلاة قطعا.

مضافا إلى أن تقديم الشراء على البيع أيضا يشهد بذلك لأن عامل السيوف لا يشتري سيوفا للبيع و إنما يشتري الجلود لتغميدها ثم بيعها.

و الأغماد إذا صنعت من الجلود لم تكن أشياء مبتذلة عند الناس حتى لا تتقوم و لا تقابل بالمال. بل ربما كانت قيمتها على حسب كيفية صنعها و ظرافتها أكثر من نفس السيوف بمراتب.

(2) قد مرّ آنفا وجود التلازم بين جواز الانتفاع الموجب للمالية و الرغبة في الشي ء و بين جواز المعاملة عليه، و يأتي من المصنف أيضا.

(3) قد مرّ في أوّل المسألة في هذا المجال عبارات النهاية و التهذيب و الشرائع و النافع و الإرشاد و القواعد و مفتاح الكرامة فراجع. و لأجل ذلك منعنا الإجماع على حرمة الانتفاع بالميتة و إن ادّعاه بعض.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 350

مع أنّ الجواب لا ظهور فيه في الجواز إلّا من حيث التقرير الغير الظاهر في الرضا خصوصا في المكاتبات المحتملة

للتقية. (1)

______________________________

(1) قد مرّ بيان أنّ تقرير المعصوم «ع» مثل قوله و فعله، إذ السكوت منه في مقابل بعض الأعمال المسؤول عنها مع إمكان الردع يعتبر إمضاء له. و لا يتطرق احتمال التقية في هذه المكاتبة حيث إنّ فتوى أهل الخلاف على المنع.

و قد مرّت عبارة الشرح الكبير حيث قال: «و لا يجوز بيع الميتة و لا الخنزير و لا الدّم.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به.» «1» هذا.

و تعرّض في مصباح الفقاهة في هذا المجال لسؤال و أجوبة فقال: «و ربما ترمى الرواية بالتقية لذهاب العامة إلى جواز بيع جلود الميتة بعد الدبغ لطهارتها به. و أمّا قبل الدبغ فلا تصلح للإغماد.

و فيه أوّلا: أنّ أمره «ع» بأن يجعلوا ثوبا لصلاتهم على خلاف التقية.

و ثانيا: لو كانت الرواية موردا للتقية لكان الأليق أن يجاب بحرمة البيع و الشراء و يدفع محذور التقية عند الابتلاء بها بإرادة حرمة بيعها قبل الدبغ. فإنّ فيه بيان الحكم الواقعي مع ملاحظة التقية.

و ثالثا: أنّ الرواية خالية عن كون البيع و الشراء بعد الدبغ لتحمل عليها. و مجرّد عدم صلاحية الجلود للغلاف قبل الدبغ لا يوجب تقييدها، لإمكان دبغها عند جعلها غمدا.» «2»

أقول: عمدة الكلام في رواية الصيقل أنّ الراوي مجهول فلا تقاوم ما مرّ من الأخبار المستفيضة الظاهرة في المنع.

______________________________

(1) ذيل «المغنى» 4/ 13، كتاب البيع، الشرط الثالث من شروط صحة البيع.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 71.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 351

..........

______________________________

و لكن يمكن أن يقال: إنّه بعد تسليم جواز الانتفاع بالميتة فيما لا يتوقف على الطهارة- كما دلّت على ذلك روايات مستفيضة و أفتى به الأصحاب كما مرّ- فلا نرى وجها ظاهرا لتحريم بيعها

بنحو الإطلاق كما مرّ بيانه من التلازم بين جواز الانتفاع الموجب لمالية الشي ء و بين جواز المعاملة عليه. و تعرّض له المصنف أيضا. فلا بدّ أن يوجّه أخبار المنع بحملها على صورة بيعها على نحو ما يباع المذكّى بلا إعلام، بل يمكن القول بانصرافها إلى هذه الصورة.

و إطلاق السحت على المكروهات كان شائعا في أخبارنا كما مرّ، و كذا استعمال النهي فيها.

و قوله «ص»: «إنّ اللّه حرّم الميتة و ثمنها» كان إشارة إلى آيات تحريمها و تحريم ما قارنها. و قد مرّ أنّ المقصود بها بقرينة السياق حرمة خصوص الأكل فيكون تحريم ثمنها أيضا بهذا اللحاظ. و كذا قوله «ع» في رواية البزنطي: «يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها و لا يبيعها» ينصرف إلى بيعها للأكل لذكره بعده. و إذا توجّهنا إلى كون أكل الميتة شائعا في عصر نزول القرآن و كون الأكل هي المنفعة المهمّة المقصودة منها عندهم حصل الوثوق بتحقق الانصراف، فتدبّر.

و يمكن أن يتمسك لجواز البيع بعد جواز الانتفاع بصحيحة الحلبي أيضا، قال:

سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «إذا اختلط الذكيّ و الميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه.» و نحوها حسنة الحلبي أيضا «1». بعد إلغاء خصوصيتي الاختلاط و الاستحلال، فيكون الملاك في جواز البيع ترتب المنفعة الموجبة للمالية و لو لغير المسلم، فتأمّل.

و سيجي ء البحث في المسألة عن قريب.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 67 و 68، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 1 و 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 352

[جواز الانتفاع بالميتة]

هذا. و لكن الإنصاف أنّه إذا قلنا بجواز الانتفاع بجلد الميتة منفعة مقصودة كالاستقاء بها للبساتين و الزرع إذا فرض عدّه مالا عرفا. (1)

فمجرد النجاسة لا

تصلح علّة لمنع البيع لو لا الإجماع على حرمة بيع الميتة بقول مطلق. (2) لأنّ المانع حرمة الانتفاع في المنافع المقصودة لا مجرّد النجاسة. (3) و إن قلنا: إن مقتضى الأدلّة حرمة الانتفاع بكلّ نجس، فإنّ هذا كلام آخر سيجي ء ما فيه بعد ذكر حكم النجاسات.

لكنا نقول: إذا قام الدليل الخاصّ على جواز الانتفاع منفعة مقصودة بشي ء من النجاسات فلا مانع من صحّة بيعه، لأنّ ما دلّ على المنع عن بيع النجس من النصّ و الإجماع ظاهر في كون المانع حرمة الانتفاع.

______________________________

(1) و المفروض مقطوع الحصول بعد فرض جواز الانتفاع بها، إذ المقوّم لمالية الأشياء المنافع المترتبة عليها بحيث يرغب فيها لأجلها.

(2) و هو ممنوع، إذ الإجماع مضافا إلى احتمال كونه مدركيّا دليل لبّي لا إطلاق له.

و المتيقن من مورده صورة بيعها على نحو ما يباع المذكّى للأكل و نحوه.

(3) و قد مرّ تحقيق ذلك و إن كان ربما يظهر ممّن قسم المكاسب المحرّمة إلى خمسة أنواع كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحة المعاملة لجعلها قسيما لما لا منفعة له.

إلّا أن يقال: إنّ المقصود مما لا منفعة له ما لا نفع له خارجا و تكوينا. و أمّا النجاسات فلها منفعة بهذا اللحاظ. و إنّما صار التشريع مانعا عن الانتفاع بها فلذا عدّت قسيما لما لا منفعة له خارجا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 353

فإنّ رواية تحف العقول المتقدّمة قد علّل فيها المنع عن بيع شي ء من وجوه النجس بكونه منهيا عن أكله و شربه، إلى آخر ما ذكر فيها.

و مقتضى رواية دعائم الإسلام المتقدّمة أيضا إناطة جواز البيع و عدمه بجواز الانتفاع و عدمه. (1)

و أدخل ابن زهرة في الغنية النجاسات فيما لا يجوز

بيعه من جهة عدم حلّ الانتفاع بها. (2)

و استدلّ أيضا على جواز بيع الزيت النجس بأنّ النبي «ص» أذن في الاستصباح به تحت السماء. قال: «و هذا يدلّ على جواز بيعه لذلك.» انتهى (3)

______________________________

(1) رواها عن الصادق «ع»، قال: «الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك مما هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به. و ما كان محرّما أصله منهيا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» «1» أقول: قد مرّ أنّ الظاهر من قوله: «محرّما أصله» خصوص المتمحض في الحرمة و الفساد بحيث لا يوجد له منفعة محلّلة أصلا أو وقع البيع بلحاظ منفعته المحرّمة.

(2) ففي الغنية في ذكر شرائط البيع قال: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرّزا ممّا لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها، و قيّدنا بكونها مباحة تحفّظا من المنافع المحرّمة و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل ...» «2»

(3) راجع بيع الغنية «3».

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 23.

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(3) نفس المصدر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 354

فقد ظهر من أوّل كلامه و آخره أنّ المانع من البيع منحصر في حرمة الانتفاع و أنّه يجوز مع عدمها.

و مثل ما ذكرناه عن الغنية من الاستدلال كلام الشيخ في الخلاف في باب البيع (1)، حيث ذكر النبوي الدالّ على إذن النبي «ص» في الاستصباح. ثم قال: «و هذا يدلّ على جواز بيعه.» انتهى.

و عن فخر الدين في شرح الإرشاد و الفاضل المقداد في التنقيح (2) الاستدلال على

المنع عن بيع النجس بأنّه محرّم الانتفاع، و كلّ ما كان كذلك لا يجوز بيعه.

______________________________

(1) راجع بيع الخلاف مسألة بيع الزيت النجس (المسألة 312). «1»

(2) راجع التنقيح في ذيل قول المصنّف: «الأوّل: الأعيان النجسة» قال: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرمة الانتفاع. و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصحّ بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية.

و أمّا الكبرى فلقول النبي «ص» ...» «2»

أقول: و قد مرّ عن ابن إدريس أيضا دوران جواز البيع مدار جواز الانتفاع، فإنّه في السرائر بعد ما حكى عن الشيخ «ره» المنع عن التكسب بالفيلة و الدببة و غيرها قال: «فيه كلام، و ذلك أنّ كلّ ما جعل الشارع و سوّغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه و ابتياعه لتلك المنفعة ...» «3»

و راجع في هذا المجال أيضا كلام فخر الدين في الإيضاح «4»، و قد نقلناه في التكميل

______________________________

(1) راجع الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83)، كتاب البيوع.

(2) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(3) السرائر 2/ 220، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب.

(4) راجع إيضاح الفوائد 1/ 401. و قد مرّت عبارته في ص 213 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 355

نعم، ذكر في التذكرة شرط الانتفاع و حلّيته بعد اشتراط الطهارة.

و استدلّ للطهارة بما دلّ على وجوب الاجتناب عن النجاسات و حرمة الميتة. و الإنصاف إمكان ارجاعه إلى ما ذكرنا فتأمّل. (1)

[ما دل على جواز بيع العبد الكافر و كلب الصيد]

و يؤيّده أنهم أطبقوا على بيع العبد الكافر و كلب الصيد، و علّله في التذكرة بحلّ الانتفاع به. و ردّ من منع عن بيعه لنجاسته بأنّ النجاسة غير مانعة، و تعدّى إلى كلب الحائط و الماشية و الزرع، لأنّ المقتضي و هو النفع موجود فيها.

______________________________

المذكور في ذيل البحث عن

بيع النجس بإطلاقه.

(1) قد تعرّضنا سابقا لما ذكره العلامة في التذكرة في هذا المجال، و لكن لمّا أشار إليها المصنّف في المقام مع الاهتمام بها و كانت الحوالة لا تخلو من الخسارة نعيدها هنا ثانيا تسهيلا للقرّاء الكرام، فنقول:

1- قال فيه: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية ... و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا، لقوله- تعالى-: فَاجْتَنبُوهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. و الأعيان لا يصحّ تحريمها، و أقرب مجاز إليها جميع وجوه الانتفاع، و أعظمها البيع فكان حراما ...» «1»

2- و فيه أيضا: «الشرط الثاني: المنفعة. مسألة: لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه لأنّه ليس مالا فلا يؤخذ في مقابلته المال.» «2»

3- و فيه أيضا: «ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له، فيحرم بيعه كآلات الملاهي مثل العود و الزمر ...» «3»

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464 و 465 كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) التذكرة 1/ 464 و 465 كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 356

[جواز المعاوضة على لبن اليهودية]

و مما ذكرنا من قوّة جواز بيع جلد الميتة لو لا الإجماع إذا جوّزنا الانتفاع به في الاستقاء يظهر حكم جواز المعاوضة على لبن اليهودية المرضعة، بأن يجعل تمام الأجرة أو بعضها في مقابل اللبن، فإنّ نجاسته لا تمنع عن جواز المعاوضة عليه. (1)

______________________________

4- و فيه أيضا: «أمّا كلب الصيد فالأقوى عندنا جواز بيعه ... و لأنه يحلّ الانتفاع به ...

و النجاسة غير مانعة كالدهن النجس. و الخنزير لا ينتفع به بخلافه.» «1»

5- و فيه أيضا: «إن سوّغنا بيع كلب الصيد صحّ بيع كلب الماشية و الزرع و

الحائط، لأنّ المقتضي و هو النفع حاصل هنا.» «2»

6- و فيه أيضا: «يصحّ إجارة كلب الصيد، و به قال الشافعية، لأنّها منفعة مباحة فجازت المعاوضة عنها ...» «3»

7- و فيه أيضا: «يجوز بيع كلّ ما فيه منفعة، لأنّ الملك سبب لإطلاق التصرّف، و المنفعة المباحة كما يجوز استيفاؤها يجوز أخذ العوض عنها، فيباح لغيره بذل ماله فيها توصّلا إليها و دفعا للحاجة بها كسائر ما أبيح بيعه.» «4»

و راجع في هذا المجال المنتهى للعلامة أيضا «5».

أقول: يظهر من هذه الكلمات ما كنّا نصرّ عليه، و يظهر من المصنّف أيضا وجود التلازم بين جواز الانتفاع بالشي ء بحيث يصير بذلك مالا يرغب فيه و بين جواز المعاوضة عليه، فتذكّر.

(1) ما ذكره مبني على نجاسة أهل الكتاب نجاسة ذاتية. و الأقوى عندنا طهارتهم.

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(4) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(5) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 357

[فرعان]
اشارة

فرعان

[الأوّل: لا يجوز بيع الميتة منضمّة إلى مذكّى]
اشارة

الأوّل: أنّه كما لا يجوز بيع الميتة منفردة كذلك لا يجوز بيعها منضمّة إلى مذكّى.

و لو باعها فإن كان المذكى ممتازا صحّ البيع فيه و بطل في الميتة كما سيجي ء في محلّه. و إن كان مشتبها بالميتة لم يجز بيعه أيضا لأنّه لا ينتفع به منفعة محلّلة بناء على وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين، فهو في حكم الميتة من حيث الانتفاع، فأكل المال بإزائه أكل المال بالباطل (1)، كما أنّ أكل كلّ من المشتبهين في حكم أكل الميتة.

و من هنا يعلم (2) أنّه لا فرق في المشتري بين الكافر المستحلّ للميتة و غيره. لكن في صحيحة الجلي و حسنته: «إذا اختلط المذكّى

[الاستدلال بآية الأكل بالباطل في المقام]

______________________________

(1) الاستدلال بالآية الشريفة في المقام مبنيّ على كون الباء في قوله: بالْبٰاطل للمقابلة، نظير ما تدخل على الثمن في المعاملة، و قد مرّ الإشكال في ذلك. بل الظاهر كونها للسببية، فيكون المقصود في الآية النهي عن أكل مال الغير بالأسباب الباطلة نظير الربا و القمار و السرقة و نحوها، كما يشهد بذلك استثناء التجارة عن تراض، إذ الظاهر كون المستثنى مسانخا للمستثنى منه. فليس في الآية نظر إلى جنس الثمن و أنّه باطل أو غير باطل.

(2) الظاهر كونه إشارة إلى ما مرّ من أكل المال بالباطل. و لكن يرد عليه مضافا إلى ما مرّ آنفا أنّه لو قيل بعدم كون الكافر مكلفا بالفروع كان المختلط ذا قيمة و مالية عنده بلا حرمة شرعية فلا يكون باطلا. و يكفي في صحة المعاملة عدم كون المبيع باطلا عند المشتري و إن كان باطلا تافها عند البائع، و قد كثر نظير ذلك في المعاملات الدارجة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 358

بالميتة بيع ممن يستحلّ

الميتة.» و حكي نحوهما عن كتاب علي بن جعفر «ع» (1).

______________________________

(1) أقول: قد تحصّل مما مرّ منّا في المسألة الخامسة جواز الانتفاع بالميتة إجمالا إلّا في الأكل و نحوه مما حرّمه الشارع. و رتّبنا على ذلك صحة المعاملة عليها أيضا بلحاظ المنافع المحلّلة و إن لم تصحّ بقصد الأكل و نحوه من المنافع المحرمة، إذ بعد ما جاز بعض الانتفاعات بالشي ء و صار بذلك ذا قيمة و مالية عند المتشرعة فلا محالة يشمله إطلاقات أدلّة التجارة و المعاملات، و لا وجه لمنعها بعد ما شرّعت لرفع الحاجات في المبادلات.

و بالجملة يوجد بين جواز الانتفاع بالشي ء و جواز المعاملة عليه بهذا اللحاظ نحو ملازمة عرفية و شرعية كما مرّ تفصيله.

[لا مجال لذكر هذا الفرع]

فعلى هذا المبنى لا يبقى مجال لذكر هذا الفرع، إذ كما يجوز بيع الميتة منفردة يجوز بيعها منضمة إلى المذكّى أيضا مع تحقق سائر شرائط البيع. سواء كانت الميتة ممتازة مشخصة أو كانت مختلطة بالمذكّى مشتبهة به لذلك عند البائع أو المشتري أو كليهما.

غاية الأمر أنّه مع بقاء الاختلاط و الاشتباه يجري عليهما أحكام المشتبهين بالنسبة إلى الأكل و نحوه، فيجتنب عنهما معا على ما هو المشهور بين الأصوليين، للعلم الإجمالي، و لجريان أصالة عدم التذكية في كليهما، بناء على جواز إجراء الأصل في الطرفين إذا لم يلزم من ذلك مخالفة عملية، لتحقق موضوعه فيهما و هو الشك. و على هذا فيصرف كلا المشتبهين في مثل التسميد و الترقيع و نحوهما من المنافع المحلّلة.

و أمّا إذا قلنا بعدم جواز الانتفاع بالميتة مطلقا، كما نسب إلى المشهور، أو عدم جواز المعاملة عليها كذلك أو فيما إذا وقعت بقصد الأكل و نحوه مع انفرادها، فيقع البحث حينئذ في

أنّه هل يجوز بيعها منضمّة إلى المذكّى بحيث يصير الانضمام إليه مصححا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 359

..........

______________________________

لبيعها أيضا كما وقع نظيره في كثير من المسائل أو لا؟ و هل يفرّق في ذلك بين كون المشتري مسلما أو كافرا مستحلّا للميتة؟

فهذا هو الّذي تعرّض له المصنف في هذا الفرع.

فنقول: أمّا مع امتيازها عن المذكّى فالقاعدة تقتضي عدم صحّة بيعها أيضا، فلو أوقعه عليها و على المذكّى معا صحّ بالنسبة إلى المذكّى فقط و لا محالة يقسّط الثمن عليهما و ليس للمشتري خيار تبعض الصفقة مع علمه بذلك.

و أمّا مع اختلاطها بالمذكّى و عدم تميزهما فللمسألة صور كثيرة، إذ المعاملة يمكن أن تقع بقصدهما معا فيجعل الثمن بإزائهما، و يمكن أن تقع بقصد المذكّى فقط، و الاشتباه قد يكون عند البائع و المشتري معا و قد يكون لأحدهما فقط، و المشتري إمّا مسلم أو كافر ذمّي محترم المال أو كافر حربي لا احترام لماله، ثم إمّا أن نقول بأنّ الكفار أيضا مكلفون بالفروع مثل المسلمين و إمّا أن ننكر ذلك.

فهذه صور المسألة، و يختلف الحكم باختلافها.

[كلمات الأصحاب]

و المسألة معنونة في كلمات الأصحاب مختلف فيها بلحاظ الأخبار الواردة فيها.

فلنتعرض لبعض الكلمات ثم نعقّبها بتحقيق المسألة، فنقول:

1- قال الشيخ في كتاب الصيد و الذبائح من النهاية: «و إذا اختلط اللحم الذكيّ بالميتة و لم يكن هناك طريق إلى تمييزه منها لم يحلّ أكل شي ء منه، و بيع على مستحلّي الميتة.» «1»

2- و في الوسيلة لابن حمزة: «و إن اختلط لحم الميتة بالمذكّى و لم يتميز لم يؤكل، و بيع على مستحلّيه. و إن اشتبه المذكّى بالميتة طرح على النار فإن انقبض فهو مذكّى و إن

______________________________

(1)

النهاية/ 586، كتاب الصيد و الذبائح، باب ما يحلّ من الميتة و يحرم من الذبيحة ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 360

..........

______________________________

انبسط فهو ميتة.» «1»

أقول: يظهر من ابن حمزة أنّه عمل في المختلط بما ورد فيه، و حمل ما ورد في المشتبه على خصوص مورده أعني اللحم الواحد المردّد بين كونه مذكّى أو ميتة.

3- و في الجامع للشرائع: «و إذا اختلط اللحم الذكيّ بالميّت بيع على مستحلّ الميتة، و ثمنه حلال.» «2»

4- و في الأطعمة من الشرائع: «و إذا اختلط الذكيّ بالميتة وجب الامتناع منه حتى يعلم الذكيّ بعينه. و هل يباع ممّن يستحلّ الميتة؟ قيل: نعم، و ربّما كان حسنا إن قصد بيع المذكّى حسب.» «3»

5- و في كتاب الصيد من الإرشاد: «و يحرم المشتبه بالميتة، فإن بيع على مستحلّيه قصد المذكّى» «4»

أقول: أراد بالمشتبه في كلامه المختلط، كما لا يخفى.

6- و لكن في المهذّب لابن البرّاج: «فإذا اختلط لحم ذكيّ بميتة و لم يمكن تمييزه لم يحلّ أكل شي ء منه. و قد قيل: إنّه يجوز بيعه على مستحلّي الميتة، و الأحوط ترك بيعه.» «5»

7- و في السرائر: «و إذا اختلط اللحم الذكيّ بلحم الميتة و لم يكن هناك طريق إلى تمييزه منها لم يحلّ أكل شي ء منه و لا يجوز بيعه و لا الانتفاع به. و قد روي أنّه يباع على مستحلّ الميتة. و الأولى اطراح هذه الرواية و ترك العمل بها، لأنّها مخالفة لأصول مذهبنا

______________________________

(1) الوسيلة/ 362، كتاب المباحات، فصل في بيان ما يحرم من الذبيحة و يحلّ من الميتة ...

(2) الجامع للشرائع/ 387، كتاب المباحات.

(3) الشرائع/ 752 (ط. أخرى 3/ 223)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الرابع، النوع الأوّل.

(4)

الإرشاد 2/ 113، كتاب الصيد و توابعه، المقصد الثالث، الباب الأوّل.

(5) المهذّب 2/ 441، كتاب الأطعمة و الأشربة ...، باب ما يحلّ من الذبائح و ما يحرم منها ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 361

..........

______________________________

و لأنّ الرسول «ص» قال: إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» «1»

8- و في كتاب الصيد من المختلف بعد نقل كلمات الشيخ و ابن حمزة و ابن البرّاج و ابن إدريس قال: «و الوجه ما قاله الشيخ. لنا: أنّه في الحقيقة ليس بيعا بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه فكان سائغا، و ما رواه محمد بن يعقوب عن الحلبي ...» «2»

أقول: فالمحقق و العلّامة لم يأخذا بظاهر أخبار الجواز بل حملاها على إرادة المذكّى أو استنقاذ مال الكافر.

9- و في الأطعمة من الدروس: «و إذا اختلط اللحم المذكّى بالميتة و لا طريق إلى تمييزه لم يحلّ أكله. و في جواز بيعه على مستحلّ الميتة قولان: فالجواز قول النهاية لصحيحة الحلبي عن الصادق «ع»، و المنع ظاهر القاضي و فتوى ابن إدريس.

قال الفاضل: هذا ليس ببيع حقيقة و إنما هو استنقاذ مال الكافر برضاه.

و يشكل بأنّ ماله محترم إذا كان ذمّيا إلّا على الوجه الشرعي و من ثمّ حرم الربا معه.

قال المحقق: ربّما كان حسنا إذا قصد بيع الذكيّ فحسب، و تبعه الفاضل.

و يشكل بجهالته و عدم إمكان تسليمه متميزا.

و لو وجد لحما مطروحا لا يعلم حاله فالمشهور تركه و يكاد أن يكون إجماعا (و روي- ظ.)

أنّه يطرح على النار فإن انقبض فهو ذكيّ و إن انبسط فهو ميتة. و توقف فيه الفاضلان، و العمل بالمشهور. و يمكن اعتبار المختلط بذلك إلّا أنّ الأصحاب و الأخبار أهملت ذلك.»

«3»

______________________________

(1) السرائر 3/ 113، كتاب الصيد و الذبائح، باب ما يحلّ من الميتة و يحرم من الذبيحة ...

(2) المختلف/ 683، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الرابع.

(3) الدروس/ 281 (ط. أخرى 3/ 13)، الدرس 203. و لم يرد في هذه الطبعة كلمة «تركه».

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 362

..........

______________________________

أقول: لا يخفى أنّ عنوان البحث أوّلا هو بيع الميتة منضمّة إلى المذكّى و أنّ الانضمام إليه هل يصحّح بيعها أولا؟ و لكن منصرف أكثر الكلمات- كما ترى- بيع المذكّى الواقع في البين. و هو المحتمل من عبارتي النهاية و الوسيلة أيضا.

[الأقوال في المسألة]

و كيف كان فالمحتملات بل الأقوال في المسألة كثيرة:

الأوّل: ما مرّ منّا من جواز بيعهما مطلقا و لو من مسلم غاية الأمر أنّه لا يجوز له صرفهما في الأكل و نحوه بل يصرفان في مثل التسميد و إطعام الحيوانات و استخراج الموادّ الكيمياوية و نحوها. و لو قيل: إنّ العلم الإجمالي لا أثر له في التنجيز و إنّ وزانه وزان الشبهات البدوية كان مقتضاه جواز بيعهما و صرفهما في الأكل و نحوه أيضا كما لا يخفى، و لكنّ المبنى باطل عندنا.

الثاني: جواز بيعهما معا من مستحلّ الميتة، كما يدلّ عليه صحيحتا الحلبي، و أفتى به في النهاية و الوسيلة و غيرهما.

الثالث: جواز ذلك و لكن بقصد بيع المذكى فقط بحيث يقع الثمن بإزائه فقط و يكون تسليمهما معا مقدمة لتسليم المذكّى.

الرابع: عدم قصد المعاملة حقيقة بل استنقاذ مال الكافر بذلك برضاه، كما في كلام العلّامة في المختلف.

الخامس: جواز بيع أحدهما فقط بنحو التخيير بناء على عدم وجوب الموافقة القطعية في العلم الإجمالي و جواز ارتكاب أحد الطرفين مع جعل الآخر بدلا عن الواقع.

و هذا مبنيّ

على القول بجريان أصالة الحلّ في كليهما فيأخذ المكلف بأحدهما تخييرا، كما قيل بذلك في الخبرين المتعارضين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 363

..........

______________________________

بل التخيير هنا أوفق، إذ الخبر جعل طريقا إلى الواقع و مقتضاه تساقط المتعارضين منه، و هذا بخلاف الأصول حيث يوجد فيها نحو من السببية.

السادس: عدم جواز بيعهما من شخص واحد و جواز بيعهما من شخصين، بناء على كون المانع عن بيع الميتة حرمة الانتفاع بها و لا تثبت هذه إلّا على الميتة المعلومة تفصيلا أو إجمالا لشخص واحد و ينتفي هذا بالنسبة إلى كلّ واحد من المشتريين.

و يأتي هذا الاحتمال من مصباح الفقاهة.

السّابع: عدم جواز البيع أصلا للعلم الإجمالي و لجريان أصالة عدم التذكية في كليهما.

الثامن: أن يترتب على المختلط حكم المشتبه حيث وردت الرواية بطرحه على النار فما انقبض فهو مذكّى.

[المقام الأوّل تحقيق المسألة بملاحظة القواعد العامة]

إذا عرفت هذا فنقول: تحقيق المسألة يقع في مقامين: الأوّل بملاحظة القواعد العامة.

الثاني بملاحظة الأخبار الواردة هنا.

أمّا المقام الأوّل فنقول: على ما مرّ منّا من جواز الانتفاع بالميتة و جواز بيعها لذلك أيضا لا يبقى إشكال في المسألة كما مر بيانه.

و أمّا على المشهور من عدم جواز بيع الميتة منفردة فإن قيل بعدم جواز الانتفاع بها أيضا مطلقا كما هو المشهور فالقاعدة تقتضي منع بيعهما لوجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين فلا يجوز الانتفاع بهما و يصيران بذلك مسلوبي المالية شرعا.

نعم لو قيل بجواز الانتفاع بالميتة و منع بيعها فقط جاز البيع بقصد المذكّى منهما و لو من مسلم فيصرفهما في التسميد و نحوه من المنافع المحلّلة. كما جاز ذلك من الكافر بقصد

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 364

..........

______________________________

الأكل و نحوه أيضا بناء على عدم تكليفه بالفروع. و

لا دليل على اشتراط كون المبيع بشخصه ممكن الانتفاع للبائع، و لذا لو اشتبه المذكّى بالميتة لدى البائع دون المشتري صحّ بيعه من المسلم العالم بالواقع أيضا. هذا. و لكنّ البيع بقصد المذكّى خارج عن محلّ البحث كما مرّ.

و قال في مصباح الفقاهة في المقام ما محصّله: «أنّ المدرك لحرمة بيع الميتة إن كان هي النصوص و الإجماعات فلا شبهة في أنّهما لا تشملان صورة الاختلاط لأنّه لا يصدق بيع الميتة على ذلك مع قصد المذكّى. فلا وجه لما ذهب إليه المصنّف من المنع على الإطلاق بناء على وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين. نعم لا يجوز أن ينتفع بهما فيما كان مشروطا بالطهارة و التذكية.

و إن كان المدرك في المنع هي حرمة الانتفاع بالميتة لكونها مسلوبة المالية عند الشارع و قلنا بتنجيز العلم الإجمالي، فغاية ما يترتب عليه هو عدم جواز بيعهما من شخص واحد لوجوب اجتنابه عن كلا المشتبهين. و أمّا بيعهما من شخصين فلا بأس به لأنّ حرمة الانتفاع لم تثبت إلّا على الميتة المعلومة تفصيلا أو إجمالا فإذا انتفى العلم لم يبق إلّا الاحتمال فيندفع بالأصل، نظير انعدام أحد المشتبهين أو خروجه من محلّ الابتلاء الموجب لسقوط العلم الإجمالي عن التأثير». «1»

أقول: يرد على ما ذكره أوّلا: أنّه خروج عن مفروض بحث المصنّف، إذ محطّ نظر المصنّف بيع المختلط بحيث يقع الثمن بإزائهما معا كما هو الظاهر من صحيحتي الحلبي أيضا. و أمّا قصد خصوص المذكّى فأمر حكاه المصنّف بعد ذلك عن بعض و ناقشه بأنّ

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 72.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 365

..........

______________________________

القصد لا ينفع، فلاحظ. و إذا فرض أنّ محطّ البحث بيعهما معا فكما أنّ النصوص

و الإجماعات تشمل الميتة منفردة تشمل المنضمة إلى المذكّى أيضا، إذ لا نرى وجها لانصرافهما عنها.

و ثانيا: لأحد أن يقول: إنّ البيع من شخصين و إن أوجب رفع الإشكال في ناحية المشتري لكنّ الإشكال في ناحية البائع باق بحاله، إذ ظاهر ما دلّ على عدم جواز الانتفاع بالميتة كونها مسلوبة المالية عند الشارع كما صرّح به هو، و إذا كانت كذلك فكيف يبيعها و يأخذ ثمنها؟ و بيع الشي ء و أخذ ثمنه من أظهر مصاديق الانتفاع به، فتأمّل.

[المقام الثاني تحقيق المسألة بملاحظة الأخبار]
اشارة

و أما المقام الثاني فاعلم أنّ هنا ثلاث طوائف من الأخبار:

الأولى: ما دلّت على جواز بيع المختلط ممن يستحلّ الميتة.

الثانية: ما دلّت على رميهما إلى الكلاب.

الثالثة: ما ورد في اللحم المشتبه من طرحه على النار فإن انقبض فهو ذكيّ. بناء على ما احتمله الشهيد في الدروس من تطبيقه على المختلط أيضا.

أمّا الطائفة الأولى: [ما دل على جواز بيع المختلط]

1- صحيحة الحلبي، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «إذا اختلط الذكيّ و الميتة باعه ممن يستحلّ الميتة، و أكل ثمنه.» «1»

2- حسنة الحلبي بل صحيحته عنه «ع» أنّه سئل عن رجل كان له غنم و بقر و كان يدرك الذكيّ منها فيعزله و يعزل الميتة ثم إنّ الميتة و الذكيّ اختلطا كيف يصنع به؟ قال:

______________________________

(1) الوسائل 12/ 67، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 366

..........

______________________________

«يبيعه ممّن يستحلّ الميتة و يأكل ثمنه، فإنّه لا بأس.» «1»

و المظنون اتحاد الخبرين و أنّ السائل عن أبي عبد اللّه «ع» كان غير الحلبي و الحلبي كان حاضرا سمع الجواب فنقله. و الظاهر رجوع الضمير إلى المختلط، فهو المبيع لا خصوص المذكّى في البين.

3- و في الوسائل بعد نقل الخبر الثاني قال: «و رواه علي بن جعفر «ع» في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر «ع» مثله.»

و لكن متن خبر علي بن جعفر علي ما في البحار هكذا: «و سألته عن رجل كان له غنم و كان يعزل من جلودها الذي من الميّت فاختلطت فلم يعرف الذكي من الميت هل يصلح له بيعه؟ قال: «يبيعه ممّن يستحل بيع الميتة منه، و يأكل ثمنه و لا بأس.» «2»

و ظاهر ما في البحار في سند المسائل أنّ موسى بن

جعفر «ع» سألها عن أبيه جعفر بن محمد «ع»، فراجع. «3»

4- و يشهد لمضمون هذه الأخبار خبر حفص بن البختري أيضا عن أبي عبد اللّه «ع» في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة.» «4» و حفص ثقة على الأصح «5»، و السند إليه صحيح.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 68، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) بحار الأنوار 10/ 252، كتاب الاحتجاج، الباب 17 (باب ما وصل إلينا من أخبار على بن جعفر ...).

(3) راجع بحار الأنوار 10/ 249. و راجع أيضا ص 291 من هذا الجزء، فإنّه بيّن فيه ما استصوبه من سند المسائل.

(4) الوسائل 12/ 68، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3؛ و 1/ 174، الباب 11 من أبواب الأسآر، الحديث 1، مع تفاوت.

(5) راجع تنقيح المقال 1/ 352.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 367

..........

______________________________

5- بل مفهوم ما عن قرب الإسناد بسنده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر «ع» قال: سألته عن حبّ دهن ماتت فيه فأرة. قال: «لا تدهن به و لا تبعه من مسلم.» «1»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 367

6- و خبر زكريّا بن آدم، قال: سألت أبا الحسن «ع» عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير. قال: «يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله.» قلت: فإنّه قطر فيه الدم؟ قال: «الدّم تأكله النار إن شاء اللّه.» قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين

أو دم؟ قال: فقال: «فسد». قلت: أبيعه من اليهودي و النصارى و أبين لهم؟ قال: «نعم، فإنّهم يستحلّون شربه ...» «2»

نعم، في سند رواية قرب الإسناد عبد اللّه بن الحسن، و في سند هذه الرواية الحسن بن مبارك و كلاهما مجهولان «3» و لكن الأخبار الأول كافية.

أقول: من المظنون جدا- كما يظهر من مصباح الفقاهة «4» أيضا- أنّ التخصيص بالبيع ممن يستحلّ الميتة في هذه الروايات كان من جهة عدم رغبة غيره، و أنّ الانتفاع من الميتة بغير الأكل لم يكن موردا للتوجه في تلك الأعصار بحيث يوجب المالية لها و بذل الثمن بإزائها. و بالجملة كان الانتفاع منها منحصرا في الأكل غالبا. و لعلّ المقصود بالمستحلّ أعم من الكافر و المسلم الذي لا يبالي بالموازين الشرعية، فتأمّل.

و أمّا في أعصارنا فحيث ينتفع منها باستخدام المكائن الحديثة في استخراج الموادّ الكيمياوية

______________________________

(1) الوسائل 12/ 69، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) الوسائل 2/ 1056، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 8 عن التهذيب؛ و 17/ 286، الباب 26 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 1 عن الكافى.

(3) راجع تنقيح المقال 1/ 304 في ترجمة الحسن بن مبارك. و لم يعنون عبد اللّه بن الحسن فيه.

(4) راجع مصباح الفقاهة 1/ 74.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 368

و استوجه العمل بهذه الأخبار في الكفاية (1)، و هو مشكل.

______________________________

و تهيئة أنواع السّماد و غذاء الحيوانات و الطيور و نحو ذلك مما لا تقلّ نفعا عن مثل الأكل، فيجوز بيعها لذلك أيضا و لو من مسلم. و لا يبقى وجه لاختصاص بيعها ممن يستحلّ أكل الميتة. و لو سلّم الاختصاص أيضا فلا يبعد القول بجواز بيع

الميتة منفردة و مع التميز أيضا من المستحلّ، ضرورة أنّ الاختلاط و الاشتباه لا دخل له في جواز ذلك. و يشهد لذلك صحيحة حفص، فإن العجين النجس متميز.

بل أقول: لو انضمّ إلى مضمون هذه الروايات الأخبار المستفيضة الدالّة على جواز أخذ الجزية و المطالبات من أهل الذمّة بل مطلق المديونين إذا أدّوها من أثمان الخمور و الخنازير و الميتات «1»، و قد أفتى بها الأصحاب إجمالا مع أنّ هذه الأشياء لا مالية لها عند المسلمين، و كذا ما دلّ على جواز بيع الثمرة ممن يعلم أنّه يجعله خمرا «2» لاستفدنا من مجموع ذلك جواز إلزام الناس بما ألزموا به أنفسهم اعتقادا أو عملا. و لعلّه ينفتح بذلك باب واسع يمكن أن ينتفع به الأشخاص و الدول المسلمة في معاملاتهم مع الدول الأجنبية الكافرة بل المسلمة الملتزمة بحلّية مالا نعدّه حلالا في فقهنا كالأسماك التي لا فلس لها و الضفادع و سائر ما يستحلّون أكلها بحسب موازينهم. و راجع في هذا المجال ولاية الفقيه «3».

(1) قال في كتاب الأطعمة منه: «و المشهور بين المتأخرين أنّه إذا اختلط و لم يعلم وجب الامتناع من الجميع حتى يعلم الذكيّ بعينه ... و يجوز بيعها ممن يستحلّ الميتة

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 171- 172، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به.

(2) راجع الوسائل 12/ 168- 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به.

(3) راجع «دراسات في ولاية الفقيه ...» 3/ 451، الباب الثامن، الفصل الرابع، الجهة الثامنة من المسألة 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 369

..........

______________________________

لصحيحة الحلبي و حسنة الحلبي ...» «1».

أقول: من العجب أنّ المصنّف تعرّض من بين العاملين بهذه الأخبار لصاحب الكفاية الذي هو من المتأخرين،

مع أنّه أفتى بها الشيخ في النهاية و ابن حمزة في الوسيلة و ابن سعيد في الجامع و قد مرّت عباراتهم و تبعهم جمع من المتأخرين «2»، فخرجت الأخبار بذلك من الشذوذ المتوهّم.

و كيف كان فقد أورد على العمل بالصحيحين بوجوه، و ربما حملوهما على محامل بعيدة:

الوجه الأوّل: شذوذهما و إعراض الأصحاب عنهما. و قد مرّ عن السرائر أنّ الأولى اطراحها لأنها مخالفة لأصول مذهبنا.

و يرد على ذلك: ما مرّ آنفا من عمل جمع بهما. و المحقق و العلامة أيضا لم يعرضا عنهما بل حملاهما على قصد المذكّى كما مرّ.

و في الجواهر قال: «و بالجملة فالمتّجه العمل بالخبرين الجامعين لشرائط الحجية، خصوصا بعد الشهرة المحكية في مجمع البرهان على العمل بهما. و ابن إدريس طرحهما على أصله. بل لا ريب في أولوية ذلك مما في الدروس من الميل إلى تعرّفه بالعرض على النار بالانبساط و الانقباض كما سيأتي في اللحم المطروح المشتبه ... و دعوى عدم الفرق بينهما في ذلك ممنوعة بعد حرمة القياس، على أنّه بعد تسليمه يقتضي جواز كلّ منهما عملا بمجموع النصوص. و اللّه العالم.» «3»

______________________________

(1) كفاية الأحكام/ 251، كتاب الأطعمة و الأشربة، الفصل الخامس، المسألة 2.

(2) راجع ص 359.

(3) الجواهر 36/ 341، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الرابع، النوع الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 370

..........

______________________________

و الوجه الثاني: أنهما مخالفتان لما دلّ على عدم جواز الانتفاع بالميتة و عدم جواز بيعها.

و يرد عليه أوّلا: ما مرّ منّا من تقوية جواز الانتفاع إلّا في الأكل و نحوه و جواز البيع أيضا.

و ثانيا: أنّهما أخص منها فتخصص بهما. قال المحقق النراقي في مطاعم المستند: «ثم إنّ ما دلت عليه الصحيحان من جواز

البيع لمستحلي الميتة مذهب جماعة منهم الشيخ في النهاية و ابن حمزة و هو الأقوى للصحيحين المذكورين المخصّصين للأخبار المانعة عن الانتفاع بالميتة مطلقا و عن بيعها، لأخصّيتهما المطلقة منها من وجوه. خلافا للحلّي و القاضي و جمع أخر، فمنعوه للأخبار المذكورة بجوابها، و لما دلّ على حرمة الإعانة على الإثم بناء على كون الكفّار مكلّفين بالفروع كما هو المذهب. و فيه منع كونه إعانة كما يظهر وجهه مما ذكرناه في بيان الإعانة على الإثم في كتاب العوائد. مع أنّها أيضا ليست إلّا قاعدة كلّية للتخصيص صالحة.» «1»

الوجه الثالث: أنّ العمل بهما مستلزم للإعانة على الإثم القبيحة عقلا و المحرمة شرعا بمقتضى النهي عن التعاون عليه بناء على تكليف الكفّار بالفروع كما هو المشهور و المنصور، إذ التعاون ليس إلّا إعانتين من شخصين كلّ منهما مكلّف مستقل فحرمته دليل على حرمتها أيضا، فتدبّر.

و يرد على ذلك أوّلا: أنّ هذا اجتهاد في قبال النصّ الصحيح، و ما دلّ على حرمة الإعانة على الإثم عامّ صالح للتخصيص كما في المستند، فتأمّل.

و ثانيا: منع صدق الإعانة على مجرّد البيع في المقام، كيف؟! و لو كان مجرّد العلم بترتّب الحرام على فعل الإنسان إعانة عليه لحرم أكثر أفعال الناس و صناعاتهم

______________________________

(1) مستند الشيعة 2/ 416، كتاب المطاعم و المشارب، الباب الثانى، الفصل السادس، المسألة 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 371

..........

______________________________

و معاملاتهم، حيث يترتب عليها تقوية الظالمين في أنواع ظلمهم و أخذهم العشور و الكمارك، و كذلك تقوية العصاة في معاصيهم. بل كان أفعال اللّه- تعالى- أيضا من الخلق و التدبير و الرزق كلّها إعانة على الإثم، حيث ينتفع منها الكفّار و العصاة و الظلمة، و اللّه-

تعالى- يعلم ذلك و القبيح عقلا يقبح عليه أيضا.

و قد تعرّض المحقق النراقي في العائدة السابعة من عوائده «1» لتفسير آية التعاون، و ذكر لصدق الإعانة شروطا، منها: القصد إلى ترتّب الحرام على الفعل. و مثّل لذلك بأمثلة توضح المقصود، و رتّب على ذلك عدم حرمة بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا ما لم يقصد بالبيع ذلك، كما دلّ على ذلك أخبار مستفيضة. و حيث إنّ المصنف يتعرض في مسألة بيع العنب لشرح مفهوم الإعانة بالتفصيل فالأولى إحالة البحث إليها إن بقيت الحياة و ساعدنا التوفيق إن شاء اللّه.

الوجه الرابع: احتمال حملهما على التقية. حكاه في متاجر مفتاح الكرامة «2» عن أستاذه.

و يرد عليه: أنّه فرع وجود القائل بذلك من العامّة. و قد مرّ أنّهم لا يجيزون بيع الميتة.

نعم أجاز بعضهم بيع جلودها بعد الدباغة لتوهّم طهارتها بها. و حمل الصحيحين على ذلك خلاف الظاهر جدّا.

الوجه الخامس: حملهما على التعجيز. حكاه في مفتاح الكرامة «3» أيضا عن أستاذه مستندا في ذلك إلى أنّه لا مستحلّ للميتة بعد عهد موسى «ع» من جميع الملّيين.

______________________________

(1) راجع عوائد الأيام/ 26- 28.

(2) راجع مفتاح الكرامة 4/ 20، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(3) راجع مفتاح الكرامة 4/ 20، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 372

مع أنّ المرويّ عن أمير المؤمنين «ع»: أنّه يرمى بهما (1).

______________________________

و يرد عليه- مضافا إلى كونه خلاف الظاهر-: أن النهي في آيات الكتاب العزيز عن أكل الميتة و أصنافها من المنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع يدلّ على شيوع أكلها و أكل غيرها مما نهي عنها في تلك الأعصار. و يكفي في ذلك

استحلال المشركين و عبدة الأصنام لها و لو فرض عدم استحلال أهل الكتاب لها. و حكى في مفتاح الكرامة عن الفاضل المقداد: أنّهم في الجاهلية لا يحرّمون الميتة. و عن السدّي بنقل الراوندي أنّ أناسا من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك و لا يعدّونه ميتا، إنما يعدّون الميت ما يموت من الوجع «1».

فهذه وجوه من الإشكالات التي أوردوها على العمل بالصحيحين أشار إليها المصنّف بقوله: «و هو مشكل.» و قد أجبنا عنها. فالظاهر أنّه لا مانع من العمل بهما كما مرّ بيانه.

نعم يبقى الجواب عن الأخبار الآتية.

[الطائفة الثانية: ما دلّت على رميهما إلى الكلاب]

(1) هذه هي الطائفة الثانية من أخبار المسألة. رواها في الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد «ع»، عن أبيه، عن علي «ع» أنه سئل عن شاة مسلوخة و أخرى مذبوحة عن عمى على الراعي أو على صاحبها، فلا يدري الذكية من الميتة. قال: «يرمى بهما جميعا إلى الكلاب.» «2»

أقول: لا يخفى أنّ كتاب الجعفريات- و يقال له الأشعثيات أيضا- كتاب جامع وزين كثير الرواية مرويّ عن محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي، عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر «ع»، عن أبيه إسماعيل، عن آبائه عليهم السلام. و ابن الأشعث ثقة.

______________________________

(1) نفس المصدر 4/ 20.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 373

..........

______________________________

و إسماعيل ممدوح بل يمكن استفادة وثاقته ممّا ذكروه في شرح حاله. و ابنه موسى أيضا لا يخلو من مدح «1».

و لكن مع ذلك يشكل الاعتماد على ما تفرّد به الكتاب من الرواية. من جهة أنّ ما عندنا من الكتاب جاء به بعض السادة من الهند في القرن الثالث عشر بعنوان كتاب الجعفريات

«2».

و إثبات أنّه بعينه و تمامه كان ما رواه ابن الأشعث و اشتهر باسمه في الأعصار السّالفة مشكل مع ما نشاهده من التخليط و النقص و الزيادة في بعض الكتب في طيّ القرون.

و ليس مثل الكتب الأربعة التي كان عليها المدار و كان يقرأها الشيوخ لتلاميذهم في كلّ عصر و يجيزون لهم روايتها و رواها الثقات و تلقّوها يدا بيد. هذا في ناحية السند.

و أمّا متن الرواية فمن الواضح أن الرمي إلى الكلاب ليس واجبا نفسيّا تعبّديّا نظير الصلاة و الصيام. فلا محالة يكون قوله: «يرمى بهما جميعا إلى الكلاب» إرشادا إلى عدم الانتفاع بهما على نحو ما ينتفع من جلد المذكّى و لحمه. نظير ما ورد من الأمر بكسر الدراهم المغشوشة و إراقة الإناءين المشتبهين و نحو ذلك. فلا ينافي هذا جواز بيعهما ممن يستحلّ. و يشهد لذلك ما ورد في خبر زكريا بن آدم السابق من الأمر بإهراق المرق أو إطعامه أهل الذمّة أو الكلب، فجعل الأمور الثلاثة في عرض واحد. و لا خصوصية لأهل الذمّة قطعا و إنما ذكروا من جهة أنّ الموجودين من الكفّار في بلاد الإسلام كانوا من أهل الذمّة غالبا. و كيف كان فلا تصلح الرواية لمعارضة الصحيحين مع صراحتهما في المفاد.

[الطائفة الثالثة: ما ورد في اللحم المشتبه من طرحه على النار فإن انقبض فهو ذكيّ]

الطائفة الثالثة: ما ورد في اللحم المشتبه بتوهّم اعتبار المختلط أيضا بذلك كما مرّ احتماله عن الدروس:

______________________________

(1) راجع تنقيح المقال 3/ 179؛ و 1/ 145؛ و 3/ 252.

(2) راجع مستدرك الوسائل 3/ 295، الفائدة الثانية من الخاتمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 374

..........

______________________________

1- ما عن الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البزنطي، عن إسماعيل بن شعيب، عن أبي عبد اللّه «ع» في

رجل دخل قرية فأصاب بها لحما لم يدر أ ذكيّ هو أم ميّت؟ فقال: «فاطرحه على النار، فكلّ ما انقبض فهو ذكيّ، و كلّ ما انبسط فهو ميّت.»

و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى مثله «1».

و في الكافي و التهذيب: إسماعيل بن عمر عن شعيب، فراجع «2». و إسماعيل و شعيب و إن كانا مجهولين «3»، لكن السند إليهما صحيح ينتهي إلى البزنطي، و هو ممن قال الشيخ فيهم: إنّهم لا يروون و لا يرسلون إلّا ممن يوثق به «4»، فتأمّل.

2- و عن الفقيه قال: قال الصادق «ع»: «... و إذا وجدت لحما و لم تعلم أ ذكيّ هو أم ميتة فألق قطعة منه على النار فإن انقبض فهو ذكي و إن استرخى فهو ميتة.» «5»

و الظاهر وثوقه بصدور الرواية، حيث نسبها إلى الإمام «ع» قاطعا، و لم يقل: روي عن الصادق «ع».

و يحتمل أيضا كون هذه العبارة فتوى للصدوق مأخوذة من رواية إسماعيل. و كيف كان فالصدوق اعتمد عليها.

______________________________

(1) الوسائل 16/ 370 (ط. أخرى 16/ 456)، الباب 37 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(2) راجع الكافي 6/ 261، كتاب الأطعمة، الباب 13؛ و التهذيب 9/ 48، كتاب الصيد و الذبائح، الباب 1، الحديث 200.

(3) راجع تنقيح المقال 1/ 141؛ و 2/ 86- 87.

(4) عدّة الأصول 1/ 387، فصل في ذكر القرائن التى تدلّ على صحة أخبار الآحاد ...

(5) الوسائل 16/ 370 (ط. أخرى 16/ 457)، الباب 37 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 375

..........

______________________________

و اعلم أنّ في أطعمة الشرائع نسب مضمون الخبرين إلى القيل «1».

و في الجواهر قال: «و القائل غير واحد، بل

في الدروس: كاد أن يكون إجماعا، بل في الرياض حكايته عن بعض الأصحاب و الغنية صريحا مؤيدا بفتوى ابن إدريس الذي لا يعمل بأخبار الآحاد، بل في غاية المراد: لا أعلم أحدا خالف فيه إلّا المحقق و الفاضل أورداه بلفظ القيل المشعر بالضعف ...» «2»

أقول: نسخة الدروس المطبوع هكذا: «و لو وجد لحما مطروحا لا يعلم حاله فالمشهور تركه و يكاد أن يكون إجماعا انّه يطرح على النار.» «3»

و الظاهر وجود سقط في عبارته، فيكون الشهرة و الإجماع راجعين إلى ترك اللحم، و سقط قبل قوله: «انّه يطرح على النار» لفظ: «قيل» أو «روي»، فلاحظ.

و كيف كان فليس مفاد الخبرين مجمعا عليه و لا مشهورا و لا يساعده العقل و الاعتبار أيضا، إذ من الواضح أنّه لا تأثير للذكاة و الموت في انقباض اللحم و انبساطه على النار. إلّا أن يقال: إن الميّت حتف أنفه حيث حبس دمه في عروقه فينبسط بالحرارة بخلاف المذكّى الذي خرج دمه بالذبح. و لكن لو سلّم هذا فلا يجري فيما يحكم بموته بترك البسملة أو القبلة أو نحوهما من الشرائط. فالأولى ردّ علم الخبرين إلى أهله. و مقتضى أصالة عدم التذكية الاجتناب عن اللحم المشتبه إلّا أن يوجد أمارة على ذكاته.

______________________________

(1) الشرائع/ 756 (ط. أخرى 3/ 227)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس، المسألة 2.

(2) الجواهر 36/ 402.

(3) الدروس/ 281 (ط. أخرى 3/ 13)، الدرس 203. و لم يرد في هذه الطبعة كلمة «تركه».

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 376

[البيع بقصد بيع المذكّى]

و جوّز بعضهم البيع بقصد بيع المذكّى (1). و فيه أنّ القصد لا ينفع بعد فرض عدم جواز الانتفاع بالمذكّى لأجل الاشتباه (2).

______________________________

ثم لو سلّم صحة مفاد الخبرين

فموردهما اللحم الواحد المشتبه. و إلغاء الخصوصية و الإسراء إلى المختلط و إن لم يكن بعيدا في حد نفسه لكن لا يتعين ذلك بعد صراحة الصحيحين في جواز بيع المختلط ممن يستحلّ، فيمكن القول بجواز كلّ منهما. و قد مرّ عن الجواهر قوله: «و دعوى عدم الفرق بينهما في ذلك ممنوعة بعد حرمة القياس، على أنه بعد تسليمه يقتضي جواز كل منهما عملا بمجموع النصوص.» «1»

(1) قد مرّ إبداء هذا من المحقق في الشرائع و العلامة في الإرشاد و تبعهما غيرهما. «2»

(2) أقول: لعلّ نظر هذا البعض إلى أنّ المفروض هو البيع ممن يستحل الميتة.

و نفرض عدم تكليف الكفّار بالفروع فيجوز لهم الانتفاع و لكن البائع لإسلامه لا يجوز له يبع الميتة أخذا بإطلاق أدلّة المنع فيقصد بيع المذكّى حذرا من الوقوع في بيع الميتة.

نعم يشكل على القول بقصد المذكّى فقط أوّلا: أنه خروج عن محلّ البحث، إذ البحث كان في بيع المختلط. و ثانيا: أنه خلاف ظاهر الصحيحين. و ثالثا: ما مرّ عن الدروس و تبعه في المسالك «3» من جهالة المذكّى و عدم إمكان تسليمه متميزا منفردا. و رابعا: بأن قصد البائع فقط لا يكفي مع قصد المشتري لكليهما و أداء الثمن بإزائهما، لاشتراط توافق قصد البائع و المشتري في العوضين. هذا. و لكن لو فرض توافق قصدهما و وقع الثمن بإزاء المذكّى فقط و كان تسليمهما مقدمة لتسليم المذكّى أمكن القول بارتفاع الإشكال مع عدم تفاوتهما في نظر المشتري من جهة القيمة و قلنا بعدم تكليف الكفّار بالفروع، فتدبّر.

______________________________

(1) الجواهر 36/ 341، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الرابع، النوع الأوّل.

(2) راجع ص 360.

(3) راجع ص 361؛ و المسالك 2/ 242، كتاب الأطعمة

و الأشربة، القسم الرابع، النوع الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 377

نعم لو قلنا بعدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة و جواز ارتكاب أحدهما جاز البيع بالقصد المذكور (1). لكن لا ينبغي القول به في المقام، لأنّ الأصل في كلّ واحد من المشتبهين عدم التذكية. غاية الأمر العلم الإجمالي بتذكية أحدهما و هو غير قادح في العمل بالأصلين. و إنّما يصحّ القول بجواز ارتكاب أحدهما في المشتبهين إذا كان الأصل في كلّ منهما الحلّ و علم إجمالا بوجود الحرام، فقد يقال هنا بجواز ارتكاب أحدهما اتّكالا على أصالة الحلّ و عدم جواز ارتكاب الآخر بعد ذلك حذرا عن ارتكاب الحرام الواقعي (2)، و إن كان هذا الكلام مخدوشا في هذا المقام أيضا لكن القول به ممكن هنا بخلاف ما نحن فيه لما ذكرنا، فافهم.

______________________________

(1) لو قيل بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة و كفاية الموافقة الاحتمالية جاز بيع أحدهما المعين أيضا بالقصد المذكور، لجواز انتفاع كل من البائع و المشتري منه و لا يتعين بيعهما معا بقصد المذكى الواقع في البين.

(2) توضيح ذلك أنّ الأصل الجاري في المشتبهين قد يكون أصالة الحلّ، كما إذا كان هنا إناءان طاهران مثلا ثم علم بتنجّس أحدهما لا بعينه. و قد يكون الأصل الجاري فيهما الحرمة، كما إذا كانا نجسين ثم علم بطهارة أحدهما لا بعينه.

ففي الأوّل لم يجز الأخذ باستصحاب الطهارة و الحلّية في كليهما، لاستلزامه المخالفة العملية للعلم الإجمالي، و لكن يمكن القول بجواز الأخذ بأحدهما تخييرا و يترك الآخر للحرام المعلوم في البين، نظير التخيير في الخبرين المتعارضين على القول به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 378

..........

______________________________

و أمّا في الثاني فبمقتضى استصحاب الحرمة و

النجاسة الجارية في كلّ منهما يحكم بنجاسة كلّ منهما و يجب الاجتناب عن كليهما. و يترتب على ذلك وجوب الاجتناب عن ملاقي كلّ منهما أيضا و لا يلزم من ذلك مخالفة عملية للعلم الإجمالي. و المختلط من الميتة و المذكّى يكون من قبيل القسم الثاني، إذ مقتضى استصحاب عدم التذكية الجاري في كلّ منهما نجاسته و حرمته، فيجب الاجتناب عن كليهما شرعا. و معه لا مجال لأصالة الحلّ و الطهارة، إذ أصالة عدم التذكية أصل موضوعي حاكم عليها و متقدم عليها تقدم الأصل السببي على المسببي.

التعرّض لأمور [أصولية]
اشارة

أقول: ينبغي هنا التعرّض لأمور و إن كان محلّ تفصيلها كتب الأصول:

الأوّل: [أصل عدم التذكية]

في مصباح الفقاهة ناقش في إجراء أصالة عدم التذكية هنا. و محصّلها: «أن هذا الأصل لا يثبت الميتة التي هي أمر وجودي إلّا على القول بالأصول المثبتة.

لا يقال: إنّ الميتة عبارة عما لم تلحقه الذكاة كما في القاموس.

فإنّه يقال: لا نسلّم اتحادهما، إذ الميتة في اللغة و الشرع إمّا عبارة عمّا مات حتف أنفه، أو عبارة عما فارقته الروح بغير ذكاة شرعية و على هيئة غير مشروعة إمّا في الفاعل أو في القابل فلا يثبت شي ء منهما بأصالة عدم التذكية. و أمّا ما في القاموس فلم تثبت صحّته، و كذلك ما عن أبي عمرو من أنّها ما لم تدرك تذكيته.» «1»

أقول: يمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بأنّ حلّية الأكل لما كانت معلّقة على التذكية

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 73.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 379

..........

______________________________

الشرعية كما هو المستفاد من الكتاب و السنة فلا محالة يكون ما لم يذك محكوما بالحرمة و إن لم يصدق عليه عنوان الميتة.

و إن شئت قلت: بأن الحرمة و إن علّقت في لسان الدليل على عنوان الميتة، لكن لا إشكال في أنّ حلّية الحيوان تتوقّف على التذكية الشرعية، فإذا فرض إحراز عدمها و لو بالاستصحاب حكم بانتفاء الحلية قهرا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه و إن لم نحكم عليه- على هذا المبنى- بالأحكام الوجودية كالحرمة و النجاسة. هذا.

و قد يقال: إنّ المترتب على عدم التذكية هو حرمة الأكل أو عدم حلّيته، و أمّا النجاسة فهي ثابتة لعنوان الميتة، إذ لا ملازمة بين الحكمين، و محلّ الكلام في المقام هي النجاسة لا حرمة الأكل، فتدبّر.

و هاهنا شبهة تختلج بالبال،

و هي أنّه لا دليل على كون عدم التذكية بإطلاقه موضوعا للحرمة أو لعدم الحلّية، فإنّ عدم الذكاة ثابت في حال حياة الحيوان أيضا و لا دليل على حرمة التقامه حينئذ لو أمكن، نظير التقام السمك الحيّ في قعر البحر مثلا.

فما هو الموضوع للحرمة أو لعدم الحلية هو ما زهق روحه بغير التذكية الشرعية، فكأنّ زهوق الروح مقتض لقذارة الحيوان و التذكية رافعة لها، و إثبات هذا المقيد باستصحاب قيده العدمي تعويل على الأصل المثبت و لا نقول به.

بل يمكن أن يقال: إنّ كلا من زهوق الروح بالتذكية و زهوقها بغير التذكية مسبوقان بالعدم، فيستصحب عدمهما، و يتعارضان فيرجع إلى أصل الحلية و الطهارة.

اللّهم إلّا أن يمنع التقييد و يقال بتركب الموضوع من زهوق الروح و عدم التذكية، حيث إنّ التذكية و عدمها ليسا من حالات زهوق الروح و قيودها بل من صفات الحيوان

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 380

..........

______________________________

و حالاته- كما قيل-. و على هذا فيحرز أحد جزئي المركب بالوجدان و الآخر بالأصل كما في سائر الموضوعات المركبة. هذا و التفصيل يطلب من محلّه.

الأمر الثاني: [تساقط الاستصحابين في طرفي العلم الإجمالي]

أنّ الشيخ الأنصاري- قدّس سرّه- حكم في أواخر الاستصحاب من الرسائل بتساقط الاستصحابين في طرفي العلم الإجمالي إذا استلزم الأخذ بهما المخالفة العملية للعلم الإجمالي، و استدل لذلك بما لفظه: «لأنّ العلم الإجمالي هنا بانتقاض أحد اليقينين يوجب خروجهما عن مدلول لا تنقض. لأن قوله: «لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين مثله» يدلّ على حرمة النقض بالشك و وجوب النقض باليقين. فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين

بمثله، و لا إبقاء أحدهما المعين لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح. و أمّا أحدهما المخير فليس من أفراد العام، إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخصّين في الخارج فإذا خرجا لم يبق شي ء. و قد تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة و أنّ قوله: كلّ شي ء حلال حتّى تعرف أنه حرام لا يشمل شيئا من المشتبهين.» «1»

أقول: ظاهر هذا الاستدلال أنّ دليل الأصل لا يشمل طرفي العلم الإجمالي لا أنه يشملهما و يسقطان بالتعارض. و قد يعبّر عن هذا الاستدلال بلزوم مناقضة صدر الدليل لذيله فتوجب إجمال الدليل.

و يرد عليه أوّلا: أنّ ظاهر استدلال الشيخ لا يطابق ظاهر ما ادّعاه، إذ ظاهر المدّعى جريانهما بالذات و سقوطهما بالتعارض، و ظاهر الاستدلال عدم شمول الدليل لهما، فراجع.

______________________________

(1) الرسائل/ 429 (ط. أخرى/ 744) في الكلام في تعارض الاستصحابين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 381

..........

______________________________

و ثانيا: أنّ هذا البيان يجري فيما إذا لم يستلزم من إجراء الأصلين مخالفة عملية أيضا، كما في أصالة عدم التذكية في المقام، و قد صرّح المصنف في المقام بجريانهما.

و ثالثا: ما مرّت الإشارة إليه من منع المناقضة، لاختلاف متعلقي اليقين و الشك، حيث إنّ الشك تعلق بكلّ واحد من الطرفين مشخصا و كذا اليقين السابق، و اليقين بالخلاف تعلق بعنوان أحدهما المردّد.

و رابعا: أنّ الذيل الموجب للمناقضة و الإجمال لا يوجد في جميع أدلّة الأصول، و ما في البعض أيضا ليس لبيان حكم مستقل شرعي بل تأكيد لبيان موضوع الأصل أعني الشك، كيف؟! و الأخذ باليقين بمعنى حجيته و العمل به ليس بحكم الشرع بل مما يحكم به العقل كما قرّر في محلّه.

و خامسا: يرد على ما ذكره

أخيرا: أنّ القائل بالتخيير في المقام لا يريد جعل الفرد المخير فردا ثالثا مشمولا للعام. بل يقول: إنّ إطلاق دليل الأصل إذا لم يمكن الأخذ به في الطرفين وجب الأخذ به في أحدهما لا محالة رعاية لمصلحة الجعل مهما أمكن.

و التخيير هنا عقليّ نظير سائر موارد تزاحم الملاكات. فوزان الأصلين المتعارضين ظاهرا وزان الخبرين المتعارضين على القول بالسببية، حيث لم يلحظ في جعل الأصول الطريقية إلى الواقع، بل هو مجعول تعبّدي لوجود المصلحة في نفسه و لو كانت هي التسهيل على المكلف لئلا يبتلى بالاحتياط الموجب للحرج. و اللّه- تعالى- كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه يحبّ أن يؤخذ برخصه أيضا مهما أمكن، و إذا كان عدم القدرة تكوينا على الجمع بين واجدي المصلحة موجبا للحكم بالتخيير بينهما فليكن عدم القدرة على ذلك تشريعا أيضا موجبا لذلك. و قد قالوا: الممنوع شرعا كالممتنع عقلا. و العجب أنّ الشيخ-

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 382

..........

______________________________

قدّس سرّه- كان ملتفتا إلى هذا المعنى كما يظهر مما ذكره قبل العبارة السابقة و بعدها فراجع، فلم ذكر هنا هذا الإشكال؟!

الأمر الثالث: [المقتضي لجريان العلم الإجمالي في الأطراف تامّ]

قد فصّل المحقق النائيني- على ما في أوائل الجزء الرابع من فوائد الأصول- بين الأصول التنزيلية و غير التنزيلية و قال ما محصّله: «أنّ المجعول في الأصول التنزيلية- و منها الاستصحاب- إنّما هو البناء العملي و الأخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع. و أمّا في الأصول غير التنزيلية كأصالة الطهارة و الحلّية و نحوهما فالمجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ من دون تنزيل المؤدّى منزلة الواقع المشكوك فيه.

فالقسم الاوّل يمكن جعلها في الشبهات البدوية و في بعض أطراف العلم الإجمالي. و أمّا بالنسبة إلى جميع

الأطراف فلا يمكن مثل هذا الجعل للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف فكيف يمكن الحكم ببقاء الإحراز السابق في جميع الأطراف و لو تعبدا.

و لا فرق في ذلك بين أن يلزم من إجرائهما مخالفة عملية أم لا. و أمّا في القسم الثاني فيمكن جعلها في الطرفين أيضا إلّا أن يلزم من إجرائهما مخالفة عملية.» «1»

أقول: الظاهر عدم الفرق بين التنزيلية و غيرها، فيمكن جعلها في جميع الأطراف في التنزيلية أيضا إلّا أن يلزم مخالفة عملية. فعلى فرض كون الاستصحاب من الأصول التنزيلية كما فرضه يجوّز في المقام جعل استصحاب عدم التذكية في الطرفين، حيث لا يلزم من التعبد بهما و إجرائهما مخالفة عملية بل هما يؤكّدان العلم الإجمالى بالنجاسة.

______________________________

(1) فوائد الأصول 4/ 14- 17. في الشكّ في المكلّف به في الشبهة الموضوعية التحريمية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 383

..........

______________________________

و السرّ في ذلك أنّ كلّ أصل يلحظ بنفسه و مفاده و يكون مجعولا مستقلا في قبال الأصل الآخر و كلّ منهما تعبد مستقلّ بلحاظ تحقق موضوعه و ليسا معا تعبّدا واحدا حتى يورد بأن التعبّد بهما ينافي التعبّد بالمعلوم إجمالا في البين.

و بعبارة أوضح: الموضوع لكلّ واحد من الاستصحابين هو الشك في مجراه و المفروض أنه متحقق. و التعبّد بكل منهما مستقلا لا ينافي الواقع المعلوم إجمالا في البين، لاختلاف الموضوع و لاختلاف الرتبة كما في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري. و كلّ أصل يثبت مفاد نفسه و مجراه دون لوازمه و ملازماته و ملزوماته. و لذا نرى التفكيك بين مفاد الأصول و لوازمها، كما إذا توضّأ بمائع مردّد بين البول و الماء، حيث يحكم ببطلان الوضوء و طهارة البدن باستصحابهما مع العلم

إجمالا بكون أحدهما خلاف الواقع. و كذا لو شك بعد الصلاة في وقوعها مع الطهارة، حيث يحكم بصحة هذه الصلاة بقاعدة الفراغ و وجوب الوضوء للصلوات الآتية.

و قد تلخّص مما ذكرنا هنا و في الأمر السابق أنّ المقتضي لجريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي متحقق ثبوتا و إثباتا، بمعنى تحقق موضوعها و هو الشك و شمول إطلاق الأدلّة أيضا من غير فرق بين التنزيلية و غيرها، و أنّ المانع عن إجرائها ليس إلّا لزوم المخالفة العملية للحكم المعلوم و الترخيص في المعصية القطعية. هذا. و التفصيل يطلب من محلّه.

الأمر الرابع: [العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي]

بعد ما ثبت حجية العلم التفصيلي ذاتا و كونه علّة تامّة لتنجيز الواقع عقلا فهل العلم الإجمالي كذلك أولا؟

ربما نسب إلى المحقق الخونساري و المحقق القمي- طاب ثراهما- المنع و أنه بحكم الشك البدوي، فيجري في مورده الأصول المرخّصة، إذ الواقع لم ينكشف تمام الانكشاف،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 384

..........

______________________________

و مرتبة الحكم الظاهري أعني الشك محفوظة في كل واحد من الطرفين، فيشملهما إطلاقات أدلّة الأصول و إن استلزمت المخالفة العملية للعلم الإجمالي.

و ظاهر الكفاية في مبحث القطع «1» أنّه منجّز بنحو الاقتضاء لا العلّية التامّة، فللشارع الترخيص في بعض الأطراف أو جميعها و لكن بدون تحقق الترخيص يتنجز الواقع قهرا.

و يظهر من بعض كلمات الشيخ الأنصاري- قدّس سرّه- «2» أنه بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية علّة تامّة و بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء فتجب الموافقة إلّا أن يرد الترخيص في بعض الأطراف فيجعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع.

و للأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي- قدّس سرّه- في هذا المقام تفصيل كتبناه منه فيما قررناه منه في مبحث القطع من الأصول.

و محصّله التفصيل بين

العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي أعني البعث أو الزجر الفعلي الحتمي من ناحية المولى، و بين العلم بالحجة الإجمالية:

فالأوّل كالعلم التفصيلي علّة تامة للتنجيز و لا مجال للترخيص لا في جميع أطرافه و لا في البعض فإنه مناقضة صريحة.

و أمّا في الحجج الإجمالية غير العلم فيمكن أن يرخص في بعض الأطراف بل في الجميع أيضا فيكشف عن رفع اليد عن إطلاق الدليل الأوّل. مثلا إذا فرض العلم الوجداني الحتمي إجمالا بحرمة أحد الشيئين بالفعل و أنه مع إجماله و عدم تميّزه مبغوض للشارع جدّا فلا محالة يحكم العقل حكما جازما بوجوب الاجتناب عنه و لو

______________________________

(1) كفاية الأصول 2/ 35، المقصد الثانى، الأمر السابع.

(2) راجع الرسائل ص 16 (ط. أخرى ص 27) و ما بعدها، في كفاية العلم الإجمالى في تنجز التكليف ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 385

..........

______________________________

بترك الطرفين مقدمة، و لا يعقل ترخيص الشارع في مخالفته بعد العلم الوجداني بحرمته فعلا و مبغوضيته له، إذ بالعلم وصل التكليف الفعلي إلى العبد و انكشف له تمام الانكشاف فلا حالة منتظرة لحكم العقل بتنجزه و استحقاق العقوبة على مخالفته، و الترخيص فيه يرى ترخيصا في المعصية و مناقضة صريحة لما علم.

و أمّا إذا علمنا إجمالا بأنّ أحد الإناءين خمر مثلا فإطلاق قوله: «لا تشرب الخمر» و إن كان يشمله لكنه ليس علما بالتكليف الفعلي بل علما إجماليا بوجود الحجة أعني إطلاق الدليل بالنسبة إلى هذا أو ذاك، فلا يرى العقل مانعا من ترخيص الشارع في ارتكاب الطرفين أو أحدهما و به ينكشف عدم إرادة الإطلاق و تقييد قوله: «لا تشرب الخمر» بما علم خمريته بالتفصيل أو بما لم يرد الترخيص فيه من الطرفين.

و بعبارة أوضح:

العلم الذي هو صفة خاصّة نفسانية و يرادف القطع و اليقين و الجزم إذا فرض تعلّقه بالتكليف الفعلي و الإرادة الحتمية من المولى فلا مجال للقول بعدم تنجيزه و الترخيص في مخالفته، تفصيليا كان أو إجماليا، محصورة كانت الشبهة أو غير محصورة.

و جهل العبد ببعض خصوصيات المنكشف لا يضرّ مع فرض تحقق ماهية العلم أعني انكشاف الواقع عنده انكشافا تامّا بنحو المائة في المائة بحيث لا يدخله في ذلك شكّ و ريب، فيحرم مخالفة التكليف الواقعي المنكشف و يجب موافقته عقلا و لا يحصل هذا إلّا بإتيان الطرفين من باب المقدمة العلمية.

و الترخيص في أحد الطرفين و جعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع ينافي ما هو المفروض من الجزم بكون المعلوم في البين بواقعه و ذاته مرادا حتميا للمولى بحيث لا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 386

..........

______________________________

يرضى بتركه سواء كان في هذا الطرف أو ذاك.

بل في الشبهة البدوية أيضا مع فرض فعلية التكليف بواقعه على فرض تحققه يجب الاحتياط أيضا كما في الأمور المهمة كالدماء و الفروج فكيف مع العلم به إجمالا.

و الظاهر أنّ القوم خلطوا بين العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي و بين العلم بالحجة الإجمالية فعنونوا العلم الإجمالي بالتكليف و لكنهم في مقام التمثيل لذلك مثّلوا بالحجج الإجمالية كإطلاق لا تشرب الخمر مثلا الشامل بطبعه للخمر المردد بين الإناءين مع أنه ليس علما إجماليا بالتكليف الفعلي الحتمي بل علما بوجود الحجة أعني الإطلاق بالنسبة إلى هذا أو ذاك. و لا يخفى أنّ مثل هذا يمكن ترخيص الشارع في بعض أطرافه أو جميعها، و مرجعه إلى رفع اليد عن الإطلاق و عدم إرادته.

و الظاهر أنّ نظر المحقق الخونساري و المحقق القمّي في التمسك

بأخبار الترخيص إلى الحجج الإجمالية لا إلى صورة تعلّق العلم الوجداني و لو إجمالا بنفس التكليف الفعلي و الإرادة الحتمية. هذا.

و الأصوليون تعرّضوا للعلم الإجمالي تارة في مبحث القطع و أخري في الاشتغال.

و لا يخفى أنّ المناسب لمبحث القطع البحث عن العلم الإجمالي المتعلق بالتكليف الفعلي الحتمي، و المناسب لمبحث الاشتغال البحث عن الحجج الإجمالية و أنّها توجب الاشتغال أو أنّ أدلّة الأصول العملية المرخّصة تشملها.

هذه خلاصة ما ذكره الأستاذ آية اللّه البروجردي في المسألة. و الأستاذ الإمام «ره» أيضا تعرّض لهذا التفصيل هنا و فيما طبع من تقريرات بحثه «1». و لعلّه أخذه منه- طاب

______________________________

(1) راجع المكاسب المحرمة 1/ 61؛ و تهذيب الأصول 2/ 123، المقصد السادس، الأمر السادس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 387

..........

______________________________

ثراهما- حيث كان يحضر درسه. هذا.

و هنا ملاحظات على هذا التفصيل نشير إليها إجمالا:

الأولى: قد يناقش ما ذكره في القسم الأوّل من عدم جواز الترخيص في بعض الأطراف و عدم كفاية الموافقة الاحتمالية بأن العلم الإجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي قطعا، و قد جاز في مورده الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي، كما في موارد قاعدة التجاوز و الفراغ و الشكّ بعد الوقت و نحو ذلك.

و لكن يمكن أن يجاب عن هذه المناقشة: بأنّ حكم الشارع بعدم الاعتناء بالشكّ بعد التجاوز أو الفراغ يكشف عن كون المأتي به بنظر الشارع مصداقا طوليّا للطبيعة المأمور بها وافيا بتمام غرضه منها و لأجل ذلك اكتفى به، فتأمّل.

و أما في الشكّ بعد الوقت في أصل إتيان العمل فحكمه بعدم الاعتناء به كاشف لا محالة عن رفع يده عن الواقع على فرض عدم تحقق المأمور به. و الداعي على ذلك تسهيل الأمر على المكلفين

و هو من أهمّ المصالح في الشريعة السهلة، إذ لو فرض بقاء فعلية الواقع كيفما كان و لو في صورة الشكّ و كونه مرادا حتميا للمولى بحيث لا يرضى بتركه أصلا لما جاز ترخيصه في تركه و لو احتمالا لكونه مناقضة صريحة. و احتمال المناقضة أيضا كالقطع بها غير معقول كما لا يخفى.

الثانية: ما في كلام الأستاذ «ره» في القسم الثاني أعني الحجة الإجمالية من جواز الترخيص في البعض أو الجميع و أنّ به ينكشف تقييد إطلاق الدليل الأوّل لا يخلو تعبيره الأخير عن مسامحة، إذ الموضوع لجلّ الأحكام الشرعية نفس الطبائع بواقعيتها و لم يؤخذ العلم بها جزء من الموضوع. فموضوع الحرمة في قوله: «لا تشرب الخمر»

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 388

..........

______________________________

مثلا نفس طبيعة الخمر لا ما علم خمريّته. و الأصول المرخّصة موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي، فهي متأخرة عن موضوع الحكم الواقعي بمراتب، فلا يعقل أن تمسّ كرامة الأحكام الواقعية بتقييد موضوعاتها، حيث إنّ القيد و المطلق المقيّد به في رتبة واحدة. فيجب أن يحمل كلام الأستاذ «ره» على إرادة عدم وصول التكليف الأول إلى مرحلة الفعلية التامة الملازمة للتنجز إلّا بسبب العلم التفصيلي.

و بالجملة فموضوع الحكم الأوّلي في مرحلة الإنشاء مطلق، و بفعلية الموضوع يصير الحكم فعليا من جهة، و لكن الفعلية التامة الملازمة للتنجّز تتوقف على عدم المانع عنها و يمكن أن يكون رعاية مصلحة التسهيل مانعة عنها، فبالأصل المرخّص يكشف اشتراط الفعلية التامّة بالعلم به تفصيلا، نظير ما قيل في جميع الأمارات و الأصول المخالفة للواقع، حيث إنّ في موارد تخلفها عن الواقع لا محيص عن رفع اليد عن فعلية الواقع و عدم وصوله إلى مرتبة التنجز

من دون أن يوجب ذلك تقييدا في مرحلة الإنشاء.

و المصحّح لتفويت الواقع و رفع اليد عنه ثبوتا ملاحظة مصلحة أقوى و أهمّ منه أعني تسهيل الأمر على المكلفين على ما هو مقتضى الشريعة السمحة السهلة.

الثالثة: أنّ التفصيل الذي شيّد أركانه الأستاذان العلمان- طاب ثراهما- مع كثرة اهتمامهما به لا يترتب عليه ثمرة مهمّة، إذ العلم الوجداني بالتكليف الواقعي الفعلي و الإرادة الحتمية للشارع بحيث لا يرضى بتركه كيفما كان قلّما يتفق للفقيه. حيث إنّ فقهنا ليس على أساس الإلهام و المكاشفة، و إنما الذي يزاوله الفقيه في أبواب الفقه ليس إلّا ظواهر الحجج الشرعية و إطلاقاتها. و ليس العلم بالحجة الشرعية مستلزما للعلم الوجداني بالتكليف الفعلي الحتمي من المولى كما مرّ. و لكنها مع ذلك يجب الأخذ بها

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 389

..........

______________________________

أيضا تفصيلية كانت أو إجمالية كالعلم بنفسه، إذ معنى حجيتها اعتماد الشارع عليها في تحصيل أغراضه و مقاصده الواقعية و جواز احتجاجه بها على العبيد.

و ظاهر الحجج أيضا كون مفادها أحكاما فعلية لا يجوز للعبد التخلف عنها بعد وصولها إليه. إذ تشريع الأحكام يكون على نحو القضايا الحقيقية و لم يؤخذ العلم في موضوعاتها. و فعلية الحكم تابعة لفعلية موضوعه، فهي من هذه الجهة تكون مطلقة.

و كما يحكم العقل في العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي الحتمي بحرمة المخالفة القطعية و وجوب الموافقة كذلك من باب وجوب الإطاعة و لزوم المقدمة العلمية و أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، فكذلك في الحجة الإجمالية أيضا طابق النعل بالنعل. و لا يعذر العبد في مخالفة الواقع بعد قيام الحجة عليه و لو إجمالا. إذ المعتبر وصول التكليف إليه لا تميّز المكلف به لديه.

و بالجملة

وزان قيام الحجة على الحكم الفعلي و لو إجمالا وزان العلم الوجداني به بنظر العقل الحاكم في باب الإطاعة و العصيان.

اللّهم إلّا أن تقوم حجة أقوى على الترخيص و رفع اليد عن الواقع رعاية لمصلحة التسهيل التي هي أيضا من أهمّ المصالح المنظورة. و بذلك تفترق الحجة الظاهرية عن العلم الوجداني بالتكليف الفعلي الحتمي. هذا.

و على هذا فاللازم ملاحظة أدلّة الأصول المرخصة و أنّها هل تشمل أطراف الحجة الإجمالية بحيث يرفع بسببها اليد عن إطلاقها أم لا؟

و لا نعني بذلك البحث عن أصل شمول أدلة الأصول لأطراف العلم أو الحجة الإجمالية، إذ قد عرفت أنّ مرتبة الحكم الظاهري أعني الشك محفوظة في كل واحد

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 390

..........

______________________________

من الأطراف. و إطلاقات أدلّة الأصول أيضا تشملها بالطبع و لكن قيّدنا ذلك بعدم لزوم المخالفة العملية للمعلوم في البين.

فالغرض في المقام هو البحث عن شمول أدلّة الأصول المرخصة لأطراف الحجة الإجمالية بنحو يرفع بسببها اليد عن إطلاقها و إن لزمت المخالفة العملية لها.

فنقول: أمّا ما كان من قبيل حديث الرفع و نحوه فالظاهر عدم كفايته لرفع التكليف الثابت بالحجة الشرعية و لو إجمالا، إذ إطلاقات الأدلة الأوّلية و عموماتها من قبيل الأمارات، و هي تقوم مقام العلم شرعا في إثبات مفادها، فمواردها تكون من قبيل ما يعلم تعبدا و ليست مما حجب اللّه علمه عن العباد.

و بالجملة الأمارات تكون حاكمة بل واردة على الأصول العملية رافعة لموضوعها بناء على أن يراد بالعلم الحجة الشرعية بإطلاقها، فتأمّل.

و كذا قوله «ع» في موثقة مسعدة عن أبي عبد اللّه «ع»: «كلّ شي ء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك. و ذلك

مثل الثوب يكون قد اشتريته و هو سرقة، أو المملوك عندك و لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر، أو امرأة تحتك و هي أختك أو رضيعتك. و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة.» «1»

إذ قوله: «بعينه» لا يراد به خصوص العلم التفصيلي بل كما بيّنه الشيخ «ره» في الرسائل: «تأكيد للضمير جي ء به للاهتمام في اعتبار العلم كما يقال: رأيت زيدا نفسه بعينه لدفع توهم الاشتباه في الرؤية و إلّا فكلّ شي ء علم حرمته فقد علم حرمة

______________________________

(1) الكافى 5/ 313، كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديث 40.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 391

..........

______________________________

نفسه.» «1» و على هذا فتشمل الغاية العلم الإجمالي بالشي ء أيضا. هذا.

و في تطبيق الكبرى المذكورة في الموثقة على الأمثلة المذكورة في ذيلها إشكال، إذ الحلّية في الأمثلة مستندة غالبا إلى أمارات و قواعد متقدمة رتبة على أصالة الحلّ كاليد في الثوب المشتراة و أصالة الصحة في العقود و استصحاب عدم كون المرأة رضيعة و نحو ذلك، فيجب أن يقال: إنّ الكبرى ليست في مقام بيان أصالة الحلّ المصطلحة بل بصدد بيان حكم الحلّ و لو بأمارة شرعية أو بأصل محرز.

نعم هنا ثلاث روايات ربما يظهر منها ورودها في مورد الحجة الإجمالية أو شمولها له أيضا، و مقتضاها جريان أصالة الحلّ في موردها أيضا:

الأولى: صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «كلّ شي ء يكون فيه حلال و حرام فهو حلال لك أبدا حتّى (إلى خ. ل) أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.» «2»

إذ الظاهر منها كون: «بعينه» قيدا للمعرفة، فظاهره كظاهر مادّة المعرفة المعرفة التفصيلية كما لا

يخفى.

الثانية: ما في الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سألت أبا جعفر «ع» عن الجبن، فقال لي: لقد سألتني عن طعام يعجبني. ثم أعطى الغلام درهما فقال: يا غلام، ابتع لنا جبنا، و دعا بالغداء فتغدّينا معه و أتي بالجبن فأكل و أكلنا معه، فلمّا فرغنا من

______________________________

(1) الرسائل/ 241 (ط. أخرى/ 405)، في الشك في المكلّف به، في الشبهة المحصورة.

(2) الكافي 5/ 313 كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديث 39؛ و رواه عن التهذيب 9/ 79 في الوسائل 16/ 403 (ط. أخرى 16/ 495) بتفاوت يسير.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 392

..........

______________________________

الغداء قلت له: ما تقول في الجبن؟ فقال لي: أولم ترني أكلته؟ قلت: بلى و لكني أحبّ أن أسمعه منك. فقال: «سأخبرك عن الجبن و غيره: كلّ ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.» «1»

و رواه عنه في الوسائل، إلّا أنّ فيه بدل عن ابن محبوب: عن أبي أيّوب «2».

و دلالته كدلالة الصحيحة. و الظاهر أن علّة ترديد الراوي في حلّية الجبن احتمال وجود الميتة في بعضها أو علمه به إجمالا، كما يظهر من سائر الأخبار الواردة في الباب، فراجع. و إطلاق الجواب يشمل الشبهة البدوية و أطراف العلم الإجمالي.

و عبد اللّه بن سليمان مجهول مردّد بين عدّة «3»، و الراوي عنه عبد اللّه بن سنان، فيحتمل كون الصحيحة قطعة من هذا الخبر و أنّه سقط من سندها عبد اللّه بن سليمان.

و لا يدفع هذا الاحتمال اختلاف الإمام المرويّ عنه فيهما، لاحتمال الاشتباه و كون المروي عنه

في كليهما أبا عبد اللّه «ع»، كما ربما يقرب ذلك خبر آخر لعبد اللّه بن سنان، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع» عن الجبن، فقال: إن أكله ليعجبني. ثم دعا به فأكله «4». هذا و لكن المروي عنه في المرسلة الآتية أيضا أبو جعفر «ع»، فتأمّل.

و كيف كان فلعلّ حلّية الجبن في أطراف العلم الإجمالي مستندة إلى كون الشبهة غير محصورة أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

______________________________

(1) الكافى 6/ 339، كتاب الأطعمة، باب الجبن، الحديث 1.

(2) الوسائل 17/ 90، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.

(3) راجع تنقيح المقال 2/ 185.

(4) الوسائل 17/ 91، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 393

..........

______________________________

و هنا إشكال، و هو أنّ المفتى به لأصحابنا تبعا للأخبار المستفيضة طهارة أنفحة الميتة خلافا لأكثر فقهاء السنة كما لك و الشافعي و أحمد، حيث أفتوا بنجاستها، فراجع الوسائل «1» و المغني لابن قدامة «2». و لكن لا يضرّ هذا لحجية الكبرى الكلية المذكورة في الذيل و إن كان في تطبيقها على المقام نوع تقية.

الثالثة: ما عن معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا، قال: كنت عند أبي جعفر «ع» فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر «ع»: «إنه لطعام يعجبني و سأخبرك عن الجبن و غيره: كلّ شي ء فيه الحلال و الحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه.» «3»

و الظاهر كون هذه المرسلة ناظرة إلى خبر عبد اللّه بن سليمان. و كلمة «بعينه» فيها متأخرة و ظاهرها كونها قيدا لقوله: «فتدعه» لا للمعرفة.

و كيف كان فالعمدة هي الصحيحة لو صرفنا النظر عما ناقشنا فيها. و الظاهر منها كما مرّ شمولها

لأطراف العلم الإجمالي أيضا و كون الغاية فيها خصوص المعرفة التفصيلية، فلا يجب الاجتناب عن أطراف الحجة الإجمالية.

فهل يجوز رفع اليد بسبب رواية واحدة- قابلة للحمل على الشبهة غير المحصورة أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء أو غير ذلك و لا سيما على احتمال كونها قطعة من رواية عبد اللّه بن سليمان كما مرّ- عن جميع إطلاقات العناوين المحرمة الشاملة للمعلوم بالإجمال أيضا، مع حكم العقل بوجوب الإطاعة في الحجة الإجمالية

______________________________

(1) راجع الوسائل 16/ 364 (ط. أخرى 16/ 444) و ما بعدها، الباب 33 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(2) راجع المغنى 1/ 61، باب الآنية.

(3) الوسائل 17/ 92، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 394

..........

______________________________

أيضا باجتناب جميع الأطراف من باب المقدمة العلمية كما مر بيانه؟

قال الشيخ الأنصاري «ره» في أوائل الاشتغال من الرسائل بعد استظهار كون قوله:

«بعينه» قيدا للمعرفة قال: «إلّا أنّ إبقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه مثل قوله: «اجتنب عن الخمر»، لأن الإذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردّد بينهما و يوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالا في متن الواقع، و هو مما يشهد الاتفاق و النصّ على خلافه حتّى نفس هذه الأخبار، حيث إنّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه.» «1»

ثم أطال الإشكال و الجواب في هذا المجال، فراجع.

و العمدة ما ذكره من شهادة الاتفاق و النصّ على خلاف ظاهر الصحيحة. و إن كان الظاهر أنّ الاتفاق في المسائل الأصولية المبتنية غالبا على الاستنباطات ليس بنحو يكشف عن قول المعصومين. و الظاهر أنّه أراد بالنصّ ما تعرّض له بعد ذلك بصفحات:

مثل ما

ورد في الماءين المشتبهين من إهراقهما و التيمم. «2»

و ما ورد من تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين. «3»

و ما ورد في وجوب غسل كلّ الثوب إذا علم بنجاسة بعضه و وجوب غسل جميع الناحية التي علم بإصابة بعضها النجاسة معلّلا بقوله: «حتّى تكون على يقين من طهارتك.» «4»

______________________________

(1) الرسائل/ 241 (ط. أخرى/ 405)، في الشك في المكلف به، في الشبهة المحصورة.

(2) راجع الوسائل 1/ 113 و 116، من الباب 8 من أبواب الماء المطلق.

(3) راجع الوسائل 2/ 1082، الباب 64 من أبواب النجاسات.

(4) راجع الوسائل 2/ 1005- 1007، الباب 7 من أبواب النجاسات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 395

..........

______________________________

و ما دلّ على بيع المختلط من المذكّى و الميتة ممن يستحلّ الميتة الظاهر في عدم جواز أكلهما و لا بيعهما من مسلم «1».

و ما ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم التي علم إجمالا بكون بعضها موطوءة «2».

حيث إن المستفاد من جميع ذلك منجزية العلم الإجمالي و وجوب الاجتناب من جميع أطرافه، فراجع. هذا.

و يؤيد ذلك كلّه ما ذكره الشيخ أيضا من النبويين أعني قوله «ص»: «ما اجتمع الحرام و الحلال إلّا غلب الحرام الحلال.» «3» و قوله: «اتركوا ما لا بأس به حذرا عما به البأس.» «4»

قال الشيخ: «و ضعفهما منجبر بالشهرة المحققة و الإجماع المدّعى في كلام من تقدم.» «5»

أقول: الجبران إنّما يتحقق على فرض استناد المشهور أو المجمعين على هاتين الروايتين و لم يتّضح هذا.

و بما ذكرنا كلّه في المقام يظهر أيضا بطلان ما احتملناه في الأمر الثاني من إجراء الأصول المرخصة في بعض أطراف العلم الإجمالي بنحو التخيير.

مضافا إلى أنّه إذا كان مفاد العلم الإجمالي حكما اقتضائيا إلزاميا و مفاد الأصل

مجرّد اللااقتضاء فالظاهر عند العقلاء و العرف عدم مزاحمة اللااقتضاء المحض للاقتضاء الملزم. و لو سلّم كون الترخيص أيضا عن اقتضاء كما لعلّه الظاهر في الإباحة و الحلّية

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 67 و ما بعدها، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به.

(2) راجع الوسائل 16/ 359 (ط. أخرى 16/ 436)، الباب 30 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(3) عوالى اللآلى 2/ 132، الحديث 358.

(4) قال في الرسائل/ 244 (ط. أخرى/ 410) عند نقل الحديث: المرسل المروي في بعض كتب الفتاوى.

(5) الرسائل/ 247 (ط. أخرى/ 414)، في الشكّ في المكلّف به، في الشبهة المحصورة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 396

..........

______________________________

الظاهرية فالظاهر عندهم أهمية الاقتضائي الملزم من غير الملزم. هذا.

و تفصيل هذه المسائل موكول إلى علم الأصول، و إنما أشرنا إليها هنا استطرادا.

الأمر الخامس: [إذا فرض إجراء أصالة الحلّ في أحد الطرفين]

قد ظهر من عبارة المصنّف أنّه لو قلنا بجواز ارتكاب أحد الطرفين بإجراء أصالة الحلّ فيه بنحو التخيير جاز بيعه أيضا بقصد المذكّى الواقع في البين.

و ناقش في ذلك المحقّق الشيرازي في حاشيته في المقام بما لفظه: «الظاهر أنّ أصالة الحلّ بالمعنى الذي ذكرناه لا يثبت به إلّا جواز الأكل. و أمّا جواز البيع فلا، لأنّ المفروض عدم جواز بيع الميتة الواقعية. فمع الشك في تحقق الموضوع القابل للانتقال يحكم بأصالة عدم الانتقال و إن لم يكن هناك أصل يثبت به عدم كونه المذكّى، و ذلك نظير المال المردّد بين كونه مال الشخص أو مال غيره، فإنّه و إن قلنا بجواز أكله إذا لم يكن مسبوقا بكونه ملكا لغيره، لكن لا نقول بجواز بيعه، لما قلنا من الشكّ في الملكية المترتّب عليها جواز البيع و نفوذه.

نعم لو كان المانع من جواز البيع هو مجرّد

عدم جواز الانتفاع دون عنوان الميتة النجسة أمكن أن يقال بارتفاع المانع بجواز التصرّف الثابت و لو بأصالة الحلّ ...» «1»

و قد تعرّض لنحو هذه المناقشة المحقّق المامقانى أيضا في حاشيته إلّا أنه ذكر بدل أصالة الحلّ أصالة الطهارة و قال: «إنّ أصالة الطهارة لا تفيد كونه ملكا، ضرورة أنّه لا ملازمة بين الطهارة و بين كونه ملكا ...» فراجع كلامه. «2»

و أجاب الأستاذ الإمام في المقام عن مناقشة المحقق الشيرازي بما محصّله: «أنّ مفاد

______________________________

(1) حاشية المكاسب للشيرازي/ 10.

(2) حاشية المكاسب للمامقانى/ 22.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 397

..........

______________________________

أصالة الحلّ ليس حلّية الأكل فقط بل مقتضى إطلاق أدلّتها جواز ترتيب آثار الحلّية، و من آثارها جواز البيع و صحّته. فإنّ قوله «ع» في صحيحة عبد اللّه بن سنان: «كلّ شي ء يكون فيه حلال و حرام فهو حلال لك أبدا حتى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» لا قصور فيه لإثبات جميع آثار الحلّية الواقعية عليه، لأن الحلّية فيه لمّا لم تكن واقعيّة تحمل على الظاهرية بلحاظ ترتيب الآثار بلسان جعل الموضوع. و إطلاقه يقتضي ترتيب جميع الآثار. بل الظاهر أنّ مفاد أصالة الحلّ أعمّ من التكليفية و الوضعية، فإذا شكّ في نفوذ بيع المشكوك فيه حكم بنفوذه بأصالة الحلّ الوضعي.

بل يمكن أن يقال: إنّ جواز الأكل و سائر الانتفاعات كاشف عن ملكيته لدى الشارع و لو ظاهرا، كما أنّ النهي عن جميع التصرفات كاشف عن سقوطها لديه. أو يقال: إنّ ملكية الميتة و ماليّتها عقلائية لا بدّ في نفيهما من ردع الشارع. و لا دليل على الردع في مورد المشتبه مع تجويز الشارع الانتفاع به فيصحّ بيعه بإطلاق أدلّة تنفيذه.

فتحصّل مما ذكرناه أنّ

الحكم بصحة البيع لا يتوقف على إحراز كونه مذكّى أو عدم كونه ميتة. هذا، مضافا إلى إمكان استصحاب كون المشتبه قابلا للنقل و الانتقال و مملوكا يجوز فيه أنحاء التصرّفات فتكون تلك الاستصحابات حاكمة على استصحاب عدم الانتقال. و توهّم عدم بقاء الموضوع لعروض الموت على الحيوان قد فرغنا عن جوابه في محلّه.» «1»

أقول: جوابه «ره» عن المناقشة يرجع إلى خمسة أجوبة:

الأوّل: أنّ الحكم بحليّة المشكوك فيه تكليفا يقتضي ترتيب جميع آثار الحلّية، و من جملة آثارها جواز البيع و صحّته.

______________________________

(1) المكاسب المحرمة 1/ 59.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 398

..........

______________________________

الثاني: أنّ المقصود بالحليّة في الصحيحة و غيرها ليس خصوص الحلّية التكليفية بل الأعمّ من التكليف و الوضع أعني الصحّة.

الثالث: أنّ جواز أكل الشي ء و سائر الانتفاعات منه كاشف عن حكم الشارع بملكية هذا الشي ء.

الرابع: أنّ ملكية الميتة و ماليتها مما يحكم به العقلاء و لا نحتاج في الأمور العقلائية إلى إمضاء الشارع، نعم له الردع عنها، و لا دليل على الردع في المشتبه بعد تجويز الانتفاع به.

الخامس: استصحاب كون المشتبه قابلا للنقل و الانتقال و مملوكا، و هذا الاستصحاب حاكم على أصالة عدم الانتقال.

أقول: الجواب الأوّل لا يخلو عن إشكال، إذ لو كان الموضوع لمنع البيع حرمة الشي ء كان الحكم بحلّيته و لو ظاهرا رافعا لموضوع المنع و لو تعبّدا فيحكم بصحة بيعه. و لكن المفروض- كما ذكره المناقش- أنّ الموضوع لمنع البيع هو عنوان الميتة الواقعية، فما لم يحرز كونه مذكّى لم يحكم بصحة بيعه. و بأصالة الحلّ لا يثبت هذا العنوان. نعم لو ثبتت الملازمة بين حلّية الشي ء تكليفا و بين صحة بيعه صحّ ما ذكره.

و أحسن الأجوبة الخمسة الجواب الثاني.

و توضيحه: أنه قد مرّ في بعض الأبحاث السابقة أنّ الحلّ و الحرمة لا تختصّان بالتكليفية. و استعمالهما في خصوص التكليف و تبادره منهما إنّما حدث في ألسنة الفقهاء و المتشرّعة. و أمّا في الكتاب و السنة فكانا يستعملان في المفهوم الجامع للتكليف و الوضع. فكان يراد بحلّية الشي ء إطلاقه و عدم المنع بالنسبة إليه من ناحية الشرع، و بحرمة الشي ء المنع و المحدودية من ناحيته. و إطلاق كلّ شي ء و محدوديته يلاحظان بحسب ما يترقب من هذا الشي ء.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 399

و عن العلّامة حمل الخبرين على جواز استنقاذ مال المستحلّ للميتة بذلك برضاه (1).

و فيه أنّ المستحلّ قد يكون ممّن لا يجوز الاستنقاذ منه إلّا بالأسباب الشرعية كالذمّي (2).

______________________________

و استعمال اللفظين و إرادة الوضع أيضا كان شائعا في لسان الشرع المبين، و منه قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا. «1»

و في صحيحة محمد بن عبد الجبار: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض.» «2» إلى غير ذلك من الروايات.

و إذا استعمل اللفظان و لم تكن قرينة على إرادة خصوص التكليف أو الوضع فالظاهر منهما إرادة المطلق كما في الصحيحة و الموثقة المتقدمتين. و لذا قوّينا جواز الاستدلال بهما على صحة الصلاة في اللباس المشكوك فيه.

و قد مرّ عن الأستاذ آية اللّه البروجرديّ حكاية ذلك عن المحقق القمي- طاب ثراهما-.

و على هذا ففي المقام إذا فرض إجراء أصالة الحلّ في أحد طرفي العلم الإجمالي تخييرا كان مقتضاه حليته تكليفا و وضعا بالصلاة فيه و صحة المعاملة عليه و نحو ذلك، فتدبّر.

[البيع ممن يستحلّ الميتة]

(1) في كتاب الصيد من المختلف بعد نقل كلام الشيخ و غيره قال: «و الوجه ما قاله الشيخ.

لنا: أنّه

في الحقيقة ليس بيعا بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه فكان سائغا.» «3»

(2) في مصباح الفقاهة بعد نقل كلام العلّامة قال: «يرد عليه أوّلا: أنّ النسبة بين

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

(2) الوسائل 3/ 267، الباب 11 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

(3) المختلف/ 683، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 400

و يمكن حملهما على صورة قصد البائع المسلم أجزاءها التي لا تحلّها

______________________________

الكافر المستحلّ و بين من يجوز استنقاذ ماله عموم من وجه. فإنّه قد يكون المستحلّ ممن لا يجوز استنقاذ ماله إلّا بأسباب شرعية كالذمّي و قد يكون غير المستحلّ ممن يجوز استنقاذ ماله.

و ثانيا: أنّه لم يكن في مكان صدور تلك الأخبار و زمانه كافر حربي يجوز استنقاذ ماله، فإنّها إنّما صدرت من الصادق «ع» في الكوفة، فكانت هي و نواحيها في ذلك الوقت خالية عن الحربيين لدخول غير المسلمين فيها بأجمعهم تحت الذّمة و الأمان.» «1»

أقول: ينبغي الإشارة إلى نكات: الأولى: لعله أراد بغير المستحلّ الذي يجوز استنقاذ ماله النواصب مثلا، حيث يظهر من بعض الأخبار عدم احترام مال الناصب و أنه يجوز أخذ ماله و تملكه بعد إعطاء خمسه.

الثانية: الظاهر أنّ قوله: «إنما صدرت من الصادق «ع» في الكوفة» تخرّص بالغيب، إذ الإمام «ع» كان في المدينة غالبا، و كون الحلبي كوفيا لا يدلّ على صدور الروايات في الكوفة. مضافا إلى ما مرّ من استظهار رجوع روايتي الحلبي في المقام إلى رواية واحدة، و الظاهر من الحسنة أنّ السائل كان غير الحلبي و الحلبي كان حاضرا فسمعها، فلعلّ السائل كان من بلاد يوجد فيه الحربيّون.

الثالثة: قد يقال: إنّ مفروض كلام العلامة استنقاذ

مال الكافر برضاه، فلا يرد عليه أن مال الذمّي محترم لا يجوز استنقاذه.

و فيه: أنّ المفروض أخذ المال بعنوان البيع، فالرضا مقيد بالمعاملة و مع فرض بطلانها ينتفي الرضا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 75.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 401

الحياة من الصوف و العظم و الشعر و نحوها (1)، و تخصيص المشتري بالمستحلّ لأنّ الداعي له على الاشتراء اللحم أيضا، و لا يوجب ذلك فساد البيع ما لم يقع العقد عليه (2).

[حكم بيع ما يقطع من أليات الغنم]

و في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي صاحب الرضا «ع» قال:

سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء، أ يصلح

______________________________

(1) الظاهر أنّ مراده توافق البائع و المشتري على وقوع العقد على هذه الأجزاء و إن كان داعي المشتري أعمّ منها، و إلّا فمجرد قصد البائع لا يصحح المعاملة ما لم يتوافق المتعاملان في القصد.

و في مصباح الفقاهة قال: «الظاهر أن هذا الرأي إنما نشأ من عدم ملاحظة الروايتين، فإنّه- مضافا إلى إطلاقهما و عدم وجود ما يصلح لتقييدهما- إنّ الحسنة إنما اشتملت على اختلاط المذكّى بالميتة من الغنم و البقر، و بديهي أنه ليس في البقر من الأجزاء التي لا تحلّها الحياة شي ء يمكن الانتفاع به حتّى يتوهم حمل الروايتين على ذلك.» «1»

(2) في حاشية المحقق الإيرواني «ره»: «الاشتراء بداعي الحرام فاسد عند المصنّف مندرج في الأكل بالباطل، و سيجي ء التعرض له في شراء الجارية المغنية و غيره.» «2»

أقول: بل الظاهر من المصنّف في تلك المسألة أيضا أن ما كان على وجه الداعي لا يوجب حرمة المعاوضة، فراجع. «3»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 75.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 6.

(3) راجع المكاسب المحرمة للشيخ الأنصاري/ 16، النوع الثانى، القسم الثانى.

دراسات في

المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 402

أن ينتفع بها؟ قال: «نعم يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها.» (1)

و استوجه في الكفاية العمل بها (2) تبعا لما حكاه الشهيد عن العلّامة في بعض أقواله (3).

______________________________

(1) راجع السرائر «1» و الوسائل «2».

(2) لم أعثر في الكفاية بالنسبة إلى هذه المسألة إلّا على هذه العبارة: «و المعروف من مذهبهم أنّ كل ما أبين من حيّ فهو ميتة يحرم أكله و استعماله، و كذا ما يقطع من أليات الغنم، و على الأخير يدلّ أخبار ضعيفة. و في كلامهم أنّه لا يجوز الاستصباح به بخلاف الدهن النجس بوقوع النجاسة.» «3»

و ظاهر كلامه هذا إشكاله في المسألة.

و في تجارة الكفاية قال: «و في رواية أبي القاسم الصيقل و ولده دلالة على جواز بيع ما يتّخذ من جلود الميتة للسيوف و شرائها. و الحكم لا يخلو عن إشكال.» «4»

فهو في مسألة الميتة و القطعة المبانة من الحيّ كليهما مردّد غير جازم.

(3) في مفتاح الكرامة قال: «و حكى الشهيد في حواشيه على الكتاب أنّه نقل عن المصنف في حلقة الدرس أنّه جوّز الاستصباح بأليات الغنم المقطوعة تحت السماء.» «5»

______________________________

(1) راجع «مستطرفات» السرائر 3/ 573؛ و عنه الوسائل 16/ 296 (ط. أخرى 16/ 360)، الباب 30.

من أبواب الذبائح، الحديث 4 و فيهما: «بما قطع» بدل: «بها».

(2) راجع «مستطرفات» السرائر 3/ 573؛ و عنه الوسائل 16/ 296 (ط. أخرى 16/ 360)، الباب 30.

من أبواب الذبائح، الحديث 4 و فيهما: «بما قطع» بدل: «بها».

(3) كفاية الأحكام/ 250، كتاب الأطعمة و الأشربة، الفصل الخامس، المسألة 2.

(4) المصدر السابق/ 84، كتاب التجارة، المقصد الثانى، المبحث الأوّل.

(5) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل

الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 403

و الرواية شاذّة (1)، ذكر الحلي بعد إيرادها: «أنها من نوادر الأخبار، و الإجماع منعقد على تحريم الميتة و التصرف فيها على كل حال إلّا أكلها للمضطر.» (2)

______________________________

(1) في مصباح الفقاهة: «لا يضرّ شذوذها بحجيتها بعد فرض صحّتها. و الإجماع المحصّل على حرمة التصرّف في الميتة غير ثابت، و المنقول منه مع تصريح جماعة من الفقهاء بالجواز غير حجة ...» «1»

أقول: إن ثبت الإعراض القطعي عن الخبر أضرّ بحجيته عندنا و إن كان في غاية الصحّة، بل كلّما ازداد حينئذ صحة ازداد ضعفا، و لكن قد مرّ منّا بالتفصيل جواز الانتفاع بالميتة و إفتاء جمع من الأصحاب بذلك و بنينا على ذلك جواز بيعها أيضا فلا نعيد.

(2) راجع السرائر 3/ 574.

أقول: البحث في الفرع الأوّل من الفرعين كان في حكم المختلط من المذكّى و الميتة.

و رواية البزنطي و ما بعدها لا تناسب بحث المختلط. و البحث عن حكم الميتة انتفاعا و بيعا قد مرّ من المصنّف و منّا أيضا فلا وجه لإعادته. و لعلّ طرح المصنّف البحث هنا كان بداعي بيان أنّ القطعة المبانة من الحيّ أيضا محكومة بحكم الميتة، و لكن كان المناسب ذكر ذلك في خاتمة بحث الميتة لا في بحث المختلط.

و كيف كان فالظاهر عدم الإشكال في أنّ القطعة المبانة من الحيّ تكون بحكم الميتة.

و ربما يشهد لذلك- مضافا إلى اتفاق الأصحاب و ما ورد فيها من الأخبار المستفيضة-: أن الموت عبارة عن زوال الحياة، و الحياة سارية في أجزاء الحيوان، فكل جزء منه كان مشتملا على الحياة و آثارها يصدق عليه الميتة بعد انقطاع الحياة عنه و إن بقيت في سائر الأجزاء، فتأمّل. هذا.

______________________________

(1)

مصباح الفقاهة 1/ 75.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 404

أقول: مع أنها معارضة بما دلّ على المنع من موردها معلّلا بقوله «ع»:

«أما علمت أنّه يصيب الثوب و اليد و هو حرام؟» (1)، و مع الإغماض

______________________________

و قد تعرّض لمسألة بيع القطعة المبانة في تجارة الحدائق فقال: «الرابع: ما اشتملت عليه الأخبار المتقدمة من تحريم الميتة و أنّ ثمنها سحت، المراد به ما ينجس بالموت ممّا له نفس سائلة، فيشمل ما قطع من جسده حيا كان أو ميتا. و أمّا تخصيص صاحب المسالك و مثله صاحب المعالم ذلك بجسد الميّت دون الأجزاء فهو ضعيف. و قد تقدم البحث معهما في ذلك في كتاب الطهارة في بحث النجاسات، و قد أوردنا جملة من الأخبار الصحيحة الصريحة فيما ذكرناه ... و المشهور في كلام الأصحاب تحريم الاستصباح بما قطع من أليات الغنم بناء على ما ذكرناه من أنّها ميتة و الميتة لا ينتفع بشي ء منها مما تحلّه الحياة.

و نقل الشهيد عن العلّامة جواز الاستصباح به تحت السماء. ثم قال: و هو ضعيف إلّا أنّه روى ابن إدريس في السرائر عن جامع البزنطي عن الرضا «ع» ... و ظاهر شيخنا المجلسي «ره» في البحار الميل إلى العمل بهذه الرواية، حيث قال- بعد نقل الخلاف في هذه المسألة-: و الجواز عندي أقوى لدلالة الخبر الصحيح المؤيد بالأصل على الجواز، و ضعف حجة المانع إذ المتبادر من تحريم الميتة تحريم أكلها كما حقق في موضعه، و الإجماع ممنوع.» «1»

و راجع في حكم نجاسة القطعة المبانة و الأخبار الواردة فيها طهارة الحدائق «2».

(1) أراد بذلك خبر الوشاء، قال: سألت أبا الحسن «ع» فقلت: جعلت فداك إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم

فيقطعونها؟ قال: «هي حرام.» قلت: فنصطبح بها؟ قال:

«أما تعلم أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟» «3»

______________________________

(1) الحدائق 18/ 77، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة.

(2) راجع الحدائق 5/ 72، الباب الخامس، المقصد الأوّل، الفصل الخامس، المسألة 2.

(3) الوسائل 16/ 295 (ط. أخرى 16/ 359)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 405

عن المرجحات يرجع إلى عموم ما دلّ على المنع عن الانتفاع بالميتة مطلقا (1). مع أنّ الصحيحة صريحة في المنع عن البيع إلّا أن تحمل على إرادة البيع من غير الإعلام بالنجاسة.

______________________________

أقول: الظاهر أنّ السؤال الأوّل ناظر إلى أنّ القطعة المقطوعة بحكم الميتة أو المذكّى.

و الجواب يبيّن كونها بحكم الميتة التي ثبت بالكتاب حرمتها و بالسنة نجاستها من ذي النفس السائلة و الحكمان متلازمان فيها عند المتشرعة.

و السؤال الثاني وقع عن حكم الاصطباح بها بعد وضوح كونها بحكم الميتة.

و الإمام «ع» لم ينه عنه و إنّما أرشد إلى أنّه يوجب تلوّث البدن و الثوب بها حال كونها حراما و نجسا فيكون ضرره أكثر من نفعه، فكلامه الأخير إرشاد محض و ليس حكما تحريميا. و الواو في قوله: «و هو حرام» للحال، و الضمير عائد إلى الجزء المقطوع، و يراد بحرمته نجاسته أو مانعيته للصلاة و نحوها. و قد مرّ جواز استعمال لفظ الحرمة في الأحكام الوضعية أيضا و شيوع ذلك في الكتاب و السنّة.

و لا يراد به حرمة إصابة الثوب و البدن، لوضوح عدم حرمة ذلك. و على هذا فلا يصلح الخبر لمعارضة خبر البزنطي. و بذلك أشار صاحب الوسائل أيضا حيث قال بعد نقل الخبر: «هذا لا يدل على تحريم الاستصباح بالأليات مع اجتناب نجاستها.»

(1) قد

مرّ منّا جواز الانتفاع بالميتة في غير مثل الأكل و نحوه، و به أفتى كثير من أصحابنا. و المقصود بالأخبار المانعة المنع عن الانتفاع بها نحو ما ينتفع بالمذكّى. و إذا جاز الانتفاع بها جاز بيعها لذلك أيضا، لما مرّ من الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي ء و صيرورته بذلك مالا و ملكا و بين جواز المعاملة عليه إجمالا. و النهي عن البيع في خبر البزنطي يراد به النهي عن البيع بقصد الأكل و نحوه أو بدون الإعلام بالنجاسة، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 406

[الفرع الثاني: المعاوضة على الميتة من غير ذي النفس السائلة]

الثاني: أنّ الميتة من غير ذي النفس السائلة يجوز المعاوضة عليها إذا كانت مما ينتفع بها أو ببعض أجزائها كدهن السمك الميتة للإسراج و التدهين، لوجود المقتضي و عدم المانع، لأنّ أدلّة عدم الانتفاع بالميتة مختصّة بالنجسة (1). و صرّح بما ذكرنا جماعة، و الظاهر أنه مما لا خلاف فيه.

______________________________

(1) أقول: المشهور بين أصحابنا و كذا بين أهل الخلاف طهارة الميتة مما ليس له نفس سائلة. و يدلّ على ذلك الأخبار الواردة من طرق الفريقين:

منها: موثقة حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه «ع»، عن أبيه «ع»، قال: «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة.» «1»

و في موثقة عمار- بعد السؤال عما يموت في البئر أو الزيت أو السمن-: «كل ما ليس له دم فلا بأس.» «2»

و روى البيهقي بسنده عن سلمان، قال: قال النبي «ص»: «يا سلمان، كلّ طعام و شراب وقعت فيه دابّة ليس لها دم فماتت فهو الحلال أكله و شربه و وضوؤه.» «3»

و يظهر من نهاية الشيخ «4» و المهذّب لابن البراج «5» نجاسة ما يموت فيه العقرب أو الوزغ. راجع المختلف أيضا

«6».

______________________________

(1) الوسائل 2/ 1051، الباب 35 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل 2/ 1051، الباب 35 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(3) سنن البيهقى 1/ 253، كتاب الطهارة، باب ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء القليل.

(4) راجع النهاية/ 6، كتاب الطهارة، باب المياه و أحكامها.

(5) راجع المهذّب 1/ 25، كتاب الطهارة، أسآر الحيوان.

(6) المختلف/ 58، باب النجاسات و أحكامها، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 407

..........

______________________________

و في الفقه على المذاهب الأربعة: «الشافعية قالوا بنجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة إلّا ميتة الجراد.» «1»

و الظاهر عدم إرادتهم حيوانات البحر، لما رواه الشافعي و غيره عن رسول اللّه «ص» في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته.» «2» إذ الحلال لا يكون نجسا قطعا. و تفصيل المسألة يطلب من كتاب الطهارة.

و كيف كان فلو قيل بنجاسة ميتة ما لا نفس له فيمكن أن يقال بشمول الروايات السابقة الواردة في حكم الميتة انتفاعا و بيعا و كون ثمنها سحتا لها أيضا. و يمكن أن يقال بانصرافها عنها، إذ مورد كثير منها الغنم و السخلة و السباع و الجلود و الأليات و نحوها، فتأمّل.

نعم، لو قيل بحرمة بيع كلّ نجس كما هو الظاهر من كثير من أصحابنا و من المخالفين أيضا كان مقتضى ذلك حرمة بيعها أيضا.

و في الفقه على المذاهب الأربعة: «الشافعية قالوا: لا يصحّ بيع كلّ نجس.» «3»

و أمّا على المشهور من عدم نجاستها فاختار المصنف جواز المعاوضة عليها مع وجود المنفعة العقلائية لها، لتحقق المالية عرفا و عموم أدلّة العقود و انتفاء المانع أعني النجاسة.

و أدلّة عدم الانتفاع بالميتة مختصّة بالنجسة، لما مرّ من كون موارد رواياته الغنم و السخلة و السباع

و الجلود و الأليات مما تختص بما له نفس سائلة.

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 10، كتاب الطهارة، مبحث الأعيان النجسة.

(2) سنن البيهقى 1/ 3، كتاب الطهارة، باب التطهير بماء البحر.

(3) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 232، كتاب البيع، مبحث النجس و المتنجس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 408

..........

______________________________

و ناقش في ذلك المحقق الشيرازي في حاشيته بما ملخّصه: «يمكن أن يقال: إنّه و لو سلّم الاختصاص المزبور لكن ما دلّ على عدم جواز بيع الميتة و أنّ ثمنها سحت لا اختصاص لها بما يحرم الانتفاع به و لا دليل على اختصاصها بالنجسة مع الإطلاق المقتضي للعموم. و دعوى الانصراف إلى خصوص النجسة يمكن منعها، لكثرة الميتات الطاهرة من السموك و غيرها، مضافا إلى منع كون القلّة موجبا للانصراف.» «1»

أقول: يمكن أن تؤيد المناقشة المذكورة بوجهين آخرين: الأوّل: الاستدلال بالنبوي المشهور: «إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه.» «2»

الثاني: أنّ البيع المذكور مظنّة الإعانة على الإثم لاحتمال أن تصرف الميتة المشتراة في الأكل و نحوه من المصارف المحرّمة، فالمناسب تحريم بيعها حسما لمادّة الفساد. هذا.

و لكن مع ذلك كلّه لا نفتي بحرمة المعاوضة و فسادها بعد جواز الانتفاع بها و لو بمقتضى أصالة الحلّ. و قد مرّ منّا في الميتات النجسة أيضا اختيار جواز الانتفاع بها في غير الأكل و نحوه، و به أفتى كثير من الأصحاب، و كذا جواز بيعها بقصد الانتفاعات المحلّلة، و منعنا صدق الإعانة على الإثم حتّى مع العلم بصرف المشتري إياها في الحرام ما لم يقع البيع بهذا الداعي، إذ وزانه حينئذ وزان بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا، و قد وردت روايات صحيحة

على جوازه و صحّته كما سيجي ء في محلّه.

و إذا كان هذا حكم الميتات النجسة ففي الطاهرة التي حلّ الانتفاع بها جاز البيع بطريق أولى، إذ بعد ما حلّ الانتفاع بها صارت بذلك مالا يرغب فيه، و ليست المعاملات أمورا تعبدية صرفة أبدعها الشرع لمصالح سرّية لا يعلمها إلّا اللّه- تعالى- نظير الصلاة و الحج و نحوهما، بل هي أمور عقلائية اخترعوها بينهم لتبادل الأعيان و المنافع حسب

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 12.

(2) سنن أبى داود 2/ 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 409

..........

______________________________

الحاجات، و يكفي في الحكم بصحتها عدم ردع الشارع عنها، مضافا إلى عموم أدلة العقود. و قد استظهرنا سابقا من روايات تحف العقول و الرضوي و الدعائم إناطة فساد المعاملة بعدم وجود المنافع المحلّلة و صحتها بوجودها و أن ما هو صلاح للناس و قوام لهم حلّ عمله و بيعه و شراؤه، فراجع.

و ما دلّ على كون ثمن الميتة من السحت ذكرت الميتة فيها في عداد الخمر و الخنزير و نحوهما من الأعيان النجسة، فيمكن القول بانصرافها إلى الميتات النجسة، مضافا إلى ما مرّ بالتفصيل من منع ظهور لفظ السحت في الحرمة مع كثرة استعماله في المكاسب المكروهة لابتذال المتعلق و رداءته كالحجامة و نحوها.

و أمّا النبويّ فالمشهور في نقله وجود كلمة الأكل، و لا يمكن الالتزام بفساد المعاملة على كلّ ما حرم أكله، فلا بد من حمله على ما تعارف أكله و وقع بيعه بهذا الداعي. و لو سلّم عدم وجود كلمة الأكل فيه فظاهر إسناد الحرمة المطلقة إلى الشي ء حرمة جميع منافعه، إذ لا يصحّ إطلاق الحرمة على الذات بلحاظ حرمة بعض منافعه،

فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 410

[المسألة السادسة: بيع كلب الهراش و الخنزير البرّيين]
اشارة

السادسة: يحرم التكسب بالكلب الهراش و الخنزير البرّيين (1) إجماعا

______________________________

6- بيع كلب الهراش و الخنزير البرّيين

[في معنى الهراش]

(1) قال في النهاية: «فيه: يتهارشون تهارش الكلاب، أي: يتقاتلون و يتواثبون.

و التهريش بين الناس كالتحريش.» «1»

و في لغة: حرش منه: «و فيه: أنّه نهى عن التحريش بين البهائم، هو الإغراء و تهييج بعضها على بعض كما يفعل بين الجمال و الكباش و الديوك و غيرها.» «2»

و في القاموس: «هرش كفرح: ساء خلقه. و التهريش: التحريش بين الكلاب و الإفساد بين الناس.» «3»

أقول: و قيّدهما المصنّف بالبرّيين، لاختياره طهارة البحريين منهما تبعا للمشهور، لانصراف إطلاقهما عن البحريين منهما.

و لصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سأل أبا عبد اللّه «ع» رجل و أنا عنده عن جلود الخزّ. فقال: ليس بها بأس. فقال الرجل: جعلت فداك إنّها علاجي (في بلادي) و إنّما

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 5/ 260.

(2) نفس المصدر 1/ 368.

(3) القاموس المحيط 2/ 293.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 411

على الظاهر المصرّح به في المحكي عن جماعة، و كذلك أجزاؤهما (1).

______________________________

هي كلاب تخرج من الماء. فقال أبو عبد اللّه «ع»: إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا. قال: ليس به بأس. «1»

قال الشيخ في طهارته بعد نقلها: «و في التعليل إشارة إلى طهارة الخنزير البحري أيضا.» «2»

و في مصباح الفقاهة: «بل الظاهر أنّهما من أقسام السمك الغير المأكول، فيكونان خارجين عما نحن فيه تخصّصا.» «3» هذا.

و تحقيق المسألة موكول إلى كتاب الطهارة.

(1) البحث في المسألة يقع في ثلاثة مقامات: الأوّل في بيع الكلب. الثاني في بيع الخنزير. الثالث في بيع أجزائهما:

1- البحث في بيع الكلب
[كلمات الفقهاء في المقام]

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 302): «يجوز بيع كلاب الصيد. و يجب على قاتلها قيمتها إذا كانت معلّمة. و لا يجوز بيع غير الكلب المعلّم على حال.

و قال أبو حنيفة و مالك: يجوز بيع الكلاب مطلقا إلّا أنّه مكروه، فإن باعه صح البيع و وجب الثمن، و إن أتلفه متلف لزمته قيمته. و قال الشافعي: لا يجوز بيع الكلاب معلّمة كانت أو غير معلّمة، و لا يجب على قاتلها القيمة.

______________________________

(1) الوسائل 3/ 263، الباب 10 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 1.

(2) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري/ 347، النظر السادس- النجاسات.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 77.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 412

..........

______________________________

دليلنا: إجماع الفرقة، فإنّهم لا يختلفون فيه، و يدلّ على ذلك أيضا قوله- تعالى-:

وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ، و قوله: إلّٰا أَنْ تَكُونَ تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ. و لم يفصّل. و روى جابر أنّ النبي «ص» نهى عن ثمن الكلب و السنّور إلّا كلب الصيد. و هذا نصّ.» «1»

أقول: الظاهر رجوع الإجماع- بقرينة الأدلّة التي بعده- إلى الحكم الأوّل فقط أعني جواز بيع كلاب الصيد.

2- و في النهاية في عداد المكاسب المحظورة: «و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيا للصيد.» «2»

3- و في المقنعة: «و ثمن الكلب حرام إلّا ما كان سلوقيا للصّيد.» «3»

أقول: في المنتهى: «عنى بالسلوقي كلب الصيد، لأنّ سلوق قرية باليمن أكثر كلابها معلّمة فنسب الكلب إليها.» «4»

4- و في المنتهى: «و قد أجمع علماؤنا على تحريم ما عدا كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط من الكلاب، و على جواز بيع كلب الصيد، و اختلفوا في الثلاثة الباقية ...» «5»

5- و في التذكرة: «الكلب إن كان عقورا حرم بيعه عند علمائنا، و به قال الحسن و ربيعة و حماد و الأوزاعي و الشافعي و داود و أحمد. و عن أبي حنيفة روايتان. و بعض أصحاب مالك منعه لأنّ

النبيّ «ص» نهى عن ثمن الكلب ...» «6»

______________________________

(1) الخلاف 3/ 181 (ط. أخرى 2/ 80).

(2) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) المقنعة/ 589، [كتاب التجارة]، باب المكاسب.

(4) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل، النوع الأوّل.

(5) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل، النوع الأوّل.

(6) التذكرة 2/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 413

..........

______________________________

أقول: الظاهر أنّ العقور و الهراش متقاربان معنى. و طبع الكلب هو التكالب و الهجوم و الإيذاء، و قد يصل في ذلك إلى حدّ يصير مرضا ساريا إلى من يعضّه الكلب و يسمّى داء الكلب. و لعلّه الحكمة في إسقاط ماليته شرعا و المنع عن بيعه و الترغيب في قتله و إعدامه، كما وردت به الروايات «1». و لكن إذا فرض وقوعه تحت الرياضة و التربية الصحيحة و صارت هجمته تحت الضابطة و الهداية من الإنسان صار وجوده نافعا للصيد أو الحراسة أو نحوهما، فصار مالا قابلا للنقل و الانتقال عرفا بل شرعا، لما مرّ منّا من أنّ تحقق المنافع المحلّلة الموجبة للمالية ملازم لجواز النقل إجمالا. فهو بنحو ما يشبه القوة الغضبية في الإنسان، حيث إنّ إطلاقها مضرّ جدّا، و لكن يترتب على وجودها فوائد كثيرة إذا فرض انضباطها و وقوعها تحت سيطرة العقل و هدايته.

6- و في المستند: «و منها: الخنزير و الكلب، و حرمة التكسب بهما إجماعية كما صرّح به جماعة.» «2»

7- و في مختصر الخرقي في فقه الحنابلة: «و بيع الكلب باطل و إن كان معلّما.»

و ذيّله في المغني بقوله: «لا يختلف المذهب في أن بيع الكلب باطل أيّ كلب كان.

و

به قال الحسن و ربيعة و حمّاد و الأوزاعي و الشافعي و داود، و كره أبو هريرة ثمن الكلب.

و رخّص في ثمن كلب الصيد خاصّة جابر بن عبد اللّه و عطاء و النخعي. و جوّز أبو حنيفة بيع الكلاب كلّها و أخذ أثمانها، و عنه رواية في الكلب العقور أنّه لا يجوز

______________________________

(1) راجع الوسائل 8/ 389، الباب 46 من أبواب أحكام الدوابّ؛ و 16/ 249 و 251 (ط. أخرى 16/ 300 و 305)، البابان 40 و 45 من أبواب الصيد.

(2) مستند الشيعة 2/ 334، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 414

..........

______________________________

بيعه. و اختلف أصحاب مالك، فمنهم من قال: لا يجوز، و منهم من قال: الكلب المأذون في إمساكه يجوز بيعه و يكره. و احتجّ من أجاز بيعه بما روي عن جابر أنّ النبي «ص»:

«نهى عن ثمن الكلب و السنّور إلّا كلب الصيد.» و لأنه يباح الانتفاع به و يصحّ نقل اليد فيه و الوصية به فصحّ بيعه كالحمار.» «1»

8- و في الفقه على المذاهب الأربعة: عن المالكية: «لا يصحّ بيع الكلب مع كونه طاهرا، سواء كان كلب صيد أو حراسة أو غيرهما، لورود النهي عن بيعه شرعا.»

و عن الحنابلة: «لا يصحّ بيع الكلب سواء كان كلب صيد و نحوه أو لا.»

و عن الشافعية: «لا يصحّ بيع كلّ نجس كالخنزير و الخمر و الزبل و الكلب و لو كان كلب صيد.»

و عن الحنيفة: «يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح.» «2»

أقول: محلّ البحث هنا هو المنع عن بيعه إجمالا، و أنت ترى تطابق فتاوى الفريقين عليه. و أمّا المستثنيات من

ذلك فسيجي ء البحث فيها عند تعرّض المصنف لها.

[الاستدلال للمنع بالأخبار]

و استدلّوا للمنع بوجهين: الأوّل: الإجماع المنقول في كلام جماعة. الثاني: الأخبار الواردة من طرق الفريقين.

و لا يخفى أنّ العمدة هي الأخبار، لاحتمال كون الإجماع مدركيا ناشئا عن الأخبار الواردة فلا اعتبار به بنفسه عندنا. فلنتعرض للأخبار الواردة:

1- موثقة محمد بن مسلم و عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه بن أبي عبد اللّه «ع»،

______________________________

(1) المغنى 4/ 300، كتاب البيوع، باب المصراة و غير ذلك.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231- 232، كتاب البيع، مبحث النجس و المتنجس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 415

..........

______________________________

قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت.» ثم قال: «و لا بأس بثمن الهرّ.» «1»

أقول: من المحتمل جدّا أن يكون ذكر الصيد من باب المثال، فيراد منع بيع الكلب الذي لا يترتب على وجوده فائدة عقلائية. أو يقال: إنّ مفاد الصيد لا يختصّ بالهجوم على حلال اللحم بل يراد به الهجمة على ما أراد صاحبه التكالب عليه سواء كان إنسانا أو حيوانا حلال اللحم أو حرامه، فيشمل الصيود كلاب الحراسة و التفتيش أيضا.

2- ما عن الكليني بسنده عن أبي عبد اللّه العامري، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن ثمن الكلب الذي لا يصيد، فقال: «سحت. و أمّا الصيود فلا باس.» و عن الشيخ بسنده عن الوليد العماري مثله. «2»

و الرجلان مجهولان «3» و من المحتمل اتحادهما بأن يكون الوليد اسما لأبي عبد اللّه و أحد اللقبين مصحّفا عن الآخر.

3- خبر أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن ثمن كلب الصيد. قال: «لا بأس بثمنه، و الآخر لا يحلّ ثمنه.» «4»

4- خبره الآخر عنه «ع» أن رسول اللّه «ص» قال: «ثمن الخمر

و مهر البغيّ و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت.» «5»

5- خبر جرّاح المدائني، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «من أكل السّحت ثمن الخمر.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(2) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 عن الكافي 5/ 125، و الحديث 7 عن التهذيب 6/ 367. و فيه: «العامري» بدل «العماري». و الظاهر أنّ للحديث بنقل الكلينى سندين اختلطا.

(3) راجع تنقيح المقال 3/ 280؛ و لم يعنون أبو عبد اللّه العامري فيه.

(4) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 5.

(5) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 416

..........

______________________________

و نهى عن ثمن الكلب.» «1»

أقول: ظاهر الرواية إطلاق النهي بحيث يعمّ كلب الصيد أيضا، و لكن السند ضعيف، و في المتن أيضا شي ء إذ لا يعلم وجه تغيير السبك فيه.

6- معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخنزير و مهر البغيّ و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.»

و نحوها خبر وصايا النبي «ص» لعليّ «ع» و راجع مرسلة الصدوق أيضا. «2»

قال الأستاذ الإمام بعد نقل خبر السكوني و خبر الوصايا ما محصّله: «يمكن منع الإطلاق فيهما و ما أشبههما مما يكون في مقام تعداد جملة من السحت أو المنهي عنه، إذ ليستا في مقام بيان حكم كلّ واحد من العناوين، بل بصدد التعداد إجمالا. نظير أن يقال: في الشرع محرّمات: الكذب و الغيبة و التهمة و الربا. أو في الشرع واجبات: الصلاة و الزكاة و الحج. فإنّه

لا يصحّ أخذ الإطلاق في هذه الموارد يرجع إليه عند الشك في جزئية شي ء أو شرطية لأحدها. فالروايتان في المقام بصدد بيان موارد السحت إجمالا لا بيان حكم كلّ واحد منها بإطلاقه.» «3»

7- خبر الوشّاء، قال: سئل أبو الحسن الرضا «ع» عن شراء المغنية. قال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه و ما ثمنها إلّا ثمن كلب. و ثمن الكلب سحت و السحت في النار.» «4»

______________________________

(1) نفس المصدر 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) نفس المصدر 12/ 63- 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الأحاديث 5 و 9 و 8.

(3) المكاسب المحرمة 1/ 66.

(4) الوسائل 12/ 88، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 417

..........

______________________________

و روى في الوسائل قطعة منه في باب بيع الكلب «1» و بدّل الوشّاء بالقاساني، و الظاهر أنه اشتباه. كما أن ما رواه عن العياشي في هذا الباب «2» أيضا قطعة منها.

و الرواية بصدد بيان حكم الجارية المغنية لا الكلب، بل جعل حكمه مفروغا عنه، فلا يستفاد منها حكم الكلب بإطلاقه و إنما يستفاد منها حرمته إجمالا.

8- صحيحة إبراهيم بن أبي البلاد المروية عن قرب الإسناد، قال: قلت لأبي الحسن الأوّل «ع»: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك عنده جواز مغنّيات قيمتهن أربعة عشر ألف دينار، و قد جعل لك ثلثها. فقال: «لا حاجة لي فيها، إنّ ثمن الكلب و المغنية سحت.» «3»

و يمكن منع الإطلاق في هذه الرواية أيضا، إذ الكلام كان في الجارية المغنية، و إنما ذكر في الجواب الكلب لتحقير المغنية و ثمنها و أنّ ثمنها نظير ثمن الكلب، فلا يستفاد منها حكم الكلب

بإطلاقه، فتأمّل.

إلى غير ذلك من أخبارنا الواردة في حكم الكلب المتفرقة في الأبواب المختلفة.

و المستفاد من جميعها بعد إرجاع بعضها إلى بعض و لو بحمل المطلق منها على فرض وجوده على المقيّد أمران:

الأوّل: حرمة بيع بعض الكلاب إجمالا. الثاني: عدم حرمة بيع الصيود منه، و كلتا المسألتين إجماعيتان عندنا.

9- و في آخر البيوع من البخاري- باب ثمن الكلب- بسنده عن أبي مسعود

______________________________

(1) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) نفس المصدر 12/ 84، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(3) الوسائل 12/ 87، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 418

..........

______________________________

الأنصاري أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن ثمن الكلب و مهر البغيّ و حلوان الكاهن» «1» و رواه البيهقي أيضا. «2»

10- و فيه أيضا بسنده عن عون بن أبي جحيفة، قال: رأيت أبي اشترى حجّاما فسألته عن ذلك، قال: إنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن ثمن الدّم و ثمن الكلب و كسب الأمة الحديث.» «3»

و رواه البيهقي عن عون بن أبي جحيفة هكذا: سمعت أبي و اشترى غلاما حجّاما، فعمد إلى المحاجم فكسرها و قال: إنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن ثمن الدم و ثمن الكلب و مهر البغي. الحديث.» «4»

و هذا النقل يفسّر نقل البخاري.

11- و روى البيهقي بسنده عن رافع بن خديج، قال: قال رسول اللّه «ص»: «كسب الحجام خبيث، و كسب البغي خبيث، و ثمن الكلب خبيث.» رواه مسلم في الصحيح «5».

أقول: الخبيث عبارة أخرى عن السحت.

12- البيهقي بسنده عن ابن عباس، قال: «نهى رسول اللّه «ص» عن ثمن الخمر و مهر البغيّ و ثمن الكلب.»

و قال: «إذا جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفّه ترابا.» «6»

______________________________

(1) صحيح البخاري 2/ 29.

(2) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

(3) صحيح البخاري 2/ 29، كتاب البيوع، باب ثمن الكلب.

(4) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

(5) نفس المصدر 6/ 6.

(6) نفس المصدر 6/ 6.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 419

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 419

..........

______________________________

13- البيهقي بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: «لا يحلّ ثمن الكلب و لا حلوان الكاهن و لا مهر البغيّ.» «1»

14- البيهقي بسنده عن أبي هريرة أيضا عن النبي «ص»: «ثلاث كلّهن سحت.»

فذكر كسب الحجّام، و مهر البغيّ، و ثمن الكلب إلّا كلبا ضاريا. «2»

أقول: ضرى الكلب بالصيد تعوّده و أولع به، فيراد بالكلب الضاري: الصيود منه، في قبال الكلاب المهملة غير النافعة.

و في رواية أخرى عن أبي هريرة: «نهى عن مهر البغيّ ... و عن الكلب إلّا كلب صيد.» «3» إلّا أنّه لم يسنده إلى النبي «ص» صريحا، إلّا أن يقال برجوع الضمير إليه «ص».

15- البيهقي بسنده عن جابر، قال: «نهى عن ثمن الكلب و السنّور إلّا كلب صيد.» «4» هكذا رووه عن جابر، و ليس فيه الإسناد إلى النبي «ص»، إلّا أن يرجع الضمير إليه.

و بالجملة فأكثر رواياتهم مطلقة ليس فيها استثناء. و ناقش بعضهم في وجود الاستثناء، و لذا أفتوا بالحرمة مطلقا. هذا.

و أكثر الروايات ضعيفة، و لكن فيها الصحيحة و الموثقة أيضا كما مرّ، مضافا إلى أنّ كثرتها و ورودها من طرق

الفريقين ربما توجب الوثوق بصدور بعضها بل تطمئن النفس

______________________________

(1) نفس المصدر 6/ 6.

(2) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

(3) نفس المصدر 6/ 6.

(4) نفس المصدر 6/ 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 420

..........

______________________________

بصدور نهي ما في هذا الباب عن النبيّ «ص».

و لكن ربما يوهن الاستدلال بها على الحرمة ذكر ثمن الكلب في سياق ثمن الدم و كسب الحجّام المراد بهما على الظاهر معنى واحد. و قد مرّ في بعض المباحث السابقة كثرة إطلاق لفظ السحت في المكروهات كأجر الحجّام و ثمن اللقاح و أجر القارئ و نحو ذلك. و فسّروه بمطلق ما فيه عار و خسّة لا يناسبان شئون الإنسان. و لكن الظاهر منه مع ذلك الحرمة ما لم يثبت دليل على الترخيص كما ورد في كسب الحجام، فتدبّر.

و كيف كان فالعمدة في المسألة الأخبار الواردة. و أمّا الإجماع فيحتمل كونه مدركيا كما مرّ.

قال في مصباح الفقاهة ما ملخصه: «دعوى الإجماع التعبّدي على حرمة بيعه في غير محلّه. لأنّه إن كان المراد بها الحرمة الوضعية فهي و إن كانت مسلّمة و لكن المدرك لها ليس إلّا تلك الأخبار المتكثرة. و إن كان المراد بها الحرمة التكليفية ففيه: أنّ الظاهر انحصار معقد الإجماع بالحرمة الوضعية بل يكفينا الشك في ذلك لكونه دليلا لبّيا لا يؤخذ منه إلّا المقدار المتيقن ...» «1»

أقول: قد مرّ منّا أنّ إطلاق لفظ الحرمة في كلمات القدماء من أصحابنا تبعا للأخبار أو هم المتأخرين أنّهم أرادوا بها الحرمة التكليفية، و لذا أتعبوا أنفسهم بإقامة الدليل عليها في باب المعاملات.

و لكن مرّ منا أنّ لفظ الحرمة و الحلّ يستعملان في الجامع بين التكليف و الوضع أعني

المحدودية و الإطلاق و أنّ محطّ النظر في الروايات و كلمات القدماء في باب المكاسب

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 78.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 421

..........

______________________________

و المعاملات هو الوضع أعني الفساد و الصحة لا الحرمة التكليفية. هذا.

[الاشتراء لإعدام الكلاب المضرّة]

و ينبغي التنبيه على أمر، و هو أنّ الظاهر كون أدلّة الحرمة و الفساد في المقام منصرفة عما إذا أراد المشتري للكلاب المضرّة جمعها و إعدامها لإراحة الناس من شرّها. إلّا أن يقال: إنّ المتعارف في هذه الصورة التوسّل بالإجارة أو الجعالة لا نقل نفس العين بإزاء الثمن.

2- البحث في بيع الخنزير
[كلمات الفقهاء في المقام]

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 308): «لا يجوز بيع شي ء من المسوخ مثل القرد و الخنزير و الدبّ و الثعلب و الأرنب و الذئب و الفيل و غير ذلك ممّا سنبيّنه. و قال الشافعي: كلّ ما ينتفع به يجوز بيعه مثل القرد و الفيل و غير ذلك. دليلنا إجماع الفرقة.

و أيضا قوله «ص»: «إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و هذه الأشياء محرّمة اللحم بلا خلاف إلّا الثعلب فإنّ فيه خلافا، و هذا نصّ.» «1»

أقول: لعلّ فتوى الشيخ «ره» مبنيّة على القول بنجاسة المسوخ، كما اختاره في أطعمة الخلاف و في المبسوط، و هي ممنوعة. و ادعاؤه إجماع الفرقة عجيب، إلّا أن يريد الإجماع على أصل الكبرى أعني حرمة بيع النجس. و استدلاله بالنبوي أيضا محلّ إشكال. إذ على فرض عدم وجود كلمة الأكل فيه كان ظاهر حرمة الشي ء حرمة جميع الانتفاعات منه، و وجود ذلك في المسوخ ممنوع. فما ذكره الشافعي من أنّ كلّ ما ينتفع به يجوز بيعه هو الصحيح.

______________________________

(1) كتاب الخلاف 3/ 184 (ط. أخرى 2/ 81)، كتاب البيوع، بيع القرد.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 422

..........

______________________________

2- و في النهاية في عداد المكاسب المحظورة: «و من ذلك لحم الخنزير، فبيعه و هبته و أكله حرام، و كذلك كلّ ما كان من الخنزير من شعر و جلد و شحم و

غير ذلك.» «1»

3- و في المبسوط: «و إن كان نجس العين مثل الكلب و الخنزير و الفأرة و الخمر و الدم و ما توالد منهم و جميع المسوخ و ما توالد من ذلك أو من أحدهما فلا يجوز بيعه و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال إجماعا إلّا الكلب فإنّ فيه خلافا.» «2»

4- و في التذكرة: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصليّة ... و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا.» «3»

5- و في المنتهى: «قد احتجّ العلماء كافة على تحريم بيع الميتة و الخمر و الخنزير بالنصّ و الإجماع.» «4»

6- و في المستند: «و منها الخنزير و الكلب. و حرمة التكسّب بهما إجماعية كما صرّح به جماعة.» «5»

7- و في المغني لابن قدامة: «و لا يجوز بيع الخنزير و لا الميتة و لا الدّم، قال ابن المنذر:

أجمع أهل العلم على القول به و أجمعوا على تحريم الميتة و الخمر و على أنّ بيع الخنزير و شراءه حرام ...» «6»

______________________________

(1) النهاية/ 363، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(2) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(4) المنتهى 2/ 1008، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل، النوع الأوّل.

(5) مستند الشيعة 2/ 334، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

(6) المغنى 4/ 302، كتاب البيوع، في ذيل حكم قتل الكلب

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 423

..........

______________________________

8- و في الفقه على المذاهب الأربعة حكى عن المذاهب الأربعة عدم صحّة بيع الخنزير «1» و ظاهره إجماعهم على ذلك.

و

كيف كان فاستدلّوا لعدم جواز بيعه بالإجماع و بالأخبار الواردة من طرق الفريقين.

و العمدة هي الأخبار لاحتمال كون الإجماع مدركيّا، و إن كان يظهر من المصنّف اعتماده في هذه المسألة و كذا في مسألة الكلب على الإجماع فقط.

و الأخبار الواردة ثلاث طوائف:
اشارة

الأولى: ما يظهر منها عدم الصحّة مطلقا.

الثانية: ما يظهر منها الصحّة مطلقا.

الثالثة: ما يظهر منها التفصيل بين المسلم و الذمّي أو لم يتعرّض فيها إلّا لحكم المسلم:

أمّا الطائفة الأولى، أعني ما يظهر منها حرمة البيع و فساده بنحو الإطلاق،

فأخبار مستفيضة و إن كانت ضعافا من جهة السند:

1- في رواية تحف العقول التي مرّ ذكرها عدّ من وجوه الحرام من البيع و الشراء البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير و حكم بكونها ممّا فيه الفساد. «2»

2- في كتاب التفسير من الجعفريات بإسناده عن عليّ بن أبي طالب «ع» قال: «من السحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح ... و ثمن الخنزير ...» و رواه عنه في المستدرك «3».

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231 و 232، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

(2) الوسائل 12/ 56، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3) الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد)/ 180؛ و مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 424

..........

______________________________

3- و في دعائم الإسلام: روّينا عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي «ع» أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن بيع الأحرار و عن بيع الميتة و الدّم و الخنزير و الأصنام.

الحديث.» و رواه عنه في المستدرك «1».

4- و في عبارة فقه الرضا التي مرّت عدّ ممّا فيه الفساد لحم الخنزير «2»، و ظاهره حرمة بيعه مطلقا، فراجع.

5- و في البيهقي بإسناده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام. الحديث.» «3»

6- و فيه أيضا بإسناده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه

«ص» قال: «إنّ اللّه- جلّ ثناؤه- حرّم الخمر و ثمنها و حرّم الميتة و ثمنها و حرّم الخنزير و ثمنه.» «4»

7- و فيه أيضا عن ابن عباس قال: «السحت الرشوة في الحكم، و مهر البغيّ، و ثمن الكلب، و ثمن القرد، و ثمن الخنزير، و ثمن الخمر. الحديث.» «5» و الخبر الأخير موقوف لم يرفع إلى النبي «ص».

أقول: هذه الروايات مضافا إلى ضعفها يمكن المناقشة في إطلاقها، لما مرّ من كون أمثالها في مقام تعداد أنواع السحت أو المحرّمات إجمالا و ليست في مقام بيان حكم كلّ واحد من العناوين المذكورة حتّى ينعقد لها الإطلاق.

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2/ 18؛ و مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) فقه الرضا/ 250، باب التجارات و البيوع و المكاسب.

(3) سنن البيهقى 6/ 12، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الخمر و الميتة و الخنزير ...

(4) نفس المصدر.

(5) نفس المصدر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 425

..........

______________________________

هذا مضافا إلى إمكان القول بانصرافها إلى بيان الوظيفة للمسلمين، فلا تعمّ الكفّار المتعارف بينهم أكل الخنزير و الانتفاع به، و احتمال انصرافها أيضا إلى البيع للأكل و نحوه ممّا كان متعارفا بين أهله و وقع النهي عنه في القرآن بهذا اللحاظ دون ما إذا بيع لفوائد محلّلة عقلائية كتربية الخيول و إيجاد النشاط فيها على ما قيل من أنّ أنس الخنزير بالخيل يوجب سمنها و كمالها، و كإطعام الكلاب أو الطيور بلحمه أو التسميد أو استخراج الموادّ الكيمياويّة أو نحو ذلك.

و بالجملة لو قيل بجواز الانتفاع به و لو بأصالة الحلّ فالقاعدة تقتضي جواز بيعه لذلك أيضا، لما مرّ منّا مرارا من الملازمة بين جواز الانتفاع المقوّم

لماليّة الشي ء عرفا و شرعا و بين جواز بيعه لذلك، فتدبّر.

الطائفة الثانية: ما يظهر منها جواز البيع و صحّته مطلقا

و لو كان البائع مسلما:

1- صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه «ع» في الرجل يكون عليه الدراهم فيبيع بها خمرا و خنزيرا ثمّ يقضي منها؟ قال: «لا بأس» أو قال: «خذها.» «1»

2- خبر الخثعمي، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل يكون لنا عليه الدين فيبيع الخمر و الخنازير فيقضينا؟ فقال: «لا بأس به، ليس عليك من ذلك شي ء.» «2»

3- خبر أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل يكون له على الرجل مال فيبيع بين يديه خمرا و خنازير، يأخذ ثمنه؟ قال: «لا بأس.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 171، كتاب التجارة، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(2) الوسائل 12/ 172، كتاب التجارة، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(3) الوسائل 12/ 171، كتاب التجارة، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 426

..........

______________________________

أقول: يستفاد من هذه الأخبار صحّة المعاملة، و إلّا حرم أخذ الثمن و التصرّف فيه.

و ربّما يتراءى من الأوّل و الأخير جوازها بحسب التكليف أيضا. نعم ظاهر الجواب في الخبر الثاني الحرمة التكليفيّة بالنسبة إلى البائع، كما لا يخفى.

و الأظهر حمل هذه الأخبار على كون البائع ذمّيا، لما مرّ من الأخبار المانعة، و لما يأتي من أخبار الطائفة الثالثة، و لأنّه ذكر فيها الخمر أيضا و هي ممّا لا يجوز للمسلم بيعها قطعا لا تكليفا و لا وضعا، و لأنّه يبعد جدّا في عصر الإمام الصادق «ع» وقوع بيع الخمر و الخنازير من ناحية المسلم و في سوق المسلمين.

4- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر «ع»

في رجل كان له على رجل دراهم فباع خمرا و خنازير و هو ينظر فقضاه؟ فقال: «لا بأس به، أمّا للمقتضي فحلال، و أمّا للبائع فحرام.» «1»

و نحوها صحيحة داود بن سرحان أيضا. «2»

و ربّما يناقش فيهما بأنّ البائع إن كان ذمّيا جازت معاملته وضعا و تكليفا، و إن كان مسلما حرمت كذلك فما وجه التفصيل بين البائع و المقتضي؟

و يمكن أن يجاب عن ذلك بحملهما على الذمّي، و لا نسلّم حلّية المعاملة له تكليفا لكونهم مكلفين بالفروع أيضا، غاية الأمر تصحيح معاملاتهم من ناحية الشارع.

و إن شئت قلت: مقتضى الاشتراك في التكليف حرمة معاملتهم في الخمر و الخنازير و فسادها أيضا بالنسبة إليهم فلا يجوز تصرّفهم في ثمنهما، و إنّما أجاز الشارع ذلك

______________________________

(1) الوسائل 12/ 171، كتاب التجارة، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل 13/ 116، كتاب التجارة، الباب 28 من أبواب الدين و القرض، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 427

..........

______________________________

بالنسبة إلى المسلمين المعاشرين لهم تسهيلا، فتأمّل.

الطائفة الثالثة: ما يظهر منها التفصيل بين المسلم و الذمّي

أو لم يتعرّض فيها إلّا لحكم المسلم فقط أو الذمي فقط.

1- ما في الكافي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نجران، عن محمّد بن سنان، عن معاوية بن سعيد، عن الرضا «ع» قال: سألته عن نصراني أسلم و عنده خمر و خنازير و عليه دين هل يبيع خمره و خنازيره فيقضي دينه؟ فقال: لا. «1»

أقول: في الطبع القديم من الكافي كتب ابن أبي عمير فوق ابن أبي نجران بعنوان النسخة.

و في الطبع الجديد منه ذكر ابن سعد بدل ابن سعيد. و الصحيح ابن سعيد كما يظهر من الرجال و لا يخلو هو عن مدح، و كذا

محمّد بن سنان، و إن لم يوثّقا بل ضعّفوا ابن سنان. و في الوسائل ذكر محمّد بن مسكان بدل محمّد بن سنان و الظاهر أنّه اشتباه.

و رواها في الكافي أيضا عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا عن الرضا «ع». «2»

و في الطبع القديم من الكافي كتب فوق ابن أبي عمير ابن أبي نجران بعنوان النسخة.

و الظاهر اتحاد الروايتين و كون المقصود من بعض أصحابنا محمّد بن سنان عن معاوية بن سعيد المذكورين في الرواية الأولى منهما.

و مفاد الرواية عدم جواز بيع المسلم لهما بل عدم صحّته. و لعلّ جواز بيع النصراني لهما إجمالا كان مفروغا عنه و إنما سأل عن بقاء حكم الجواز بعد ما أسلم.

______________________________

(1) الكافى 5/ 231؛ و الوسائل 12/ 167، كتاب التجارة، الباب 57 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) الكافى 5/ 232؛ و الوسائل 12/ 167، نفس الباب و الحديث.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 428

..........

______________________________

2- ما في الكافي أيضا عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرّار، عن يونس في مجوسيّ باع خمرا أو خنازير إلى أجل مسمّى ثم أسلم قبل أن يحلّ المال.

قال: «له دراهمه.» و قال: إن أسلم رجل و له خمر و خنازير ثم مات و هي في ملكه و عليه دين. قال: «يبيع ديّانه أو وليّ له غير مسلم خمره و خنازيره و يقضي دينه، و ليس له أن يبيعه و هو حيّ و لا يمسكه.» «1»

و الظاهر أنّ السند لا بأس به، و لكنّ الرواية موقوفة لم ترفع إلى الإمام «ع»، فيحتمل أن تكون من فتاوى يونس، و لكن يونس بن عبد الرحمن كان

رجلا متعبّدا، فلا محالة أخذها من أهل البيت- عليهم السلام-.

و مفادها التفصيل بين كون البائع لهما مسلما أو ذمّيا فيصحّ في الثاني.

3- ما عن قرب الإسناد، عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: سألته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما خمرا أو خنزيرا إلى أجل فأسلما قبل أن يقبضا الثمن هل يحلّ له ثمنه بعد الإسلام؟ قال: «إنّما له الثمن، فلا بأس أن يأخذه.» «2»

و عبد اللّه بن الحسن مجهول.

و ظاهر الرواية أنّ عدم جواز بيع المسلم لهما كان مركوزا في ذهن السائل، و إنّما سأل عن حكم بيعه لهما قبل الإسلام. و إجازة الإمام «ع» لأخذ الثمن حينئذ تدلّ على صحّة بيع الذمّي لهما و انتقال ثمنهما إليه. و مقتضى الحصر عدم جواز غير أخذ الثمن السابق

______________________________

(1) الكافى 5/ 232؛ و الوسائل 12/ 167، نفس الباب، الحديث 2.

(2) الوسائل 12/ 172، كتاب التجارة، الباب 61 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 429

..........

______________________________

بعد ما أسلم، فلا يجوز له بيعهما بعد الإسلام.

4- و في التهذيب بسند موثوق به عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه «ع» في حديث: و عن رجلين نصرانيين باع أحدهما من صاحبه خمرا أو خنازير ثمّ أسلما قبل أن يقبض الدراهم؟ قال: «لا بأس.» «1»

5- ما في الكافي أيضا عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن فضّال، عن يونس بن يعقوب، عن منصور، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: لي على رجل ذمّي دراهم، فيبيع الخمر و الخنزير و أنا حاضر، فيحلّ لي أخذها؟ فقال: «إنما لك عليه دراهم، فقضاك دراهمك.» «2»

و

منصور مردّد بين عدّة، و لكنّ المظنون أنّه منصور بن حازم، فتكون الرواية موثقة.

و المستفاد منها صحّة بيع الذمّي لهما مطلقا أو بالنسبة إلى المسلم المعاشر له. و لعلّ المركوز في ذهن السائل كان عدم صحّة بيعهما إجمالا، فتأمّل.

[ما يستفاد من الأخبار]

فهذه ثلاث طوائف من الأخبار في بيع الخنزير. و المستفاد من الطائفة الثالثة منها إجمالا هو التفصيل بين كون البائع ذمّيا أو مسلما فيصحّ في الأول دون الثاني.

و يؤيّد ذلك أيضا ما ورد في أخذ الجزية من ثمن خمورهم و خنازيرهم. و المتيقّن من ذلك صحّة معاملاتهم عليهما و جواز ترتيب أثر الملكيّة على المأخوذ منهم و أمّا جواز بيعهم تكليفا فلا.

بل لعلّ المستفاد من بعض الأخبار حرمته تكليفا بل و وضعا أيضا بالنسبة إليهم

______________________________

(1) التهذيب 9/ 116، في الذبائح و الأطعمة، الحديث 237.

(2) الكافى 5/ 232؛ و الوسائل 12/ 171، كتاب التجارة، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 430

..........

______________________________

و إنّما حلّله الشارع لنا تسهيلا، كصحيحة محمّد بن مسلم الماضية، و كصحيحته الأخرى في باب الجزية، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن صدقات أهل الذمّة و ما يؤخذ من جزيتهم من ثمن خمورهم و خنازيرهم و ميتتهم. قال: «عليهم الجزية في أموالهم، تؤخذ من ثمن لحم الخنزير أو خمر. فكلّ ما أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم و ثمنه للمسلمين حلال يأخذونه في جزيتهم.» «1»

و بالجملة فالمستفاد من الطائفة الثالثة في المقام هو التفصيل بين المسلم و الذمّي، فتحمل الطائفتان الأوليان عليها. هذا.

و لكن لو رمينا الروايات الأربع الأول من هذه الطائفة بالضعف أو الوقف و رددناها لذلك فالظاهر أنّ رواية منصور بانفرادها لا

تصلح لأن تكون قرينة للجمع إذ التقييد بالذمّي وقع في كلام السائل لا في جواب الإمام «ع» و ليس في الجواب إشعار بعدم جواز الأخذ إن كان البائع مسلما. و بالجملة هذه الرواية و روايات الطائفة الثانية المجوزة مطلقا كلتاهما مثبتتان. فإن كان التقييد بالذمّي في رواية منصور في كلام الإمام «ع» صار ظاهرا في دخله في الحكم. و لكنّه لم يقع في كلامه بل في كلام السائل.

نعم يظهر من مجموع الأخبار عدم جواز بيع المسلم لهما إجمالا، و ظاهره عدم الصحّة، لما مرّ من ظهور النهي و الحرمة و عدم الجواز في المعاملات في الحكم الوضعي أعني الفساد. و لكن يقرب جدّا القول بانصراف أدلّة الحرمة إلى صورة البيع بقصد المنافع المحرّمة كالأكل و نحوه، إذ كانت هي المنافع المتعارفة في تلك الأعصار لمثل الميتة و لحم الخنزير و نحوهما، فتدبّر.

______________________________

(1) الوسائل 11/ 117، كتاب الجهاد، الباب 70 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 431

[البحث في أجزاء الخنزير]
اشارة

نعم لو قلنا بجواز استعمال شعر الخنزير و جلده جاء فيه ما تقدّم في جلد الميتة. (1)

______________________________

البحث في أجزاء الخنزير

[بيان موضع البحث]

(1) يعني لو قلنا بجواز استعمال جلده و شعره صار بذلك مالا يرغب فيه قهرا فجازت المعاملة عليه أيضا لذلك، كما مرّ في الميتة. و مجرّد النجاسة لا تصلح مانعة عن المعاملة، لما مرّ منّا من وجود الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي ء منفعة مقصودة عقلائيّة و بين صحّة المعاملة عليه إجمالا، و أنّ المعاملات و منها البيع أمور عقلائيّة أمضاها الشرع إلّا فيما إذا كان فيها مفسدة ظاهرة، و ليست صحّتها دائرة مدار ملاكات سرّية غير واضحة.

فالعمدة هنا هو البحث في جواز الانتفاع بأجزاء الخنزير. و لا خصوصيّة لجلده و شعره، و إنما تعرّض لهما الأصحاب من جهة عدم تصويرهم في تلك الأعصار منفعة محتمل الحلّية لغير الجلد و الشعر و لذكرهما في الأخبار.

ثمّ لو سلّم عدم جواز بيع نفس الخنزير حيّا و ميتا- بمقتضى الأخبار السابقة مطلقا بتقريب أنّه معرض لانتفاع المشتري و من يرتبط به من لحمه المحرّم شرعا فوقع النهي عنه لذلك حسما لمادّة الفساد- أمكن القول بانصراف هذه الأخبار عن بيع الأجزاء كالجلد أو الشعر أو نحوهما، إذ لا يصدق على شعر الخنزير مثلا عنوان الخنزير، فيجوز بيعه مستقلّا بعد ما اشتمل على منفعة عقلائيّة و صار بذلك مالا يرغب فيه.

و المستفاد من بعض الأخبار جواز الانتفاع بجلد الخنزير و شعره. و يمكن إلقاء الخصوصيّة منهما مضافا إلى أصالة الحلّ الجارية في جميع الأجزاء.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 432

..........

______________________________

و لكن المشكل في المقام عدم إفتاء المشهور بظاهر هذه الأخبار و تقييدهم الجواز في الشعر بالضرورة، مع ما مرّ من

النهاية و التهذيب و الشرائع و النافع و الإرشاد و القواعد في كتاب الأطعمة من الإفتاء بجواز الاستقاء بجلد الميتة للدوابّ و الأشجار بلا تقييد بحال الضرورة. و يشكل الفرق بينهما بل يكون جلد الخنزير من مصاديق الميتة.

[بيان كلمات الأصحاب]

فلنتعرض لبعض كلماتهم في المقام ثمّ نذكر الأخبار الواردة:

1- في الصيد و الذبائح من المقنع: «و إيّاك أن تجعل جلد الخنزير دلوا تستقي به الماء.» «1»

أقول: في مفتاح الكرامة قال: «و الصدوق في المقنع جوّز الاستقاء بجلد الخنزير بأن يجعل دلوا لغير الطهارة، و قد وافقه المصنّف على ذلك في مطاعم الكتاب.» «2»

و أنت ترى أنّ الصدوق حذّر من الاستقاء بجلده، و المصنّف يعني العلامة أيضا لم يتعرض في مطاعم القواعد لذلك و إنما تعرض فيه للاستقاء بجلد الميتة، فراجع «3»

2- و في الصيد و الذباحة من النهاية في البحث عن الجلود قال: «و كذلك شعر الخنزير لا يجوز له أن يستعمله مع الاختيار، فإن اضطرّ إلى استعماله فليستعمل منه ما لم يكن بقي فيه دسم، و يغسل يده عند حضور الصلاة.» «4»

3- و نحوه في المهذّب لابن البرّاج. «5»

______________________________

(1) الجوامع الفقهية/ 35، باب الصيد و الذبائح من المقنع.

(2) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر، في المحرّمات من المتاجر.

(3) القواعد 2/ 159، كتاب الصيد و الذبائح، المقصد الخامس، الفصل الأوّل، المطلب الخامس.

(4) النهاية/ 587، كتاب الصيد و الذبائح، باب ما يحلّ من الميتة و يحرم من الذبيحة ...

(5) المهذّب 2/ 443، آخر كتاب الأطعمة و الأشربة و الصيد و الذباحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 433

..........

______________________________

أقول: ظاهرهما اتخاذ أصل الفتوى من الأخبار الآتية، مع أنّه ليس فيها تفصيل بين المختار و المضطرّ.

و هل يراد بالاضطرار في

المقام الاضطرار الذي يحلّ معه كلّ محرّم حتى أكل الميتة و لا محالة تتقدّر بقدره، أو يراد به اتخاذ الإنسان شغلا لا يتمّ و لا يكمل عمله فيه إلّا بشعر الخنزير من دون أن يكون هنا اضطرار إلى اتخاذ هذا الشغل؟

4- و في السرائر: «و كذلك شعر الخنزير لا يجوز للإنسان استعماله مع الاختيار على الصحيح من أقوال أصحابنا و إن كان قد ذهب قوم منهم إلى جواز استعماله، و تمسّك بأنّه لا تحلّه الحياة إلّا أن أخبارنا متواترة من الأئمة الأطهار بتحريم استعماله، و الاحتياط يقتضي ذلك. فإن اضطرّ إلى استعماله فليستعمل منه ما لم يكن فيه دسم بأن يتركه في فخّار و يجعله في النار فإذا ذهب دسمه استعمله عند الضرورة و الحاجة إليه و يغسل يده عند حضور الصلاة على ما وردت الأخبار بذلك.» «1»

أقول: الظاهر أنّه أراد بقوم من أصحابنا السيّد المرتضى و من تبعه، حيث ذهب تبعا لجدّه الناصر إلى طهارة شعر الكلب و الخنزير كما في الميتة، فراجع الناصريات «2».

5- و في أطعمة الشرائع: «لا يجوز الاستعمال شعر الخنزير اختيارا، فإن اضطرّ استعمل ما لا دسم فيه و غسل يده.» «3»

6- و في أطعمة القواعد: «و يحرم استعمال شعر الخنزير، فإن اضطر استعمل ما لا

______________________________

(1) السرائر 3/ 114، أواخر كتاب الصيد و الذباحة.

(2) الجوامع الفقهية/ 218 (ط. أخرى/ 182)، كتاب الطهارة من الناصريات، المسألة 19.

(3) الشرائع/ 755 (ط. أخرى 3/ 227)، القسم السادس من كتاب الأطعمة و الأشربة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 434

..........

______________________________

دسم فيه و غسل يده.» «1»

7- و لكنّه في كتاب الصيد من المختلف بعد نقل كلام النهاية و السرائر قال: «و المعتمد جواز استعماله

مطلقا. و نجاسته لا تعارض الانتفاع به، لما فيه من المنفعة العاجلة الخالية من ضرر عاجل أو آجل، فيكون سائغا عملا بالأصل السّالم عن معارضة دليل عقلي أو نقليّ في ذلك.» «2» ثمّ استدلّ للجواز بالأخبار الآتية. و تبعه في ذلك في كشف اللثام، فراجع «3».

و أمّا أخبار المسألة:

1- ما عن الشيخ بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي زياد النهدي، عن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء. قال: «لا بأس.»

في الوسائل: «قال الشيخ: الوجه أنّه لا بأس أن يستقى به، لكن يستعمل ذلك في سقي الدوابّ و الأشجار و نحو ذلك.» «4»

أقول: يظهر من عبارة الشيخ العمل بالخبر و الأخذ به.

و رجال السند كلّهم ثقات إلّا أبا زياد النهدي، فإنّه مجهول، إلّا أن يعتبر برواية ابن أبي عمير عنه.

______________________________

(1) القواعد 2/ 159، كتاب الصيد و الذبائح، المقصد الخامس، الفصل الأوّل، المطلب الخامس.

(2) المختلف/ 684 (الجزء الخامس، ص 132)، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الرابع.

(3) كشف اللثام 2/ 91، كتاب الأطعمة و الأشربة، فيما يحرم أكله و شربه.

(4) الوسائل 1/ 129، كتاب الطهارة، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 435

..........

______________________________

و يظهر من الصدوق أيضا الاعتماد على الخبر، حيث قال في الفقيه: «و سئل الصادق «ع» عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء فقال: «لا باس به.» «1»

إذ نسب الكلام إلى الصادق «ع» بنحو الجزم، و المظنون كونه ناظرا إلى خبر زرارة. و لو فرض كونه غيره كان مؤيّدا له.

و الظاهر أنّ السؤال عن حكم الانتفاع بالجلد لا عن

طهارة الماء و نجاسته، كما أنّ الظاهر أنّ الاستقاء بجلد الخنزير كان لمثل سقي الأشجار و الزراعات لا الشرب، إذ يبعد جدّا استقاء المسلمين في عصر الإمام الصادق «ع» للشرب و الوضوء و نحوهما بجلد الخنزير، فتأمّل.

2- صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: «لا بأس.» «2»

يظهر منها جواز استعمال الحبل المذكور، و إلّا لنبّه الإمام «ع» على حرمته، إلّا أن يقال: إنّه ليس في السؤال مباشرة السائل للاستقاء حتى يجب تنبيهه، فلعلّ العمل صدر عن شخص آخر غير مكلّف أو غير متعبّد، و السؤال وقع عن حكم الماء بعد عمله أو عن حكم ماء البئر.

قال في الوسائل: «الظاهر أنّ المراد بذلك الماء ماء البئر لا ماء الدلو، و إن أريد به ماء الدلو فإنّ الحبل لا يلاقيه بعد الانفصال عن البئر، و يحتمل كون الدلو كرّا.»

أقول: الاحتمال الأخير بعيد جدّا. و ربّما يؤيّد الاحتمال الأوّل ظاهر الرواية التالية

______________________________

(1) الفقيه 1/ 10، باب المياه و طهرها و نجاستها، الحديث 14.

(2) الوسائل 1/ 125، كتاب الطهارة، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 436

..........

______________________________

كما يأتي بيانه، فتحملان على اعتصام البئر أو الماء مطلقا و لو كان قليلا أو على عدم نجاسة الشعر كما أفتى به السيّد المرتضى و من تبعه. و الأوّل أظهر.

و أمّا الاحتمال الثاني فيبعّده أن تنجس ماء الدلو باحتمال ملاقاته للحبل شبهة موضوعيّة ليس مرجعها الإمام «ع» فيبعد عن مثل زرارة سؤالها منه «ع».

و ذكر الأستاذ الإمام «ره» في تقريب الاستدلال بالصحيحة للمقام ما محصّله:

«الظاهر

أنّ شبهة السائل كانت من جهة تنجّس الماء أو احتماله و حكم التوضّي منه، و نفي البأس عن الوضوء مع أنه نحو انتفاع بالحبل دليل على عدم حرمة الانتفاع به لا سيّما و أنّ مقتضى إطلاقها جوازه و لو كان المتوضي هو الذي يستقي.

و توهّم أنّ الوضوء من الماء ليس انتفاعا بالحبل بل انتفاع بالماء فاسد، ضرورة أنّ الانتفاع بالحبل هو رفع نحو حاجة به كالشرب أو الوضوء، ففرق بين حرمة التصرّف في الشي ء و حرمة الانتفاع به. فلو حرم الانتفاع بالشجر مثلا حرم الاستظلال به مع أنّه ليس تصرّفا فيه، ففي المقام أيضا لو أخرج الماء بالحبل من البئر و أهريق قهرا لم يصدق أنّه انتفع بالبئر و لا بالدّلو و الحبل بخلاف ما لو استعمله في الحوائج.» «1»

أقول: قد مرّ أنّ الظاهر بقرينة رواية الحسين بن زرارة الآتية كون السؤال عن حكم التوضي بماء البئر لا ماء الدلو.

و لو سلّم فلو كان المباشر للاستقاء غير المتوضي و لا بأمره و رضاه فصدق الانتفاع بالحبل على الوضوء حينئذ مشكل و لا أقلّ من انصراف دليل التحريم على فرض وجوده عنه كما هو واضح. و إذا كان الخبر سؤالا و جوابا في مقام بيان حكم الوضوء

______________________________

(1) مكاسب المحرّمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 77، في حرمة بيع الخنزير.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 437

..........

______________________________

فليس في مقام بيان حكم الاستقاء حتّى يؤخذ بإطلاقه بالنسبة إلى ما إذا كان المتوضي هو الذي يستقي.

و السؤال وقع عن صحّة الوضوء و فساده لا عن حكم الانتفاع تكليفا.

3- ما رواه الحسين بن زرارة، قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» و أبي يسأله عن اللبن من الميتة و البيضة

من الميتة و أنفحة الميتة. فقال: «كلّ هذا ذكيّ.» قال: فقلت له: فشعر الخنزير يعمل حبلا و يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها؟ قال: «لا بأس به.» «1»

أقول: توصيف البئر بالتي يشرب منها أو يتوضّأ منها دليل على أن نظر السائل هو السؤال عن ماء البئر التي استقي منها لا عن ماء الدلو و لا عن حكم الاستقاء بالحبل.

و مسألة تنجّس البئر كانت موردا للسؤال و الجواب في تلك الأعصار كما يظهر بمراجعة الأخبار.

4- صحيحة زرارة عن أبي جعفر «ع»، قال: قلت له: إنّ رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير؟ قال: «إذا فرغ فليغسل يده.» «2»

أقول: الحمائل جمع الحميلة بمعنى علاقة السيف. و دلالته على جواز العمل واضحة و كذا نجاسة الشعر، بل و كذا جواز البيع، إذ الظاهر أنّ عامل الحمائل كان يعملها للبيع.

و احتمال أنّ عملها كان لنفسه أو للغير بنحو الإجارة بعيد، مضافا إلى أنّ ترك

______________________________

(1) الوسائل 16/ 365 (ط. أخرى 16/ 447)، الباب 33 من كتاب الأطعمة و الأشربة، الحديث 4، و كذا 1/ 126، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 3.

(2) الوسائل 12/ 167، كتاب التجارة، الباب 58 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 438

..........

______________________________

الاستفصال يقتضي العموم للبيع أيضا، فتأمّل.

5- خبر سليمان الإسكاف، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن شعر الخنزير يحرز به؟

قال: «لا بأس به، و لكن يغسل يده إذا أراد أن يصلّي.» «1»

أقول: سند الخبر صحيح إلّا سليمان، فإنّه مجهول، إلّا أن يجبر بابن أبي عمير في السند. و الدلالة على جواز العمل و كذا نجاسة الشعر واضحة.

6- خبر برد الإسكاف، قال: قلت

لأبي عبد اللّه «ع»: إنّي رجل خرّاز و لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير نخرز به. قال: «خذ منه و بره فاجعلها في فخّارة ثمّ أوقد تحتها حتّى يذهب دسمها ثمّ اعمل به.» «2»

7- و خبره الآخر، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: جعلت فداك، إنا نعمل بشعر الخنزير، فربّما نسي الرجل فصلّى و في يده منه شي ء، فقال: «لا ينبغي أن يصلّي و في يده منه شي ء.» و قال: «خذوه فاغسلوه فما كان له دسم فلا تعملوا به، و ما لم يكن له دسم فاعملوا به و اغسلوا أيديكم منه.» و نحو ذلك خبر ثالث له عنه أيضا. «3»

و الظاهر اتحاد الأخبار الثلاثة و اختلافها بالإجمال و التفصيل.

و برد الإسكاف مجهول الحال، إلّا أن يقال: إنّ رواية ابن أبي عمير لكتابه. تدخله في الحسان كما قيل. و الراوي عنه في إحدى رواياته الثلاث صفوان بن يحيى، و هو على ما في العدّة لا يروي و لا يرسل إلّا ممّن يوثق به.

______________________________

(1) الوسائل 2/ 1018، كتاب الطهارة، الباب 13 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

(2) الوسائل 12/ 168، كتاب التجارة، الباب 58 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديثان 4 و 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 439

..........

______________________________

و الظاهر أن الأمر بإذهاب الدّسم في أخبار برد كان من باب الإرشاد إلى ما يقلّ معه السراية و يسهل التطهير لا من باب التعبّد و لذا لم يتعرّض لذلك في صحيحة زرارة و لا في خبر سليمان مع كونهما في مقام البيان.

و ظاهر هذه الأخبار جواز الاستعمال مطلقا مع فرض نجاسة الشعر و لذا أمر بغسل اليد، فلا وجه لما في كلمات

الأصحاب من التقييد بالاضطرار، إلّا أنّ لا يراد به الاضطرار المصطلح عليه في الكتاب و السنة المحلّل لكلّ محرّم شرعي، بل الاضطرار العرفي، أعني توقّف شغله المنتخب عليه و إن لم يضطر إلى انتخابه، كما يشعر بذلك قوله في خبر برد: «لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير.» و من الواضح أنّ الإنسان المتعبّد بالشرع لا يختار استعمال النجس بالطبع إلّا إذا توقّف شغله المنتخب عليه. قال في كشف اللثام: «و لعلّه يكفي في الاضطرار عدم كمال العمل بدونه.» «1»

و لكن يشكل حمل كلمات الأصحاب على هذا المعنى، إذ مرجعه إلى الحليّة في حال الاختيار، حيث لم يعهد لنا جواز عمل خاصّ لخصوص من توقّف شغله المنتخب باختياره عليه و حرمته على غيره.

[الأقوى الجواز مطلقا]

و على هذا فالأقوى هو الجواز مطلقا كما مرّ عن العلامة في المختلف، و هو اختيار صاحب الجواهر أيضا، حيث قال ما ملخّصه: «الأقوى الجواز مطلقا لا لما سمعته من المختلف المعارض بما ذكرناه في المكاسب من الإجماع المحكيّ على عدم جواز الانتفاع بالأعيان النجسة و خبر التحف، بل لظهور النصوص المزبورة التي لا يحكّم ما فيها من النهي عن استعمال ذي الدسم على إطلاق غيره بعد ظهور إرادة الإرشاد منه للتحفّظ عن

______________________________

(1) كشف اللثام 2/ 91، كتاب الأطعمة و الأشربة، فيما يحرم أكله و شربه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 440

..........

______________________________

النجاسة، و بها يخرج عن معقد إطلاق الإجماع و عموم خبر التحف.» «1» هذا.

[ما استدل به لعدم الجواز]

و استدل لعدم الجواز- كما يظهر من الجواهر «2»- بما حكي من الإجماع على عدم جواز الانتفاع بالنجس مطلقا إلّا فيما خرج بالدليل، و برواية تحف العقول، و بأن إسناد الحرمة إلى الخنزير في الكتاب العزيز يقتضي حرمة مطلق الانتفاع به لا خصوص الأكل لأنّه أقرب إلى الحقيقة خصوصا بعد ذكره مع الميتة التي حكمها ذلك نصّا و فتوى، و لا سيّما مع ملاحظة الشهرة أيضا، و بما مرّ من السرائر من دعوى تواتر الأخبار بذلك و إن كنّا لم نظفر بخبر واحد كما اعترف به في كشف اللثام.

و في مفتاح الكرامة قال: «و الأقوى عدم جواز استعماله مطلقا إلّا عند الضرورة كما هو المشهور. و قد سمعت أنّه في السرائر ادّعى تواتر الأخبار في ذلك، و ليس ما يحكيه إلّا كما يرويه و الشهرة تجبرها أو تعضدها. و إنكار من أنكر الظفر بخبر واحد لا يعتبر.

بل في أحد خبري برد الإسكاف: فما له دسم فلا تعملوا به،

و في الخبر الآخر: فإن جمد فلا تعمل به. و حيث ثبت المنع في الجملة ثبت المنع مطلقا إلّا عند الضرورة لعدم القائل بالفرق ...» «3»

أقول: ما ذكر كلّها اجتهادات في قبال النصوص. و الإجماع على عدم جواز الانتفاع بالنجس على إطلاقه غير ثابت بعد ما ثبت الجواز في كثير من الموارد كالكلب الصيود و العذرة للتسميد و العبد الكافر و الاستقاء بجلد الميتة لغير الشرب و الصلاة على ما أفتى

______________________________

(1) الجواهر 36/ 400، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس في اللواحق.

(2) الجواهر 36/ 398، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس في اللواحق.

(3) مفتاح الكرامة 4/ 23، كتاب المتاجر، في ذيل قول المصنّف: «و الكلب و الخنزير البريّان».

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 441

..........

______________________________

به الأصحاب في الذبائح و الأطعمة كما مرّ. و المتيقّن منه على فرض تحقّقه الانتفاعات المتوقّفة على الطهارة كالأكل و الشرب و الصلاة و نحوها. و رواية تحف العقول مضافا إلى ضعفها يظهر من مجموعها- على ما مرّ- اختصاص الحرمة بما فيه الفساد محضا دون ما يوجد فيه جهات الفساد و الصلاح معا.

و إسناد الحرمة في الكتاب العزيز كان بلحاظ الأكل فقط لا مطلق الانتفاعات كما يظهر من سياق الآيات الأربع النازلة في هذا المجال. و المذكور فيها لحم الخنزير فكيف يستدلّ بها على حرمة الانتفاع بالجلد و الشعر و نحوهما؟! و لو فرض وجود الأخبار المتواترة على الحرمة كما ادّعاه في السرائر فكيف خفيت الجميع على الجميع؟! فلعلّ ابن إدريس أراد بذلك الأخبار الدالّة على نجاسة الخنزير بعد ضمّ ما كان في اعتقاده من عدم جواز الانتفاع بالنجس، و يشهد لذلك ذكره كلام السّيد المرتضى القائل بطهارة الشعر في

قبال ذلك.

و التفصيل بين الدسم و غيره قد حملناه على الإرشاد لا التعبّد فلا نقول بالفرق بينهما.

و بالجملة فلا وجه لرفع اليد عن ظاهر الأخبار المذكورة الدالّة على جواز الانتفاع بالجلد و الشعر. و قد مرّ منا أنّ ذكرهما في الأخبار و الفتاوى من باب المثال من جهة عدم تصوير الانتفاع المحلل لغيرهما في تلك الأعصار.

و إذا فرض وجود المنافع المحلّلة المقصودة للأجزاء و صارت بذلك من الأموال المرغوب فيها جاز تبديلها بالمال قهرا لعموم أدلّة العقود و البيع و التجارة و ما مرّ منا من وجود الملازمة العرفيّة بين حليّة الانتفاع بالشي ء و ماليته و بين جواز المعاملة عليه و استقرار سيرة العقلاء على ذلك.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 442

[المسألة السابعة: بيع الخمر]
اشارة

السابعة: يحرم التكسّب بالخمر و كلّ مسكر مائع و الفقاع إجماعا نصّا و فتوى. (1)

______________________________

و الإجماع على عدم صحة بيع النجس- على فرض تحقّقه- منصرف إلى صورة عدم وجود المنفعة المحلّلة العقلائيّة له، أو صورة وقوع البيع بقصد المنافع المحرّمة كالأكل و نحوه من المنافع المتوقّفة على الطهارة.

و ما دلّ على عدم صحّة بيع المسلم للخنزير منصرف إلى بيعه للأكل و نحوه على نحو ما كان يصنعه الكفّار و أهل الذمّة. مضافا إلى أنّ الخنزير اسم للحيوان الخاصّ، و لو سلّم صدقه بنحو المسامحة على ميّته أيضا فلا يصدق على مثل جلده أو شعره. و مثله في هذا المجال عنوان الكلب أيضا، فتدبّر.

[كلمات الفقهاء على حرمة بيع الخمر]

7- بيع الخمر

(1) قد قام الإجماع و أطبقت نصوص الفريقين على حرمة بيع الخمر و فساده:

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 311): «لا يجوز بيع الخمر، و به قال الشافعي.

و قال أبو حنيفة: يجوز أن يوكّل ذمّيا ببيعها و شرائها. دليلنا إجماع الفرقة. و أيضا روي عن عائشة أنها قالت: إنّ النبيّ «ص» حرّم التجارة في الخمر.

و روي عنه «ص» أنّه قال: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم بيعها.» و روى ابن عباس، قال:

إنّ رسول اللّه «ص» أتاه جبرائيل فقال: «يا محمّد، إنّ اللّه لعن الخمر و عاصرها

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 443

..........

______________________________

و معتصرها و حاملها و المحمول إليه و شاربها و بائعها و مبتاعها و ساقيها.»

و روى جابر أنّه سمع رسول اللّه «ص» عام الفتح بمكّة يقول: «إنّ اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ فرأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و

يستصبح بها الناس. فقال: «لا، هو حرام.» ثمّ قال: «قاتل اللّه اليهود، إنّ اللّه لما حرّم عليهم شحومها حملوها ثمّ باعوها فأكلوا ثمنها.» «1»

أقول: راجع للروايات المذكورة سنن البيهقي «2» و السفن محركة: جلد خشن كان يجعل على قوائم السيوف. و في كتبهم: جملوها بالجيم، و قالوا: جمله و جمّله و أجمله بمعنى أذابه.

2- و في التذكرة: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصليّة، فلا تضرّ النجاسة العارضة مع قبول التطهير. و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا ...

مسألة: كما لا يجوز للمسلمين مباشرة بيع الخمر فكذا لا يجوز أن يوكّل فيه ذميّا، و به قال الشافعي و مالك و أحمد و أكثر أهل العلم. و قال أبو حنيفة: يجوز أن يوكّل ذمّيا في بيعها و شرائها، و هو خطأ لما تقدّم، و لأنّه نجس العين فيحرم فيه التوكيل كالخنزير.» «3»

3- و في المغني لابن قدامة: «و لا يجوز بيع الخمر و لا التوكيل في بيعه و لا شراءه.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّ بيع الخمر غير جائز. و قال أبو حنيفة: يجوز للمسلم أن يوكّل ذمّيا في بيعها و شرائها، و هو غير صحيح، فإنّ عائشة روت أنّ النبي «ص» قال: «حرمت التجارة في الخمر.» و عن جابر أنّه سمع النبي «ص» ... و من وكّل في بيع الخمر و أكل ثمنه فقد أشبههم في ذلك. و لأنّ الخمر نجسة محرّمة يحرم بيعها

______________________________

(1) كتاب الخلاف 3/ 185 (ط. أخرى 2/ 182) كتاب البيوع، بيع الخمر و الاختلاف فيه.

(2) سنن البيهقى 6/ 11 و 12، كتاب البيوع، باب تحريم التجارة في الخمر و باب تحريم بيع الخمر

و الميتة و ...

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 444

..........

______________________________

و التوكيل في بيعها كالميتة و الخنزير ...» «1»

4- و قد مرّ منّا- في البحث الجامع عن بيع النجاسات- عن نهاية الشيخ ذكر الخمر و كلّ شراب مسكر و الفقاع «2».

و عن مبسوطه ذكر الخمر «3».

و عن المراسم ذكر المسكرات من الأشربة و الفقّاع و الأدوية الممزوجة بالخمر «4».

و عن الشرائع ذكر الخمر و الأنبذة و الفقّاع «5».

و عن قواعد العلامة ذكر الخمر و النبيذ و الفقّاع فيما لا يجوز بيعه «6».

5- و مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة عن المذاهب الأربعة في عداد البيوع الباطلة بيع الخمر، فراجع «7».

و قد مرّ أنّ نظر الفقهاء من الحرمة أو عدم الجواز في باب المعاملات هي الحرمة الوضعيّة أعني فساد المعاملة. و هو الظاهر من الأخبار الواردة في هذا المجال، و النهي فيها أيضا ظاهر في الإرشاد إلى ذلك.

نعم في بعض الموضوعات تثبت الحرمة التكليفيّة أيضا كالربا مثلا، و من هذا القبيل

______________________________

(1) المغنى 4/ 284، كتاب البيوع، بيع العصير ممّن يتخذه خمرا.

(2) النهاية للشيخ/ 363 و 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) المبسوط 2/ 166، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(4) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(5) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الأوّل من المحرّم.

(6) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(7) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231 و 232، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 445

..........

______________________________

بيع الخمر

فهو محرم تكليفا و وضعا كما سيظهر.

[النصوص الواردة من طرق الفريقين]

و كيف كان فقد تواترت النصوص من طرق الفريقين على حرمة التكسّب بالخمر، فلنتعرض لبعضها:

1- صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه «ع» في رجل ترك غلاما له في كرم له يبيعه عنبا أو عصيرا فانطلق الغلام فعصر خمرا ثمّ باعه. قال: «لا يصلح ثمنه.» ثمّ قال:

إنّ رجلا من ثقيف أهدى إلى رسول اللّه «ص» روايتين من خمر فأمر بهما رسول اللّه «ص» فأهريقتا، و قال: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها.» ثمّ قال أبو عبد اللّه «ع»: «إنّ أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدّق بثمنها.» «1»

أقول: ظاهر حرمة الثمن فساد المعاملة و إلّا لم يكن وجه لحرمته. و التصدّق به من باب التصدّق بمجهول المالك، أو لإلزام مالك الثمن بما ألزم به نفسه من إخراجه عن ملكه باختياره.

2- خبر أبي أيّوب، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: رجل أمر غلامه أن يبيع كرمه عصيرا فباعه خمرا ثمّ أتاه بثمنه؟ فقال: «إنّ أحبّ الأشياء إليّ أن يتصدّق بثمنه.» «2»

3- خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن ثمن الخمر. قال: أهدي إلى رسول اللّه «ص» رواية خمر بعد ما حرّمت الخمر فأمر بها أن تباع، فلمّا أدبر بها الذي يبيعها ناداه رسول اللّه «ص» من خلفه: يا صاحب الرواية، إنّ الذي حرّم شربها فقد حرّم ثمنها، فأمر بها فصبّ في الصعيد. و قال: «ثمن الخمر و مهر البغيّ و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السّحت.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 165، الحديث

6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 446

..........

______________________________

أقول: الظاهر أنّ الأمر بالبيع صدر من المهدي بقصد أن يهدي الثمن إلى النبي «ص» بعد ما لم يقبل العين.

4- و عن زيد بن عليّ «ع» بسند لا يخلو من وثاقة عن آبائه «ع»، قال: «لعن رسول اللّه «ص» الخمر و عاصرها و معتصرها و بائعها و مشتريها و ساقيها و آكل ثمنها و شاربها و حاملها و المحمولة إليه.» «1»

5- و في خبر جابر عن أبي جعفر «ع» قال: «لعن رسول اللّه «ص» في الخمر عشرة:

غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها.» «2»

6- و في حديث المناهي: أنّ رسول اللّه «ص» نهى أن يشترى الخمر و أن يسقى الخمر. و قال: «لعن اللّه الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه.» «3»

أقول: لعن الغارس لا بدّ أن يحمل على من يغرس الكرم بقصد اتخاذ الخمر من ثمره، كما هو المتعارف في بعض البلاد. و لعن آكل الثمن دليل على فساد المعاملة و عدم انتقال الثمن. و لعن البائع و المشتري و غيرهما و التشديد الظاهر من هذه الروايات دليل على حرمة نفس المعاملة بحسب التكليف أيضا، نظير ما ورد في حرمة الربا من التشديدات، و إلّا فمجرد عدم صحّة المعاملة و عدم انتقال الثمن و الأكل لمال الغير لا

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 447

..........

______________________________

يناسب هذه التشديدات، فتدبّر.

7- و في

البيوع من صحيح البخاري بسنده عن عائشة: لما نزلت آيات سورة البقرة عن آخرها خرج النّبيّ «ص» فقال: «حرّمت التجارة في الخمر.» «1»

8- و روى البيهقي بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه- جلّ ثناؤه- حرّم الخمر و ثمنها، و حرّم الميتة و ثمنها، و حرّم الخنزير و ثمنه.»

و راجع في هذا المجال البيهقي «2».

إلى غير ذلك من الأخبار من طرق الفريقين، و قد مرّ بعضها في المسائل السابقة كبيع الميتة و الكلب و الخنزير، فراجع.

[هنا أمور نبحث فيها]
اشارة

إذا عرفت هذا فلنبحث في أمور:

[الأمر الأوّل:] معنى الخمر بحسب اللغة و الشرع

الأمر الأوّل: هل الخمر اسم لخصوص ما يتّخذ من العنب، أو من العنب أو التمر، أو اسم لكلّ مسكر مائع بالأصالة؟

1- قال الراغب في المفردات: «أصل الخمر: ستر الشي ء، و يقال لما يستر به خمار ... و الخمر سمّيت لكونها خامرة لمقرّ العقل. و هو عند بعض الناس اسم لكلّ مسكر. و عند بعضهم اسم للمتّخذ من العنب و التمر، لما روي عنه «ص»: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة و العنبة» «3».

أقول: لعلّ ذكر الشجرتين في الحديث من جهة غلبة تحصيل الخمر منهما في تلك

______________________________

(1) صحيح البخاري 2/ 28.

(2) سنن البيهقى 6/ 11 و 12، كتاب البيوع، باب تحريم التجارة في الخمر و باب تحريم بيع الخمر و ...

(3) مفردات الراغب/ 160.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 448

..........

______________________________

الأعصار، فلا ينافي كون اللفظ اسما للأعمّ.

2- و في المصباح المنير: «و يقال: هي اسم لكلّ مسكر خامر العقل أي غطّاه.» «1»

3- و في المعتبر: «و الأنبذة المسكرة عندنا في التنجيس كالخمر، لأنّ المسكر خمر فيتناوله حكم الخمر. أمّا أنّه خمر لأنّ الخمر إنّما سمّي بذلك لكونه يخمر العقل و يستره، فما ساواه في المسمى يساويه في الاسم.» «2» هذا.

و على فرض الاختصاص بحسب اللغة أو بسبب الانصراف المستند إلى الغلبة فالظاهر أنّ الموضوع للبحث في المقام و في أبواب الحرمة و النجاسة و الحدّ و مقداره هو الأعمّ، و عليه تحمل أخبار الباب لورود الأخبار المستفيضة الحاكمة عليها الشارحة لها:

1- ففي صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الماضي «ع» قال: «إنّ اللّه- عزّ و جلّ- لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر

فهو خمر.» «3»

2- و في خبر آخر له عنه «ع» قال: «إنّ اللّه- عزّ و جلّ- لم يحرم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها، فما فعل فعل الخمر فهو خمر.» «4»

3- و في خبر أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر «ع» عن النبيذ أخمر هو؟ فقال: «ما زاد على الترك جودة فهو خمر.» «5»

______________________________

(1) المصباح المنير 1/ 248.

(2) المعتبر 1/ 424، كتاب الطهارة، الركن الرابع، مسألة في الخمر و شبهه.

(3) الوسائل 17/ 273، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 19 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(5) نفس المصدر و الباب، ص 274، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 449

..........

______________________________

4- و في خبر الكلبي النّسابة أنّه سأل أبا عبد اللّه «ع» عن النبيذ فقال: «حلال.» فقال:

إنا ننبذه فنطرح فيه العكر و ما سوى ذلك. فقال: «شه شه! تلك الخمرة المنتنة.» «1»

5- و في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه «ع» قال: قال رسول اللّه:

«الخمر من خمسة: العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، و البتع من العسل، و المزر من الشعير، و النبيذ من التمر.» «2»

و بهذا المضمون أخبار أخر مستفيضة، فراجع «3».

6- و في خبر أبي الجارود عن أبي جعفر «ع» في قوله- تعالى-: إنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسرُ الآية: «أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر، و ما أسكر كثيره فقليله حرام، و ذلك أنّ أبا بكر شرب قبل أن تحرم الخمر فسكر (إلى أن قال:) فأنزل اللّه تحريمها بعد ذلك. و إنّما كانت الخمر يوم حرّمت بالمدينة فضيخ البسر و التمر، فلمّا نزل تحريمها خرج رسول اللّه «ص» فقعد في المسجد

ثمّ دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفأها كلّها، و قال: هذه كلّها خمر حرّمها اللّه، فكان أكثر شي ء (أكفئ) في ذلك اليوم الفضيخ، و لم أعلم أكفئ يومئذ من خمر العنب شي ء إلّا إناء واحد كان فيه زبيب و تمر جميعا. فأمّا عصير العنب فلم يكن منه يومئذ بالمدينة شي ء.

و حرّم اللّه الخمر قليلها و كثيرها و بيعها و شراءها و الانتفاع بها. الحديث.» «4»

______________________________

(1) الوسائل 1/ 147، كتاب الطهارة، الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

(2) الوسائل 17/ 221، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

(3) راجع نفس المصدر و الباب.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 222، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 450

..........

______________________________

أقول: في الحديث تعريض ببعض الفقهاء، حيث خصّوا الحرمة المطلقة بخمر العنب و أمّا سائر المسكرات فلا يحرم منها إلا المقدار الكثير المسكر، و بذلك أحلّوا النبيذ للخلفاء.

7- و في خبر الوشاء قال: كتبت إليه يعني الرضا «ع» أسأله عن الفقاع. قال: فكتب:

«حرام و هو خمر.» «1»

8- و في موثقة عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الفقاع. فقال: «هو خمر.» «2»

9- و في خبر الحسن بن جهم و ابن فضّال جميعا قالا: سألنا أبا الحسن «ع» عن الفقاع فقال: «هو خمر مجهول و فيه حدّ شارب الخمر». إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال «3».

10- و في صحيح مسلم بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه «ص»: «كلّ مسكر خمر و كلّ مسكر حرام.» «4»

11- و فيه أيضا بسنده عنه عن النّبيّ «ص» قال: «كلّ مسكر خمر و كلّ خمر حرام.» «5»

فهذه الأخبار المستفيضة الواردة من طرق الفريقين

حاكمة على ما ورد في تحريم الخمر شربا و بيعا و في ثبوت الحدّ و مقداره و حكم نجاستها.

قال في الفقه على المذاهب الأربعة: «الخمر ما خامر العقل أي خالطه فأسكره و غيّبه، فكلّ ما غيّب العقل فهو خمر سواء كان مأخوذا من العنب المغليّ على النار أو من التمر أو من العسل أو الحنطة أو الشعير حتّى و لو كان مأخوذا من اللبن أو الطعام أو أيّ شي ء

______________________________

(1) الوسائل 17/ 287، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 27 من أبواب الأشربة المحرّمة.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 288، الحديث 4.

(3) نفس المصدر و الباب ص 287. و منها الحديث 11 في الصفحة 289.

(4) صحيح مسلم 3/ 1587، كتاب الأشربة، باب بيان أنّ كلّ مسكر خمر ...، الحديثان 73 و 74.

(5) نفس المصدر 3/ 1588، الحديث 75.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 451

..........

______________________________

وصل إلى حدّ الإسكار. و قد بيّن النبيّ «ص»: أنّ كلّ ما أسكر كثيره فقليله حرام و لو لم يسكر. و لفظ الحديث: «ما أسكر كثيره فقليله حرام.» رواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و البيهقي.» «1»

[الأمر الثاني:] حكم تخليل الخمر و بيعها لذلك أو للتداوي
اشارة

الأمر الثاني: هل تشمل أدلّة حرمة بيع الخمر و حرمة ثمنها لما إذا بيعت للتخليل أو التطيين مثلا أو للتداوي بها مع الاضطرار و انحصار العلاج فيها؟

أو يقال بانصرافها إلى صورة بيعها للشرب المحرّم لأنّه المنفعة المقصودة المتعارفة لعاصرها و بائعها و مشتريها في عصر صدور تلك الأخبار و في كلّ عصر، و على أساسه كان تقويمها و المعاملة عليها، فأريد بالنهي عن بيعها و التجارة عليها البيع و التجارة على النحو المتعارف بين الفسّاق و شرّاب الخمور، حيث إنّها كانت ممحّضة للشرب

المحرم.

و أمّا إذا فرضت لها منافع عقلائيّة مشروعة و صارت بذلك مالا مرغوبا فيها لذلك فلا بأس ببيعها بهذا القصد و لم يثبت إسقاط الشارع لماليتها بنحو الإطلاق.

و قد دلّت أخبار مستفيضة على جواز تخليلها كما تأتي. و في موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه «ع»: «ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطر إليه.» و نحوه في موثّقة أبي بصير «2». و قد ذكر الإمام «ع» هذه الكلّية لتصحيح صلاة المضطرّ فيكون المقصود من الحرمة و الحلّ في هذا الكلام أعمّ من التكليف و الوضع.

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 6، كتاب الحظر و الإباحة، مبحث ما يحرم شربه و ما يحلّ.

(2) الوسائل 4/ 690، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديثان 6 و 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 452

..........

______________________________

و أمر رسول اللّه «ص» بإهراق ما في المدينة من الخمور بنحو الإطلاق حين ما نزل تحريمها لعلّه كان حكما سياسيّا موسميّا لتحكيم حرمة الخمر في بدو تشريعها و قلع مادّة الفساد و قطع عذر المعتادين و مالكي الخمور، إذ كان من الممكن تهيئتهم أو شراؤهم لها متعذرين بأنّها للتخليل أو للتداوي لا للشرب المحرّم، أو أنّ منفعة التخليل كان مغفولا عنها في زمانه «ص» و لم يكن موردا لتوجه أرباب الخمور. و أمره «ص» بإهراق ما أهدي له «ص» قضيّة في واقعة شخصيّة، فلعلّ هذه الخمر لم تكن ممّا يمكن تخليلها و لم تكن محتاجا إليها للتداوي. و بالجملة فإذا فرض إمكان التخليل أو التداوي بها و جوازهما شرعا فلم لا يجوز بيعها بقصدهما؟ و المعاملات شرّعت لمبادلة الأمتعة لدى الحاجة.

و قد مرّ أنّ المستفاد من رواية تحف

العقول بعد ضمّ بعض فقراتها إلى بعض أنّ ما اشتمل على جهتين- جهة صلاح للعباد و جهة فساد- فبيعه لجهة الصلاح يكون حلالا، و إنّما يحرم بيع ما تمحّض في الفساد أو كان التقلّب فيه و بيعه لأجل جهة الفساد. و كذلك ما مرّ من عبارة فقه الرضا. و هذا هو الموافق للعقل و الاعتبار، و يقتضيه مناسبة الحكم و الموضوع.

و أمّا الأخبار المتعرّضة لتخليل الخمر
اشارة

فكثيرة ذكرها في الوسائل في أبواب الأشربة المحرمة «1»، فلنذكر بعضها:

1- صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلا؟

قال: «لا بأس.» «2»

______________________________

(1) راجع الوسائل 17/ 296، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 453

..........

______________________________

2- موثّقة عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلا؟ قال: «لا بأس.» «1»

أقول: ظاهر الخبرين جعل الخمر خلا بالعلاج لا انقلابها بنفسها. و لعلّ إطلاق الأخذ يعمّ الأخذ من الغير أيضا بالشراء و نحوه، فتأمّل.

3- موثقة أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الخمر يجعل خلا؟ قال: «لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يغلبها.» «2»

4- صحيحة محمّد بن مسلم و أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سئل عن الخمر يجعل فيها الخلّ؟ فقال: «لا إلّا ما جاء من قبل نفسه.» «3»

5- موثّقة أخرى لأبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الخمر يصنع فيها الشي ء حتّى تمحض؟ قال: «إن كان الذي صنع فيها هو الغالب على ما صنع فلا بأس به.» «4»

قال في الوسائل: «ذكر الشيخ أنّه خبر شاذّ متروك لأنّ الخمر نجس ينجس ما حصل

فيها.» ثمّ قال: «و هو محمول على الانقلاب لا الامتزاج و الاستهلاك.» «5»

6- و لأبي بصير رواية رابعة عنه «ع» أنّه سئل عن الخمر تعالج بالملح و غيره لتحول خلا؟ قال: «لا بأس بمعالجتها.» قلت: فإني عالجتها و طيّنت رأسها ثمّ كشفت عنها

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 297، الحديث 7.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 296، الحديث 2.

(5) نفس المصدر و الباب؛ و التهذيب 9/ 119، باب الذبائح و الأطعمة، ذيل الحديث 246.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 454

..........

______________________________

فنظرت إليها قبل الوقت فوجدتها خمرا أ يحلّ لي إمساكها؟ قال: «لا بأس بذلك، إنّما إرادتك أن يتحوّل الخمر خلا و ليس إرادتك الفساد.» «1» إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال فراجع.

و المستفاد من مجموع الأخبار:

أنّ ما يلقى في الخمر لعلاجها إن كان قليلا يستهلك فيها ثمّ تنقلب خلا فلا بأس به، و إن كان كثيرا غالبا على الخمر ففيه بأس.

هذا كلّه في الخمر التي تصنع عادة للشرب و الإسكار و تعارف شربها لذلك بين أهلها.

حكم الكحول الطبّية و الصناعية

و أمّا التي يكون صنعها و توليدها عادة لا للشرب و الإسكار بل لمصالح أخر عقلائية كالكحول التي تستعمل في تجلية الأخشاب و الدروب أو إيقاد السراج أو للتزريقات و دفع الجراثيم المضرّة أو نحو ذلك من المنافع العقلائية المحلّلة و يكون المعاملة عليها بهذه الدواعي فالظاهر عدم الإشكال في جواز بيعها لذلك و إن فرض كونها في أعلى مراتب الإسكار لانصراف الأخبار عن ذلك جدّا.

بل قد يقال بطهارتها أيضا و إن قلنا بنجاسة الخمر لاحتمال كون أدلّة النجاسة ناظرة إلى ما تعارف شربه للإسكار، فيكون حكم الشارع بنجاستها بداعي استقذار الناس لها و اجتنابهم عنها. فلا تعمّ ما لم يتعارف شربه و تنصرف عنه و إن كان مسكرا. نظير انصراف أدلّة المنع عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه عن أجزاء الإنسان، فتدبّر.

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 298، الحديث 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 455

[بعض آخر من أخبار التخليل]

و في بعض الأخبار: يكون لي على الرجل دراهم فيعطيني خمرا.

قال: «خذها و أفسدها.» (1) قال ابن أبي عمير: يعني اجعلها خلا.

و المراد به إمّا أخذ الخمر مجانا ثمّ تخليلها، أو أخذها و تخليلها لصاحبها ثمّ أخذ الخلّ وفاء عن الدراهم.

______________________________

(1) أقول: هذا أيضا من أخبار تخليل الخمر. رواه في الوسائل عن الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن أبي عمير و عليّ بن حديد جميعا عن جميل، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: يكون لي على الرجل الدراهم فيعطيني بها خمرا؟ فقال:

«خذها ثمّ أفسدها.» قال عليّ: و اجعلها خلا «1»

و الظاهر أنّ المقصود ب «عليّ» عليّ بن حديد بن السند لا عليّ أمير المؤمنين «ع» و إن احتمله الأستاذ الإمام «2». و

يحتمل كون: «و اجعلها خلا» من تتمة الرواية بنقل عليّ لا تفسيرا من قبل نفسه.

و ذكر المصنّف بدل عليّ: ابن أبي عمير، و هو من سبق القلم.

و قد ذكر المصنّف هذا الخبر بعنوان المعارض لما حكم به أوّلا من حرمة التكسّب بالخمر، بتقريب أنّ أخذ الخمر عوضا عن الدين يكون نحو تكسّب بها، إذ مآله إلى المعاوضة بين الدراهم و بين الخمر.

ثمّ أجاب عن ذلك بوجهين:

الأوّل: أخذ الخمر مجانا ثمّ تخليلها لنفسه.

______________________________

(1) الوسائل 17/ 297، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 6.

(2) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى- قدّس سرّه- 1/ 30.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 456

..........

______________________________

الثاني: أخذها أمانة و تخليلها لصاحبها ثمّ أخذ الخلّ وفاء.

أقول: الظاهر أنّ جواب الإمام «ع» مبنيّ على عدم سقوط الخمر عن الماليّة و الملكيّة رأسا، لإمكان الانتفاع بها بنحو التخليل. فعلاقة المالك باقية بالنسبة إليها إمّا بنحو الملكيّة أو بنحو الحقّ القابل للمعاوضة. و إنما الممنوع شرعا المعاملة عليها نحو ما يعامل عليها الفسّاق و شرّاب الخمور أعني البيع بقصد الشرب المحرّم. و على هذا فيجوز أخذها وفاء عن الدين ثمّ تخليلها لنفسه، و الأمر بالإفساد للإرشاد إلى طريق الانتفاع المحلّل.

و أمّا ما ذكره المصنّف من الوجهين فأورد في مصباح الفقاهة على الأوّل منهما بأنّ أخذها مجانا ثمّ تخليلها لنفسه لا يوجب سقوط الدين عن ذمّة الغريم. و على الثاني بأن تخليلها لصاحبها لا يصحّح أخذ الخلّ وفاء ما لم يأذن المالك في ذلك. و المالك إنّما أذن في أخذ الخمر وفاء لا في أخذ الخلّ «1».

أقول: يمكن أن يدافع عن الوجه الأوّل بأن قبول ما يعطيه المديون بعنوان دينه ملازم لإبراء ذمّته منه.

و

عن الثاني بأنّ إذنه تعلّق بهذه العين الخارجيّة بذاتها وفاء و هو مطلق شامل لجميع حالاتها و تطوّراتها و ليس مقيّدا بحالة خمريّتها فقط، فتأمّل. هذا.

و المحقّق الإيرواني في حاشيته بعد مناقشة ما ذكره المصنّف من الوجهين قال: «مع أنّ هذا مبنيّ على اجتهاد ابن أبي عمير من كون المراد من الإفساد التخليل، لم لا يكون المراد منه جعلها خمرا فاسدا لا يرغب فيها؟ و ليس في الرواية إشارة إلى أخذها بدلا عن الدراهم. نعم مجرّد إيهام لا حجيّة فيه، فيحكم ببقاء الدراهم في الذمة. و أمّا الخمر

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 87، حرمة التكسّب بالخمر و كل مسكر مائع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 457

..........

______________________________

فيفسدها حسما لمادّة الفساد.» «1»

أقول: قد مرّ ورود أخبار مستفيضة بجواز تخليل الخمر و لو بعلاج، فلا يجب إهراقها أو إفسادها بنحو لا يرغب فيها قطعا، فلا محالة يراد بإفسادها جعلها خلا. و ظاهر قوله «ع» في جواب سؤال السائل: «خذها ثمّ أفسدها» جواز أخذها بدل الدراهم و إلّا لقال: أفسدها و لك ما كان عليه من الدراهم. و ابن أبي عمير في كلام الإيرواني أيضا من سبق القلم.

الأمر الثالث: [صحة بيع أهل الذمّة بعضهم من بعض]

لا يخفى أنّ محلّ البحث في مسألة بيع الخمر صورة كون المتبايعين أو أحدهما مسلما. و أما أهل الذمّة فيصحّ معاملاتهم عليها فيما بينهم على نحو ما مرّ في معاملة الخنزير، بمعنى أنّه يترتّب على معاملاتهم لهما آثار الصحّة فيجوز أخذ ثمنهما منهم بإزاء الدين أو الجزية أو نحو ذلك و قد مرّ تفصيل ذلك في بيع الخنزير، فراجع.

[الأمر الرابع:] بيع الجامد من المسكرات
اشارة

الأمر الرابع: قال الإيرواني «ره» في حاشيته في ذيل قول المصنّف: و كلّ مسكر مائع قال: «التخصيص بالمائع لأجل أنّ النجس من المسكرات هو ما كان مائعا. و الكلام فعلا في بيع الأعيان النجسة. لا لاختصاص حرمة البيع به، فإنّ الحرمة عامّة، لعموم حرمة الانتفاع بالمسكر. لكنك عرفت أنّ مناط المنع في النجس أيضا هو حرمة الانتفاع به، فكلّ المسكرات يحرم بيعها بمناط واحد.» «2»

أقول: ما ذكره أخيرا من أنّ مناط المنع في النجس أيضا هو حرمة الانتفاع به كلام

______________________________

(1) حاشية المحقّق الإيروانى على المكاسب/ 6، في الأعيان النجسة.

(2) نفس المصدر، ص 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 458

..........

______________________________

متين و قد كنا نصرّ عليه تبعا لما ذكره المصنّف أيضا في مبحث بيع الميتة ناسبا له إلى الأعلام. فذكرهم للنجاسات نوعا مستقلا ممّا يحرم الاكتساب به لعلّه من جهة أنّ المتبادر ممّا لا منفعة له في النوع الثالث ما ليس له منفعة أصلا، و أمّا النجاسات فربّما يكون لها منافع عقلائيّة كالميتة و الخنزير و نحوهما و لكنّها غير مشروعة. و الجامع بين النوعين ما لا منفعة له إمّا خارجا أو بحسب حكم الشرع. و رتبنا على ما ذكر جواز المعاملة على النجس إذا كان له منافع محلّلة عقلائيّة و وقع البيع بلحاظها. ففي المقام

أيضا نقول: يحرم الانتفاع بالمسكر الجامد و لا يصحّ بيعه أيضا إذا فرض انحصار منفعته في الإسكار المحرّم، و أمّا إذا لم ينحصر في ذلك و كان له منافع طبيّة أو كيمياويّة صالحة للمجتمع فأيّ مانع من بيعه لذلك؟ نظير الأفيون الذي لا ينحصر منفعته في التخدير به بل ربّما ينتفع به في الأدوية و المعاجين النافعة، فتدبّر.

و استدلّ للمنع بوجوه:
الأوّل: أنّ المستفاد من كلام بعض أهل اللغة أن الخمر اسم لكلّ ما يخامر العقل و يخالطه

، فتشمل المسكرات الجامدة أيضا، و لا محالة تعمّها ما ورد في حرمة بيع الخمر. و قد مرّ عن الراغب في المفردات قوله: «و الخمر سمّيت لكونها خامرة لمقرّ العقل، و هو عند بعض الناس اسم لكلّ مسكر، و عند بعض اسم للمتّخذ من العنب و التمر ...» «1»

و في المصباح المنير: «و يقال: هي اسم لكلّ مسكر خامر العقل أي غطّاه.» «2»

و فيه مضافا إلى اختلافهم في ذلك أن نظر القائلين بالتعميم إلى المسكرات المائعة فقط، بداهة عدم صدق عنوان الخمر على مثل الحشيش و نحوه من المسكرات الجامدة.

______________________________

(1) مفردات الراغب/ 160.

(2) المصباح المنير 1/ 248.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 459

الثاني: صحيحة عمّار بن مروان عن أبي جعفر «ع»،

______________________________

و فيها: «و السّحت أنواع كثيرة:

منها أجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ و المسكر و الربا بعد البيّنة. الحديث.» «1»

حيث يستفاد منها حرمة الثمن و بطلان المعاملة في كلّ مسكر و لو كان جامدا.

و فيه: أنّ الاستدلال مبنيّ على ما في الوسائل و التهذيب من عطف المسكر على النبيذ، و لكنّه في الكافي الذي هو أحفظ و أصحّ غالبا بحذف الواو، فيكون لفظ المسكر وصفا للنبيذ لإخراج ما ليس بمسكر منه، فراجع. «2»

و يشهد لذلك نقل الخبر عن الخصال و المعاني أيضا بحذف الواو. «3»

و قد دلّ خبر الكلبي النسابة عن أبي عبد اللّه «ع» على كون النبيذ على قسمين:

مسكر حرام و غير مسكر حلال، فراجع «4».

هذا مضافا إلى أنّ مجرّد الاحتمال و الاختلاف في النقل يكفي في بطلان الاستدلال، و إلى ما مرّ سابقا من استعمال لفظ السحت في كثير من المكروهات أيضا مثل كسب الحجّام، فراجع «5».

الثالث: ما روي عن النّبيّ «ص» من قوله: «كلّ مسكر حرام»:

ففي صحيحة الفضيل بن يسار قال: ابتدأني أبو عبد اللّه «ع» يوما من غير أن أسأله فقال: قال رسول اللّه «ص»:

______________________________

(1) الوسائل 12/ 62، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) راجع التهذيب 6/ 368، الحديث 183 من المكاسب؛ و الكافى 5/ 126، كتاب المعيشة، باب السحت، الحديث 1.

(3) الوسائل 12/ 64، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.

(4) الوسائل 1/ 147، كتاب الطهارة، الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

(5) الوسائل 12/ 62، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 460

..........

______________________________

«كلّ مسكر حرام.» قال: قلت: أصلحك اللّه، كلّه؟ قال: «نعم، الجرعة منه حرام.» «1»

و في

خبر عطاء بن يسار عن أبي جعفر «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «كلّ مسكر حرام و كلّ مسكر خمر. «2»

و مرّ عن مسلم بإسناده إلى ابن عمر قال: قال رسول اللّه «ص»: «كلّ مسكر خمر و كلّ مسكر حرام.» «3»

و فيه أوّلا: أنّ الظاهر من الحرمة في الروايات حرمة الاستعمال بقصد الإسكار فلا تدلّ على حرمة الانتفاعات الأخر و البيع لأجلها، و قد مرّ منّا جوازهما في المسكرات المائعة أيضا.

و ثانيا: أنّ الظاهر من الروايات إرادة خصوص المسكرات المائعة، كما يشهد بذلك قوله في آخر صحيحة الفضيل: «نعم، الجرعة منه حرام.» و في صحيحة أخرى له عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «حرّم اللّه الخمر بعينها، و حرّم رسول اللّه «ص» المسكر من كلّ شراب فأجاز اللّه له ذلك ... فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام و لم يرخّص فيه لأحد.» «4»

الرابع: ما مرّ في صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الماضي «ع»

من قوله: «فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر.» و في خبر آخر له عنه «ع»: «فما فعل فعل الخمر فهو خمر.» «5»

بتقريب أنّ ظاهر التنزيل ترتيب جميع آثار الخمر أو آثارها الظاهرة التي منها حرمة البيع.

______________________________

(1) الوسائل 17/ 259، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

(2) الوسائل 17/ 260، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 5.

(3) صحيح مسلم 3/ 1587، كتاب الأشربة، باب بيان أنّ كلّ مسكر خمر ...، الحديثان 73 و 74.

(4) الوسائل 17/ 259، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديثان 1 و 2.

(5) الوسائل 17/ 273، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 19 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديثان 1 و 2.

دراسات في المكاسب

المحرمة، ج 1، ص: 461

..........

______________________________

و فيه أوّلا: أنّ النظر في هذا التعميم إلى المسكرات المائعة في قبال من خصّ الحرمة المطلقة بخصوص خمر العنب أو العنب و التمر فقط. و لم يعهد إطلاق لفظ الخمر على المسكرات الجامدة كالحشيش و نحوه، إلّا أن يقال: إنّ باب التنزيل و المجاز أوسع من ذلك.

و ثانيا: أنّ كون التنزيل بلحاظ جميع الآثار حتّى في الجوامد يقتضي الحكم بنجاسة المسكرات الجامدة أيضا و لم يقل به أحد. فالمراد منه بالنسبة إليها الآثار الظاهرة فقط، و كون حرمة البيع منها غير واضح، و المتيقّن منها حرمة الشرب و الاستعمال للإسكار.

هذا. و قد مرّ منّا عدم الفرق بين المائعات و الجوامد في أنّ بيعها بلحاظ الاستعمال المتعارف الموجب للإسكار حرام و فاسد، و بلحاظ المنافع المحلّلة العقلائيّة حلال و صحيح، فلاحظ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 462

[المسألة الثامنة: المعاوضة على الأعيان المتنجسة الغير القابلة للطهارة]
اشارة

الثامنة: يحرم المعاوضة على الأعيان المتنجسة الغير القابلة للطهارة إذا توقّف منافعها المحلّلة المعتدّ بها على الطهارة. (1)

______________________________

8- المعاوضة على الأعيان المتنجسة ...

(1) أقول: الشي ء المتنجّس إمّا أن يقبل التطهير كالثوب و نحوه و كالماء على القول بطهارته بمجرد الاتصال بالكر أو الجاري، و إمّا أن لا يقبل التطهير كالدهن و الزيت المائعين إذا تنجّسا. و الثاني إمّا أن يمكن الانتفاع به شرعا مع نجاسته كالزيت المتنجّس للاستصباح أو لتدهين السفن مثلا و الدبس المتنجّس لإطعام النحل، و إمّا أن لا يمكن ذلك.

ظاهر المصنّف جواز المعاوضة في القسمين الأوّلين، فيختصّ حرمة المعاوضة بما لا يقبل الطهارة و لا نفع له شرعا مع نجاسته.

ففي الحقيقة يكون البحث فيما لا قيمة له و لا ماليّة بلحاظ الشرع و إن كان يعدّ مالا عند من لا

يعتني بالشرع.

و الظاهر صحّة هذا التفصيل، و سيظهر وجهه.

[نقل بعض كلمات الأعلام في المسألة]

و الأولى نقل بعض كلمات الأعلام في المسألة:

1- قال الشيخ في مكاسب النهاية: «و كلّ طعام أو شراب حصل فيه شي ء من الأشربة المحظورة أو شي ء من المحظورات و النجاسات فإنّ شربه و عمله و التجارة فيه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 463

..........

______________________________

و التكسّب به و التصرّف فيه حرام محظور.» «1»

2- و في المبسوط ما ملخّصه: «و أمّا النجس بالمجاورة فإمّا أن يكون جامدا أو مائعا. فإن كان جامدا فالنجاسة إن كانت ثخينة تمنع النظر إليه فلا يجوز بيعه. و إن كانت رقيقة لا تمنع من النظر جاز بيعه. و إن كان مائعا فإن كان ممّا لا يطهر بالغسل مثل السمن فلا يجوز بيعه. و إن كان ممّا يطهر بالغسل مثل الماء يجوز بيعه إذا طهر.» «2»

أقول: ظاهره أنّ الماء النجس القابل للطهارة لا يجوز بيعه قبل تطهيره، مع أنّ الظاهر جواز بيعه على هذا الفرض إذا فرض له قيمة و ماليّة.

3- و في بيع الغنية: «و قيدنا بكونها مباحة تحفّظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السماء، و هو إجماع الطائفة.» «3»

أقول: لا يخفى ظهور عبارته في دوران حرمة البيع و حلّيته مدار حرمة المنافع و حلّيتها كما قلنا به فيما مرّ. فليست النجاسة مانعة بنفسها.

4- و في التذكرة: «و ما عرضت له النجاسة إن قبل التطهير صحّ بيعه و يجب إعلام المشتري بحاله، و إن لم يقبله كان كنجس العين.» «4»

5- و في المنتهى ما ملخّصه: «القسم الثاني من قسمي النجس

و هو الأعيان الطاهرة بالأصالة إذا أصابها نجاسة. فإمّا أن تكون جامدة كالثوب و شبهه فهذا يجوز بيعه

______________________________

(1) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(2) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(4) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 464

..........

______________________________

إجماعا. و الثاني أن تكون مائعة، فحينئذ إمّا أن لا تطهر كالخلّ و الدبس فهذا لا يجوز بيعه إجماعا كالأعيان النجسة، و إمّا أن تطهر كالماء ففيه للشافعي و جهان: أحدهما أنّه لا يجوز بيعه لأنّه نجس لا يمكن غسله، و الثاني يجوز بيعه لأنّه يطهر بالماء فأشبه الثوب النجس، و الآخر عندي أقوى ...» «1»

أقول: المتيقّن من الإجماع على عدم جواز البيع في مثل الخلّ و الدبس- على فرض تحقّقه- صورة عدم وجود المنفعة المحلّلة لهما، فلو فرض وجودها كما في الدبس لإطعام النحل مثلا أو الزيت للاستصباح به فالإجماع منصرف عنه و لا وجه لعدم جواز بيعه لذلك. نعم يشكل الاستفادة من عسل النحل حينئذ، إذ تحقّق الاستحالة مشكل.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 464

6- و في المستند في عداد ما يحرم التكسّب به قال: «و منها المائعات النجسة ذاتا أو عرضا كان التكسّب بها بالبيع أو غيره و إن قصد بها نفع محلّل و أعلم المشتري بحالها إن لم يقبل التطهير إجماعا كما عن الغنية و المنتهى و ظاهر المسالك. و مع قبولها

له على الأصحّ وفاقا لظاهر الحلّي بل التهذيب بل الخلاف و نهاية الشيخ حيث صرّح فيهما بوجوب إهراق الماء النجس ...» «2»

أقول: قد مرّ أنّه مع وجود المنفعة العقلائية المحلّلة للشي ء المتنجّس لا نرى وجها لحرمة التكسّب به و إن لم يقبل التطهير كالزيت المتنجّس للاستصباح به. و كذا الماء المتنجّس إذا فرض الانتفاع به مع نجاسته كسقي الحيوان أو الشجر به فصار بذلك مالا يرغب فيه و يبذل بإزائه المال عرفا لإعواز الماء في المحلّ. و كأنّه- قدس سرّه- كان متعبّدا

______________________________

(1) المنتهى 2/ 1010، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل، النوع الأوّل.

(2) مستند الشيعة 2/ 332، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 465

..........

______________________________

بالإجماع المدّعى على عدم جواز المعاوضة على النجس مطلقا. و قد عرفت أنّ المتيقّن منه- على فرض تحقّقه- صورة عدم وجود المنفعة المحلّلة له، فالنجاسة بنفسها ليست مانعة.

و أمّا طهارة الماء المتنجس بمجرد الاتصال بالكر أو الجاري فمحلّ إشكال و إن اختاره البعض، إذ النجاسة في المائع تسري إلى عمقه و جميع أجزائه، فمجرّد اتّصال الماء الطاهر بأحد سطوحه لا يكفي في تطهّره كما في سائر الأشياء المتنجّسة بعمقها و سطوحها.

و إنّما يطهر لو فرض استيلاء الكرّ على جميع الأجزاء النجسة، و لازم ذلك غلبة الماء الطاهر عليها و استهلاك النجس بكلّه فيه.

و القائل بالطهارة بمجرد الاتّصال يعتمد على ما قالوه من أنّ المائين بالاتّصال يصيران ماء واحدا حقيقة بضميمة الإجماع المدّعى على أنّ الماء الواحد له حكم واحد و حيث إنّ الكر أو الجاري طاهر فالمتّحد معه أيضا صار طاهرا.

و يرد على ذلك منع تحقّق الإجماع بنحو يكشف عن قول المعصوم

«ع»، بل الظاهر بطلان ذلك. ألا ترى أنّه إذا وجد هنا ماء واحد أزيد من الكرّ فتغير بعضه بوصف النجاسة و كان الباقي كرّا فهنا ماء واحد محكوم بحكمين، إذ تغيّر البعض لا يجعل الماء الواحد مائين بعد بقاء اتّصالهما، نظير ماء واحد ملوّن كلّ طرف منه بلون. و على هذا فحكم الماء المتنجّس المتصل بالكرّ بلا خلط به حكم الزيت أو الدبس المتنجّس المتّصل به.

و أمّا ما عن أبي جعفر «ع» مشيرا إلى ماء غدير: «إنّ هذا لا يصيب شيئا إلّا طهّره» «1»

و ما عن أبي عبد اللّه «ع»: «كلّ شي ء يراه ماء المطر فقد طهر» «2» فمضافا إلى ضعفهما

______________________________

(1) المختلف 1/ 3، كتاب الطهارة، الفصل الأوّل في الماء القليل.

(2) الوسائل 1/ 109، كتاب الطهارة، الباب 6 من أبواب الماء المطلق، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 466

..........

______________________________

يظهر منهما بمناسبة الحكم و الموضوع لزوم إحاطة المطهّر بالشي ء المتنجّس بحيث يصيب كلّ جزء منه فلا يكفي إصابته لجزء منه في طهارة الجميع كما هو الشرط في طهارة سائر الأشياء.

و بالجملة يشكل الحكم بطهارة الماء المتنجّس بمجرد اتصاله بالكر و نحوه. هذا.

و لكن مع ذلك نقول بجواز بيعه قبل تطهيره إذا فرضت له منفعة محلّلة مقصودة كما مرّ.

و الأمر بإهراق المائين المشتبهين في أخبارنا «1» ليس لوجوب الإهراق تعبّدا و لا لعدم جواز الانتفاع بهما فيما لا يتوقّف على الطهارة كسقي الحيوان أو الشجر مثلا. بل هو كناية عن عدم جواز التوضّي بهما و لزوم صرف النظر عنهما.

و لم يكن الماء النجس أو المشتبه غالبا ذا أهميّة و قيمة بحيث ينتفع به و يرغب فيه حتّى يبذل بإزائه المال أو يكون إهراقه تبذير

للمال، فتدبّر.

و بالجملة ليس ذكر الشيخ و غيره لهذه الأخبار في كتبهم دليلا على حكمهم بعدم جواز الانتفاع بالماء النجس أو عدم جواز بيعه.

7- و في حاشية المحقّق المامقاني في ذيل كلام المصنّف في المقام: «هذا الحكم ممّا لا خلاف فيه و لا إشكال، بل هو مما قام عليه الإجماع، و لا أشكال في كونه مجمعا عليه.» «2»

8- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن المالكيّة: «و كذلك لا يصحّ بيع المتنجّس الذي لا يمكن تطهيره كزيت و عسل و سمن وقعت فيه نجاسة على المشهور ... أمّا المتنجّس الذي يمكن تطهيره كالثوب فإنه يجوز بيعه. و يجب على البائع أن يبيّن ما فيه من النجاسة، فإن لم يبيّن كان للمشتري حقّ الخيار ...»

______________________________

(1) الوسائل 1/ 124، كتاب الطهارة، الباب 12 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.

(2) حاشية المكاسب (غاية الآمال) للمحقق المامقانى/ 27.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 467

[ما يستدل به للمنع]

لما تقدّم من النبويّ: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و نحوه المتقدّم عن دعائم الإسلام. (1) و أمّا التمسّك بعموم قوله «ع» في رواية تحف العقول: «أو شي ء من وجوه النجس» ففيه نظر، لأنّ الظاهر من وجوه النجس العنوانات النجسة لأنّ ظاهر الوجه هو العنوان.

نعم يمكن الاستدلال على ذلك بالتعليل المذكور بعد ذلك و هو قوله «ع»: «لأنّ ذلك كلّه محرّم أكله و شربه و لبسه» إلى آخر ما ذكر. (2)

______________________________

و عن الحنابلة: «أما الدهن الذي سقطت فيه نجاسة فإنّه لا يحلّ بيعه و لكن يحلّ الانتفاع به في الاستضاءة في غير المسجد ...»

و عن الحنفيّة: «و يصحّ بيع المتنجّس و الانتفاع به في غير الأكل، فيجوز أن يبيع دهنا

متنجّسا ليستعمله في الدبغ و دهن عدد الآلات و الماكينات و نحوها و الاستضاءة به في غير المسجد ...» «1»

أقول: كلام الحنفيّة منهم أولى و أصحّ كما لا يخفى. هذه ما أردنا نقله من الكلمات في المسألة.

(1) حيث قال: «و ما كان محرّما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» «2»

(2) عبارة رواية التحف هكذا: «لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد.» «3»

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231 و 232، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

(2) دعائم الإسلام 2/ 19، كتاب البيوع ...، الفصل الثانى.

(3) تحف العقول/ 333.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 468

..........

______________________________

أقول: قد تحصّل ممّا ذكروه في المقام أن المتنجّس إمّا جامد أو مائع، و المائع إمّا أن يقبل التطهير أو لا، و ما لا يقبله إمّا أن تكون له منفعة عقلائيّة محلّلة أو لا.

و يظهر من البعض حرمة المعاوضة على المائع مطلقا، فيكون وزانه وزان الأعيان النجسة عندهم. و ربّما يدّعون الإجماع على ذلك كما ادّعوه في الأعيان النجسة.

و لكن الظاهر من عبارة المصنّف هنا اختصاص حرمة المعاوضة بما لا يقبل التطهير و لا يكون له في حال نجاسته منفعة محلّلة، و هو الأقوى عندنا، إذ مع قبول التطهير أو وجود المنفعة المحلّلة المقصودة لا نرى وجها للمنع عن بيعه، فيشمله أدلّة العقود و البيع و التجارة من غير فرق في ذلك بين الجامد و المائع.

و الإجماع على كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة المعاملة حتّى مع وجود المنفعة المحلّلة ممنوع، لما عرفت من رجوع كثير من كلماتهم إلى جعل

المانع عدم المنفعة المحلّلة.

فالمتيقّن من معقد الإجماع- على فرض تحقّقه- صورة عدم المنفعة المحلّلة أو وقوع المعاملة بلحاظ المحرمة منها. و إلى ذلك أيضا تنصرف أخبار المنع حتّى رواية تحف العقول، للتعليل بقوله: «لما فيه من الفساد.»

ثمّ إن الظاهر وضوح الحكم فيما لا يقبل التطهير و لا يكون له منفعة محلّلة مع نجاسته، لعدم كون المتنجّس حينئذ مالا يرغب فيه بلحاظ الشرع. و المعاوضات أمور عقلائيّة أمضاها الشارع و قد شرّعت لمبادلة الأموال و الحاجات المشروعة.

و أمّا ما استدل بها المصنّف من الأخبار فضعفها مانع عن الاستدلال بها، نعم تصلح للتأييد. و قد مرّ شرح الروايات في أوائل الكتاب، فراجع.

و ناقش في مصباح الفقاهة ما ذكره المصنّف في مقام الاستدلال بما ملخّصه: «أنّه مع

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 469

..........

______________________________

ضعفها إن كان المراد بالحرمة فيها الحرمة الذاتية فلا تشمل المتنجّس. و إن كان المراد بها ما تعمّ الحرمة الذاتيّة و العرضية فيلزم على المصنّف أن لا يفرّق حينئذ بينما يقبل التطهير و ما لا يقبله، فإنّ موضوع حرمة البيع على هذا التقدير مطلق ما يتّصف بالنجاسة. و مع الإغضاء عن ذلك فلا دلالة فيها على حرمة بيع المتنجّس، لأنّه إن كان المراد بالحرمة فيها حرمة جميع منافع الشي ء أو منافعه الظاهرة فلا تشمل المتنجّس، ضرورة جواز الانتفاع به في غير ما يتوقّف على الطهارة كإطعامه للبهائم أو سائر الانتفاعات المحلّلة. و إن كان المراد بها حرمة الأكل و الشرب فإنّها لا تستلزم حرمة البيع، فإنّ كثيرا من الأشياء يحرم أكلها و شربها و مع ذلك يجوز بيعها. و أمّا دعوى الإجماع على ذلك فجزافيّة، فإنّ مدرك المجمعين هي الوجوه المذكورة.» «1»

أقول: يمكن

أن يقال: إنّ المراد بالحرمة في الروايات هو الأعمّ من الذاتيّة و العرضيّة كما هو ظاهر إطلاقها. و لكنّها تنصرف عمّا يقبل التطهير بسهولة حيث تزول حرمته بذلك.

ثمّ إنّ الظاهر من الحرمة المسندة إلى الذوات بنحو الإطلاق حرمة جميع منافعها أو حرمة منافعها الظاهرة الغالبة. كما أنّ الظاهر من حرمة بيعها- بمناسبة الحكم و الموضوع و بسبب تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلّية و الدخالة- ما إذا وقع البيع بلحاظ هذه المنافع المحرمة، فلا يحرم بيعها بلحاظ المنافع المحلّلة و إن كانت نادرة بشرط كونها عقلائيّة موجبة لماليّة الشي ء، و قد التزمنا في الأعيان النجسة أيضا بجواز بيعها بقصد المنافع المحلّلة حتّى في مثل الخمر للتخليل و جلد الميتة للاستقاء به، فراجع.

و الإجماع في كلا البابين- على فرض تحقّقه- منصرف إلى صورة عدم المنفعة المحلّلة

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 89، جواز بيع المتنجس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 470

..........

______________________________

أو وقوع البيع بلحاظ المحرّمة منها. و بعبارة أخرى: الإجماع دليل لبّي، فيؤخذ بالقدر المتيقّن من معقده. هذا.

و ربّما يستدلّ للمنع في المقام بقوله- تعالى-: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل «1» بتقريب أنّ أخذ الثمن في مقابل ما لا نفع له أكل له بالباطل، و الباطل أعمّ ممّا بطل عرفا أو شرعا.

و فيه ما مرّ من أنّ الاستدلال مبنيّ على كون الباء في قوله: بالْبٰاطل للمقابلة، نظير ما تدخل على الأثمان في المعاوضات. و لكنّ الظاهر كونها للسببيّة، فأريد بالنهي في الآية النهي عن تصرّف الأموال بالأسباب الباطلة كالقمار و السرقة و نحوهما.

و يشهد لذلك استثناء التجارة عن تراض التي هي من قبيل الأسباب للنقل و الانتقال، فلا نظر في الآية إلى العوضين و ماهيّتهما.

و

ربّما يقال بإلحاق كلّ متنجّس بما يتنجّس به في أحكامه إلّا فيما ثبت استثناؤه، و من أحكام النجس حرمة البيع: فالمتنجّس بالخمر بحكم الخمر، و المتنجّس بالميتة بحكم الميتة و هكذا.

و استشهد لذلك بما رواه جابر عن أبي جعفر «ع»، قال: أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر «ع»: «لا تأكله.»

فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها! قال: فقال له أبو جعفر «ع»:

«إنّك لم تستخفّ بالفأرة و إنّما استخففت بدينك، إنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شي ء.» «2»

و السند ضعيف بعمرو بن شمر.

و تقريب الاستدلال أنّ تمسّك الإمام «ع» في الذيل بالكبرى المذكورة مع عدم انطباقها

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 188.

(2) الوسائل 1/ 149، كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 471

..........

______________________________

على المورد أعني الطعام المتنجّس لا يتمّ إلّا بتنزيل المتنجّس بالميتة منزلة الميتة، و يتعدّى منها إلى غيرها بإلغاء الخصوصيّة أو عدم القول بالفصل.

و ناقش ذلك الأستاذ الإمام «ره» بقوله: «الظاهر أنّه لم يتمسّك بالكبرى لإثبات حرمة الزيت و السّمن بل بعد بيان حرمتها بقوله: «لا تأكله» لما قال الرجل ما قال أراد بيان أنّ الميتة من الفأرة و غيرها حرام بحكم اللّه- تعالى- و الاستخفاف إنّما هو بحكمه- تعالى- لا بها، مع احتمال تفسّخ الفأرة و إرادة الرجل أكل الزيت بما فيه، تأمّل.

مضافا إلى عدم دلالة الرواية بوجه على إرادة التنزيل، فإنّ إرادته من تلك العبارة في غاية البعد، بل لا تخلو من استهجان فضلا عن استفادة عموم التنزيل و عن إسراء الحكم إلى

سائر المتنجّسات كلّ بحسبه فيقال بإسراء حكم كلّ نجس إلى ما تنجّس به.» «1»

أقول: يمكن أن يقال: إنّ ظهور الكبرى المذكورة في الملازمة بين حرمة الميتة و حرمة ملاقيها واضح و لكنّها لا تدلّ على الملازمة في جميع الأحكام بل في حرمة الأكل فقط، فلا تدلّ على حرمة البيع و فساده، كما لا تدلّ على ثبوت الحدّ لمن تناول ملاقي الخمر مثلا.

اللّهم إلّا أن يتمّم ذلك بقوله «ع»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و العرف أيضا يساعد على الملازمة بين الخبيث و بين ما يجاوره و يلاقيه في الاشميزاز و التنفّر منه.

هل يجب إعلام المشتري بالنجاسة أم لا؟

بقي الكلام فيما في بعض الكلمات التي مرّت من وجوب إعلام المشتري بالنجاسة إن باع المتنجّس. فهل يجب ذلك لحرمة استعمال النجس فيما يتوقّف على الطهارة كالأكل و الشرب و الصلاة فيحرم التسبيب إليه.

______________________________

(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى- قدس سرّه- 1/ 20، في المائعات المتنجّسة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 472

..........

______________________________

أو لا يجب لأنّ المشتري معذور بجهله و اعتماده على أصل الطهارة و لا يكون عاصيا، و الإعلام يوجب المشقّة عليه فلا وجه لإلقائه فيها.

أو يفرّق بين ما يستعمل عادة في الأكل و الشرب كالسمن و الزيت و نحوهما و بين ما يستعمل للصلاة و نحوها كالثوب فيجب الإعلام في القسم الأوّل دون الثاني، إذ في القسم الأوّل يكون المنهيّ عنه استعمال النجاسة بوجودها الواقعي لوجود المفسدة فيها فيكون استعمالها قبيحا و مبغوضا بالذات و إن وقع عن جهل المباشر، فلا يجوز الإقدام في تحققه تسبيبا. و بعبارة أخرى نفس الفعل قبيح و مبغوض لوجود المفسدة فيه و إن كان الفاعل المباشر معذورا فيكون السبب مقدما على فعل قبيح.

بخلاف القسم

الثاني، حيث إنّ الصلاة في النجس مع عدم العلم بالنجاسة صحيحة واقعا و لا تقصر بحسب الملاك عن الصلاة مع الطهارة الواقعيّة إذ المانع عن صحّتها هو العلم بالنجاسة لا نفسها. فلا نرى وجها لوجوب إعلامها؟ في المسألة وجوه.

و الأظهر هو الوجه الثالث و يشهد لهذا التفصيل بعض الأخبار:

فيشهد لوجوب الإعلام في القسم الأوّل ما دلّ على وجوب الإعلام في الزيت المتنجّس، كخبر معاوية بن وهب و غيره عن أبي عبد اللّه «ع» في جرذ مات في زيت، ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به.» و نحوه خبر أبي بصير و الأعرج السمان. «1»

و يشهد لعدم الوجوب في القسم الثاني موثقة ابن بكير قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه و هو لا يصلي فيه. قال: «لا يعلمه.» قال: قلت: فإن أعلمه؟ قال: «يعيد» «2».

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 66، كتاب التجارة، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به.

(2) الوسائل 2/ 1069، كتاب الطهارة، الباب 47 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 473

[حكم بيع المسوخ]
اشارة

ثمّ اعلم أنّه قيل بعدم جواز بيع المسوخ من أجل نجاستها. (1) و لمّا كان الأقوى طهارتها لم يحتج إلى التكلّم في جواز بيعها هنا. نعم لو قيل بحرمة البيع لا من حيث النجاسة كان محلّ التعرّض له ما سيجي ء من أنّ كلّ طاهر له منفعة محلّلة مقصودة يجوز بيعه.

و سيجي ء ذلك في ذيل القسم الثالث ممّا لا يجوز الاكتساب به لأجل عدم المنفعة فيه.

______________________________

و الأمر بالإعادة محمول على الاستحباب أو الإعلام في أثناء الصلاة لعدم وجوب الإعادة لو كان بعدها كما يشهد بذلك صحيحة الفيض

«1» هذا.

و لكن يمكن أن يقال بافتراق الثوب المستعار موقتا لصلاة عن الثوب أو الفرش الذي يشترى، حيث إنّهما دائما في معرض الملاقاة بالرطوبة و السراية فتسري النجاسة بالمآل في جميع ما يتزاوله الإنسان حتّى في مأكله و مشربه، و على هذا فالأحوط الإعلام فيهما أيضا.

حكم بيع المسوخ

[بعض كلمات الفقهاء في المقام]

(1) أقول: يظهر من بعض الكلمات أنّ العلّة في المنع عن بيعها نجاستها، و من بعضها عدم النفع لها. و حيث إنّ أكثر المسوخ من السباع فيمكن أن يستدلّ لها بما ورد في الانتفاع بالسباع و حكمها، فلنتعرّض لبعض كلمات الأصحاب:

1- ففي المقنعة بعد ذكر حرمة بيع الميتة و الدم و الخنزير و الأعيان النجسة قال:

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 474

..........

______________________________

«و التجارة في القردة و السباع و الفيلة و الذئبة و سائر المسوخ حرام و أكل أثمانها حرام.» «1»

أقول: ليس في كلامه هذا اسم من نجاسة المسوخ و أنّها العلّة لحرمة بيعها و ثمنها.

نعم في ذكرها في خلال النجاسات إشعار بذلك.

2- و قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 308): «لا يجوز بيع شي ء من المسوخ مثل القرد و الخنزير و الدبّ و الثعلب و الأرنب و الذئب و الفيل و غير ذلك ممّا سنبيّنه. و قال الشافعي: كلّ ما ينتفع به يجوز بيعه مثل القرد و الفيل و غير ذلك. دليلنا إجماع الفرقة.

و أيضا قوله «ع»: «إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و هذه الأشياء محرّمة اللحم بلا خلاف إلّا الثعلب فإنّ فيه خلافا. و هذا نصّ.» «2»

أقول: ادّعاؤه إجماع الفرقة على منع البيع في جميع ما ذكر عجيب، إلّا أن يكون المنع عنده من جهة النجاسة و

يريد الإجماع على أصل الكبرى أعني عدم جواز بيع النجس.

3- و فيه أيضا (المسألة 306): «القرد لا يجوز بيعه. و قال الشافعي: يجوز بيعه. دليلنا إجماع الفرقة على أنّه مسخ نجس، و ما كان كذلك لا يجوز بيعه بالاتّفاق.» «3»

أقول: لعلّ معقد الإجماع المدّعى كونه مسخا، و أمّا النجاسة فحكم رتّبه هو عليه على اعتقاده و إلّا فليس نجاسة القرد إجماعيّة.

4- و في النهاية: «و بيع سائر المسوخ و شراؤها و التجارة فيها و التكسّب بها محظور مثل القردة و الفيلة و الدببة و غيرها من أنواع المسوخ.» «4»

______________________________

(1) المقنعة/ 589، باب المكاسب.

(2) كتاب الخلاف 3/ 184 (ط. أخرى 2/ 82)، كتاب البيوع.

(3) كتاب الخلاف 3/ 183 (ط. أخرى 2/ 81)، كتاب البيوع.

(4) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 475

..........

______________________________

5- و في المبسوط: «و إن كان نجس العين مثل الكلب و الخنزير و الفأرة و الخمر و الدّم و ما توالد منهم و جميع المسوخ و ما توالد من ذلك أو من أحدهما فلا يجوز بيعه و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال إجماعا إلّا الكلب فإنّ فيه خلافا.» «1»

أفول: قوله: «و ما توالد من ذلك أو من أحدهما» مبنيّ على الغالب و إلّا فلو فرض كون الولد من جنس الحيوانات المحلّلة اللحم و شبيها بها في الصورة و الآثار فالظاهر إلحاقه بها كما إذا تولّدت شاة من اجتماع كلب و شاة مثلا.

و ليس في عبارة النهاية ظهور في كون المنع في المسوخ من جهة النجاسة و إن كان ذكرها في خلال ذكر النجاسات مشعرا بذلك. و لكن عبارة المبسوط

ظاهرة في ذلك.

و قد صرّح في أطعمة الخلاف (المسألة 2) بنجاسة المسوخ كلّها فقال: «الحيوان على ضربين: طاهر و نجس، فالطاهر: النعم بلا خلاف و ما جرى مجراها من البهائم و الصيد.

و النجس: الكلب و الخنزير و المسوخ كلّها. و قال الشافعي: الحيوان طاهر و نجس، فالنجس الكلب و الخنزير فحسب و الباقي كلّه طاهر. و قال أبو حنيفة: الحيوان على أربعة أضرب:

طاهر مطلق و هو النعم و ما في معناها، و نجس العين و هو الخنزير، و نجس نجاسته تجري مجرى ما ينجس بالمجاورة و هو الكلب و الذئب (الدبّ- خ.) و السباع كلّها، و مشكوك فيه و هو الحمار. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم ...» «2»

6- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنابلة: «و يجوز بيع سباع البهائم كالفيل و السّبع و نحوهما ...»

______________________________

(1) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(2) كتاب الخلاف 3/ 264، كتاب الأطعمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 476

..........

______________________________

و عن الحنفيّة: «و يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح كالأسد و الذئب و الفيل و سائر الحيوانات سوى الخنزير إذا كان ينتفع بها أو بجلودها على المختار ...

و الضابط في ذلك أنّ كلّ ما فيه منفعة تحلّ شرعا فإنّ بيعه تجوز.» «1»

أقول: و الأقوى عدم نجاسة المسوخ و انحصار النجس من الحيوان في الكلب و الخنزير كما مرّ عن الشافعي. و ادّعاء الخلاف إجماع الفرقة على نجاستها عجيب.

و في صحيحة الفضل أبي العباس قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن فضل الهرّة و الشاة و البقرة و الإبل و الحمار و الخيل و البغال و الوحش

و السباع فلم أترك شيئا إلّا سألته عنه فقال: «لا بأس به» حتى انتهيت إلى الكلب فقال: «رجل نجس لا تتوضّأ بفضله و اصبب ذلك الماء و اغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء.» «2»

و راجع في هذا المجال خبر معاوية بن شريح أيضا «3». و تحقيق المسألة يطلب من كتاب الطهارة.

ثم على فرض القول بنجاستها فلو كان لها أو لأجزائها منافع عقلائيّة محلّلة كما في جلود السباع و عظام الفيل بل و لحومها أيضا للتسميد أو لإطعام الكلاب أو الطيور و عدّت لأجل ذلك مالا عند العقلاء و المتشرعة فلا نرى وجها للمنع عن بيعها. و قد مرّ منّا جواز بيع جميع النجاسات لذلك، و يشمله أدلّة العقود و البيع و التجارة على القول بإطلاقها و يساعده الاعتبار أيضا. و قد حملنا أدلّة المنع و منها الإجماع المدّعى على صورة عدم المنفعة المحلّلة أو وقوع البيع بلحاظ المحرّمة منها.

و في السّرائر بعد ما حكى عن الشيخ المنع عن التكسّب بالفيلة و الدببة و غيرهما من

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 232، كتاب البيع، مبحث النجس و المتنجّس.

(2) الوسائل 1/ 163، الباب 1 من أبواب الأسآر، الحديث 4.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 477

..........

______________________________

أنواع المسوخ قال: «فيه كلام، و ذلك أنّ كلّ ما جعل الشارع و سوّغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه و ابتياعه لتلك المنفعة و إلّا يكون قد حلّل و أباح و سوّغ شيئا غير مقدور عليه.

و عظام الفيل لا خلاف في جواز استعمالها مداهن و أمشاطا و غير ذلك.» «1»

[الروايات الواردة على جواز الانتفاع بجلود السباع]

و قد استفاضت الروايات على جواز الانتفاع بجلود السباع، و هي تشمل بإطلاقها المسوخ منها

أيضا:

1- ففي صحيحة علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن «ع» عن لباس الفراء و السّمور و الفنك و الثعالب و جميع الجلود. قال: «لا بأس بذلك.» «2»

2- و في موثّقة سماعة قال: سألته عن لحوم السباع و جلودها. فقال: «أمّا لحوم السباع فمن الطير و الدوابّ فإنّا نكرهه. و أمّا الجلود فاركبوا عليها و لا تلبسوا منها شيئا تصلّون فيه.» «3»

3- و في صحيحة عليّ بن جعفر «ع» عن أخيه قال: سألته عن ركوب جلود السباع فقال: «لا بأس ما لم يسجد عليها.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال.

4- و قد دلّت موثّقة أخرى لسماعة على قبول السباع للتذكية، فتصير جلودها بذلك مذكّاة طاهرة و إن حرم لحمها: قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده، و أمّا الميتة فلا.» «5»

______________________________

(1) السرائر 2/ 220، في حكم التكسّب بالأطعمة و الأشربة المحظورة و النجاسات.

(2) الوسائل 3/ 255، كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 256، الحديث 3.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 256، الحديث 5.

(5) الوسائل 16/ 368 (ط. أخرى 16/ 453)، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 34، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 478

..........

______________________________

5- و في رواية عبد الحميد بن سعيد قال: سألت أبا إبراهيم «ع» عن عظام الفيل يحلّ بيعه أو شراؤه الذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال: «لا بأس، قد كان لي منه مشط أو أمشاط.» «1»

[ما استدل أو يمكن أن يستدل به للمنع]
اشارة

و أمّا ما استدل أو يمكن أن يستدل به للمنع فوجوه:

الوجه الأوّل: ما في كلام الشيخ «ره» من نجاسة المسوخ.

و فيه أوّلا: منع ذلك.

و عمدة ما استدل به لنجاستها توهّم دلالة حرمة أكلها على نجاستها، و مرسلة يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته هل يحلّ أن يمسّ الثعلب و الأرنب أو شيئا من السباع حيّا أو ميّتا؟ قال: «لا يضرّه و لكن يغسل يده.» «2» مع وضوح أنّ حرمة الأكل لا تستلزم النجاسة.

و غسل اليد في المرسلة يمكن منع إطلاقه فيحمل على صورة المسّ ميتا مع الرطوبة.

كيف؟! و لا يجب الغسل مع الجفاف قطعا. و يمكن حمله على المطلوبيّة المطلقة الجامعة بين الوجوب و الاستحباب أيضا بقرينة صحيحة الفضل الماضية و غيرها الصريحة في عدم البأس بفضل السباع.

و ثانيا: ما مرّ منّا من أنّ النجاسة بنفسها غير مانعة عن صحّة البيع مع فرض وجود المنفعة العقلائيّة المحلّلة.

الوجه الثاني: ما مرّ عن الخلاف و المبسوط من دعوى الإجماع على المنع.

و فيه مضافا إلى احتمال كونه مدركيّا مبتنيا على ما ذكروه من الأدلّة فليس دليلا

______________________________

(1) الوسائل 12/ 123، كتاب التجارة، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل 2/ 1050، كتاب الطهارة، الباب 34 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 479

..........

______________________________

مستقلّا: أنّ الإجماع دليل لبّي يقتصر على المتيقّن من معقده، و المتيقّن منه في المقام كما مرّ صورة عدم المنفعة المحلّلة أو وقوع البيع بلحاظ المحرّمة منها.

الوجه الثالث: ما عن النّبيّ «ص»:

«إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» كما مرّ عن الخلاف الاستدلال به.

و فيه أوّلا: أنّه لم يرد من طرقنا و لم يثبت صحّته. و نقل الشيخ و أمثاله لأمثال هذه الروايات العاميّة و الاستدلال بها لا يجبر ضعفها، إذ بناؤهم في أمثال هذه الكتب الاستدلاليّة على المحاجّة مع أهل الخلاف، فيذكرون كثيرا من رواياتهم جدلا، و هذا النحو من الاستدلال الجدلي كان شائعا بين فقهائنا المتقدّمين. و ما يجبر الضعف- على القول به- هو الشهرة العمليّة لا الاستدلالات الجدليّة.

و ثانيا: أنّ كلمة الأكل مذكورة في أكثر نقول هذه الرواية كما مرّ في أوائل الكتاب و لا يمكن الالتزام بحرمة ثمن كلّ ما حرم أكله، فلا محالة يراد به ما شاع أكله عادة و يقع البيع بلحاظ أكله.

و ثالثا: ما مرّ منّا من أنّ مقتضى مناسبة الحكم و الموضوع و تعليق الحكم بحرمة الثمن على حرمة الشي ء اختصاص حرمة الثمن و فساد المعاملة بصورة وقوع البيع بلحاظ المنافع المحرّمة، فتدبّر.

الوجه الرابع: ما عن الجعفريات

بسنده عن عليّ بن أبي طالب «ع»، قال: «من السّحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح و مهر البغيّ و كسب الحجام ... و ثمن القرد و جلود السباع.

الحديث.» «1»

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 480

..........

______________________________

و عن دعائم الإسلام عنه «ع» أنّه قال: «من السحت ثمن جلود السباع.»

و فيه مضافا إلى عدم ثبوت حجّية الكتابين: عدم مقاومة الخبرين لما مرّ من أدلّة الجواز، فيحملان على الكراهة. و السّحت كثيرا ما يطلق على المكروهات أيضا مثل كسب الحجّام، فراجع ما حرّرناه سابقا في معناه.

و لعلّهم كانوا يلبسونها في الصلاة مثل العامّة فورد

النهي بلحاظ ذلك، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 481

[الاكتساب بالمستثنيات من الأعيان النجسة تذكر في مسائل أربع]
اشارة

و أمّا المستثنى من الأعيان المتقدّمة فهي أربعة تذكر في مسائل أربع: (1)

______________________________

الاكتساب بالمستثنيات من الأعيان النجسة تذكر في مسائل أربع

(1) لو قيل بعدم كون النجاسة بنفسها مانعة مستقلّة عن صحّة البيع بل يكون المنع في النجاسات من جهة عدم المنفعة المحلّلة فيها أو وقوع البيع بلحاظ المحرّمة منها كما قوّيناه في خلال بحثنا إلى هنا فلا نحتاج إلى البحث عن المستثنيات مستقلا، إذ على هذا يكون الجميع على مساق واحد و يكون الجواز و المنع في الجميع دائرين مدار وجود المنفعة العقلائية المحلّلة و عدمها. بل نقول: إنّ نفس المستثنيات بلحاظ وجود المنافع المحلّلة فيها أدلّ دليل على ما قوّيناه من دوران الجواز و المنع مدار ذلك.

و أمّا على القول بالمنع عن بيع النجاسات مطلقا تعبّدا و كونها بنفسها عنوانا مستقلا للمنع كما هو ظاهر كلمات الأصحاب بل ادّعوا عليه الإجماع كما مرّ فالبحث عن الاستثناءات ممّا لا بدّ منه كما صنعه المصنّف.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 482

[المسألة الاولى: جواز بيع المملوك الكافر]
اشارة

الأولى: يجوز بيع المملوك الكافر أصليّا كان أو مرتدّا ملّيا (1) بلا خلاف

______________________________

المسألة الاولى: جواز بيع المملوك الكافر

[أنواع الكافر و المرتدّ]

(1) الكافر إمّا أصليّ باق على كفره أو مرتدّ أي من سبق منه الإسلام إجمالا ثم كفر.

و المرتدّ على قسمين: فطري و ملّي. فالفطري من ولد على الإسلام بأن كان أبواه أو أحدهما مسلما ثمّ دخل في الكفر. و قيل: من ولد على الإسلام و وصف بالإسلام حين بلغ أو حين صار مميّزا ثمّ كفر. و الملّي من أسلم عن كفر أصلي ثمّ رجع ثانيا إلى الكفر.

و كلّ منهما إمّا رجل أو امرأة.

و قد ثبت في محلّه أنّ الفطري إن كان رجلا لا يقبل توبته ظاهرا، و إن قيل بقبولها بينه و بين اللّه كما هو الأقوى، فيتحتّم قتله من قبل الحاكم الإسلامي و تبين منه زوجته و تعتدّ منه عدّة الوفاة و تقسم أمواله بين ورثته. و إن كان امرأة لم تقتل بل تحبس و يضيّق عليها حتّى تتوب أو تخلد في السّجن.

و الملّي إن كان رجلا يستتاب ثلاثة أيّام أو بمقدار يمكن معه رجوعه فإن تاب و إلّا قتل، و لا تزول منه أملاكه ما دام حيّا، و ينفسخ العقد بينه و بين زوجته و لكنّه مراعى على انقضاء عدّتها فإن تاب فيها رجع إليها. و إن كانت امرأة فكالفطريّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 483

ظاهر بل ادّعي عليه الإجماع و ليس ببعيد (1). كما يظهر للمتتبّع في المواضع المناسبة لهذه المسألة كاسترقاق الكفّار، و شراء بعضهم من بعض، و بيع العبد الكافر إذا أسلم على مولاه الكافر، و عتق الكافرة، و بيع المرتدّ، و ظهور كفر العبد المشترى على ظاهر الإسلام، و غير

ذلك.

[كلمات الفقهاء في المقام]

______________________________

(1) أقول: 1- قسم الشيخ الطوسي «ره» في بيوع المبسوط «1» الآدميّ المملوك إلى ما ثبت له سبب العتق كأمّ الولد مثلا و إلى ما لم يثبت. فحكم في القسم الثاني بجواز البيع، و أمّا في غير الآدمي من الحيوان ففصّل بين الطاهر منه و النجس فحكم في نجس العين منه بعدم جواز بيعه، فيظهر منه عدم التفصيل في الآدمي بين الطاهر منه و النجس، و هم يقولون بنجاسة الكافر.

2- و قال العلّامة في التحرير: «و يجوز التجارة في الجارية النصرانيّة و المغنّية بالبيع و الشراء.» «2»

3- و في المنتهى: «يجوز التجارة في الجارية النصرانيّة و المغنّية بالبيع و الشراء لأنّهما عينان تملكان فصحّ أخذ العوض بحقّهما كسائر الأعيان المملوكة، و لا نعلم فيه خلافا.» «3»

4- و في التذكرة: «المرتدّ إن كان عن فطرة ففي صحّة بيعه نظر ينشأ من تضادّ الحكمين، و من بقاء الملك فإنّ كسبه لمولاه. أمّا عن غير فطرة فالوجه صحة بيعه لعدم تحتّم قتله لاحتمال رجوعه إلى الإسلام.» «4»

______________________________

(1) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(2) تحرير الأحكام/ 162، كتاب المتاجر، الفصل الثانى فيما يكره التكسّب به و فيه.

(3) المنتهى 2/ 1023، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الثانى.

(4) التذكرة 1/ 466، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 484

..........

______________________________

5- و في مفتاح الكرامة بعد الإشارة إلى ما مرّ من المبسوط و ابتنائه على قبول الكافر للتطهير بسبب الإسلام قال: «و قد يكون الرقّ الكافر خارجا بالأخبار و الإجماع لا بأنّ الإسلام مطهّر له، إذ قلّ من عدّه في المطهّرات فلعلّه عندهم كالاستحالة.

و جميع النجاسات يقبل الطهارة

بها فمرادهم بقبول الطهارة قبولها بغير الاستحالة.» «1»

6- و في الجواهر بعد الإشارة إلى جواز البيع في بعض الكلاب قال: «كما أنّه لا إشكال في جوازه بأخيه أي الكافر حربيّا كان أم ذمّيا لمسلم كان أم لكافر ذمّي أو حربي و إن كان هو من الأعيان النجسة إلّا أنّ ذلك لا يمنع من بيعه بإجماع المسلمين و النصوص ...» «2»

أقول: فأنت ترى ادّعاء بعضهم الإجماع أو عدم العلم بالخلاف في المسألة كما ذكر المصنّف. و لكنّ الظاهر عدم كون مسألة جواز بيع الكافر بعنوانه و كلّيته معنونة في كلمات القدماء من أصحابنا فضلا عن كونها مجمعا عليها، و إنّما التقط الإجماع المدّعى من المسائل المختلفة المعنونة في أبواب متفرّقة. و كون الإجماع كذلك حجّة بنفسه كاشفا عن قول المعصومين- عليهم السلام- مشكل.

[التعرض لمدارك الإجماع المدّعى في المسألة]
اشارة

فالعمدة ملاحظة المسائل المختلفة التي التقط منها هذا الإجماع بمداركها، و قد أشار إليها المصنّف، فلنتعرض لها إجمالا و التفصيل يطلب من محلّه:

الأولى و الثانية: استرقاق الكفّار، و شراء بعضهم من بعض.

و إنما يدلّ الاسترقاق

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 12، كتاب المتاجر، المحرمات من المتاجر.

(2) الجواهر 22/ 23، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 485

..........

______________________________

على جواز البيع من جهة أنّه يوجب الملكيّة و جاز الانتفاع به في الخدمات و النكاح و الكفّارات، فصار مالا مرغوبا فيه، و من آثار الملك و المال صحّة المعاملة عليه.

قال المحقّق في بيع الحيوان من الشرائع: «ما يؤخذ من دار الحرب بغير إذن الإمام يجوز تملّكه في حال الغيبة و وطئ الأمة. و يستوي في ذلك ما يسببه المسلم و غيره و إن كان فيها حقّ الإمام أو كانت للإمام.» «1»

و ذيّله في المسالك بما ملخّصه: «أنّ الترديد الأخير للتنبيه على الفرق بين المأخوذ بسرقة و غيلة و نحوهما ممّا لا قتال فيه فهو لآخذه و عليه الخمس، و إن كان بقتال فهو بأجمعه للإمام. و على التقديرين يباح تملّكه حال الغيبة و لا يجب الخمس لإباحة الأئمة «ع» لشيعتهم، و كذا يجوز شراؤه من آخذه. و يمكن أن يكون الترديد للخلاف في أنّ المغنوم بغير إذن الإمام هل هو له كما هو المشهور و وردت به الرواية أم لآخذه و عليه الخمس.» «2»

أقول: المتيقّن من مورد التحليل ما إذا انتقل المغنوم من غيره إليه و لا سيّما من قبل من لا يعتقد بالخمس، و أمّا إذا كان هو بنفسه اغتنمه فشمول أخبار التحليل له مشكل بل الأظهر التخميس لإطلاق الأدلّة.

و في الجواهر في بيان ما يؤخذ من دار الحرب قال: «من أموال و

أعراض و أراضي و أشجار و سرايا أو نحو ذلك، بسرقة أو خيانة أو خدعة أو أسر أو قهر من غير جيش أو جيش

______________________________

(1) الشرائع/ 315 (ط. أخرى 2/ 59)، كتاب التجارة، الفصل التاسع في بيع الحيوان، المسألة 7 من لواحق الباب.

(2) المسالك 1/ 210، كتاب التجارة، بيع الأناسى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 486

..........

______________________________

من غير قهر أو غير ذلك، فهو لآخذه كالمأخوذ بإذنه، لإطلاق ما دلّ من كتاب و سنّة و إجماع على جواز اغتنام مال الكفّار و سبيهم. بل ظاهرهما كونهم و ما في أيديهم من المباحات التي يملكها من يحوزها و يستولي عليها و إنما يلزم فيه الخمس كسائر الغنائم كما أومئ إليه في قوله «ع»: خذ مال الناصب حيث وجدته و ادفع إلينا الخمس.» «1» هذا.

1- و في صحيحة رفاعة النخّاس قال: قلت لأبي الحسن «ع»: إنّ الرّوم يغيرون على الصقالبة و الروم فيسرقون أولادهم من الجواري و الغلمان فيعمدون إلى الغلمان فيخصونهم ثمّ يبعثون بهم إلى بغداد إلى التّجار فما ترى في شرائهم و نحن نعلم أنّهم قد سرقوا و إنّما أغاروا عليهم من غير حرب كانت بينهم؟ فقال: «لا بأس بشرائهم، إنّما أخرجوهم من الشرك إلى دار الإسلام.» «2»

أقول: في القاموس: «الصقالبة: جيل تتاخم بلادهم بلاد الخزر بين بلغر و قسطنطنية.» «3»

و ربّما ينقدح في الذهن احتمال كونها صقالية بالياء المثناة من تحت، منسوبة إلى جزيرة صقلية (سيسيل) المجاورة للروم.

و دلالة الصحيحة على كون استرقاق الكافر موجبا للملكيّة و جواز شرائه بعد استرقاقه واضحة و إن أمكن المناقشة في جواز الإقدام على الاسترقاق تكليفا بدون

______________________________

(1) الجواهر 24/ 229، كتاب التجارة، حكم ما يؤخذ من دار الحرب

...؛ و الرواية في الوسائل 6/ 340، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.

(2) الوسائل 13/ 27، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 1.

(3) القاموس المحيط 1/ 96.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 487

..........

______________________________

إذن الإمام أو الحاكم، بل الظاهر منع ذلك بالنسبة إلى الكفّار غير المحاربين مع المسلمين و لا سيّما إذا كان بين دولتهم و دولة الإسلام معاهدات ودّية سياسيّة و اقتصاديّة و لا سيّما إن استلزم ذلك تنقيصا في الإسلام و دعاية على المسلمين كما في أعصارنا. هذا.

و أمّا الإخصاء فالظاهر عدم جوازه، لكونه ظلما فاحشا، و ليس في الصحيحة إشعار بجواز ذلك إذ النظر فيها إلى الشراء بعد ما وقع الاسترقاق و الإخصاء من آخرين، فتدبّر.

و الظاهر من سؤال رفاعة أنّ أسر نساء الكفّار و ذراريهم في الحرب كان أمرا مفروغا عنه مشروعا عنده و لم يكن في ذهنه إشكال من ناحيته لكونه أثرا طبيعيّا للحروب و إنّما استبعد الاستيلاء عليهم و سرقتهم من غير حرب. و قد أشار الإمام «ع» إلى نكتة مشروعية أسرهم سواء كان في الحرب أو في غيره، و محصّلها أنّ أسرهم يوجب هضمهم في خلال بيوت الإسلام تدريجا فيتعلّمون منهم بالطبع موازين الإسلام و يكتسبون جنسيّة إسلاميّة و ينجو المسلمون من شرورهم و هجماتهم الاحتمالية. و قد أوصى الإسلام بتأمين معاشهم و رعاية حقوقهم الإنسانية ثمّ بعد ذلك شرّع طرقا متعددة لتحريرهم و حكم بإعتاقهم أو انعتاقهم القهري في موارد كثيرة بعد ما حصل لهم في محيط الإسلام الانعطاف و التربية الإسلامية، فتدبّر.

2- و في رواية زكريا بن آدم قال: سألت الرضا «ع» عن قوم من العدوّ ... و سألته

عن سبي الديلم يسرق بعضهم من بعض و يغير المسلمون عليهم بلا إمام أ يحلّ شراؤهم؟

قال: «إذا أقرّوا لهم بالعبودية فلا بأس بشرائهم.» «1»

______________________________

(1) الوسائل 13/ 27، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 488

..........

______________________________

3- و في موثقة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن «ع» في شراء الروميّات؟

فقال: «اشترهنّ و بعهنّ.» «1»

4- و في موثقة إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن شراء مملوك (مملوكي- التهذيب) أهل الذمّة. قال: «إذا أقرّوا لهم بذلك فاشتر و أنكح.» و نحوها موثّقتا عبد الرحمن و زرارة. «2»

أقول: اشتراط إقرارهم بذلك لعلّه من جهة عدم الاعتناء باليد غير المبالية في الدلالة على الملكيّة.

5- و في خبر عبد اللّه اللّحام قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل يشتري من رجل من أهل الشرك ابنته فيتّخذها؟ قال: «لا بأس.» و نحوه خبره الآخر عنه «ع» إلّا أنّه ذكر بدل ابنته: امرأة الرجل. «3»

أقول: اللّحام مجهول. و الظاهر من قوله: «فيتّخذها» استرقاقها و اتّخاذها أمة.

6- و في خبر عبد اللّه بن الحسن الدينوري قال: قلت لأبي الحسن «ع»: جعلت فداك، ما تقول في النصرانيّة أشتريها و أبيعها من النصراني؟ فقال «ع»: «اشتر و بع.

الحديث.» «4»

أقول: و جواز استرقاق النساء و الذراري من أهل الحرب بعد الغلبة عليهم في الحروب

______________________________

(1) المصدر السابق و الباب، الحديث 2.

(2) الوسائل 13/ 26، كتاب التجارة، الباب 1 من أبواب بيع الحيوان، الحديثان 2 و 1.

(3) الوسائل 13/ 28، كتاب التجارة، الباب 3 من أبواب بيع الحيوان، الحديثان 2 و 3.

(4) الوسائل 12/ 86، كتاب التجارة، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به،

الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 489

..........

______________________________

ممّا ثبت عند الفريقين و استقرّ عليه العمل في الحروب الإسلاميّة.

الثالث من الموارد التي أشار اليها المصنّف: بيع العبد الكافر إذا أسلم على مولاه الكافر.

إذ يظهر منه صحّة مالكيّة الكافر له و يترتّب عليها جواز بيعه و شرائه في حال كفره قهرا. و لو لا مالكيّته لم يكن وجه لإعطائه الثمن بعد بيعه عليه.

و يشهد لبيعه عليه- مضافا إلى قوله- تعالى-: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ للْكٰافرينَ عَلَى الْمُؤْمنينَ سَبيلًا «1»، و قوله «ع»: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه» «2»، و ما دلّ على وجوب تعظيم المسلم و حرمة إهانته-: خبر حمّاد بن عيسى عن أبي عبد اللّه «ع» أنّ أمير المؤمنين «ع» أتي بعبد ذمّي قد أسلم فقال: «اذهبوا فبيعوه من المسلمين و ادفعوا ثمنه إلى صاحبه و لا تقرّوه عنده.» «3» و الظاهر عدم الإشكال في المسألة، فراجع الجواهر. «4»

أقول: الاستدلال بقوله «ص»: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه» متوقّف على كونه بمعنى الإنشاء و بيان الحكم الشرعي. و لكن يحتمل كونه إخبارا عن علوّ الإسلام و غلبته من جهة الاستدلال و المنطق المطابق للعقل السليم.

الرابع من الموارد: عتق الكافرة.

حيث يستفاد من ذلك ملكه لها، و الملك قابل للبيع و الشراء.

أقول: لم أعثر أنا على رواية في عتق الأمة الكافرة، فلعلّ الوصف للرقبة لتشمل

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 141.

(2) الوسائل 17/ 376، كتاب الفرائض و المواريث، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 11.

(3) الوسائل 12/ 282، كتاب التجارة، الباب 28 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 1.

(4) الجواهر 22/ 334 و ما بعدها، كتاب التجارة، عدم جواز بيع عبد المسلم للكافر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 490

..........

______________________________

العبد أيضا و قد ورد في عتقه على ما رأيت روايتان:

الأولى: خبر الحسن بن صالح عن أبي عبد اللّه «ع». قال: «إنّ عليّا أعتق عبدا له نصرانيا فأسلم حين أعتقه.»

الثانية: خبر أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أنّ عليّا «ع» أعتق عبدا له نصرانيا ثمّ قال: «ميراثه بين المسلمين عامّة إن لم يكن له وليّ.» «1»

الخامس: بيع المرتدّ

كما في قصّة بني ناجية، حيث كانوا نصارى فأسلموا ثم رجعوا إلى النصرانيّة فبعث إليهم أمير المؤمنين «ع» معقل بن قيس فقتل مقاتليهم و سبى ذراريهم و أتى بهم عليّا «ع»، فاشتراهم مصقلة بن هبيرة بمائة ألف درهم فأعتقهم و حمل إلى عليّ «ع» خمسين ألفا فأبى أن يقبلها فالحق بمعاوية فخرّب أمير المؤمنين «ع» داره و أجاز عتقهم. «2»

السادس من الموارد: مسألة ظهور كفر العبد المشترى على ظاهر الإسلام.

و لم أقف عاجلا على محلّ التعرض له و الدليل عليه، فتتّبع.

و بالجملة على فرض نجاسة الكافر- كما هو المشهور بين أصحابنا- فله منافع كثيرة في حال كفره غير متوقّفة على الطهارة. و الكافر الأصلي لا يجب قتله و لا المرتدّ على ملّة إذا تاب، فليسا في معرض التّلف و لهما ماليّة عقلائيّة و شرعيّة، فلا وجه لمنع المعاملة عليهما. و قد منعنا كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة المعاملة. مضافا إلى دلالة الأخبار الواردة في الموارد المختلفة على جواز بيعهما كما مرّ.

______________________________

(1) الوسائل 16/ 19 و 20، الباب 17 من كتاب العتق، الحديثان 2 و 6.

(2) الوسائل 18/ 548، كتاب الحدود و التعزيرات، الباب 3 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 491

[في بيع الفطري]

و كذا الفطري على الأقوى. بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه من هذه الجهة، و إن كان فيه كلام من حيث كونه في معرض التلف لوجوب قتله. و لم نجد من تأمّل فيه من جهة نجاسته عدا ما يظهر من بعض الأساطين في شرحه على القواعد، حيث احترز بقول العلّامة: «ما لا يقبل التطهير من النجاسات» عما يقبله و لو بالإسلام كالمرتدّ و لو عن فطرة على أصحّ القولين. فبنى جواز بيع المرتد على قبول توبته. بل بنى جواز بيع مطلق الكافر على قبوله للطهر بالإسلام.

و أنت خبير بأنّ حكم الأصحاب بجواز بيع الكافر نظير حكمهم بجواز بيع الكلب لا من حيث قابليّته للتطهير نظير الماء المتنجّس. و أن اشتراطهم قبول التطهير إنّما هو فيما يتوقّف الانتفاع به على طهارته ليتّصف بالملكية لا مثل الكلب و الكافر المملوكين مع النجاسة إجماعا.

و بالغ تلميذه في مفتاح الكرامة

«1» فقال: «أمّا المرتدّ عن فطرة فالقول بجواز بيعه ضعيف جدّا لعدم قبول توبته فلا يقبل التطهير.» ثمّ ذكر جماعة ممّن جوّز بيعه- إلى أن قال-: «و لعلّ من جوّز بيعه بناه على قبول توبته». انتهى.

و تبعه على ذلك شيخنا المعاصر. (1)

______________________________

(1) مراد المصنّف من بعض الأساطين كاشف الغطاء، حيث شرح كتابي

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 12، كتاب المتاجر، المحرمات من المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 492

..........

______________________________

الطهارة و المكاسب من القواعد. و مراده من شيخنا المعاصر صاحب الجواهر، حيث قال: «فما عساه يتوهّم من إطلاق بعض الأصحاب تحريم التكسّب بالأعيان النجسة المندرج فيها الكافر في غير محلّه، ضرورة اختصاص الحكم بما لا يقبل الطهارة من الأعيان، لأنّ شرط صحّة البيع طهارة العوضين فعلا أو قوة، و الكافر يقبل الطهارة بالإسلام.» «1»

أقول: بعد تحقّق المنافع المشروعة للكافر كاستخدامه فيما لا يتوقّف على الطهارة و عتقه في الكفّارات المطلقة و ثبوت الماليّة له بذلك و عموم أدلّة البيع و العقود له يكون توهّم المنع عن بيعه مبتنيا على أحد أمرين: إمّا القول بكون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة المعاملة، أو سقوطه عن الماليّة بمعرضيّته للقتل.

و بعض من جعل النجاسة بنفسها مانعة تخلّص منها في المقام بأنّه مما يقبل الطهارة بالإسلام بناء على قبول توبته و لو كان مرتدّا عن فطرة، فيكون كالماء المتنجّس.

و يرد على ذلك أوّلا: منع مانعيّة النجاسة بنفسها عن الصحّة على ما مرّ منا، بل الملاك في صحّة البيع وجود المنفعة العقلائيّة المحلّلة الموجبة لماليّة الشي ء، بل قد مرّ أنّ نفس المستثنيات في هذا الباب حيث تكون بلحاظ وجود المنافع العقلائية المحلّلة فيها أدلّ دليل على دوران الجواز و المنع مدار ذلك.

و

ثانيا: ما ذكره المصنّف بنحو أو في من أنّ حكم الأصحاب بجواز بيع الكافر نظير حكمهم بجواز بيع الكلب الصيود مثلا، فيكون من باب الاستثناء لا من حيث قابليّته

______________________________

(1) الجواهر 22/ 24، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 493

..........

______________________________

للتطهير نظير الماء المتنجّس.

و ثالثا: أنّ الحكم يصير فعليّا بفعليّة موضوعه، فإذا قلنا بمانعيّة النجاسة بنفسها كانت مانعة بوجودها الفعلي سواء كانت قابلة للزوال أم لا. كيف؟! و لو كانت قابليّة الزوال موجبة لصحة البيع لجاز بيع جميع الأعيان النجسة لإمكان زوالها بالاستحالة.

و كونها بذهاب الموضوع غير فارق إلّا أن تخرج بذلك عن الماليّة. على أنّ إمكان طهره بالتوبة لا يستلزم تحقّقه، لاحتمال أن لا يتوب و لا يخرج الإمكان إلى الفعلية أصلا.

لا يقال: لعلّ اعتبار القابليّة من جهة أنّها توجب الرغبة و الماليّة بلحاظ حاله الاستقبالي المترتّب عليه المنافع.

فإنّه يقال: مرجع هذا إلى ما مرّ من دوران الجواز و المنع مدار وجود المنفعة و عدمها.

و المفروض في الكافر أنّه نافع فعلا.

و أمّا كون المرتدّ الفطري في معرض التلف بالقتل:

ففيه أوّلا: أنّ الملّي أيضا يمكن أن لا يتوب فيقتل إن كان رجلا مع أنّهم حكموا بجواز بيعه كما مرّ.

و ثانيا: أنّ مجرد وجوب قتله لا يخرجه عن الماليّة، و قتله خارجا لا يتحقّق إلّا مع وجود حاكم مبسوط اليد و ثبوت ارتداده عنده. نعم احتمال ذلك ربّما يوجب تنزّل قيمته لا سقوطها بالكلية و لذا لو قتله غير الحاكم ضمنه. و هذا يجري في غير مهدور الدم أيضا إذا كان في معرض القتل ظلما.

و ثالثا: أنّه يمكن الانتفاع به مع ذلك بعتقه في الكفّارات المطلقة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 494

[المملوك المرتدّ عن فطرة ملك و مال لمالكه]

أقول: لا إشكال و لا خلاف في كون المملوك المرتدّ عن فطرة ملكا و مالا لمالكه و يجوز له الانتفاع به بالاستخدام ما لم يقتل. و إنّما استشكل من استشكل في جواز بيعه من حيث كونه في معرض القتل بل واجب الإتلاف شرعا. فكأنّ الإجماع منعقد على عدم المنع من بيعه من جهة عدم قابليّة طهارته بالتوبة.

قال في الشرائع: «و يصحّ رهن المرتدّ و إن كان عن فطرة.»

و استشكل في المسالك من جهة وجوب إتلافه و كونه في معرض التلف، ثمّ اختار الجواز لبقاء ماليّته إلى زمان القتل.

و قال في القواعد: «و يصحّ رهن المرتدّ و إن كان عن فطرة على إشكال.»

و ذكر في جامع المقاصد: «أنّ منشأ الإشكال أنّه يجوز بيعه فيجوز رهنه بطريق أولى، و أنّ مقصود البيع حاصل. (1) و أمّا مقصود الرهن فقد لا يحصل بقتل الفطري حتما، و الآخر قد لا يتوب.» ثم اختار الجواز.

و قال في التذكرة: «المرتدّ إن كان عن فطرة ففي جواز بيعه نظر ينشأ من تضادّ الحكمين (2)، و من بقاء الملك فإنّ كسبه لمولاه. أمّا عن غير فطرة

______________________________

(1) يعني أنّ المقصود منه يحصل بالملك و لو آنا ما، بخلاف الرهن إذ الغرض منه الاستيثاق و لا يحصل إلّا مع دوام الملك و ثباته.

(2) يعني أنّ الحكم بالقتل و الحكم بوجوب الوفاء بالعقد و تسليمه إلى المشتري متضادّان.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 495

فالوجه صحّة بيعه لعدم تحتّم قتله» (1). ثمّ ذكر المحارب الذي لا يقبل توبته (2) لوقوعها بعد القدرة عليه. و استدل على جواز بيعه بما يظهر منه جواز بيع المرتد عن فطرة و جعله نظير المريض المأيوس عن برئه.

نعم منع في التحرير

و الدروس عن بيع المرتد عن فطرة و المحارب إذا وجب قتله للوجه المتقدّم عن التذكرة.

بل في الدروس: أنّ بيع المرتدّ عن ملّة أيضا مراعى بالتوبة.

و كيف كان فالمتتبّع يقطع بأنّ اشتراط قابليّة الطهارة إنّما هو فيما يتوقّف الانتفاع المعتدّ به على طهارته.

و لذا قسّم في المبسوط المبيع إلى آدمي و غيره (3) ثم اشتراط الطهارة في غير الآدمي ثمّ استثنى الكلب الصيود.

______________________________

(1) المرتد الملّي أيضا يتحتّم قتله إن كان رجلا و علم بعدم توبته.

(2) يعني من أسر و الحرب قائمة بعد فإنّه يجب قتله، و راجع التذكرة. «1»

(3) راجع المبسوط. «2» و قد مرّ كلامه في أوّل المسألة.

______________________________

(1) التذكرة 1/ 466، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 496

[المسألة الثانية: المعاوضة على غير كلب الهراش و ذكر بعض أقسام الكلاب النافعة]
اشارة

الثانية: يجوز المعاوضة على غير كلب الهراش في الجملة، بلا خلاف ظاهر إلّا ما عن ظاهر العماني، و لعلّه كإطلاق كثير من الأخبار بأنّ ثمن الكلب سحت، محمول على الهراش، لتواتر الأخبار و استفاضة نقل الإجماع على جواز بيع ما عدا كلب الهراش في الجملة (1).

______________________________

المسألة الثانية: المعاوضة على غير كلب الهراش و ذكر بعض أقسام الكلاب النافعة

[بيان المسألة]

(1) أقول: قد مرّ عن نهاية ابن الأثير قوله: «فيه: يتهارشون تهارش الكلاب أي يتقاتلون و يتواثبون.» «1»

و عن القاموس قوله: «هرش كفرح: ساء خلقه. و التهريش: التحريش بين الكلاب فساد بين الناس.» «2»

فالهراش و العقور المذكور في كلام العلّامة في التذكرة متقاربان، و يراد بهما الكلاب المهملة التي يثب بعضها على بعض، فيكون وجودها مضرّا بالمجتمع و لا يترتّب عليها منفعة عقلائيّة.

و قد مرّ في المسألة السّادسة البحث عن حرمة بيع الكلب إجمالا و كلمات الفريقين في

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 5/ 260.

(2) القاموس المحيط 2/ 293.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 497

ثمّ إنّ ما عدا كلب الهراش على أقسام: أحدها: كلب الصيد السّلوقي.

و هو المتيقّن من الأخبار و معاقد الإجماعات الدالّة على الجواز (1).

______________________________

المسألة و الروايات المستفيضة بل المتواترة الواردة فيها من طرقهما، فراجع.

و الغرض هنا البحث فيما استثني من الكلاب. و المتيقّن من موارد المنع الكلب الذي لا خاصيّة له و لا منفعة عقلائية توجب ماليته أو تمحّض منافعه في المحرّمة، كما أنّ المتيقّن من موارد الجواز كلب الصيد إذا كان سلوقيّا المعبّر عنه في عرفنا ب «تازي» و يراد به الكلب العربي، فإنّ السّلوق على ما في الصحاح و القاموس بلدة باليمن تنسب إليها الدروع و الكلاب السّلوقيّة. و قول المصنّف: «في

الجملة» لبيان أنّ الإجماع على جواز البيع فيما عدا كلب الهراش ليس ثابتا في جميع موارده.

و أمّا ما ذكره المصنّف وجها لكلام العماني من إطلاق قوله: «ثمن الكلب سحت» فيمكن أن يناقش بأنّه ذكر في هذه الأخبار في عداد أنواع أخر من السحت كثمن الخمر و الميتة و نحوهما، فراجع الوسائل. «1» فتكون في مقام تعداد أنواع السحت إجمالا، و ليست في مقام بيان حكم كلّ واحد من العناوين المذكورة بحدوده و شرائطه حتّى ينعقد لها إطلاق، نظير قوله «ع»:

«بني الإسلام على خمس: على الصلاة و الزكاة و الحج و الصوم و الولاية» «2»، فتأمّل.

1- كلب الصيد السلوقي
[كلمات الفقهاء في المقام]

(1) قال المفيد في مكاسب المقنعة: «و ثمن الكلب حرام إلّا ما كان سلوقيّا للصيد، فإنّه لا بأس ببيعه و أكل ثمنه.» «3»

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 62، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به.

(2) الوسائل 1/ 7، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1.

(3) المقنعة/ 589، كتاب التجارة، المكاسب المحرّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 498

..........

______________________________

2- و في المكاسب المحظورة من المراسم: «و بيع الكلاب إلّا السّلوقي و كلب الماشية و الزرع.» «1»

3- و قال الشيخ في المكاسب المحظورة من النهاية: «و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيّا للصيد، فإنّه لا بأس ببيعه و شرائه و أكل ثمنه و التكسّب به.» «2»

أقول: فظاهرهم كما ترى حصر الجواز في كلب الصيد إذا كان سلوقيّا لا مطلقا.

و الكتب الثلاثة من الكتب المعدّة لنقل الأصول المتلقّاة.

4- و في بيع الخلاف (المسألة 302): «يجوز بيع كلاب الصيد. و يجب على قاتلها قيمتها إذا كانت معلّمة. و لا يجوز بيع غير الكلب المعلّم على حال. و قال أبو

حنيفة و مالك: يجوز بيع الكلاب مطلقا إلّا أنّه مكروه. فإن باعه صحّ البيع و وجب الثمن، و إن أتلفه متلف لزمته قيمته. و قال الشافعي: لا يجوز بيع الكلاب معلّمة كانت أو غير معلّمة و لا يجب على قاتلها القيمة. دليلنا إجماع الفرقة، فإنّهم لا يختلفون فيه ...» «3»

5- و في التذكرة: «أمّا كلب الصيد فالأقوى عندنا جواز بيعه، و به قال أبو حنيفة و بعض أصحاب مالك و جابر و عطاء و النخعي ... و قال الشافعي و أحمد و الحسن و ربيعة و الحمّاد و الأوزاعي و داود بالتحريم، و هو قول لنا، لأنّه «ع» نهى عن ثمن الكلب و هو عامّ.» «4»

______________________________

(1) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(2) النهاية للشيخ/ 364، باب المكاسب المحظورة ...

(3) الخلاف 3/ 181 (ط. أخرى 2/ 80)، كتاب البيوع.

(4) التذكرة 1/ 464، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 499

..........

______________________________

6- و في المنتهى: «قد أجمع علماؤنا على تحريم بيع ما عدا كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط من الكلاب و على جواز بيع كلب الصيد. و اختلفوا في الثلاثة الباقية؛ فقال الشيخ في النهاية و المفيد في المقنعة بتحريم ثمن الكلب إلّا السلوقي، و عني بالسّلوقي كلب الصيد، لأنّ سلوق قرية باليمن أكثر كلابها معلّمة، فنسب الكلب إليها.» «1»

أقول: في قوله: «و عني بالسلوقي كلب الصيد» احتمالان:

الأول: أن يراد به مطلق كلب الصيد، فاستعير لفظ الخاصّ للعامّ.

الثاني: أن يراد به خصوص الصيود السلوقي، فأراد بذلك بيان حرمة السلوقي إذا لم يكن صيودا، و لعلّ الأظهر هو الثاني خلافا لما يأتي من المصنّف.

7- و في الفقه

على المذاهب الأربعة عن المالكيّة: «لا يصحّ بيع الكلب مع كونه طاهرا سواء كان كلب صيد أو حراسة أو غيرهما لورود النهي عن بيعه شرعا.»

و عن الحنابلة: «لا يصحّ بيع الكلب سواء كان كلب صيد و نحوه أولا.»

و عن الشافعية: «لا يصح بيع كلّ نجس كالخنزير و الخمر و الزبل و الكلب و لو كان كلب صيد.»

و عن الحنفية: «يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح.» «2»

أقول: لا يخفى مخالفة ما حكاه عن مالك لما حكاه الشيخ عنه في الخلاف. و قد نقلنا هنا بعض ما نقلناه في المسألة السادسة حذرا عمّا في الحوالة من مشقّة القارئين.

______________________________

(1) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 500

..........

______________________________

و كيف كان فجواز البيع في الصيود السّلوقي بلا إشكال.

[معنى الكلب و أصنافه]

و اعلم أنّ الكلب- كما يظهر من اسمه- جبل في طبعه التكالب و الهجوم و الإيذاء و قد يصل في ذلك إلى حدّ يصير مرضا ساريا إلى من يعضّه الكلب، و يسمّى داء الكلب، و لعلّه الحكمة في إسقاط ماليّته شرعا و المنع عن بيعه و الترغيب في قتله كما ورد في بعض الأخبار. و لكن إذا وقع تحت التعليم و التربية الصحيحة و صارت هجماته تحت الضابطة و الهداية من الإنسان صار وجوده نافعا للصيد أو الحراسة أو نحوهما من الأغراض الصحيحة و صار بذلك مالا قابلا للنقل و الانتقال عرفا، بل شرعا أيضا على ما مرّ منا مرارا من أنّ تحقّق المنافع المحلّلة العقلائيّة الموجبة للماليّة ملازم لجواز النقل إجمالا، حيث إنّ

المعاملات شرّعت لتبادل الحاجات العقلائيّة.

و ليست المعاملات دائرة مدار التعبّد المحض و المصالح السريّة الخفيّة نظير الأحكام العباديّة، فلا محالة تنصرف أدلّة المنع- على فرض إطلاقها- إلى صورة بقاء الكلب على طبعه الأوّلي من دون أن يقع تحت التعليم الصحيح، أو فرض تمحّض منافعه في الأمور المحرّمة شرعا.

و لعلّه إلى ما ذكرنا أشار فقهاؤنا حيث علّقوا صحّة بيعه على كونه معلّما، فهو بنحو ما يشبه القوة الغضبيّة في الإنسان حيث إنّ إطلاقها مضرّ جدّا و لكن يترتب عليها فوائد كثيرة إذا فرض انضباطها و وقوعها تحت سيطرة العقل و هدايته.

و يشهد لما ذكرناه ما رواه في العلل في باب علّة خلق الكلب بسنده عن عليّ «ع» أنّ النبي «ص» سئل ممّا خلق اللّه- عزّ و جل- الكلب؟ قال: «خلقه من بزاق إبليس.» قيل:

و كيف ذاك؟ يا رسول اللّه! قال: «لما أهبط اللّه- عزّ و جلّ- آدم و حواء إلى الأرض

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 501

..........

______________________________

أهبطهما كالفرخين المرتعشين فعدا إبليس الملعون إلى السّباع- و كانوا قبل آدم في الأرض- فقال لهم: إنّ طيرين قد وقعا من السماء لم ير الراؤون أعظم منهما، تعالوا فكلوهما.

فتعادت السباع معه، و جعل إبليس يحثّهم و يصيح و يعدهم بقرب المسافة، فوقع من فيه من عجلة كلامه بزاق، فخلق اللّه- عزّ و جلّ- من ذلك البزاق كلبين: أحدهما ذكر و الآخر أنثى، فقاما حول آدم و حواء الكلبة بجدّة و الكلب بهند فلم يتركوا (فلم يتركوا- ظ.)

السباع أن يقربوهما. و من ذلك اليوم الكلب عدوّ السبع و السبع عدوّ الكلب.» «1»

و بالجملة فالكلاب تنقسم إلى أقسام: بعضها ممّا لا منفعة له و لا ماليّة أصلا، و بعضها يتمحّض

منافعه في المحرّمة، و بعضها يشتمل على منافع عقلائيّة محلّلة. فلنشر إلى أصناف الكلاب:

الأوّل: الصيود السّلوقي و يقال له في عرفنا: «تازي». و هو من أخفّ الكلاب و أحسنها و أسرعها.

الثاني: الصيود غير السّلوقي.

الثالث: كلب الحراسة لحراسة الماشية و البساتين و الزروع أو الدور و الحيطان و نحو ذلك. و يمكن عدّه من أقسام الصيود كما يأتي بيانه.

الرابع: ما يستفاد منه للتفتيش و كشف الجرائم و أجساد المهدوم عليهم و نحو ذلك.

و هذه الاستفادات من المنافع المهمّة في أعصارنا.

الخامس: ما يستعمل للهجوم على الأعداء أو المحكومين أو المأسورين أو المستضعفين من الناس ظلما و عدوانا.

______________________________

(1) علل الشرائع 2/ 496، الباب 25، علّة خلق الكلب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 502

[2- الثاني: كلب الصيد غير السّلوقي]
اشارة

الثاني: كلب الصيد غير السّلوقي. و بيعه جائز على المعروف من غير ظاهر إطلاق المقنعة و النهاية (1).

و يدلّ عليه قبل الإجماع المحكيّ عن الخلاف و المنتهى و الإيضاح و غيرها (2) الأخبار المستفيضة:

______________________________

السادس: ما يتّخذ للّهو و التفريح و الأنس به أو الاستمتاعات الجنسيّة على ما هو المتعارف عند بعض المترفين المنحرفين.

السابع: الكلاب المهملة التي غلب عليها التكالب و الإيذاء و لم تقع تحت التربية و يطلق عليها الهراش و العقور، و أخسّها ما ابتلي بداء الكلب السّاري.

الثامن: الكلاب المهملة أو الضعيفة التي سلبت منها ملكة التكالب و صارت بلا خاصيّة بحيث لا تصلح للتربية و لا للتصيد و الحراسة و نحوهما.

2- كلب الصيد غير السّلوقي

[عبارات الفقهاء]

(1) قد مرت عبارتا المقنعة و النهاية، و نحوهما عن المراسم. و الثلاثة من الكتب المعدّة لنقل الأصول المتلقّاة.

(2) قد مرّت عبارتا الخلاف و المنتهى و يأتي عبارة الإيضاح في مسألة كلب الماشية و نحوها.

و لعلّ المقصود من قوله: «قبل الإجماع» كون الأخبار المذكورة مدركا له و لو احتمالا، فلا يكون الإجماع دليلا على حدة. و هذا بخلاف ما لو قيل: «بعد الإجماع»، حيث يدلّ على تحقّقه و لو مع قطع النظر عن الأخبار المذكورة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 503

[الأخبار]

منها: قوله «ع» في رواية القاسم بن الوليد. قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن ثمن الكلب الذي لا يصيد. قال: «سحت، و أمّا الصيود فلا بأس به.» (1)

و منها: الصحيح عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن ليث. قال:

سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الكلب الصيود يباع؟ قال: «نعم و يؤكل ثمنه.» (2)

و منها: رواية أبي بصير. قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن ثمن كلب

______________________________

(1) رواها الشيخ في موضعين من التهذيب في أحدهما: القاسم بن الوليد العامري، و في الثاني: القاسم بن الوليد العمّاري عن أبي عبد اللّه «ع». و لكن في الوسائل رواها عن الكليني و الشيخ و القاسم بن الوليد مذكور في أثناء السندين، فراجع. «1» و القاسم بن الوليد مهمل لم يذكر بمدح و لا قدح.

(2) راجع التهذيب. «2» و أبو جميلة كنية المفضّل بن صالح، و هو ضعيف كذّاب على ما في الرجال. «3»

______________________________

(1) راجع التهذيب 6/ 367، كتاب المكاسب، باب المكاسب، الحديث 181؛ و 9/ 80، كتاب الصيد و الذبائح، باب الذبائح و الأطعمة ...، الحديث 77؛ و الوسائل 12/ 83، كتاب التجارة، الباب 14 من

أبواب ما يكتسب به، الحديثان 1 و 7. و الظاهر أنّ للحديث سندين بنقل الكلينى فاختلطا.

(2) التهذيب 9/ 80، باب الذبائح و الأطعمة، الحديث 78؛ و الوسائل 16/ 252 (ط. أخرى 16/ 306)، كتاب الصيد و الذبائح، الباب 45 من أبواب الصيد، الحديث 4.

(3) راجع تنقيح المقال 3/ 237.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 504

الصيد، قال: «لا بأس به و أمّا الآخر فلا يحلّ ثمنه.» (1)

و منها: ما عن دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري عن أمير المؤمنين «ع» أنّه قال: «لا بأس بثمن كلب الصيد.» (2)

و منها: مفهوم رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع». قال: قال رسول اللّه «ص»: «ثمن الخمر و مهر البغيّ و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت.» (3)

و منها: مفهوم رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه «ع».

قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت، و لا بأس بثمن الهرة.» (4)

______________________________

(1) راجع الوسائل «1». و في السند القاسم بن محمّد الجوهري و عليّ بن أبي حمزة، و هما واقفيان و لم يثبت وثاقتهما. «2»

(2) راجع الدعائم. «3» و الاعتماد على هذا الكتاب مشكل إلّا للتأييد كما مرّ.

(3) راجع الوسائل. «4» و في السند القاسم بن محمّد و عليّ بن أبي حمزة، و هما واقفيان و لم يثبت وثاقتهما كما مرّ.

(4) راجع الوسائل. «5» و الراوي عن الإمام «ع» محمد بن مسلم و عبد الرحمن معا

______________________________

(1) الوسائل 12/ 83، كتاب التجارة، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) راجع تنقيح المقال 2/ 24 و 260.

(3) دعائم الإسلام 2/ 19، كتاب البيوع، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 28.

(4) الوسائل 12/

83، كتاب التجارة، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(5) المصدر السابق و الباب، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 505

و مرسلة الصدوق. و فيها: «ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت.» (1)

______________________________

و السند موثوق به.

(1) راجع الوسائل. «1» و الرواية و إن كانت مرسلة لكن إسناده الصدوق إيّاها إلى أبي عبد اللّه «ع» بقوله: «قال» يدلّ على ثبوتها عنده و اعتماده عليها.

و قد مرّ عن البيهقي بسنده عن أبي هريرة عن النبيّ «ص»: «ثلاث كلّهن سحت.»

فذكر كسب الحجّام و مهر البغيّ و ثمن الكلب إلّا كلبا ضاريا. «2»

و في المنجد: «ضرى الكلب بالصيد: تعوّده و أولع به.» «3» فيراد بالكلب الضاري:

الصيود منه.

و في رواية أخرى عن أبي هريرة: «نهى عن مهر البغي ... و عن الكلب إلّا كلب صيد» إلّا أنّه لم يسنده إلى النّبيّ «ص» صريحا.

و في البيهقي أيضا بسنده عن جابر قال: «نهى عن ثمن الكلب و السنّور إلّا كلب صيد.» «4» هكذا رووه عن جابر. فليس فيه الإسناد إلى النبي «ص» صريحا إلّا أن يقال برجوع الضمير إليه كما لا يبعد. هذا.

و لكن أكثر روايات العامّة مطلقة في المنع لا تشتمل على الاستثناء، و لذا أفتى أكثرهم بالمنع مطلقا على خلاف ما عليه فقهاؤنا.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 63، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(2) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

(3) المنجد/ 450.

(4) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 506

[المراد بالسلوقي]

______________________________

ثمّ إنّ لفظ السّلوقي لم يذكر فيما بأيدينا من الأخبار إلّا أن يجعل عبارات المقنعة و المراسم

و النهاية بما أنّها من الكتب المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة عن الأئمة «ع»- كما كان يصرّ على ذلك الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي طاب ثراه- قرينة على ورود رواية به عنهم «ع».

و المذكور فيما بأيدينا من الأخبار ثلاثة تعبيرات: الأوّل: كلب الصيد. الثاني:

الكلب الصيود. الثالث: الذي لا يصيد أو لا يصطاد، و في قبالهما الذي يصيد أو يصطاد.

و الأوّل إشارة إلى نوع خاصّ من الكلاب الموجودة في الخارج له اختصاص بالصيد فيمكن أن يقال بانصرافه في تلك الأعصار إلى خصوص الكلب السّلوقي لتمحّضه فيه و عدم تعارف الصيد بغيره في تلك الأعصار. و يمكن منع ذلك، إذ الظاهر من اللفظ كلّ كلب يزاول الصيد و إن لم يكن سلوقيّا.

[المراد بالصيود]

و أمّا الصيود فيحتمل أن يراد به ما فيه ملكة الاصطياد بتعليمه و تربيته لذلك و إن لم يستعمل فيه بعد و يطلق عليه الكلب المعلّم، و لعلّه الأظهر، إذ الصفات المشبهة ظاهرة في المعنى الثبوتي. و يحتمل أن يراد به ما يستعمل في الصيد فعلا مع وجود الملكة فيه أيضا. و يحتمل بعيدا أن يراد به ما يزاول الصيد خارجا و إن لم يكن عن ملكة و تربية.

و أمّا الذي لا يصيد أو لا يصطاد فظهورهما في الفعل و الحدوث واضح، فيراد بهما ما لا يقدم خارجا في التصيّد و لا يصدر عنه و لو فرض كونه معلّما لذلك و كان واجدا لملكته إمّا لاستنكافه عن العمل أو لعدم استعمال صاحبه إيّاه في ذلك بأن استعمله في أعمال أخر كالحراسة و نحوها. و في مقابلهما ما يصيد أو يصطاد خارجا و يزاوله و إن لم يكن عن ملكة و تعليم لذلك. هذا.

دراسات في المكاسب المحرمة،

ج 1، ص: 507

[كلام الأستاذ الإمام «ره» و بعض المناقشات فيه]

______________________________

و للأستاذ الإمام «ره» في بيان الاحتمالات المتصورة في التعبيرات المذكورة كلام طويل نذكره ملخصا لاشتماله على فوائد و إن اشتمل على مناقشات أيضا.

قال في مكاسبه: «أحدها: أن يكون قوله: «الذي لا يصيد» إشارة إلى أقسام ما عدا الكلب السّلوقي. و قوله: «الصيود» أو «كلب الصيد» إشارة إلى السّلوقي صيودا كان أولا، فيكون الموضوع للجواز السلوقي مطلقا من غير دخالة للوصف فيه. و لكن هذا الاحتمال بعيد لظهور الأخبار في دخالة وصف الصيد.

ثانيها: أن يكون المراد من الصيود و الذي يصيد: الكلب المعلّم لذلك، و من الذي لا يصيد غير المعلّم سلوقيا كان أو غيره بدعوى انصراف الأخبار إليهما. و فيه منع الانصراف لا سيّما مثل قوله: «لا يصيد» و «لا يصطاد»، إذ الظاهر منهما سلب وصف الصيد. و يتلوه في الضعف احتمال الانصراف إلى خصوص السلوقي المعلّم. نعم لا يبعد انصراف: «كلب الصيد» إلى المعلّم بل إلى السلوقي منه.

ثالثها: أن يكون المراد من الصيود: ما يتّخذ للصيد. و في مقابله ما لا يتّخذ له. و هو بعيد أيضا، إذ الظاهر من العناوين ما هي ثابتة للكلاب من غير دخالة اتّخاذها لها.

رابعها: أن يكون المراد ما ثبت له نفس هذه العناوين من غير دخالة التعليم و عدمه و لا الاتّخاذ و عدمه.

ثمّ الوصف يحتمل أن يكون بمعنى الشغل الفعلي، فلا يشمل كلب الصيد الذي جعل صاحبه شغله الحراسة مثلا. و يحتمل أن يكون بمعنى ملكة الصيد، فيكون معنى قوله: «الذي لا يصيد»: الذي سلب عنه وصف كونه صيودا و زالت ملكته عنه. و في مقابله ما ثبت له الوصف و الملكة. و لا يبعد أن يكون الأقرب الأخير من هذين

دراسات

في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 508

..........

______________________________

الاحتمالين بعد أظهريّتهما من سائرها.

و يشهد لما قلنا من أنّ الموضوع نفس العنوان من غير دخالة التعليم فيه بعد إطلاق الأدلّة: أنّ الأخبار الواردة في حكم الصيد و جواز أكله في أبواب الصيد و الذبائح مشحونة بذكر الكلب المعلّم. و أمّا في المقام فلم يرد خبر مشعر بكون الكلب المذكور هو المعلّم.

فالموضوع للحكم هناك المعلّم بخلافه هنا.

فتحصّل ممّا ذكر أنّ الأظهر في قوله: «الكلب الذي لا يصيد» أو «لا يصطاد» هو ما سلب عنه هذا الوصف و هذه الملكة. و إنّما قلنا: إنّ الاحتمال الأخير أقرب، لأنّ الكلب الذي له ملكة الاصطياد يصدق عليه أنّه صيود و لا يصحّ سلب العنوان عنه. و ليس المراد من «لا يصيد» عدم العمل الخارجي في مقابل العمل كذلك، و لذلك قابله بالصيود.

و الكلب الذي لو ترك يصيد لا يقال إنّه لا يصيد أو ليس بصيود بمجرد منع صاحبه عنه.

و لهذا لا ريب في أنّ الكلب المعلّم صيود و صائد و يصدق عليه أنّه يصيد و يصطاد و إن لم يستعمله صاحبه في الصيد و منعه عنه.

ثم بعد ما علم من قوّة هذا الاحتمال يقال: إنّ الصّيود و الصائد و سائر المشتقّات منه عناوين وصفيّة صادقة على مطلق الاصطياد من غير اعتبار قيد حلّية اللحم في صيده، فإذا كان الكلب يصيد الذئب أو الثعلب مثلا يصدق عليه أيضا أنّه صيود و صائد عرفا و لغة، فيمكن أن يقال: إنّ مطلق الكلاب عدا الكلاب المهملة التي في الأزقّة و الأسواق.

ممّا زالت عنها ملكة الاصطياد و التكالب- داخل في عنوان الكلب الصيود و الذي يصطاد و إن كان للماشية و الحراسة و نحوهما. و الكلب

ما لم تكن له ملكة الاصطياد لا يتّخذ للماشية و حفظ الأغنام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 509

..........

______________________________

فالكلاب على صنفين: أحدهما: ما زالت عنها صفة التصيّد، و هي الكلاب الدائرة في الأزقّة مهملة.

و ثانيهما: ما بقيت على صفتها و ملكتها السبعية، و هي صيود و سبع بطبعها سواء اتّخذت للاصطياد أو لحفظ الأغنام أو حراسة البلد أو المزارع. فالميزان في جواز البيع صدق الوصف عليها لا استعمالها في الصيد أو اشتغالها به. و الظاهر صدق العناوين على جميع أنواع الكلاب غير المهملة.

إن قلت: لو فرض صدق العناوين لغة و عرفا لكن الأخبار منصرفة إلى الكلاب المستعملة للتصيّد.

قلت: نمنع انصراف ذلك الوصف العنواني لا سيّما مع مقابلة الصيود الذي لا يصيد.

نعم كلب الصيد عبارة عن الكلب الذي اتّخذ له و يكون شغله ذلك، إذ هو منصرف إليه أو إلى خصوص السّلوقي منه بخلاف الذي لا يصيد.

و إن شئت قلت: إنّ العناوين و المشتقّات مختلفة في إفادة المعنى عرفا، ففرق بين عنوان كلب الصيد الذي لا يصدق على كلب الماشية و الزرع و نحوهما لأنّ شغل الحراسة غير شغل الصيد، و بين الكلب الذي يصيد و الذي لا يصيد. فإنّ صدق عنوان الذي لا يصيد يتوقّف عرفا على عدم اقتدار الكلب على الاصطياد أو على عدم اقتضائه فيه. و الكلب الذي لو أغري على الصيد يصيده لا يقال: إنّه لا يصيد أو لا يصطاد بمجرد عدم استعمال صاحبه له ...» «1»

أقول: ما ذكره أخيرا من اختلاف العناوين و المشتقّات في إفادة المعنى عرفا كلام

______________________________

(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 68- 71.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 510

..........

______________________________

صحيح، و قد بيّنا المعنى الظاهر بحسب

العرف و اللغة لكلّ واحد من التعبيرات الثلاثة.

و كذا ما ذكره من عدم اعتبار قيد حلّية اللحم في صدق الاصطياد و أنّ الهجوم على الذئب و الثعلب بل و السارق و العدوّ أيضا يمكن أن يطلق عليه الاصطياد بالمعنى الأعمّ.

و كذلك ما ذكره من انصراف كلب الصيد إلى خصوص السلوقي المعلّم للصيد أمر احتملناه أيضا و يأتي توضيحه في الحاشية التالية.

و أمّا ما ذكره في أثناء كلامه من أنّ الموضوع في المقام نفس العنوان من غير دخالة التعليم فيه بخلاف الموضوع في باب الصيد و الذبائح ثمّ استشهاده لذلك بأن الأخبار في ذلك الباب مشحونة بذكر المعلّم دون المقام، فيمكن أن يناقش فيه بأنّ الظاهر ارتباط البابين و كون الموضوع فيهما واحدا. إذ الحلّية و جواز الأكل للصيد لو توقّف على كون الصيد بالكلب المعلّم- كما هو ظاهر الكتاب أيضا- فلا محالة يتوقّف صحّة البيع أيضا على ذلك، إذ جواز بيعه يدور مدار ماليّته و منفعته، و المفروض أنّ عمدة منفعة كلب الصيد جواز أكل صيده و الانتفاع منه و لولاه لم يكن له مالية و قيمة.

و بعبارة أخرى: قيمة الكلب الصيود بكونه معلّما و أنّه يجوز الانتفاع من صيده.

فالظاهر أنّ أخبار الجواز في المقام ناظرة إلى ما تقرّر في الصيد و الذبائح من حلّية صيد الكلب المعلّم و جواز أكله. و لعلّ ذكر التعليم في الكتاب العزيز و في الأخبار الواردة من جهة أنّ ايتماره بأمر صاحبه و إقدامه على الاصطياد بإذنه لا يحصل غالبا إلّا بالتعليم و التربية فيدور الحكم في البابين مداره.

و إن شئت قلت: إنّ المراد بالصيود على ما مرّ: ما ثبت له ملكة الصيد، و الملكة لا تحصل فيه الّا

بالتعليم، فهما أمران متلازمان.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 511

[دعوى انصراف الأخبار المجوزه إلى السّلوقي]

ثمّ إنّ دعوى انصراف هذه الأخبار كمعاقد الإجماعات المتقدّمة إلى السّلوقي ضعيفة، لمنع الانصراف لعدم الغلبة المعتدّ بها على فرض تسليم كون مجرّد غلبة الوجود من دون غلبة الاستعمال منشأ للانصراف (1).

______________________________

(1) أقول: قد مرّ أنّ عنوان كلب الصيد الواقع بنحو الاستثناء في أخبار الفريقين يحتمل أن يراد به كلّ ما صدق عليه هذا العنوان الإضافي بطبيعته السارية، سلوقيّا كان أو غيره، كما يحتمل أن يكون إشارة إلى خصوص ما تعارف الاصطياد به في تلك الأعصار خارجا. و لعلّه كان خصوص السّلوقي المعلّم بحيث لم يتعارف الاصطياد في تلك الأعصار إلّا بسببه، فإنّه كان أخفّ الكلاب و أضبطها و أسرعها و أكثرها استعدادا لقبول التعليم و التربية. و لعلّ هذا التعارف كان باقيا إلى عصر الشيخين أيضا، و لذا ذكر في المقنعة و النهاية و المراسم خصوص السلوقي.

فمرجع هذين الاحتمالين إلى احتمال كون مفاد الاستثناء قضيّة حقيقيّة أو خارجيّة، و كلتاهما معتبرتان متعارفتان في العلوم و في استعمالات أهل المحاورة. و إذا دار الأمر بينهما لم يثبت الاستثناء إلّا بالنسبة إلى الأخصّ منهما، فيبقى إطلاق المستثنى منه و عمومه باقيا في غير القدر المتيقّن لجواز التمسّك بالعامّ مع إجمال المخصّص و دورانه بين الأقل و الأكثر كما حقّق في محلّه.

و بالجملة فحمل المستثنى على خصوص السلوقي ليس من باب دعوى انصراف المطلق إلى بعض أفراده حتى يرد عليه ما ذكره المصنّف أوّلا من عدم غلبة الوجود، و ثانيا من عدم كفايتها في الانصراف من دون غلبة الاستعمال، بل من باب أنّ القضية

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 512

..........

______________________________

محتملة للحقيقيّة و الخارجيّة، فيتمسّك

بإطلاق المستثنى منه في غير القدر المتيقّن، فتأمّل.

و ما مرّ منّا سابقا من منع الإطلاق في قوله: «ثمن الكلب سحت» لورود هذا السنخ من الأخبار في مقام تعداد الأشياء المنهيّة عنها إجمالا و ليست بصدد بيان الحدود و الشرائط لكلّ منها، إنّما يجري في غير ما اشتمل منها على الاستثناء. إذ الاستثناء بنفسه دليل على إرادة العموم في المستثنى منه بالنسبة إلى ما بقي تحته.

فإن قلت: التصيّد بغير السّلوقي إذا فرض كونه معلّما لذلك جائز قطعا كما يشهد بذلك إطلاق الكتاب و الأخبار المعلّقة لحلّية الصيد على اصطياده بالكلب المعلّم من غير تقييد بالسلوقيّ، فراجع الوسائل. «1» و بذلك يصير الكلب لا محالة ذا منفعة عقلائيّة مشروعة فلا يبقى وجه لعدم جواز بيعه و حصر الجواز في السّلوقيّ منه. بل لو فرض كون المستثنى في الأخبار خصوص السّلوقيّ الصيود- كما هو ظاهر المقنعة و النهاية و المراسم كما مرّ- لفهمنا منه بإلقاء الخصوصيّة عدم دخالة السّلوقيّة و أنّ الملاك في صحّة البيع كونه صيودا ذا منفعة و ماليّة عقلائيّة.

قلت: ما ذكرناه كان على مبنى القوم، حيث يجعلون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة البيع تعبّدا و يقولون بإطلاق النهي عن بيع الكلب إلّا فيما ثبت استثناؤه.

و أمّا على ما قلناه من عدم التعبّد المحض في هذا الباب و أنّ الجواز و المنع دائران مدار وجود المنفعة العقلائية المحلّلة و تحقّق الماليّة شرعا فالأمر سهل، إذ نقول على هذا بصحّة بيع كل نجس فيه منفعة عقلائيّة مشروعة، و منها أنواع الكلاب التي يترتّب عليها المنافع المحلّلة من التصيّد و غيره و لا نقتصر على خصوص ما ورد النصّ على جوازه، فتدبّر.

______________________________

(1) الوسائل 16/ 207 (ط. أخرى 16/

249)، كتاب الصيد و الذبائح، الباب 1 و ما بعده من أبواب الصيد.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 513

مع أنّه لا يصحّ في مثل قوله: «ثمن الكلب الذي لا يصيد» أو «ليس بكلب الصيد»، لأنّ مرجع التقييد إلى إرادة ما يصحّ عنه سلب صفة الاصطياد (1). و كيف كان فلا مجال لدعوى الانصراف.

______________________________

و يشهد للتعميم أيضا قوله «ع» في معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه «ع»: «الكلاب الكرديّة إذا علّمت فهي بمنزلة السلوقيّة». «1»

و كونها ناظرة إلى حلّية الصّيد أكلا لا يوجب الاختصاص بعد ما مرّ منا من وحدة الموضوع في البابين و ارتباط أحدهما بالآخر.

و راجع أيضا ما ورد في دية الكلب بأنواعه «2»، حيث يستفاد منها ماليّته شرعا فجاز بيعه على ما بيّناه.

(1) تحقيق ما ذكره المصنّف في المقام أنّ أخبار الجواز- كما ترى- مطلقة تعمّ السلوقي و غيره. و لو قيل بانصرافها إلى السّلوقي فالجواب عنه بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ مجرد غلبة التصيّد بالسّلوقي- على فرض تسليمها- لا توجب الانصراف، لعدم كفاية غلبة الوجود في ذلك، بل الذي يوجب انصراف المطلق إلى بعض أفراده استعماله كثيرا في هذا البعض بحيث أوجب أنس اللفظ بهذا البعض و كأنّه قالب له و صار كالقرينة المتصلة ترفع الإطلاق.

الوجه الثاني: أنّه لو سلّم الانصراف فإنّما هو في مثل قوله: «لا بأس بثمن كلب الصيد.» و أمّا فيما إذا ذكر المطلق ثمّ قيّد بقيد مثل قوله: «ثمن الكلب الذي لا يصيد» أو

______________________________

(1) الوسائل 16/ 224 (ط. أخرى 16/ 268)، كتاب الصيد و الذبائح، الباب 10 من أبواب الصيد، الحديث 1.

(2) الوسائل 19/ 167، كتاب الديات، الباب 19 من أبواب ديات النفس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص:

514

..........

______________________________

«ليس بكلب الصيد» فظاهره دخالة القيد و تقسيم المطلق بسببه إلى نوعين متضادّين:

الذي يصطاد و الذي لا يصطاد، و مقتضاه اختلافهما في الحكم. فكونه سحتا يختصّ بما يصحّ سلب صفة الاصطياد عنه. و لازمه ثبوت الجواز لكلّ ما اتّصف بصفة الاصطياد.

و في حاشية المحقّق المامقاني بيان آخر لكلام المصنّف. قال ما محصّله: «أنّه إن صحّ دعوى الانصراف في مثل رواية ليث، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الكلب الصيود يباع؟ قال: «نعم»، ممّا سيق الوصف بطريق الإثبات، لم يصحّ دعواه فيما سيق بطريق السلب، ضرورة أنّ المراد بسلب الاصطياد ليس هو سلب الاصطياد بالفعل، و إلّا لم يصحّ البيع في السّلوقي أيضا إلّا في حال اصطياده. فالمراد سلب ملكة الاصطياد. و مثل هذا يعطي القاعدة و لا يكون قابلا لدعوى الانصراف لأنّ دعواه إنّما تجري فيما هو من قبيل المطلق لا فيما يفيد الكليّة و العموم.» «1» هذا.

و ناقش المصنّف في مصباح الفقاهة بما محصّله: «أنّ ما ذكره المصنّف إنّما يصحّ في أمثال قوله: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت»، فإنّ ظاهر التوصيف كون وصف الاصطياد قيدا للموضوع، و لا يتمّ في قوله في مرسلة الفقيه: «ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت»، فإنّ من القريب أن لا يصدق كلب الصيد على غير السّلوقي و انصرافه عنه.» «2»

أقول: و المناقشة واردة على بيان المحقّق المامقاني أيضا، إذ عموم السلب بمقدار عموم مدخوله و إذا فرض انصراف المدخول إلى قسم خاصّ فالسّلب أيضا مقصور عليه، فتدبّر.

______________________________

(1) غاية الآمال 1/ 30.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 94.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 515

[المراد من السلوقي مطلق الصيود]

بل يمكن أن يكون مراد المقنعة و النهاية من السلوقي مطلق الصيود على

ما شهد به بعض الفحول من إطلاقه عليه أحيانا.

و يؤيّد بما عن المنتهى، حيث إنّه بعد ما حكى التخصيص بالسّلوقي عن الشيخين قال: «و عني بالسّلوقي كلب الصيد لأنّ سلوق قرية باليمن أكثر كلابها معلّمة فنسب الكلّ إليها.» و إن كان هذا الكلام من المنتهى يحتمل لأن يكون مسوقا لإخراج غير كلب الصيد من الكلاب السّلوقيّة و أنّ المراد بالسّلوقي خصوص الصيود لا كلّ سلوقي. لكن الوجه الأوّل أظهر، فتدبّر (1).

______________________________

(1) أقول: بل الأظهر من كلام العلّامة هو الوجه الثاني كما مرّ. و السّلوقي في عبارة الشيخين يشكل حمله على مطلق كلب الصيد، إذ عبارة الكتابين هكذا: «إلّا ما كان سلوقيّا للصيد» فالصيد مصرّح به في كلامهما. و لو حمل السلوقي على مطلق كلب الصيد كان مفاد عبارتهما: «إلّا ما كان كلب صيد للصيد» فيصير لفظ: «للصيد» زائدا. إلّا أن يريدا بذلك حرمة بيع كلب الصيد لغير الصيد. هذا و الأمر سهل.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 515

و في بعض روايات دية الكلب جعل الأربعون درهما- التي هي أكثر دية جعلت للكلب في أخبارنا- دية للكلب السّلوقي. و في بعضها لكلب الصيد بإطلاقه، و في ثالث لكلب الصيد السّلوقي، فراجع الوسائل. «1»

فيستفاد من هذه الروايات نحو ملازمة بين كلب الصيد و الكلب السلوقي إجمالا.

فإمّا أن يحمل الأولى على الثانية بأن يراد من المطلق ما تعارف الصيد به خارجا، أو

______________________________

(1) الوسائل 19/ 167، كتاب الديات، الباب 19 من أبواب ديات النفس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 516

..........

______________________________

يحمل الثانية على الأولى من باب إطلاق لفظ الخاصّ

على العامّ كما قيل في المقام.

و يمكن أن يقال بحمل الطائفتين الأوليين على الثالثة حملا للمطلقين على المقيّد لهما. و مقتضاه اختصاص الأربعين درهما بالسلوقي الصيود، و لعلّ دية الصيود غير السّلوقي كانت أقل من ذلك لكونه أنزل قيمة.

و يمكن أن يستشعر من هذا الجمع أن إطلاق كلب الصيد كان ينصرف إلى السلوقي منه و إطلاق السلوقي إلى الصائد منه، فتدبّر.

و ينبغي التنبيه على أمرين:
الأوّل: [هل الغرض الاصطياد أو مطلق]

بناء على اختصاص جواز البيع بكلب الصيد- كما هو ظاهر كثير من عبارات الأصحاب- فهل يعتبر في جواز بيعه كون الداعي إلى اشترائه هو الاصطياد به و كون بيعه لذلك، أو يجوز بيعه و لو لغرض آخر كالحراسة أو التجارة به؟ و جهان: من أنّ تعليق الحكم على وصف مشعر بدخالته فيه موضوعا و غاية، و من إطلاق روايات الجواز. و لعلّ الأظهر هو الثاني و لا سيّما على ما بيّناه من كون جواز البيع و عدمه دائرين مدار الماليّة العقلائيّة و المنافع المحلّلة و عدمهما. نعم لو اشتراه لغرض محرّم كأكل لحمه مثلا بحيث جعل قيدا في المعاملة فالظاهر عدم جواز بيعه لأن اللّه- تعالى- إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.

الثاني: [عنوان كلب الصيد ما كان بالفعل فلا يشمل الجرو القابل للتعليم]

الظاهر من عنوان كلب الصيد ما كان بالفعل واجدا لملكته، فلا يشمل الجرو القابل للتعليم و إن كان متولّدا من المعلّم. فعلى مبنى الأصحاب في الباب يشمله عمومات المنع و إطلاقاته، غاية الأمر كونه تابعا لأمّه في أحقّية مالك الأمّ به لكونه نتيجة لملكه، نظير ما قالوا في الخمر القابلة للتخليل من أحقّية صاحبها قبل التخمير بها.

و لكن قال العلّامة في التذكرة: «يجوز تربية الجرو الصغير لأحد المنافع المباحة، و هو أقوى وجهي الحنابلة، لأنّه قصد لذلك فله حكمه، كما جاز بيع العبد الصغير الذي لا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 517

..........

______________________________

نفع فيه.» و نحو ذلك في المنتهى. «1»

و عنوان بحثه و إن كان تربيته و لكن تشبيهه إيّاه ببيع العبد الصغير يشعر بكون جواز البيع أيضا محطّا لنظره.

و في حاشية المحقق المامقاني: «و لكن عن نهاية الإحكام و الروضة و المسالك الجزم بجواز بيعه. بل عن المصابيح أنّه لازم لكلّ من

جعل العلّة المسوّغة للبيع قصد الانتفاع، فإنّ النفع أعمّ من الحاصل و المتوقّع، فيشمله عمومات البيع و نحوه، بل عمومات كلب الصيد لصدقه على المتولد منه و إن لم يتحقّق منه الصيد فإنّه صار اسما لهذا النوع كالسلوقي و نحوه. و لكن توجّه المنع على ذلك جليّ. بل الكلب في لغة العرب لا يقال على الجرو فكيف مضافا إلى الصيد. بل عن المصابيح أيضا أنّه لو سلّم فما دلّ على جواز بيع كلب الصيد معارض بما دلّ على تحريم بيع ما ليس بصيود، فإنّ بينهما عموما من وجه و الترجيح للثاني لمطابقته لعمومات المنع.» «2»

أقول: هذا على مبنى الأصحاب من جعل النجاسة بنفسها مانعة إلّا فيما ثبت جوازه. و أمّا على ما قلناه من دوران الجواز و المنع مدار الماليّة العقلائيّة المعتبرة عند الشرع فلا إشكال، إذ الماليّة العقلائيّة و إن كانت تعتبر بلحاظ المنافع لكنّها عند العقلاء أعمّ من الحاصلة و المتوقعة كما حكاه عن المصابيح. و تربية الأجراء بلحاظ المنافع المتوقعة جائزة قطعا لاستقرار سيره العقلاء و المتشرعة عليها في جميع الأعصار. هذا و في مصباح الفقاهة في هذا المجال كلام طويل من شاء فليراجعه. «3» و لم نتعرض له روما للاختصار.

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع؛ و المنتهى 2/ 1010.

(2) غاية الآمال 1/ 30.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 94.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 518

[الثالث: كلب الماشية و الحائط و الزرع]
اشارة

الثالث: كلب الماشية و الحائط و هو البستان و الزرع. و الأشهر بين القدماء على ما قيل المنع. و لعلّه استظهر ذلك من الأخبار الحاصرة لما يجوز بيعه في الصيود، المشتهرة بين المحدثين كالكليني و الصدوقين و من تقدّمهم، بل و أهل الفتوى

كالمفيد و القاضي و ابن زهرة و ابن سعيد و المحقّق. بل ظاهر الخلاف و الغنية الإجماع عليه (1).

نعم المشهور بين الشيخ و من تأخّر عنه الجواز وفاقا للمحكي عن ابن الجنيد- قدس سرّه-، حيث قال: «لا بأس بشراء الكلب الصائد و الحارس للماشية و الزرع.» ثمّ قال: «لا خير في الكلب فيما عدا الصيود

______________________________

3- كلب الماشية و الحائط و الزرع

(1) أقول: ظاهر ما مرّ من الروايات في كلب الصيد انحصار المستثنى في ذلك، لدلالة الاستثناء على عموم المستثنى منه لجميع ما بقي تحته، و هو الظاهر أيضا من المحدّثين الذين تعرّضوا لهذه الروايات في كتبهم، إذ بناؤهم على ذكرها للعمل كما يظهر ذلك من ديباجة الكافي و الفقيه. و كذا أهل الفتوى المقتصرين في فتاويهم على ذكر كلب الصيد فقط. اللّهم إلّا أن يقال بكون ذكره في الأخبار و الفتاوى من باب المثال و أنّ الغرض كان استثناء كلّ كلب يترتّب عليه فائدة عقلائيّة مشروعة. و لما كان كلب الصيد في تلك الأعصار من أظهر مصاديقه تعرّض له الأئمة- عليهم السلام-. و القدماء من أصحابنا كان بناؤهم في مقام الإفتاء على ذكر متون الروايات و لهذا لم يصرّحوا بغير كلب الصيد.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 519

و الحارس.» و ظاهر الفقرة الأخيرة لو لم يحمل على الأولى جواز بيع الكلاب الثلاثة و غيرها كحارس الدور و الخيام.

و حكي الجواز أيضا عن الشيخ و القاضي في كتاب الإجارة و عن سلّار و أبي الصلاح و ابن حمزة و ابن إدريس و أكثر المتأخّرين كالعلّامة و ولده السعيد و الشهيدين و المحقّق الثاني و ابن القطّان في المعالم و الصيمري و ابن فهد و غيرهم

من متأخّري المتأخرين. عدا قليل وافق المحقّق كالسبزواري و التقي المجلسي و صاحب الحدائق و العلّامة الطباطبائي في مصابيحه و فقيه عصره في شرح القواعد و هو الأوفق بالعمومات المتقدّمة المانعة.

______________________________

و حيث إنّ الكلب له فوائد كثيرة غير الصيد و الانتفاع به جائز قطعا كما استقرّت على ذلك سيرة العقلاء و المتشرعة فالاعتبار يقتضي جواز المعاملة على الكلاب النافعة بعد صيرورتها مالا معتبرا عند العقل و الشرع، و لذا حرّم الشارع إتلافها على صاحبها و جعل لها ديات كما مرّت الإشارة إلى ذلك. «1»

[كلمات الأصحاب]

فلنذكر بعض ما ورد في جواز الانتفاع بها من كلمات الأصحاب و الأخبار الواردة ثمّ نتعرّض لمسألة بيعها:

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 304): «يجوز اقتناء الكلب لحفظ البيوت.

و لأصحاب الشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه و هو الصحيح عند محصّليهم.

______________________________

(1) راجع الوسائل 19/ 167، كتاب الديات، الباب 19 من أبواب ديات النفس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 520

..........

______________________________

و منهم من قال: لا يجوز، لأنّ السنّة خصّت كلب الصيد و الماشية و الزرع. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

أقول: فالشيخ الطوسي «ره» ادّعى إجماع أصحابنا و أخبارهم على جواز اقتناء الكلب لحفظ البيوت، و السيرة أيضا قد استقرّت على ذلك في جميع الأعصار. و الشافعي كان ممّن يمنع عن بيع الكلب مطلقا حتّى كلب الصيد. و لكنّهم مع ذلك أجازوا اقتناءه للصيد و الماشية و الزرع و إنما اختلفوا في كلب البيوت.

2- و فيه أيضا (المسألة 305): «يجوز اقتناء الكلب لحفظ الماشية أو الحرث أو الصيد إن احتاج إليه و إن لم يكن له في الحال ماشية و لا حرث. و لأصحاب الشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما

قلناه. و الثاني أنّه لا يجوز.

و قالوا في تربية الجرو و هو فرخ الكلب أيضا و جهان. دليلنا ظواهر الأخبار، و لأن الأصل الإباحة و المنع يحتاج إلى دليل.» «2»

3- و قال العلّامة في التذكرة: «يجوز اقتناء كلب الصيد و الزرع و الماشية و الحائط دون غيره، لقوله «ع»: «من اتّخذ كلبا إلّا كلب ماشية أو صيد أو زرع نقص من أجره كلّ يوم قيراط.» و لو اقتناه لحفظ البيوت فالأقرب الجواز، و هو قول بعض الشافعية و بعض الحنابلة لأنّه في معنى الثلاثة. و منع منه بعضهم لعموم النهي.» «3»

4- و فيه أيضا: «يحرم قتل ما يباح اقتناؤه من الكلاب إجماعا و عليه الضمان على ما يأتي و به قال مالك و عطاء. و قال الشافعي و أحمد لا غرم لأنّه يحرم أخذ عوضه فلا

______________________________

(1) الخلاف 3/ 183 (ط. أخرى 2/ 81)، كتاب البيوع.

(2) الخلاف 3/ 183 (ط. أخرى 2/ 81)، كتاب البيوع.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 521

..........

______________________________

يجب غرم بإتلافه. و الأصل ممنوع.» «1»

5- و قال في المنتهى: «يحرم اقتناء ما عدا كلب الصيد و الماشية و الزرع. روى أبو هريرة عن النبيّ «ص» قال: «من اتّخذ كلبا إلّا كلب الماشية أو زرع أو صيد نقص من أجره كلّ يوم قيراط.» و من طريق الخاصّة ما روي عنهم «ع» أنّه: «من ربط إلى جنب داره كلبا نقص من عمله كلّ يوم قيراط، و القيراط كجبل أحد.» و لأنّه لا ينفكّ من النجاسة و يتعذّر الاحتراز منه.

و إذا ثبت هذا فلو اقتناه لحفظ البيوت فالأقرب الإباحة و هو قول بعض الشافعيّة.

و بعضهم حرّم

ذلك. لنا أنّ له دية مقدّرة بالشرع على ما يأتي فيجوز اقتناؤه. و لأنّ فيه منفعة كمنفعة كلب الماشية و الزرع من الحفظ و الحراسة.» «2»

6- و راجع في هذا المجال المغني لابن قدامة. «3» فهم أيضا متّفقون في جواز اقتناء الكلاب الثلاثة.

أقول: ذكر كلب الماشية و الزرع و الحائط في كلمات الأصحاب في رديف كلب الصيد ربّما يقوّي ما مرّ منّا من أنّ ذكر كلب الصيد في الأخبار و الفتاوى لعلّه كان من باب المثال.

كيف؟! و من البعيد جدّا أن يقال بجواز اقتناء الكلب و حرمة إتلافه على صاحبه و ضمانه له المستلزم لماليّته، و مع ذلك يحكم بحرمة المعاملة عليه تعبّدا. و المعاوضات

______________________________

(1) نفس المصدر و الفصل.

(2) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

(3) المغنى لابن قدامة 4/ 301، كتاب البيوع، حكم قتل الكلب و اقتنائه ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 522

..........

______________________________

شرّعت لتبادل الحاجات و ليس بناؤها على التعبد المحض نظير الأحكام العبادية. هذا.

7- و روى السكوني عن أبي عبد اللّه «ع»: «أنّ النبيّ «ص» رخّص لأهل القاصية في كلب يتّخذونه.» «1»

8- و روى محمد بن قيس عن أبي جعفر «ع» قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «لا خير في الكلاب إلّا كلب صيد أو كلب ماشية.» «2»

9- و عن عوالي اللآلي عن النّبي «ص» في حديث: فقال: «لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته، فهربت الكلاب حتّى بلغت العوالي. فقيل: يا رسول اللّه، كيف الصيد بها و قد أمرت بقتلها؟ فسكت رسول اللّه «ص» فجاء الوحي باقتناء الكلاب التي ينتفع بها فاستثنى رسول اللّه «ص» كلاب الصيد و كلاب الماشية و كلاب الحرث و أذن في اتّخاذها.» «3»

10- و

عن الشيخ أبي الفتوح الرازي في تفسيره عن أبي رافع عن النبيّ «ص» في حديث أنّه رخّص في اقتناء كلب الصيد. و كلّ كلب فيه منفعة مثل كلب الماشية و كلب الحائط و الزرع، رخّصهم في اقتنائه. «4»

هذا مضافا إلى أنّ اللّه القادر الحكيم لم يخلق الكلب عبثا، و استقرّت سيرة العقلاء و كذا المتشرّعة في جميع الأعصار على اقتناء الكلاب و تعليمها و تربيتها و الانتفاع بها

______________________________

(1) الوسائل 8/ 388، كتاب الحجّ، الباب 43 من أبواب أحكام الدوابّ، الحديث 7.

(2) الوسائل 8/ 387، كتاب الحج، الباب 43 من أبواب أحكام الدوابّ، الحديث 2.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 430، كتاب التجارة، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(4) المصدر السابق، الحديث 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 523

..........

______________________________

في شئونهم المختلفة، و لا يستقيم حفظ المواشي و الحيطان في أكثر البلدان إلّا بها. و في عصرنا كثرت منافعها و الاستفادة منها في أمور مهمّة، فلا يمكن القول بحرمة اقتنائها.

نعم يستفاد من بعض الأخبار أنّ الناس كانوا يفرطون في اقتنائها في البيوت و إطلاقها في مجالي الحياة و التعيش كما هو الشائع في عصرنا أيضا و كان ضرّها أكثر من نفعها، فلأجل ذلك وقع النهي عن اتّخاذها في البيوت و الترغيب في قتل بعض أنواعها، فراجع الوسائل. «1»

و إذا فرض جواز اقتناؤها و ترتّب الفوائد الكثيرة عليها بعد تعليمها و تربيتها فالحكم بحرمة المعاملة عليها جزاف لا ينسب إلى الشارع الحكيم و الشريعة السّمحة الخالدة.

و لأجل ذلك كلّه وردت الروايات المستفيضة من طرق الفريقين بجواز بيع الصيود منها، فإمّا أن يكون ذكره من باب المثال أو يفسّر الصيد بنحو يشمل ما يترقّب من كلب

الماشية و الزرع و نحوهما أيضا كما مرّ بيانه.

و لا يخفى أنّ المسألة ذات قولين بين الأصحاب، حتّى إنّ بعضهم كالشيخ يظهر منه المنع في بعض الكتب و الجواز في آخر. و المشهور بين المتأخّرين هو الجواز.

و عمدة نظر المانعين إلى الحصر المستفاد من استثناء كلب الصيد. و إذا فرض التعدّي من ظاهر هذه الروايات و عدم الأخذ بالحصر المستفاد منها فلا يتفاوت الأمر بين أن يكون المستثنى ثلاثة أنواع من الكلب أو أزيد أو أقل بل الملاك وجود المنفعة العقلائيّة المشروعة الموجبة للماليّة، و يحمل الأنواع المذكورة في كلماتهم على المثال، و إن عدّ البعض الاختلافات الواقعة في ذكر الأمثلة أقوالا مختلفة.

______________________________

(1) الوسائل 8/ 387، الباب 43 من أبواب أحكام الدوابّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 524

..........

______________________________

و حيث إنّ تحقيق المسألة يتوقّف على ملاحظة كلمات الأعلام في المقام فلنتعرّض لبعضها و إن لزم التكرار، فإنّ الحوالة لا تخلو من الخسارة:

1- قال الشيخ الطوسي في المكاسب المحظورة من النهاية: «و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيّا للصيد فإنّه لا بأس ببيعه و شرائه و أكل ثمنه و التكسّب به.» و نحوه عبارة المفيد في المقنعة كما مرّت. «1»

2- و في بيع الخلاف (المسألة 302): «يجوز بيع كلاب الصيد و يجب على قاتلها قيمتها إذا كانت معلّمة. و لا يجوز بيع غير الكلب المعلّم على حال ... دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم فإنّهم لا يختلفون فيه.» «2» و قد مرّت عبارته بتمامها في أوّل المسألة، فراجع.

فظاهر الشيخ في الكتابين و كذا المفيد في المقنعة حصر المستثنى في كلب الصيد.

و يحتمل بعيدا أن يريد بالجملة الأخيرة نفي بيع الكلاب المهملة أو المضرّة فقط، فيكون المقصود

من الكلب المعلّم أعمّ ممّا علّم للصيد أو للحراسة أو لغيرهما من الفوائد العقلائية المشروعة، حيث إنّ التعليم ملاك الماليّة في الجميع.

3- و لكن في إجارة الخلاف (المسألة 43): «يصح إجارة كلب الصيد للصيد (إجارة الكلب للصيد- ظ.) و حفظ الماشية و الزرع. و للشافعي فيه و جهان: أحدهما مثل ما قلناه.

و الآخر أنّه لا يجوز ذلك. دليلنا أنّ الأصل جوازه و المنع يحتاج إلى دليل. و لأن بيع هذه الكلاب يجوز عندنا و ما يصحّ بيعه يصحّ إجارته بلا خلاف.» «3»

______________________________

(1) النهاية للشيخ/ 364، باب المكاسب المحظورة ...؛ و المقنعة/ 589، كتاب التجارة، المكاسب المحرمة.

(2) الخلاف 3/ 181 (ط. أخرى 2/ 80)، كتاب البيوع.

(3) الخلاف 3/ 511 (ط. أخرى 2/ 216)، كتاب الإجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 525

..........

______________________________

4- و في بيع المبسوط: «و الكلاب على ضربين: أحدهما لا يجوز بيعه بحال. و الآخر يجوز ذلك فيه. فما يجوز بيعه ما كان معلّما للصيد. و روي أنّ كلب الماشية و الحائط كذلك. و ما عدا ذلك كلّه فلا يجوز بيعه و لا الانتفاع به.» «1»

أقول: ذكره كلب الماشية و الحائط بعد كلب الصيد يدلّ على عدم شموله لهما.

و إسنادهما إلى الرواية ظاهر في ورود رواية ببيعهما. و يحتمل استنباطه ذلك ممّا ورد في جواز اقتنائهما على ما مرّ منّا من الملازمة بين جواز الانتفاع و جواز البيع. و لعلّه الظاهر أيضا من قوله أخيرا: «فلا يجوز بيعه و لا الانتفاع به.»

5- و في إجارة المبسوط: «إجارة الكلب للصيد و حراسة الماشية و الزرع صحيحة لأنّه لا مانع من ذلك. و لأنّ بيع هذه الكلاب يصحّ. و ما يصحّ بيعه يصحّ إجارته.» «2»

فانظر

إلى اختلاف كلمات الشيخ خرّيت فقه الإمامية في مسألة واحدة.

6- و في المكاسب المحظورة من المراسم: «و بيع الكلاب إلّا السلوقي و كلب الماشية و الزرع.» «3»

و مؤلّف الكتاب سالار بن عبد العزيز الديلمي من أكابر تلامذة المفيد و المعاصر للشيخ الطوسي- رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين-.

7- و في أواخر الإجارة من مهذّب ابن البرّاج المشهور بالقاضي: «و إذا استأجر من غيره كلبا لحراسة الماشية أو الزرع، أو استأجره للصيد كان جائزا، لأنّه لا مانع يمنع من

______________________________

(1) المبسوط 2/ 166، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(2) المبسوط 3/ 250، كتاب الإجارات، فصل في تضمين الأجراء.

(3) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 526

..........

______________________________

ذلك. و لأنّ بيع هذه الكلاب يصحّ. و ما صحّ بيعه صحّ الاستيجار له.» «1»

و ظهور كلامه في الملازمة بين صحّة الإجارة المبنيّة على المنافع المحلّلة و صحّة البيع واضح. و الرجل من تلامذة الشيخ و معاصريه.

8- و في بيع الغنية في شرائط المبيع: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرّزا ممّا لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها و قيّدنا بكونها مباحة تحفظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السماء و هو إجماع الطائفة.» «2»

أقول: فابن زهرة لم يستثن إلّا كلب الصيد و لكن يستفاد من كلامه ما نصرّ عليه من دوران الجواز و المنع مدار المنفعة المحلّلة و عدمها، فإذا ثبت جواز الانتفاع بالكلاب الثلاثة و غيرها ثبت قهرا جواز بيعها أيضا و يكون ذكر

كلب الصيد من باب المثال.

9- و في بيع الوسيلة لابن حمزة: «و البهيمة ضربان: إمّا يحلّ لحمها أو يحرم ...

و الثاني إمّا يمكن الانتفاع بها مثل جوارح الطير و السباع و كلب الصّيد و الماشية و الزرع و الحراسة، و السنجاب و الفنك و السمّور و سباع الوحش للانتفاع بجلدها و صيدها مثل الفهد و النمر و الذئب و أشباه ذلك و جاز بيع جميع ذلك. و إمّا لا يمكن الانتفاع بها و يحرم بيعه، و هو ما سوى ذلك.» «3»

أقول: فجعل الملاك في جواز البيع و عدمه إمكان الانتفاع بها و عدمه.

______________________________

(1) المهذّب لابن البرّاج 1/ 502، أواخر كتاب الإجارة.

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(3) الوسيلة/ 248، كتاب البيع، فصل في بيان بيع الحيوان.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 527

..........

______________________________

10- و في السرائر: «و الرشا في الأحكام سحت و كذلك ثمن الكلب إلّا كلب الصيد سواء كان سلوقيّا- منسوب إلى سلوق، قرية باليمن- أو لم يكن، و كلب الزرع و كلب الماشية و كلب الحائط فإنّه لا بأس ببيع الأربعة كلاب و شرائها و أكل ثمنها، و ما عداها محرّم محظور ثمنه ... و قال شيخنا في نهايته: و الرشا في الأحكام سحت و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيّا للصيد، فاستثنى السّلوقي فحسب. و الأظهر ما ذكرناه لأنّه لا خلاف بيننا أنّ لهذه الكلاب الأربعة ديات و أنّه تجب على قاتلها، و شيخنا فقد رجع في غير هذا الكتاب في مسائل خلافه عمّا ذكره في نهايته.» «1»

11- و العلّامة في متاجر المختلف بعد نقل كلام النهاية و المبسوط و الخلاف قال:

«و قال ابن الجنيد: لا بأس

بشراء الكلب الصائد و الحارس للماشية و الزرع. و قال ابن البرّاج: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره من الكلاب. و قال ابن إدريس: يجوز [بيع] كلب الصيد ... و كلب الزرع و كلب الماشية و كلب الحائط. و به قال ابن حمزة. و هو الأقرب عندي. لنا: الأصل الإباحة. و لأنّه لو جاز بيع كلب الصيد جاز بيع باقي الكلاب الأربعة.

و الأوّل ثابت إجماعا فكذا الثاني. بيان الشرطيّة أنّ المقتضي للجواز هناك كون المبيع ممّا ينتفع به، و ثبوت الحاجة إلى المعاوضة. و هذان المعنيان ثابتان في صورة النزاع فيثبت الحكم عملا بالمقتضي السّالم عن المعارض إذ الأصل انتفاؤه، و لأنّ لها ديات منصوصة فتجوز المعاوضة عليها. و لأنّه يجوز إجارتها فيجوز بيعها.» «2»

أقول: ما حكاه عن ابن البرّاج مخالف لما مرّ عنه في إجارة المهذّب، فلعلّه قال ذلك في محلّ آخر.

______________________________

(1) السرائر 2/ 220، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب، المكاسب المحظورة ...

(2) المختلف/ 341، كتاب المتاجر، الفصل الأوّل في وجوه الاكتساب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 528

..........

______________________________

و دلالة كلام العلّامة على دوران جواز البيع و المنع عنه مدار المنفعة المحلّلة و عدمها واضحة.

و القول بأنّ المنفعة مقتضية للجواز، و مجرّد المقتضي لا يكفي في تحقّق المقتضى بعد احتمال وجود المانع عن تأثيره، يردّه القطع هنا بعدم الفرق بين كلب الصيد و كلب الماشية و الزرع بعد اشتراك الجميع في النجاسة.

نعم يمكن المناقشة في كلب البيوت لاحتمال كونه في معرض تنجيس وسائل التعيّش و تعذّر الاحتراز منه كما مرّ عن المنتهى. و في الحديث: «يكره أن يكون في دار الرجل المسلم الكلب.» و نحوه غيره «1»، فتأمّل.

12- و في بيع التذكرة: «إن سوّغنا

بيع كلب الصيد صحّ بيع كلب الماشية و الزرع و الحائط، لأنّ المقتضي و هو النفع حاصل هنا.» «2» و راجع في هذا المجال المنتهى أيضا «3»، حيث قوّى فيه الجواز.

13- و في إجارة التذكرة: «لا يجوز استيجار ما لا منفعة فيه محلّلة مقصودة في نظر الشرع فلا يصحّ إجارة كلب الهراش و الخنزير. و أمّا ما يجوز اقتناؤه من الكلاب و يصحّ بيعه و له قيمة في نظر الشرع و له منفعة محلّلة مثل كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط فإنّه يجوز استيجاره لهذه المنافع لأنّه يجوز إعارته لهذه المنافع فجاز استيجاره، و لأنّه يصحّ بيعه عندنا و كلّ ما يصح بيعه ممّا يبقى من الأعيان يصحّ إجارته. و للشافعية و جهان:

أحدهما الجواز لهذا و الثاني: المنع ...» «4»

______________________________

(1) الوسائل 8/ 387، كتاب الحجّ، الباب 43 من أبواب أحكام الدوابّ، الحديث 1.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

(4) التذكرة 2/ 295، كتاب الإجارة، الركن الرابع من الفصل الثانى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 529

..........

______________________________

14- و في القواعد: «و الأقرب جواز بيع كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط و إجارتها و اقتناؤها ...» «1»

15- و ذيّله ولده السعيد في الإيضاح بقوله: «هذا مذهب ابن الجنيد و ابن إدريس و ابن حمزة للأصل. و جوّز الشيخ و المفيد و ابن البراج بيع كلب الصيد دون غيره. لنا أنّه لو جاز بيع كلب الصيد جاز بيع باقي الكلاب الأربعة، و المقدّم ثابت إجماعا فالتالي مثله.

بيان الشرطيّة أنّ المقتضي للجواز هناك كون المبيع ممّا ينتفع به و ثبوت الحاجة إلى المعاوضة.

و هذان المعنيان ثابتان في صورة النزاع فثبت الحكم ...» «2»

أقول: الظاهر أنّه أخذ الأقوال و الاستدلال من أبيه في المختلف و إلّا فالشيخ و ابن البراج أفتيا في إجارة المبسوط و المهذّب بالجواز كما مرّ.

16- و في متاجر اللّمعة فيما يحرم التجارة فيه قال: «و الكلب إلّا كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط.» و يظهر من شرحه أيضا قبول ذلك، فراجع. «3»

17- و في المسالك: «و الأصحّ جواز بيع الكلاب الثلاثة لمشاركتها الكلب الصيد في المعنى المسوّغ لبيعه. و دليل المنع ضعيف السند قاصر الدلالة.» «4»

أقول: رواية محمّد بن مسلم و عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت» موثوق بها كما مرّ. «5»

______________________________

(1) القواعد للعلّامة 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأول، الفصل الأول.

(2) إيضاح الفوائد 1/ 402، كتاب المتاجر، المقصد الأول، الفصل الأوّل.

(3) راجع الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 1/ 308، الفصل الأوّل من كتاب المتاجر.

(4) المسالك 1/ 167، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(5) الوسائل 12/ 83، كتاب التجارة، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 530

..........

______________________________

18- و المحقّق المقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة في ذيل كلام المصنّف: «و كلب الهراش» بعد نقل ما مرّ عن المنتهى إجمالا من تقويته الجواز قال: «و يريد بكلب الهراش هنا ما لا ينتفع به فيكون مختاره هنا أيضا الجواز كما قوّاه في المنتهى، و ذلك غير بعيد للأصل مع حصول النفع المطلوب للعقلاء. مع عدم المنع في نصّ و إجماع. و مجرّد كونه نجسا لا يصلح لذلك، و لا لعدم التملّك. فالظاهر التملّك و جواز ما يترتّب عليه. و يحتمل

العدم لأنّ الأصل عدم التملّك و البيع فرعه. و للرواية الدالّة على أنّ: «ثمن الكلب سحت.» خرج كلب الصيد بدليل آخر و بقي الباقي و لا دليل على التملّك.

و يمكن أن يكون عموم خلق الأشياء للإنسان و لانتفاعه بها و قبضه لها مع صلاحيّة الانتفاع به دليلا له كما في سائر المباحات. و يحمل رواية: «ثمن الكلب سحت»- مع عدم ظهور الصحة- على كلب الهراش الذي لا نفع فيه غير الكلاب الأربعة، فتأمّل.» «1»

أقول: لعلّه أشار بقوله: «فتأمّل» إلى ما يمكن أن يقال أوّلا بأنّ حمل روايات المنع على كلب لا ينتفع به أصلا لا يخلو من إشكال، إذ العاقل لا يقدم على معاملة لا نفع فيها أصلا، فكيف تحمل الأخبار المستفيضة الواردة من طرق الفريقين على المنع على كلب لا منفعة له و لا قيمة و لا يقدم على بيعه عاقل؟ اللّهم إلّا أن يقال بحملها على كلب يباع بقصد المنافع المحرمة كالاستمتاعات المحرّمة و الهجوم على الناس ظلما و عدوانا، و نحو ذلك.

و ثانيا بأنّ النصوص السابقة المستثنية لكلب الصيد فقط ظاهرة في المنع، فما معنى قوله: «مع عدم المنع في نصّ و إجماع»؟ هذا.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 37، كتاب المتاجر، أقسام التجارة و أحكامها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 531

..........

______________________________

19- و لكن خريت فقه الشيعة في عصره المحقّق الحلّي «ره» قال في الشرائع: «لا يجوز بيع شي. من الكلاب إلّا كلب الصيد. و في كلب الماشية و الزرع و الحائط تردّد. و الأشبه المنع. نعم يجوز إجارتها، و لكلّ واحد من هذه الأربعة دية لو قتله غير المالك.» «1»

أقول: قوله: «الأشبه المنع» يراد به أنّ ما يناسب موازين الفقه

و قواعده، هو المنع إذ دلّ عليه النصوص المتضمّنة لاستثناء كلب الصيد فقط الدالّة على عموم المستثنى منه لجميع ما بقي تحته. و قوله: «نعم يجوز إجارتها» إشارة إلى ردّ من قايس المقام بالإجارة و جعل المناط فيهما واحدا. و ذكره للدية إشارة إلى ردّ من قال: إنّ الدية قيمة للكلب فيجوز أخذها بإزائه بالمعاملة أيضا.

20- و في كفاية المحقّق السبزواري: «المشهور جواز بيع كلب الصيد و نقل عن جماعة الإجماع عليه و يدلّ عليه النصّ. و لا أعلم خلافا في عدم صحّة بيع كلب الهراش. و اختلفوا في كلب الماشية و الزرع و الحائط، و الأقرب المنع لصحيحة عبد الرحمن و محمّد بن مسلم ...» «2»

21- و في الحدائق بعد نقل أخبار كلب الصيد قال: «و هذه الأخبار كلّها- كما ترى- متفقة على ما ذكرناه من أنّ ما عدا كلب الصيد فإنّه لا يجوز بيعه و لا شراؤه، و لم أقف على خبر يتضمّن استثناء غيره سوى ما في عبارة المبسوط من قوله: «و روي أنّ كلب الماشية و الحائط مثل ذلك.» و في الاعتماد على مثل هذه الرواية في تخصيص هذه الأخبار إشكال ...»، فراجع. «3»

______________________________

(1) الشرائع/ 265 (ط. أخرى 2/ 11)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل فيما يكتسب به.

(2) كفاية الأحكام/ 88، كتاب التجارة، البحث الثالث من المقصد الثانى.

(3) الحدائق 18/ 81، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة فيما يكتسب به، في ثمن كلب غير الصيد.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 532

[المختار في المسألة]

إذ لم نجد مخصّصا لها سوى ما أرسله في المبسوط من أنّه روي ذلك يعني جواز البيع في كلب الماشية و الحائط المنجبر قصور سنده و دلالته لكون المنقول مضمون الرواية لا

معناها و لا ترجمتها، باشتهاره بين المتأخّرين (1). بل ظهور الاتّفاق المستفاد من قول الشيخ في كتاب الإجارة أنّ أحدا لم يفرّق بين بيع هذه الكلاب و إجارتها بعد ملاحظة الاتّفاق على صحّة إجارتها. و من قوله «ره» في التذكرة: «يجوز بيع هذه

______________________________

أقول: و قد مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة «1» عن الحنفية: «يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح.» و غير الحنفية لا يجوزون بيع الكلاب مطلقا و لو كان كلب صيد، نعم يجوّزون اقتناءها و الانتفاع بها.

و يظهر من كلمات أصحابنا في المقام أنّ المسألة ذات قولين، و أنّ القائل بالمنع يستند إلى عموم أخبار المنع المستثنى منه كلب الصيد فقط.

و عمدة مستند القائل بالجواز اشتراك الأربعة في المنفعة المحلّلة و كونها ذات قيمة و ثبوت الملازمة بين صحّة الإجارة و صحّة البيع. و إذا فرض التعدّي عن كلب الصيد فيتعدى إلى كلّ ما فيه منفعة محلّلة و لا ينحصر في الكلاب الثلاثة، و عدم التعرّض لسائر المنافع في كلام الأصحاب من جهة عدم الالتفات إليها في تلك الأعصار.

(1) إذا وقفت على بعض كلمات الأصحاب في المقام فلنبيّن ما هو المختار عندنا.

فنقول: الأصل الأوّلي في المعاملات عدم الصحّة و عدم النفوذ، و يعبّر عن ذلك بأصالة الفساد.

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 533

الكلاب عندنا.» و من المحكيّ عن الشهيد في الحواشي: «أنّ أحدا لم يفرّق بين الكلاب الأربعة.» فيكون هذه الدعاوي قرينة على حمل كلام من اقتصر على كلب الصيد على المثال لمطلق ما ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة.

كما يظهر ذلك من عبارة ابن زهرة

في الغنية، حيث اعتبر أوّلا في المبيع أن يكون ممّا ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة، ثمّ قال: «و احترزنا بقولنا: ينتفع به منفعة محلّلة عمّا يحرم الانتفاع به. و يدخل في ذلك كلّ نجس إلّا ما خرج بالدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح تحت السّماء.»

______________________________

و ما يظهر من بعض الكلمات من التمسّك بأصالة الإباحة فيها مخدوش. إذ أصل الإباحة إنّما يفيد فيما إذا شك في جواز الفعل تكليفا لا في صحة المعاملة و فسادها وضعا. اللّهم إلّا أن يحمل الإباحة في كلماتهم على الأعمّ من التكليف و الوضع و يستدلّ لها بإطلاقها، بأخبار الحلّ بحملها على الأعمّ كما مرّ بيانه سابقا. هذا.

و لكن يرفع اليد عن أصل الفساد بعمومات الوفاء بالعقود و حلّية البيع و التجارة عن تراض بناء على إطلاق دليلهما بل و باستقرار سيرة العقلاء و المتشرعة في جميع الأعصار على تنفيذها إلا فيما ثبت المنع عنه.

و لعلّ الشارع الحكيم في هذا السنخ من الأمور العرفية التي يدور عليها حياة البشر أحالهم إلى عقولهم و خلّاهم و العقول إلّا فيما ثبت ردعهم. و في المقام حيث إنّ ظاهر الأخبار السابقة عدم الجواز إلّا في كلب الصيد فلا بدّ للقائل بالجواز في غيره من الكلاب

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 534

[الإجماع و السيرة على جواز الانتفاع بهذه الكلاب]

و من المعلوم بالإجماع و السيرة جواز الانتفاع بهذه الكلاب منفعة محلّلة مقصودة أهمّ من منفعة الصيد، فيجوز بيعها لوجود القيد الذي اعتبره فيها. و أنّ المنع من بيع النجس منوط بحرمة الانتفاع فينتفي بانتفائها.

و يؤيّد ذلك كلّه ما في التذكرة: من أنّ المقتضي لجواز بيع كلب الصيد أعني المنفعة موجود في هذه الكلاب.

و عنه في مواضع

أخر: أنّ تقدير الدية لها يدلّ على مقابلتها بالمال.

و إن ضعّف الأوّل برجوعه إلى القياس.

______________________________

النافعة من دليل معتدّ به يوجب رفع اليد عن هذا الظاهر و حمل كلب الصيد في الأخبار على المثال أو تخصيص عموم المستثنى منه بسببه. و قد تعرّض المصنّف في المتن لما ذكروه من الأدلّة فلنتعرّض لها إجمالا:

الأوّل: ما أرسله في المبسوط من قوله: «و روي أن كلب الماشية و الحائط كذلك.» «1»

بضميمة جبره سندا و دلالة باشتهاره بين المتأخّرين بل بالإجماعات المدّعاة في المسألة.

و يرد عليه أوّلا: عدم ثبوت الرواية و عدم ضبطه في كتب الحديث التي بأيدينا من كتب الفريقين.

و قد احتملنا استنباطه ذلك ممّا ورد في جواز اقتناء الكلبين من جهة الملازمة المدّعاة بين جواز الاقتناء و جواز البيع كما مرّ منّا بيانه.

______________________________

(1) المبسوط 2/ 166، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 535

و الثاني بأنّ الدية لو لم تدلّ على عدم التملّك- و إلّا لكان الواجب القيمة كائنة ما كانت- لم تدلّ على التملّك. لاحتمال كون الدية من باب تعيين غرامة معيّنة لتفويت شي ء ينتفع به لا لإتلاف مال كما في إتلاف الحرّ.

______________________________

و الظاهر- كما صرّح به المصنّف و يشهد به التعبير بلفظ كذلك أيضا- عدم كون المرويّ لفظ الإمام و لا ترجمته و لا معناه بل المضمون المستفاد منه بالحدس و الاجتهاد، نظير إفتاء المجتهد بما يستنبطه من الرواية، و مثل هذا لا يشمله أدلّة حجّية الخبر كما قرّر في محلّه.

و ثانيا: عدم إحراز استناد المشهور إلى المرسلة كي يكون هذا جابرا لضعفه. و مجرد مطابقة فتواهم لها لا يدلّ على استنادهم إليها.

و ثالثا: أنّ

الشهرة الجابرة لضعف الرواية- على القول به- هي شهرة القدماء المتعبّدين بالإفتاء على طبق النصوص الواردة لا الشهرة بين المتأخّرين، حيث إنّ بناءهم على الإفتاء بما أدّى إليه أنظارهم و اجتهاداتهم الحدسيّة، و ليس مثلها كاشفا عن تلقّي الحكم عن المعصومين «ع».

و رابعا: لو سلّم كون الشهرة مطلقا جابرة لضعف السند فلا دليل على كونها جابرة للدلالة، إذ مرجع ذلك إلى حجيّة فهم الأصحاب و تقليدهم في ذلك.

الثاني: دعوى الإجماع و الاتّفاق المستفاد من قول الشيخ في إجارة الخلاف: «و لأنّ بيع هذه الكلاب يجوز عندنا، و ما يصحّ بيعه يصحّ إجارته بلا خلاف.» «1» و من قول

______________________________

(1) الخلاف 3/ 511 (ط. أخرى 2/ 216) المسألة 43 من كتاب الإجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 536

..........

______________________________

العلّامة في إجارة التذكرة: «و لأنّه يصحّ بيعه عندنا، و كلّ ما يصحّ بيعه ممّا يبقى من الأعيان يصحّ إجارته.» «1» و من المحكيّ عن الشهيد في الحواشي: «أنّ أحدا لم يفرّق بين الكلاب الأربعة.» «2» فتكون هذه الدعاوي قرينة على حمل كلب الصيد في كلام من اقتصر عليه على المثال، بل ينجبر بها أيضا ضعف المرسلة المتقدّمة.

و يرد عليه أوّلا: أنّ هذه الدعاوي معارضة بما مرّ عن الخلاف و الغنية من دعوى الإجماع على عدم جواز بيع غير المعلّم من الكلاب. و حمل المعلّم على الأعمّ ممّا علّم للصيد أو لغيره أو حمل كلب الصيد على الأعمّ، أو حمله على المثال كلّها خلاف الظاهر لا يصار إليها إلّا بدليل قويّ.

و ثانيا: أنّ المتتبّع يجد أنّ المسألة بين أصحابنا كانت خلافيّة قديما و حديثا، فيكون ادعاء الاتّفاق فيها موهونا. و كيف ادّعى الشهيد أنّ أحدا لم يفرّق بين

الكلاب الأربعة مع تحقّق الخلاف في المسألة و تحقّق الإجماع في كلب الصيد؟! إلّا أن يكون نظره إلى مسألة جواز الانتفاع التي مرّ اتّفاق الفريقين فيها، أو إلى فقهاء العامّة حيث إنّ الشافعيّة و الحنابلة و بعض المالكيّة منهم منعوا من بيع الكلاب مطلقا حتّى كلب الصيد، و الحنفية و بعض المالكيّة ذهبوا إلى صحّته مطلقا.

و ثالثا: احتمال كون الإجماع المدّعى- على فرض تحقّقه- مدركيا لاحتمال كون المدرك له ما بيّناه و يظهر من الأعلام أيضا من الملازمة بين جواز الانتفاع و صحّة البيع.

و قد مرّ الاتفاق في تلك المسألة، أو الملازمة بين صحّة الإجارة و صحّة البيع. و ليس

______________________________

(1) التذكرة 2/ 295، كتاب الإجارة، الركن الرابع من الفصل الثانى.

(2) راجع متن المكاسب للشيخ الأعظم؛ و كذا مفتاح الكرامة 4/ 29.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 537

..........

______________________________

الإجماع بما هو إجماع و اتّفاق حجّة عندنا، بل بسبب كشفه عن قول المعصومين «ع».

و هذا إنّما يصحّ في المسائل المأثورة عنهم «ع» المبتنية على النقل، لا المسائل التفريعية المبتنية على الاستنباط و الاجتهاد أو المحتملة لذلك، فتدبر.

الثالث من أدلّة الجواز: أنّه إذا جاز بيع كلب الصيد مع كونه من الأعيان النجسة جاز بيع باقي الكلاب النافعة أيضا.

و المقدّم ثابت بالإجماع و الأخبار الواردة، فالتالي مثله.

بيان ذلك أنّ المقتضي للجواز في كلب الصيد هو المنفعة المحلّلة العقلائيّة و ثبوت الماليّة بسببها و الحاجة إلى معاوضته، و هي بتمامها متحقّقة في الكلاب الثلاثة و غيرها من الكلاب النافعة. بل المنفعة في كثير منها تكون أهمّ من منفعة الصيد بمراتب، و الحاجة إلى المعاوضة فيها أشدّ. و النجاسة لو كانت مانعة لمنعت في كلب الصيد أيضا. و لا نتصوّر مانعا آخر بعد حلّية الانتفاع به و ماليّته عند العقلاء. فالحكم بحرمة المعاملة عليها مع ذلك يعدّ جزافا لا

ينسب إلى الشارع الحكيم و الشريعة السمحة الخالدة.

و يستفاد هذا الدليل من كثير من كلمات الأصحاب كابن حمزة في الوسيلة و العلّامة في التذكرة و المختلف و ولده في الإيضاح و الأردبيلي في مجمع الفائدة، فراجع ما مرّ من كلماتهم.

و ابن زهرة في الغنية و إن استثنى من الكلاب كلب الصيد فقط لكنّه يظهر من عبارته أنّ سبب المنع عنده ليس هو النجاسة بل عدم كون الشي ء منتفعا به منفعة محلّلة، و لأجل ذلك استثنى كلب الصيد و الزيت النجس للاستصباح، فيتراءى من كلامه أنّ ذكرهما من باب المثال. و قد مرّ بالتفصيل جواز الانتفاع بالكلاب الثلاثة بالإجماع و الأخبار و استقرار سيرة العقلاء و المتشرعة في جميع الأعصار و أنّ المعاملات شرّعت لتبادل الحاجات و ليست كالعبادات المبنيّة على التعبّد المحض و الأسرار و المصالح الخفيّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 538

..........

______________________________

و المناقشة برجوع ذلك إلى القياس- كما في المتن- يمكن رفعها بأنّ الحكم على طبق الملاك القطعي، و إلقاء الخصوصيّة المذكورة لا يعدّ قياسا. و القول بأنّ مجرد المقتضي لا يكفى في الحكم بوجود المقتضى لاحتمال وجود المانع عن تأثيره مرّ الجواب عنه بعدم تصور المانع غير النجاسة، و قد مرّ أنّها لو منعت لمنعت في كلب الصيد أيضا. فالظاهر جواز الاستناد إلى هذا الدليل للحكم بالجواز، و به يخصّص عمومات المنع أو يحمل كلب الصيد في الأخبار على المثال بإلقاء الخصوصيّة.

و قد مرّت صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر «ع»: قال: قال أمير المؤمنين «ع»:

«لا خير في الكلاب إلّا كلب صيد أو كلب ماشية.» «1» و كيف يوجد في كليهما الخير الموجب لماليّتهما و مع ذلك يجوز بيع أحدهما دون

الآخر؟! فالصحيحة بنفسها دليل على جواز المعاملة عليهما.

هذا كلّه على فرض حمل لفظ السحت في أخبار الكلب على الحرمة، و أمّا لو قلنا بأنّ ثمن الكلب ذكر في الأخبار في سياق ثمن الدم و كسب الحجام أيضا و هما غير محرّمين قطعا كما مرّ، و قد فسّروا لفظ السحت بمطلق ما فيه عار و خسّة لا يناسبان شئون الإنسان فكيف بالإنسان المؤمن، و على هذا فيمكن حمل هذه الأخبار بل أخبار النهي أيضا على الكراهة، و مقتضى الاستثناء فيها سلب الكراهة عن بيع كلب الصيد. و على هذا فيرتفع الإشكال بحذافيره إذ لا نأبى عن كراهة بيع الكلاب الثلاثة لخسّتها و رداءتها.

الرابع: أنّ ثبوت الدية على قاتل هذه الكلاب شرعا

يدلّ على ماليّتها و جواز المعاوضة عليها، و قد مرّ عن المختلف قوله: «و لأن لها ديات منصوصة فتجوز المعاوضة

______________________________

(1) الوسائل 8/ 387، كتاب الحجّ، الباب 43 من أبواب أحكام الدّواب، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 539

..........

______________________________

عليها» و قد مرّ نظير ذلك عن السرائر أيضا. «1»

و قد قدّرت في أخبارنا دية كلب الصيد باربعين درهما و دية كلب الماشية بعشرين درهما كما في بعض الأخبار أو بكبش كما في بعضها. «2»

و أورد على ذلك المصنّف بما محصّله: أنّ الدية لا تدلّ على الملكية فضلا عن جواز المعاوضة عليها. بل لعلّ التعبير بالدية تكشف عن عدم الملكية، و إلّا لكان الواجب هو القيمة كائنة ما كانت و هي تختلف باختلاف الكلاب و الرّغبات و الأزمنة و الأمكنة.

فالدية غرامة جعلها الشارع لما يكون محترما و ليس مملوكا يقوّم، نظير الحرّ و أعضائه.

أقول: الظاهر أنّ المقصود بالدية في أخبار الكلب ليس إلّا قيمته. و قياسه على الحرّ مع الفارق، فإنّ الحرّ فوق

أن يقوّم أو يملك، و هذا بخلاف الكلب، و لذا قدّر في الأخبار لكلب الصيد أيضا الدّية مع أنّ بيعه جائز بالإجماع و لا محالة يتحقق ذلك بتقويمه و لا يتعين بيعه بالدّية المقدّرة، و الحرّ لا يقوّم و لا يباع أصلا.

و في ديات الشرائع: «دية الكلاب الثلاثة مقدّرة على القاتل. أمّا لو غصب أحدها و تلف في يد الغاصب ضمن قيمته السّوقية و لو زادت عن المقدر.» «3»

و لعلّ التقدير كان لصورة عدم إمكان التقويم السوقي.

و في صحيح ابن مسكان: «دية العبد قيمته.» و نحوه أخبار أخر. «4» فأطلق على القيمة لفظ الدّية.

______________________________

(1) راجع المختلف 1/ 341، كتاب المتاجر، الفصل الأوّل؛ و السرائر 2/ 220، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب.

(2) راجع الوسائل 19/ 167، كتاب الديات، الباب 19 من أبواب ديات النّفس.

(3) الشرائع/ 1051 (ط. أخرى 4/ 286)، كتاب الديات، النظر الرابع في اللواحق.

(4) الوسائل 19/ 152، الباب 6 من أبواب ديات النفس، الحديث 1 و غيره.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 540

..........

______________________________

و من المحتمل أنّ تقدير الديات لأنواع الكلاب كان تقويما لها من النبيّ «ص» لدفع المنازعات المحتملة كثيرا في عصره. و بعبارة أخرى: كان التقويم لها حكما سلطانيا من النبي «ص» لا حكما إلهيّا، و لذا نسب تقديرها إلى رسول اللّه «ص»، فراجع.

بل يحتمل هذا الأمر في الديات المقدّرة للإنسان أيضا، و التحقيق موكول إلى محلّه.

و في معتبرة السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، عن أمير المؤمنين «ع» في من قتل كلب الصيد قال: «يقوّمه. و كذلك البازي. و كذلك كلب الغنم. و كذلك كلب الحائط.» «1»

و حملها على الدية المقدرة خلاف الظاهر بل الظاهر منها القيمة السّوقية. و حملها على

التقية كما في الوسائل غير واضح، إذ المشهور بين العامّة عدم الغرم في الكلاب، فراجع المغني. «2»

و بالجملة فالاستدلال بلفظ الدية على عدم التملك و عدم القيمة للكلب مدفوع لنقضه بكلب الصيد.

الخامس: [صحة إجارة الشي ء تكشف عن وجود منفعة محلّلة له]

أنه لا إشكال في جواز إجارة الكلاب الثلاثة كما مرّ في كلماتهم، و إذا صحت إجارتها صحّ بيعها أيضا. إذ صحة إجارة الشي ء تكشف عن وجود منفعة محلّلة له، و مقتضى ذلك ثبوت الماليّة له فجاز بيعه أيضا. و قد مرّ عن المختلف قوله: «و لأنّه يجوز إجارتها فيجوز بيعها.»

و يظهر من الشيخ في إجارة الخلاف و المبسوط و ابن البرّاج في المهذب عكس ذلك، حيث فرضوا صحّة بيعها و استدلوا بها لصحة إجارتها.

______________________________

(1) المصدر السابق ص 167، الباب 19 من أبواب ديات النفس، الحديث 3.

(2) المغنى 4/ 301، كتاب البيوع، باب المصراة و ثبوت الخيار فيها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 541

..........

______________________________

و ناقش في هذا الدليل في مصباح الفقاهة بما هذا لفظه: «و فيه أنّه لا ملازمة شرعية بين صحة الإجارة و صحة البيع. فإنّ إجارة الحرّ و أمّ الولد جائزة بالاتفاق و لا يجوز بيعهما. كما لا ملازمة بين صحة البيع و صحة الإجارة، فإنّ بيع الشعير و الحنطة و عصير الفواكه و سائر المأكولات و المشروبات جائز اتفاقا و لا تصح إجارتها، فإن من شرائط الإجارة أن العين المستأجرة مما يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، و الأمور المذكورة ليست كذلك.» «1»

أقول: دعوى الملازمة بين صحة البيع و صحة الإجارة من الطرفين من جهة أن صحّة بيع الشي ء تكشف عن ماليّته، و اعتبار المالية فيه يكون بلحاظ منافعه المقصودة. و إذا كان للشي ء منافع مقصودة محلّلة صحّت إجارته

بلحاظها. كما أنّ صحة إجارة الشي ء تكشف عن وجود المنافع المقصودة المحلّلة فيه، و هذه توجب ماليّته. و إذا كان الشي ء مالا صحّ بيعه قهرا.

غاية الأمر أنّه يشترط في صحة الإجارة أمر آخر أيضا، و هو إمكان الانتفاع به مع بقاء عينه، و لذا لا تصحّ إجارة المأكولات و المشروبات للأكل و الشرب. كما أنّه يشترط في البيع أيضا أمر آخر، و هو كون العين قابلة للتملك شرعا، و لذا لا يصحّ بيع الحرّ و أمّ الولد. و لكن هذان النقضان غير واردين في الكلب، إذ الكلب ليس مثل الحنطة و الشعير، إذ ليست إجارته لأكله. كما أنّه ليس مثل الحرّ و أمّ الولد، إذ ليس فيه قداستهما المانعة عن تملكهما. و احتمال عدم قابليته له لدنائته و خسته يدفعه الحكم بالضمان له و تقويمه شرعا عند غصبه أو إتلافه كما مرّ.

و على هذا فالملازمة المدّعاة بين صحة البيع و صحة الإجارة من الطرفين صحيحة إجمالا، فتدبّر.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 98، في حرمة بيع كلب الحراسة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 542

السادس: أنّ مقتضى الجمع بين الأدلة هو الجواز في المقام.

______________________________

إذ بين عموم ما دلّ على المنع عن بيع الكلاب إلّا الصيود منه، و بين عموم قوله «ع» في رواية تحف العقول السابقة:

«من جميع جهات المنافع التي لا يقيمهم غيره من كل شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كله حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته»، و في دعائم الإسلام عنه «ع»: «الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك مما هو قوام للناس و صلاح و يباح لهم الانتفاع»، و نحوهما ما في عبارة فقه الرضا

السابقة، بل و مفهوم النبوي السابق: «إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» عموم من وجه كما لا يخفى.

و مورد اجتماع الدليلين و تعارضهما هي الكلاب المشتملة على صلاح العباد، مثل كلب الماشية و الزرع و الحائط و غيرها من الكلاب النافعة.

فإمّا أن يرجّح العمومات السابقة بموافقتها لعمومات الكتاب و السنّة الدالّة على وجوب الوفاء بالعقود و حلّية البيع و التجارة عن تراض، أو يقال بتساقط الدليلين في مورد الاجتماع. فيرجع بعد تساقطهما إلى عمومات الكتاب و السنّة، و يساعده الاعتبار العقلي أيضا كما مرّ بيانه في الدليل الثالث.

فإن قلت: هذا الجمع يوجب حمل أخبار المنع على خصوص الكلاب المهملة غير النافعة أو المضرّة التي لا يقدم على بيعها عاقل، فيلزم حمل كلام الشارع الحكيم على اللغو أو تخصيص الأكثر المستهجن.

قلت: الانتفاعات المحرّمة بالكلاب كاللعب بها في البيوت و المجامع و كإيذاء الناس بها من المحكومين و المأسورين كان شائعا في تلك الأعصار أيضا، فينصرف إليها أدلّة المنع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 543

..........

______________________________

مضافا إلى ما مرّ منا من منع دلالة لفظ السحت على الحرمة و احتمال أن يراد به خسّة الاكتساب بها و رداءته، فيكون مكروها كما في كسب الحجام و نحوه. هذا.

و المناسب هنا أن نتعرّض لما في مصباح الفقاهة في المقام في جواب الدليل السّادس، لما فيه من نفع عامّ: قال ما ملخصه: «فيه أوّلا: أنّا لو أغمضنا عما تقدم في رواية تحف العقول فإنّها لا تقاوم العمومات المذكورة في خصوص المقام، لأنّ كثرة الخلاف هنا مانعة عن انجبار ضعفها بعمل المشهور.

و ثانيا: أنه لا مناص هنا من ترجيح عمومات المنع عليها، لما بيناه في محلّه أنّ من جملة المرجحات

عند تعارض الدليلين بالعموم من وجه أن يلزم من العمل بعموم أحدهما إلغاء الآخر من أصله. و حينئذ فلا بد من العمل بالآخر الذي لا يلزم منه محذور. و في المقام لو عملنا برواية تحف العقول في مورد التعارض لزم منه إلغاء عمومات المنع عن بيع الكلب إلّا الصيود منه. إذ لو خرجت الكلاب الثلاثة أيضا لما بقي تحتها إلّا كلب الهراش، و يكفي في المنع عن بيعه عدم النفع فيه فلا يحتاج إلى تلك العمومات المتظافرة. و أمّا إذا عملنا بعمومات المنع فلا يلزم منه محذور، لأن ما فيه الصلاح للعباد لا ينحصر في الكلاب النافعة.

و نظير ذلك المعارضة بين ما ورد من الأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه، و بين ما ورد من نفي البأس عن بول الطير و خرئه. فإنّا لو قدّمنا في الطير المحرّم الخبر الأوّل لكان ذكر الطير في الخبر الثاني لغوا محضا، لعدم دخالة عنوانه أصلا. و هذا بخلاف العكس، إذ لو عملنا بالخبر الثاني لم يلزم المحذور، لكثرة أفراد غير المأكول من غير جنس الطيور.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 544

و نحوهما في الضعف دعوى انجبار المرسلة بدعوى الاتفاق المتقدم عن الشيخ و العلّامة و الشهيد قدّس اللّه أسرارهم. لوهنها- بعد الإغماض عن معارضتها بظاهر عبارتي الخلاف و الغنية من الإجماع على عدم جواز غير المعلّم من الكلاب- بوجدان الخلاف العظيم من أهل الرواية و الفتوى (1).

______________________________

و من هذا القبيل أيضا معارضة ما يدل على انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة لما يدلّ على عدم انفعال الماء الجاري، فإنّ العمل بإطلاق الطائفة الأولى و الحكم بانفعال الجاري القليل يوجب كون ذكر الجاري في الطائفة الثانية

لغوا لعدم دخالته في الحكم حينئذ.

و لو انعكس الأمر لم يلزم المحذور لكثرة القليل من غير الجاري.» «1»

أقول: ما ذكره- قدّس سرّه- من القاعدة الكلّية في المتعارضين بالعموم من وجه كلام متين سار في كثير من أبواب الفقه.

و لكن قد مرّ في خصوص المقام وجود كلاب كان يستفاد منها منافع محرّمة عند الشرع كاللعب بها على ما اشتهر من يزيد و أمثاله أو إيذاء الناس بها على ما كان دأب الظلمة و الحكّام، فيمكن حمل أخبار المنع عليها، فتأمّل. و في عصرنا شاع اللعب بالكلاب و الاستمتاع بها.

(1) قد مرّ الإشكال في المرسلة و دعوى انجبارها بالشهرة أو الإجماع المدّعى في الدليل الأوّل، فراجع.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 99.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 545

[ادّعاء الإجماع على المنع]

نعم لو ادّعي الإجماع أمكن منع وهنها بمجرد الخلاف و لو من الكثير. بناء على ما سلكه بعض متأخري المتأخرين في الإجماع من كونه منوطا بحصول الكشف من اتفاق جماعة و لو خالفهم أكثر منهم (1). مع أنّ دعوى الإجماع ممن لم يصطلح الإجماع على مثل هذا الاتفاق لا يعبأ بها عند وجدان الخلاف.

______________________________

(1) أقول: أشار المصنّف هنا إلى الفرق بين الاتفاق و بين الإجماع. فالاتفاق عبارة عن تطابق علماء الأمّة جميعا في جميع الأعصار على فتوى واحدة بحيث لا يوجد لهم مخالف. و أمّا الإجماع عندنا فيراد به فتوى جماعة يستكشف بها قول المعصوم «ع».

و النسبة بينهما عموم من وجه. إذ يمكن اتفاق العلماء جميعا في مسألة تفريعية مبنية على الاستنباط و النظر و مع ذلك لا يستكشف به قول المعصوم «ع»، نظير اتفاق الفلاسفة جميعا في مسألة فلسفيّة أو اتفاق الرياضيين في مسألة رياضية.

و يمكن اتفاق جمع من

العلماء المتعبّدين بعدم الإفتاء إلّا على ما تلقّوه عن الأئمة «ع» يدا بيد فيقطع بإجماعهم بتلقي المسألة عن المعصوم «ع». و نعبّر عن هذا السنخ من المسائل بالأصول المتلقاة.

و قد مرّ منّا مرارا أنّ العامّة يعتبرون الإجماع بما هو اتفاق أهل الحلّ و العقد حجة بنفسه و دليلا مستقلا في قبال سائر الأدلة. و عليه بنوا أساس مسألة الخلافة و استندوا له بأدلّة منها: ما رووه عن النبيّ «ص» أنّه قال: «لا تجتمع أمّتي على خطأ.» «1»

______________________________

(1) روى ابن ماجة في سننه 2/ 1303 عن النبي «ص» أنّه قال: «إنّ أمّتي لا تجتمع على ضلالة ...» و لم يوجد في كتب الحديث للسنّة ما يشتمل على لفظ الخطأ. نعم هو مذكور في كتب الاستدلال. راجع «دراسات في ولاية الفقيه ...» 2/ 66.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 546

[ادعاء الشهرة على المنع]

و أمّا شهرة الفتوى بين المتأخرين فلا تجبر الرواية خصوصا مع مخالفة كثير من القدماء (1)، و مع كثرة ظاهر العمومات الواردة في مقام الحاجة و خلوّ كتب الرواية المشهورة عنها. حتّى إنّ الشيخ لم يذكرها في جامعيه.

و أمّا حمل كلمات القدماء على المثال ففي غاية البعد.

______________________________

و أمّا أصحابنا الإمامية فينكرون حجية الإجماع بنفسه، بل من جهة كشفه عن قول المعصوم «ع» إمّا بدخول شخصه في المجمعين و إن قلّوا كما هو الظاهر من بعض القدماء و لكنه فرض بعيد قلّما يتفق، أو بوجوب الوفاق أو إلقاء الخلاف من ناحيته «ع» من باب اللطف لو فرض اتفاق الأمّة في عصر واحد على حكم واحد كما نسب إلى الشيخ، أو بحدس قوله «ع» حدسا قطعيا من فتوى الجماعة المتعبدين بعدم الإفتاء إلّا بما تلقوه عن الأئمة «ع»

يدا بيد و لا أقلّ من اطلاعهم على رواية معتبرة عنهم «ع».

و التفصيل يطلب من محلّه. و الغرض هنا بيان إمكان تحقق الإجماع مع مخالفة الكثير من أهل الفتوى.

(1) قد عرفت أنّ بناء أكثر المتأخرين على الإفتاء بما أدّى إليه نظرهم و استنباطهم.

و أمّا القدماء فكان بناؤهم على الإفتاء بما تلقّوه عن الأئمة «ع» يدا بيد أو وجدوا به رواية معتبرة عنهم «ع». و على هذا فيمكن القول بحجيّة الشهرة بين القدماء، و منع حجية الإجماع فضلا عن الشهرة بين المتأخرين. فهذا هو الفارق بين القدماء من أصحابنا و المتأخرين منهم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 547

و أما كلام ابن زهرة المتقدم فهو مختلّ على كل حال (1)، لأنّه استثنى الكلب المعلّم عما يحرم الانتفاع به، مع أنّ الإجماع على جواز الانتفاع بالكافر. فحمل كلب الصيد على المثال لا يصحّح كلامه، إلّا أن يريد كونه مثالا و لو للكافر أيضا (2). كما أنّ استثناء الزيت من باب المثال لسائر الأدهان المتنجسة. هذا. و لكن الحاصل من شهرة الجواز بين المتأخرين بضميمة أمارات الملك في هذه الكلاب يوجب الظن بالجواز حتى في غير هذه الكلاب مثل كلاب الدور و الخيام. فالمسألة لا تخلو عن إشكال، و إن كان الأقوى بحسب الأدلّة و الأحوط في العمل هو المنع، فافهم.

______________________________

(1) لا نسلّم اختلال كلامه بعد ظهوره في أنّ ملاك المنع هو عدم النفع المحلّل لا النجاسة. و يرشد لفظة «من» في قوله: «من بيع الكلب المعلّم للصيد» الظاهرة في التبعيض إلى كونه من باب المثال و أنّ غرضه ليس استقصاء الأمثلة.

(2) أو انصراف البحث و الأدلّة عن بيع الإنسان أو عدم ثبوت نجاسته عنده، حيث إنّ إقامة

الدليل عليها مشكلة.

تذييل: في مصباح الفقاهة: «المستفاد من أخبار الباب إنّما هو حرمة بيع كلب الماشية و كلب الحائط و كلب الزرع. و أمّا المعاملات الأخرى غير البيع فلا بأس في إيقاعها عليها، كإجارتها و هبتها و الصلح عليها، بناء على عدم جريان أحكام البيع عليه إذا كانت نتيجته المبادلة بين المالين. فإنّ المذكور في تلك الأخبار هي حرمة ثمن غير الصيود من الكلاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 548

..........

______________________________

و لا يطلق الثمن على ما يؤخذ بدلا بغير عنوان البيع من المعاملات.» و الظاهر أنّه أخذ هذا من حاشية المحقّق الإيرواني.

أقول: احتمال أن يكون أخذ العوض للكلب بعنوان البيع حراما و سحتا و بعنوان الصلح مثلا حلالا طيبا لا يخلو من جزاف. كاحتمال حرمة المعاملة عليه مع كونه مالا ذا منفعة محللة عقلائية و شدة الحاجة إلى معاملته. و قد مرّ تفصيل ذلك في الدليل الثالث.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 549

[المسألة الثالثة: المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه]
اشارة

الثالثة: الأقوى جواز المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه و إن كان نجسا (1).

______________________________

المسألة الثالثة: المعاوضة على العصير العنبي ...

[في معنى العصير و حكم أنواعه]

(1) أقول: العصير- بحسب اللغة- عصارة الشي ء المستخرجة منه بسبب عصره.

و في الروايات أطلق على الماء المستخرج من العنب العصير، و على ما يستخرج من الزبيب النقيع، و على ما يستخرج من التمر النبيذ. «1» و يشبه أن يكون فعيل هنا بمعنى المفعول، و المعصور حقيقة نفس العنب كما أنّ المنقوع نفس الزبيب و المنبوذ نفس التمر، فأطلق الألفاظ الثلاثة على مائها بنحو من العناية. و من هذا القبيل أيضا قوله- تعالى- نقلا عن صاحب يوسف في السجن: إنِّي أَرٰاني أَعْصرُ خَمْراً. «2»

و في كلمات الفقهاء يطلق على الثلاثة: العصير. فيقال: العصير العنبي و العصير الزبيبي و العصير التمري. و البحث في الحلية و الحرمة و الطهارة و النجاسة يجري في الثلاثة. و لكن المصنّف هنا خصّ البحث بالعصير العنبي. و هو على ثلاثة اقسام: ما لم يغل، و ما غلى بنفسه، و ما غلى بالنار.

______________________________

(1) راجع الوسائل 17/ 221، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرمة.

(2) سورة يوسف (12)، الآية 36.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 550

..........

______________________________

فالأوّل طاهر بالذات و حلال بلا إشكال. و الثاني خمر أو بحكمه على الأقوى.

و الثالث حرام بلا إشكال إلّا أن يذهب ثلثاه و لكن وقع البحث في نجاسته و طهارته.

و الظاهر المستفاد من الأخبار و من كلمات الأعلام أنّ المغليّ بنفسه لا يحلّ و لا يطهر إلّا بانقلابه خلّا كسائر الخمور.

فيكون الحليّة و الطهارة بذهاب الثلثين و صيرورته دبسا مختصا بالقسم الثالث أعني ما غلى بالنار.

و أمّا ما في الشرائع من قوله: «و يحرم

العصير إذا غلى سواء غلى من قبل نفسه أو بالنار، و لا يحلّ حتى يذهب ثلثاه أو ينقلب خلا» «1» فظاهره و إن كان مخالفا لما ذكرناه لكن يمكن حمله على التنويع بنحو اللفّ و النشر غير المرتب كما لا يخفى.

و يمكن أن يستشهد لكون ما غلى بنفسه خمرا أو محكوما بحكمه بما رواه الكلبي النسابة في النبيذ أنّه سأل أبا عبد اللّه «ع» عن النبيذ. فقال: «حلال». فقال: إنّا ننبذه فنطرح فيه العكر و ما سوى ذلك؟ فقال: «شه شه! تلك الخمرة المنتنة ...» «2»

و لعلّ عبارة المصنّف بالنظر البدوي تشمل ما غلى بنفسه أيضا و لكن يمكن أن يجعل قوله: «و لم يذهب ثلثاه» و ما ذكره من الأدلّة في المسألة قرينة على إرادة ما غلى بالنار على فرض نجاسته. إذ ما غلى بنفسه- كما مرّ- يكون خمرا أو بحكمها و قد مضى منه- قدّس سرّه- في المسألة السّابعة حرمة التكسب بالخمر مطلقا. و إن استشكلنا نحن ذلك و قلنا بانصراف الأدلّة عن الخمر التي تباع بقصد التخليل، فراجع.

______________________________

(1) الشرائع/ 753 (ط. أخرى 3/ 225)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الخامس.

(2) الوسائل 1/ 147، الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 551

..........

______________________________

و بالجملة فالظاهر أنّ نظر المصنّف في هذه المسألة استثناء خصوص العصير المغليّ بالنار على فرض نجاسته الصالح لأن يحلّ و يطهر بذهاب ثلثيه. و أمّا المغليّ بنفسه فهو خمر أو بحكمها لا تطهر و لا تحلّ إلّا بانقلاب موضوعه و استحالته خلا.

قال الشيخ الطوسي في الأطعمة و الأشربة من النهاية: «و العصير لا بأس بشربه و بيعه ما لم يغل. و حدّ الغليان الذي

يحرّم ذلك هو أن يصير أسفله أعلاه. فإذا غلى حرم شربه و بيعه إلى أن يعود إلى كونه خلا. و إذا غلى العصير على النار لم يجز شربه إلى أن يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه.» «1»

أقول: ظاهر العبارة الأولى بيان صورة الغليان بنفسه. و يظهر منه أنّ الغليان إذا أسند إلى العصير أو غيره و لم يقيد بالنار يكون ظاهرا في غليانه من قبل نفسه. و قد حكم في هذه الصورة بحرمة شربه و بيعه إلى أن يصير خلّا. و هذا ما قلنا من كونه خمرا أو بحكم الخمر، و مقتضاه الحرمة و النجاسة و حرمة البيع. و ظاهر العبارة الثانية صورة كون الغليان بالنار، فحكم فيها بحرمة شربه إلى أن يذهب ثلثاه. و لم يحكم بحرمة بيعه، فظاهره جواز بيعه.

و يظهر هذا التفصيل بين الصورتين من ابن حمزة في الوسيلة أيضا و إن لم يتعرض لحكم بيعهما. قال فيه: «فإن كان عصيرا لم يخل إمّا غلى أو لم يغل، فإن غلى لم يخل إمّا غلى من قبل نفسه أو بالنار. فإن غلى من قبل نفسه حتّى يعود أسفله أعلاه حرم و نجس إلّا أن يصير خلا بنفسه أو بفعل غيره فيعود حلالا طيّبا. و إن غلى بالنار حرم شربه حتى يذهب على النار نصفه و نصف سدسه و لم ينجس ...» «2»

______________________________

(1) النهاية/ 591، كتاب الأطعمة و الأشربة، باب الأشربة المحظورة و المباحة.

(2) الوسيلة/ 365، فصل في بيان أحكام الأشربة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 552

[في جواز بيعه]

لعمومات البيع و التجارة الصادقة عليها بناء على أنّه مال قابل للانتفاع به بعد طهارته بالنقص. لأصالة بقاء ماليته و عدم خروجه عنها بالنجاسة. غاية الأمر أنّه

مال معيوب قابل لزوال عيبه (1).

______________________________

أقول: الأخبار المستفيضة بل المتواترة تدلّ على اعتبار ذهاب الثلثين فيما على بالنار.

نعم يدل بعضها على كفاية ذهاب النصف و نصف السدس ثم يترك حتى يبرد فقد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه. «1» فيكون فتوى ابن حمزة على أساس هذا الخبر، و لكن المشهور على خلافه. و قد صرّح هو فيما غلى بالنار أنّه لا ينجس به و إن حرم شربه. و على هذا فلا وجه للإشكال في بيعه. و لكن المصنّف طرح المسألة على أساس الحكم بنجاسته. و راجع في هذا المجال عبارة المهذّب لابن البراج أيضا. «2» و تحقيق المسألة يطلب من كتاب الطهارة.

(1) أقول: القول بكون النجاسة بنفسها مانعة عن صحة المعاملة- كما عليه الأصحاب- يقتضي القول بعدم جواز بيع العصير أيضا بناء على نجاسته بالغليان، و ربما يستدل لذلك بأخبار خاصة أيضا واردة في خصوص العصير كما يأتي.

و لكن المصنّف جعل العصير من المستثنيات و استدل على جواز المعاملة عليه بعمومات البيع و التجارة و كونه مالا قابلا للانتفاع به بإذهاب ثلثيه، و لذا يضمنه الغاصب و المتلف له، و أنّ النجاسة فيه نجاسة عرضية قابلة للرفع فتفترق عن سائر النجاسات، و أنّ الروايات الخاصة مسوقة للنهي عن بيعه نظير الدبس و الخلّ من دون إعلام المشتري.

______________________________

(1) راجع الوسائل 17/ 233، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة؛ و الباب 5 منها، الحديث 7.

(2) المهذّب 2/ 433، كتاب الأطعمة و الأشربة ...، باب الأشربة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 553

و لذا لو غصب عصيرا فأغلاه حتّى حرم و نجس لم يكن في حكم التالف بل وجب عليه ردّه و وجب عليه غرامة الثلثين و أجرة العمل

فيه حتّى يذهب الثلثان، كما صرّح به في التذكرة (1) معللا لغرامة الأجرة بأنّه ردّه معيبا و يحتاج زوال العيب إلى خسارة و العيب من فعله فكانت الخسارة عليه.

______________________________

و لكن نحن في فسحة عن هذا الإشكال، إذ قد مرّ منا عدم مانعية النجاسة بنفسها، و أنّ الملاك للمنع عدم المنفعة المحللة الموجبة لمالية الشي ء. و العصير القابل لصنعه دبسا حلالا يعدّ عرفا و شرعا من الأموال المحترمة، فلا وجه للمنع عن بيعه.

و قد قلنا إنّ نفس استثناء هذه المستثنيات أدلّ دليل على أنّ الملاك لجواز البيع و منعه وجود المنفعة المحلّلة و عدمها لا الطهارة و النجاسة.

بل العصير المغليّ بنفسه أيضا إذا أعدّ للتخليل جاز بيعه لذلك و إن كان عندنا بحكم الخمر.

بل قلنا في باب الخمر أيضا بجواز بيعها بقصد التخليل و أنّ أخبار منع بيعها و حرمة ثمنها منصرفة عن بيعها بهذا القصد، فراجع ما ذكرناه في المسألة السابعة السابقة. هذا.

و يمكن أن يتمسك لجواز البيع في المقام- مضافا إلى ما ذكره المصنّف و ذكرناه- بما يظهر من روايات تحف العقول و الدعائم و فقه الرضا السابقة من جواز البيع في كل ما يكون صلاحا للعباد من جهة من الجهات و يباح لهم الانتفاع به، فلاحظ و تدبّر.

(1) في كتاب الغصب من التذكرة: «لو غصب عصيرا فأغلاه حرم عندنا و صار نجسا لا يحلّ و لا يطهر إلّا إذا ذهب ثلثاه بالغليان. فلو ردّه الغاصب قبل ذهاب ثلثيه وجب عليه غرامة الثلثين. و الوجه أنّه يضمن أيضا غرامة الخسارة على العمل فيه إلى أن

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 554

نعم ناقشه في جامع المقاصد في الفرق بين هذا و بين ما

لو غصبه عصيرا فصار خمرا، حيث حكم فيه بوجوب غرامة مثل العصير لأنّ المالية قد فاتت تحت يده فكان عليه ضمانها كما لو تلفت.

لكن لا يخفى الفرق الواضح بين العصير إذا غلى و بينه إذا صار خمرا، فإنّ العصير بعد الغليان مال عرفا و شرعا، و النجاسة إنّما تمنع من المالية إذا لم يقبل التطهير كالخمر فإنّها لا يزول نجاستها إلّا بزوال موضوعها، بخلاف العصير فإنّه يزول نجاسته بنقصه نظير طهارة ماء البئر بالنزح. و بالجملة فالنجاسة فيه و حرمة الشرب عرضية تعرضانه في حال متوسط بين حالتي طهارته. فحكمه حكم النجس بالعرض القابل للتطهير.

______________________________

يذهب كمال الثلثين، لأنّه ردّه معيبا و يحتاج زوال العيب إلى خسارة، و العيب من فعله فكانت الخسارة عليه.» «1»

و فيه أيضا: «الصفات تضمن كما يضمن الأعيان إذا كانت متقومة. فلو غصب عصيرا فصار خمرا عند الغاصب وجب عليه دفع مثل العصير إلى المالك لأنّ المالية قد فاتت تحت يده و هي يد عادية فكان عليه ضمانها كما لو تلفت ...» «2»

و فيه أيضا: «لو غصب عصيرا فأغلاه فنقصت عينه دون قيمته، مثل أن كان صاعين قيمتهما أربعة دراهم فلما أغلاه عاد إلى صاع قيمته أربعة دراهم، قال الشيخ: لا يضمن

______________________________

(1) التذكرة 2/ 387، كتاب الغصب، الفصل الخامس، البحث الأوّل، النظر الثانى و النظر الثالث.

(2) التذكرة 2/ 387، كتاب الغصب، الفصل الخامس، البحث الأوّل، النظر الثانى و النظر الثالث.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 555

..........

______________________________

الغاصب الناقص من العين هنا لأنه مجرد مائية رطوبة لا قيمة لها. و للشافعية و جهان:

أحدهما أنّه يضمن ما نقص من العين كالزيت لأنه مضمون بالمثل. و الثاني أنّه لا يغرم شيئا لأنه إذا أغلاه

نقصت المائية التي فيه و صار ربّا و لهذا يثخن و يزيد حلاوته. فالذي نقص منه لا قيمة له ...» «1»

أقول: مقتضى ما ذكروه في كتاب الغصب من ضمان المثلى بالمثل و القيمي بالقيمة صحة الوجه الأوّل المحكي عن بعض الشافعية. إذ العصير مثلي فيضمن الغاصب ما نقص من عينه و لا يلحظ فيه القيمة، و لا يجبر نقص العين فيه بارتفاع قيمة البقية. بل لعلّ الحكم سار في القيميات أيضا إذا حصل تلف بعض العين. فلو غصب قطعة خشب وزنها مأئة رطل مثلا فنحتها و صنع منه كرسيا ذا قيمة كثيرة وزنه خمسون رطلا فالظاهر أنّ لمالك الخشبة أخذ الكرسي المتحصل من خشبه و مطالبة قيمة خمسين رطلا من خشب. و ليس للغاصب مطالبة أجرة عمله، لوقوعه على ملك الغير بلا إذن منه فصار هدرا. و لا يجبر قيمة العمل قيمة التالف من الخشب، و لعلّ المالك كان يريد أن يصنع من خشبه شيئا آخر لا يتلف منه شي ء، و الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال.

و الظاهر أنّ ما ذكره العلامة في العصير المغلي بالنار من غرامة الثلثين و خسارة عيب الباقي يكون على هذا الأساس. و وافقه المصنّف أيضا.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ ما ذكرت صحيح فيما إذا أغلاه حتى نقصت عينه خارجا، حتى إنّه لو أغلاه إلى أن بقي ثلثه و صار دبسا نلتزم بوجوب ردّ الثلث الباقي مع مثل المثلين الذاهبين.

______________________________

(1) المصدر السابق ص 386، كتاب الغصب ...، النظر الثانى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 556

[الدليل على منع البيع]
اشارة

فلا يشمله قوله «ع» في رواية تحف العقول: «أو شي ء من وجوه النجس»، و لا يدخل تحت قوله «ص»: إذا حرّم اللّه شيئا حرم ثمنه»

(1)، لأنّ الظاهر منهما العنوانات النجسة و المحرمة بقول مطلق لا ما تعرضانه في حال دون حال فيقال: يحرم في حال كذا و ينجس في حال كذا.

______________________________

و أمّا في المقام فالمفروض عدم ذهاب الثلثين خارجا، غاية الأمر أن وصف العصير قد تغير، فيضمن الغاصب قيمة الوصف التالف أعني وصف عدم كونه مغليا إن فرض نقص قيمته بالغليان بناء على ما هو الحق من أنّ الغاصب كما يضمن العين يضمن الأجزاء و كذا الأوصاف التالفة أيضا إن أوجبت اختلاف الرغبات.

(1) القائل بحرمة بيع العصير إمّا أن يتمسك له بالأدلّة العامة أو بالأخبار الخاصة الواردة في خصوص العصير.

أمّا القسم الأوّل فثلاثة: النجاسة، و حرمة الشرب، و انتفاء المالية الفعلية المسبب عن حرمة الانتفاع فعلا.

[الدليل الأوّل النجاسة]

أمّا النجاسة فلقوله «ع» في رواية تحف العقول السابقة: «أو شي ء من وجوه النجس.»

مضافا إلى إجماع التذكرة حيث قال: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية ... و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا.» «1»

و أجاب عن ذلك المصنّف بأنّ المتبادر من الرواية و من معقد الإجماع المذكور النجاسات الذاتية لا العرضية، و العصير قبل غليانه طاهر و كذا بعد التثليث، و إنّما

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 557

..........

______________________________

النجاسة تعرض له في حالة متوسطة بين الحالتين.

أقول: ما ذكره قابل للمناقشة، إذ المفروض كون العين في هذه الحالة نجسا بذاتها كالخمر بل ربما يحكم بكونها خمرا، و ليست من قبيل الماء أو الزيت المتنجس حتى يقال بانصراف لفظ النجس عنه.

فالأولى أن يجاب بما مرّ من منع كون النجاسة بنفسها مانعة، و العصير قابل للانتفاع به بإذهاب ثلثيه

فيعدّ مالا عرفا.

و رواية تحف العقول- مضافا إلى ضعفها و اضطراب متنها كما مرّ- علّل المنع فيها بقوله: «لما فيه من الفساد.» بل دلّت على جواز المعاملة على كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فراجع.

[الدلل الثاني الحرمة]

و أمّا الاستدلال بالحرمة فبتقريب أنّ قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرم شيئا حرّم ثمنه» ظاهر في الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة بيعه.

و يرد عليه- مضافا إلى عدم ثبوت الرواية عندنا و الاختلاف في متنها كما مرّ تفصيله- أنّ الحرام بنحو الإطلاق لا يصدق إلّا على ما حرم جميع منافعه و لا أقلّ جميع منافعه الظاهرة المتعارفة. و مثل هذا الشي ء يحرم قهرا بيعه لعدم المنفعة المحللة له.

و إن شئت قلت: إن تعليق الحكم على وصف يشعر بدوران الحكم مداره، فيراد أنّ حرمة شي ء بسبب حرمة انتفاع خاص منه يستلزم حرمة بيعه لذلك الانتفاع المحرّم. فإذا فرض حرمة شربه مثلا حرم بيعه بلحاظ الشرب فلا يشمل بيعه للتخليل أو لصنعه دبسا.

كيف؟! و هل يمكن الالتزام بأنّ ما حرم شربه مثلا يحرم بيعه مطلقا و لو لسائر الانتفاعات و الغايات المحلّلة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 558

و بما ذكرنا يظهر عدم شمول معقد إجماع التذكرة على فساد بيع نجس العين للعصير، لأنّ المراد بالعين هي الحقيقة، و العصير ليس كذلك (1).

و يمكن أن ينسب جواز بيع العصير إلى كلّ من قيّد الأعيان النجسة المحرم بيعها بعدم قابليتها للتطهير (2). و لم أجد مصرّحا بالخلاف عدا ما

[الدليل الثالث عدم المالية]

______________________________

و أمّا التمسك بعدم المالية فقد عرفت أنّه من الأموال المحترمة عرفا و شرعا بلحاظ استعداده لأن يصنع دبسا حلالا. و حكم الأصحاب بضمان متلفه و غاصبه. و لو فرض الشك في ماليته الشرعية بلحاظ النجاسة جرى فيه استصحابها كما في كلام المصنف.

(1) المتبادر من نجس العين ما يكون ذاته محكومة بالنجاسة في قبال ما تنجس بملاقاة غيره، و المفروض أنّ العصير كذلك، سواء كان الحكم بالنجاسة بلحاظ

صورته النوعية أو بلحاظ حالة من حالاتها، إذ النجاسة حكم شرعي اعتباري، و يمكن تبدل الاعتبار بتبدّل الأحوال و الأوصاف أيضا.

(2) إن أمكن نسبة هذا إلى الأصحاب أمكن نسبة جواز بيع بعض الأعيان النجسة أيضا إليهم، لقبولها الطهارة بالاستحالة أو الانقلاب كالخمر القابلة للتخليل. و كون الموضوع في المقام باقيا دون صورة الاستحالة مدفوع باستحالة ارتفاع الحكم مع بقاء موضوعه، غاية الأمر أنّ الموضوع قد يكون هي الصورة النوعية للشي ء و قد يكون حال من أحوالها كما في المقام. و لا فرق بينهما بعد اشتراكهما في عدم دوامهما و قابليتهما للتطهير. و بالجملة ما يصرّ عليه المصنّف هنا من الفرق بين العصير المحتمل للدبسية و الخمر المحتمل للتخليل قابل للمناقشة، لعدم تفاوتهما فيما نحن بصدده، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 559

في مفتاح الكرامة من أنّ الظاهر المنع للعمومات المتقدمة (1).

[الدليل الرابع الأخبار]
[رواية أبي كهمس]

و خصوص بعض الأخبار مثل قوله «ع»: «و إن غلى فلا يحل بيعه.» (2)

______________________________

(1) قال في مفتاح الكرامة: «و أمّا عصير العنب فلا ريب في عدم جواز بيعه إذا نشّ و غلى من قبل نفسه، لأنّه يصير حينئذ خمرا و لا يطهر إلّا بانقلابه خلّا كما نصّ عليه الأكثر من المتقدمين و المصنّف في رهن التذكرة و المحقق في رهن جامع المقاصد ... و أمّا إذا غلى عصير العنب بالنار و لم يذهب ثلثاه فلا ريب في نجاسته كما بيّناه في غير موضع بل ادّعي عليه الإجماع. و الظاهر أيضا عدم جواز بيعه لأنه حينئذ خمر كما صرّح به جماعة أو كالخمر إذا اعتدّ للتخليل كما نصّ عليه المحقق الثاني ... و هو الذي تقتضي به قواعد الباب، و يدل عليه قول الصادق

«ع» في خبر أبي كهمس ...» «1»

ثم تعرّض بعد ذلك لخبر أبي بصير و مرسل ابن الهيثم الآتيين في كلام المصنّف.

(2) هذه قطعة من خبر أبي كهمس. قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع» عن العصير فقال: لي كرم و أنا أعصره كل سنة و أجعله في الدنان و أبيعه قبل أن يغلي. قال: «لا بأس به، و إن غلى فلا يحلّ بيعه.» ثم قال: «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمرا.» «2»

و هذه الرواية إحدى الروايات الخاصّة التي استدلّ بها في مفتاح الكرامة للمنع. و في السند حنّان، و الظاهر أنّه حنّان بن سدير الصير في، و فيه خلاف، و الأشهر أنّه ثقة و إن قيل بوقفه. و كهمس اسم من أسماء الأسد، و الرجل القبيح الوجه، و الناقة الكوماء أي العظيمة السنام. و أبو كهمس كنية للهيثم بن عبد اللّه و الهيثم بن عبيد، و يحتمل اتحادهما و لم يثبت وثاقتهما.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 12، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(2) الوسائل 12/ 69، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 560

..........

______________________________

أقول: يرد على الاستدلال بالرواية- مضافا إلى ضعفها- أنّ السؤال فيها وقع عن بيع العصير قبل أن يغلي، و من الواضح عدم الإشكال في ذلك بطبعه. فالظاهر أنّ شبهة السائل- كما يظهر من ذيل الرواية- كانت من جهة كون المشتري ممن يصنعه خمرا، و لعلّ بيع العصير لذلك كان معهودا و متعارفا في تلك الأعصار فسأل عنه، و الإمام «ع» فصّل بين بيعه منه قبل الغليان أو بعده و استشهد لرفع شبهته بذكر عمل أنفسهم.

و الظاهر منها غليان العصير في الدنان

بنفسه لا بالنار، فالرواية لا ترتبط بمسألتنا أعني بيع العصير المغليّ بالنار للتخليل أو ليجعل دبسا، بل تكون- كما ذكر الأستاذ الإمام «ره» «1»- من قبيل الروايات المستفيضة الدالة على جواز بيع العنب أو التمر أو العصير ممن يعلم أنّه يجعله خمرا. و لا يبعد في تلك المسألة- على القول بها- التفصيل المذكور في الرواية، إذ حال عدم الغليان يكون العصير صالحا بالذات لكل واحد من الانتفاعات المحللة و يكون بيعه من المقدمات البعيدة للخمرية و لا يعدّ إعانة على الإثم إذا لم يكن بقصده.

و هذا بخلاف بيعه بعد الغليان بنفسه، فإنّه في هذه الحالة إمّا خمر أو قريب منها، و لذا حرم شربه قطعا فلأجل ذلك منع من بيعه. و إطلاق قوله «ع»: «فلا يحل بيعه» يشمل صورة الإعلام و عدمها.

و بالجملة فوزان الرواية وزان صحيحة عمر بن أذينة. قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه «ع» أسأله عن رجل له كرم، أ يبيع العنب و التمر ممن يعلم أنّه يجعله خمرا أو سكرا؟

فقال: «إنّما باعه حلالا في الإبّان الذي يحلّ شربه أو أكله فلا بأس ببيعه.» «2»

______________________________

(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «قده» 1/ 85.

(2) الوسائل 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 561

..........

______________________________

و يظهر من المصنف حمل الرواية و ما بعدها على النهي عن بيعه بعد الغليان نظير بيع الخل و الدبس من دون إعلام المشتري بحاله، فلا تشمل بيعه بقصد التطهير مع إعلام المشتري.

و لكن الظاهر عدم مناسبة ما ذكره لما هو محطّ نظر السّائل في سؤاله كما مرّ بيانه.

نعم لو فرض أنّ المشتري يريد شربه بحاله بزعم عدم غليانه جرى ما ذكره.

و

في مصباح الفقاهة: «إنّ الظاهر من الحلّية فيها بقرينة الصدر و الذيل هي التكليفية فقط دون الوضعية وحدها أو ما هو أعمّ منها و من التكليفية. إذن فالرواية ناظرة إلى حرمة بيع العصير للشرب فإنّ إشراب النجس أو المتنجس للمسلم حرام. و أمّا بيعه للدبس و نحوه فلا يستفاد منها.» «1»

أقول: لم يظهر لي ظهور الرواية في الحلّية التكليفية و لا قرينية صدرها و لا ذيلها لذلك.

و ما يهتمّ به المتعاملان غالبا و يسألان عنها هو صحة المعاملة أو فسادها لا حلّيتها تكليفا.

و الحلّية و الحرمة و إن انصرفتا في عرفنا إلى التكليف فقط لكن قد مرّ مرارا أنّهما في لسان الكتاب و السنة بل و في اصطلاح القدماء من فقهائنا كان يراد بهما الأعمّ من التكليف و الوضع أعني الصحة و الفساد. فكان يراد بالحلية إطلاق الشي ء و عدم محدوديته و بالحرمة محدوديته. و هما يختلفان حسب اختلاف الموضوعات و الموارد:

ففي قوله- تعالى-: «و أحل اللّه البيع و حرّم الربا»، و كذا قول الإمام «ع»: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» «2» مثلا يراد بهما الصحة و الفساد. و مثلهما ألفاظ الجواز و عدم الجواز و البأس و عدم البأس و نحو ذلك. ففي المقام أيضا ينصرف قوله: «فلا يحل بيعه» إلى الوضع، و لا أقل إلى الوضع و التكليف معا، و لكن محطّ النظر في المعاملات هو الوضع.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 105، في جواز بيع العصير ...

(2) الوسائل 3/ 273، الباب 14 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 562

[رواية أبي بصير]

و رواية أبي بصير: «إذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس.» (1)

______________________________

(1) أراد بذلك

رواية أبي بصير. قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا. قال «ع»: «إذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس.» «1»

هكذا في الكافي المطبوع بطبعيه. نعم في التهذيب المطبوع بطبعيه: «فهو حلال»، و لكن في الطبع القديم منه كتب الواو أيضا بعنوان النسخة. و في السند القاسم بن محمد الجوهري و علي بن أبي حمزة، و هما واقفيان و لم يثبت وثاقتهما، فالرواية ضعيفة.

و الظاهر أنّ المراد بالغليان هنا أيضا الغليان بنفسه، و لا يخفى أنّ بيع العصير قبل غليانه لشربه كذلك أو لجعله دبسا مما لا إشكال فيه قطعا، و يبعد خفاء ذلك لمثل أبي بصير، فالظاهر أنّ محطّ نظره في السؤال بيعه حلالا ممن يعلم أنّه يجعله حراما، فلعلّ المراد بقوله: «ليطبخه» طبخه محرّما، حيث إنّ الشراب المحرّم- على ما قيل و يظهر من الأخبار أيضا- كان على قسمين: أحدهما غير مطبوخ و كان غليانه بنفسه و يسمّى خمرا. و الثاني مطبوخ و هو ما غلى بالنار و لم يذهب ثلثاه، و كان يقال له بالفارسية:

«باده» و في الروايات: «البختج» و كان هو أيضا مسكرا أو في معرضه:

ففي صحيحة عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: الرجل يهدى إليه البختج من غير أصحابنا؟ فقال: «إن كان ممن يستحلّ المسكر فلا تشربه، و إن كان ممّن لا يستحل فاشربه.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2؛ عن فروع الكافي 5/ 231 (ط.

القديم 1/ 394)؛ و التهذيب 7/ 136 (ط. القديم 2/ 155).

(2) الوسائل 17/ 234، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث

1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 563

..........

______________________________

و ظهورها في كون البختج قبل ذهاب ثلثيه مسكرا أو في معرضه واضح. و بذلك ظهر أنّ حرمته ناشئة من ذلك و ليست جزافية.

و في صحيحة معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث و أنا أعرف أنّه يشربه على النصف أ فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف؟ فقال: «لا تشربه.» قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث و لا يستحلّه على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال: «نعم.» «1»

قال ابن الأثير في النهاية: «البختج: العصير المطبوخ. و أصله بالفارسية «مى پخته»، أي عصير مطبوخ.» «2»

و يظهر من الحديث عدم حجية إخبار ذي اليد إذا كان متّهما و كان عمله مخالفا لما يخبر به.

و قد تحصّل مما ذكرنا أنّ السؤال في رواية أبى بصير أيضا وقع عن بيع العصير قبل غليانه ممّن يجعله خمرا أو ما بحكمها. فتكون من قبيل السؤال عن بيع العنب ممن يجعله خمرا. و الإمام «ع» فصّل في الجواب بين بيعه في حال حلّيته و بيعه بعد غليانه و صيرورته خمرا أو ما بحكمها. فوزان الرواية وزان رواية أبي كهمس السّابقة و لا ترتبط بمسألتنا أعني بيع العصير المغليّ بالنار.

و الظاهر أنّ قوله «ع»: «و هو حلال» حال توضيحي لسابقه لا شرط مستقل، و ذكر

______________________________

(1) الوسائل 17/ 234، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 2.

(2) النهاية 1/ 101.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 564

..........

______________________________

لبيان ما هي النكتة حقيقة لجواز البيع

قبل الخمرية و هي وقوع البيع على الشي ء حال كونه حلالا، و ذكر كونه قبل الخمرية من جهة كونه سببا للحليّة و موضوعا لها. فيكون مفهومه عدم جواز البيع إجمالا لو وقع في حال حرمته، و إن كان القدر المتيقن من ذلك صورة كون بيعه لصرفه حراما فيمكن الجواز فيما إذا وقع بقصد تخليله مثلا. هذا.

و احتمل الأستاذ الإمام «ره» «1» جعل كل من الجملتين شرطا مستقلا، فيكون من قبيل ما إذا تعدد الشرط و اتّحد الجزاء. مثل قوله: «إذا خفي الجدران فقصّر» و قوله: «إذا خفي الأذان فقصّر.» فيكون بين الشرطين عموم من وجه فيتضح الحكم بالجواز في مورد اجتماع الشرطين، و يشكل في صورة افتراقهما، كما إذا كان قبل الخمرية و لكن كان حراما لغليانه أو كان بعد الخمرية و لكن كان حلالا للاضطرار إليه.

و لكنه خلاف الظاهر بل الظاهر كون الواو للحال، و الشرط كونه حلالا و كونه قبل الخمرية، ذكر توطئة لبيان موضوع الحلية.

هذا على فرض كون النسخة بالواو. و أمّا إذا كان بالفاء فالأمر واضح.

و الأستاذ الإمام أجاب عن الرواية «2» أوّلا: بضعفها و اغتشاش متنها.

و ثانيا: بأنّ القضية الشرطية هنا لا مفهوم لها لأنّها سيقت لبيان تحقق الموضوع، نظير قول القائل: إن رزقت ولدا فعليّ كذا. و أمّا مفهوم القيد فهو من مفهوم اللقب الذي لا يقال به.

و ثالثا: أنّ الرواية بصدد بيان حكم المنطوق لا المفهوم فلا إطلاق له، و المتيقن منه ما إذا باعه ممن يجعله خمرا أو بختجا محرما.

______________________________

(1) راجع المكاسب المحرمة 1/ 83.

(2) راجع المكاسب المحرمة 1/ 83.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 565

..........

______________________________

أقول: الظاهر أنّ نظر المستدلّ ليس إلى الاستدلال بمفهوم الشرط بل

بمفهوم القيد أعني قوله: «قبل أن يكون خمرا و هو حلال.» و عدّ مفهوم القيد من مفهوم اللقب عجيب، إذ اللقب ليس قيدا لموضوع الحكم بل هو بنفسه موضوع، و المقام ليس كذلك، إذ الموضوع لعدم البأس هنا هو بيع العصير، و تقييده بكونه قبل الخمرية و في حال الحلّية قيد زائد لا بدّ أن يكون ذكره لفائدة و إلّا كان لغوا لا يصدر عن الحكيم. و فائدة القيد و الغرض منه غالبا دخله في موضوع الحكم و عدم كون الطبيعة المجعولة موضوعا بإطلاقها تمام الموضوع له.

و كان الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- يقول: إنّ ظهور المفهوم ليس من قبيل ظهور اللفظ بما هو لفظ موضوع لمعنى خاصّ المنقسم إلى المطابقة و التضمن و الالتزام، بل من قبيل ظهور الفعل. فإنّ الفاعل الحكيم لا يصدر عنه الفعل إلَّا لغرض و فائدة عقلائية سواء كان الفعل من قبيل التلفظ بالألفاظ الموضوعة، أو من قبيل سائر الأفعال الصادرة عن الجوارح الأخر، فيحمل الفعل الصادر عنه على كون صدوره لفائدة عقلائية إجمالا. و إذا فرض لفعل خاصّ فوائد و أغراض مختلفة عندهم يحمل فعله على أنّه صدر عنه لغايته الطبيعية المتعارفة أعني ما يعدّ فائدة له بالطبع إلّا أن يحرز خلافه.

و لا يخفى أنّ الفائدة المتعارفة للتلفظ بالألفاظ الموضوعة هي إفادة معانيها الموضوعة لها. و فائدة التكلّم و التلفظ بالقيود هي دخالتها في موضوع الحكم و كون القيد المذكور جزءا منه.

نعم يمكن أن يختلفه في ذلك قيد آخر، كما في اعتصام الماء، حيث إنّ المستفاد من

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 566

..........

______________________________

قوله «ع»: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء» «1» هو دخالة

الكرية في الاعتصام و عدم كون طبيعة الماء بإطلاقه تمام الموضوع له. و هذا لا ينافي أن يخلف الكريّة في ذلك كون الماء ذا مادّة كما هو المستفاد من صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع. «2»

و كيف كان فينفي الحديثان قول ابن أبي عقيل القائل باعتصام الماء بإطلاقه و لو كان قليلا بلا مادّة. «3»

و بالجملة مقتضى ذكر القيد شرطا كان أو وصفا أو غيرهما دخالته في موضوع الحكم. و أمّا انحصار القيد به فلا إذ يمكن أن يخلفه في ذلك قيد آخر.

و لعلّ الأستاذ الإمام أراد بما ذكره في المقام هذا المعنى أعني نفي انحصار القيد. فالقيد لموضوع جواز البيع إمّا وقوعه في حال حلّية الشي ء أو وقوعه بعد الحلية و لكن بقصد جعله حلالا كالتخليل مثلا، فتدبّر. هذا.

و في مصباح الفقاهة في الجواب عن رواية أبي بصير في المقام قال: «إنّ راويها أبا بصير مشترك بين اثنين و كلاهما كوفي و من أهل الثقة. و من المقطوع به أن بيع العصير العنبي لم يتعارف في الكوفة في زماننا هذا مع نقل العنب إليها من الخارج فضلا عن زمان الراوي الذي كان العنب فيه قليلا جدا. و عليه فالمسؤول عنه هو حكم العصير التمري- الذي ذهب المشهور إلى حلّيته حتّى بعد الغليان ما لم يصر خمرا-، فلا يستفاد من الرواية إلّا حرمة بيع الخمر و جواز بيع العصير التمري قبل كونه خمرا، فتكون

______________________________

(1) الوسائل 1/ 117، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1 و غيره.

(2) راجع الوسائل 1/ 105، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحديث 12.

(3) راجع المختلف/ 2، كتاب الطهارة، باب المياه، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 567

..........

______________________________

غريبة عن محلّ الكلام ...» «1»

أقول أوّلا: الظاهر أنّ المراد بأبي بصير في المقام- بقرينة الراوي عنه- هو يحيى بن القاسم- أو أبي القاسم- الأسدي المكفوف، فإنّ علي بن أبي حمزة البطائني كان قائدا له و الرواية عنه.

و ثانيا: كون الراوي من أهل الكوفة لا يدلّ على كون سؤاله مرتبطا بمسائل بلده و لا سيما مثل أبي بصير الذي كان من خواصّ أصحاب الصادقين «ع» و من علمائهم.

و الظاهر أنّ مسألة بيع العصير ممن يعمله خمرا كانت مطرحا بين فقهاء السنة و اختلفوا في جوازه و منعه كما يظهر من المغني لابن قدامة «2»، فصار هذا سببا لسؤال أصحاب الأئمة «ع» عن ذلك في أخبار كثيرة و منها هذه الرواية.

و ثالثا: إنّ الكوفة في تلك الأعصار كانت من البلاد الكبيرة الواسعة جدا، فلا يقاس عليها البلدة الصغيرة في عصرنا. و كيف يخلو بلد كبير واسع في أرض خصب العراق من العنب؟

و رابعا: إنّ إطلاق العصير كان ينصرف إلى عصير العنب، كما يشهد بذلك قوله «ع» في صحيحة ابن الحجاج: «الخمر من خمسة: العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، و البتع من العسل، و المزر من الشعير، و النبيذ من التمر.» و نحوها أخبار أخر، فراجع. «3»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 106.

(2) راجع المغنى 4/ 283، كتاب البيوع، باب المصراة ...

(3) الوسائل 17/ 221، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1 و غيره.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 568

[مرسل ابن الهيثم]

و مرسل ابن الهيثم: «إذا تغيّر عن حاله و على فلا خير فيه.» (1)

بناء على أنّ الخير المنفيّ يشمل البيع.

______________________________

نعم يمكن أن يستظهر من ذيل موثقة زرارة في باب تحريم العصير من الوسائل «1» إطلاق

لفظ العصير على ما يتخذ من التمر أيضا. و لكن الظاهر كون ما في الوسائل مصحفا، حيث ذكر في أوّل الرواية لفظ «النخلة». و ربما يستفاد منها على ذلك اشتراط ذهاب الثلثين في العصير المغلي من التمر أيضا. و لكن الصحيح- كما في الكافي «2»- لفظ الحبلة. و هي- على ما في النهاية و الصحاح «3»- محركة: «القضيب من الكرم.»

و من هنا أوصي الطلّاب و الفضلاء الكرام بأخذ الأخبار مهما أمكن من الجوامع الأصلية.

(1) إشارة إلى ما رواه محمد بن الهيثم، عن رجل، عن أبي عبد اللّه «ع». قال:

سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من ساعته، أ يشربه صاحبه؟ فقال: «إذا تغيّر عن حاله و غلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه.» «4»

و السند إلى ابن الهيثم صحيح و هو أيضا ثقة، و لكن الرواية- كما ترى- مرسلة.

و الظاهر أنّ قول السائل: «من ساعته» إشارة إلى أنّ التغير الذي كان يحصل له بطبعه بعد أيّام حصل له بالنار سريعا، فأجابه الإمام «ع» بأنّ الملاك في الحرمة التغير و الغليان و لو سريعا.

و نحوها ما رواه أبو بصير. قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع»- و سئل عن الطلاء- فقال:

«إن طبخ حتى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال، و ما دون ذلك فليس فيه خير.» «5»

و مورد السؤال في الخبرين- كما ترى- العصير المغلي بالنار و هو المبحوث عنه في المقام،

______________________________

(1) الوسائل 17/ 225، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4؛ عن الكافى 6/ 394.

(2) الوسائل 17/ 225، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4؛ عن الكافى 6/ 394.

(3) النهاية لابن الأثير 1/ 334؛ و صحاح اللغة 4/

1665.

(4) الوسائل 17/ 226، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديثان 7.

(5) الوسائل 17/ 226، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديثان 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 569

[الجواب عن الأخبار]

و في الجميع نظر. أمّا في العمومات فلما تقدّم (1). و أمّا الأدلّة الخاصّة فهي مسوقة للنهي عن بيعه بعد الغليان نظير بيع الدبس و الخلّ من غير اعتبار إعلام المكلّف (2). و في الحقيقة هذا النهي كناية عن عدم جواز الانتفاع ما لم يذهب ثلثاه، فلا يشمل بيعه بقصد التطهير مع إعلام

______________________________

و لكن ليس فيهما اسم من البيع و المعاملة. فالاستدلال بهما كما في المتن يتوقف على شمول الخير المنفي للبيع أيضا، و لكنه غير واضح. إذ السؤال في المرسلة كان عن شربه فيراد بيان حرمة شربه. و لعلّ عدم التصريح بها كان للتقية عمن كان يحلّه على النصف.

و بالجملة فلا دلالة للأخبار الخاصة المذكورة في المقام على حرمة بيع العصير العنبي المغلي بالنار إذا باعه مع إعلام حاله، فتدبّر.

(1) من انصراف النجاسة و الحرمة المذكورتين فيها عن العرضيتين العارضتين في حال متوسط بين حالي الطهارة و الحلّية. و العصير مال مرغوب فيه قابل للانتفاع فيشمله عمومات البيع و التجارة. هذا. و قد مرّ الكلام حول ذلك، فراجع. «1»

(2) التعبير بالمكلّف لا يخلو عن مسامحة، إذ الظاهر عدم جواز بيعه للصغير و المجنون أيضا بلا إعلام، لحرمة إشرابهما الخمر و ما في حكمها. إلّا أن يقال: إنّ المشتري لهما وليّهما و الإعلام يقع له و هو مكلّف. هذا. و قد عرفت أنّ خبري أبي كهمس و أبي بصير مع ضعفهما لا ربط لهما بالعصير المغليّ بالنار، و المرسل لا ارتباط له بمسألة البيع.

و قد

يستدل للمنع مضافا إلى الأخبار الثلاثة المذكورة في المتن بصحيحة معاوية بن عمار السابقة بنقل الشيخ. قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل من أهل المعرفة بالحق

______________________________

(1) راجع ص 556 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 570

المشتري نظير بيع الماء النجس (1).

و بالجملة فلو لم يكن إلّا استصحاب ماليته و جواز بيعه كفى.

[من تعرّض للمسألة صريحا]

و لم أعثر على من تعرّض للمسألة صريحا عدا جماعة من المعاصرين (2).

نعم، قال المحقق الثاني في حاشية الإرشاد في ذيل قول المصنّف:

«و لا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبوله التطهير»- بعد الاستشكال بلزوم عدم جواز بيع الأصباغ المتنجسة بعدم قبولها التطهير

______________________________

يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث و أنا أعرفه أنّه يشربه على النصف. فقال:

«خمر لا تشربه.» «1» بتقريب أنّه إذا كان خمرا شمله أدلّة حرمة بيع الخمر.

و فيه- مضافا إلى أنّ لفظ الخمر لا يوجد في نقل الكافي «2» و هو أضبط-: أنّ التنزيل في الصحيحة بلحاظ حرمة الشرب المصرّح بها و أنّ الخمر أيضا يجوز بيعها بقصد التخليل و نحوه كما مرّ في مسألة بيع الخمر، فراجع.

(1) قد مرّ منا عدم مانعية النجاسة بنفسها عن البيع، و لكن على القول بها كما هو ظاهر الأصحاب يمكن الفرق بين نجس العين و المتنجس القابل للتطهير.

(2) راجع الجواهر و المستند. «3» و يظهر من الأول الجواز و من الثاني المنع، فراجع.

______________________________

(1) التهذيب 9/ 122، باب الذبائح و الأطعمة ...، الحديث 261.

(2) الكافى 6/ 421، كتاب الأشربة، باب الطلاء، الحديث 7.

(3) راجع الجواهر 22/ 8، كتاب التجارة، الفصل الأوّل؛ و مستند الشيعة 2/ 332.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 571

و دفع ذلك بقبولها له

بعد الجفاف (1)-: «و لو تنجس العصير و نحوه فهل يجوز بيعه على من يستحله؟ فيه إشكال.» ثم ذكر أنّ الأقوى العدم، لعموم: وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإثْم وَ الْعُدْوٰان. انتهى. و الظاهر أنّه أراد بيع العصير للشرب من غير التثليث، كما يظهر من ذكر المشتري و الدّليل، فلا يظهر منه حكم بيعه على من يطهّره (2).

______________________________

(1) يمكن أن يقال: إنّ القابل للتطهير هو الثوب المنصبغ بالأصباغ المتنجسة لا الأصباغ، إذ هي محكومة بالفناء عرفا.

(2) المصنّف حمل كلام المحقق الثاني في حاشية الإرشاد على بيع العصير المغليّ بالنار لمن يستحل شربه قبل التثليث.

و لكن الظاهر أنّه أراد بيع المائعات و عصير الفواكه المتنجسة بملاقاة النجاسة لمن يستحلها عصيرا كانت أو غيره.

و يشهد لذلك أمور: الأوّل: التعبير بلفظ التنجّس. الثاني: عطف قوله: و نحوه.

الثالث: تقييده جواز البيع بمن يستحلّه، إذ العصير المغليّ بالنار يجوز لغير المستحلّ أيضا لجواز شربه بعد تثليثه.

الرابع: الاستدلال بآية التعاون، إذ بيع العصير المغليّ لمن يريد شربه بعد إذهاب ثلثيه ليس تعاونا على الإثم.

و بالجملة فكلام المحقق الثاني لا يرتبط بمسألتنا. و قد تعرّض لهذا الإشكال في مصباح الفقاهة أيضا. «1»

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 106، في جواز بيع العصير ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 572

[المسألة الرابعة: يجوز المعاوضة على الدهن المتنجس]
اشارة

الرابعة: يجوز المعاوضة على الدهن المتنجس على المعروف من مذهب الأصحاب. و جعل هذا من المستثنى عن بيع الأعيان النجسة مبنى على المنع من الانتفاع بالمتنجس إلّا ما خرج بالدليل، أو على المنع من بيع المتنجس و إن جاز الانتفاع به نفعا مقصودا محلّلا، و إلّا كان الاستثناء منقطعا من حيث إنّ المستثنى منه ما ليس فيه منفعة محلّلة مقصودة من النجاسات و المتنجسات

(1). و قد تقدّم أنّ المنع عن بيع النجس

______________________________

المسألة الرابعة: المعاوضة على الدهن المتنجّس

[بيان موضوع المسألة]

(1) حاصل كلام المصنّف أن جعل الأصحاب هذه المسألة من المستثنيات مبني على التزامهم بأحد أمرين: إمّا القول بحرمة الانتفاع بالمتنجسات إلّا ما خرج بالدليل و يلزمها قهرا حرمة بيعها أيضا، أو القول بحرمة بيعها تعبّدا و إن جاز الانتفاع بها. و إلّا كان الاستثناء منقطعا، إذ على هذا يجب أن يفرض المستثنى منه ما ليس فيه منفعة محلّلة مقصودة فلا يكون المقام من أفراده.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 573

فضلا عن المتنجس ليس إلّا من حيث حرمة المنفعة المقصودة. فإذا فرض حلّها فلا مانع من البيع (1). و يظهر من الشهيد الثاني في المسالك خلاف ذلك و أنّ جواز بيع الدهن للنصّ لا لجواز الانتفاع به و إلّا لاطّرد

______________________________

أقول: كلام المصنّف في المقام يشبه اللغز و الأحجية. و كان الأولى أن يقول: و إلّا لم يكن في البين استثناء، إذ على فرض جواز الانتفاع بالمتنجس و جواز بيعه لذلك كان الدهن المتنجس من مصاديق هاتين الكليتين و كان جواز بيعه على القاعدة فلم يصحّ الاستثناء.

نعم هنا شي ء آخر و هو أنّ المصنّف جعل المستثنى منه في كلامه حرمة بيع الأعيان النجسة، و ظاهر أنّ الدهن المتنجس ليس منها. فمن هذه الجهة يصير الاستثناء منقطعا، إلّا أن يريد بالأعيان النجسة أعمّ من النجاسات الذاتية و العرضية الحاصلة بملاقاتها. و لذا جعل المسائل السّابقة ثمانية و جعل الثامنة منها مسألة بيع الأعيان المتنجسة غير القابلة للتطهير.

(1) هذا ما كنّا نصرّ عليه من عدم كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحة البيع، و أنّ الجواز و المنع فيه يدوران مدار وجود المنفعة المحللة

المقصودة المستلزمة لمالية الشي ء و عدمها.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 1، ص: 573

و لو فرض الشك في جواز الانتفاع فبمقتضى أصالة الحلّ يحكم بجوازه و يترتب عليه قهرا جواز المعاملة عليه.

و عدّ الأصحاب النجاسات في المقام عنوانا مستقلا في قبال ما لا منفعة له من جهة أنّ المنافع المطلوبة منها في تلك الأعصار كانت محرّمة غالبا، فيراد بالنوع الأوّل من المكاسب المحرمة ما ليس لها منفعة محلّلة. و بالنوع الثالث ما لا منفعة لها أصلا.

و قد مرّ منّا أنّ نفس استثناء المستثنيات الأربعة في المقام أدلّ دليل على أنّ المنع ليس للتعبد المحض و مانعية النجاسة بنفسها بل يدور الجواز و المنع مدار وجود المنفعة المحلّلة العقلائية الموجبة لمالية الشي ء شرعا و عدمها، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 574

الجواز في غير الدهن أيضا (1). و أمّا حرمة الانتفاع بالمتنجس إلّا ما خرج بالدليل فسيجي ء الكلام فيه إن شاء اللّه.

و كيف كان فلا إشكال في جواز بيع الدهن المذكور، و عن جماعه الإجماع عليه في الجملة (2).

[كلمات الفقهاء]

______________________________

(1) قال في تجارة المسالك: «و أمّا الأدهان النجسة بنجاسة عارضة كالزيت تقع فيه الفأرة فيجوز بيعها لفائدة الاستصباح بها، و إنّما خرج هذا الفرد بالنصّ و إلّا فكان ينبغي مساواتها لغيرها من المائعات النجسة التي يمكن الانتفاع بها في بعض الوجوه. و قد ألحق الأصحاب ببيعها للاستصباح بها بيعها لتعمل صابونا أو ليدهن بها الأجرب و نحو ذلك. و يشكل بأنّه خروج عن مورد النصّ المخالف للأصل، فإن جاز لتحقق المنفعة فينبغي مثله في المائعات النجسة التي ينتفع

بها كالدبس يطعم للنحل و نحوه.» «1»

(2) ينبغي هنا نقل بعض الكلمات من علماء الفريقين ليكون القارئ على بصيرة:

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 312): «يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السّماء. و قال أبو حنيفة: يجوز بيعه مطلقا. و قال مالك و الشافعي: لا يجوز بيعه بحال. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و أيضا قوله- تعالى-: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا، و قوله: إلّٰا أَنْ تَكُونَ تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ. و هذا بيع و تجارة. و أيضا دلالة الأصل، و المنع يحتاج إلى دليل. و روى أبو عليّ بن أبي هريرة في الإفصاح: أنّ النبي «ص» أذن في الاستصباح بالزيت النجس. و هذا يدلّ على جواز بيعه للاستصباح و أنّ

______________________________

(1) المسالك 1/ 164 (ط. أخرى 3/ 119)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 575

..........

______________________________

لغيره لا يجوز إذا قلنا بدليل الخطاب.» «1»

أقول: كلامه «قده» يشتمل على نكات ينبغي التنبيه إليها:

الأوّل: كون المسألة إجماعية عنده.

و فيه: عدم حجيته مع وجود الأخبار في المسألة لاحتمال استنادهم إليها و كون الإجماع مدركيا. بل الظاهر كون الجواز على طبق القاعدة بعد تحقق المنفعة المحلّلة العقلائية الموجبة لمالية الشي ء و دلالة عمومات البيع و التجارة عليه فلا نحتاج إلى الأخبار المجوزة أيضا.

الثاني: صريح كلامه دلالة الأصل على الجواز.

و فيه: أنّ مقتضى الأصل في التكليفيات و إن كان هو الجواز لكن مقتضاه في الوضعيات هو الفساد لاستصحاب عدم ترتب الأثر. و لا يراد بالأصل في كلامه عمومات صحة البيع و التجارة للتصريح بها قبل ذلك.

اللهم إلّا أن يحمل الحلّ و الحرمة في أخبار الحلّ على الأعمّ من التكليف و الوضع كما بيّناه

في المسألة السابقة و قلنا إنّه المقصود في لسان الكتاب و السنة و اصطلاح القدماء من أصحابنا.

الثالث: يظهر من كلامه وجود الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي ء و بين جواز بيعه، و هذا ما ذكرناه مرارا و يظهر من الشيخ الأنصاري أيضا.

الرابع: استدلاله «قده» بدليل الخطاب على عدم الجواز لغير الاستصباح.

أقول: المراد بدليل الخطاب مفهوم المخالفة أعني ظهور القيد كالشرط و الوصف

______________________________

(1) الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 576

..........

______________________________

و نحوهما في الدخالة المستلزمة للانتفاء عند الانتفاء إجمالا.

و فيه: أنّ إذنه «ص» في الاستصباح به لعلّه من جهة أنّه الفائدة المحلّلة له في تلك الأعصار، فلا يبعد إلقاء الخصوصية منه و الإسراء إلى كل فائدة محلّلة فلا مفهوم له. و إن شئت قلت: إنّه من قبيل مفهوم اللقب الذي لا نقول به لأنّ إثبات الشي ء لا يستلزم نفي ما عداه. و بالجملة فدليل الخطاب لا يجري في المقام.

الخامس: أنّ تعبيره عن الزيت المتنجس بالزيت النجس يشهد لما كان يصرّ عليه الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- من أنّ التعبير بالمتنجس من اصطلاح الفقهاء المتأخرين. و أمّا في الأخبار و كلمات القدماء من فقهائنا فكان يعبّر عن المتنجس أيضا بلفظ النجس أو القذر أو نحو ذلك. و يشهد لذلك قوله في رواية محمد بن ميسّر:

«و يداه قذرتان.» «1»

و في رواية أبي بصير: «إن كانت يده قذرة فأهرقه.» «2»

و في رواية عمّار: «البارية يبلّ قصبها بماء قذر.» «3»

و في موثقة عمّار المشهورة: «كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر و ما لم تعلم فليس عليك.» «4» إلى غير ذلك من الأخبار.

و كان الأستاذ «ره» يريد أن

يستفيد من هذا البيان نجاسة الملاقي للمتنجس مطلقا و لو

______________________________

(1) الوسائل 1/ 113، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 5.

(2) الوسائل 1/ 115، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 11.

(3) الوسائل 2/ 1044، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(4) الوسائل 2/ 1054، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 577

..........

______________________________

بألف واسطة، بتقريب أنّ مقتضى الحكم بنجاسة الشي ء نجاسة ملاقيه.

و لكن يرد على ذلك: أنّ القذارة- المعبّر عنه في الفارسية ب «پليدي»- عند العرف مقولة بالتشكيك و لها عندهم مراتب فيمكن أن تتنزل القذارة إلى حدّ لا يستقذر ملاقيها لعدم السّراية عندهم. و الظاهر أنّ أصل الطهارة و النجاسة و مراتبهما و كيفية السراية أمور عرفية و ليست بتأسيس الشرع المبين و إن اختلف العرف و الشرع في تعيين المصاديق لهما. و تمام الكلام في المسألة موكول إلى بحث الطهارة.

2- و قال في المبسوط: «و إن كان مائعا فلا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون ممّا لا يطهر بالغسل أو يكون ممّا يطهر. فإن كان ممّا لا يطهر بالغسل مثل السّمن فلا يجوز بيعه ... يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السّماء، و لا يجوز إلّا لذلك.» «1»

3- و في بيع الغنية في شرائط المبيع قال: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرّزا مما لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها، و قيدنا بكونها مباحة تحفظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السّماء، و هو إجماع الطائفة.» «2»

أقول: قوله: «و هو إجماع الطائفة»

راجع إمّا إلى الجميع و إمّا إلى الحكم الأخير.

و كيف كان فيكون جواز بيع الزيت النجس عنده إجماعيا و لو في الجملة. و المستفاد من مجموع كلامه دوران جواز البيع و منعه مدار وجود المنفعة المحلّلة و عدمها. فلا محالة

______________________________

(1) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 578

..........

______________________________

يحمل التقيد بالاستصباح تحت السّماء على الغالب في تلك الأعصار، حيث إنّ المنفعة الغالبة للزيت النجس كانت منحصرة في الاستصباح به. و التقييد بكونه تحت السّماء مع عدم وروده في نصّ لعلّه من جهة تقيّد المسلمين المتعبّدين بعدم تنجيس البيوت المستلزم غالبا لتنجس وسائل التعيّش. و بالجملة يحمل تقييد الكلب بالصيد و الزيت النجس بالاستصباح به تحت السّماء على المثال بذكر الفرد الغالب المتعارف منهما.

4- و في السّرائر: «و جميع ما لا يحل أكله حرام بيعه إلّا ما استثناه أصحابنا من بيع الدهن النجس لمن يستصبح به تحت السّماء بهذا الشرط، فإنّه يصحّ بيعه بهذا التقييد لإجماعهم على ذلك.» و راجع كتاب الأطعمة منه أيضا. «1»

5- و في أوّل التجارة من الشرائع في عداد ما يحرم بيعه قال: «و كل مائع نجس عدا الأدهان لفائدة الاستصباح به تحت السّماء.» «2»

6- و ذيّله في الجواهر بقوله: «فجاز بيعها لذلك بلا خلاف معتدّ به أجده فيه، بل في محكي الخلاف و الغنية و إيضاح النافع الإجماع عليه، بل يمكن تحصيله.» «3»

7- و في المستند: «و يستثنى من ذلك الدهن بجميع أصنافه، فيجوز الاستصباح به و بيعه لذلك. للإجماع و الأخبار المستفيضة من الصحاح و غيرها.»

«4»

______________________________

(1) السرائر 2/ 222، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب؛ و 3/ 121 و 127، كتاب الأطعمة و الأشربة، باب الأطعمة المحظورة و المباحة.

(2) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(3) الجواهر 22/ 13، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(4) مستند الشيعة 2/ 332، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 579

..........

______________________________

8- و في التذكرة: «الثالث: الأليات المقطوعة من الشاة الميتة أو الحليّة لا يحلّ بيعها و لا الاستصباح بدهنها مطلقا. أمّا الدهن النجس بملاقاة النجاسة له فيجوز بيعه لفائدة الاستصباح به تحت السّماء خاصة. و للشافعي قولان: أحدهما: لا يجوز تطهيره فلا يصحّ، و به قال مالك و أحمد. و الثاني: يجوز تطهيره، ففي بيعه عنده و جهان. و في جواز الاستصب اح قولان. و الأظهر عنده جوازه و منع بيعه ...» «1»

أقول: الظاهر أنّ أصل جواز البيع عند أصحابنا مما لا خلاف فيه إجمالا. و لكنه مبني عند الأكثر على النصّ و التعبّد المحض. فتكون النجاسة عندهم بنفسها و لو عارضية غير قابلة للتطهير مانعة عن البيع لو لا النصّ فيقتصر على مورده.

و لأجل ذلك ترى العلامة فرّق بين الألية المقطوعة و بين الدهن المتنجس.

مع أنّه يظهر من كثير من عباراته في التذكرة ما كنّا نصرّ عليه- تبعا للشيخ- من دوران الجواز و المنع مدار وجود المنفعة المحلّلة و عدمها. و من ذلك قوله «ره» بعد هذه العبارة:

«يجوز بيع ما فيه منفعة لأنّ الملك سبب لإطلاق التصرف، و المنفعة المباحة كما يجوز استيفاؤها يجوز أخذ العوض عنها فيباح لغيره بذل ماله فيها توصّلا إليها و دفعا للحاجة بها كسائر ما أبيح بيعه.» و على هذا ففي

كلامه نحو تهافت.

9- و في المختصر الخرقي في فقه الحنابلة: «و إذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن و ما أشبهه نجس و استصبح به إن أحب و لم يحلّ أكله و لا ثمنه.» «2»

10- و في كتاب الجوهر النقي ذيل سنن البيهقي قال: «و في قواعد ابن رشد: اختلفوا

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) المغنى 11/ 86، كتاب الصيد و الذبائح.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 580

..........

______________________________

في بيع الزيت النجس و نحوه بعد اتفاقهم على تحريم أكله، فمنعه مالك و الشافعي، و جوّزه أبو حنيفة و ابن وهب إذا بيّن. و روي عن ابن عباس و ابن عمر أنّهم جوّزوا بيعه ليستصبح به. و في مذهب مالك جواز الاستصباح به و عمل الصابون مع تحريم بيعه.

و أجازه الشافعي أيضا مع تحريم ثمنه ... و في نوادر الفقهاء لابن بنت نعيم: أجمع الصحابة على جواز بيع زيت و نحوه تنجس بموت شي ء فيه إذا بيّن ذلك ...» «1»

11- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن المالكية: «و كذلك لا يصح بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كزيت و عسل و سمن وقعت فيه نجاسة على المشهور، فإنّ الزيت و العسل لا يطهر بالغسل. و بعضهم يقول: إنّ بيع الزيت المتنجس و نحوه صحيح لأن نجاسته لا توجب إتلافه، و أيضا فإنّ بعضهم يقول: إنّ الزيت يمكن تطهيره بالغسل.»

و عن الحنابلة: «أمّا الدهن الذي سقطت فيه نجاسة فإنّه لا يحلّ بيعه و لكن يحلّ الانتفاع به في الاستضاءة في غير المسجد.»

و عن الحنفية: «و يصح بيع المتنجس و الانتفاع به في غير الأكل، فيجوز أن يبيع دهنا متنجسا ليستعمله

في الدّبغ و دهن عدد الآلات و الماكينات و نحوها و الاستضاءة به في غير المسجد ما عدا دهن الميتة فإنّه لا يحلّ الانتفاع به لأنّه جزء منها و قد حرّمها الشرع فلا تكون مالا، و قد تقدم في باب الطهارة أنّ الزيت و نحوه يمكن تطهيره.» «2»

أقول: فالمسألة عند فقهاء السنة خلافية و عند الأكثر مبنية على إمكان التطهير و عدمه و فرقوا بينه و بين دهن الميتة.

______________________________

(1) ذيل «سنن البيهقى» 6/ 13، كتاب البيوع، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 581

[الأخبار الواردة في المسألة]

و الأخبار به مستفيضة: منها: الصحيح عن معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه «ع». قال: قلت له: جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل؟ قال:

«أمّا السمن و العسل فيؤخذ الجرذ و ما حوله، و الزيت يستصبح به.»

و زاد في المحكيّ عن التهذيب: أنّه يبيع ذلك الزيت و يبينه لمن اشتراه ليستصبح به. (1)

و لعلّ الفرق بين الزيت و أخويه من جهة كونه مائعا غالبا بخلاف السمن و العسل. و في رواية إسماعيل الآتية إشعاره بذلك.

______________________________

(1) راجع باب الذبائح و الأطعمة من التهذيب و الوسائل. «1» و الظاهر أنّ الزيادة المذكورة في التهذيب إشارة إلى ما رواه هو في باب الغرر و المجازفة منه بسنده عن معاوية بن وهب و غيره عن أبي عبد اللّه «ع» في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ قال:

«بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به.» «2»

و بالجملة فما في التهذيب- بعد ذكر الرواية الأولى-: «و قال في بيع ذلك الزيت:

تبيعه و

تبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» ليس من تتمة الرواية، بل هو من كلام الشيخ و إشارة إلى الرواية الثانية لابن وهب، و ضمير قال يرجع إلى أبي عبد اللّه «ع». و الرواية الثانية صريحة في جواز البيع. و أمّا الأولى فلا تدلّ إلّا على جواز الاستصباح به، إلّا أن نتمم ذلك بما مرّ من الخلاف من أنّ الإذن في الاستصباح به يدل على جواز بيعه، و قد قوّينا ذلك و بيّناه.

______________________________

(1) راجع التهذيب 9/ 85، الحديث 94؛ و الوسائل 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) التهذيب 7/ 129، باب الغرر و المجازفة ...، الحديث 34؛ و الوسائل 12/ 66.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 582

و منها: الصحيح عن سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّه «ع» في الفأرة و الدابّة تقع في الطعام و الشراب فتموت فيه؟ قال: «إن كان سمنا أو عسلا أو زيتا فإنّه ربّما يكون بعض هذا، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله و كله. و إن كان الصيف فادفعه حتى يسرج به.» (1)

و منها: عن أبي بصير في الموثق عن الفأرة تقع في السّمن أو الزيت فتموت فيه؟ قال: «إن كان جامدا فاطرحها و ما حولها و يؤكل ما بقي. و إن

______________________________

و بهذا البيان يمكن أن يستدلّ على جواز البيع بجميع ما دلّ على جواز الاستصباح به من أخبار الفريقين، فراجع التهذيب و الوسائل و سنن البيهقي. «1» و الظاهر من بعض أخبارهم جواز مطلق الانتفاع غير الأكل، فراجع.

(1) قد وقع الاشتباه في نقل المصنّف هنا، حيث إنّ هذه الرواية للحلبي لا لسعيد الأعرج، راجع التهذيب. «2» و هي صحيحة و لكن لا اسم فيها من

البيع. و قوله: «فادفعه حتى يسرج به» لا يدلّ على جواز البيع و أخذ الثمن بإزائه. مضافا إلى أنّ الموجود في التهذيب: «فارفعه حتى تسرج به.» فلعلّ المراد رفعه عن المائدة فعلا حتى تسرج به فيما بعد. و أما رواية سعيد الأعرج فمذكورة في التهذيب بعد رواية الحلبي، و في آخرها:

«و عن الفأرة تموت في الزيت؟ فقال: «لا تأكله و لكن أسرج به.» و لا دلالة فيها أيضا على جواز البيع إلّا على ما مرّ من الملازمة بين جواز الانتفاع و جواز البيع.

______________________________

(1) راجع التهذيب 9/ 58، الحديث 93 و غيره؛ و الوسائل 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به؛ و سنن البيهقى 9/ 354، كتاب الضحايا، باب من أباح الاستصباح به.

(2) راجع التهذيب 9/ 86، باب الذبائح و الأطعمة، الحديث 96.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 583

كان ذائبا فأسرج به و أعلمهم إذا بعته.» (1)

و منها: رواية إسماعيل بن عبد الخالق. قال: سأله سعيد الأعرج السّمان- و أنا حاضر- عن السمن و الزيت و العسل يقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به؟ قال: «أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج.

و أمّا الأكل فلا. و أمّا السمن فإن كان ذائبا فكذلك، و إن كان جامدا و الفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها ثم لا بأس به، و العسل كذلك إن كان جامدا.» (2)

______________________________

(1) راجع التهذيب و الوسائل. «1» و فيهما: قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الفأرة تقع في السمن أو الزيت. الحديث. و في السند ابن رباط و هو مختلف فيه و إن وثقه بعضهم.

(2) راجع قرب الإسناد و الوسائل. «2» و إسماعيل بن

عبد الخالق ثقة. و الراوي عنه محمد بن خالد الطيالسي، و هو و إن لم يوثق لكن نقل الأعاظم الثقات لكتابه ربما يشهد باعتمادهم عليه و الرواية ناظرة إلى ما رواه سعيد الأعرج عنه «ع»، و قد مرّ ذيلها و لكن ليس في رواية الأعرج التي بأيدينا اسم من البيع، فراجع. «3»

و ليس في أخبارنا اسم من كون الاستصباح تحت السّماء، فهي من هذه الجهة مطلقة، فهل كان للأصحاب للتقييد بذلك حجة لم تصل إلينا أو أنّ التقييد به في كلماتهم كان من باب الإرشاد من جهة تقيد المسلمين و تعبّدهم بعدم تنجيس البيوت و مظاهر

______________________________

(1) راجع التهذيب 7/ 129، باب الغرر و المجازفة ... الحديث 33؛ و الوسائل 12/ 66.

(2) راجع قرب الإسناد/ 60؛ و الوسائل 12/ 66، الباب 6 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 5.

(3) راجع التهذيب 9/ 86، باب الذبائح و الأطعمة ...، الحديث 97.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 584

..........

______________________________

الحياة و التعيش كما مر؟

و من المحتمل كون ذكر الاستصباح في الأخبار و في كلمات الأصحاب أيضا من باب المثال من جهة كونه المنفعة المحلّلة الغالبة للدهن المتنجس في تلك الأعصار في قبال الانتفاع المحرم أعني الأكل، و لذا صرّح في الأخبار بالنهي عنه.

و على هذا فلا يكون للاستصباح خصوصية. و يشهد لذلك ما ورد في جعله صابونا:

مثل ما عن الجعفريات بإسناده أنّ عليّا «ع» سئل عن الزيت يقع فيه شي ء له دم فيموت؟ قال: «الزيت خاصة يبيعه لمن يعمله صابونا.» «1» و نحوه ما عن نوادر الراوندي بإسناده عن عليّ «ع». «2» و التقييد بقوله: «خاصة» من جهة أن سائر المائعات النجسة لم يكن يتصور لها في تلك الأعصار

منفعة محلّلة عقلائية.

و عن دعائم الإسلام: سئل أمير المؤمنين «ع» عن الدوابّ تقع في السمن و العسل و اللبن و الزيت (فتموت فيه؟- الدعائم) قال: «إن كان ذائبا أريق اللبن و استسرج بالزيت و السّمن ...» و قال في الزيت: «يعمله صابونا إن شاء.» «3»

و ليس في هذه الرواية اسم من البيع، و لكن إذا جاز الانتفاع به صابونا و صار مالا فالقاعدة تقتضي جواز بيعه لذلك كما مرّ.

و يظهر من أخبار السّنة أيضا جواز الاستصباح به بل جواز الانتفاع مطلقا: ففي رواية ابن عمر: أنّ رسول اللّه «ص» سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: «ألقوها و ما حولها

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) المصدر السابق و الباب، الحديث 7.

(3) المصدر السابق و الباب، الحديث 4؛ عن الدعائم 1/ 122.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 585

..........

______________________________

و كلوا ما بقي، فقالوا: يا نبيّ اللّه، أ فرأيت إن كان السمن مائعا؟ قال: «انتفعوا به و لا تأكلوه.» و في رواية أبي سعيد عنه «ص»: «استصبحوا به و لا تأكلوه.» «1»

و هنا روايات يظهر منها منع البيع مطلقا:

1- ما عن قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال:

سألته عن حبّ دهن ماتت فيه فأرة. قال: «لا تدهن به و لا تبعه من مسلم.» «2»

و الرواية ضعيفة بعبد اللّه بن الحسن، فإنّه مجهول.

2- ما عن الجعفريات بإسناده عن أمير المؤمنين «ع»، قال: «و إن كان ذائبا فلا يؤكل يستسرج به و لا يباع.» «3»

و حجية الكتاب بجميع ما فيه من الأخبار غير ثابتة، و إن ثبت وجوده إجمالا في الأعصار الأوّلية و اعتماد

البعض عليه.

3- ما عن دعائم الإسلام: و قالوا- عليهم السلام-: «إذا أخرجت الدابّة حيّة و لم تمت في الإدام لم ينجس و يؤكل. و إذا وقعت فيه فماتت لم يؤكل و لم يبع و لم يشتر.» «4»

و الجواب عن هذه الروايات- مضافا إلى ضعفها- إمكان حمل النهي فيها على النهي عن بيعه للأكل أو بدون الإعلام نظير ما يباع الأدهان الطاهرة، فلا تقاوم ما مرّ من الأخبار الموثوق بها الدالة على جواز بيعها مع الإعلام للمشتري.

______________________________

(1) سنن البيهقى 9/ 354، كتاب الضحايا، باب من أباح الاستصباح به.

(2) الوسائل 12/ 69، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5؛ عن قرب الإسناد/ 112.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) المصدر السابق و الباب، الحديث 5؛ عن الدعائم 1/ 122.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 586

..........

______________________________

و قال في مصباح الفقاهة ما محصّله: «أنّ الروايات الواردة في المقام ثلاث طوائف:

الأولى: ما دلّت على جواز بيعه مقيدا بإعلام المشتري. الثانية: ما دلّت على جوازه من غير تقييد بالإعلام كرواية الجعفريات الحاكمة ببيعه لمن يعمله صابونا. الثالثة: ما دلّت على عدم جواز بيعه مطلقا. و مقتضى القاعدة تخصيص الطائفة الثالثة بالطائفة الأولى الدالة على الجواز مع الإعلام، و بعد التخصيص تنقلب نسبتها إلى الطائفة الثانية الدالّة على الجواز مطلقا فنحكم بجواز بيعه مع الإعلام، و على هذا فيجب الإعلام بالنجاسة لأن لا يقع المشتري في محذور النجاسة.» «1»

أقول: لحاظ إحدى الطوائف الثلاث أوّلا مع إحدى الطائفتين الباقيتين ثم الحكم بانقلاب نسبتها مع الثلاثة على خلاف الصناعة، و أيّ مرجح لملاحظة الأولى أوّلا مع هذه دون ذاك؟ فالأولى أن يقال: إنّ المطلقين

المتباينين يتعارضان بدوا، و بالطائفة المفصلة يرتفع التهافت بينهما.

و يمكن أن يقال: إنّ رواية الجعفريات المشار إليها ليست مطلقة، إذ المتفاهم من قوله:

«يبيعه لمن يعمله صابونا» إعلامه بحال الدهن حتّى يلتزم بعمله صابونا. و على هذا فليس لنا رواية تدلّ على جواز البيع مطلقا و إن توهم. هذا مضافا إلى ما مرّ من أنّ الموثوق بها من أخبار المسألة خصوص الطائفة الأولى المفصلة، و البقية أخبار ضعاف.

و قد مرّ منا أنّه بعد جواز الانتفاع بالمتنجس إجمالا بمقتضى الأصل و أخبار الفريقين و صيرورته بذلك مالا مرغوبا فيه جازت المعاملة عليه قهرا ما لم يدل دليل قطعي على المنع عنها، فلا نحتاج في صحتها إلى دليل خاصّ و يكفي عمومات البيع و التجارة و العقود.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 109.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 587

[أبحاث حول بيع الدهن المتنجس]
[الأوّل: هل يعتبر اشتراط الاستصباح في بيع الدهن المتنجس أم لا؟]
اشارة

إذا عرفت هذا فالإشكال يقع في مواضع: الأوّل: أنّ صحة بيع هذا الدهن هل هي مشروطة باشتراط الاستصباح به صريحا أو يكفي قصدهما لذلك، أو لا يشترط أحدهما؟ ظاهر الحلّي في السرائر الأوّل، فإنّه بعد ذكر جواز الاستصباح بالأدهان المتنجسة جمع قال: «و يجوز بيعه بهذا الشرط عندنا.» (1)

و ظاهر المحكيّ عن الخلاف الثاني، حيث قال: «جاز بيعه لمن يستصبح به تحت السّماء. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و قال أبو حنيفة: يجوز مطلقا.» انتهى. و نحوه مجردا عن دعوى الإجماع عبارة المبسوط و زاد: «أنّه

______________________________

هل يعتبر اشتراط الاستصباح في بيع الدهن المتنجس أم لا؟

(1) قد مرّت عبارة الحلي في البيع من السرائر. و راجع عبارتين له في كتاب الأطعمة منه. و العبارة المذكورة في المتن في ضمن عبارته الأخيرة، فراجع. «1»

و في كلام الحلّي بالنظر البدوي احتمالان:

الأوّل: أن يريد

اعتبار اشتراط الاستصباح في متن العقد كما فهمه المصنف.

الثاني: أن يريد اعتبار وقوع الاستصباح خارجا بنحو الشرط المتأخر، كما استظهره المحقق الإيرواني «2» من عبارته و كذا من عبارة الشيخ في الخلاف.

______________________________

(1) راجع السرائر 2/ 222، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب؛ و 3/ 121 و 127، كتاب الأطعمة و الأشربة، باب الأطعمة المحظورة و المباحة.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 588

لا يجوز بيعه إلّا لذلك.» (1) و ظاهره كفاية القصد. و هو ظاهر غيره ممن عبّر بقوله: «جاز بيعه للاستصباح.» (2) كما في الشرائع و القواعد و غيرهما.

نعم ذكر المحقق الثاني ما حاصله: «أنّ التعليل راجع إلى الجواز، يعني يجوز لأجل تحقق فائدة الاستصباح بيعه.» و كيف كان فقد صرّح جماعة بعدم اعتبار قصد الاستصباح. و يمكن أن يقال باعتبار قصد الاستصباح إذا كانت المنفعة المحلّلة منحصرة فيه و كان من منافعه النادرة التي لا تلاحظ في ماليته كما في دهن اللوز و البنفسج و شبههما (3).

______________________________

(1) قد مرّ في أوائل المسألة عبارة الخلاف و المبسوط، فراجع. «1»

(2) إذ الظاهر من هذه العبارة تعلق الظرف بالأقرب أعني البيع، فيراد منه كون البيع للاستصباح و بقصده. و أمّا إذا تعلّق بقوله: «جاز» كان الظاهر منه كون الاستصباح علّة للجواز و غاية له، كما استظهره في جامع المقاصد.

[في المسألة ستة احتمالات]

(3) أقول: محصّل الكلام أنّ في المسألة احتمالات و قد أنهاها في مصباح الفقاهة «2» إلى ستة، خمسة منها مذكورة في المتن:

الأوّل: جواز بيعه بشرط أن يشترط في متن العقد الاستصباح به، كما استظهره المصنف من عبارة السرائر.

______________________________

(1) راجع الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83)، كتاب البيوع؛ و المبسوط 2/ 167، كتاب

البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصح.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 110.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 589

و وجهه أنّ ماليّة الشي ء إنّما هي باعتبار منافعه المحلّلة المقصودة منه لا باعتبار مطلق الفوائد الغير الملحوظة في ماليّته. و لا باعتبار الفوائد الملحوظة المحرّمة.

فإذا فرض أن لا فائدة في الشي ء محلّلة ملحوظة في ماليته فلا يجوز بيعه، لا على الإطلاق لأن الإطلاق ينصرف إلى كون الثمن بإزاء المنافع المقصودة منه و المفروض حرمتها فيكون أكلا للمال بالباطل، و لا على قصد الفائدة النادرة لأن قصد الفائدة النادرة لا يوجب كون الشي ء مالا.

ثم إذا فرض ورود النصّ الخاصّ على جواز بيعه كما فيما نحن فيه فلا بدّ من حمله على صورة قصد الفائدة النادرة لأن أكل المال حينئذ ليس بالباطل بحكم الشارع، بخلاف صورة عدم القصد لأن المال في هذه الصورة مبذول في مقابل المطلق المنصرف إلى الفوائد المحرّمة، فافهم.

______________________________

الثاني: جواز بيعه مع قصد المتبايعين ذلك و إن لم يشترطاه في متن العقد و لم يقع خارجا، كما استظهره المصنف من الخلاف و غيره.

الثالث: جواز بيعه بشرط عدم قصدهما للمنافع المحرمة، كما يظهر من المصنف فيما بعد.

الرابع: جواز بيعه بشرط قصد المنافع المحلّلة إذا فرض كونها من المنافع النادرة له دون ما إذا كانت من المنافع الشائعة الغالبة أو المساوية للمحرمة فلا يعتبر قصدها حينئذ، كما احتمله المصنف في كلامه و استدل له بما يأتي بيانه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 590

و حينئذ فلو لم يعلم المتبايعان جواز الاستصباح بهذا الدهن و تعاملا من غير قصد إلى هذه الفائدة كانت المعاملة باطلة لأن المال مبذول مع الإطلاق في مقابل الشي ء باعتبار الفوائد

المحرمة.

نعم لو علمنا عدم التفات المتعاملين إلى المنافع أصلا أمكن صحّتها لأنه مال واقعي شرعا قابل لبذل المال بإزائه و لم يقصد به ما لم يصحّ بذل المال بإزائه من المنافع المحرّمة. و مرجع هذا في الحقيقة إلى أنّه لا يشترط إلّا عدم قصد المنافع المحرّمة، فافهم.

______________________________

الخامس: جواز بيعه على الإطلاق مع فرض وجود المنافع المحلّلة للشي ء و إن كانت نادرة فلا يعتبر الاشتراط و لا القصد، و هو الظاهر مما حكاه المصنف عن جامع المقاصد بحمل قولهم: «للاستصباح» على أن جواز بيعه مسبب عن تحقق المنفعة المحللة له أعني الاستصباح.

السّادس: جواز بيعه بشرط وقوع الاستصباح به خارجا بنحو الشرط المتأخر، على ما استظهره المحقق الإيرواني من عبارتي السرائر و الخلاف، و إن كان احتمال اعتبار ذلك في صحة العقد في غاية البعد.

أقول: أمّا اعتبار اشتراط الاستصباح في متن العقد بحيث تتوقف صحة العقد عليه فلا دليل عليه. كيف؟ و صحّة العقد تتوقف على تحقق أركانه من المتعاقدين و العوضين و شرائطهما. و لم يعهد في مورد توقّف صحّته على ذكر شرط في متنه زائدا على أركان العقد و شرائطهما. و ما ورد في الأخبار السابقة من التبيين لمن اشتراه ليستصبح به لا يدلّ على أزيد من وجوب الإعلام بأصل النجاسة لئلا يقع المشتري في محذور النجاسة و لا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 591

[إذا كان الاستصباح منفعة غالبة]

و أمّا فيما كان الاستصباح منفعة غالبة بحيث كان مالية الدهن باعتباره كالأدهان المعدّة للإسراج فلا يعتبر في صحة بيعه قصده أصلا لأن الشارع قد قرّر ماليّته العرفية بتجويز الاستصباح به و إن فرض حرمة سائر منافعه بناء على أضعف الوجهين من وجوب الاقتصار في الانتفاع بالنجس على

مورد النصّ. و كذا إذا كان الاستصباح منفعة مقصودة مساوية لمنفعة الأكل المحرم كالألية و الزيت و عصارة السمسم.

فلا يعتبر قصد المنفعة المحلّلة فضلا عن اشتراطه، إذ يكفي في ماليته وجود المنفعة المقصودة المحلّلة. غاية الأمر كون حرمة منفعته الأخرى نقصا فيه يوجب الخيار للجاهل.

______________________________

يصرفه في الأكل و نحوه. و إنّما ذكر الاستصباح غاية للإعلام من جهة كونه المنفعة الغالبة للدهن المتنجس في تلك الأعصار كما مرّ بيانه، و هذا الغرض يحصل بمجرد الإعلام و لو بعد العقد، غاية الأمر وجود الخيار للمشتري حينئذ.

و أمّا قصدهما للاستصباح حين العقد فيظهر من المصنّف اعتباره و لكن لا مطلقا بل في بعض الأدهان أعني فيما كان الاستصباح من منافعه النادرة.

و محصّل ما استدلّ به لذلك أنّه يعتبر في المبيع أن يكون مالا عرفا و شرعا. و ماليّة الشي ء إنّما هي باعتبار منافعه المحلّلة المقصودة منه، لا باعتبار مطلق الفوائد غير الملحوظة و لا باعتبار الفوائد المحرّمة. فإذا فرض أن لا فائدة ملحوظة محلّلة للشي ء فلا يجوز بيعه لا بنحو الإطلاق لانصرافه إلى كون الثمن بإزاء المنافع المحرمة المقصودة فيكون أكلا للمال بالباطل، و لا بقصد الفائدة المحللة النادرة لعدم كون قصدها موجبا لماليتها، إلّا أن يرد نصّ

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 592

..........

______________________________

خاصّ على جواز بيعه كما في المقام، فيحمل على صورة قصد النادرة المحلّلة، و يكون هذا النصّ حاكما على دليل حرمة أكل المال بالباطل. فلو تعاملا حينئذ من غير قصد كانت المعاملة باطلة. لانصراف الإطلاق إلى المنافع المحرّمة. نعم لو علمنا بعدم التفاتهما إلى المنافع أصلا أمكن صحّة المعاملة لأنّه مال واقعيّ شرعا، ففي الحقيقة يكون الشرط عدم قصد المنافع المحرّمة. هذا كله

إذا كان الاستصباح منفعة نادرة للدهن.

و أمّا إذا كانت منفعة غالبة له أو مساوية لمنافعه المحرّمة فلا يعتبر في صحّة بيعه قصده، إذ يكفي وجود المنفعة المحلّلة المقصودة خارجا. هذا ملخص كلام المصنّف في التفصيل بين الأدهان و اعتبار القصد في بعضها دون بعض.

و ناقشه المحقق الإيرواني و غيره من الأعلام- قدّس أسرارهم- «1» بوجوه نتعرّض لها و لما يبدو لنا:

الأوّل: أن في كلام المصنّف خلطا بيّنا، إذ في عنوان البحث كان الكلام في اعتبار شرط الاستصباح في متن العقد أو قصده بمعنى قصد الاستصباح به خارجا غاية للشراء كما هو المقصود في الشرط أيضا، و لكن في مقام الاستدلال يظهر منه اعتبار قصده ركنا للعقد بحيث يقع الثمن بإزاء حيثية الاستصباح و يكون المقابلة بينه و بين هذه الحيثية و إن لم يقصد من شرائه الاستصباح به خارجا بل لأجل الأكل أو التجارة به.

و الحاصل: أن القصد المعاوضي و قصد الانتفاع الخارجي قصدان متغايران ينفك أحدهما عن الآخر، فربما يدفع الثمن بإزاء المنافع المحرّمة و لكن بقصد الانتفاع الخارجي المحلّل و ربّما يعكس. و ليس في الأخبار من القصد المعاوضي عين و لا أثر، فإن كان فيها

______________________________

(1) راجع حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني/ 8؛ و غاية الآمال/ 34؛ و المكاسب المحرّمة للإمام الخميني 1/ 87؛ و مصباح الفقاهة 1/ 111.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 593

..........

______________________________

فذاك اعتبار قصد الانتفاع الخارجي بالمنفعة المحلّلة.

الثاني: أنّ مطلع كلام المصنّف هو اختيار التفصيل في الأدهان و اعتبار قصد المحلّلة في بعضها، و منتهى كلامه هو عدم اعتبار ذلك بل اعتبار عدم القصد إلى المنافع المحرمة مطلقا، ففي كلامه نحو تهافت. اللّهم إلّا أن يقال: إنّ كلامه الأوّل

راجع إلى مقام الإثبات، و الثاني إلى مقام الثبوت و الواقع. فالشرط في الحقيقة هو عدم قصد المنفعة المحرّمة، و لكن في مقام الإثبات يلزم قصد المحلّلة النادرة دفعا لانصراف المطلق إلى الشائعة المحرّمة. و حيث إن مورد الإطلاق و الانصراف هو الشك في المراد فلا يجريان مع العلم بعدم التفاتهما إلى المنافع أصلا، فتأمّل.

أقول: وجهه أنّ التمسك بالإطلاق إنما يصحّ فيما إذا شكّ في مراد الغير و هنا ليس كذلك، و إنما البحث هنا في اعتبار تحقق قصد المحلّلة في ذهن المتعاملين ثبوتا أو كفاية عدم قصد المحرمة كذلك.

الثالث: أنّ جميع الأدهان مشتركة في أنّ الاستصباح أو الطلي بها أو جعلها صابونا تعدّ من منافعها المحلّلة الظاهرة الدخيلة في ماليتها و إن اختلفت مراتب الانتفاع بها أكلا أو شما أو استصحابا بها، و يفوق بعضها بعضها في بعض هذه الانتفاعات.

و بعبارة أخرى: الإسراج منفعة ظاهرة مقصودة في جميع الأدهان ملحوظة إجمالا في تقويمها و ماليّتها. و انتفاء بعض المنافع الظاهرة الشائعة عن بعض الأشياء كذهاب الرائحة عن الأدهان العطرية مثلا أو عروض حرمة الأكل لما يقصد أكله عادة لا يوجبان انتفاء ماليتها بالكلية، بل هي ثابتة بلحاظ المنافع الأخر و إن تنزلت قيمتها بذلك و لذا يحكم بضمانها مع إتلافها أو غصبها بحكم العقلاء و السيرة القطعية و عموم قاعدة اليد، فتأمّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 594

..........

______________________________

نعم لو كانت جميع منافع الشي ء محرّمة أو كانت المحلّلة منها نادرة نادرة غير معتنى بها جدا بحيث لا تؤثّر في ماليتها أصلا كسقي الأشجار بالخمر مثلا أو التطيين بها أو بناء الجدران بالكوز المكسور يشكل صحة المعاملة حينئذ، لعدم المالية و كونها سفهية خارجة عمّا

عليه العقلاء من كون المعاملات لتبادل الحاجات. هذا.

و لكن لو فرض في مورد خاصّ حاجة شخص خاصّ إلى هذه المنفعة النادرة و كانت بالنسبة إليه معتنى بها في ظرف خاصّ أمكن القول بصحة المعاملة و إن فرض ندرتها جدا، إذ يصير الشي ء عنده في المورد الخاصّ مالا مرغوبا فيه و لا تعدّ المعاملة بالنسبة إليه سفهية. و لا دليل على اعتبار المالية النوعية العامّة بحيث يرغب فيها الأكثر من الناس.

و المالية تختلف باختلاف الدواعي و الحاجات و الرسوم و العادات و الأزمنة و الأمكنة و الأشخاص كما لا يخفى.

الرابع: أن ما استدل به المصنّف لمختاره قابل للمنع، إذ الثمن في البيع بإزاء ذات العين لا بإزاء منافعها، و المنافع دواع إلى شراء العين. و حرمة الداعي لا توجب حرمة المعاملة على العين و كونها أكلا للمال بالباطل. و بعبارة أخرى: المنافع من قبيل الحيثيات التعليلية لشراء الأعيان لا الحيثيات التقييدية بحيث يقع الثمن بإزاء نفس الحيثية. و المفروض في المقام أنّ العين ذات مالية و لو بلحاظ منافعها النادرة. و الشارع رخّص في المعاملة عليها بهذا اللحاظ كما هو المفروض. و إذا لم تكن باطلة بحكم الشرع خرجت عن البطلان بحكم العرف أيضا، فليس حكم الشارع بعدم البطلان تعبّدا محضا على خلاف حكم العرف على ما يظهر من المصنف. و حرمة بعض المنافع لا توجب حرمة المعاملة على العين بعد اشتمالها على المنافع المحلّلة المؤثرة في ماليتها، نظير بيع العنب ممن يعمله خمرا كما يأتي البحث فيه و دلّت الأخبار على جوازه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 595

[اشتراط عدم المنفعة المحرمة]

نعم يشترط عدم اشتراط المنفعة المحرمة بأن يقول: بعتك بشرط أن تأكله، و إلّا فسد العقد

بفساد الشرط (1).

______________________________

الخامس: أنّ معنى حرمة الأكل بالباطل- كما مرّ سالفا- حرمة الأكل بالأسباب الباطلة كالسرقة و القمار و نحوهما لا حرمة الأكل بإزاء الشي ء الباطل. فالباء للسببية لا للمقابلة الداخلة على الثمن في عقد البيع. و يشهد لذلك استثناء التجارة عن تراض التي هي من أسباب الانتقال. و بالجملة الآية أجنبية عن شرائط العوضين.

و قد تحصّل مما ذكرنا أنّ القاعدة تقتضي عدم اعتبار الاشتراط و لا القصد في صحة المعاملة، فإنّ البيع عبارة عن مبادلة مال بمال، و المبيع هو العين، و الانتفاع بها لا دخل له في ماهية البيع و إن كان داعيا إليه، و الثمن يقع في قبال نفس العين.

و على هذا فيصح التمسك لصحة البيع في المقام بإطلاق أدلّة البيع و التجارة و العقود حتى مع قصد المنفعة المحرمة أيضا بعد كون المبيع ذا مالية عرفية و شرعية بلحاظ منافعها المحلّلة. و إسقاط الشارع لمنافعة المحرمة لا يسقط ماليته بالكلية و إن أوجب تنزل قيمته، نظير ما إذا اشترى السكّين بقصد قتل النفوس المحترمة، فإنّ السكّين مال محترم عرفا و شرعا و له منافع محلّلة عقلائية، و الثمن يقع بإزاء ذاته لا بإزاء منافعه المحلّلة أو المحرمة، و نحوه اشتراء العنب بقصد جعله خمرا.

(1) يمكن القول بصحة البيع حتى مع اشتراط الانتفاع بالمحرّم أيضا إذا لم يكن بنحو التقييد بل بنحو الشرط المصطلح عليه في مبحث الشروط أعني الالتزام في الالتزام، إذ على هذا لا يوجب فساد الشرط فساد العقد كما قواه المصنف في مبحث الشروط.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 596

بل يمكن الفساد و إن لم نقل بإفساد الشرط الفاسد، لأنّ مرجع الاشتراط في هذا الفرض إلى تعيين المنفعة

المحرمة عليه. فيكون أكل الثمن أكلا بالباطل، لأنّ حقيقة النفع العائد إلى المشتري بإزاء ثمنه هو النفع المحرّم، فافهم (1). بل يمكن القول بالبطلان بمجرد القصد و إن لم يشترط في متن العقد (2).

______________________________

نعم لو رجع اشتراط المحرّم إلى اشتراط عدم الانتفاع المحلّل من رأس أمكن القول بفساد العقد أيضا، نظير أن يبيع الشي ء و يشترط على المشتري عدم الانتفاع به أصلا و لو في الآجل لرجوعه حينئذ إلى عدم تمليك المبيع له، فتأمّل.

(1) مراده أنّ المقام يختلف عن تلك المسألة، إذ المفروض في المقام وقوع الثمن في مقابل المنفعة المحرمة فيفسد العقد بذلك.

و ناقشه المحقق الإيرواني «ره» بقوله: «قد عرفت أنّ اشتراط الصرف في المصرف المحرّم خارجا أجنبي عن لحاظ المنفعة المحرمة و مقابلتها بالثمن. و المفسد للمعاملة- و إن لم نقل بأنّ الشرط الفاسد مفسد- هو هذا دون ذاك.» «1»

أقول: و يرد على المصنّف أيضا أنّ الآية غير ناظرة إلى شرائط العوضين بل إلى النهي عن تلك الأشياء بالأسباب الباطلة كالقمار و السرقة و الربا و نحوها. فاستدلال المصنف بها في المقام- على ما هو ظاهر عبارته- وقع في غير محلّه.

(2) قد مرّ جواز التمسك لصحة المعاملة بالعمومات حتى مع قصد المنفعة المحرمة، نظير من اشترى سكّينا بقصد قتل النفوس المحترمة.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 8، ذيل قول المصنّف: لأن مرجع الاشتراط ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 597

و بالجملة فكل بيع قصد فيه منفعة محرّمة بحيث قصد أكل الثمن أو بعضه بإزاء المنفعة المحرمة كان باطلا، كما يومي إلى ذلك ما ورد في تحريم شراء الجارية المغنية و بيعها.

و صرّح في التذكرة بأنّ الجارية المغنية إذا بيعت بأكثر مما يرغب فيها

لو لا الغناء فالوجه التحريم. انتهى (1).

______________________________

(1) راجع بيع التذكرة. «1» و وجه الإيماء أنّ الظاهر من هذه الروايات كون قصد المنفعة المحرمة أعني التغني موجبا لبطلان المعاملة عليها و إن لم يشترط في متن العقد.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ وصف التغني في الجارية المغنية ركن في المعاملة و يوجب زيادة قيمتها و وقوع بعض الثمن بل عمدته بإزائه في مقام التقويم و المعاملة، و يترتب عليه دائما أو غالبا وقوع التغنّي خارجا بحيث يضمحلّ سائر منافع هذه الجارية في قبال غنائها. فلو دلّت هذه الأخبار على فساد المعاملة عليها و لو إجمالا كما هو الظاهر فلا يستفاد منها إلّا فساد ما يشبهها لا فساد كل ما قصد فيها المنفعة المحرمة اتفاقا و لو مع كثرة المنافع المحلّلة المقصودة و ترتبها غالبا على هذا الشي ء المشترى.

و يأتي تفصيل هذه المسألة في المسألة الثانية من النوع الثاني، فانتظر.

و نظير بيع المغنية بيع الخمر أيضا، فإنّ الخمر يمكن أن ينتفع منها بالتخليل أو السقي للأشجار أو التطيين بها مثلا و لكنها منافع نادرة جدا غير ملحوظة في ماليتها، و المنفعة الغالبة المترتبة عليها خارجا بحسب طبعها هي الشرب، فلأجل ذلك ورد في صحيحة محمد بن مسلم: «إنّ الّذي حرّم شربها حرّم ثمنها.» و نحوها رواية

______________________________

(1) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع، الشرط الثانى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 598

[اعتبار قصد الاستصباح]

ثم إنّ الأخبار المتقدمة خالية عن اعتبار قصد الاستصباح، لأنّ موردها مما يكون الاستصباح فيه منفعة مقصودة منها كافية في ماليتها العرفية (1).

و ربما يتوهم من قوله «ع» في رواية الأعرج المتقدمة: «فلا تبعه إلّا لمن تبيّن

______________________________

أبي بصير. «1» و حرمة الثمن

كناية عن فساد المعاملة عليها. نعم قد مرّ جواز المعاملة عليها بقصد التخليل مع التباني عليه من المتعاملين.

و على هذا فيمكن أن يقال: إنّ مقتضى عمومات البيع و التجارة و العقود و إن كان صحة المعاملة على الدهن المتنجس بإطلاقه و لو مع قصد المنفعة المحرمة أو شرطها كما مرّ بيانه لكن المتفاهم من النبوي السابق: «إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و من روايات تحف العقول و الرضوي و الدعائم، و مما ورد في المنع عن بيع الجارية المغنية و الخمر و نحوهما بالقاء الخصوصية هو عدم جواز بيع الدهن المتنجس أيضا إذا كان الاستصباح من منافعه النادرة و كان المترتب على بيعه غالبا الانتفاعات المحرمة بحيث صار بيعه إشاعة للفساد و تعريضا له و لا سيما مع الاشتراط أو قصد المنفعة المحرمة إلّا أن يتوافقا على صرفه في الاستصباح و نحوه من المنافع المحلّلة كما قلنا في بيع الخمر للتخليل و يكون في إيجاب التبيين إشارة إلى لزوم هذا التوافق.

فما بنى عليه المصنّف من التفصيل في الأدهان هو الأقوى و الأحوط، فتدبّر.

(1) يعني أنّ مورد الأخبار المتقدمة ما يكون الاستصباح من منافعه الغالبة أو المساوية فلا يحتاج إلى القصد و إنّما يحتاج إليه ما يكون الاستصباح من منافعه النادرة كدهن اللوز و البنفسج و نحوهما.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 164 و 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 1 و 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 1، ص: 599

له فيبتاع للسراج» (1) اعتبار القصد. و يدفعه أنّ الابتياع للسراج إنّما جعل غاية للإعلام، بمعنى أنّ المسلم إذا اطلع على نجاسته فيشتريه للإسراج، نظير قوله «ع» في رواية معاوية بن وهب: «بيّنه لمن اشتراه

ليستصبح به.» (2)

______________________________

(1) قد مرّ أنّ الرواية للحلبي لا للأعرج، و متنها كان هكذا: «و إن كان الصيف فارفعه حتى تسرج به.» «1» و الظاهر أنّ المصنف أراد هنا رواية إسماعيل بن عبد الخالق الحاكية لسؤال الأعرج، فراجع ما مرّ.

(2) يعني أنّ الأخبار ليست بصدد بيان اعتبار القصد، بل بصدد بيان وجوب الإعلام بالنجاسة لئلا يقع المشتري في محذور النجاسة سواء وقع الإعلام قبل العقد أو بعده و إنّما ذكر الاستصباح غاية للإعلام كما مرّ عن جامع المقاصد احتماله في كلمات الأصحاب. و مرّ منّا أنّ ذكره من باب المثال.

و الحمد للّه ربّ العالمين و صلّى اللّه على محمد و آله الطاهرين

21 ذي الحجة 1414 ه. ق. الموافق ل 11/ 3/ 1373 ه. ش.

______________________________

(1) التهذيب 9/ 86، باب الذبائح و الأطعمة ...، الحديث 96.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

الجزء الثاني

[تتمة أنواع الاكتساب المحرم]

[تتمة النوع الأوّل و هي ما يحرم الاكتساب بها لنجاستها]

[تتمة المستثنيات من الأعيان النجسة]
[تتمة المسألة الرابعة: في الدهن المتنجس]
[تتمة أبحاث بيع الدهن المتنجس]
اشارة

______________________________

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

[2- البحث الثاني: هل يجب إعلام المشتري بنجاسة الدهن أم لا؟]
اشارة

الثاني: إنّ ظاهر بعض الاخبار وجوب الإعلام، فهل يجب مطلقا أم لا؟ و هل وجوبه نفسيّ أو شرطيّ بمعنى اعتبار اشتراطه في صحّة البيع؟

الذي ينبغي أن يقال: إنّه لا إشكال في وجوب الإعلام إن قلنا باعتبار اشتراط الاستصباح في العقد أو تواطئهما عليه من الخارج، لتوقف القصد على العلم بالنجاسة. (1)

2- هل يجب إعلام المشتري بنجاسة الدهن أم لا؟

[تصوير محل البحث]

(1) أقول: بعد التزام الأصحاب بعدم جواز بيع النجس و كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة البيع- و إن ناقشنا نحن في ذلك «1»- استثنى المصنّف من ذلك أربعة موارد: المملوك الكافر، و الكلاب النافعة، و العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه، و الدهن المتنجس.

و كان بحثنا في المورد الأخير، و قد تعرّض المصنّف لاخبار المسألة الدالّة على الجواز ثمّ قال: «إذا عرفت هذا فالإشكال يقع في مواضع ...»، و ذكر في الموضع الأوّل أنّ صحّة بيع الدهن المتنجّس هل تكون مشروطة باشتراط الاستصباح به في

______________________________

(1) راجع 1/ 185 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 8

..........

______________________________

متن العقد، أو يكفي قصدهما لذلك، أو لا يشترط شي ء منهما؟ و قد مرّ الكلام في ذلك بالتفصيل، فراجع. «1»

فالآن يقع الكلام في الموضع الثاني و أنّه هل يجب على البائع إعلام المشتري بنجاسة الدهن مطلقا، أو لا يجب مطلقا، أو يفصّل بين ما إذا علم بقصد المشتري و أنّه بصدد صرفه فيما يشترط فيه الطهارة كالأكل و نحوه أو احتمل ذلك، و بين ما إذا علم كونه بصدد صرفه في الاستصباح و نحوه ممّا لا يشترط فيه الطهارة فيجب الإعلام في الاولين دون الثالث، أو تبتني المسألة على المسألة الأولى فإن قلنا فيها باعتبار الاشتراط

في متن العقد أو القصد وجب الإعلام مقدّمة لهما كما يظهر من المصنّف؟

ثمّ على فرض الوجوب فهل هو نفسي من باب حرمة تغرير الجاهل و عدم إلقائه في الحرام، أو شرطي بمعنى توقف صحّة البيع على الإعلام؟

و على فرض الشرطيّة فهل يكون بنحو الشرط المتقدّم فيعتبر الإعلام في العقد أو قبله، أو يكفي الإعلام و لو بنحو الشرط المتأخّر فيصحّ البيع بالإعلام بعده أيضا؟

في المسألة وجوه.

يظهر من المصنّف أنّه لو قلنا في المسألة الأولى باعتبار الاشتراط أو القصد فلا محالة يجب الإعلام، لتوقفهما على العلم بالنجاسة، فيكون وجوب الإعلام وجوبا مقدّميّا شرطيّا لما هو شرط في صحّة العقد.

و لكنّ الظاهر عدم صحّة ذلك، إذ بين الاشتراط أو القصد و بين العلم بالنجاسة عموم من وجه، إذ يمكن شرط الاستصباح أو قصده بدون العلم بالنجاسة و الإعلام بها، بل هما يغنيان عن الإعلام بها، حيث إن الغرض منه عدم صرفه فيما يشترط فيه الطهارة، و المفروض تحقّق هذا الغرض بالاشتراط أو القصد.

______________________________

(1) راجع 1/ 587 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 9

[الأخبار على طائفتين]

و أما إذا لم نقل باعتبار اشتراط الاستصباح في العقد فالظاهر وجوب الإعلام وجوبا نفسيّا قبل العقد أو بعده لبعض الأخبار المتقدّمة.

و في قوله: «يبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» إشارة إلى وجوب الإعلام لئلّا يأكله، فإنّ الغاية للإعلام ليس هو تحقّق الاستصباح، إذ لا ترتّب بينهما شرعا و لا عقلا و لا عادة، بل الفائدة حصر الانتفاع فيه بمعنى عدم الانتفاع به في غيره. ففيه إشارة إلى وجوب إعلام الجاهل بما يعطى إذا كان الانتفاع الغالب به محرّما، بحيث يعلم عادة وقوعه في الحرام لو لا الإعلام، فكأنّه قال: أعلمه لئلّا يقع

في الحرام الواقعي بتركك الإعلام. (1)

______________________________

و يمكن الإعلام بالنجاسة و مع ذلك يقع البيع بقصد الأكل و نحوه لعدم مبالاتهما بالموازين الشرعيّة، نعم، العلم بالنجاسة ينفع لمن تعبّد بالشرع مع فرض كونه بصدد الأكل لو لا إعلامه.

و بالجملة فعلى فرض وجوب الإعلام فهو واجب نفسيّ بداعي صون المشتري عن الوقوع في الحرام أو شرطيّ مستقلّ لا بعنوان المقدّمة للقصد أو الاشتراط المذكورين في المسألة السابقة، فتدبّر.

(1) قد مرّ منّا «1» أنّ أخبار الباب على طائفتين: الأولى: ما تدلّ على جواز البيع مع الإعلام. الثانية: ما تدلّ على المنع مطلقا، و مقتضى الجمع بينهما كما مرّ هو الجواز مع الإعلام، فوجوبه إجمالا ممّا لا إشكال فيه.

و يظهر من قوله عليه السّلام في خبر معاوية بن وهب: «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» «2»

______________________________

(1) راجع 1/ 581 و ما بعدها من الكتاب.

(2) الوسائل 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 10

..........

______________________________

وجوب الإعلام نفسا لا شرطا، إذ ليس فيه إشارة إلى التقييد في متن العقد، بل الظاهر منه وجوب الإعلام بعد تحقّق الاشتراء خارجا كما يقتضيه التعبير بالماضي، و حمله على الشرط المتأخّر خلاف الظاهر و لم يقل به أحد في المقام، كحمل قوله:

«لمن اشتراه» على من أراد اشتراءه.

و المصنّف بعد الحكم بنفسيّة الوجوب قال ما محصّله: «أنّ الغاية للإعلام ليس هو تحقّق الاستصباح، إذ لا ترتّب بينهما، بل الفائدة حصر الانتفاع فيه لئلّا ينتفع به في غيره، فكأنّه قال: أعلمه لئلّا يقع في الحرام الواقعي.»

و المتراءى من كلامه جعل هذه النكتة دليلا على كون الوجوب نفسيّا لا شرطيّا.

و قد صرّح بذلك في مصباح الفقاهة «1»،

فجعل التعليل دليلا على نفسيّة الوجوب.

أقول: لم يظهر لي دلالة ذلك على نفسية الوجوب، إذ الوجوب الشرطي أيضا لا يكون إلّا لنكتة، و لعلّ الشارع جعل الإعلام شرطا للبيع بداعي صون المشتري عن الوقوع في الحرام الواقعي.

و كيف كان فالظاهر من قوله: «ليستصبح به» كون إيجاب الإعلام لهذا الداعي. و على هذا فيمكن منع الوجوب مطلقا فيما إذا علم بوقوع هذا الغرض بدونه و أنّ المشتري لا يقصد إلّا الاستصباح أو اشترط عليه ذلك، فيكون الشرط على القول بالشرطيّة أحد الأمرين من الإعلام أو القصد و نحوه.

بل يمكن منعه أيضا فيما لو علم بعدم تأثيره فيه لكونه ممّن لا يبالي بالدين، إذ ليس وجوب الإعلام لمصلحة في نفسه بل يكون طريقيّا للتوصّل به إلى إحراز

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 115.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 11

..........

______________________________

الواقعيات نظير وجوب الاحتياط.

بل يمكن أن يقال: إنّ وجوبه نفسا أو شرطا يكون بلحاظ ملازمة البيع للإقباض، فلو فرض البيع بدون الإقباض بأن و كلّ البائع في صرفه في مصالح المشتري على النحو المشروع فلا يجب الإعلام حينئذ و إن ثبت له الخيار لو اطلع بعد ذلك، فتدبّر.

و بالجملة فخبر معاوية بن وهب ظاهر في وجوب الإعلام نفسيّا.

و أمّا قوله عليه السّلام في خبر أبي بصير: «و أعلمهم إذا بعته» «1» فالظاهر منه كون الوجوب شرطيّا، إذ المتبادر من الأمر و النهي الواردين في باب المركبات الاعتباريّة من العبادات و المعاملات هو الإرشاد، فيكون الأمر فيه إرشادا إلى الشرطيّة.

و على هذا فالظاهر من قوله عليه السّلام في خبر إسماعيل بن عبد الخالق: «و أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج» «2» أيضا هو الإرشاد إلى فساد

البيع بالنسبة إلى من لم يبين له. فيظهر منه الاشتراط أيضا. هذا.

و قد مرّ منّا في مسألة المعاوضة على الأعيان المتنجّسة «3» البحث في أنّه هل يجب إعلام نجاستها مطلقا لحرمة استعمال النجس فيما يتوقّف على الطهارة فيحرم التسبيب إليه أيضا،

أو لا يجب مطلقا لأنّ المشتري معذور بجهله و اعتماده على أصل الطهارة، و الإعلام يوجب إلقاءه في المشقة،

أو يفصّل بين ما يستعمل عادة في الأكل و الشرب و بين ما يستعمل في الصلاة

______________________________

(1) الوسائل 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(2) نفس المصدر و الصفحة و الباب، الحديث 5.

(3) راجع 1/ 471 من الكتاب، المسألة الثامنة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 12

..........

______________________________

و نحوها كالثوب مثلا، فيجب الإعلام في القسم الأوّل دون الثاني، إذ في القسم الأوّل يكون المنهي عنه استعمال النجاسة بوجودها الواقعي لوجود المفسدة الذاتيّة فيها فيكون استعمالها قبيحا و مبغوضا بالذات و إن وقع عن جهل المباشر فلا يجوز الإقدام في تحقّقه تسبيبا، بخلاف القسم الثاني، حيث إنّ الصلاة في النجس عن جهل صحيحة واقعا و لا تقصر بحسب الملاك عن الصلاة مع الطهارة الواقعيّة، إذ المانع عن صحّتها هو العلم بالنجاسة لا النجاسة الواقعيّة بذاتها.

و قد استظهرنا نحن من الأخبار هذا التفصيل.

فيشهد لوجوب الإعلام في القسم الأوّل روايات هذا الباب أعني مسألة بيع الدهن المتنجّس.

و يشهد لعدم الوجوب في القسم الثاني موثقة ابن بكير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه و هو لا يصلّي فيه؟ قال:

«لا يعلمه»، الحديث. فراجع ما حرّرناه في تلك المسألة. «1»

و المصنّف عنون المسألة هنا بنحو لا تختصّ بباب النجاسات و لا بباب

البيع فقال: «وجوب إعلام الجاهل بما يعطى إذا كان الانتفاع الغالب به محرّما، بحيث يعلم عادة وقوعه في الحرام لو لا الإعلام» فيشمل البحث للبيع و الصلح و الهبة و الإجارة و الإعارة و الإباحة المطلقة و نحوها، كانت الحرمة بسبب النجاسة أو بغيرها من الأسباب. و التقط هذا العنوان العامّ من أخبار الباب ثمّ استشهد له بالأخبار المتفرّقة الدالّة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع:

______________________________

(1) الوسائل 2/ 1069، الباب 47 من أبواب النجاسات، الحديث 3؛ و راجع أيضا 1/ 471 من الكتاب، المسألة الثامنة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 13

[الأدلة الدالّة على حرمة تغرير الجاهل]
اشارة

و يشير إلى هذه القاعدة كثير من الأخبار المتفرّقة الدالّة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع في المحرّمات.

مثل ما دلّ أنّ من أفتى بغير علم لحقه وزر من عمل بفتياه. (1)

فإنّ إثبات الوزر للمباشر من جهة فعل القبيح الواقعي، و حمله على المفتي من حيث التسبيب و التغرير.

______________________________

الأدلة الدالّة على حرمة تغرير الجاهل

[ما دلّ حرمة الإفتاء بغير علم]

(1) ففي صحيحة أبي عبيدة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه.» «1»

و في سنن البيهقي بسنده عن مسلم بن يسار قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «من قال عليّ ما لم أقل فليتبوّأ بيتا في جهنم. و من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ...» «2» و الأخبار في هذا المجال من طرق الفريقين كثيرة، فراجع.

لا يقال: الإفتاء بغير علم من أظهر مصاديق الافتراء على اللّه و على رسوله، و هو بنفسه ممّا يشهد العقل و النقل على قبحه و حرمته، فليست حرمته من جهة التغرير و التسبيب.

فإنه يقال: لا منافاة بينهما، إذ من الممكن حرمة شي ء و مبغوضيته بوجهين أو بجهات. فالمفتي بغير علم كما يستحق العقوبة بسبب افترائه كذلك يلحقه أوزار من عمل بفتياه أيضا.

______________________________

(1) الوسائل 18/ 9، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(2) سنن البيهقي 10/ 116، كتاب آداب القاضي، باب إثم من أفتى أو قضى بالجهل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 14

[ما دل ضمان الإمام صلاة المأموم]

و مثل قوله عليه السّلام: «ما من إمام صلّى بقوم فيكون في صلاتهم تقصير إلّا كان عليه أوزارهم». و في رواية أخرى: «فيكون في صلاته و صلاتهم تقصير إلّا كان إثم ذلك عليه.» (1)

______________________________

(1) في البحار عن كتاب الغارات بسنده عن عباية قال: كتب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى محمّد بن أبي بكر: «انظر يا محمد صلاتك كيف تصلّيها لوقتها، فإنّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاته نقص إلّا كانت عليه و لا

ينقص ذلك من صلاتهم.» «1»

قال المجلسي بعد نقله: و في رواية ابن أبي الحديد: «و انظر يا محمد صلاتك كيف تصلّيها، فإنّما أنت إمام ينبغي لك أن تتمّها و أن تخفّفها و أن تصلّيها لوقتها، فإنّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاته و صلاتهم نقص إلّا كان إثم ذلك عليه، و لا ينقص ذلك من صلاتهم شيئا.» «2»

و في تحف العقول: «ثم انظر صلاتك كيف هي، فإنّك إمام، و ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاتهم تقصير إلّا كان عليه أوزارهم و لا ينتقص من صلاتهم شي ء. و لا يتمّمها إلّا كان له مثل أجورهم و لا ينتقص من أجورهم شي ء.» «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار 88/ 92 (ط. بيروت 85/ 92)، الباب 84، باب أحكام الجماعة، الحديث 58؛ و في كتاب الغارات المطبوع 1/ 244 هكذا: «انظر يا محمد صلاتك كيف تصلّيها، فإنّما أنت إمام ينبغي لك أن تتمّها [و أن تحفظها بالأركان و لا تخفّفها] و أن تصلّيها لوقتها فإنّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاتهم نقص إلّا كان إثم ذلك عليه و لا ينقص ذلك من صلاتهم شيئا.»

(2) بحار الأنوار 88/ 92 (ط. بيروت 85/ 92)، الباب 84، باب أحكام الجماعة، ذيل الحديث 58؛ و راجع شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة 6/ 71.

(3) تحف العقول/ 179.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 15

[ما دلّ على كراهة سقي الدواب ما يحرم للمسلم]

و في رواية أخرى: «لا يضمن الإمام صلاتهم إلّا أن يصلّي بهم جنبا.» (1)

______________________________

و في سنن البيهقي بسنده عن أبي عليّ الهمداني قال: خرجت في سفر و معنا عقبة بن عامر فقلنا له: أمّنا. قال: لست بفاعل، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و

آله يقول:

«من أمّ الناس فأصاب الوقت و أتمّ الصلاة فله و لهم، و من نقص من ذلك شيئا فعليه و لا عليهم.» «1»

(1) يعنى صحيحة معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أ يضمن الإمام صلاة الفريضة؟ فإنّ هؤلاء يزعمون أنه يضمن. فقال: «لا يضمن، أيّ شي ء يضمن، إلّا أن يصلّي بهم جنبا أو على غير طهر.» «2»

و روى الشيخ بإسناده عن عليّ عليه السّلام قال: «المؤذّن مؤتمن و الإمام ضامن.» «3»

و روى البيهقي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «الإمام ضامن و المؤذّن مؤتمن.» «4»

و الظاهر من ضمان الإمام ضمانه لصلاة المأموم و كون نقصها عليه.

و قوله في صحيحة معاوية: «هؤلاء يزعمون» إشارة إلى أهل الخلاف، فيظهر منها كونهم قائلين بالضمان كما هو مفاد خبر أبي هريرة. و الغالب في أخبارنا نفي الضمان كما في الصحيحة.

و في صحيحة زرارة أيضا عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن رجل صلّى بقوم ركعتين ثمّ أخبرهم أنّه ليس على وضوء؟ قال: «يتمّ القوم صلاتهم، فإنّه ليس على

______________________________

(1) سنن البيهقي 3/ 127، كتاب الصلاة، باب كراهية الإمامة.

(2) الوسائل 5/ 434، الباب 36 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.

(3) نفس المصدر 4/ 618، الباب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

(4) سنن البيهقي 3/ 127، كتاب الصلاة، باب كراهية الإمامة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 16

و مثل رواية أبي بصير المتضمّنة لكراهة أن تسقى البهيمة أو تطعم ما لا يحلّ للمسلم أكله أو شربه. (1)

______________________________

الإمام ضمان.» «1»

نعم يظهر من بعض الأخبار ضمانه للقراءة، كما في موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سأله رجل

عن القراءة خلف الإمام فقال: «لا، إنّ الإمام ضامن للقراءة و ليس يضمن الإمام صلاة الذين خلفه إنما يضمن القراءة.» «2» هذا.

و قد ثبت في محلّه أنّ نقص صلاة الإمام جزء أو شرطا و إن أوجب بطلان صلاته لا يوجب بطلان صلاة المأمومين و لا يجب عليهم الإعادة إلّا أن يوجد خلل في صلاة المأموم بنفسه فتبطل صلاته لذلك لا لنقص صلاة الإمام، حتّى إنّ بطلان قراءته أيضا لا يوجب بطلان صلاة المأموم مع جهله بذلك، و على هذا فلا يظهر المقصود من نقص صلاة المأموم بسبب صلاة الإمام حتّى يكون عليه ضمانه و إثمه. هذا.

و يمكن أن يحمل هذا على وجود النقص الملاكي في صلاته لشدّة ارتباطها بها و وصلها إليها، فالنقص في صلاة الإمام و لا سيّما في قراءته يوجب نقص صلاة المأموم ملاكا، فيكون إثمه و وزره على الإمام. و إنّما لم يجب على المأموم إعادتها تسهيلا أو لعدم إمكان تدارك المصلحة بعد فوتها في محلّها كما قالوا بذلك في مسألة الجهر في موضع الإخفات و بالعكس جهلا، فتدبّر.

(1) روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن البهيمة: البقرة و غيرها تسقى أو تطعم ما لا يحلّ للمسلم أكله أو شربه أ يكره ذلك؟ قال: «نعم يكره ذلك.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 5/ 433، الباب 36 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

(2) نفس المصدر 5/ 421، الباب 30 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 3.

(3) نفس المصدر 17/ 247، الباب 10 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 17

فإنّ في كراهة ذلك في البهائم إشعارا بحرمته بالنسبة إلى المكلّف.

______________________________

و في خبر غياث عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كره أن تسقى الدوابّ الخمر.» «1»

و المصنف استشعر من رواية أبي بصير- بطريق الأولوية- الحرمة بالنسبة إلى سقي الإنسان المكلّف.

و لكنّ الظاهر أنّ المتيقّن من ذلك- بعد قبول الأولوية- هي الكراهة المغلظة لا الحرمة كما هو واضح. هذا.

و من قبيل ما ذكره المصنّف أخبار أخر أيضا وردت في موارد أخر:

منها: ما وردت في النهي عن سقي الخمر للصبي أو المملوك أو الكافر و أنّ على الساقي وزر من شربها:

1- كخبر أبي الربيع الشامي، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الخمر، فقال:

«قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه- عزّ و جلّ- بعثني رحمة للعالمين و لأمحق المعازف و المزامير و أمور الجاهليّة و الأوثان.» و قال: «أقسم ربّي لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا إلّا سقيته مثل ما يشرب منها من الحميم معذّبا أو مغفورا له، و لا يسقيها عبد لي صبيا صغيرا أو مملوكا إلّا سقيته مثل ما سقاه من الحميم يوم القيامة معذّبا أو مغفورا له.» «2»

2- و خبر عجلان أبي صالح، قال: قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام: المولود يولد فنسقيه الخمر؟ فقال: «لا، من سقى مولودا مسكرا سقاه اللّه من الحميم و إن غفر له.» «3» و نحو ذلك خبر آخر ذكر بعده.

3- و عن عقاب الأعمال بسنده عن النبي صلى اللّه عليه و آله في حديث قال: «و من شرب

______________________________

(1) الوسائل 17/ 246، الباب 10 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 245، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 246، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 18

..........

______________________________

الخمر سقاه اللّه من

سمّ الأساود و من سمّ العقارب ... و من سقاها يهوديّا أو نصرانيا أو صابئا أو من كان من الناس فعليه كوزر من شربها.» «1»

يظهر من هذه الأخبار أنّ الخمر لاشتمالها على المفسدة الملزمة الشديدة لا يرضى اللّه- تعالى- بالتسبيب إلى شربها حتى بالنسبة إلى الكافر و من لا تكليف له.

و لعلّ الفرق بين الخمر و غيرها من المحرّمات أنّ ضرر شارب الخمر و لو كان طفلا أو حيوانا يسري قهرا إلى غيره من أفراد المجتمع حيث يزول منه العقل و الإدراك بالكليّة.

و منها: ما وردت في النهي عن بيع المختلط بالميتة إلّا ممّن يستحلها، كصحيحتي الحلبي و غيرهما الماضية في فروع بيع الميتة. «2»

و قد ورد في ذلك الباب أيضا قوله عليه السّلام: «يرمى بهما جميعا إلى الكلاب.» «3»

و منها: ما وردت في إهراق المرق المتنجّس، كخبر زكريا بن آدم، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير؟ قال: «يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب.» «4»

و منها: ما وردت في العجين بالماء المتنجّس، قال: «يباع ممّن يستحل أكل الميتة.» و في رواية أخرى: «يدفن و لا يباع». «5»

و منها: ما وردت في الماءين المشتبهين، كموثقة سماعة، قال عليه السّلام: «يهريقهما جميعا و يتيمّم.» «6»

______________________________

(1) الوسائل 17/ 247، الباب 10 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 7.

(2) نفس المصدر 12/ 67، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) الوسائل 2/ 1052، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 8.

(5) نفس المصدر 1/ 174، الباب 11 من أبواب الأسآر، الحديث

1.

(6) نفس المصدر 1/ 113، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 19

[ما دلّ على أن أكل الحرام و شربه من القبيح و لو في حقّ الجاهل]

و يؤيّده أنّ أكل الحرام و شربه من القبيح و لو في حقّ الجاهل (1)، و لذا يكون الاحتياط فيه مطلوبا مع الشكّ، إذ لو كان للعلم دخل في تحقّقه لم يحسن الاحتياط، و حينئذ فيكون إعطاء النجس للجاهل المذكور إغراء بالقبيح و هو قبيح عقلا.

______________________________

فيستفاد من جميع هذه الأخبار الواردة في الموارد المختلفة أن العالم بحرمة شي ء كما يحرم عليه أكله و شربه مباشرة كذلك يحرم عليه التسبيب إلى أكل الغير و شربه و إن كان ذلك الغير جاهلا، مطلقا، أو فيما لا يكون ذلك الغير مستحلا لذلك الحرام.

(1) بتقريب أنّ الأحكام الواقعيّة- كما ثبت في محلّه- ليست مقيّدة بعلم المكلّفين و إلّا لزم التصويب المجمع على بطلانه، و هي عند العدلية تابعة للمصالح و المفاسد النفس الأمرية، و الغرض من البعث أو الزجر ليس إلّا تحصيل المصالح الملزمة و الاجتناب عن المفاسد.

غاية الأمر أنّ الجاهل بجهله ربّما يكون معذورا ظاهرا و غير معاقب على المخالفة بسبب جهله.

و أمّا المكلف العالم بالحكم و الموضوع فكما يحرم عليه مخالفة الأوامر و النواهي الواردة بالمباشرة فكذلك يحرم عليه التسبيب إلى مخالفتها بإلقاء الجاهل فيها. لأنّ مناط الحرمة ليس إلّا حفظ أغراض المولى.

و أدلّة البراءة و إن جرت بالنسبة إلى الجاهل المباشر و لا يكون عاصيا لكن الحكم الواقعي باق بملاكه، فكما لا يجوز للعالم مخالفة التكليف بنفسه لا يجوز له أيضا إلقاء الجاهل فيها.

فلو فرض أنّ المولى نهى جميع عبيده عن الدخول عليه في ساعة خاصّة لغرض الاستراحة مثلا فكما يحرم على كلّ منهم الدخول عليه

في تلك الساعة يحرم عليه التسبيب إلى دخول غيره أيضا و إن لم يصل التكليف إلى ذلك الغير، و كما يصحّ

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 20

بل قد يقال بوجوب الإعلام و إن لم يكن منه تسبيب كما لو رأى نجسا في يده يريد أكله، و هو الذي صرّح به العلّامة «ره» في أجوبة المسائل المهنّائية حيث سأله السيّد المهنّا عمّن رأى في ثوب المصلّي نجاسة فأجاب بأنّه يجب الإعلام لوجوب النهي عن المنكر، لكن إثبات هذا مشكل. (1)

______________________________

عقاب العالم بلحاظ مخالفته مباشرة صحّ عقابه بلحاظ ذلك التسبيب أيضا لبقاء الحرمة و ملاكها بالنسبة إلى الجميع.

و الظاهر أنّ غرض المصنّف من التعبير بالقبيح بالنسبة إلى الجاهل هي الحرمة الواقعيّة و ملاكها، لوضوح أن القبح حكم العقل و لا يحكم العقل بالقبح الفاعلي بالنسبة إلى المباشر الجاهل و إنّما يحكم بقبح التسبيب الصادر من العالم، فتدبّر.

هذا كلّه على فرض كون إعطاء الحرام للغير معرضا لصرفه في الحرام، و أمّا إذا علم بأنّه لا يصرفه إلّا فيما يجوز كصرف الدهن المتنجّس مثلا في الاستصباح فلا وجه حينئذ لوجوب الإعلام إذ ليس تغرير و تسبيب إلى الحرام كما هو واضح.

(1) ما ذكرنا إلى هنا كان فيما إذا وقع من العالم التسبيب بالنسبة إلى وقوع الحرام من الجاهل.

و أمّا إذا لم يكن منه تسبيب و إنّما يقع الفعل من الجاهل لجهله من دون إغراء من قبل العالم فإن كان هذا لجهله بالحكم الكلّي فالظاهر كونه من موارد إرشاد الجاهل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الواجبين بحكم الشرع. و أمّا إذا كان ذلك لجهل المباشر بالموضوع من دون تسبيب، كما إذا لم يعلم بنجاسة ما يريد

أكله أو الثوب الذي يصلّي فيه فهذا ما حكى المصنّف عن العلامة في أجوبة المسائل المهنّائيّة من وجوب الإعلام فيه مستندا إلى وجوب النهي عن المنكر.

و لكنّ الحكم بذلك مشكل لعدم دخل العالم و عدم تسبيبه. و أدلّة النهي عن المنكر لا تجري إلّا فيما إذا كان صدور الفعل من هذا الفاعل منكرا، و ليس المقام

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 21

[هنا أمور أربعة]
اشارة

و الحاصل أنّ هنا أمورا أربعة:

[أحدها: أن يكون فعل الشخص علّة تامّة لوقوع الحرام]

أحدها: أن يكون فعل الشخص علّة تامّة لوقوع الحرام في الخارج، كما إذا أكره غيره على المحرّم. (1) و لا إشكال في حرمته و كون وزر الحرام عليه، بل أشدّ لظلمه.

______________________________

كذلك، إذ المفروض جهل الفاعل و عدم وقوع الفعل منه عصيانا و طغيانا و لا سيّما في مسألة نجاسة الثوب في الصلاة إذ النجاسة بذاتها لا تمنع من صحّة الصلاة و إنّما المانع منها العلم بها حيث أخذ العلم فيه موضوعا. و لو فرضنا الشك في وجوب الإعلام فأصل البراءة يقتضي عدم وجوبه.

نعم لو كان ما يرتكبه الجاهل من الأمور المهمّة التي يعلم بعدم رضى الشارع بوقوعها خارجا من أيّ شخص و في أيّة حالة كالتصرف في الدّماء المحترمة و الفروج بل و الأموال أيضا على احتمال قويّ فالظاهر وجوب الإعلام حينئذ. فلو اعتقد الجاهل أنّ زيدا مهدور الدم شرعا فأراد قتله، أو المرأة الفلانية جائزة النكاح له فأراد نكاحها و علمنا بذلك و أن الواقع على خلاف ما اعتقده فالظاهر وجوب الإعلام حينئذ للعلم بعدم رضى الشارع بوقوع أمثال ذلك خارجا و إن لم تقع على وجه العصيان و الطغيان.

و قد قالوا: إنّ في أمثال هذه الأمور المهمّة يستكشف إيجاب الشارع للاحتياط، و أمّا غير ذلك من الأمور فوجوب الإعلام فيها ممّا لا دليل عليه، بل ربّما يستكشف من بعض الأخبار عدمه، بل يمكن القول بحرمته إن صار موجبا للأذى، فتدبّر.

حول ما أفاده الشيخ «ره» من تصوير العلّية التامّة بين فعل المكره و المكره

(1) أقول: للأستاذ الإمام «ره» في هذا المقام بيان تفصيلي في باب الإكراه ينبغي نقله إجمالا فإنّه كلام متين يظهر منه كون تعبير المصنّف على

خلاف المصطلحات العلميّة:

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 22

..........

______________________________

قال «قده» ما ملخّصه ببيان منّا: «أنّ هنا جهات من البحث:

الأولى: الظاهر أنّ مراده بصيرورة فعل الشخص علّة تامّة لتحقق الحرام أن يكون فعله علّة تامّة لوقوع الحرام من الغير، كما هو مقتضى عنوان البحث و المثال بالمكره.

و فيه: أنّ العلّة التامّة ما لا يكون لغيرها دخل في تحقق المعلول و يكون تمام التأثير مستندا إليها، و في المقام لا يعقل تصوّر كون العلّة التامّة لفعل المكره بالفتح فعل المكره بالكسر، إذ المباشر للفعل هو نفس المكره بالفتح يوقعه باختياره و إرادته لدفع ما أوعد به. فهو بعد الإكراه باق على اختياره و يتخير طبعا بين إيقاع الفعل المكره عليه و بين تحمّل ما أوعد به فيرجح الفعل المكره عليه باختياره على تحمّل ما أوعد به فيوجده بإرادته لكونه أقلّ المحذورين بنظره. و المكره بالكسر لا دخل له إلّا في إيجاد أرضية هذا الترجيح للمباشر. و بعد فهو باق على اختياره و اصطفائه لأحد طرفي الفعل.

و يدلّ على بقاء الاختيار مع الإكراه حرمة الإقدام على القتل إن أكره عليه و يعاقب إن قتل و يقتصّ منه.

فالفرق بين المختار الاصطلاحي و بين المكره ليس في وجود الاختيار و عدمه، بل في أمر مقدّم على الاختيار و هو مبدأ ترجيح أحد الطرفين في النفس، فإنّه قد يحصل الترجيح بلا اضطرار و لا إكراه بل بحسب الاشتياق إلى الفعل بالطبع لكونه ملائما لميله و هواه، و قد يحصل بسبب الاضطرار كمن دار أمره بين قطع يده و بين أن يموت فيختار قطع اليد باضطراره حفظا لنفسه، و قد يحصل بسبب الإكراه، و في هذه الصوره أيضا لم يسلب منه

الاختيار و الإرادة. فالعلّة التامّة لفعل المكره بالفتح هو اختياره و إرادته لا إكراه المكره.

بل إرادة الفاعل المباشر أيضا ليست علّة تامّة لوجود الفعل منه، ضرورة توسّط

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 23

..........

______________________________

مبادئ أخر بينها و بين وجود الفعل خارجا كالأعضاء و الأوتار و العضلات و القوى المنبثة فيها، فالنفس في عالم الطبيعة فاعلة بالآلات لا بنفسها.

نعم، قد يمكن أن يقهر بعض النفوس القوية قوى الفاعل و آلاتها، و يسخّرها تحت إرادته بحيث يسلب منه الاختيار و الإرادة بالكليّة فيكون الفعل حينئذ صادرا عن المسخّر القادر القويّ لا عن المسخّر بالفتح.

الجهة الثانية: أن الفعل الصادر عن المكره تارة لا يخرج بالإكراه عن الحرمة الفعليّة الثابتة لولاه، كالإكراه على قتل النفس المحترمة فإنّه محرّم على المباشر و إن أكره عليه و أوعد بقتل نفسه أيضا، و أخرى يخرج بالإكراه عن الحرمة الثابتة لولاه كما في غالب موارد الإكراه، و ثالثة يكون قبل الإكراه خارجا عن الحرمة الفعليّة بسبب آخر كالاضطرار إليه فلم يفعله فأكره عليه، بل قد يصير الإكراه حينئذ واجبا كما لو اضطرّ إلى أكل الميتة بحيث توقّفت حياته عليه و مع ذلك لم يأكله فإنّه حينئذ يجب إكراهه حفظا لنفسه، و من هذا القبيل أيضا إكراه الحاكم من استنكف عن أداء حقوق الغير.

فحكم الإكراه و الفعل المكره عليه مختلف بحسب الموارد. فليس كل ما أكره عليه محرما و لا كل إكراه حراما و ظلما.» إلى آخر ما ذكره «قده» بطوله، فمن أراد فليرجع إلى كتابه «1».

و الغرض هنا بيان أنّ فعل المكره بالكسر ليس علّة تامّة لفعل المكره خلافا لما يظهر من المصنّف «قده».

و كيف كان فمورد نظر المصنّف هنا القسم الثاني

من أقسام الإكراه، أعني ما يكون رافعا لحرمة متعلّقه، و لا إشكال في حرمته إجمالا لكونه ظلما و لكونه تسبيبا إلى وقوع الحرام، و هما بأنفسهما محرّمان.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «ره» 1/ 92 و ما بعدها (ط. الجديدة 1/ 138).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 24

..........

______________________________

قال الأستاذ الإمام «ره» في هذا المجال: «و على المكره وزر الظلم و الإكراه بإيجاد المبغوض و تفويت المصلحة و لا دليل على كونه بمقدار وزر الفاعل لو كان مختارا. نعم ورد في باب إكراه الزوجة على الجماع نهارا في شهر رمضان أنّ على المكره كفارتين و ضرب خمسين سوطا، و إن كانت طاوعته فعليه كفارة و ضرب خمسة و عشرين سوطا و عليها مثل ذلك «1» ... و قد ذكر الفقهاء بلا نقل خلاف أنّ ضمان التلف على المكره بالكسر دون المكره.» «2»

أقول: يمكن أن يستأنس من هذين الموردين أنّ الإكراه يوجب انتقال وزر المكره بكمّه و كيفه إلى المكره بالكسر، و العرف أيضا يساعد على ذلك إذ العقوبة دنيويّة كانت أو أخرويّة من تبعات الفعل و آثاره، و الفعل و إن صدر عن المباشر لكن السبب هنا أقوى عند العرف فيكون وزر الفعل عليه، و يؤيّد ذلك مثل قوله عليه السّلام:

«من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه.» «3»

و لا ينافي هذا كون نفس الظلم الصادر عنه أيضا موجبا للعقوبة، إذ لا مانع من استحقاقها من جهات متعددة، فتأمّل.

______________________________

(1) الوسائل 7/ 37، الباب 12 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 1.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 95 (ط. الجديدة 1/ 142).

(3) الوسائل 18/

9، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 25

[ثانيها: أن يكون فعله سببا للحرام]

و ثانيها: أن يكون فعله سببا للحرام كمن قدّم إلى غيره محرّما، و مثله ما نحن فيه. و قد ذكرنا أنّ الأقوى فيه التحريم لأنّ استناد الفعل إلى السبب أقوى فنسبة الحرام إليه أولى. و لذا يستقرّ الضمان على السبب دون المباشر الجاهل. بل قيل: إنّه لا ضمان ابتداء إلّا عليه.

[الثالث: أن يكون شرطا لصدور الحرام]

الثالث: أن يكون شرطا لصدور الحرام، و هذا يكون على وجهين:

أحدهما: أن يكون من قبيل إيجاد الداعي على المعصية، إمّا لحصول الرغبة فيها كترغيب الشخص على المعصية، و إمّا لحصول العناد من الشخص حتّى يقع في المعصية كسبّ آلهة الكفّار الموجب لإلقائهم في سبّ الحقّ عنادا، أو سبّ آباء الناس الموقع لهم في سبّ أبيه. و الظاهر حرمة القسمين، و قد ورد في ذلك عدّة من الأخبار.

و ثانيهما: أن يكون بإيجاد شرط آخر غير الداعي كبيع العنب ممّن يعلم أنه يجعله خمرا، و سيأتي الكلام فيه.

[الرابع: أن يكون من قبيل عدم المانع]
اشارة

الرابع: أن يكون من قبيل عدم المانع، و هذا يكون تارة مع الحرمة الفعليّة في حقّ الفاعل كسكوت الشخص عن المنع من المنكر، و لا إشكال في الحرمة بشرائط النهي عن المنكر، و أخرى مع عدم الحرمة الفعليّة بالنسبة إلى الفاعل كسكوت العالم عن إعلام الجاهل كما فيما نحن فيه، فإنّ صدور الحرام منه مشروط بعدم إعلامه. فهل يجب رفع الحرام بترك السكوت أم لا؟ و فيه إشكال. (1)

تصوير سائر أقسام إلقاء الغير في الحرام

______________________________

(1) لا يخفى أنّ العلّة التامّة مركّبة من ثلاثة أجزاء أصلية: المقتضي، و اجتماع الشروط، و ارتفاع الموانع، فإذا تحققت الأجزاء الثلاثة برمّتها وجب قهرا تحقّق المعلول.

و المراد بالمقتضي- و يقال له السبب أيضا- المؤثّر الذي يترشح منه وجود

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 26

..........

______________________________

المعلول، و المراد بالشرط ماله دخل في فاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل، و المراد بالمانع ما يمنع من تأثير المقتضي أثره. فالنار مثلا مقتضية للإحراق، و المجاورة لها شرط لتأثيرها، و رطوبة الشي ء مانعة عنه.

و الظاهر أنّ المصنّف أراد من تربيع الأقسام بيان أنّ عمل الشخص إمّا أن يكون علّة تامّة لفعل الغير، و إمّا أن يكون من أجزاء علّته بنحو الاقتضاء، أو الشرطيّة، أو عدم المانع، فهذه أربعة أقسام:

فالقسم الأوّل أعني الإكراه عنده من قبيل العلّة التامّة، و قد مرّت مناقشة الأستاذ الإمام في ذلك.

و جعل القسم الثاني أعني تقديم العالم شيئا محرّما للجاهل من قبيل المقتضي و السبب لصرفه في الحرام، ثمّ حكم بحرمة ذلك لاستناد الفعل إليه عرفا و كونه في ذلك أقوى من المباشر الجاهل و لذا يستقرّ الضمان عليه في باب الإتلاف إن لم نقل بتوجّهه إليه ابتداء، و لا محالة أراد المصنّف صورة العلم

بصرفه في الحرام أو كونه معرضا لذلك، فلو علمنا بأنّه لا يصرفه إلّا في الحلال كالاستصباح مثلا فلا سببيّة للحرام كما هو واضح.

و جعل القسم الثالث من قبيل الشروط و جعله على وجهين، إذ عمل الشخص إما أن يكون من قبيل إيجاد الداعي أو العناد في قلب المباشر، و إمّا أن يكون من قبيل إيجاد بعض المقدّمات الخارجيّة لفعله كبيع العنب ممن يعلم أنّه يصنعه خمرا.

و جعل القسم الرابع أعني السكوت في قبال عمل المباشر من قبيل عدم المانع، و قسّمه إلى قسمين: تارة مع الحرمة الفعليّة بالنسبة إلى الفاعل كسكوت الشخص عن المنع من المنكر، و أخرى مع عدم الحرمة الفعليّة في حقّه لكونه جاهلا.

[جهات من البحث حول كلام المصنف]
اشارة

إذا عرفت ما ذكرنا فلنتعرّض حول كلام المصنف لجهات:

الجهة الأولى: [التهافت في كلام المصنف]

قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّ في كلام المصنّف تهافتا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 27

..........

______________________________

واضحا، حيث جعل ما نحن فيه تارة من القسم الثاني و أخرى من القسم الرابع.

و يمكن توجيهه بوجهين: الأوّل: أن يراد بالفرض الذي أدخله في القسم الثاني فرض إعطاء الدهن المتنجّس للغير الجاهل فإنّه لا يخلو من التسبيب إلى الحرام، و بالفرض الذي جعله من القسم الرابع فرض الثوب المتنجّس الذي يصلّي فيه، المذكور في سؤال السيّد المهنّا، حيث إنّه ليس فيه تسبيب بل يكون من قبيل عدم المانع.

الوجه الثاني: أن يراد في كلا الموردين مسألة إعطاء الدهن المتنجّس للغير مع الالتزام فيها باختلاف الجهتين، بأن يكون الملحوظ في القسم الثاني كونه تسبيبا لإيقاع الجاهل في الحرام، و في القسم الرابع حرمة السكوت نفسا مع قطع النظر عن التسبيب.» «1»

أقول: الظاهر أنّ الوجه الأوّل أولى، إذ الثاني لا يخلو من تكلّف، مضافا إلى استلزامه لكون الشخص بفعل واحد مرتكبا لمعصيتين: معصية التسبيب إلى الحرام و معصية السكوت في قباله، و يشكل الالتزام بذلك.

الجهة الثانية: [تقديم العالم شيئا محرّما للجاهل من قبيل السبب أو المقتضي]

جعل المصنّف «ره» القسم الثاني أعني تقديم العالم شيئا محرّما للجاهل من قبيل السبب أي المقتضي.

و الظاهر عدم صحّة ذلك، إذ قد عرفت أنّ المقتضي ما منه وجود المعلول كالنار للإحراق مثلا، و لا يخفى أنّ فعل المباشر معلول لإرادة نفسه بمبادئها النفسانيّة من تصوّر الفعل و التصديق بفائدته و الميل و الشوق، و أمّا الشي ء المشتاق إليه فموضوع للإرادة و شرط لتحقّقها و فعلها، و الشرط ما له دخل في فاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل.

و بالجملة فإعطاء الشي ء للفاعل المباشر من شروط فعله، كسائر الشروط المذكورة في القسم الثالث، و لا يصحّ عدّه

سببا له، و بذلك صرّح المحقّق الإيرواني «ره» في حاشيته، قال: «لم يتّضح لي الفرق بين هذا و لا حقه بقسميه حتى يصحّ عدّ هذا قسما برأسه و تسميته بالسبب و ذاك بالشرط، فإنّ تقديم الطعام أيضا قد

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 123.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 28

..........

______________________________

يكون من قبيل إيجاد الداعي على الأكل، و قد يكون من قبيل التمكين منه مع وجود الداعي كما في بيع العنب لمن يعمله خمرا.» «1»

الجهة الثالثة: [التقسيم في كلام المصنف]

لا يخفى أنّ تقسيم المصنّف في المقام- مضافا إلى كون بعض تعبيراته على خلاف المصطلحات العلميّة كما مرّ- لا يفيد في المقام، إذا التقسيم يجب أن يكون بلحاظ اختلاف الأقسام في الأحكام و كون كلّ قسم موضوعا لحكم خاصّ، و الأقسام الأربعة في كلام المصنّف ليست كذلك.

و قد صرّح بهذه النكتة المحقّق الإيرواني و مصباح الفقاهة. «2»

و الأولى في مقام التقسيم أن يقال: إنّ صدور الفعل عن المباشر إمّا أن يقع عصيانا و طغيانا على المولى متّصفا بالحرمة الفعليّة، و إمّا أن لا يكون كذلك، بل يقع منه عن اضطرار أو إكراه رافع للحرمة أو جهل يعذر فيه.

و الجهل إمّا أن يكون بالحكم الكلّي الإلهي و إمّا أن يكون بالموضوع، و الموضوع إمّا أن يكون بواقعه موضوعا للحكم الشرعي كالنجس بالنسبة إلى حرمة الأكل، و إمّا أن يكون العلم مأخوذا فيه كالنجس بالنسبة إلى الصلاة فيه حيث إنّ المانع عن صحّتها هو العلم بالنجاسة لا النجاسة الواقعيّة.

ثم الموضوع إمّا أن يكون من الأمور المهمّة التي لا يرضى الشارع بتحقّقها من أيّ شخص كان و في أيّ حال كان كما في الدّماء و الفروج و الأموال، و مثلها الأمور المرتبطة بحفظ نظام

المسلمين و كيانهم، و إمّا أن لا يكون كذلك بل من المحرّمات الجزئية الشخصيّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى المباشر.

و أمّا غير المباشر فإمّا أن يقع منه عمل وجودي من التسبيب أو الإغراء أو إيجاد الدّاعي، و إما أن لا يقع منه إلّا السكوت في قبال المباشر و عمله.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 9.

(2) راجع نفس المصدر السابق و الصفحة؛ و مصباح الفقاهة 1/ 121.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 29

..........

______________________________

فهذا ملخّص تقسيم مورد البحث بلحاظ اختلاف أحكامه.

فهنا مسائل:
1- أن يقع الفعل عن المباشر عن عصيان و طغيان،

ففي هذه الصورة يقع التسبيب إليه و إغراؤه و تشويقه و إيجاد الداعي بالنسبة إليه حراما قطعا لا لقوّة السبب بل لأنّ التسبيب إلى المنكر و الإغراء إليه قبيح عقلا و محرّم شرعا و من أظهر مصاديق الإعانة على الإثم مطلقا سواء قوي السبب أم ضعف.

و من هذا القبيل توصيف الخمر له مثلا بأوصاف مشوّقة ليشربها، أو سبّ آلهة المشركين الموجب لسبّهم الإله، قال اللّه- تعالى-: وَ لٰا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ فَيَسُبُّوا اللّٰهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ. «1»

و بذلك يعلم أنّ بيع العنب بقصد أن يجعل خمرا حرام قطعا، و كذا إيجاد الداعي في نفس المشتري لذلك، و أمّا بيعه ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا بدون قصد ذلك و بدون إيجاد الداعي في نفسه فهل يصدق عليه الإعانة على الإثم أم لا؟ فيه كلام، و الأخبار الصحيحة وردت بجوازه، و سيأتي البحث فيه في النوع الثاني. هذا.

و كما يحرم الإغراء على المنكر يحرم السكوت في قباله أيضا، لوجوب النهي عن المنكر مع تحقّق شرائطه.

و أمّا إذا كان صدور الفعل عن المباشر لا عن عصيان و طغيان بل لعذر رافع للحرمة فعلا من اضطرار أو إكراه أو

جهل،

2- فإن كان عن اضطرار

فالتسبيب إلى فعله و الإغراء عليه حينئذ لا يحرم بل قد يجب حفظا لنفس المضطرّ.

3- و إن كان عن إكراه رافع للحرمة

فلا يجوز معاونته في فعل الحرام، و عمل المكره بنفسه محرّم لا لأقوائيّته بل لكونه ظلما في حقّ المكره و تسبيبا إلى الحرام،

______________________________

(1) سورة الأنعام (6)، الآية 108.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 30

..........

______________________________

و هما بنفسهما محرّمان كما مرّ، و وزر المكره عليه كما أنّ ضمان إتلافه يستقرّ عليه إن لم نقل بتوجّهه إليه ابتداء.

4- و إن كان عن جهل يعذر فيه و كان الجهل بالحكم الكلي

وجب على العالم إعلامه مطلقا لوجوب إرشاد الجاهل و تبليغ أحكام اللّه- تعالى- نسلا بعد نسل إلى يوم القيامة، كما يشهد بذلك الكتاب و السنّة:

قال اللّه- تعالى: فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ «1»

و في موثقة طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قرأت في كتاب عليّ عليه السّلام: إنّ اللّه لم يأخذ على الجهّال عهدا بطلب العلم حتّى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهّال، لأنّ العلم كان قبل الجهل.» «2»

5- و إن كان الجهل بالموضوع و كان العلم مأخوذا في الموضوع

فالظاهر عدم وجوب الإعلام، كمن رأى نجاسة في ثوب المصلّي، لما مرّ من أنّ المانع عن صحّة الصلاة هو العلم بالنجاسة لا النجاسة الواقعيّة.

و قد مرّت موثقة ابن بكير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه و هو لا يصلّي فيه؟ قال: «لا يعلمه.» قال: قلت: فإن أعلمه؟ قال: «يعيد.» «3»

و الأمر بالإعادة محمول على الاستحباب أو كون الإعلام في أثناء الصلاة.

و في صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما و هو يصلّي؟ قال: «لا يؤذنه حتّى ينصرف.» «4»

6- و إن لم يكن العلم مأخوذا في موضوع الحكم

بل كان الموضوع بواقعه

______________________________

(1) سورة التوبة (9)، الآية 122.

(2) الكافي 1/ 41، كتاب فضل العلم، باب بذل العلم، الحديث 1.

(3) الوسائل 2/ 1069، الباب 47 من أبواب النجاسات، الحديث 3، و مرّت في ص 12.

(4) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 31

..........

______________________________

مبغوضا للمولى غاية الأمر جهل المباشر به جهلا يعذر فيه فهل يجوز من الغير التسبيب و الإغراء إليه كتقديم الطعام النجس أو الحرام إليه ليأكله مع جهله أم لا؟

الظاهر أيضا الحرمة كما مرّ، لاستظهار ذلك من الأخبار الدالّة على وجوب الإعلام في الدهن المتنجّس لمن يشتريه، و عدم جواز بيع المختلط بالميتة إلّا لمن يستحلّها، و عدم جواز بيع العجين بالماء النجس إلّا لمن يستحلّ الميتة و نحو ذلك ممّا مرّ.

و قد مرّ منّا بيان أنّ الأحكام الواقعيّة ليست مقيدة بعلم المكلفين بها و أنّها ليست جزافيّة بل تابعة للمصالح و المفاسد النفس الأمريّة، و الغرض من البعث أو الزجر ليس إلّا تحصيل المصالح الملزمة و الاحتراز عن المفاسد

الملزمة، و كون المباشر معذورا لجهله لا يصحّح فعل العالم. و كما يحرم مخالفة التكاليف و أغراض المولى مباشرة، يحرم مخالفتها بالتسبيب أيضا بإلقاء الجاهل فيها، فتأمّل.

و لا نريد بذلك صحّة إسناد فعل المباشر إلى السّبب حتّى يناقش في ذلك بأنّ شرب الخمر مثلا صدر عن المباشر الجاهل لا عمّن قدّمها له، بل نريد بيان أن نفس التسبيب بما أنّه موجب لصدور مبغوض المولى و نقض غرضه يكون محرّما شرعا.

قال الأستاذ الإمام «ره» في هذا المجال ما لفظه: «و لا يبعد أن يكون مراد الشيخ من كون فعل الشخص سببا للحرام و قوّة السبب و ضعف المباشر ما أشرنا إليه من أنّ الفعل المجهول بقي على مبغوضيّته، و معه لا يجوز التسبيب إلى ارتكاب الجاهل، و أنّ وجود المبغوض مستند إلى السبب بنحو أقوى، و ليس مراده صدق آكل النجس و شاربه على السبب حتّى يستشكل عليه بأن عنوان المحرّم إذا كان اختيار مباشرة الفعل كما هو ظاهر أدلّة المحرّمات لا ينسب إلى السبب بل و لا إلى العلّة التامّة، فمن أوجر الخمر في حلق الغير قهرا لا يصدق عليه أنّه شرب الخمر، بل في مثله لا يتحقّق عنوان المحرّم رأسا فإنّ الشارب غير مختار، و العلّة غير شارب.» «1»

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 97 (ط. الجديدة 1/ 145). و المستشكل هو المحقّق الشيرازي في حاشيته على المكاسب، ص 21 و 22.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 32

إلّا إذا علمنا من الخارج وجوب دفع ذلك لكونه فسادا قد أمر بدفعه كلّ من قدر عليه، كما لو اطّلع على عدم إباحة دم من يريد الجاهل قتله، أو عدم إباحة عرضه له، أو لزم من سكوته ضرر

ماليّ قد أمرنا بدفعه عن كلّ أحد، فإنّه يجب الإعلام و الردع لو لم يرتدع بالإعلام، بل الواجب هو الردع و لو بدون الإعلام. ففي الحقيقة الإعلام بنفسه غير واجب (1).

و أمّا فيما تعلّق بغير الثلاثة من حقوق اللّه فوجوب دفع مثل هذا الحرام مشكل، لأنّ الظاهر من أدلّة النهي عن المنكر وجوب الردع عن المعصية فلا يدلّ على وجوب إعلام الجاهل بكون فعله معصية.

نعم وجب ذلك فيما إذا كان الجهل بالحكم لكنّه من حيث وجوب تبليغ التكاليف ليستمر التكاليف إلى آخر الأبد بتبليغ الشاهد الغائب.

______________________________

(1) ما ذكرنا إلى الآن كان فيما إذا صدر عن غير المباشر عمل وجودي من التسبيب و الإغراء و نحوهما.

7- و أمّا إذا لم يكن منه إلّا السكوت في قبال عمل المباشر

فإمّا أن يكون مع علم المباشر بحرمة فعله، و إمّا أن يكون مع جهل يعذر فيه، ثمّ الجهل إمّا أن يكون بالحكم الكلّي أو بالموضوع الخارجي. و المحرّم إمّا أن يكون من الأمور المهمّة و إمّا أن يكون من المحرّمات العادية.

أمّا مع علم المباشر بالحرمة الفعليّة فقد مرّ عدم جواز السكوت في قباله لوجوب النهي عن المنكر بشرائطه. و كذا مع الجهل بالحكم الكلّي لوجوب إرشاد الجاهل و تبليغ الأحكام كما مرّ.

و أمّا مع الجهل بالموضوع ففي الأمور المهمّة يجب الإعلام بل الردع إن لم يرتدع بمجرد الإعلام كما في المتن و يظهر من المصنّف حصرها في الثلاثة، أعني الدماء

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 33

فالعالم في الحقيقة مبلّغ عن اللّه ليتمّ الحجّة على الجاهل و يتحقّق فيه قابليّة الإطاعة و المعصية.

[استدل على وجوب الإعلام بأنّ النجاسة عيب خفيّ]

ثمّ إنّ بعضهم استدل على وجوب الإعلام بأنّ النجاسة عيب خفيّ فيجب إظهارها. (1)

______________________________

و الفروج و الأموال، مع أنّ المصالح العامّة كحفظ نظام المسلمين و كيانهم مثلا من أهم المسائل التي يجب رعايتها بأيّ نحو كان.

و أمّا في المحرمات العادية الجزئية فلا دليل على وجوب الإعلام و الأصل يقتضي العدم، بل يمكن القول بحرمته إن أوجب العسر أو الأذى. و قد دلّت الأخبار و الفتاوى على عدم وجوب السؤال و التحقيق في الموضوعات، فلا يجب الإعلام فيها أيضا و لا يجري فيها أدلّة النهي عن المنكر و لا أدلّة وجوب إرشاد الجاهل، إذ المفروض جهل المباشر فلا يقع الفعل منه منكرا و أدلّة إرشاد الجاهل تختصّ بالأحكام الكليّة.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المفروض أنّ العمل بواقعه مبغوض للشارع لاشتماله على المفسدة الملزمة، فإذا أمكن المنع منه حكم العقل بلزومه حفظا لغرض

الشارع، نظير ما قلنا في مسألة تقديم الطعام النجس للجاهل، فتدبّر.

(1) في مفتاح الكرامة في مقام الاستدلال على وجوب الإعلام قال:

«و النجاسة عيب خفيّ يحرم كتمانه. قال في السرائر: إنّ كتمان العيوب مع العلم بها حرام و محظور بغير خلاف.» «1»

و اعترض على ذلك المصنّف- كما ترى في المتن- بوجهين.

و في مصباح الفقاهة بعد نقل الوجهين قال ما ملخّصه: «أنّ ما أفاده أوّلا و إن كان وجيها لكن الثاني غير وجيه، فإنّ النجاسة لا ينكر كونها عيبا سواء كانت من القبائح الواقعيّة أم لم تكن، بل ربما يوجب جهل المشتري بها تضرّره كما إذا اشترى

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 26، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 34

و فيه- مع أنّ وجوب الإعلام على القول به ليس مختصّا بالمعاوضات، بل يشمل مثل الإباحة و الهبة من المجانيّات- أنّ كون النجاسة عيبا ليس إلّا لكونه منكرا واقعيا و قبيحا، فإن ثبت ذلك حرم الإلقاء فيه مع قطع النظر عن مسألة وجوب إظهار العيب و إلّا لم يكن عيبا، فتأمّل.

______________________________

الدهن المتنجّس مع جهله بنجاسته و مزجه بدهنه الطاهر ثمّ اطّلع عليها، و لعلّه لذلك أمر بالتأمّل. و الذي يسهّل الخطب أنّه لا دليل على وجوب إظهار العيب الخفيّ في المعاملات، و إنّما الحرام هو غشّ المؤمن فيها. و من المعلوم أنّ رفع الغش لا ينحصر بإظهار العيب الخفيّ بل يحصل بالتبري عن العيوب أو باشتراط عدم صرفه فيما هو مشروط بالطهارة.» «1»

أقول: يمكن أن يقال أوّلا: إنّ العيب عبارة عن نقص في الشي ء بحسب ما يقتضيه طبعه، فإن كانت النجاسة أمرا واقعيا و خباثة ذاتيّة صحّ عدّها من عيوب الذوات الطاهرة كالدهن

و نحوه بخلاف ما إذا كانت من الأمور الاعتباريّة المحضة، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ملاك العيب موجود فيها و إن لم تكن منه.

و ثانيا: إنّ ظاهر أخبار الباب وجوب الإعلام للمشتري مطلقا و إن لم يجب إظهار العيوب في المعاملات، و حكمته المنع من التسبيب إلى الحرام و إلقاء المشتري في مفسدته الملزمة بأكله أو شربه، و مجرّد التبري من العيوب لا يكفي في زجر المشتري عن أكله.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 123.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 35

[3- الثالث: هل يجوز الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال؟]
اشارة

الثالث: المشهور بين الأصحاب وجوب كون الاستصباح تحت السّماء، بل في السّرائر: إنّ الاستصباح به تحت الظلال محظور بغير خلاف. و في المبسوط: إنه روى أصحابنا: «أنّه يستصبح به تحت السّماء دون السقف.»

لكن الأخبار المتقدّمة- على كثرتها و ورودها في مقام البيان- ساكتة عن هذا القيد، و لا مقيّد لها من الخارج عدا ما يدّعى من مرسلة الشيخ المنجبرة بالشهرة المحقّقة و الاتفاق المحكيّ. (1)

______________________________

3- هل يجوز الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال؟

[كلمات الأصحاب في المقام]

(1) قبل تحقيق المسألة لا بدّ أن نتعرّض لبعض كلمات الأصحاب في المقام:

1- قال المفيد في أطعمة المقنعة: «و إذا وقع ذلك في الدهن جاز الاستصباح به تحت السّماء، و لم يجز تحت الظلال. و لا يجوز أكله و لا الادّهان به على حال.» «1»

2- و في أطعمة النهاية: «و إن كان ما حصل فيه الميتة مائعا لم يجز استعماله و وجب إهراقه، فإن كان دهنا مثل البزر و الشيرج جاز الاستصباح به تحت السماء و لا يجوز الاستصباح به تحت الظلال و لا الادّهان به». «2»

______________________________

(1) المقنعة/ 582.

(2) النهاية/ 588.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 36

..........

______________________________

أقول: ظاهرهما عدم جواز الادّهان به و لو مع الالتزام بنجاسته و غسله للصلاة، و الالتزام بذلك مشكل.

3- و في بيع الخلاف (المسألة 312): «يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السّماء. و قال أبو حنيفة: يجوز بيعه مطلقا، و قال مالك و الشافعي: لا يجوز بيعه بحال. دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم. و أيضا قوله- تعالى-: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا و قوله: إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و هذا بيع و تجارة ...» «1»

أقول: هو «قده» في مقام الإفتاء قيّد

الاستصباح بكونه تحت السّماء، و لكن استدلاله بإجماع الفرقة و غيره لأصل جواز البيع في قبال مالك و الشافعي. و بعبارة أخرى: الأدلّة التي ذكرها من الإجماع و غيره لعقد الإثبات دون عقد النفي، فتدلّ هي على جواز الاستصباح به تحت السّماء لا عدم الجواز تحت الظلال. و لو لم يكن كلماته الأخر أمكن حمل قوله هنا: «تحت السّماء» على التغليب لا التقييد، من جهة أنّ مصرف الدّهن النجس في تلك الأعصار كان بحسب الغالب منحصرا في الاستصباح به تحت السّماء لئلّا تتلوّث وسائل التعيش و سقوف البيوت.

4- و في بيع المبسوط: «يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السّماء و لا يجوز إلّا لذلك.» «2»

أقول: هل المشار إليه باسم الإشارة أصل الاستصباح، أو كونه تحت السّماء أو هما معا؟ كلّ محتمل.

5- و في أطعمة المبسوط: «و رووا أصحابنا: «أنّه يستصبح به تحت السّماء دون السقف». و هذا يدلّ على أنّ دخانه نجس، غير أنّ عندي أنّ هذا مكروه ... فأمّا ما يقطع بنجاسته، قال قوم: دخانه نجس، و هو الذي دلّ عليه الخبر الذي قدّمناه

______________________________

(1) الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83)، كتاب البيوع.

(2) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 37

..........

______________________________

من رواية أصحابنا، و قال آخرون- و هو الأقوى عندي-: إنّه ليس بنجس.» «1»

أقول: نسب التقييد بكونه تحت السّماء إلى رواية الأصحاب و جعلها دالّة على نجاسة دخانه، فيظهر منه أنّ التقييد لا يكون من باب التعبّد المحض، بل القول به ناش عن القول بنجاسة الدخان. و لكن هو بنفسه أنكرهما معا و حكم بالكراهة تحت السقف،

فلا يكون الجواز عنده مقيّدا بوقوعه تحت السّماء خلافا لما مرّ عن نهايته.

6- و في أطعمة السرائر: «و إن كان دهنا مثل الشيرج و البزر جاز الاستصباح به تحت السّماء، و لا يجوز الاستصباح به تحت الظلال، لا لأنّ دخانه نجس، بل تعبّد تعبّدنا به لأنّ دخان الأعيان النجسة و رمادها طاهر عندنا بغير خلاف بيننا.

و لا يجوز الادّهان به و لا استعماله في شي ء من الأشياء سوى الاستصباح تحت السّماء.» ثمّ حكى كلام الشيخ في أطعمة المبسوط ثمّ قال: «قال محمّد بن إدريس: ما ذهب أحد من أصحابنا إلى أنّ الاستصباح به تحت الظلال مكروه، بل محظور بغير خلاف بينهم. و شيخنا أبو جعفر محجوج بقوله في جميع كتبه إلّا ما ذكره هاهنا. فالأخذ بقوله و قول أصحابه أولى من الأخذ بقوله المنفرد عن أقوال أصحابنا. فأمّا بيعه فلا يجوز إلّا بشرط الاستصباح به تحت السّماء دون الظلال.» «2»

7- و العلامة في أطعمة المختلف بعد نقل كلامي المبسوط و السرائر قال: «هذا الردّ على شيخنا جهل منه و سخف، فإنّ الشيخ- رحمه اللّه- أعرف بأقوال علمائنا و المسائل الإجماعيّة و الخلافيّة. و الروايات الواردة هنا في التهذيب مطلقة غير مقيّدة بالسّماء.» ثمّ تعرّض لنقل الروايات ثمّ قال: «إذا عرفت هذا فنقول:

لا استبعاد فيما قاله شيخنا في المبسوط من نجاسة دخان الدهن النجس لبعد استحالة

______________________________

(1) المبسوط 6/ 283، كتاب الأطعمة، حكم ... الاستصباح بالزيت النجس.

(2) السرائر 3/ 121 و 122.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 38

..........

______________________________

كلّه، بل لا بدّ و أن يتصاعد من أجزائه قبل إحالة النار لها بسبب السخونة المكتسبة من النار إلى أن تلقى الظلال فتتأثّر بنجاسته، و لهذا منعوا من

الاستصباح به تحت الظلال، فإنّ ثبوت هذا القيد مع طهارته ممّا لا يجتمعان، لكن الأولى الجواز مطلقا للأحاديث ما لم يعلم أو يظنّ بقاء شي ء من أعيان الدهن فلا يجوز الاستصباح به تحت الظلال.» «1»

أقول: فالعلّامة ينكر التعبّد المحض في المسألة و يجعل التقييد مستندا إلى القول بنجاسة دخان الدهن المتنجّس. هذا.

8- و في أطعمة المهذّب لابن البرّاج: «و إذا وقع شي ء من ذوات الأنفس السائلة في شي ء نجّسه، فإن كان ما وقع فيه مائعا مثل الزيت و الشيرج و ما أشبه ذلك من الأدهان لم يجز استعماله في أكل و لا غيره إلا في الاستصباح به تحت السّماء، و لا يجوز الاستصباح به تحت السّقف و لا ما يستظلّ به الإنسان.» «2»

9- و في بيع الغنية في شرائط المبيع قال: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرزا ممّا لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها. و قيّدنا بكونها مباحة تحفّظا من المنافع المحرّمة. و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السّماء و هو إجماع الطائفة.» «3»

أقول: هل الضمير في قوله: «و هو إجماع الطائفة» يرجع إلى اشتراط الانتفاع به، أو قيد كونها مباحة، أو المستثنيان، أو الأخير منهما، أو جميع ذلك؟ كلّ محتمل. و على فرض الرجوع إلى الجميع أو الأخير فالإجماع على عقد الإثبات

______________________________

(1) المختلف/ 685 و 686 (الجزء الخامس، ص 133)، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الخامس.

(2) المهذّب 2/ 432.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 39

..........

______________________________

لا عقد النّفي أعني عدم الجواز تحت السقف لعدم التعرّض له في كلامه،

إلّا أن يقال بظهور القيد في نفي غيره و ظاهر القيد الدخالة فلا يحمل على كونه للتغليب.

و كيف كان فالمستفاد من كلامه وجود الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي ء و بين جواز بيعه كما كنّا نصرّ عليه في بحثنا.

10- و في أطعمة الشرائع: «و لو كان المائع دهنا جاز الاستصباح به تحت السّماء، و لا يجوز تحت الأظلّة. و هل ذلك لنجاسة دخانه؟ الأقرب لا بل هو تعبّد.» «1»

أقول: التعبّد المحض في أمثال المقام بعيد جدّا، لعدم ابتناء أحكام المعاملات على أساس مصالح سرّية غيبيّة لا يعلمه إلّا اللّه- تعالى-، و إنّما يصحّ ذلك في باب العبادات المبنية غالبا على أساس التعبّد المحض.

11- و في أطعمة المختصر النافع: «و لو كان المائع دهنا جاز بيعه للاستصباح به تحت السّماء خاصّة لا تحت الأظلّة.» «2»

12- و في أطعمة القواعد للعلّامة: «و لو كان مائعا نجس و جاز الاستصباح به إن كان دهنا تحت السّماء لا تحت الظلال.» «3»

أقول: قد طال نقل الأقوال في المقام فأعتذر من القرّاء الكرام.

و غرضنا من ذلك إثبات أنّ التقييد مذكور في كثير من كلمات الأصحاب حتّى من القدماء في كتبهم المعدّة لنقل المسائل الأصليّة المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام كالمقنعة و النهاية و المهذّب و الغنية، على ما كان يصرّ عليه الأستاذ المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- من تقسيم مسائل الفقه إلى قسمين: المسائل الأصليّة

______________________________

(1) الشرائع/ 754 (ط. أخرى 3/ 226).

(2) المختصر النافع 2/ 254.

(3) القواعد 2/ 158.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 40

..........

______________________________

المأثورة و المسائل التفريعيّة المستنبطة.

فالظاهر صحّة ما في المتن من نسبة التقييد إلى المشهور، و كان الأستاذ «ره» يقول بحجّية الشهرة في المسائل المأثورة. و

ما في بعض الكلمات من منع الشهرة في المقام ناش من عدم مراجعة كلمات الأصحاب.

نعم، ذكر في بعض العبارات الاستصباح بنحو الإطلاق و منها كلام الشيخ في أطعمة الخلاف (المسألة 19)، قال: «إذا ماتت الفأرة في سمن أو زيت أو شيرج أو بزر نجس كلّه و جاز الاستصباح به، و لا يجوز أكله و لا الانتفاع به لغير الاستصباح، و به قال الشافعي. و قال قوم من أصحاب الحديث: لا ينتفع به بحال لا بالاستصباح و لا غيره بل يراق كالخمر. و قال أبو حنيفة: يستصبح به و يباع أيضا للاستصباح ...» «1»

و قد مرّ منه في أطعمة المبسوط «2» أيضا منع التقييد و النجاسة معا و اختار الكراهة.

فهو بنفسه خالف ما أفتى به هو في النهاية و شيخه في المقنعة من التقييد، مع تصريحه في أوّل المبسوط بتأليفه النهاية لذكر خصوص المسائل الأصليّة المأثورة.

و بالجملة فالمشهور بين الأصحاب هو التقييد و إن كانت المسألة خلافيّة.

و أمّا أخبار المسألة المرويّة بطرق الفريقين كما مرّت- على كثرتها و ورودها في مقام البيان- فهي ساكتة عن هذا القيد- كما في كلام المصنّف- و لا دليل على تقييدها عدا مرسلة الشيخ في المبسوط المدّعى انجبارها بالشهرة المحقّقة و عدم الخلاف الذي مرّ عن السّرائر. فالمسألة في غاية الإشكال.

______________________________

(1) الخلاف 6/ ... (ط. أخرى 3/ 269)، كتاب الأطعمة.

(2) المبسوط 6/ 283، كتاب الأطعمة، حكم ... الاستصباح بالزيت النجس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 41

[حكم دخان الشي ء النجس من جهة الطهارة و النجاسة]

لكن لو سلّم الانجبار فغاية الأمر دورانه بين تقييد المطلقات المتقدّمة أو حمل الجملة الخبريّة على الاستحباب أو الإرشاد لئلّا يتأثّر السقف بدخان النجس الذي هو نجس، (1) بناء على ما ذكره الشيخ من

دلالة المرسلة على نجاسة دخان النجس، إذ قد لا يخلو من أجزاء لطيفة دهنيّة تتصاعد بواسطة الحرارة.

______________________________

حكم دخان الشي ء النجس من جهة الطهارة و النجاسة

(1) الأولى أن نتعرّض أوّلا بنحو الإجمال لحكم دخان الشي ء النجس من جهة الطهارة و النجاسة، ثمّ نتعرّض لأصل البحث، فنقول:

قال الشيخ في أطعمة الخلاف، (المسألة 20): «إذا جاز الاستصباح به فإنّ دخانه يكون طاهرا و لا يكون نجسا. و قال الشافعي: فيه و جهان: أحدهما مثل ما قلناه، و الثاني و هو الصحيح عندهم أنّه يكون نجسا، ثمّ ينظر فإن كان قليلا مثل رءوس الإبر فإنّه معفوّ عنه، و إن كان كثيرا وجب غسله. دليلنا: أنّ الأصل الطهارة و براءة الذمّة، و الحكم بالنجاسة و شغل الذمّة يحتاج إلى الدليل.» «1»

و قال في أطعمة المبسوط في البحث عن الدهن النجس: «فأمّا دخانه و دخان كلّ نجس من العذرة و جلود الميتة كالسرجين و البعر و عظام الميتة عندنا ليس بنجس.» «2»

و قد مرّ في هذا المجال عن السرائر قوله: «إنّ دخان الأعيان النجسة و رمادها طاهر عندنا بغير خلاف بيننا.» «3»

و عن العلّامة في المختلف قوله: «لا استبعاد فيما قاله شيخنا في المبسوط من نجاسة دخان الدهن النجس لبعد استحالة كلّه ... لكن الأولى الجواز مطلقا للأحاديث ما لم يعلم أو يظنّ بقاء شي ء من أعيان الدهن. فلا يجوز الاستصباح

______________________________

(1) الخلاف 6/ ... (ط. أخرى 3/ 269)، كتاب الأطعمة.

(2) المبسوط 6/ 283.

(3) السرائر 3/ 121، كتاب الأطعمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 42

..........

______________________________

به تحت الظلال». «1» هذا.

و يظهر منهم تسليم عدم الجواز على فرض نجاسة الدخان، مع أنّه غير واضح لعدم الدليل على حرمة تنجيس سقوف البيوت. نعم،

لا يجوز ذلك في سقوف المساجد.

و دليلهم على الطهارة استحالة الشي ء النجس و تبدّله إلى ذات أخرى فلم يبق موضوع النجاسة.

توضيح ذلك: أنّ التبدّل قد يقع في أوصاف الشي ء و العوارض الشخصيّة أو الصنفيّة له مع بقاء الحقيقة النوعيّة بحالها، كتبدّل القطن خيطا أو ثوبا أو الحنطة دقيقا أو خبزا مثلا، و قد يقع في الصورة النوعيّة المقوّمة للشي ء عرفا، كتبدّل النبات أو لحم الحيوان إلى جزء من حيوان آخر بأكله له، أو تبدّل الكلب إلى التراب أو الملح بوقوعه في المملحة.

فالقسم الأوّل لا يوجب الطهارة لبقاء النجس بحاله و إن تبدّلت عوارضه. و أمّا القسم الثاني فيطلق عليه الاستحالة و عدّوها من المطهرات.

و السرّ في ذلك أنّ الحكم- كالنجاسة مثلا- تابع لموضوعه من العذرة و البول و الدم و أمثال ذلك، فإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم قهرا، و المفروض أنّ بالاستحالة الذاتيّة ينعدم عند العرف و العقلاء موضوع النجاسة و يتحقّق موضوع جديد، فإن كان لنا على طهارة الموضوع الجديد بعنوانه العامّ دليل اجتهادي حكمنا بطهارة هذا الشي ء بما أنّه مصداق له، و إلّا فأصل الطهارة يكفي في الحكم بطهارته لجريانه في الشبهات الحكميّة أيضا.

بل و مع الشك في تحقّق الاستحالة الذاتيّة أيضا ربّما يقال بالطهارة، إذ لا نحتاج إلى إحراز عنوان الاستحالة لعدم ذكرها في الأدلّة. فإذا شككنا في بقاء موضوع النجاسة لم يحرز شمول دليلها له، و لا يجري استصحابها و لا استصحاب

______________________________

(1) المختلف/ 686، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الخامس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 43

..........

______________________________

موضوعها، إذ هو إبقاء ما كان فيعتبر فيه بقاء الموضوع عرفا بحيث يتّحد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة، و المفروض في المقام هو الشكّ في

بقاء الموضوع. هذا.

و لكن الظاهر جريان استصحاب الموضوع مع الشكّ فيه، إذ القضيّة في قولنا:

«هذا كان كلبا» و إن كانت هليّة مركبّة لا بسيطة لكن الموضوع فيها هي الصورة الجنسيّة لا النوعيّة و هي المشار إليها بقولنا: «هذا»، و مع الشكّ في الاستحالة هي باقية قطعا فنقول: هذا الجسم الخارجي كان كلبا و الآن نشكّ في بقائه كلبا فنستصحب بقاء الصورة النوعيّة له فيجرى عليها حكمها، فتدبّر.

و لو استحال النجس إلى نجس آخر كلحم الميتة أكله الكلب فصار جزء لبدنه أو الماء النجس شربه فصار بولا له كان محكوما بالنجاسة أيضا و لكن بنجاسة جديدة يترتّب عليها آثارها لا آثار النجاسة الأوّلية. هذا.

و بما ذكرنا يظهر لك أنّ عدّ الاستحالة من المطهرات لا يخلو من مسامحة واضحة، إذ التطهير إنّما يصدق مع بقاء الموضوع الذي كان نجسا، و في الاستحالة لا يبقى الموضوع الأوّل حتّى يعرضه الطهارة، بل ينعدم و يحدث موضوع جديد.

ففي المقام ما كان نجسا هو الدهن، و المفروض عدم بقائه، و إنّما يصدق على الباقي عنوان الدخان و البخار و لا دليل على نجاستهما كما هو واضح.

نعم هنا إشكال تعرّض له الشيخ «ره» في خاتمة الاستصحاب من الرسائل.

و محصّله بتوضيح منا: «الفرق بين استحالة النجس الذاتي و المتنجّس فيحكم بالطهارة في الأوّل دون الثاني، إذ الموضوع للنجاسة الذاتيّة الصورة النوعيّة، من العذرة و البول و الدم و أمثالها، فإذا ارتفعت بالاستحالة ارتفع حكمها قهرا، و أمّا في المتنجّسات فالنجاسة تعرض للصورة الجنسيّة أعني الجسم لا النوعيّة من الخشب و نحوه. فالخشب مثلا بملاقاته للنجاسة ينجس بما أنّه جسم لاقى نجسا لا بما أنّه خشب إذ لا خصوصيّة لعنوان الخشبيّة في قبوله النجاسة،

فإذا استحال الخشب رمادا فالصورة النوعيّة و إن ارتفعت لكنّ النجاسة لم تعرض له بما أنّه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 44

..........

______________________________

خشب بل بما أنّه جسم لاقى نجسا، و هو بعد باق بحاله فلا مجال للقول بطهارته.» «1»

و أجاب الشيخ عن هذا الإشكال بما هذا لفظه: «إنّ دقيق النظر يقتضي خلافه، إذ لم يعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات محمولة على الصورة الجنسيّة و هي الجسم و إن اشتهر في الفتاوى و معاقد الإجماعات أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس إلّا أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم لبيان عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث سببيّة الملاقاة للنجس لا لبيان إناطة الحكم بالجسميّة.

و بتقرير آخر: الحكم ثابت لأشخاص الجسم فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه أو صنفه المتقوم به عند الملاقاة، فقولهم: «كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجس» لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرّض للمحلّ الذي يتقوّم به، كما إذا قال القائل: «إنّ كلّ جسم له خاصيّة و تأثير» مع كون الخواصّ و التأثيرات من عوارض الأنواع ...» «2»

أقول: ما ذكره «ره» بطوله لا تقنع به النفس، بداهة أنّ الجسم الخاصّ- كالحنطة مثلا- إذا تنجّس بالملاقاة لا يرى الوجدان لحيثيّة كونه حنطة دخلا في تأثّره بالنجاسة العارضة بحيث لو كان شعيرا مثلا لم يتأثّر بذلك، بل المتأثّر بها بحسب الوجدان هي الحيثيّة المشتركة بين الحنطة و الشعير أعني كونه جسما ملاقيا لنجس، و هذا بخلاف الخواصّ و الآثار الثابتة للأجسام فإنّ خاصية الحنطة ثابتة لها بما أنّها حنطة، كما أنّ خاصيّة الشعير تثبت له بما أنّه شعير. و بالجملة فاختلاف الأجسام

في الخواصّ و الآثار تابع لاختلافها في الصورة النوعيّة المقوّمة لكلّ منها، و هذا بخلاف التأثّر من النجاسة العارضة بالملاقاة فإنّ الأجسام مشتركة في ذلك و هذا

______________________________

(1) فرائد الأصول/ 400 (ط. أخرى 2/ 694)، خاتمة، شروط جريان الاستصحاب.

(2) نفس المصدر و الصفحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 45

..........

______________________________

يكشف عن كون معروضها الحيثيّة المشتركة أعني الجسميّة، فتدبّر. هذا.

و لكن لا يخفى أنّ بناء نظام الطبيعة على أساس تبدّل الأجسام و تغيّرها و وقوع الذوات النجسة و المتنجّسة في طريق تكوّن النبات و الحيوان و الإنسان، فكما تقع العذرات و الأبوال و الميتات و غيرها في طريق تكوّن النباتات و الحيوانات و تصير من أجزائها بالاستحالة فكذلك الأمر في المتنجّسات:

فينجذب التراب أو الماء المتنجّس إلى الأشجار و تنمو بها ثمارها، و تشرب أو تأكل البهائم و الطيور و الدّجاجات من المياه أو الأغذية المتنجّسة كثيرا بمرأى و منظر المسلمين في جميع الأعصار حتّى في أعصار الأئمة عليهم السّلام و مع ذلك جرت سيرتهم على معاملة الطهارة مع ثمار الأشجار و لحوم الحيوانات و ألبانها و أبوالها و أرواثها و بيض الدجاجات فيكشف هذا عن كون الاستحالة في المتنجّسات أيضا رافعة لحكمها، و لا يمكن القول بكون القذارة و الخباثة في المتنجّس أشدّ من النجس.

فإذا ارتفعت القذارة الذاتيّة بالاستحالة فارتفاع العرضية بها يثبت بالأولويّة الجليّة.

و لعلّ السرّ في ذلك أنّ في المتنجّس ما يكون في الحقيقة نجسا هو ذرّات النجس المنتقلة إليه بالملاقاة عرفا و شرعا لا ذات الخشب مثلا إلا بالعرض و المجاز، و باستحالة الخشب يستحيل هذه الذرات أيضا و تنعدم عرفا فلا يبقى موضوع للنجاسة.

و كيف كان فدخان الدهن المتنجّس طاهر مع استحالته

إليه.

نعم لو فرض تصاعد كثير من الأجزاء الدهنيّة معه بحيث يدرك العرف أيضا ذلك و ربّما يستشهدون لذلك بدسومة الدخان وجب الاجتناب حينئذ. و أمّا الأجزاء الصغار التي لا يدركها العرف و يحتاج في إدراكها إلى المكبّرات و الآلات الحديثة فلا حكم لها شرعا، و إلّا لتنجّس الهواء و الأشياء ببخار النجاسات و المتنجّسات و أرياحها لاستحالة انتقال العرض فتكشف الأرياح عن وجود الذرّات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 46

[ما يستدلّ به للتقييد بكون الاستصباح تحت السّماء]
اشارة

و لا ريب أنّ مخالفة الظاهر في المرسلة خصوصا بالحمل على الإرشاد أولى، (1) خصوصا مع ابتناء التقييد: إمّا على ما ذكره الشيخ من دلالة المرسلة على نجاسة الدخان المخالفة للمشهور، و إمّا على كون الحكم تعبّدا محضا و هو في غاية البعد. و لعلّه لذلك أفتى في المبسوط بالكراهة مع روايته المرسلة.

______________________________

ما يستدلّ به للتقييد بكون الاستصباح تحت السّماء

(1) أقول: إذا عرفت ما بيّناه في مسألة طهارة الدخان أو نجاسته بعنوان المقدّمة فلنرجع إلى أصل المسألة، فنقول: ما يستدلّ به لتقييد الاستصباح بكونه تحت السّماء وجوه:

الأوّل: عدم الخلاف المصرّح به في السّرائر كما مرّ.

و فيه: أنّ الشيخ مع إفتائه في النهاية بالتقييد صرّح في المبسوط بالكراهة كما مرّ و أفتى في أطعمة الخلاف أيضا بالإطلاق، و هو أعرف بالمسائل الإجماعية و الخلافيّة كما مرّ عن المختلف. و لو فرض ادعاء الإجماع في المسألة فحجّيته مع احتمال استناد المجمعين إلى الوجوه الآتية ممنوعة لعدم كشفها عن قول المعصومين عليهم السّلام.

الثاني: الشهرة المحقّقة،

و قد مرّت كلمات الأصحاب و إفتاؤهم بالتقييد حتّى في كتب القدماء المعدّة لنقل خصوص المسائل المأثورة كالمقنعة و النهاية و المهذّب و الغنية، فإنكار البعض لأصل الشهرة بلا وجه.

و فيه: أن كونها بحدّ تكشف كشفا قطعيا عن قول المعصوم عليهم السّلام غير واضح.

كيف و الشيخ بنفسه لم يعتن بها و أفتى في مبسوطه بالكراهة، و في أطعمة الخلاف أفتى بالإطلاق كما مرّ، و العلّامة أيضا مع إفتائه في القواعد بالتقييد أفتى في المختلف بالإطلاق إلّا مع العلم أو الظنّ بنجاسة الدخان.

و في الجواهر قال: «مال الشهيد الثاني إلى الإطلاق حاكيا له عن المبسوط و العلّامة في المختلف و موضع من الخلاف، و تبعه الأردبيلي و الخراساني فيما حكي، بل عن فخر المحققين أنّه قوّاه في الإيضاح، بل لعلّه هو الظاهر من إطلاق

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 47

..........

______________________________

المحكيّ عن أبي عليّ.» «1»

الثالث: مرسلة المبسوط

المتقدّمة المنجبر ضعفها بالشهرة المحقّقة و عدم الخلاف المحكيّ كما في المتن.

و فيها أوّلا: عدم ثبوت استنادهم إليها حتى ينجبر بذلك ضعفها، كيف و ليس فيها اسم في كثير من مؤلّفاتهم.

و ثانيا: و هنها بعدم نقل أصحاب الحديث إيّاها في أصولهم و جوامعهم الحديثيّة حتّى إنّ الشيخ أيضا لم يشر إليها في التهذيبين و لم يعمل بها في مبسوطه مع روايته لها، فكيف يقيّد بها الأخبار الكثيرة المرويّة بطرق الفريقين مع كونها في مقام البيان؟ خصوصا مع ابتناء التقييد- كما في المتن- إمّا على نجاسة الدخان المخالفة للمشهور، و إمّا على كون الحكم تعبّدا محضا، و هو في غاية البعد في غير المسائل العباديّة المبنيّة على المصالح الغيبية كما مرّ بيانه.

و ثالثا: أنّه على فرض صدورها عنهم عليهم السّلام يدور

أمرها بين تقييد المطلقات بها و بين حملها على الاستحباب أو الإرشاد، و لا ريب أن التصرّف في المرسلة بحملها على الإرشاد أولى- كما في المتن- و ليست كلمات الأئمة عليهم السّلام منحصرة في بيان الأحكام الشرعيّة، بل ربّما يقع منهم الإرشاد إلى ما هو صلاح المسلم المتعهّد، و قد كثرت الإرشادات في كلماتهم كما يظهر لمن تتّبع الأخبار الواردة و قد ذكروا في محلّه أنّ القيد الوارد في مورد الغالب لا مفهوم له كقيد:

«في حجوركم» في قوله- تعالى-: وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ «2» و حيث إنّ الاستصباح بالدهن المتنجّس في البيوت يوجب غالبا تلويث البيوت و وسائل التعيّش بالنجاسة، فمن له تعهّد و التزام بالشريعة المقدّسة لا ينتفع به غالبا إلّا تحت السّماء، فلعلّ الإمام عليه السّلام أراد بذكره الإرشاد إلى ذلك. و القيد لا يحمل على

______________________________

(1) الجواهر 22/ 15، كتاب التجارة، في بيان جواز التكسب بالأدهان المتنجّسة.

(2) سورة النساء (4)، الآية 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 48

..........

______________________________

الدخالة في الموضوع إلّا إذا لم يحرز له فائدة إلّا ذلك، و أمّا مع احتمال فائدة أخرى له فلا يرفع به اليد عن الإطلاقات الكثيرة الواردة في مقام البيان.

الرابع: أنّ الاستصباح به تحت الظلال يوجب تنجيس السقوف.

و قد مرّ عن المبسوط بعد نقل المرسلة: «أنّ هذا يدلّ على أنّ دخانه نجس». و يظهر من كلامه هذا أنّ نجاسته عندهم أوجبت الإفتاء بالمنع. و مرّ عن المختلف أيضا قوله: «لبعد استحالة كلّه، بل لا بدّ و أن يتصاعد من أجزائه قبل إحالة النار لها بسبب السخونة المكتسبة من النار إلى أن تلقى الظلال فتتأثّر بنجاسته، و لهذا منعوا من الاستصباح به تحت الظلال.» فجعل القول بالمنع مستندا إلى نجاسة الدخان.

و أورد

على ذلك في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «أوّلا: أنّ دخان النجس كرماده ليس بنجس للاستحالة. و مجرّد احتمال صعود الأجزاء الدهنيّة لا يمنع عن الإسراج به تحت الظلال لكونه مشكوكا. و ثانيا: أنّ الدليل أخصّ من المدّعى لأنّ الدخان قد لا يؤثّر في السقف إمّا لعلوّه أو لقلّة الزمان أو لخروجه من الأطراف أو لعدم الدخان فيه. و ثالثا: لا دليل على حرمة تنجيس السقف. نعم لا يجوز تنجيسه في المساجد و المشاهد.» «1» هذا.

و الأستاذ الإمام «ره» بعد الحكم بطهارة الدخان مع العلم بالاستحالة بل و مع الشك فيه أيضا- و إن استشكلنا في الثاني كما مرّ «2»- قال ما ملخّصه: «لكن مع ذلك كان الاحتياط حسنا لا سيّما إذا كانت الأدخنة كثيفة و الدهن غليظا تصير معرضية الأجزاء الدهنيّة للتصاعد قويّة.

ثمّ إنّ التدخين تحت الظلال إذا كان مدّة معتدّا بها يوجب تراكم الأدخنة و ورودها في منافذ البدن كالأذن و الأنف و الحلق، و تراكمها فيها ربّما يكون مظنّة اجتماع الأجزاء اللطيفة الدهنيّة غير المستحيلة و لا أقلّ من احتماله لا سيّما إذا

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 125.

(2) راجع ص 43 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 49

..........

______________________________

كانت البيوت ضيّقة و سقوفها منخفضة كما كانت كذلك في تلك الأعصار و لا سيّما مثل الأدهان في موارد السؤال.

فإذا ورد نهي عن الاستصباح بها تحت السقف و الأمر بالاستصباح بها تحت السّماء لا ينقدح في ذهن العقلاء منهما التعبّد المحض، بل المفهوم منهما بمناسبة الحكم و الموضوع أنّ النجاسة صارت موجبة للحكم بذلك فيفهم أهل العرف نجاسته إن كان الحكم بالتحرز إلزاميّا، و يعلم تخطئة الشارع للعرف في وقوع الاستحالة، أو حكم بلزوم

الاحتياط في الشبهة لمعرضية عدم الاستحالة فيه.

لكن مع ورود روايات كثيرة مطلقة في مقام البيان لم يكن فيها أثر من هذا القيد في مقابل رواية واحدة ناهية، يكون الجمع العقلائي بينهما حملها على الاحتياط الاستحبابي المطلوب في مثل المقام لا سيّما مع كونها مخالفة للأصول. و الحمل على التعبّد المحض غير مساعد لفهم العرف و العقلاء و مناسبات الحكم و الموضوع.

كما أنّ الحمل على لزوم الاحتياط و رفع اليد عن الأصول و القواعد و الإطلاقات الكثيرة الواردة في مقام البيان بعيد جدّا.

فما ربما يقال: إنّ مقتضى تعلّق الحكم بالعنوان و إطلاقه عدم جواز الاستصباح به و لو لحظة و لو كان السقف مرتفعا إلى الثريّا ناش عن عدم التأمّل في الرواية و ارتكاز العقلاء، فإنّ العرف لا يفهمون من النهي عن الاستصباح تحت السقف إلّا للتنزّه عن النجس المحتمل أو المظنون فلا إطلاق له يشمل ما ذكر.

و الإنصاف أنّ الجمع بينها و بين المطلقات المتقدّمة بما ذكرناه- و أشار إليه شيخنا الأعظم- من أجمل الجموع و أوهن التصرّفات.

ثمّ إنّا لا نقول بأنّ النهي لمراعاة عدم تنجّس السقف حتى يقال: إنّ تنجّسه لا مانع منه، بل نقول: إنّ ذلك لمراعاة حال المكلّف المبتلى بالدخان تحت السقف لا لكون تنجيس بدنه ممنوعا شرعا و نفسا بل لما يشترط فيه الطهارة. فالأجزاء الدخانيّة المجتمعة في الفم يحتمل فيها النجاسة و يحسن معه الاحتراز، و كذا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 50

..........

______________________________

ما اجتمع منه في منفذ الأذن و الأنف. بل ما اجتمع منه في السقف ربّما يوجب التنجيس فيحسن التنزّه منه للصلاة و غيرها.» «1»

أقول: حاصل ما أفاده الأستاذ في بيان كلام المصنّف- رحمهما اللّه- أنّ المرسلة

لا ينقدح منها في أذهان العرف و العقلاء التعبّد المحض بل يفهمون منها بمناسبة الحكم و الموضوع أنّ النجاسة صارت موجبة لهذا الحكم. فإنّ لم يكن لنا إطلاقات كثيرة واردة في مقام البيان حملنا المرسلة على ظاهرها من اللزوم إمّا للحكم بنجاسة الدخان تخطئة لحكم العرف بالاستحالة، أو لإيجاب الاحتياط في الشبهة لمعرضية عدم استحالة بعض الأجزاء، و لكن مع ورود إطلاقات كثيرة و عدم إشعار فيها بالتقييد يكون الجمع العقلائي بينهما حملها على الاحتياط الاستحبابي المطلوب في أمثال المقام.

و لقد أجاد في بيان ما أفاد، و يظهر منه عدم حمل الاستحباب في كلام المصنّف على الاستحباب النفسي لوضوح عدم الملاك فيه بل على استحباب الاحتياط حفظا عن الوقوع في النجاسة الواقعيّة فيكون طريقيّا لا نفسيّا.

و بالجملة يظهر من المصنّف و كذا الأستاذ «ره» في بيان مفاد المرسلة الفرق بين لحاظ الإطلاقات الواردة و عدمه، و هذا بظاهره قابل للمناقشة، إذ الشائع المتعارف في الجمع بين المطلق و المقيّد حمل المطلق على المقيّد و تقييده به من غير فرق بين كون المطلق رواية واحدة أو روايات و بين كون المطلق في مقام البيان أولا.

قال في مصباح الفقاهة في هذا المجال: «إنّ غاية ما يترتّب على كون المطلقات متظافرة أن تكون مقطوعة الصدور لا مقطوعة الدلالة، و إذن فلا مانع عن التقييد، إذ هي لا تزيد على مطلقات الكتاب القابلة للتقييد حتّى بالأخبار الآحاد.

و أوهن من ذلك دعوى إبائها عن التقييد من جهة ورودها في مقام البيان، فإنّ

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «ره» 1/ 101- 103 (ط. الجديدة 1/ 151- 153).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 51

..........

______________________________

ورودها في مقام البيان مقوّم لحجيّتها، و من

الواضح أنّ مرتبة التقييد متأخّرة عن مرتبة الحجيّة في المطلق، و نسبة حجّيته إلى التقييد كنسبة الموضوع إلى الحكم، و لا يكون الموضوع مانعا عن ترتّب الحكم عليه.

و أمّا ما ذكره من أنّ المرسلة غير صالحة لتقييد المطلقات، ففيه أنّه بناء على جواز العمل بها و انجبار ضعفها بعمل المشهور لا مانع من حملها على التعبّد المحض، فتصلح حينئذ لتقييد المطلقات، و مجرد الاستبعاد لا يكون مانعا عن ذلك.

و إنّما الإشكال في أصل وجود المرسلة كما تقدّم. و أمّا تقييد المطلقات بها من جهة أنّ المرسلة تدلّ على حرمة تنجيس السقف فبعيد غايته.» «1»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره في أصل التقييد بعد القول بالانجبار، إذ أمر المرسلة دائر بين الحجيّة و عدمها، فعلى فرض الحجيّة لا مانع من تقييد المطلقات بها و لم يظهر لنا وجه إبائها عن التقييد، فوزانها وزان سائر المطلقات و المقيّدات.

و السرّ في ذلك أنّ أئمتنا بمنزلة نور واحد و أخبارهم بمنزلة أخبار صادرة عن إمام واحد و إنّ كانت في مقام البيان، إذ ليست أخبارهم صادرة لبيان أحكام شخصيّة فقط و إن كان ظاهرها بهذا اللسان، بل لبيان أحكام الشرع المبين لكلّ من يجي ء إلى يوم القيام، نظير ما يصدر عن المقنّنين من بيان الكلّيات و المطلقات ثمّ بيان المخصّصات و المقيّدات، و لذا وصّوا شيعتهم بكتابتها و إيراثها لمن تأخّر و عليه جرت سيرة أصحابهم في كتابة الأصول و الجوامع. هذا.

و لكن الإنصاف أنّ حمل المرسلة على التعبّد المحض بعيد جدّا و إن أصرّ عليه في السرائر و تبعه في الشرائع كما مرّ، إذ الظاهر منها بمناسبة الحكم و الموضوع و فهم العرف كون المنع بلحاظ النجاسة، و قد

عرفت أنّ الغالب على من له تعهّد و التزام بالشرع المبين التحرز من الاستصباح به في البيوت حذرا من تلويثها و تلويث

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 126.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 52

[الإنصاف في المسألة]

و الإنصاف أنّ المسألة لا تخلو عن إشكال: من حيث ظاهر الروايات البعيدة عن التقييد لإبائها في أنفسها عنه و إباء المقيّد عنه، (1) و من حيث الشهرة المحقّقة و الاتفاق المنقول. و لو رجع إلى أصالة البراءة حينئذ لم يكن إلّا بعيدا عن الاحتياط و جرأة على مخالفة المشهور. (2)

ثمّ إنّ العلّامة في المختلف فصّل بين ما إذا علم بتصاعد شي ء من أجزاء الدهن، و ما إذا لم يعلم، فوافق المشهور في الأوّل و هو مبني على ثبوت حرمة تنجيس السقف و لم يدلّ عليه دليل، و إن كان ظاهر كلّ من حكم بكون الاستصباح تحت السّماء تعبّدا لا لنجاسة الدخان معلّلا بطهارة دخان النجس، التسالم على حرمة التنجيس، و إلّا لكان الأولى تعليل التعبّد به لا بطهارة الدخان كما لا يخفى. (3)

______________________________

وسائل الحياة و التعيّش، فيحتمل كون ذكر تحت السّماء للإرشاد إلى ذلك الذي يقبله المتشرعة لا بلحاظ الدخالة في موضوع الحكم، نظير قوله- تعالى-:

وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ الوارد فيه القيد مورد الغالب لا بلحاظ الدخالة في الحكم.

و الضابط الكلّي أنّ القيد لا يحمل على الدخالة في الموضع إلّا إذا لم يوجد له فائدة ظاهرة غير ذلك. و مع الشكّ أيضا يكون أصالة الإطلاق في الإطلاقات محكمة.

(1) لم يظهر لنا- كما مرّ- وجه إبائهما عن التقييد. و كون المطلق في مقام البيان لا يوجب إباءه عن التقييد في باب التقنينات.

(2) البعد عن الاحتياط لا يمنع من جريان البراءة

مع الشكّ في التكليف، و كذا مخالفة المشهور إن لم يثبت حجّيتها.

(3) أو التعليل بهما معا بأن يقولوا: لا نسلّم نجاسة الدخان و لو سلّم فلا دليل على حرمة تنجيس السقف.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 53

[4- الرابع: حكم الانتفاع بالدهن المتنجّس في غير الاستصباح و حكم الانتفاع بالأعيان المتنجسة بنحو الإطلاق]
اشارة

الرابع: هل يجوز الانتفاع بهذا الدهن في غير الاستصباح بأن يعمل صابونا أو يطلى به الأجرب أو السفن؟ (1) قولان مبنيان على أنّ الأصل في المتنجّس جواز الانتفاع إلّا ما خرج بالدليل كالأكل و الشرب و الاستصباح تحت الظلّ، أو أنّ القاعدة فيه المنع عن التصرّف إلّا ما خرج بالدليل كالاستصباح تحت السّماء و بيعه ليعمل صابونا على رواية ضعيفة تأتي. (2).

______________________________

4- حكم الانتفاع بالدهن المتنجّس في غير الاستصباح و حكم الانتفاع بالأعيان المتنجسة بنحو الإطلاق

[الأصل في المتنجس جواز الانتفاع فيه أو المنع؟]

(1) السفن- محركة- جلد خشن يجعل على قوائم السيف. و يحتمل أيضا كونه بضمتين جمع السفينة.

(2) لا يخفى أنّ الأخبار السابقة التي تعرّض لها المصنّف كانت متعرضة لجواز الاستصباح بالدهن المتنجّس و بيعه لذلك. و الآن وقع البحث في أنّه هل يجوز الانتفاع به في غير الاستصباح أيضا كعمل الصابون و طلي الأجرب أو السفن به أم لا؟

و قد جعل المصنّف المسألة على قولين مبنيّين على أنّ الأصل في المتنجّسات بالنظر العامّ هل هو جواز الانتفاع بها إلّا فيما خرج بالدليل كالأكل و الشرب

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 54

..........

______________________________

و نحوهما، أو عدم الجواز إلا فيما خرج بالدليل كالاستصباح بالدهن المتنجّس، فجعل هذه المسألة من جزئيات تلك المسألة العامّة.

أقول: أمّا الدهن المتنجّس فقد وردت فيه في المقام أيضا أخبار خاصّة متعارضة و إن لم يثبت صحّة أسانيدها:

فيدلّ على الجواز ما عن الجعفريات بإسناده أنّ عليا عليه السّلام سئل عن الزيت يقع فيه شي ء له دم فيموت؟ قال: «الزيت خاصّة يبيعه لمن يعمله صابونا.» و نحوه ما عن نوادر الراوندي بإسناده عن عليّ عليه السّلام «1»

و لعل التقييد بقوله: «خاصّة» من جهة أنّ سائر المائعات النجسة لم يكن

يتصوّر لها في تلك الأعصار منفعة محلّلة عقلائيّة.

و عن دعائم الإسلام: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن الدوابّ تقع في السمن و العسل و اللبن و الزيت (فتموت فيه- الدعائم) قال: «إن كان ذائبا أريق اللبن و استسرج بالزيت و السمن.» و قال في الزيت: «يعمله صابونا إنّ شاء.» «2»

و يظهر من بعض روايات السنّة أيضا جواز الانتفاع به مطلقا:

ففي رواية ابن عمر عن أبيه: أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله سئل عن فأرة وقعت في سمن؟

فقال: «ألقوها و ما حولها و كلوا ما بقي.» فقالوا: يا نبيّ اللّه، أ فرأيت إن كان السّمن مائعا؟ قال: «انتفعوا به و لا تأكلوه.»

نعم في رواية أبي سعيد عنه صلى اللّه عليه و آله: «استصبحوا به و لا تأكلوه.» «3»

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 2 و 7.

(2) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 4؛ و دعائم الإسلام 1/ 122، ذكر طهارات الأطعمة و الأشربة.

(3) سنن البيهقي 9/ 354، كتاب الضحايا، باب من أباح الاستصباح به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 55

[كلمات الأصحاب]

و الذي صرّح به في مفتاح الكرامة هو الثاني (1)، و وافقه بعض

______________________________

و في قبال هذه الأخبار ما عن قرب الإسناد عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام، قال: سألته عن حبّ دهن ماتت فيه فأرة؟ قال: «لا تدّهن به و لا تبعه من مسلم.» «1»

و في السند عبد اللّه بن الحسن و هو مجهول.

و يمكن أن يجاب عن هذه الرواية بأنّ الادّهان منصرف إلى ادّهان البدن به بنحو الإطلاق، و النهي عنه وقع إرشادا حذرا من نجاسته المانعة عن

الصلاة، و لم يرد مطلق الادّهان و لو مع تعقّبه بالغسل للصلاة أو ادّهان الأجرب أو السفن به.

كما أنّ النهي عن بيعه للمسلم ينصرف بمناسبة الحكم و الموضوع إلى النهي عن بيعه للأكل و نحوه على وزان بيع الأدهان الطاهرة بدون الإعلام، كيف؟ و بيعه للاستصباح جائز قطعا لما مرّ من الأخبار. هذا.

و العمدة أنّ أخبار الجواز كما مرّ لم يثبت حجّيتها، فالأولى- كما في المتن- البحث عن الانتفاع بجميع المتنجّسات بنحو الإطلاق فيظهر منها حكم مسألتنا أيضا.

(1) في متاجر مفتاح الكرامة في مسألة بيع الدهن المتنجّس قال: «لأنّ الأصل عدم جواز الانتفاع بالنجس فيقتصر على المتيقّن.» «2» و ظاهره أنّه أراد بالنجس الأعمّ من نجس الذات و المتنجّس.

و فيه أيضا في هذه المسألة أيضا: «إذ الأصل عدم الانتفاع فيقتصر فيه على موضع اليقين.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 69، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5؛ و قرب الإسناد/ 112.

(2) مفتاح الكرامة 4/ 24.

(3) نفس المصدر 4/ 26.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 56

مشايخنا المعاصرين (1)، و هو ظاهر جماعة من القدماء كالشيخين و السيّدين و الحلّي و غيرهم:

قال في الانتصار: «و ممّا انفردت به الإماميّة: أنّ كل طعام عالجه أهل الكتاب و من ثبت كفرهم بدليل قاطع لا يجوز أكله و لا الانتفاع به.

و اختلف باقي الفقهاء في ذلك و قد دلّلنا على ذلك في كتاب الطهارة حيث دلّلنا على أنّ سؤر الكفّار نجس.» (2)

______________________________

(1) في الجواهر في ردّ من قال بجواز الاستصباح به و لو تحت السقف و نقل مرسلة المبسوط قال: «فيمكن التقييد حينئذ بالمرسل المزبور بعد انجباره بما سمعت، و بأصاله عدم جواز الانتفاع بالنجس فضلا عن التكسّب به

فيقتصر على المتيقّن من كونه تحت السماء.» «1»

و في المستند في مسألة التكسّب بالمائعات النجسة ذاتا أو عرضا بعد ذكر رواياتها قال: «و يظهر من تلك الروايات و رواية تحف العقول السابقة عدم جواز الانتفاع بها منفعة محلّلة أيضا و لا اقتنائها لذلك، و هو كذلك وفاقا لظاهر الحلّي قال:

«و كلّ طعام أو شراب حصل فيه شي ء من الأشربة المحظورة أو شي ء من المحرّمات و النجاسات فإنّ شربه و عمله و التجارة فيه و التكسّب به و التصرّف فيه حرام محظور.» إلى آخر ما ذكره في المستند، و راجع السرائر «2».

(2) تتمة العبارة لا يجوز الوضوء به و استدللنا بقوله- تعالى-:

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ. «3»

و قال في طهارة الانتصار: «و ممّا انفردت به الإمامية القول بنجاسة سؤر اليهودي و النصراني و كلّ كافر. و خالف جميع الفقهاء في ذلك و حكى الطحاوي

______________________________

(1) الجواهر 22/ 15، كتاب التجارة، جواز التكسّب بالأدهان المتنجّسة.

(2) مستند الشيعة 2/ 333؛ و راجع السرائر 2/ 219، كتاب المكاسب.

(3) الانتصار/ 193، في الذبائح.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 57

و قال في المبسوط في الماء المضاف: «إنّه مباح التصرّف فيه بأنواع التصرّف ما لم تقع فيه نجاسة، فإن وقعت فيه نجاسة لم يجز استعماله على حال.» (1)

و قال في الماء المتغير بالنجاسة: «إنّه لا يجوز استعماله إلّا عند الضرورة للشرب لا غير.» (2)

و قال في النهاية: «و إن كان ما حصل فيه الميتة مائعا لم يجز استعماله و وجب إهراقه.» (3)

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 57

______________________________

عن مالك في سؤر النصراني و المشرك

أنّه لا يتوضأ به. و وجدت المحصّلين من أصحاب مالك يقولون: إنّ ذلك على سبيل الكراهية لا التحريم لأجل استحلالهم الخمر و الخنزير و ليس بمقطوع على نجاسته. فكان الإمامية منفردة بهذا المذهب. و يدلّ على صحّة ذلك مضافا إلى إجماع الشيعة عليه قوله- تعالى-:

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ...» «1»

أقول: لعلّه يتبادر إلى الذهن من كلاميه أنّ نظره من الانتفاع الممنوع منه أمثال التوضي و نحوه ممّا يتوقّف على الطهارة لا الانتفاعات التي لا تتوقّف عليها كإطعام الكلاب و الطيور مثلا. و إجماع الشيعة المدّعى يكون على أصل نجاسة الكفار لا على عدم جواز الانتفاع بسؤرهم مطلقا.

(1) راجع طهارة المبسوط. «2»

(2) راجع طهارة المبسوط. «3»

(3) راجع أطعمة النهاية. و في الطهارة منه: «و متى مات في الآنية حيوان له نفس سائلة نجس الماء و وجب إهراقه.» «4»

______________________________

(1) الانتصار/ 10.

(2) المبسوط 1/ 5.

(3) نفس المصدر 1/ 6.

(4) النهاية/ 588، كتاب الأطعمة؛ و ص 5، كتاب الطهارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 58

و قريب منه عبارة المقنعة. (1)

و قال في الخلاف في حكم السمن و البزر و الشيرج و الزيت إذا وقعت فيه فأرة: «إنّه جاز الاستصباح به و لا يجوز أكله و لا الانتفاع به بغير الاستصباح، و به قال الشافعي. و قال قوم من أصحاب الحديث:

«لا ينتفع به بحال لا بالاستصباح و لا بغيره بل يراق كالخمر. و قال أبو حنيفة: يستصبح به و يباع أيضا. و قال داود: إن كان المائع سمنا لم ينتفع به بحال. و إن كان ما عداه من الأدهان لم ينجس بموت الفأرة فيه و يحلّ أكله و شربه لأنّ الخبر ورد في السمن فحسب. دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم.»

(2)

و في السرائر في حكم الدهن المتنجّس: «إنّه لا يجوز الادّهان به و لا استعماله في شي ء من الأشياء عدا الاستصباح تحت السّماء.» انتهى (3)

______________________________

(1) راجع أطعمة المقنعة. و في الطهارة منه: «و المياه إذا كانت في آنية محصورة فوقع فيها نجاسة لم يتوضّأ منها و وجب إهراقها.» «1»

أقول: يبعد جدا إرادتهم عدم جواز الانتفاع بالمياه النجسة و لو بسقيها للحيوان أو الشجر، و ليس الإهراق واجبا نفسيّا قطعا بل هو كناية عن صرف النظر عنها و عدم جواز الانتفاعات المترقّبة من مياه الأواني من الشرب و الوضوء و نحوهما، و كذا الكلام في غير المياه.

(2) راجع أطعمة الخلاف (المسألة 19). «2»

(3) راجع أطعمة السرائر، قال: «و إن كان ما حصل فيه الميتة مائعا لم يجز استعماله و وجب إهراقه. و إن كان دهنا مثل الشيرج و البزر جاز الاستصباح به تحت

______________________________

(1) المقنعة/ 582، كتاب الأطعمة ...؛ و ص 65، كتاب الطهارة.

(2) الخلاف 6/ ... (ط. أخرى 3/ 269).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 59

و ادّعى في موضع آخر: «أنّ الاستصباح به تحت الظلال محظور بغير خلاف.» (1)

و قال ابن زهرة بعد أن اشترط في المبيع أن يكون مما ينتفع به منفعة محلّلة قال: «و شرطنا في المنفعة أن تكون مباحة تحفظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره عدا ما استثني من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السماء، و هو إجماع الطائفة.» ثم استدلّ على جواز بيع الزيت بعد الإجماع بأن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أذن في الاستصباح به تحت السّماء. قال: «و هذا يدلّ على جواز بيعه لذلك.» انتهى.

(2) هذا.

______________________________

السماء و لا يجوز الاستصباح به تحت الظلال ... و لا يجوز الادّهان به و لا استعماله في شي ء من الأشياء سوى الاستصباح تحت السّماء.» «1»

(1) راجع أطعمة السرائر. «2»

(2) راجع بيع الغنية. «3» يظهر منه بقرينة الاستثناءين عموم المنع عن الانتفاع بالنجس لجميع الانتفاعات ما عدا المستثنيين، فتدبّر.

و في الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنفيّة: «و يصحّ بيع المتنجّس و الانتفاع به في غير الأكل، فيجوز أن يبيع دهنا متنجّسا ليستعمله في الدبغ و دهن عدد الآلات «الماكينات» و نحوها و الاستضاءة به في غير المسجد ما عدا دهن الميتة فإنّه لا يحلّ الانتفاع به لأنّه جزء منها.» «4» فالحنفيّة يخالفون المشهور بيننا و بينهم.

______________________________

(1) السرائر 3/ 121، كتاب الأطعمة.

(2) نفس المصدر 3/ 122.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(4) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 232، كتاب البيع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 60

[الأقوى أن الأصل جواز الانتفاع]

و لكن الأقوى وفاقا لأكثر المتأخرين جواز الانتفاع إلّا ما خرج بالدليل، و يدلّ عليه أصالة الجواز و قاعدة حلّ الانتفاع بما في الأرض. (1)

______________________________

ما يستدلّ به للجواز من أصالة البراءة و قاعدة حلّ الانتفاع ...

(1) استدلّ المصنّف للجواز بوجهين طوليّين، إذ الأصل يجري في صورة عدم دلالة الآية الآتية:

الوجه الأوّل: أصالة البراءة في كلّ فعل شكّ في حرمته الثابتة بالأخبار المستفيضة، كحديث الرفع المشهور، «1» و قوله عليه السّلام: «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم.» «2» و قوله عليه السّلام: «كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي.» «3» إلى غير ذلك من الأخبار.

أقول: لا يخفى أنّ الأصل الأوّلي في التصرّف في الأشياء مع قطع النظر عمّا ورد من الشرع هو

الحظر دون الإباحة، إذ الأشياء بأجمعها للّه- تعالى-، و لا يجوز- بحكم العقل- التصرّف في مال الغير إلّا بإحراز رضاه. نعم الشرع المبين رخّص لنا و أحلّ ما لم نعلم حرمته.

الوجه الثاني: قاعدة حلّ الانتفاع بما في الأرض المقتنصة من قوله- تعالى-:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. «4»

قال: في مجمع البيان في ذيل الآية: «معناه أنّ الأرض و جميع ما فيها نعم من اللّه- تعالى- مخلوقة لكم، إمّا دينيّة فتستدلّون بها على معرفته، و إمّا دنياويّة

______________________________

(1) الخصال/ 417، باب التسعة، الحديث 9.

(2) الوسائل 18/ 119، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 28.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 127، الحديث 60.

(4) سورة البقرة (2)، الآية 29.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 61

..........

______________________________

فتنتفعون بها بضروب النفع عاجلا.» «1»

و ناقش في ذلك في مصباح الفقاهة بما محصّله بتوضيح منّا: «منع دلالة الآية على جواز الانتفاع بجميع ما في الأرض، بل إمّا أن تحمل اللام على الغاية فتكون الآية ناظرة إلى بيان أنّ الغاية القصوى من خلق الأجرام الأرضية و ما فيها ليس إلّا خلق البشر و تربيته و تكريمه إلى أن يثمر شجرة عالم الطبيعة أنوارا ملكوتيّة أمثال النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام، و هو المراد بقوله: «لولاك ما خلقت الأفلاك.» «2»

فيكون خلق ما سوى الإنسان بتبعه و من مقدّماته. و هذا لا ينافي تحليل بعض المنافع للإنسان دون بعض.

و إمّا أن تحمل اللام على النفع و لكن يراد بها أنّ خلق الأجرام بما فيها من الهيئات و الأشكال و التركيبات المختلفة لبيان طرق الاستدلال على وجود الصانع القديم و توحيد ذاته و صفاته و أفعاله و

أي منفعة أعظم من هداية البشر و تكميله؟» «3»

أقول: الظاهر ورود ما ذكره من المناقشة و لو بنحو الاحتمال و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

فإن قلت: على فرض حمل اللام على المنفعة يقتضي إطلاق مفادها جواز كلّ انتفاع بكلّ شي ء في كلّ حال إلّا ما خرج بالدليل.

قلت: الآية ليست بصدد تشريع جواز الانتفاع حتّى يجري فيها مقدّمات الحكمة و يؤخذ بإطلاق مفادها، بل بصدد الإخبار عن كون خلق ما في الأرض من الأشياء في طريق منافعكم تكوينا، و هذا لا ينافي حرمة الانتفاع ببعضها عن قصد و اختيار تشريعا. و مقدّمات الحكمة لا تجري إلّا في أدلّة التشريع و بيان الأحكام، فتدبّر.

______________________________

(1) مجمع البيان 1/ 71.

(2) بحار الأنوار 15/ 28، تاريخ نبيّنا صلى اللّه عليه و سلم، باب بدء خلقه ...، الحديث 48.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 128.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 62

[الفرق بين التخصيص و الحكومة و الورود]

و لا حاكم عليها سوى ما يتخيّل من بعض الآيات و الأخبار و دعوى الجماعة المتقدّمة الإجماع على المنع. (1)

______________________________

(1) أقول: ما استدلّ به لكون الأصل المنع أمور يأتي بيانها. و المصنّف عبّر عن تقدّمها على ما ذكر من الوجهين للجواز بلفظ الحكومة. و الظاهر أنّه أراد بذلك المعنى الأعمّ، أعني مطلق تقدّم دليل على دليل آخر، لا خصوصيّة الحكومة الاصطلاحيّة التي تكون قسيما للتخصيص و الورود.

الفرق بين التخصيص و الحكومة و الورود توضيح ذلك: أنّ التخصيص عبارة عن إخراج بعض أصناف العام أو أفراده عن حكمه، فيكون من أقسام تعارض الدليلين مثل قوله: «لا تكرم النحويين» في قبال قوله: «أكرم العلماء.» فيكون الخاصّ متعرّضا لبعض ما كان يتعرّض له العامّ من النسبة الحكميّة التي هي منطوق القضيّة بنفيها عن بعض

أصنافه أو أفراده، فيكون في عرضه و لكن يقدّم عليه لكونه أظهر.

و الحكومة عبارة عن كون أحد الدليلين ناظرا إلى جهة من الدليل الآخر لا يتعرّضها هو بمنطوقه بل تكون من مبادئ ما يتعرّضه الآخر أو من لواحقه، حيث إنّ منطوق القضيّة الذي تتعرّضه القضية هي مفاد النسبة الواقعة بين الموضوع و المحمول. و أمّا بيان مفاد الموضوع أو المحمول و حدودهما و بيان مقدّمات الحكم من المصالح و المفاسد أو الإرادة و الكراهة أو الجعل و الإنشاء، و كذا مؤخّراته من الإعادة و عدمها فليست ممّا يتعرّضها منطوق القضيّة. فلو تعرّض دليل آخر لواحد منها بحيث أوجب قهرا تضيق الحكم الأوّل أو سعته كان الدليل الثاني بالنسبة إلى الدليل الأوّل حاكما عليه و مفسّرا له. و ليس بين الحاكم و المحكوم معارضة حتّى يجعل الأظهريّة ملاكا للتقدّم على ما في موارد التعارض.

و من جملة أقسامها النظر إلى موضوع الحكم الأوّل بتوسعته أو تضييقه بعد

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 63

..........

______________________________

ما لم يكن هو بنفسه متعرّضا له، فيكون مفاد الدليل الحاكم نفي الحكم الأوّل أو إثباته و لكن بلسان نفي موضوعه أو إثباته. مثل أن يقول في المثال السابق:

«النحوي ليس بعالم» أو: «الزاهد العابد عالم.» و من هذا القبيل قوله عليه السّلام:

«لا سهو على من أقرّ على نفسه بسهو.» «1»

و بهذا البيان يظهر وجه حكومة قوله- تعالى-: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» على أدلّة الأحكام الأوّلية، حيث أنّه ناظر إلى جعلها، و الجعل من مبادئ الحكم و مقدّماته.

و كذا قوله عليه السّلام: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس.» «3» حيث إنّ الإعادة من لواحق الحكم و مؤخّراته بعد أصل ثبوته.

و

الورود عبارة عن كون أحد الدليلين بعد وروده رافعا لموضوع الدليل الأوّل حقيقة، كالدليل الاجتهادي الدالّ على حرمة شي ء بعنوانه فإنّه بالنسبة إلى أصالة البراءة وارد عليها، إذ موضوع الأصل عدم الدليل، و الدليل الاجتهادي على الحرمة يرفع هذا الموضوع حقيقة. هذا.

و أمّا التخصّص فهو عبارة عن خروج الشي ء عن موضوع الحكم بذاته لا بلحاظ ورود دليل آخر كخروج زيد الجاهل عن قوله: «أكرم العلماء».

هذا ملخّص مفاد المصطلحات الأربعة الدائرة على الألسن. و الثلاثة الأول تطلق بلحاظ مقايسة دليل بالنسبة إلى دليل آخر.

و بما ذكرنا يظهر أن الأدلّة الاجتهادية الآتية في المقام واردة على أصل البراءة.

و أمّا بالنسبة إلى آية الحلّ فهي مخصّصة لعمومها على فرض دلالتها.

______________________________

(1) الوسائل 3/ 330، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 8.

(2) سورة الحجّ (22)، الآية 78.

(3) الوسائل 4/ 683، الباب 1 من أفعال الصلاة، الحديث 14.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 64

[ما يستدلّ به للمنع]
اشارة

و الكلّ غير قابل لذلك: أمّا الآيات:

فمنها: قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ.

دلّ بمقتضى التفريع على وجوب اجتناب كلّ رجس. (1)

و فيه: أنّ الظاهر من الرجس ما كان كذلك في ذاته لا ما عرض له ذلك، فيختصّ بالعناوين النجسة و هي النجاسات العشر.

______________________________

و كيف كان ففي إطلاق المصنّف لفظ الحكومة نحو مسامحة بإطلاق اللفظ و إرادة اللازم الأعم أعني مطلق تقدّم دليل على دليل آخر.

ما يستدلّ به للمنع ...

(1) بعد ما تمسّك المصنّف لأصالة الجواز بوجهين طوليّين تعرّض لما يمكن أن يتمسك به للمنع من الآيات و الأخبار و دعوى الإجماع:

أمّا الآيات فثلاث:
الأولى: قوله- تعالى- في سورة المائدة:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «1»

بتقريب أن تفريع وجوب الاجتناب على قوله: «رجس» يدلّ على أن طبيعة الرجس بإطلاقها تقتضي وجوب الاجتناب مطلقا.

و أجاب عن ذلك المصنّف و غيره بوجوه:

الأوّل: أنّ الظاهر من الرجس ما كان رجسا بذاته لا ما عرض له ذلك و إلّا لخرج عنه أكثر المتنجّسات و تخصيص الأكثر مستهجن.

الثاني: أنّ الرجس في الآية بقرينة العناوين المذكورة فيها لا يراد به النجس

______________________________

(1) سورة المائدة (5)، الآية 90.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 65

..........

______________________________

الفقهي في قبال الطاهر الشرعي حتّى يتوّهم شمول إطلاقه للمتنجّسات أيضا، بل ما كان خبيثا و قذرا معنويا، سواء كان نجسا كالخمر أو لا كالميسر و ما بعده، و لم يحرز كون المائعات المتنجّسة من هذا القبيل.

الثالث: أنّ وجوب الاجتناب في الآية لم يتفرّع على الرجس فقط بل على ما كان منه من عمل الشيطان، و حينئذ فإمّا أن يراد بهما الذوات المذكورة في

الآية بتقريب كونها ذوات خبيثة من مبتدعات الشيطان، و إمّا أن يراد بهما كون الفعل المتعلّق بهذه المذكورات خبيثا من عمل الشيطان، كما يقال في سائر المعاصي إنّها من عمل الشيطان، و إطلاق الرجس على العمل صحيح كما صرّح به أهل اللغة:

قال في القاموس: «و الرجس بالكسر: القذر، و يحرك و تفتح الراء و تكسر الجيم، و المأثم و كلّ ما استقذر من العمل، و العمل المؤدّى إلى العذاب و الشكّ و العقاب ...» «1»

فإن أريد بهما الذوات كان الموضوع لوجوب الاجتناب كلّ عين صدق عليه أنّه خبيث من عمل الشيطان و مبتدعاته و مخترعاته كالخمر و الميسر و الأنصاب لكون اختراعها بإلقاء الشيطان و إغوائه. و لا يصدق هذا الموضوع على مثل الكلب و الخنزير من النجاسات الذاتية التي لا صنع للبشر فيها فضلا عن المتنجّسات.

و إن اريد بهما الأعمال كان الموضوع لوجوب الاجتناب كلّ عمل قبيح يصدق عليه أنّه رجس، و كون استعمال المتنجّس منه أوّل الكلام.

الرابع: سلّمنا شمول الرجس للمتنجّسات و اقتضاءه بنفسه وجوب الاجتناب و لكن لا نسلّم دلالة الآية على حرمة جميع الانتفاعات، إذ الاجتناب عن كلّ شي ء يتحقّق بحسب ما يناسبه و يترقّب منه و ينصرف الأمر به إلى ذلك.

فالاجتناب عن الخمر مثلا يتحقّق بترك شربها، و عن النجاسات و المتنجّسات بترك

______________________________

(1) القاموس المحيط 2/ 219.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 66

مع أنّه لو عمّ المتنجّس لزم أن يخرج عنه أكثر الأفراد فإنّ أكثر المتنجّسات لا يجب الاجتناب منه. (1) مع أنّ وجوب الاجتناب ثابت فيما كان رجسا من عمل الشيطان يعني من مبتدعاته، فيختصّ وجوب الاجتناب المطلق بما كان من عمل الشيطان سواء كان نجسا كالخمر

أو قذرا معنويّا مثل الميسر. و من المعلوم أنّ المائعات المتنجّسة كالدهن و الطين و الصبغ و الدبس إذا تنجّست ليست من أعمال الشيطان.

______________________________

استعمالها فيما يتوقّف على الطهارة، و عن آلات القمار بترك المقامرة بها، و عن النساء المحارم بترك تزويجهن، و عن التاجر بترك المعاملة معه، و عن الفاسق بترك المعاشرة معه، و هكذا. فلا تدلّ الآية على حرمة جميع الانتفاعات من الأعيان النجسة فضلا عن المتنجّسات.

أقول: هذا ما ذكره الأعلام في المقام و لكن يمكن المناقشة في الوجه الأوّل، إذ التعبير بالمتنجّس- كما مرّ سابقا- أمر حدث في كلمات المتأخّرين من فقهائنا. و أمّا في لسان الأخبار و القدماء من أصحابنا فقد عبّر عن كلّ من النجس و المتنجّس بالقذر أو النجس كما في خبر أبي بصير: «إن كانت يده قذرة» «1»، و في خبر عمّار: سألته عن البارية يبلّ قصبها بماء قذر، «2» إلى غير ذلك من الأخبار، فإذا سلّم كون الرجس بمعنى القذر و النجس الفقهي في قبال الطاهر و النظيف فلا محالة يشمل المتنجّس أيضا و يترتّب عليه أحكامه، و لكن العمدة أنّ الرجس في الآية لا يراد به النجس الفقهي كما مرّ. «3»

(1) أقول: إنّما يلزم تخصيص الأكثر فيما إذا فرض إخراج كلّ فرد فرد باستثناء مستقلّ فتحقّق إخراجات متعدّدة، و أمّا إذا فرض إخراج الجميع بعنوان

______________________________

(1) الوسائل 1/ 115، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 11.

(2) الوسائل 2/ 1044، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(3) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 18؛ و ص 64 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 67

و إن أريد من عمل الشيطان عمل المكلف المتحقّق في الخارج

بإغوائه ليكون المراد بالمذكورات استعمالها على النحو الخاصّ فالمعنى أنّ الانتفاع بهذه المذكورات رجس من عمل الشيطان، كما يقال في سائر المعاصي: إنّها من عمل الشيطان، فلا تدلّ أيضا على وجوب الاجتناب عن استعمال المتنجّس إلّا إذا ثبت كون الاستعمال رجسا و هو أوّل الكلام. و كيف كان فالآية لا تدلّ على المطلوب.

و من بعض ما ذكرنا يظهر ضعف الاستدلال على ذلك بقوله- تعالى-: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (1) بناء على أن الرجز هو الرجس.

______________________________

واحد كعنوان ما لا يتوقّف على الطهارة مثلا فلا نسلّم لزوم ذلك و لا قبحه.

و نظير ذلك باب التقييد أيضا، فلو قال المولى: أعتق رقبة، ثم قال: أعتق رقبة مؤمنة و فرض إحراز وحدة الحكم و كون الكافرة أزيد من المؤمنة فليس هذا التقييد عند العرف مستهجنا بعد وقوع التقييد بعبارة واحدة و إلقاء واحد، و المتعارف في التقنينات جعل الحكم الكلي على عنوان عامّ بما أنّه مقتض للحكم ثم التخصيص بعنوان يكون كالمانع عن تأثيره و إن فرض كون أفراده أزيد، و نظير ذلك في المطلق و المقيّد أيضا.

[لآية الثانية التي استدلّوا بها]

(1) هذه هي الآية الثانية التي استدلّوا بها، و تقريب الاستدلال بها: أنّ الرجز عبارة أخرى عن الرجس بمعنى النجس، و الهجر المطلق عنه يحصل بترك استعماله مطلقا.

و المصنّف أحال الجواب عن الآية إلى ما أجاب به عن الآية السّابقة.

أقول: قد مرّ سابقا في بيان أدلّة المانعين عن بيع النجس مطلقا «1» البحث عن الآية و أنّ كون الرجز في الآية بمعنى النجس المصطلح عليه في الفقه غير واضح و لم يفسّروه بذلك.

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرمة 1/ 188.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 68

..........

______________________________

و قد وقع هذه الكلمة في

موارد كثيرة من القرآن الكريم بكسر الراء و أريد به العذاب أو نوع منه، فراجع.

و في هذه الآية قرئ بالضم و بالكسر معا، و القراءة المشهورة بالضمّ.

و في المجمع بعد نقل القراءتين قال: «و يجوز أن يكون الرجز و الرجز لغتين كالذكر و الذكر.» «1»

و في مقام بيان المعنى حكى عن قدماء المفسرين تفسيره بالأصنام و الأوثان و العذاب و المعاصي و الفعل القبيح و الخلق الذميم و حبّ الدنيا.

و في تفسير علي بن إبراهيم تفسيره بالخسي ء الخبيث «2» و معنى الخسي ء:

الردي ء.

و في الدر المنثور روى روايات كثيرة عن الصحابة و التابعين في معناه قريبا ممّا ذكر. و روى عن جابر قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول: و الرجز فاهجر- برفع الراء- و قال: «هي الأوثان». «3»

و جميع هذه المعاني محتملة في الآية و إن كان المخاطب فيها هو النبي الأكرم سواء أريد نفسه الشريفة أو كان من قبيل: «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة» و حيث إنّ الآية مسبوقة بقوله- تعالى-: وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ. «4» و الحكم فيها يناسب الصلاة فيحتمل أن يراد بهذه الآية أيضا هجر النجاسات في الصلاة. و يحتمل أيضا أن يراد بالأولى التطهير من النجاسات الظاهرية و بهذه الآية هجر القذارات المعنوية بإطلاقها، و يكون ذكر كلّ واحد من المعاني المذكورة من باب الجري و التطبيق.

______________________________

(1) مجمع البيان 5/ 383 (الجزء العاشر).

(2) تفسير القمي/ 702 (ط. الحجرية، سنة 1313 ه. ق). و ليست في طبعته الحديثة 2/ 393 لفظة «الخسي ء».

(3) الدر المنثور 6/ 281.

(4) سورة المدّثّر (74)، الآية 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 69

و أضعف من الكلّ الاستدلال بآية تحريم الخبائث، بناء على أنّ

كلّ متنجّس خبيث، و التحريم المطلق يفيد تحريم عموم الانتفاع، إذ لا يخفى أنّ المراد هنا حرمة الأكل بقرينة مقابلته بحلّية الطيّبات. (1)

______________________________

و كيف كان فلا دلالة لها على حرمة جميع الانتفاعات من النجاسات الذاتية فضلا عن المتنجّسات.

[الثالثة من الآيات قوله- تعالى- في سورة الأعراف]

(1) الثالثة من الآيات قوله- تعالى- في سورة الأعراف: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ. «1»

و تقريب الاستدلال بالآية و جواب المصنّف عنه يظهر بالمراجعة إلى المتن.

و في مصباح الفقاهة بعد نقل كلام المصنّف قال: «و الحقّ أن يقال: إنّ متعلّق التحريم في الآية إنّما هو العمل الخبيث و الفعل القبيح، فالمتنجّس خارج عن مدلولها لأنّه من الأعيان.

لا يقال: إذا أريد من الخبيث: العمل القبيح وجب الالتزام بالتقدير و هو خلاف الظاهر من الآية.

فإنّه يقال: إنّما يلزم ذلك إذا لم يكن الخبيث بنفسه بمعنى العمل القبيح، و قد أثبتنا في مبحث بيع الأبوال صحّة إطلاقه عليه بدون عناية و خصوصا بقرينة قوله- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائِثَ «2» فإنّ المراد من الخبائث فيها اللواط.» «3»

أقول: لا يدرى هل أراد «قده» بكلامه هذا أنّ التحريم و الإحلال يتعلّقان بالأعمال دون الأعيان، أو أنّ الخبيث و الطيّب لا يوصف بهما إلّا الأعمال؟ و الحقّ

______________________________

(1) سورة الأعراف (7)، الآية 157.

(2) سورة الأنبياء (21)، الآية 74.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 131.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 70

..........

______________________________

بطلان كلا الاحتمالين، إذ قد شاع تعلّق التحريم و الإحلال بالأعيان أيضا و إن كان بنحو من العناية، كما شاع توصيف الأعيان أيضا بالخبيث و الطيّب:

قال اللّه- تعالى- في

سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ و قال: يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ؟ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ «1» و قال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ. «2» و قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ. إلى قوله: وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ. «3»

و قال: الْخَبِيثٰاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثٰاتِ وَ الطَّيِّبٰاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبٰاتِ ... «4»

و قال الراغب في المفردات: «المخبث و الخبيث: ما يكره رداءة و خساسة محسوسا كان أو معقولا و أصله الردي ء ... و ذلك يتناول الباطل في الاعتقاد و الكذب في المقال و القبيح في الفعال. قال اللّه- عزّ و جلّ-: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ أي ما لا يوافق النفس من المحظورات. و قوله- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائِثَ فكناية عن إتيان الرجال. و قال- تعالى-:

مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّٰى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. أي الأعمال الخبيثة من الأعمال الصالحة و النفوس الخبيثة من النفوس الزكيّة. و قال- تعالى-: وَ لٰا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي الحرام بالحلال ...» «5»

و راجع في هذا المجال نهاية ابن الأثير و مجمع البحرين أيضا. «6»

______________________________

(1) سورة المائدة (5)، الآيتان 3 و 4.

(2) سورة الأعراف (7)، الآية 32.

(3) سورة النساء (4)، الآيتان 23 و 24.

(4) سورة النور (24)، الآية 26.

(5) المفردات 1/ 141.

(6) النهاية لابن الأثير 2/ 4؛ و مجمع البحرين 2/ 251 (ط. أخرى/ 148).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 71

..........

______________________________

و بالجملة فالتحريم و التحليل كما يتعلّقان بالأعمال يتعلّقان كثيرا بالأعيان أيضا، كما أنّ الخبيث و الطيّب يقعان و صفين لكليهما. هذا.

و استدلّوا بالآية

لحرمة الانتفاع بالنجاسات و المتنجّسات كما استدلّوا بها لحرمة كلّ ما يتنفّر عنه الطباع.

و التحقيق أن يقال: إنّ الألفاظ تحمل على المفاهيم العرفية، فيراد بالخبيث كلّ ما يكون رديئا عند العرف قبيحا في طباعهم و لو بلحاظ تعبّدهم بالشرع سواء كان من الأعيان القذرة أو الأفعال القبيحة المستبشعة. و يعبّر عنه بالفارسية ب «پليد»، و في قباله الطيّب بإطلاقه.

و حمل التحريم أو الإحلال في الآية على خصوص الأكل كما في المتن ممّا لا وجه له بعد عدم وجود القرينة لذلك هنا، و إن صحّ حمل الطيّب في سورة المائدة على خصوص ما يؤكل بقرينة المقام. و قد مرّ «1» أنّ القذر في لسان الأخبار أعمّ من نجس الذات و المتنجّس و غيرهما ممّا يستقذره العرف، و على هذا فيشمل لفظ الخبيث للمتنجّس أيضا عند من يتعبّد بالشرع.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ التحريم في الآية ينصرف بمناسبة الحكم و الموضوع إلى المصارف التي يناسبها الطيب و النظافة عرفا و شرعا كالأكل و الشرب و الصلاة و نحوها، فلا تدلّ على حرمة جميع الانتفاعات حتّى مثل إطعام الطّيور و سقي الأشجار في الأعيان النجسة فضلا عن المتنجّسات المحكومة بحكمها تعبّدا، فتدبّر. هذا.

و قد مرّ سابقا عن الأستاذ الإمام «ره» المناقشة في الاستدلال بآية الخبائث بما محصّله: «أنّ الآية ليست بصدد بيان تحريم الخبائث، بل بصدد بيان أوصاف النبيّ صلى اللّه عليه و آله و ما يصنعه في زمان نبوّته بنحو الحكاية و الإخبار. و ليس المقصود أنّه صلى اللّه عليه و آله يحرّم عليهم عنوان الخبائث بأن يجعل حكم الحرمة على هذا العنوان، بل المقصود أنّه يحرّم عليهم كلّ ما كان خبيثا بالحمل الشائع كالميتة و

الخمر و الخنزير مثلا.

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 227؛ و ص 66 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 72

[الأخبار: الّتي يستدلّ بها للمنع]
[رواية تحف العقول]

و أمّا الأخبار: فمنها: ما تقدّم من رواية تحف العقول، حيث علّل النهي عن بيع وجوه النجس بأنّ ذلك كلّه محرّم أكله و شربه و إمساكه و جميع التقلّب فيه. فجميع التقلّب في ذلك حرام.

و فيه: ما تقدّم من أنّ المراد بوجوه النجس عنواناته المعهودة لأنّ الوجه هو العنوان، و الدهن ليس عنوانا للنجاسة. و الملاقي للنجس و إن كان عنوانا للنجاسة لكنّه ليس وجها من وجوه النجاسة في مقابلة غيره، و لذا لم يعدّوه عنوانا في مقابل العناوين النجسة، مع ما عرفت من لزوم تخصيص الأكثر لو أريد به المنع عن استعمال كلّ متنجّس. (1)

______________________________

فعنوان الخبائث عنوان مشير إلى العناوين الخاصّة التي يحرّمها النبي صلى اللّه عليه و آله بالتدريج و يكون من قبيل الجمع في التعبير، و كذلك سائر فقرات الآية من قوله: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ» «1»

أقول: قد ناقشنا نحن ما ذكره الأستاذ «ره» بأنّ الخبائث جمع محلّى باللام و مفاده العموم، فالجملة و إن لم تكن في مقام التشريع و إنشاء الحرمة و لم تشرّع الحرمة قطّ على هذا العنوان العامّ بجعل واحد لكنّها بعمومها تحكي عن تشريع الحرمة على كلّ ما هو بالحمل الشائع مصداق للخبيث عرفا أو شرعا. فإذا ثبت بالدليل خباثة شي ء أو فعل فلا محالة تدلّ الآية على تشريع الحرمة عليه في ظرفه، فتدبّر.

الأخبار الّتي يستدلّ بها للمنع

(1) هذا مضافا إلى ما مرّ من إرسال الرواية و اضطرابها متنا و عدم وجودها في الجوامع الثانويّة الحديثية، و هذا ممّا يوهنها جدا، و مضافا إلى تعليل المنع فيها

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 34 (ط. الجديدة 1/ 51).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 73

[ما دلّ على الأمر بإهراق المائعات الملاقية للنجاسة]

و منها: ما دلّ على الأمر بإهراق المائعات الملاقية للنجاسة و إلقاء ما حول الجامد من الدهن و شبهه و طرحه، و قد تقدّم بعضها في مسألة الدهن، و بعضها الآخر متفرّقة مثل قوله: «يهريق المرق» و نحو ذلك. (1)

و فيه أنّ طرحها كناية عن عدم الانتفاع بها في الأكل، فإن ما أمر بطرحه من جامد الدهن و الزيت يجوز الاستصباح به إجماعا. فالمراد اطراحه من طرف الدهن و ترك الباقي للأكل.

______________________________

بقوله: «لما فيه من الفساد»، و إلى قوله فيها: «من كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.» و ظهور ذيلها في أنّ ذات الجهتين أعني ما فيه الصلاح و الفساد معا يجوز استعماله في جهة الصلاح.

فيعلم بذلك كلّه اختصاص المنع بما كان ممحّضا في الفساد أو وقع بيعه بقصد ما فيه من الفساد، فتدبّر.

و أمّا ما ذكره المصنّف أخيرا من لزوم تخصيص الأكثر فقد مرّ الجواب عنه و أنّ هذا ممّا لا ضير فيه إذا وقع التخصيص بعنوان واحد جامع.

(1) قد أشار المصنّف في هذا المقام إلى طوائف من الأخبار تحكم بطرح الشي ء المتنجّس و إلقائه ربما يستفاد منها عدم جواز استعماله في الحاجات و عدم جواز الانتفاع به بشي ء من الانتفاعات:

فمنها: ما دلّ على طرح ما حول الفأرة إذا ماتت

في السمن الجامد:

كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فإن كان جامدا فألقها و ما يليها و كل ما بقي، و إن كان ذائبا فلا تأكله و استصبح به، و الزيت مثل ذلك.» «1»

______________________________

(1) الوسائل 1/ 149، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 1؛ و 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 74

..........

______________________________

و موثقة أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه؟ فقال: «إن كان جامدا فتطرحها و ما حولها و يؤكل ما بقي، و إن كان ذائبا فاسرج به و أعلمهم إذا بعته.» «1»

و في رواية ابن عمر عن أبيه: أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: «ألقوها و ما حولها و كلوا ما بقي.» «2»

و تقريب الاستدلال بهذه الأخبار أنّه لو جاز الانتفاع بهذا الدهن لما أمر بطرحه لإمكان الانتفاع به في طلي السفن و الأجرب و نحو ذلك.

و أجاب المصنّف عن ذلك بأنّ طرحه كناية عن حرمة أكله لوضوح جواز الاستصباح به إجماعا. فالمراد اطراحها من ظرف الدهن و ترك الباقي للأكل.

و ردّه في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «أنّ الأمر بالطرح ظاهر في حرمة الانتفاع به مطلقا. و أمّا الاستصباح فقد خرج بالنصوص الخاصّة. فالصحيح في الجواب أنّ الأمر بالطرح للإرشاد إلى عدم إمكان الانتفاع به بالاستصباح و نحوه لقلّته.» «3»

أقول: المنفعة المعتدّ بها للأدهان في تلك الأعصار كان هو الأكل، و في المرتبة المتأخّرة الاستصباح بها، و أمّا طلي السفن و الأجرب و نحو

ذلك فكانت منافع نادرة جدّا لم تكن يلتفت إليها و لم تكن موردا للابتلاء غالبا، و محطّ النظر في صحيحة زرارة مثلا- كما ترى- في فقرتيها هو جواز الأكل و عدمه، و الأمر بالإلقاء وقع في قبال أكل الباقي، و الأمر بالاستصباح في الذائب منه ليس أمرا مولويّا وجوبيّا قطعا، بل للإرشاد إلى إمكان الاستصباح به. و العرف بعد إلقاء هذه الجملة إليه لا يفهم منها الخصوصيّة، بل يتبادر منها جواز كلّ منفعة لا تتوقّف على الطهارة.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 66، الحديث 3.

(2) سنن البيهقي 9/ 354، كتاب الضحايا، باب من أباح الاستصباح به.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 132 و 133.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 75

[الأخبار المستفيضة الواردة في الاستصباح بالدهن المتنجّس]

______________________________

و منها: الأخبار المستفيضة الواردة من طرق الفريقين في الاستصباح بالدهن المتنجّس و جواز بيعه لذلك، و قد مرّت في أوّل المسألة، بتقريب أنّها ظاهرة في انحصار الانتفاع به في الاستصباح، إذ لو جاز غيره لتعرّض له الأئمة عليهم السّلام في جواب الأسئلة.

و يظهر الجواب منها ممّا مرّ آنفا، و هو أنّ المنفعة الظاهرة للدهن كان هو الأكل و بعده الاستصباح به، فإذا حرم أكله فلا محالة تنحصر منفعته الظاهرة في الاستصباح، و أمّا طلي السفن و الأجرب و نحوهما فكانت منافع نادرة جدّا غير مبتلى بها.

هذا مضافا إلى ورود بعض الأخبار بجعله صابونا كما مرّ في أوّل هذا البحث عن الجعفريات و الدعائم و نوادر الراوندي، فراجع. «1»

و في خبر عليّ بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن فأرة أو كلب شربا من زيت أو سمن؟ قال: «إن كان جرّة أو نحوها فلا تأكله و لكن ينتفع به لسراج و نحوه.»

الحديث. «2»

فعمّم الانتفاع به لغير السراج أيضا.

[في إهراق المرق المتنجّس بموت الفأرة فيه]

و منها: ما ورد في إهراق المرق المتنجّس بموت الفأرة فيه:

كمعتبرة السكوني عن جعفر عن أبيه أنّ عليّا عليهم السّلام سئل عن قدر طبخت و إذا في القدر فأرة؟ قال: «يهراق مرقها و يغسل اللحم و يؤكل.» «3»

حيث يستفاد منها عدم جواز الانتفاع به مطلقا و إلّا لجاز إطعامه للصبيّ مثلا و نبّه عليه الإمام عليه السّلام.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الأحاديث 2، 4 و 7.

(2) الوسائل 16/ 377 (ط. أخرى 16/ 465)، الباب 45 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 3؛ و قرب الإسناد/ 116.

(3) نفس المصدر 1/ 150، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 3.

دراسات في المكاسب

المحرمة، ج 2، ص: 76

..........

______________________________

و يجاب عن ذلك أولا: بأنّ الأمر بالإهراق كناية عن عدم جواز صرفه في الأكل كما يشهد بذلك مقابلته بأكل اللحم بعد غسله.

و ثانيا: بمنع جواز إطعام الصبيّ بالشي ء المتنجّس لما فيه من الملاك الملزم و إن لم يكن هو بنفسه مكلّفا، نعم يجوز فيما نجّسه بنفسه للسيرة.

و ثالثا: بأنّ إطعام الصبي يفرض في المرق القليل لا في القدر منه، فإهراقه ليس إلّا لعدم إمكان تطهيره و عدم وجود المنفعة المحلّلة له غالبا كما هو واضح.

[الأخبار الواردة في إهراق الماء المتنجّس]

و منها: الأخبار المستفيضة الواردة في إهراق الماء المتنجّس، بتقريب أنّ وجوب الإهراق دليل على عدم جواز الانتفاع به أصلا:

1- كصحيحة ابن أبي نصر، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة؟ قال: «يكفئ الإناء.» «1»

2- و في موثقة سماعة في الجنب: «و إن كان أصاب يده فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على كفّيه فليهرق الماء كلّه.» «2»

3- و في موثقة أبي بصير: «فإن أدخلت يدك في الماء و فيها شي ء من ذلك فأهرق ذلك الماء.» «3»

4- و في خبر أبي بصير قال: «إن كانت يده قذرة فأهرقه.» «4»

و يرد عليها: أنّ الأمر بالإهراق في هذه الأخبار ليس أمرا مولويّا وجوبيّا بحيث يوجب مخالفته العقاب قطعا، بل هو إرشاد إلى تنجّس الماء و مانعيته للوضوء أو الغسل. و لم يكن للماء القليل في موارد السؤال منافع محلّلة ظاهرة غير الشرب أو الوضوء أو نحوهما فالإهراق كناية عن عدم المنفعة له، فلا تدلّ هذه الأخبار

______________________________

(1) الوسائل 1/ 114، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 7.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 114، الحديث 10.

(3) نفس المصدر

و الباب، ص 113، الحديث 4.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 115، الحديث 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 77

و أمّا الإجماعات: ففي دلالتها على المدّعى نظر يظهر من ملاحظتها، فإنّ الظاهر من كلام السيّد المتقدّم (1) أنّ مورد الإجماع هو نجاسة

______________________________

على عدم جواز إشرابه للحيوانات أو الأشجار مثلا.

[الأخبار المستفيضة الواردة في إهراق الماء المتنجّس]

و منها: ما ورد في إهراق الماءين المشتبهين و التيمم:

كموثقة سماعة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو و ليس يقدر على ماء غيره؟ قال: «يهريقهما جميعا و يتيمّم.» «1»

و نحوها موثقة عمّار عنه عليه السّلام «2».

و يظهر الجواب عنهما بما مرّ من كون الأمر بالإهراق للإرشاد إلى نجاسة الماء القليل و وجوب الاجتناب عن طرفي العلم الإجمالي. مضافا إلى احتمال كونه مقدّمة لتحقّق الموضوع للتيمّم أعني فاقدية الماء ليجوز له التيمّم، و قد حكي إفتاء البعض بعدم جواز التيمّم قبل إهراقهما.

و بالجملة فدلالة هذه الأخبار بكثرتها على حرمة الانتفاع بالمتنجّس بإطلاقه ممنوع و قد مرّ عدم دلالة الآيات أيضا فيبقى الإجماع المدّعى.

الإجماعات المنقولة الّتي يستدلّ بها للمنع
اشارة

(1) أقول: لم يكن فيما حكاه المصنّف سابقا عن انتصار السيّد ما يشعر بدعوى الإجماع إلّا قوله: «و ممّا انفردت به الإمامية.» «3» و هذه العبارة لا تدلّ على إجماع الإماميّة، بل عدم موافقة أهل الخلاف لهم في هذه الفتوى. و لم يكن عنوان البحث نجاسة ما باشره أهل الكتاب بل حرمة أكله و الانتفاع به. نعم قد

______________________________

(1) الوسائل 1/ 114، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، ص 113، الحديث 2.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 116، الحديث 14.

(3) الانتصار/ 193، في الذبائح.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 78

ما باشره أهل الكتاب. و أمّا حرمة الأكل و الانتفاع فهي من فروعها المتفرعة على النجاسة، لا أنّ معقد الإجماع حرمة الانتفاع بالنجس فإنّ خلاف باقي الفقهاء في أصل النجاسة في أهل الكتاب لا في أحكام النجس.

[أمّا إجماع الخلاف]

و أمّا إجماع الخلاف فالظاهر أنّ معقده ما وقع الخلاف فيه بينه و بين من ذكر من المخالفين. إذ فرق بين دعوى الإجماع على محلّ النزاع بعد تحريره، و بين دعواه ابتداء على الأحكام المذكورة في عنوان المسألة، فإنّ الثاني يشمل الأحكام كلّها. و الأوّل لا يشمل إلّا الحكم الواقع مورد الخلاف لأنّه الظاهر من قوله: دليلنا إجماع الفرقة، فافهم و اغتنم. (1)

______________________________

أحال السيّد هذه المسألة على ما ذكره في كتاب الطهارة، و في كتاب الطهارة منه «1» ادعى إجماع الشيعة على نجاسة سؤر الكفار، و ليس فيه ذكر من حرمة الانتفاع، ففي كلام المصنّف خلط بين المسألتين.

(1) أقول: ما ذكره المصنّف من الفرق صحيح إجمالا في أكثر الموارد، و لكن الظاهر من عبارة الخلاف التي مرّت في المتن كون مطلق الانتفاع أيضا محطّا للبحث كما يشهد بذلك

ما حكاه الشيخ عن أصحاب الحديث و داود و غيرهم.

و على هذا فيرجع دعوى الإجماع أيضا إلى جميع المدّعى. نعم الظاهر أنّ مراده من أخبارهم أخبار جواز الاستصباح التي مرّت، فيمكن أن يجعل هذا قرينة على رجوع الإجماع أيضا إلى مسألة جواز الاستصباح فقط.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ظاهر هذه الأخبار- كما قيل- حصر الانتفاع المحلّل في خصوص الاستصباح، فيكون مفاد الإجماع و الأخبار معا عدم جواز غيره من الانتفاعات الأخر، و لكن نحن منعنا دلالة الأخبار على الحصر و إنّما ذكر الاستصباح لكونه المنفعة الظاهرة بعد الأكل.

______________________________

(1) الانتصار/ 10.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 79

[أمّا إجماع السيّد في الغنية]

و أمّا إجماع السيّد في الغنية فهو في أصل مسألة تحريم بيع النجاسات و استثناء الكلب المعلّم و الزيت المتنجّس (1)، لا فيما ذكره من أنّ حرمة بيع المتنجّس من حيث دخوله فيما يحرم الانتفاع به. نعم هو قائل بذلك.

و بالجملة فلا ينكر ظهور كلام السيّد في حرمة الانتفاع بالنجس الذاتي و العرضي، لكن دعواه الإجماع على ذلك بعيدة عن مدلول كلامه جدّا. و كذلك لا ينكر كون السيّد و الشيخ قائلين بحرمة الانتفاع بالمتنجّس كما هو ظاهر المفيد و صريح الحلّي (2)، لكن دعواهما الإجماع

______________________________

(1) أقول: قد مرّ أنّ استثناء الكلب و الزيت النجس معا دليل على أنّه أراد بالنجس في كلامه الأعمّ من النجس الذاتي و العرضي، و المصنّف أرجع الإجماع في كلامه إلى مسألة تحريم بيع النجاسات و الاستثناءين، و لكنّه خلاف الظاهر إذ ليس في عبارة الغنية اسم من تحريم بيع النجس، و إنّما المصرّح به دخول النجس فيما يحرم الانتفاع به، فإمّا أن يرجع الإجماع إلى ذلك أو إلى اعتبار كون المنفعة مباحة

أو إلى جميع ما ذكره. و يحتمل أيضا رجوعه إلى خصوص الاستثناءين أو إلى الأخير منهما أو إلى خصوص كون الاستصباح تحت السّماء، فراجع ما مرّ من كلامه.

(2) عبارة المفيد في أطعمة المقنعة هكذا: «إذا وقعت الفأرة في الزيت و السمن و العسل و اشباه ذلك و كان مائعا أهرق، و إن كان جامدا ألقي ما تحتها و ما وليها من جوانبها و استعمل الباقي و أكل ... و إن وقع ذلك في الدهن جاز الاستصباح به تحت السّماء و لم يجز تحت الظلال و لا يجوز أكله و لا الادّهان به على حال.» «1»

و في الطهارة منه: «و المياه إذا كانت في آنية محصورة فوقع فيها نجاسة لم يتوضّأ منها و وجب إهراقها.» «2»

و قد مرّت كلمات الشيخ و الحلّي من المصنّف في المتن، فراجع.

______________________________

(1) المقنعة/ 582.

(2) نفس المصدر/ 65.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 80

على ذلك ممنوعة عند المتأمّل المنصف. (1)

[الوهن في الإجماعات]

ثمّ على تقدير تسليم دعواهم الإجماعات فلا ريب في و هنها بما يظهر من أكثر المتأخرين من قصر حرمة الانتفاع على أمور خاصّة. (2)

______________________________

(1) الظاهر رجوع ضمير التثنية إلى السيّد و الشيخ، و لكن عرفت عدم ذكر الإجماع فيما حكاه المصنّف من أطعمة الانتصار.

نعم قد مرّ من الحلّي في أطعمة السرائر في الدهن المتنجّس: «أنّ الاستصباح به تحت الظلال محظور بغير خلاف.» «1»

و يمكن المناقشة بأن ثبوت الإجماع على عدم جواز الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال- على فرض ثبوته- لا يقتضي ثبوته على حرمة الانتفاع بكلّ متنجّس. و إلقاء الخصوصيّة في المنع ممنوع، إذ لعلّ للدهن أو للاستصباح به تحت الظلال خصوصيّة موجبة للمنع فلا يقاس عليهما غيرهما.

(2) يمكن أن يقال:

إنه على فرض تحقّق الإجماع من القدماء المبني فتاواهم غالبا على التلقي من الأئمة عليهم السّلام لا يضرّ به مخالفة المتأخّرين المبني فتاواهم غالبا على استنباطات ظنّية، كما قيل بذلك في شهرة القدماء أيضا.

و لكن الإشكال في أصل تحقّق الإجماع بنحو يعتمد عليه و يكشف به قول المعصوم عليه السّلام علما أو اطمينانا، و من المحتمل كونه- على فرض الثبوت- مدركيّا و بناء الانتصار و الخلاف و الغنية على ذكر المسائل الخلافية التي أفتى فيها أصحابنا على خلاف ما عليه العامّة أخذا بأخبار العترة الطاهرة، و قد كثر في هذه الكتب الثلاثة دعوى الإجماع في هذه المسائل، و ليس مرادهم به الاتفاق على خصوص المسألة المعنونة، بل الاتفاق على ما هي مبنى لها من القواعد الكلّية و الحجج الثابتة عندنا.

______________________________

(1) السرائر 3/ 122.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 81

قال في المعتبر في أحكام الماء القليل المتنجّس: «و كلّ ماء حكم بنجاسته لم يجز استعماله- إلى أن قال-: و نريد بالمنع عن استعماله:

الاستعمال في الطهارة و إزالة الخبث و الأكل و الشرب، دون غيره مثل بلّ الطين و سقي الدابة.» انتهى. (1)

أقول: إنّ بلّ الصبغ و الحنّاء بذلك الماء داخل في الغير فلا يحرم الانتفاع بهما. (2)

______________________________

فقول الشيخ في الخلاف مثلا: «دليلنا: إجماع الفرقة» يرجع غالبا إلى قوله بعد ذلك: «و أخبارهم» و الثاني بيان للأوّل. و كأنّه قال: دليلنا في هذه المسألة أخبار العترة الطاهرة و إجماع الفرقة المحقّة على حجّية أخبار العترة في قبال المخالفين المنكرين لذلك فأراد بإجماع الشيعة، إجماعهم على حقّية مذهبهم و عصمة العترة الطاهرة و حجيّة أقوالهم.

و لم يصرّ حوا بذلك حذرا من طرح مسألة الإمامة في كلّ مسألة

مسألة، حيث كان ذلك يوجب النزاع و التنافر.

و ربّما يعبّر عن هذا النحو من الإجماع بالإجماع على القاعدة. و التعبير بالإجماع وقع مماشاة للعامّة القائلين بكونه دليلا مستقلا في قبال الكتاب و السنّة و إلّا فنحن لا نعتقد بحجّية الإجماع إلّا إذا كشف عن قول المعصوم عليه السّلام كما حقّق في محلّه.

(1) راجع المسألة الأخيرة من الطهارة الخبيثيّة من المعتبر «1»

(2) في مصباح الفقاهة قال: «الصبغ و الحنّاء ليسا من محلّ النزاع هنا في شي ء و لم يتقدّم لهما ذكر سابق، فلا نرى وجها صحيحا لذكرهما.» «2»

______________________________

(1) المعتبر 1/ 105 (ط. القديمة/ 26).

(2) مصباح الفقاهة 1/ 136.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 82

و أمّا العلّامة: فقد قصّر حرمة استعمال الماء المتنجّس في التحرير و القواعد و الإرشاد على الطهارة و الأكل و الشرب (1)، و جوّز في المنتهى الانتفاع بالعجين النجس في علف الدوابّ، محتجّا بأنّ المحرّم على المكلّف تناوله و بأنّه انتفاع فيكون سائغا للأصل. (2)

و لا يخفى أن كلا دليله صريح في حصر التحريم في أكل العجين المتنجّس.

و قال الشهيد في قواعده: «النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية.» (3) ثم ذكر ما يؤيد المطلوب.

______________________________

أقول: لم يظهر لي مراده «ره»، إذ بحثنا كان في الانتفاع بالمتنجّس، و بلّ الصبغ و الحنّاء بالماء المتنجّس ثمّ استعمالهما من أوضح موارد الانتفاع به فكيف لا يكونان من محلّ النزاع؟!

(1) في التحرير: «إذا حكم بنجاسة الماء لم يجز استعماله في الطهارة مطلقا و لا في الأكل و الشرب إلّا عند الضرورة.» «1»

(2) عبارة المنتهى هكذا: «فرع: لا بأس أن يطعم العجين النجس للدوابّ إذ لا تحريم في حقّها. و المحرّم على المكلف تناوله و لم

يحصل. و لأنّ فيه نفعا فكان سائغا. و خالف فيه بعض الجمهور، و هو باطل لما رواه الجمهور عن النبي صلى اللّه عليه و آله قال للقوم الذين اختبزوا من آبار الذين مسخوا: «علّفوا النواضح». و يجوز أن يطعم لما يؤكل في الحال خلافا لأحمد. و كذا ما يحلب لبنه وقت أكله عملا بالإطلاق.» «2»

(3) راجع قواعد الشهيد، القاعدة 175: «النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية للاستقذار أو للتوصّل إلى الفرار.» «3»

______________________________

(1) تحرير الأحكام/ 5، الفصل الثالث في أحكام الأواني.

(2) المنتهى 1/ 180، كتاب الطهارة، في أحكام النجاسات.

(3) القواعد للشهيد 2/ 85.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 83

و قال في الذكرى في أحكام النجاسة: «و تجب إزالة النجاسة عن الثوب و البدن»، ثم ذكر المساجد و غيرها- إلى أن قال-: «و عن كلّ مستعمل في أكل أو شرب أو ضوء تحت ظلّ للنهي عن النجس و للنصّ.»

انتهى. (1) و مراده بالنهي عن النجس: النهي عن أكله، و مراده بالنصّ ما ورد من المنع عن الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت السقف. (2)

[الانتفاع بغير الاستصباح]

فانظر إلى صراحة كلامه في أنّ المحرّم من الدهن المتنجّس بعد الأكل و الشرب خصوص الاستضاءة تحت الظلّ للنصّ.

و هو المطابق لما حكاه المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد عنه- قدّس سرّه- في بعض فوائده من جواز الانتفاع بالدهن المتنجّس في جميع ما يتصوّر من فوائده. (3) و قال المحقّق و الشهيد الثانيان في المسالك و حاشية الإرشاد عند قول المحقّق و العلّامة- قدّس سرّهما-: «تجب إزالة النجاسة عن الأواني»: «إنّ هذا إذا استعملت فيما يتوقف استعماله على الطهارة كالأكل و الشرب.» (4)

______________________________

(1) راجع حكم النجاسة من الذكرى. «1»

(2) ليس لنا ما يدلّ

على المنع عن الاستصباح تحت السقف إلّا ما مرّ من مرسلة المبسوط، و التعبير عنها بالنصّ مع الشكّ في أصل ثبوتها غريب.

(3) أشار بذلك إلى ما يأتي في المتن من المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد حكاية ذلك عن بعض الحواشي المنسوبة إلى الشهيد.

(4) عبارة المسالك هكذا: «هذا إذا كان الاستعمال يوجب تعدّي النجاسة كما لو استعملت بمائع و كان مشروطا بالطهارة كالأكل و الشرب اختيارا.» «2»

______________________________

(1) الذكرى/ 14.

(2) المسالك 1/ 17 (ط. أخرى 1/ 124)، في النجاسات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 84

و سيأتي عن المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد في مسألة الانتفاع بالأصباغ المتنجّسة ما يدلّ على عدم توقّف جواز الانتفاع بها على الطهارة.

و في المسالك (1) في ذيل قول المحقّق- قدّس سرّه-: «و كلّ مائع نجس عدا الأدهان.» قال: «لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها للطهارة بين صلاحيّتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم. و أمّا الأدهان المتنجّسة بنجاسة عارضة كالزيت تقع فيه الفأرة فيجوز بيعها لفائدة الاستصباح بها. و إنّما خرج هذا الفرد بالنصّ و إلّا فكان ينبغي مساواتها لغيرها من المائعات المتنجّسة التي يمكن الانتفاع بها في بعض الوجوه. و قد ألحق بعض الأصحاب ببيعها للاستصباح بها بيعها لتعمل صابونا أو يطلى بها الأجرب و نحو ذلك. و يشكل بأنّه خروج عن مورد النصّ المخالف للأصل، فإن جاز لتحقّق المنفعة فينبغي مثله في المائعات المتنجّسة التي ينتفع بها كالدبس يطعم للنحل و غيره.» انتهى. (2)

______________________________

(1) راجع المسالك، كتاب التجارة. «1»

(2) ظاهر كلامه التفكيك بين جواز الانتفاع و جواز البيع و أنّ الأصل

عدم جواز البيع، و لا محالة أراد بذلك أصالة الفساد في المعاملات. و لكن عرفت منا مرارا وجود الملازمة بينهما و أنّه إذا جاز الانتفاع بشي ء و صار مالا مرغوبا فيه بذلك فمقتضى السيرة و العمومات صحّة مبادلته أيضا، فتدبّر.

______________________________

(1) المسالك 1/ 164 (ط. أخرى 3/ 119).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 85

و لا يخفى ظهوره في جواز الانتفاع بالمتنجّس، و كون المنع من بيعه لأجل النصّ يقتصر على مورده. (1)

و كيف كان فالمتتبع في كلمات المتأخرين يقطع بما استظهرناه من كلماتهم. و الذي أظن- و إن كان الظنّ لا يغني لغيري شيئا- (2) أنّ كلمات القدماء ترجع إلى ما ذكره المتأخّرون و أنّ المراد بالانتفاع في كلمات القدماء: الانتفاعات الراجعة إلى الأكل و الشرب و إطعام الغير و بيعه على نحو بيع ما يحلّ أكله.

ثمّ لو فرضنا مخالفة القدماء كفى موافقة المتأخرين في دفع الوهن عن الأصل و القاعدة السالمين عمّا يرد عليهما. (3)

______________________________

(1) عبارة المتن هنا لا تخلو من إجمال إذا لم يكن في عبارة المسالك نسبة منع البيع إلى النصّ، بل نسب جوازه في الدهن لفائدة الاستصباح إلى النصّ، و علّل عدم جواز البيع بكونه مخالفا للأصل، فتدبّر. اللّهم إلّا أن يراد بالنصّ نصّ الأصحاب.

(2) الظنّ لا يغنيه أيضا إلّا إذا وصل إلى حدّ الاطمينان و سكون النفس فيكون حجّة لنفسه.

(3) لو فرض اشتهار الفتوى في كتب القدماء المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة بحيث أوجب الوثوق، لا يضرّ به مخالفة المتأخّرين المبتني فتاواهم غالبا على الاستنباطات الظنّية، و لكنّ الإشكال في تحقّق تلك الشهرة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 86

[جواز البيع لسائر الانتفاعات]

ثمّ على تقدير جواز غير الاستصباح من الانتفاعات فالظاهر جواز بيعه

لهذه الانتفاعات وفاقا للشهيد و المحقّق الثاني- قدّس سرّهما-، قال الثاني في حاشية الإرشاد في ذيل قول العلّامة «ره»: «إلّا الدهن للاستصباح»: «إنّ في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا الشهيد: أن الفائدة لا تنحصر في ذلك إذ مع فرض فائدة أخرى للدهن لا تتوقف على طهارته يمكن بيعه لها كاتخاذ الصابون منه. (1) قال: و هو مرويّ و مثله طلي الدوابّ. أقول: لا بأس بالمصير إلى ما ذكره شيخنا و قد ذكر أنّ به رواية.» انتهى.

أقول: و الرواية إشارة إلى ما عن الراوندي في كتاب النوادر بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهم السّلام.

______________________________

جواز بيع الدهن المتنجّس لغير الاستصباح و حكم بيع سائر المتنجسات

(1) بعد ما أثبتنا جواز الانتفاعات الأخر غير الاستصباح يقع البحث في جواز بيعه لها. و ظاهر المحكي عن الشهيد الأوّل وجود الملازمة بين جواز الانتفاع بشي ء و بين جواز بيعه لذلك، و قرّره المحقّق الثاني أيضا على ذلك، و قد كنّا نصرّ عليه أيضا.

و قد مرّ في صحيحة زرارة قوله عليه السّلام: «و إن كان ذائبا فلا تأكله و استصبح به و الزيت مثل ذلك.» «1»

و في خبر إسماعيل بن عبد الخالق: «و أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج و أمّا الأكل فلا.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 1/ 149، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 1.

(2) الوسائل 12/ 67، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 87

و فيه: سئل عليه السّلام عن الشحم يقع فيه شي ء له دم فيموت؟ قال: «يبيعه لمن يعمله صابونا» الخبر. (1)

ثم لو قلنا بجواز البيع في الدهن لغير المنصوص من الانتفاعات المباحة فهل يجوز

بيع غيره من المتنجّسات المنتفع بها في المنافع المقصودة المحلّلة كالصبغ و الطين و نحوهما أم يقتصر على المتنجّس المنصوص و هو الدهن، غاية الأمر التعدّي من حيث غاية البيع إلى غير الاستصباح؟ إشكال: من ظهور استثناء الدهن في كلام المشهور في عدم جواز بيع ما عداه، بل عرفت من المسالك نسبة عدم الفرق بين ماله منفعة محلّلة و ما ليست له إلى نصّ الأصحاب. و ممّا تقدّم في مسألة جلد الميتة من أنّ الظاهر من كلمات جماعة من القدماء و المتأخّرين كالشيخ في الخلاف و ابن زهرة و العلّامة و ولده و الفاضل المقداد و المحقّق الثاني و غيرهم دوران المنع عن بيع النجس مدار جواز الانتفاع به و عدمه إلّا ما خرج بالنصّ كأليات الميتة مثلا أو مطلق نجس العين على ما سيأتي من الكلام فيه. (2)

______________________________

فوقع الإذن في الاستصباح و البيع له في قبال النهي عن الأكل، و لو كان غيره حراما لقال: و أمّا غيره فلا.

(1) عبارة الرواية على ما في المستدرك هكذا: «إنّ عليّا عليه السّلام سئل عن الزيت يقع فيه شي ء له دم فيموت؟ فقال: «يبيعه لمن يعمل صابونا.» «1» و قد مرّ في أوّل المسألة نحوها عن الجعفريات و الدعائم أيضا، فراجع. «2»

(2) أقول: و الاحتمال الثاني هو الصحيح عندنا لما مرّ من الملازمة بين جواز الانتفاع بشي ء و صيرورته بذلك مالا مرغوبا فيه و بين جواز بيعه لذلك، و أنّ

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

(2) راجع نفس المصدر و الباب، الحديثين 2 و 4؛ و أيضا راجع ص 54 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 88

[هل يجري الاستصحاب في الأحكام الكلية أم لا؟]

و هذا هو الذي يقتضيه استصحاب الحكم قبل التنجّس. (1)

______________________________

النجاسة بنفسها ليست مانعة عن البيع بعد كون الشي ء ذا منفعة محلّلة عقلائية.

و يشهد لصحّة المعاملة إطلاقات البيع و التجارة و الوفاء بالعقود كما لا يخفى.

اللّهم إلّا أن ينكر الإطلاق في آيتي البيع و التجارة كما مرّ.

و استثناء الدهن المتنجّس للاستصباح في كلام المشهور وقع تبعا للأخبار الواردة فيه، و هي لا تدلّ على الحصر، بل المتفاهم منها في أمثال المقام عدم دخالة الخصوصيّة و إلقاؤها، و إنّما وقعت الأسئلة و الأجوبة حول الدهن و الزيت و الاستصباح بهما لكثرة الابتلاء بالمتنجّس منهما في تلك الأعصار و انحصار المنفعة المحلّلة المعتدّ بها بعد تنجّسهما في الاستصباح.

هل يجري الاستصحاب في الأحكام الكلية أم لا؟

[تصوير الاستصحاب في المقام]

(1) أقول: الاستصحاب في أمثال المقام يمكن أن يقرّر بوجهين:

الأوّل: أن يجعل مورده الموضوع الجزئي الخارجي كأن يشار إلى الطين أو الصبغ الخارجي المتنجّس مثلا فيقال: هذا الجسم الخارجي كان جائز البيع قبل تنجّسه فيستصحب فيه ذلك بعد تنجّسه.

الثاني: أن يجعل مورده الموضوع بالنحو العامّ فيقال: الصبغ المتنجّس كان جائز البيع قبل تنجّسه فيستصحب فيه ذلك بعد تنجّسه.

و المتصدّي لإجرائه في الأوّل، المكلّف الشخصي بعد إفتاء الفقيه به.

و في الثاني الفقيه المفتي.

و لا يخفى أنّ الشبهة في كلا التقريرين ترجع إلى الجهل بالحكم الكلّي الشرعي و يكون رفع الشبهة بيد الشارع الأقدس. و كان المورد الثاني تعبير عن قضايا جزئية متكثرة بقضية واحدة كليّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 89

..........

______________________________

و نظير المقام استصحاب نجاسة الماء المتغيّر إذا زال تغيره بنفسه و استصحاب نجاسة الماء المتمّم كرّا، و استصحاب حرمة وطي الحائض إذا انقطع دمها و لم تغتسل بعد.

و استشكلوا في الاستصحاب في

أمثال المقام بعدم بقاء الموضوع و اختلاف القضيّة المتيقّنة و المشكوكة فليس استصحابا بل هو من قبيل إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

و أجيب عنه بأنّ الموضوع في الاستصحاب يؤخذ من العرف لا من العقل الدقي الفلسفي، و العرف يرى اتّحاد القضيّتين، و لا سيّما إذا كان مورد الاستصحاب الموضوع الجزئي الخارجي. هذا كلّه على فرض جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة.

[كلام مصباح الفقاهة في أمرين]
[الأمر الأول: الترديد في جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة]
اشارة

و في مصباح الفقاهة في المقام ما هذا لفظه: «إذا سلّمنا جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة الإلهيّة و أغمضنا عن معارضته دائما بأصالة عدم الجعل- كما نقّحناه في الأصول- فلا نسلّم جريانه في المقام لأنّ محلّ الكلام هو الجواز الوضعي بمعنى نفوذ البيع على تقدير وجوده. و عليه فاستصحاب الجواز بعد التنجّس يكون من الاستصحاب التعليقي الذي لا نقول به.» «1»

أقول: كلامه- طاب ثراه- يرجع إلى أمرين: الأوّل: الترديد في جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة.

الثاني: كون الاستصحاب في المقام تعليقيّا و هو لا يقول به.

[محصل كلامه ره]

أمّا الأمر الأوّل فمحصّل كلامه- على ما في مصباح الأصول-: «التفصيل في حجيّة الاستصحاب بين الأحكام الكليّة الإلهيّة و بين غيرها من الأحكام الجزئيّة و الموضوعات الخارجيّة، فلا يكون حجّة في القسم الأوّل لا لقصور الروايات

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 137.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 90

..........

______________________________

الواردة، بل لأنّ الاستصحاب في الأحكام الكليّة معارض بمثله دائما كما قال به الفاضل النراقي «ره».

بيان ذلك أنّ الشكّ في الحكم الشرعي تارة يكون في بقاء أصل الجعل الشرعي بعد العلم به فيجري استصحاب بقائه و عدم نسخه و إن كان إطلاق قوله: «حلال محمّد صلى اللّه عليه و آله حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة» يغنينا عن هذا الاستصحاب.

و أخرى يكون الشكّ في بقاء المجعول بعد فعليّته بتحقّق موضوعه. و هذا على قسمين: لأنّه إمّا أن يكون لأجل الشكّ في دائرة المجعول سعة و ضيقا كما إذا شكّ في حرمة و طي الحائض بعد انقطاع الدم و قبل الاغتسال. و مرجع هذا إلى الشكّ في سعة الموضوع و ضيقه و أنّ الموضوع للحرمة واجدة الدم أو المحدثة بحدث

الحيض بإطلاقها، و يسمّى ذلك بالشّبهة الحكميّة.

و إمّا أن يكون لأجل الشكّ في الأمور الخارجيّة كما إذا شكّ في انقطاع الدم و عدمه، و يعبّر عن ذلك بالشبهة الموضوعيّة.

أمّا الثانية فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيها.

و أمّا الشبهة الحكميّة فإن كان الزمان فيها مفردا و الحكم انحلاليا كحرمة و طي الحائض مثلا- فإنّ للوطي أفرادا كثيرة بحسب امتداد الزمان من أوّل الحيض إلى آخره- فلا يمكن جريان الاستصحاب فيها، لأنّ هذا الفرد من الوطي و هو الفرد المفروض وقوعه بعد انقطاع الدم و قبل الاغتسال لم تعلم حرمته من أوّل الأمر حتى نستصحب بقاءها، و الأفراد المتيقّن حرمتها قد مضى زمانها.

و أمّا إذا لم يكن الزمان مفردا عرفا كنجاسة الماء القليل المتمّم كرا- فإنّ الماء شي ء واحد عرفا و نجاسته حكم واحد مستمرّ من أوّل الحدوث إلى الزوال، و من هذا القبيل الملكيّة و الزوجيّة- فلا يجري الاستصحاب في هذا القسم أيضا لابتلائه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 91

..........

______________________________

بالمعارض، إذ في الماء المتمّم مثلا لنا يقين متعلّق بالمجعول و يقين متعلّق بالجعل، فبالنظر إلى المجعول يجري استصحاب النجاسة، و بالنظر إلى الجعل يجري استصحاب عدم النجاسة، و ذلك لليقين بعدم جعل النجاسة للماء القليل في صدر الإسلام، و المتيقّن إنّما هو جعلها للقليل غير المتمّم، أمّا جعلها للقليل المتمّم فهو مشكوك فيه فيستصحب عدمه، و يكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر فيؤخذ بالقدر المتيقّن أعني الأقل. و كذلك الملكيّة و الزوجيّة و نحوهما، فإذا شككنا في بقاء الملكيّة بعد رجوع أحد المتبايعين في المعاطاة فباعتبار المجعول و هي الملكيّة يجري استصحاب بقائها و باعتبار الجعل يجري استصحاب عدم الملكيّة

لتماميّة أركان الاستصحاب في كليهما ...» «1»

أقول: ما ذكره من منع جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة لمعارضته بمثله دائما أمر أصرّ عليه هو «ره» في مباحثه الفقهيّة. و قد يستفاد من ظاهر كثير ممن حكي عنه عدم جريانه فيها بنحو الإطلاق، و لكن المذكور في مصباح الأصول اختصاص المنع بالأحكام الإلزاميّة، فلا مانع من جريانه في الإباحة و كذا في الطهارة من الحدث و الخبث، إذ هما لا تحتاجان إلى الجعل، فإنّ الأشياء كلّها على الإباحة و الطهارة ما لم يجعل خلافهما.

ثمّ قال: «فتحصّل أنّ المختار في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة هو التفصيل على ما ذكرنا لا الإنكار المطلق كما عليه الأخباريون و الفاضل النراقي و لا الإثبات المطلق كما عليه جماعة من العلماء.» «2» هذا.

[كلام الشيخ الأعظم «ره»]

و الشيخ الأعظم «ره» حكي في الرسائل في آخر التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب عن بعض معاصريه في تقريب ما ذكره من تعارض الاستصحابين بما لفظه: «إذا علم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة و علم أنّه واجب إلى الزوال

______________________________

(1) مصباح الأصول 3/ 36- 38، التفصيل الثالث في حجيّة الاستصحاب.

(2) نفس المصدر 3/ 48.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 92

..........

______________________________

و لم يعلم وجوبه فيما بعده فنقول: كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة و فيه إلى الزوال و بعده معلوما قبل ورود أمر الشارع و علم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة و علم ارتفاعه و التكليف بالجلوس فيه قبل الزوال و صار بعده موضع الشكّ، فهنا شكّ و يقينان و ليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر.

فإن قلت: يحكم ببقاء اليقين المتّصل بالشكّ و هو اليقين بالجلوس.

قلنا: إنّ الشكّ في تكليف ما

بعد الزوال حاصل قبل مجي ء يوم الجمعة وقت ملاحظة أمر الشارع فشكّ يوم الخميس مثلا حال ورود الأمر في أنّ الجلوس غدا هل هو مكلّف به بعد الزوال أيضا أم لا؟ و اليقين المتّصل به هو عدم التكليف فيستصحب و يستمرّ ذلك إلى وقت الزوال.» انتهى. «1»

و أجاب الشيخ «ره» عن إشكال المعارضة بما محصّله: «أنّ الأمر الوجودي المجعول إن لوحظ الزمان قيدا له أو لمتعلّقه فلا مجال لاستصحاب الوجود للقطع بارتفاع ما علم وجوده و الشكّ في حدوث ما عداه. و إن لو حظ الزمان ظرفا له لا قيدا فلا مجال لاستصحاب العدم لأنّه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصّة من الزمان و كونه أزيد- و المفروض تسليم حكم الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه- فلا وجه لاعتبار العدم السابق.

و الحاصل: أنّ الموجود في الزمان الأوّل إن لو حظ مغايرا للموجود الثاني فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأوّل فلا مجال لاستصحاب الموجود. و إن لو حظ متحدا مع الثاني إلّا من حيث ظرفه الزماني فلا معنى لاستصحاب عدم ذلك الوجود لأنّه انقلب إلى الوجود. و كأن المتوهّم ينظر في استصحاب الوجود إلى كون الموجود أمرا قابلا للاستمرار، و في استصحاب

______________________________

(1) مناهج الأحكام و الأصول للمحقّق النراقي/ 239؛ و راجع أيضا فرائد الأصول/ 376 (ط. أخرى 2/ 647).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 93

..........

______________________________

العدم إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود.» «1»

و راجع في هذا المجال التنبيه الرابع من تنبيهات الاستصحاب من الكفاية. «2»

و لكن أجاب في مصباح الأصول عمّا ذكره الشيخ «ره» بما محصّله: «بقاء المعارضة مع ذلك، إذ بعد البناء على المسامحة العرفيّة و

بقاء الموضوع عرفا يقال:

إنّ هذا الموضوع الواحد كان حكمه كذا و شكّ في بقائه فيستصحب. و يقال أيضا: إنّ هذا الموضوع لم يكن في أوّل الأمر محكوما بحكم لا مطلقا و لا مقيّدا بحال، و القدر المتيقّن جعل الحكم له حال كونه مقيّدا بالزمان الأوّل فيبقى جعل الحكم له بالنسبة إلى الحال الثاني مشكوكا فيه فيستصحب عدمه.» «3»

أقول: ربّما ينسبق إلى الذهن عاجلا صحّة ما ذكره من المعارضة لأن الاستصحابين في عرض واحد لا تقدّم لأحدهما على الآخر حتى يرتفع به موضوع الآخر تعبّدا. و ملاحظة بقاء الموضوع عرفا و استصحاب حكمه لا يمنع عن ملاحظته ثانيا بلحاظ آخر، فيلحظ أنّه لم يكن الموضوع في الأزل محكوما بحكم أصلا لا مطلقا و لا مقيّدا، و المتيقّن جعل الحكم له في الزمان الأوّل فيبقى في الزمان الثاني على أصل العدم.

و ما ذكره الشيخ «ره» من أنّ المفروض تسليم حكم الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه فلا وجه لاعتبار العدم السابق مرجعه إلى إجراء استصحاب الوجود و مانعيّته عن جريان استصحاب العدم.

و يرد عليه: أنّه لو فرض تقدّم رتبة استصحاب الوجود صار الحكم الأوّل بضميمة هذا الاستصحاب و بركته مانعا عن اللحاظ الثاني و استصحاب العدم و لكن لا دليل على تقدّمه. و المفروض عدم شمول دليل الحكم أيضا للزمان الثاني

______________________________

(1) فرائد الأصول/ 377 (ط. أخرى 2/ 648)، التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب.

(2) كفاية الأصول 2/ 314 و ما بعدها.

(3) مصباح الأصول 3/ 39، في الاستصحاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 94

..........

______________________________

و إلّا لم نحتج إلى الاستصحاب، و على هذا فأيّ مانع عن جريان استصحاب العدم؟

نعم لو كان الشكّ في أحد الاستصحابين

مسبّبا عن الشكّ في الآخر صار جريان الاستصحاب في السبب رافعا للشكّ عن المسبّب تعبّدا.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ نظر الشيخ الأعظم «ره» إلى أنّ المقام من هذا القبيل، بتقريب أنّ الشكّ في المجعول في الزمان الثاني مسبّب عن الشكّ في طول عمر المجعول الأوّل و قصره و باستصحاب الوجود يثبت طول عمره و أنّ المتعلّق للحكم في الزمانين أمر واحد محكوم بحكم واحد فيرتفع الشكّ عن حكم الزمان الثاني تعبّدا. هذا.

[كلام الأستاذ الإمام «ره»]

و قد حكى الأستاذ الإمام «ره» في الرسائل هذا الجواب عن مجلس بحث أستاذه العلّامة الحائري- طاب ثراه- ثمّ استشكل عليه بوجهين و محصّلهما: «أمّا أوّلا:

فلأنّ الشكّ في وجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال ليس ناشئا عن الشكّ في بقاء وجوب الجلوس الثابت قبله. بل منشأه إمّا الشكّ في أنّ المجعول هل هو ثابت لمطلق الجلوس أو للجلوس قبل الزوال، فليس شكّه ناشئا عن الشكّ في البقاء بل عن كيفيّة الجعل، و إمّا الشكّ في جعل وجوب مستقلّ للموضوع المتقيّد بما بعد الزوال.

و أمّا ثانيا: فلأنّ الشرط في حكومة الأصل السببي على المسبّبي أن يكون الأصل الحاكم رافعا للشكّ عن المسبّب تعبّدا بأن يكون المستصحب في الأصل المسبّبي من الآثار الشرعيّة للسبب كاستصحاب كرّيّة الماء الحاكم على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به فلا يكفي في الحكومة مجرّد كون أحد الشكين ناشئا عن الشكّ في الآخر. فاستصحاب وجوب الجلوس إلى ما بعد الزوال لا يثبت كون الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال واجبا إلّا على القول بالأصل المثبت بل حاله أسوأ من الأصل المثبت.» «1»

______________________________

(1) الرسائل للإمام الخميني «ره» 1/ 162، في جواب شيخنا العلّامة و ما فيه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 95

..........

______________________________

ثمّ

تصدّى هو بنفسه للجواب عن الإشكال بوجه تحقيقيّ حاكيا إجماله عن كتاب الدرر لأستاذه و محصّله: «أنّ المعارضة بين الأصلين إنّما تتحقّق إذا كان موضوع حكمهما واحدا و كان مفاد أحد الأصلين حكما مناقضا للحكم الآخر و في التناقض يشترط حفظ وحدات منها وحدة الموضوع، فحينئذ نقول: «إنّ الاستصحابين في المقام إمّا أن يكون موضوعهما واحدا أولا:

فعلى الأوّل تقع المعارضة بينهما لو فرض جريانهما، و لكن فرض وحدة الموضوع موجب لسقوط أحدهما لأنّ الموضوع إمّا نفس الجلوس فلا يجري فيه الاستصحاب العدمي لأنّ عدم وجوب الجلوس انتقض بوجوبه الثابت له قبل الزوال، و أمّا الجلوس المتقيّد ببعد الزوال أو بقبل الزوال فلا يجري الاستصحاب الوجودي.

و أمّا على الثاني، أعني كون الموضوع للأصل الوجودي نفس الجلوس و للأصل العدمي الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال، فلا منافاة بينهما، لإمكان حصول القطع بوجوب الجلوس بعد الزوال بما أنّه جلوس بحيث يكون تمام الموضوع للوجوب نفس الجلوس، و عدم وجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال بحيث يكون الجلوس جزء للموضوع. كما أنّ الإنسان ناطق بما أنّه إنسان لا بما أنّه ماش مستقيم القامة. و بالجملة فالجلوس بعد الزوال واجب بما أنّه جلوس و لا يكون واجبا بما أنّه متقيّد بما بعد الزوال.

لا يقال: المطلق إذا كان واجبا سرى بإطلاقه إلى جميع الحالات و منها المقيّد بما بعد الزوال فيصير معارضا للمقيّد.

فإنّه يقال: ليس معنى الإطلاق ضمّ القيود إلى المطلق و دخلها في الحكم بل معناه رفض جميع القيود و كون نفس الطبيعة موضوعا للحكم.» «1» هذا.

و تفصيل المسألة يطلب من الكتب الأصوليّة.

______________________________

(1) الرسائل للإمام الخميني «ره» 1/ 163 و 164.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 96

نكات حول ما مرّ عن مصباح الأصول
اشارة

و لنشر

هنا إلى نكات جزئيّة حول ما مرّ عن مصباح الأصول:

الأولى: أنّ ما ذكره من الفرق بين مثال وطي الحائض و مثال نجاسة الماء المتمّم كرّا

______________________________

و جعل الزمان في الأوّل مفردا للموضوع لا يخلو من إشكال، إذ في كلامه خلط بين موضوع الحكم و متعلّقه. فالمرأة الحائض في المقام موضوع للحرمة و فعل المكلّف أعني الوطي متعلّق لها. و إسناد الحرمة إلى كليهما صحيح شائع في الاستعمالات. و على هذا فيمكن أن يشار إلى المرأة الخارجيّة و يقال: هذه المرأة كانت محرّمة الوطي قبل انقطاع دمها ثمّ شكّ في ذلك فيستصحب حكمها، و الموضوع و هي المرأة باقية في الحالين.

الثانية: أنّ ما ذكره من كون الأشياء بالذات على الإباحة و الطهارة

بقسميها و أنّهما لا تحتاجان إلى الجعل قابل للمنع، إذ الأصل في التصرّف في مال الغير و سلطته و منه أموال مالك الملوك بأقسامها هو الحظر و عدم جواز التصرّف، يحكم بذلك العقل الصريح ما لم يرد من المالك الترخيص فالترخيص يكون بالجعل.

و كون الأصل على الطهارة من الحدث يستلزم عدم احتياج الإنسان المخلوق ساعة- لو فرض- إلى الوضوء لصلاته، و هذا مخالف لظواهر الأدلّة و ارتكاز المتشرّعة، فيعلم بذلك أنّها أمر وجودي يتحصّل بالوضوء الذي جعله اللّه- تعالى- سببا لها.

نعم في الطهارة من الخبث يمكن أن يقال بأنّ الأصل في الأشياء هي النظافة و الطهارة و أنّ القذارة أمر يعرض لها، فتأمّل.

الثالثة: ما يرى في المقام من التعبير عن أصل العدم بأصالة عدم الجعل

ربما يناقش فيه بأنّ الجعل من أفعال الحاكم و ليس حكما شرعيّا حتى يستصحب هو أو عدمه. و إثبات عدم الحكم باستصحاب عدم الجعل من الأصل المثبت.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 97

..........

______________________________

و لكن يمكن أن يجاب عن ذلك أوّلا بكون الجعل و المجعول تعبيرين عن حقيقة واحدة و لا يتفاوتان إلّا بالإضافة و الاعتبار، فهذه الحقيقة الواحدة بالإضافة إلى الحاكم يعبّر عنه بالجعل و بالإضافة إلى المتعلّق يعبّر عنه بالحكم.

و ثانيا: أن مصبّ الاستصحاب نفس المجعول أو عدمه، و التعبير بالجعل وقع مسامحة فيراد بذلك المجعول الكلّي الإنشائي قبل أن يتحقّق موضوعه خارجا و يصير فعليّا بذلك. و الحكم الإنشائي له وجود اعتباريّ له أثر عملي عند تحقّق موضوعه فيمكن استصحاب وجوده و عدمه، و ما هو المعتبر في المستصحب أن يكون حكما شرعيّا أو موضوعا ذا حكم أو عدمهما، و لا يعتبر وجود الأثر العملي في السابق بل يكفي تحقّقه حين الاستصحاب. و في المقام يترتّب على استصحاب عدم

المجعول في مرحلة الإنشاء عدم الإلزام و التكليف فعلا، فتدبّر.

هذا كلّه ما يرتبط بالأمر الأوّل من الأمرين اللذين أشار إليهما في مصباح الفقاهة.

[الأمر الثاني في كلامه كون المقام من الاستصحاب التعليقي]

الأمر الثاني: إنّ محلّ الكلام في المقام هو الجواز الوضعي بمعنى نفوذ البيع و صحّته فيكون الاستصحاب تعليقيّا و لا نقول به.

أقول: قد ذكروا في محلّه أنّ المستصحب إمّا أن يكون أمرا موجودا بالفعل ثمّ شكّ في بقائه كما في العصير الحلال إذا نشّ فشكّ في بقاء حلّيته، و يسمّى الاستصحاب فيه تنجيزيّا، و لا إشكال في جريانه بناء على جريانه في الأحكام الكليّة.

و إمّا أن يكون أمرا موجودا على تقدير وجود أمر آخر، مثل أنّ العنب محكوم بحرمة مائه على تقدير غليانه ثمّ صار زبيبا فشكّ في بقاء هذه الحرمة التقديرية له فهل يجري استصحابها أم لا؟ فيه خلاف بين الأعلام. و يسمّى هذا بالاستصحاب التعليقيّ.

فقد يقال: إنّه لا يعتبر في الاستصحاب أزيد من التحقّق سابقا و الشكّ

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 98

..........

______________________________

في البقاء، و من المعلوم أن تحقّق كلّ شي ء بحسبه، فالعنب مثلا محكوم بحكمين:

أحدهما تنجيزي و هي حلّية مائه فعلا، و الثاني تقديري و هي حرمته على تقدير الغليان، و هذا الوجود التقديري أيضا أمر متحقّق في نفسه في مقابل عدمه بحيث يعدّ من أحكام الشرع المبين للعنب.

و على هذا فكما يجوز أن يستصحب الحكم الأوّل عند الشكّ لا مانع من استصحاب الحكم الثاني أيضا أعني الحرمة على تقدير.

هذا مع قطع النظر عن الإشكال في المثال بما قيل من أنّ العنب و الزبيب أمران متغايران فلا بقاء للموضوع حتى ينظر العرف أيضا، و أنّ الزبيب لا ماء له حتّى يغلي إلّا ما دخل فيه من الخارج

فيفترق عن ماء العنب الكامن في ذاته.

و في قبال ما ذكر قد يقال: إنّ الظاهر كون القيد المأخوذ في القضيّة راجعا إلى الموضوع و يكون الموضوع مركبا و الشرط جزء منه. و قد اشتهر أنّ كلّ شرط موضوع و كلّ موضوع شرط. فقوله: «العنب إذا غلى يحرم» مرجعه إلى قوله:

«العنب المغلي يحرم»، و فعلية الحكم المترتّب على الموضوع المركّب تتوقّف على وجود موضوعه بتمام أجزائه، إذ نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علّته، فالحكم ليس للعنب فقط حتى يستصحب بعد صيرورته زبيبا. و من أجرى الاستصحاب هنا توهّم رجوع القيد إلى الحكم لا إلى الموضوع و هو عندنا باطل.

و ربّما يجاب عن ذلك بأنّ الشرط و إن رجع بالدقة العقليّة إلى الموضوع و يكون الموضوع مركبا لكن العرف يفرّقون بين قوله: «العنب المغليّ يحرم» و بين قوله:

«العنب إذا غلى يحرم»، فيرون الموضوع في الثاني نفس العنب و يحكمون بكونه محكوما بحكمين: أحدهما تنجيزي و الآخر تعليقيّ كما مرّ بيانه. و المرجع في تشخيص الموضوعات و إجراء الاستصحاب فيها العرف لا الدقّة العقليّة.

أقول: البحث في صحّة الاستصحاب التعليقيّ و عدمها موكول إلى محلّه و الذي نريد هنا ذكره بيان أنّ المقام يفترق عن مثال العنب و نحوه الذي علّق فيه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 99

..........

______________________________

الحكم على أمر خارجيّ كالغليان بحيث لا يتحقّق فيه الحكم إلّا بعد تحقّق هذا الأمر، إذ البيع في المقام ليس أمرا خارجيّا علّق عليه الحكم بل هو فعل من أفعال المكلّف و ممّا يوجده باختياره ليترتّب عليه الآثار و يكون من قبل الشارع محكوما بحكمين: الحليّة التكليفيّة و الصحّة وضعا، فكلاهما حكم شرعي متعلّقان بفعل المكلّف و المكلّف

المتشرع لا يوجده إلّا بترقّب صحّته و ترتّب آثاره عليه، فليس حكمه بصحّته متوقّفا على وجوده خارجا بل يكون وزانها وزان الحكم التكليفيّ بالنسبة إلى متعلّقه.

بل قد مرّ منا أنّ قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ يراد به الحليّة الوضعيّة و يكون قوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إرشادا إلى صحّتها. «1»

و بالجملة فالبيع من أفعال المكلّف و لا يوجد من قبل المتشرعة إلّا بترقّب ترتّب الآثار عليه، فما لم يحكم الشرع بصحّته لا يقدم المكلّف على إيجاده. و ليس حكم الشرع بصحّته مشروطا بوجوده خارجا، و ليس موضوع الصحّة مركبا من البيع و موضوعه على ما قالوا في العنب من كون موضوع الحرمة مركبا منه و من الغليان، بل الصحّة حكم لنفس البيع، و البيع متعلق لها لا موضوع.

و إن شئت قلت: إنّ البيع و سائر العقود التي يوجدها المكلّف بترقّب ترتّب الآثار ليس وزانها وزان القيود الخارجيّة التي لا ينطبق عليها الأحكام إلّا بعد تحقّقها في الخارج، و ليس وزانها وزان متعلّقات التكاليف أيضا، و لكنّها بالثانية أشبه لكونها من أفعال المكلّفين.

و كيف كان فليس الاستصحاب في المقام تعليقيّا، فتأمّل.

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 60- 68.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 100

[الأخبار الدالّة على جواز البيع لغير الاستصباح]

و هي القاعدة المستفادة من قوله عليه السّلام في رواية تحف العقول: «أنّ كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال.» (1)

و ما تقدّم من رواية دعائم الإسلام: من حلّ بيع كلّ ما يباح الانتفاع به. (2)

و أمّا قوله- تعالى-: فَاجْتَنِبُوهُ و قوله- تعالى-: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ فقد عرفت أنّهما لا تدلّان على حرمة الانتفاع بالمتنجّس (3) فضلا عن حرمة البيع على تقدير جواز الانتفاع.

______________________________

الأخبار الدالّة على

جواز البيع لغير الاستصباح

(1) عبارة تحف العقول هكذا: «من كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.» «1»

(2) عبارة الدعائم هكذا: «الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به.» «2».

و المفروض في المقام حلّ الانتفاع بالمتنجّس و إباحته.

هذا و لكن الخبرين ضعيفان كما مرّ، فالأولى- كما عرفت- الاستدلال بعمومات حلّ البيع و التجارة عن تراض و وجوب الوفاء بالعقود، إلّا أنّ يقال بعدم إطلاقها بالنسبة إلى خصوصيّات المتعلّق و شرائطه، بل يمكن منع أصل الإطلاق في آيتي البيع و التجارة لما مرّ من عدم كونهما في مقام البيان من كلّ جهة.

(3) لما مرّ أوّلا: من أنّ الظاهر من الرجس ما كان رجسا بذاته لا ما عرض له ذلك.

و ثانيا: أنّ المراد به في الآية بقرينة سائر المذكورات فيها ليس هو النجس الفقهي فضلا عن المتنجّس، بل ما كان خبيثا و قذرا معنويّا، و لم يحرز كون المتنجّسات من

______________________________

(1) تحف العقول/ 333.

(2) دعائم الإسلام 2/ 18، الفصل الثاني من كتاب البيوع، الرقم 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 101

و من ذلك يظهر عدم صحّة الاستدلال فيما نحن فيه بالنهي في رواية تحف العقول عن بيع شي ء من وجوه النجس بعد ملاحظة تعليل المنع فيها بحرمة الانتفاع. (1)

و يمكن حمل كلام من أطلق المنع عن بيع النجس إلّا الدهن لفائدة الاستصباح على إرادة المائعات النجسة التي لا ينتفع بها في غير الأكل و الشرب منفعة محلّلة مقصودة من أمثالها.

و يؤيّده تعليل استثناء

الدهن بفائدة الاستصباح، نظير استثناء بول الإبل للاستشفاء، و إن احتمل أن يكون ذكر الاستصباح لبيان ما يشترط أن يكون غاية للبيع. (2)

______________________________

هذا القبيل.

و ثالثا: أنّ وجوب الاجتناب في الآية لم يتفرّع على الرجس فقط بل على ما كان منه من عمل الشيطان و من مبتدعاته.

و مرّ أيضا أنّ الرجز ليس بمعنى النجس الفقهيّ فضلا عن المتنجّس و لم يفسّروه بذلك بل بالأصنام و العذاب و المعاصي و نحوها. «1»

(1) لما مرّ من أنّ الظاهر من وجوه النجس عنواناته المعهودة أعني الذوات النجسة. «2»

(2) و محصّل ذلك أنّ قولهم: «إلّا الدهن لفائدة الاستصباح» يحتمل فيه أمران:

الأوّل: أن يكون لهما دخل في صحّة البيع فلا يجوز بيع غيره من المتنجسات و لا الدهن لغير هذه الفائدة.

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 188 و ما بعدها؛ و ص 67 من هذا الكتاب.

(2) راجع نفس المصدر 1/ 467؛ و ص 72 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 102

قال في جامع المقاصد (1) في شرح قول العلّامة- قدّس سرّه-: «إلّا الدهن لتحقّق فائدة الاستصباح به تحت السّماء خاصّة.» قال: «و ليس المراد بخاصّة بيان حصر الفائدة في الاستصباح كما هو الظاهر. (2) و قد ذكر شيخنا الشهيد في حواشيه: أنّ في رواية: جواز اتّخاذ الصابون من الدهن المتنجّس، و صرّح مع ذلك بجواز الانتفاع به فيما يتصوّر من فوائده كطلي الدوابّ.

إن قيل: إنّ العبارة تقتضي حصر الفائدة لأنّ الاستثناء في سياق النفي يفيد الحصر، فإنّ المعنى في العبارة: إلّا الدهن النجس لهذه الفائدة.

قلنا: ليس المراد ذلك لأنّ الفائدة بيان لوجه الاستثناء، أي: إلّا الدهن لتحقّق فائدة الاستصباح، و هذا لا يستلزم الحصر. و يكفي في

صحّة ما قلنا تطرّق الاحتمال في العبارة المقتضي لعدم الحصر.»

انتهى.

______________________________

الثاني: أن يراد بالمنع عن البيع المنع عن بيع المائعات المتنجّسة التي لا فائدة لها سوى الأكل و الشرب فلا يريدون منع مثل الطين و الصبغ و نحوهما، و كان استثناء الدهن لا لخصوصيّة فيه بل لكثرة الابتلاء به و وجود منفعة محلّلة عقلائيّة له سوى الأكل و هو الاستصباح به، فيكون ذكر الاستصباح لتعليل الاستثناء به لا لبيان ما يشترط أن يكون غاية للبيع، فهو نظير استثناء بول الإبل و تعليله بالاستشفاء، و يشهد لهذا الحمل كلام جامع المقاصد:

(1) راجع جامع المقاصد، كتاب المتاجر. «1»

(2) فيراد بقيد: «خاصّة» المنع عن الاستصباح تحت السقف لا المنع عن الفوائد الأخر.

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 12، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 103

[عدم شمول الحكم لكلّ مائع متنجّس مثل الطين و الجصّ المائعين]

و كيف كان فالحكم بعموم كلمات هؤلاء لكلّ مائع متنجّس مثل الطين و الجصّ المائعين، و الصبغ و شبه ذلك محلّ تأمّل. و ما نسبه في المسالك من عدم فرقهم في المنع عن بيع المتنجّس بين ما يصلح للانتفاع به و ما لا يصلح فلم يثبت صحّته.

مع ما عرفت من كثير من الأصحاب من إناطة الحكم في كلامهم مدار الانتفاع. و لأجل ذلك استشكل المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد فيما ذكره العلّامة بقوله: «و لا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبول الطهارة.» حيث قال: «مقتضاه أنّه لو لم يكن قابلا للطهارة لم يجز بيعه، و هو مشكل إذ الأصباغ المتنجّسة لا تقبل التطهير عند الأكثر، و الظاهر جواز بيعها لأنّ منافعها لا تتوقّف على الطهارة. اللّهم إلّا أن يقال: إنّها تؤول إلى حالة تقبل معها التطهير لكن بعد جفافها بل ذلك هو

المقصود منها فاندفع الإشكال.»

أقول: لو لم يعلم من مذهب العلّامة دوران المنع عن بيع المتنجّس مدار حرمة الانتفاع لم يرد على عبارته إشكال لأنّ المفروض حينئذ التزامه بجواز الانتفاع بالأصباغ مع عدم جواز بيعها، إلّا أن يرجع الإشكال إلى حكم العلّامة و أنّه مشكل على مختار المحقّق الثاني لا إلى كلامه و أنّ الحكم مشكل على مذهب المتكلّم، فافهم. (1)

______________________________

(1) محصّل ذلك أنّ إشكال المحقّق الثاني يرد على كلام العلّامة لو فرض تسليم العلّامة للملازمة بين جواز الانتفاع و جواز البيع، و إلّا فمن الممكن أن يكون كلامه في الإرشاد مبنيّا على التفكيك بينهما كما حكاه في المسالك عن الأصحاب أيضا، إلّا أن يرجع إشكال المحقّق الثاني إلى أصل مبنى العلّامة و أنّه

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 104

ثمّ إنّ ما دفع به الإشكال من جعل الأصباغ قابلة للطهارة إنّما ينفع في خصوص الأصباغ، و أمّا مثل بيع الصابون المتنجّس فلا يندفع الإشكال عنه بما ذكره. و قد تقدّم منه سابقا جواز بيع الدهن المتنجّس ليعمل صابونا بناء على أنّه من فوائده المحلّلة.

مع أنّ ما ذكره من قبول الصبغ التطهير بعد الجفاف محلّ نظر لأنّ المقصود من قبوله الطهارة قبولها قبل الانتفاع و هو مفقود في الأصباغ لأنّ الانتفاع بها و هو الصبغ قبل الطهارة. و أمّا ما يبقى منها بعد الجفاف و هو اللون فهي نفس المنفعة لا الانتفاع، مع أنّه لا يقبل التطهير و إنّما القابل هو الثوب. (1)

______________________________

مخالف لمختار المحقّق الثاني لا إلى كلام العلّامة هنا و أنّه مخالف لمذهب نفسه.

(1) يعني أنّ مقصود العلّامة من قبول المتنجّس للطهارة قبوله لها قبل الانتفاع به لا قبول المنفعة لها، و اللون

منفعة للصبغ، و الانتفاع مصدر، و المنفعة من قبيل اسم المصدر، مع أنّ المنفعة لا تقبل الطهارة و إنّما القابل لها هو الثوب لأن اللون عرض عند العرف و لذا يحكم بطهارته، و النجاسة و الطهارة من أوصاف الأجسام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 105

[حكم الانتفاع بالأعيان النجسة]
اشارة

بقي الكلام في حكم نجس العين من حيث أصالة حلّ الانتفاع به في غير ما ثبت حرمته أو أصالة العكس.

فاعلم أنّ ظاهر الأكثر أصالة حرمة الانتفاع بنجس العين. (1)

______________________________

حكم الانتفاع بالأعيان النجسة

(1) مراد المصنّف بأصالة الحرمة المنسوبة إلى الأكثر القاعدة الكلّية المسلّمة عندهم بالأدلّة الشرعيّة لا الأصل العملي مع قطع النظر عنها. إذا الأصل العملي عند المصنّف يقتضي الإباحة كما سيصرّح به فيما بعد.

و المصنّف هنا عكس الترتيب الذي اتخذه في الانتفاع بالمتنجّسات، إذ هناك حكم بكون الأصل الجواز ثمّ بحث في حكومة الآيات و الأخبار و الإجماعات المحكيّة عليه، و أمّا في المقام فعبّر عن مفاد الأدلّة عند الأكثر بالأصل.

ثمّ إنّ الأصل الشرعي و إن اقتضى الحلّ و البراءة و لكنّ الأصل العقلي مع قطع النظر عن الشرع يقتضي عندنا الحظر، إذ العقل يحكم بقبح التصرّف في مال الغير و سلطته، و منه أموال مالك الملوك إلّا أن يرخّص فيه. هذا.

[نقل بعض كلمات الأصحاب في المسألة]

و المناسب هنا نقل بعض كلمات الأصحاب في المسألة:

1- في مكاسب المراسم: «و التصرّف في الميتة و لحم الخنزير و شحمه و الدّم و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «1»

______________________________

(1) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)؛ و كتاب المكاسب من المراسم/ 170.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 106

..........

______________________________

أقول: يحتمل في كلامه هذا أن يريد بالتصرّف الحرام خصوص التصرّفات الناقلة لا الانتفاعات فلا يرتبط بالمقام.

2- و في النهاية: «و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما إلّا أبوال الإبل خاصّة فإنه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة.» «1»

أقول: في كلامه نحو اغتشاش إذ

موضوع بحثه النجاسات، و بول الإبل ليس منها إلّا أن يراد بالنجاسة معنى أعمّ. و تعرّضه للشرب دليل على أنّ مراده بالتصرّف أعمّ من التصرّفات الناقلة فيشمل مطلق الانتفاعات.

3- و في ذبائح النهاية: «و ما لم يذكّ و مات لم يجز استعمال جلده في شي ء من الأشياء لا قبل الدباغ و لا بعده.» «2»

4- و في المبسوط: «و إن كان نجس العين مثل الكلب و الخنزير و الفأرة و الخمر و الدم و ما توالد منهم و جميع المسوخ و ما توالد من ذلك أو من أحدهما فلا يجوز بيعه و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال إجماعا إلّا الكلب فإنّ فيه خلافا ... و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب و الدّم فإنّه لا يجوز بيعه. و يجوز الانتفاع به في الزروع و الكروم و أصول الشجر بلا خلاف.» «3»

أقول: ظاهره نجاسة الفأرة و المسوخ. و ما ذكره أخيرا في العذرة و الخرء و الدّم بمنزلة الاستثناء ممّا ذكره في الصدر. و ظاهره التفكيك فيها بين جواز الانتفاع بالشي ء و جواز بيعه، و قد مرّ منّا المناقشة في ذلك. و هو أيضا التزم في موضع من الخلاف بالملازمة بينهما، قال فيه (المسألة 312 من البيع): «و روى أبو علي بن أبي هريرة في الإفصاح: أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله أذن في الاستصباح بالزيت النجس، و هذا

______________________________

(1) النهاية لشيخ الطائفة/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

(2) المصدر السابق/ 586.

(3) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 107

..........

______________________________

يدلّ

على جواز بيعه للاستصباح.» «1» و نحوه في الغنية. «2»

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التسميد بالعذرات و نحوها لا يوجب عند العقلاء ماليّة يعوّض عنها بالثمن، و لكنّه ممنوع بالوجدان.

5- و في أطعمة السرائر: «نجس العين و هو الكلب و الخنزير و ما توالد منهما و ما استحال نجسا كالخمر و البول و العذرة و جلد الميتة فكلّ هذا نجس العين لا ينتفع به و لا يجوز بيعه.» «3»

6- و في المستطرفات منه: «الإجماع منعقد على تحريم الميتة و التصرّف فيها بكلّ حال إلّا أكلها للمضطرّ.» «4»

7- و في التذكرة بعد ذكر قوله- تعالى-: فَاجْتَنِبُوهُ و قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ قال: «و الأعيان لا يصحّ تحريمها، و أقرب مجاز إليها جميع وجوه الانتفاع.» «5»

8- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنابلة: «و لا يصحّ بيع دهن نجس العين كدهن الميتة كما لا يصحّ الانتفاع به في أيّ شي ء من الأشياء ...»

و عن الحنفية في بيع الدهن: «ما عدا دهن الميتة فإنّه لا يحل الانتفاع به لأنّه جزء منها و قد حرّمها الشرع فلا تكون مالا.» «6»

إلى غير ذلك من العبارات ممّا يعثر عليها المتتبّع و إن كان بعضها في خصوص الميتة و لعلّ لها خصوصيّة كما يظهر من بعض.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 107

و في قبال ذلك كلّه كلمات يظهر منها جواز الانتفاع حتّى بالميتة و قد مرّ بعضها في مسألة بيع الميتة و يأتي بعضها في مطاوي المتن.

______________________________

(1) الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83).

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب

البيع من الغنية.

(3) السرائر 3/ 127.

(4) المصدر السابق 3/ 574.

(5) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، شرائط العوضين.

(6) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231- 232، كتاب البيع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 108

[الدليل على حرمة الانتفاع]
[الإجماع]

بل ظاهر فخر الدين في شرح الإرشاد و الفاضل المقداد الإجماع على ذلك حيث استدلّا على عدم جواز بيع الأعيان النجسة بأنّها محرّمة الانتفاع، و كلّ ما هو كذلك لا يجوز بيعه. قالا: «أمّا الصغرى فإجماعيّة.» (1)

و يظهر من الحدائق في مسألة الانتفاع بالدهن المتنجّس في غير الاستصباح نسبة ذلك إلى الأصحاب. (2)

______________________________

(1) عبارة الفاضل المقداد في التنقيح الرائع هكذا: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصحّ بيعه، أمّا الصغرى فإجماعية، و أمّا الكبرى فلقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها» ...

و لما رواه ابن عباس عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله: «إن اللّه إذا حرم شيئا حرّم ثمنه» «1»

أقول: يظهر من كلامه أنّه أراد بحرمة البيع عدم صحّته وضعا لا التكليف فقط، و قد قلنا سابقا إنّه الظاهر من كلمات القدماء من أصحابنا و من الكتاب و السنّة أيضا في باب المعاملات، فيراد بالحليّة و الجواز فيها الصحّة و بالحرمة و عدم الجواز الفساد، و على ذلك حملنا قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.

و يظهر منه أيضا ما كنّا نصرّ عليه من أن النجاسة بنفسها ليست مانعة عن صحّة المعاملة بل يدور ذلك مدار جواز الانتفاع بالشي ء بحيث يصير بذلك مالا مرغوبا فيه عند المتشرعة أو عدم جوازه.

(2) في الحدائق: «المفهوم من كلام الأصحاب تخصيص الانتفاع بالدهن بصورة الاستصباح خاصّة، فلا يتعدّى إلى غيرها بناء على

تحريم الانتفاع بالنجس مطلقا خرج منه ما وردت به أخبار الاستصباح المذكورة فيبقى ما عداه.» «2»

______________________________

(1) التنقيح الرائع 2/ 5، الفصل الأوّل من كتاب التجارة.

(2) الحدائق 18/ 89، المقام الأوّل من المقدّمة الثالثة من كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 109

[الكتاب]

و يدلّ عليه ظواهر الكتاب و السنة، مثل قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ بناء على ما ذكره الشيخ و العلّامة من إرادة جميع الانتفاعات (1)، و قوله- تعالى-: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ. (2) الدالّ على وجوب اجتناب كلّ رجس و هو نجس العين.

______________________________

(1) الآية في أوائل سورة المائدة، و لم أعثر على كلام للشيخ حولها إلّا ما في التبيان في تفسيرها من قوله: «و كلّ ما حرم أكله [حرام خ. ل] ممّا عدّدناه يحرم بيعه و ملكه و التصرّف فيه.» «1» و ظاهره حرمة جميع التصرّفات.

و مرّ عن العلّامة في التذكرة قوله: «و الأعيان لا يصحّ تحريمها و أقرب مجاز إليها جميع وجوه الانتفاع.» «2»

و في متاجر مفتاح الكرامة: «و قد استدل على تحريم الانتفاع بالميتة الطوسي و البيضاوي و الراوندي في أحد وجهيه، و المرتضى في ظاهر الانتصار، و المصنّف في التذكرة و نهاية الإحكام و المنتهى و المختلف، و ولده في شرح الإرشاد و غيرهم بقوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. قالوا لأنّه يستلزم إضافة التحريم إلى جميع المنافع المتعلقة بها لأنّ التحريم لا يتعلّق بالأعيان حقيقة فتعين المجاز و أقرب المجازات تحريم جميع وجوه الاستمتاعات و الانتفاعات. و حكاه في كنز العرفان عن قوم و احتمله المولى الأردبيلي في آيات أحكامه. و قد يرشد إلى ذلك تخصيص اللحم بالذكر في

الخنزير دون الميتة. و قد تجعل الشهرة قرينة على ذلك.» «3»

(2) راجع سورة المائدة «4». و تقريب الاستدلال بها أنّ وجوب الاجتناب في الآية متفرّع على الرجس و قد فسرّ بالنجس و إطلاقه يقتضي الاجتناب عن جميع الانتفاعات.

و بذلك يظهر وجه الاستدلال بآية الرجز بناء على تفسيره بالنجس.

______________________________

(1) التبيان 3/ 429.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، شرائط العوضين.

(3) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر.

(4) سورة المائدة (5)، الآية 90.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 110

و قوله- تعالى-: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ بناء على أنّ هجره لا يحصل إلّا بالاجتناب عنه مطلقا. و تعليله في رواية تحف العقول حرمة بيع وجوه النجس بحرمة الأكل و الشرب و الإمساك و جميع التقلّبات فيه. (1)

[السنة]

و يدلّ عليه أيضا كلّ ما دلّ من الأخبار و الإجماع على عدم جواز بيع نجس العين (2)، بناء على أنّ المنع من بيعه لا يكون إلّا مع حرمة الانتفاع به.

هذا.

______________________________

(1) قد ذكر في الرواية في عداد ما يحرم بيعه: الميتة و الدم و لحم الخنزير و الخمر أو شي ء من وجوه النجس ثمّ قال: «لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد فجميع تقلّبه في ذلك حرام.» «1»

(2) أقول: نحن و إن أنهينا أدلّة منع البيع إلى ثلاثة عشر دليلا لكن مع ضعف بعضها منعنا دلالة الأكثر على ذلك فضلا عن دلالتها على عدم جواز الانتفاع. نعم صرّح في رواية تحف العقول- كما مرّ- بالمنع عن بيع وجوه النجس و علّله بمنع الانتفاعات منها، و لكنّها ضعيفة مضطربة المتن كما مرّ في محلّه. «2»

و صرّح في

بعض الأخبار الماضية بكون ثمن العذرة و الميتة و الكلب و الخمر سحتا، و لكن وقع هذا التعبير بعينه في بعض ما لا يحرم ثمنه قطعا كعمل الحجّام و نحوه أيضا، فيشكل دلالتها على حرمة البيع فضلا عن حرمة الانتفاع، بل لا إشكال في جواز الانتفاع ببعضها كالعذرة للتسميد و الكلب للصيد و الحراسة و جلد الميتة لسقي البساتين و الخمر للتخليل كما مرّ جميع ذلك في محلّها. «3»

______________________________

(1) تحف العقول/ 333.

(2) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 88 و ما بعدها.

(3) راجع المصدر السابق 1/ 247، 411، 327، و 451.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 111

[الجواب عن أدلة التحريم]
اشارة

و لكنّ التأمّل يقضي بعدم جواز الاعتماد في مقابل أصالة الإباحة على شي ء ممّا ذكر:

[أما الآيات]

أمّا آيات التحريم و الاجتناب و الهجر فلظهورها في الانتفاعات المقصودة في كلّ نجس بحسبه. و هي في مثل الميتة الأكل، و في الخمر الشرب، و في الميسر اللعب به، و في الأنصاب و الأزلام ما يليق بحالهما. (1)

______________________________

(1) ملخّص جواب المصنّف عن الآيات الثلاث ظهورها في المنع عن الانتفاعات الظاهرة المتعارفة في كلّ نجس بحسبه لا عن كلّ منفعة. و ظاهر كلامه تسليم كون الرجس و الرجز بمعنى النجس و جعل الميسر و الأنصاب و الأزلام من مصاديقه. و كأنّه لم يرد بالنجس النجس الفقهي بل مطلق ما يستقذر و لو معنى و يعبّر عنه بالفارسية ب «پليد».

و الأولى التعرّض لكلّ من الآيات الثلاث بنحو أوفى و إن تعرّضنا لها سابقا «1» و لكنّ الحوالة لا تخلو من خسارة فنقول:

أمّا الآية الأولى فالمقصود فيها و في نظائرها تحريم الأكل لا كلّ انتفاع كما يشهد بذلك سياقها. و قد وقع تحريم الميتة في أربع سور:

ففي سورة البقرة ورد قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ ثمّ عقّبه بقوله: إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ... «2»

و في سورة النحل ورد قوله: فَكُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ حَلٰالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ الهِٰ.. إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ ثم عقبه بقوله: إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ... «3».

______________________________

(1) راجع المصدر السابق 1/ 187 و ما بعدها؛ و أيضا ص 64 من هذا الكتاب.

(2) سورة البقرة (2)، الآيتان 172 و 173.

(3) سورة النحل (16)، الآيتان 114

و 115.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 112

..........

______________________________

و الحصر فيهما وقع بلحاظ ما تعارف أكله من المحرّمات فلا ينتقض بمثل الكلب و السباع و نحوها لعدم تعارف أكلها في عصر نزول الآية، و بهذا اللحاظ أيضا ذكر اللحم في الخنزير.

و بالجملة فالحصر فيهما إضافي. نعم لو قيل بكونه حقيقيّا كما هو الظاهر منه لو لا القرينة جاز الاستدلال به لحلّية كلّ ما شكّ في حلّيته من أنواع الحيوان بالشبهة الحكميّة، نظير ما يسمّى في عصرنا: «كنغر» و تعارف استعمال لحمه في بعض البلاد الإسلامية على ما قيل، و قالوا إنّه يتغذى بالنباتات و لا يكون من السّباع. و إنّما استثني الكلب و السباع و المسوخ بالأدلّة، فتدبّر. هذا.

و في الأنعام ورد قوله- تعالى-: قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ «1» فذكر فيها خصوص الطعام.

و ورد في الآية الثالثة من المائدة قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ.

و في الرابعة منها قوله: يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ وَ مٰا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوٰارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّٰا عَلَّمَكُمُ اللّٰهُ فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ....

و في الخامسة منها قوله: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ.

و استثنى في السّور الأربع المضطر إليها، و قيّده في المائدة بالمخمصة أي المجاعة.

فجميع ذلك قرينة على إرادة خصوص الأكل من التحريم الواقع في الآيات و لا أقلّ من الاحتمال فيبطل الاستدلال بها لحرمة جميع الانتفاعات مع وجود القرينة المتّصلة.

و قد شاع في تلك الأعصار أكل الميتات و الدم و لحم الخنزير، فأراد اللّه-

تعالى- الزجر عنها. و حصر الحلال في المذكّى.

______________________________

(1) سورة الأنعام (6)، الآية 145.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 113

..........

______________________________

و يشهد لما ذكرنا من الاختصاص بالأكل ما ورد من الأخبار في تعليل تحريم الأشياء المذكورة في الآيات، فراجع الباب الأوّل من أبواب الأطعمة المحرّمة من الوسائل. «1»

منها: رواية المفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني- جعلني اللّه فداك- لم حرّم اللّه الخمر و الميتة و الدّم و لحم الخنزير؟ قال: «إنّ اللّه- تبارك و تعالى- لم يحرّم ذلك على عباده و أحلّ لهم ما سواه من رغبة منه فيما حرّم عليهم و لا زهد فيما أحلّ لهم، و لكنّه خلق الخلق فعلم ما تقوّم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحلّه لهم و أباحه تفضّلا منه عليهم به لمصلحتهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّم عليهم، ثمّ أباحه للمضطرّ و أحلّه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك.» ثم قال: «أمّا الميتة فإنّه لا يدمنها أحد إلّا ضعف بدنه و نحل جسمه و ذهبت قوّته و انقطع نسله و لا يموت آكل الميتة إلّا فجأة ...» «2»

و على هذا فحمل التحريم المتعلّق بالأعيان في الآيات على تحريم جميع الانتفاعات في غاية البعد و إن ورد احتماله في كلمات الأعلام.

و أمّا الآية الثانية فأجاب عنها المصنّف سابقا أوّلا: بأن الرجس فيها لا يراد به النجس الفقهيّ و لذا حمل على الميسر و نحوه من المذكورات في الآية.

و ثانيا: بأنّ وجوب الاجتناب لم يتفرّع على الرجس فقط بل على ما كان منه من عمل الشيطان و من مبتدعاته و منها الخمر

التي يصنعها الفسّاق بإلقائه فلا يشمل الحكم كلّ نجس.

و أجاب عنها هنا بأنّ مناسبة الحكم و الموضوع يقضي بكون اجتناب كلّ شي ء بحسبه فينصرف الاجتناب عن المأكولات إلى ترك أكلها، و عن المشروبات إلى ترك شربها، و عن المنكوحات إلى ترك نكاحها، و هكذا.

______________________________

(1) راجع الوسائل 16/ 309 (ط. أخرى 16/ 376).

(2) نفس المصدر و الصفحة، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 114

..........

______________________________

و أمّا آية الرجز فيجاب عنها أوّلا: بأنّ الرجز ليس بمعنى النجس الفقهي و لم يفسّروه بذلك بل بالعذاب و الأصنام و المعاصي و نحو ذلك كما مرّ تفصيل ذلك في مسألة الانتفاع بالمتنجّس.

و ثانيا: بأنّ الهجر المتفرّع عليه نظير الاجتناب فيكون هجر كلّ شي ء بحسبه و يراد آثاره الظاهرة المنصرف إليها إطلاقه.

و كيف كان فلا عموم في الآيات الثلاث بحيث تشمل جميع الانتفاعات و لا أقل من الشكّ مع القرينة على الخصوص، فتدبّر.

هذا و قد مرّ عن المصنّف في مسألة الانتفاع بالمتنجّسات الاستدلال بآية الخبائث أيضا ثم أجاب عنها بأن المراد منها حرمة الأكل بقرينة مقابلتها بحليّة الطيّبات.

أقول: إذا فرض الاستدلال بها في المتنجّسات فالاستدلال بها في النجاسات أولى و أنسب، فكان عليه التعرّض لها هنا أيضا، بتقريب أن الجمع المحلّى باللام يفيد العموم، و الألفاظ و إن كانت تنصرف إلى المفاهيم و المصاديق العرفيّة لكن بعد حكم الشارع بنجاسة شي ء و قذارته يصير هذا الشي ء عند المتشرعة مصداقا للخبيث أيضا، فيشمله الآية الشريفة و ظاهر التحريم المسند إلى العين تحريم جميع منافعها.

فإن قلت: الاستدلال بها مبنيّ على أن يكون المراد بالخبائث فيها الأعيان لا الأعمال و هو غير واضح، و قد شاع استعمال الخبائث و إرادة الأعمال القبيحة كما

في قوله- تعالى- حكاية عن لوط و قومه: وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائِثَ «1» بل يمكن أن يقال: إنّ إسناد التحريم إلى الأعيان تستلزم الحذف و التقدير بخلاف الإسناد إلى الأعمال حيث إنّ المتعلّق للأحكام الخمسة هي أفعال المكلّفين.

______________________________

(1) سورة الأنبياء (21)، الآية 74.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 115

[أمّا الروايات]

و أمّا رواية تحف العقول فالمراد بالإمساك و التقلّب فيه ما يرجع إلى الأكل و الشرب و إلّا فسيجي ء الاتفاق على جواز إمساك نجس العين لبعض الفوائد. (1) و ما دلّ من الإجماع و الأخبار على حرمة بيع نجس

______________________________

قلت: قد مرّ منّا في مسألة الانتفاع بالمتنجّسات أنّ استعمال الخبيث و الطيب في الأعيان أيضا شائع في الكتاب و السنّة، و يظهر ذلك من الراغب أيضا، و حيث إنّ الجمع المحلّى باللام يحمل على العموم فيراد بالخبيث كلّ ما يكون رديئا عند العرف قبيحا في طباعهم و لو بلحاظ تعبّدهم بالشرع سواء كان من الأعيان القذرة أو من الأعمال الفظيعة و يعبّر عنه بالفارسية ب «پليد» و في قباله الطيّب بإطلاقه، و ليس من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد كما لا يخفي.

و حمل التحريم أو الإحلال في الآية على خصوص الأكل كما ذكره المصنّف ممّا لا وجه له بعد عدم القرينة لذلك هنا و إن صحّ حمل الطيّب في سورة المائدة على خصوص ما يؤكل بقرينة السياق و المقام. هذا.

و لكن يمكن أن يقال- كما مرّ «1»-: إنّ التحريم في الآية بمناسبة الحكم و الموضوع ينصرف إلى المصارف التي يناسبها الطيب و النظافة عرفا أو شرعا كالأكل و الشرب و الصلاة و نحوها فلا تدلّ على حرمة مثل إطعام

الطيور و سقي الأشجار و التسميد و نحوها.

(1) قد مرّ في الرواية بعينها قوله: «من كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.»

و علّل النهي عن بيع وجوه النجس و إمساكها و التقلّب فيها بقوله: «لما فيه من الفساد»، «2» و أيّ فساد يتصوّر في مثل سدّ الساقية أو الاستقاء للأشجار بالميتة مثلا؟

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 274 و 225؛ و راجع أيضا 71 من هذا الكتاب.

(2) تحف العقول/ 333.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 116

العين قد يدّعى اختصاصه بغير ما يحلّ الانتفاع المعتدّ به أو يمنع استلزامه لحرمة الانتفاع، بناء على أنّ نجاسة العين مانع مستقلّ عن جواز البيع من غير حاجة إلى إرجاعها إلى عدم المنفعة المحلّلة. (1)

[أمّا الإجماع]

و أمّا توهّم الإجماع فمدفوع بظهور كلمات كثير منهم في جواز الانتفاع في الجملة:

قال في المبسوط: «إنّ سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب لا يجوز بيعها و يجوز الانتفاع بها في الزروع و الكروم و أصول الشجر بلا خلاف.» انتهى. (2)

______________________________

(1) يعني أنّ أدلّة حرمة البيع إمّا أن تحمل على صورة عدم وجود المنفعة المحلّلة أو يمنع استلزام حرمة البيع لحرمة الانتفاع.

أقول: قد مرّ منّا «1» بالتفصيل حمل أدلّة منع البيع على صورة عدم الماليّة شرعا لعدم وجود المنفعة المحلّلة العقلائيّة للشي ء و منعنا كون النجاسة بنفسها مانعا مستقلا و قلنا إنّ الفرق بين النوع الأوّل ممّا يحرم بيعه و النوع الثالث الآتي أنّ المنع في النوع الثالث مستند إلى عدم وجود المنفعة أصلا، و في النوع الأوّل إلى عدم

المنفعة بلحاظ الشرع. و إن شئت قلت: إنّ النوع الأوّل في الحقيقة قسم من النوع الثالث بعد لحاظ الشرع، فتدبّر.

(2) راجع المبسوط و قد مرّ عبارته في ذيل ما حكيناه عنه في أوائل البحث. «2»

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 176 و ما بعدها.

(2) المبسوط 2/ 165؛ و راجع ص 106 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 117

و قال العلّامة في التذكرة: «يجوز اقتناء الأعيان النجسة لفائدة.»

و نحوها في القواعد.

و قرّره في جامع المقاصد و زاد عليه قوله: «لكن هذه لا تصيّرها مالا بحيث يقابل بالمال.» (1)

و قال في باب الأطعمة و الأشربة من المختلف: «إنّ شعر الخنزير يجوز استعماله مطلقا.» مستدلا بأنّ نجاسته لا يمنع الانتفاع به لما فيه من المنفعة الخالية عن ضرر عاجل و آجل. (2)

______________________________

(1) عبارة التذكرة هكذا: «و يحرم اقتناء الأعيان النجسة إلّا لفائدة كالكلب و السرجين لتربية الزرع و الخمر للتخليل.» «1»

و مثلها عبارة القواعد: و ذيّلها في جامع المقاصد بقوله: «أمّا البيع فلا يجوز على كلّ حال كما سبق لأنّ الفائدة الموجودة في شي ء منها لا تصيّرها مالا يقابل بالمال.» «2»

أقول: إطلاق كلامه ممنوع و لا سيّما في أعصارنا، بل قلّما يوجد للشي ء فائدة عقلائيّة محلّلة و لا يبذل بإزائه المال.

ثمّ إنّ ما ذكره العلامة من حرمة الاقتناء لم يظهر دليلها و لا وجهها إذ ليس كلّ لغو محرّما شرعيّا، فتدبّر. اللّهم إلّا أن يريد اقتناءها بقصد الانتفاعات المحرّمة.

(2) راجع المختلف، قال في مسألة استعمال شعر الخنزير بعد نقل كلمات الأصحاب فيها: «و المعتمد جواز استعماله مطلقا، و نجاسته لا تعارض الانتفاع به لما فيه من المنفعة العاجلة الخالية من ضرر عاجل أو آجل

فيكون سائغا عملا بالأصل السالم عن معارضة دليل عقليّ أو نقليّ في ذلك.» «3»

______________________________

(1) التذكرة 1/ 852، كتاب البيع، في بيان ما هو حرام من التجارة.

(2) جامع المقاصد 4/ 15، كتاب المتاجر.

(3) المختلف/ 684، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 118

و قال الشهيد في قواعده: «النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة و الأغذية للاستقذار أو للتوصّل بها إلى الفرار.» (1)

ثمّ ذكر: «إنّ قيد الأغذية لبيان مورد الحكم، و فيه تنبيه على الأشربة، كما أنّ في الصلاة تنبيها على الطواف.» انتهى.

و هو كالنصّ في جواز الانتفاع بالنجس في غير هذه الأمور.

و قال الشهيد الثاني في الروضة عند قول المصنّف في عداد ما لا يجوز بيعه من النجاسات: «و الدم» قال: و إن فرض له نفع حكمي كالصبغ، «و أبوال و أرواث ما لا يؤكل لحمه»، و إن فرض لهما نفع.

فإنّ الظاهر أنّ المراد بالنفع المفروض للدم و الأبوال و الأرواث هو النفع المحلّل و إلّا لم يحسن ذكر هذا القيد في خصوص هذه الأشياء دون سائر النجاسات، و لا ذكر خصوص الصبغ للدم مع أنّ الأكل هي المنفعة المتعارفة المنصرف إليها الإطلاق في قوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ و المسوق لها الكلام في قوله- تعالى-: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.

______________________________

أقول: قد مرّ البحث في ذلك في المسألة السادسة من بيع النجاسات و مرّ هناك ذكر أخبار مستفيضة دالّة على الجواز مطلقا، و لكنّ الأصحاب حكموا باختصاص ذلك بصورة الاضطرار، و لا وجه لذلك إلّا أن لا يريدوا به الاضطرار المصطلح عليه الرافع لكلّ حرمة شرعيّة بقدر الضرورة، بل الاضطرار العرفيّ أعني توقّف شغله المنتخب على ذلك و إن لم يضطرّ إلى انتخابه،

و قد ورد في خبر برد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قوله: «لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير.» فراجع ما حررناه في المسألة. «1»

(1) راجع قواعد الشهيد، القاعدة 175. «2»

______________________________

(1) دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 431.

(2) القواعد و الفوائد 2/ 85.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 119

و ما ذكرنا هو ظاهر المحقّق الثاني حيث حكى عن الشهيد أنّه حكى عن العلّامة جواز الاستصباح بدهن الميتة. ثم قال: «و هو بعيد لعموم النهي عن الانتفاع بالميتة.»

فإنّ عدوله عن التعليل بعموم المنع عن الانتفاع بالنجس إلى ذكر خصوص الميتة يدلّ على عدم العموم في النجس. (1)

______________________________

(1) أقول: و قد مرّ في مبحث بيع الميتة كلمات من الأصحاب يظهر منها جواز الانتفاع بالميتة إجمالا و أخبار دالّة على ذلك أيضا، و إذا فرض جواز الانتفاع بالميتة جاز الانتفاع بغيرها من النجاسات بطريق أولى إذ لا قائل بالجواز في الميتة و المنع في غيرها، فراجع ما حكيناه من كلماتهم و من الأخبار في تلك المسألة «1» فلا نعيد.

و قد تحصّل ممّا ذكر إلى هنا أنّ الأصل الأوّلي يقتضي جواز الانتفاع بالنجاسات في غير ما حرّمه الشرع بالخصوص كالأكل و الشرب و نحوهما. و لم نجد في الآيات المذكورة و لا الروايات ما يصح الاستدلال به على خلاف ذلك.

و أمّا الإجماع فتقريره بوجهين: الأوّل: أن يدّعى الإجماع على عدم جواز بيعها بضميمة دعوى الملازمة بينه و بين عدم جواز الانتفاع. الثاني: أن يدّعى الإجماع على نفس عدم جواز الانتفاع.

و يرد على الأوّل: منع الإجماع المفيد على عدم جواز البيع و احتمال كونه مدركيّا كما مرّ في محلّه. «2»

و لو سلّم فالملازمة المشار إليها ممنوعة عند بعض الأصحاب كما

مرّ عن المسالك و إن كنا نحن نصرّ عليها.

و يرد على الثاني: كون دعواه موهونا بمخالفة كثير من الأصحاب لقولهم بجواز الانتفاع إمّا مطلقا أو في خصوص الميتة كما يظهر من كلماتهم في باب الأطعمة

______________________________

(1) دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 311.

(2) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 313 و 186.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 120

و كيف كان فلا يبقى بملاحظة ما ذكرنا وثوق بنقل الإجماع المتقدّم عن شرح الإرشاد و التنقيح الجابر لرواية تحف العقول الناهية عن جميع التقلّب في النجس.

[احتمال أن يراد من إمساكه إمساكه للوجه المحرّم]

مع احتمال أن يراد من جميع التقلّب جميع أنواع التعاطي لا الاستعمالات. (1) و يراد من إمساكه إمساكه للوجه المحرّم. (2) و لعلّه للإحاطة بما ذكرنا اختار بعض الأساطين في شرحه على القواعد جواز الانتفاع بالنجس كالمتنجّس لكن مع تفصيل لا يرجع إلى مخالفة في محلّ الكلام فقال: «و يجوز الانتفاع بالأعيان النجسة و المتنجّسة في غير ما ورد النصّ بمنعه كالميتة النجسة التي لا يجوز الانتفاع بها فيما يسمّى استعمالا عرفا للأخبار و الإجماع. و كذا الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال. و ما دلّ على المنع عن الانتفاع بالنجس و المتنجّس مخصوص أو منزّل على الانتفاع الدالّ على عدم الاكتراث بالدين و عدم المبالاة. و أمّا من استعمله ليغسله فغير مشمول للأدلّة و يبقى على حكم الأصل.» انتهى.

______________________________

و الأشربة. و كأنّهم نسوا في هذا الباب ما ذكروه في باب المكاسب من منع جميع التصرّفات فيها. و إذا فرض الجواز في الميتة ثبت في غيرها بطريق أولى إذ لم يعهد من يقول بالجواز فيها و المنع في غيرها.

(1) و يأتي هذا الاحتمال في كلمة التصرّف المنهي عنه في كلماتهم في المكاسب

أيضا فيراد به خصوص التصرّفات الناقلة. و مراد المصنّف بالتعاطي أنواع المعاملات الواقعة عليها من البيع و الصلح و الإجارة و الهبة و نحوها، لا أنواع التناول المفسّر بها في كلام بعض المعاصرين.

(2) إذ لا وجه و لا ملاك لحرمة إمساك الشي ء بنفسه من دون أن يترتّب عليه الاستعمال المحرّم و لو في المآل كما مرّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 121

و التقييد بما يسمّى استعمالا في كلامه «ره» لعلّه لإخراج مثل الإيقاد بالميتة و سدّ ساقية الماء بها و إطعامها لجوارح الطير. و مراده سلب الاستعمال المضاف إلى الميتة عن هذه الأمور، لأنّ استعمال كلّ شي ء إعماله في العمل المقصود منه عرفا، فإنّ إيقاد الباب و السرير لا يسمّى استعمالا لهما.

لكن يشكل بأنّ المنهي عنه في النصوص الانتفاع بالميتة الشامل لغير الاستعمال المعهود المتعارف في الشي ء، و لذا قيّد هو- قدّس سرّه- الانتفاع بما يسمّى استعمالا. (1)

______________________________

(1) يعني أنّه لما كان الانتفاع أعمّ من الاستعمال قيّد بعض الأساطين الانتفاع المنهي عنه بما يسمّى استعمالا، لئلّا يشمل النهي لمثل التسميد و الإيقاد و نحوهما.

و لكن يشكل بأنه لا وجه لهذا التقييد بعد كون المنهيّ عنه في النصوص مطلق الانتفاع. نعم يمكن منع صدق الانتفاع أيضا على هذا القبيل من الاستعمالات إذ منفعة الشي ء عبارة عمّا يترقّب منه عادة و يكون عرفا غرضا من تحصيله و تملّكه.

فمنفعة الميتة مثلا عند العرف أكلها لا سدّ السّاقية بها.

فإن قلت: الانتفاع في الأخبار مطلق وقع في حيز النفي، و مقتضاه العموم إذ انتفاء الطبيعة بانتفاء جميع أفرادها.

قلت: ليس الاختصاص هنا من جهة دعوى انصراف المطلق إلى بعض الأفراد حتى يرد عليه منع الانصراف بعد وقوعه في حيز النفي،

بل من جهة التسامح و الادعاء العرفي تنزيلا للموجود منزلة المعدوم، فلا يعدّ مثل سدّ الساقية بالميتة منفعة لها، لا أنّها منفعة عندهم و لكن انصرف عنه نهي الشارع.

أقول: بعد اللتيا و التي لم يظهر لي مراد المصنّف، إذ مجرد التسامح العرفي لا يوجب حمل المطلق على بعض أفراده إلّا إذا صار الفهم العرفي بمنزلة قرينة متّصلة على إرادة هذا البعض و هو المراد بالانصراف أيضا و إلّا لم يكن وجه لحمل المطلق على بعض أفراده. و لا فرق في ذلك بين النفي و الإثبات، إذ النفي يتوجه إلى ما يراد من مدخوله و ينصرف إليه إطلاقه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 122

نعم يمكن أن يقال: إنّ مثل هذه الاستعمالات لا تعدّ انتفاعا تنزيلا لها منزلة المعدوم. و لذا يقال للشي ء: إنّه ممّا لا ينتفع به مع قابليته للأمور المذكورة. فالمنهي عنه هو الانتفاع بالميتة بالمنافع المقصودة التي تعدّ عرفا غرضا من تملك الميتة لو لا كونها ميتة و إن كانت قد تملك لخصوص هذه الأمور كما قد يشترى اللحم لإطعام الطيور و السباع لكنها أغراض شخصية كما قد يشترى الجلّاب لإطفاء النار و الباب للإيقاد و التسخين به.

قال العلّامة في النهاية- في بيان أنّ الانتفاع ببول غير المأكول في الشرب للدواء منفعة جزئية لا يعتدّ بها- قال: «إذ كلّ شي ء من المحرمات لا يخلو عن منفعة كالخمر للتخليل و العذرة للتسميد و الميتة لأكل جوارح الطير، و لم يعتبرها الشارع.» انتهى. (1)

ثمّ إنّ الانتفاع المنفي في الميتة و إن كان مطلقا في حيّز النفي إلّا أنّ اختصاصه بما ادّعيناه من الأغراض المقصودة من الشي ء دون الفوائد المترتبة عليه من دون أن تعدّ مقاصد،

ليس من جهة انصرافه إلى المقاصد

______________________________

نعم يمكن القول بانصراف الانتفاع المنهي عنه إلى الانتفاعات المقصودة العقلائيّة الثابتة لو لا النجاسة، و بذلك يجمع بين الأخبار الناهية عن الانتفاع بالميتة و الأخبار الدالّة على جواز بعض الانتفاعات، فراجع المكاسب منا. «1»

(1) راجع بيع النهاية، مسألة بيع العذرة. «2»

______________________________

(1) دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 327 و ما بعدها.

(2) نهاية الإحكام للعلّامة 2/ 463، كتاب البيع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 123

حتى يمنع انصراف المطلق في حيّز النفي، بل من جهة التسامح و الادّعاء العرفي، تنزيلا للموجود منزلة المعدوم، فإنّه يقال للميتة مع وجود تلك الفوائد فيها: إنّها ممّا لا ينتفع به.

و ممّا ذكرنا ظهر الحال في البول و العذرة و المني، فإنّها ممّا لا ينتفع بها و إن استفيد منها بعض الفوائد كالتسميد (1) و الإحراق كما هو سيرة بعض الجصّاصين من العرب، كما يدلّ عليه وقوع السؤال في بعض الروايات عن الجصّ يوقد عليه العذرة و عظام الموتى و يجصّص به المسجد، فقال الإمام عليه السّلام: «إنّ الماء و النار قد طهّراه.» (2)

______________________________

(1) في المجمع: «السّماد كسلام: ما يصلح به الزراع من تراب و سرجين.

و تسميد الأرض هو أن يجعل فيها السماد.» «1»

أقول: التسميد و إن كان من المنافع النادرة للميتة لكنّه من المنافع الشائعة المقصودة للعذرة و كان التسميد بها شائعا في جميع الأعصار على ما يشهد به الأخبار، و ليس الانتفاع منحصرا في الأكل و الشرب و أمثالهما، و قد مرّ عن قرب الإسناد عن عليّ عليه السّلام: «أنّه كان لا يرى بأسا أن يطرح في المزارع العذرة.» «2» و مرّ في خبر المفضل عن الصادق عليه السّلام: «موقعها من الزروع و البقول

و الخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شي ء ... فلو فطنوا طالبو الكيميا لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان و غالوا بها.» «3»

(2) راجع الوسائل «4» و السند صحيح و إنّما الإشكال في متن الحديث فإنّ الماء القليل الذي يختلط بالجصّ المتنجس لا يطهّره إلّا أن يحيط بجميع أجزائه المتنجّسة

______________________________

(1) مجمع البحرين 3/ 70 (ط. أخرى/ 201).

(2) الوسائل 16/ 358 (طبعة أخرى 16/ 435)، الباب 29 من أبواب الأطعمة المحرّمة.

(3) بحار الأنوار 3/ 136، كتاب التوحيد.

(4) الوسائل 2/ 1099، الباب 81 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 124

..........

______________________________

بإطلاقه و ينفصل عنه الغسالة، و خلط الماء بالجصّ ليس كذلك. و النار لا تطهر الشي ء إلّا أن يتحقّق بها الاستحالة و تبدّل الصورة النوعيّة، و الجصّ غير المطبوخ لا يستحيل بطبخه إلى نوع آخر، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الجصّ بنفسه لا يتنجّس بإيقاد العذرة اليابسة و العظام عليه و إنّما الشبهة من جهة اختلاطه برمادهما فأراد الإمام عليه السّلام بيان طهارة الرماد. هذا.

و في الوسائل: «تطهير النار للنجاسة بإحالتها رمادا أو دخانا، و تطهير الماء أعني ما يحيل به الجصّ يراد به حصول النظافة و زوال النفرة.» «1»

و في طهارة الوافي: «لعلّ المراد بالماء الماء الممزوج بالجصّ فيكون من قبيل رشّ الماء على المظنون النجاسة. أو بالماء ماء المطر الذي يصيب أرض المسجد المجصّص بذلك الجصّ، و كأنّه كان بلا سقف فإنّ السنّة فيه ذلك.

و المراد بالنار ما يحصل من الوقود التي يستحيل بها أجزاء العذرة و العظام المختلطة بالجصّ رمادا فإنّها تطهر بالاستحالة. و الغرض أنّه قد ورد على ذلك الجصّ أمران مطهران هما النار و الماء فلم يبق

ريب في طهارته، فلا يرد السؤال بأنّ النار إذا طهرته أوّلا فكيف يحكم بتطهير الماء له ثانيا، إذ لا يلزم من ورود المطهّر الثاني تأثيره في التطهير.» «2»

و في مصباح الفقاهة: «يمكن أن يراد من الماء ماء المطر الذي يصيب الموضع المجصّص بذلك الجصّ المتنجّس لكون المسجد مكشوفا و بلا سقف كما احتمله القاساني، و أن يراد من النار الشمس فإن الشمس إذا جفّفت شيئا طهّرته.» «3»

أقول: حمل النار على الشمس في غاية البعد. و بالجملة الرواية لا تخلو من إجمال فالواجب ردّ علمها إلى أهلها.

______________________________

(1) الوسائل 2/ 1100.

(2) الوافي 1/ 36 (الجزء الرابع من المجلد الأوّل).

(3) مصباح الفقاهة 1/ 141.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 125

بل في الرواية إشعار بالتقرير فتفطّن. (1)

و أمّا ما ذكره من تنزيل ما دلّ على المنع عن الانتفاع بالنجس على ما يؤذن بعدم الاكتراث بالدين و عدم المبالاة لا من استعمله ليغسله فهو تنزيل بعيد.

نعم يمكن أن ينزّل على الانتفاع به على وجه الانتفاع بالطاهر بأن يستعمله على وجه يوجب تلويث بدنه و ثيابه و سائر آلات الانتفاع كالصبغ بالدّم و إن بنى على غسل الجميع عند الحاجة إلى ما يشترط فيه الطهارة. (2) و في بعض الروايات إشارة إلى ذلك:

ففي الكافي بسنده عن الوشّاء قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: جعلت فداك إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ فقال: «حرام، هي ميتة.» فقلت: جعلت فداك فيستصبح بها؟ فقال: «أما علمت أنّه

______________________________

(1) و تقرير المعصوم حجّة كقوله و فعله، و إجمال مفاد الرواية لا يضرّ بحجيّتها بالنسبة إلى أصل جواز الانتفاع بالنجس و يستفاد منها أيضا حكمان آخران:

الأوّل: اعتبار الطهارة فيما يسجد عليه. الثاني: جواز السجود

على الجصّ و لو كان مطبوخا، فتدبّر.

(2) أقول: ما ذكره بعض الأساطين أقرب إلى الاعتبار و المأنوس في أذهان المتشرّعة ممّا ذكره المصنّف، إذ على فرض بناء الشخص على غسل بدنه و لباسه عند الحاجة إلى ما يشترط فيه الطهارة لا يبقى وجه لحرمة تلويثهما.

و أمّا تلويثهما مع عدم الاكتراث بالدين و عدم المبالاة بالطهارة و النجاسة فهو ممّا يعافه الشارع و المتشرع فيناسب حمل أخبار المنع عليه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 126

يصيب اليد و الثوب و هو حرام.» (1) بحملها على حرمة الاستعمال على وجه يوجب تلويث البدن و الثياب. و أمّا حمل الحرام على النجس- كما في كلام بعض- فلا شاهد عليه. و الرواية في نجس العين فلا ينتقض بجواز الاستصباح بالدهن المتنجّس لاحتمال كون مزاولة نجس العين مبغوضة للشارع كما يشير إليه قوله- تعالى-: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (2)

______________________________

(1) كذا في الوسائل و الكافي، «1» و ليس فيهما كلمة: «ميتة» و فيهما:

«فنصطبح بها». و قد مرّ منّا سابقا أنّ الرواية مشتملة على سؤالين مترتّبين:

فالسؤال الأوّل ناظر إلى أنّ الألية المقطوعة هل تكون بحكم المذكّى أو الميتة؟

و جواب الإمام عليه السّلام ناظر إلى كونها بحكم الميتة التي ثبتت حرمتها بالكتاب و نجاستها بالسنّة، و هما حكمان متلازمان عند المتشرعة في ميتة ما له نفس، و إنّما ذكرت الحرمة إشارة إلى ما في الكتاب.

و السؤال الثاني وقع عن حكم الاصطباح بها بعد ما ثبت كونها بحكم الميتة.

و الإمام عليه السّلام لم ينه عن ذلك و إنّما أرشده إلى أنّ هذا يوجب التلوّث غالبا فيكون ضرّه أكثر من نفعه، فهو حكم إرشاديّ محض و ليس حكما شرعيّا تحريميّا.

و الواو في قوله: «و هو حرام»

للحال، و الضمير يعود إلى الجزء المقطوع و يراد بالحرمة نجاستها أو حرمة الصلاة فيها.

و قد مرّ منّا أنّ لفظي الحرمة و الحليّة في لسان الكتاب و السنة يستعملان كثيرا في الوضع أيضا فيصحّ إطلاق لفظ الحرمة و إرادة النجاسة، فتدبّر.

(2) قد مرّ أنّ المفسّرين فسّروا الرجز بمعان عديدة و لم يفسّروه بالنجس، فراجع «2».

و جواز الاستصباح بالدهن النجس أيضا ورد في بعض الأخبار كخبر البزنطي عن

______________________________

(1) راجع الوسائل 16/ 295 (طبعة أخرى 16/ 359)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 2؛ و الكافي 6/ 255، كتاب الأطعمة.

(2) راجع 1/ 188 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 127

[المنفعة المحلّلة للنجس تجعله مالا عرفا]

ثمّ إنّ منفعة النجس المحلّلة للأصل أو للنصّ قد تجعله مالا عرفا (1) إلّا أنّه منع الشرع عن بيعه كجلد الميتة إذا قلنا بجواز الاستقاء به لغير الوضوء،

______________________________

الرضا عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها.» «1»

(1) في حاشية المحقّق الإيرواني: «اعلم أنّ المالية لا تدور مدار المنفعة فإنّ الجواهر النفيسة و منها النقود أموال و لا فائدة فيها، و إن فرض في بعضها فائدة فلا تقصد بما أنّه فيه تلك الفائدة، و في الماء على الشط أهمّ المنافع و لا يعدّ مالا، و التراب ينتفع به أهمّ الانتفاع من اصطناع آجر أو خزف أو إناء و ليس بمال.» «2»

أقول: ما ذكره كلام عجيب إذ مالية الشي ء عبارة عن كونه مرغوبا فيه بحيث يبذل بإزائه المال على فرض الاحتياج و لو شخصا و عدم الوجدان له بدون ذلك، و

يعبّر عنه بالفارسية ب «أرزش». و الرغبة في الأشياء لا تتحقّق إلّا بلحاظ ما يتصوّر لها من المنافع و الفوائد. نعم يختلف الفوائد و الرغبات بحسب الأذواق و الحاجات و الشرائط و الأزمنة و الأمكنة. و قد يعتبر العرف بعض الفوائد و يرغّب فيها و لكن الشرع حرّمها فيكون الشي ء مالا عند العرف دون الشرع كالخمر مثلا.

و بالجملة فماليّة الشي ء تدور مدار منافعه الملحوظة. و لكن منفعة كلّ شي ء بحسبه فمنفعة الخبز أكله، و منفعة اللباس لبسه، و منفعة الجواهر الثمينة التزيّن بها أو تركيز الثروة و الأموال فيها، و منفعة النقود جعلها وسائط لمبادلة الأمتعة و هكذا. و ليست المنفعة منحصرة في الأكل و الشرب و نحوهما. و أمّا عدم الماليّة في الماء على الشطّ و التراب في البرّ فلكثرتهما و كون الناس فيهما شرعا سواء.

و أمّا إذا فرض صيرورتهما انحصاريين لبعض الأشخاص فلا محالة يصيران مالين و تقع عليهما المعاملات قهرا.

______________________________

(1) الوسائل 16/ 296، نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 12.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 128

كما هو مذهب جماعة مع القول بعدم جواز بيعه لظاهر الإجماعات المحكيّة، و شعر الخنزير إذا جوّزنا استعماله اختيارا، و الكلاب الثلاثة إذا منعنا عن بيعها.

[حكم بيع الأعيان النجسة]

فمثل هذه الأموال لا تجوز المعاوضة عليها، و لا يبعد جواز هبتها لعدم المانع مع وجود المقتضي، فتأمّل. (1)

______________________________

حكم بيع الأعيان النجسة

(1) أقول: كلام المصنّف هنا مبنيّ على القول بالتفكيك بين مسألتي البيع و الانتفاع و أنّ بعض الأعيان النجسة مع جواز الانتفاع بها و صيرورتها بذلك أموالا عرفيّة لا يجوز المعاوضة عليها تعبّدا ناسبا ذلك إلى جماعة من الأصحاب.

و لكن مرّ منه- قدّس سرّه- في

مبحث بيع الميتة «1» تقريب الملازمة بين الحكمين أعني جواز الانتفاع و جواز البيع و استفادة ذلك من كلمات الأصحاب.

و نحن أيضا كنّا مصرّين على هذه الملازمة و أنّه بعد ما جاز الانتفاع بالشي ء و صار بذلك مالا مرغوبا فيه فلا نرى وجها للمنع عن المعاوضة عليه. و قد شرّعت المعاملات لتبادل الأموال عند الحاجة و ليست أحكامها تعبّديّة محضة مبتنية على مصالح سرّية غيبيّة نظير أحكام العبادات المحضة.

بل قد مرّ منّا أنّ المعاملات ليست بتأسيس الشارع، بل هي أمور عقلائيّة ابتدعها العقلاء حسب احتياجاتهم و الشارع أيضا أمضاها عملا و لم يردع عنها إلّا في موارد خاصّة كبيع الغرر و نحوه.

و على هذا فليحمل أدلّة منع البيع في هذه الأمور على صورة بيعها بقصد المنافع المحرّمة عند الشرع كالخمر للشرب و الميتة للأكل و نحو ذلك.

و بعبارة أخرى: ما هو الممنوع هو بيعها على نحو بيع الأشياء المحلّلة لمنافعها المقصودة العقلائيّة بلا إعلام بحالها.

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 309 و ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 129

..........

______________________________

و إذا جازت المعاوضة عليها جاز مثل الهبة و الوصيّة و نحوهما أيضا بطريق أولى.

و أمّا من منع عن المعاوضة عليها فهل يجوّز الهبة و الوصيّة و نحوهما؟ ظاهر المصنّف القول بالجواز لوجود المقتضي أعني الماليّة و عدم المانع إذ مفاد أدلّة المنع منع خصوص المعاوضات و أخذ الأثمان و كون ثمنها سحتا فيبقى غيرها تحت إطلاق أدلّتها. هذا.

و في مصباح الفقاهة أفتى بالتفكيك بين جواز الانتفاع و جواز البيع و لكنّه حكم بصحّة غير المعاوضات فلنذكر كلامه لما فيه من الفائدة، قال: «قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا ملازمة بين حرمة بيع الأعيان

النجسة و بين حرمة الانتفاع بها و سقوطها عن الماليّة. بل لا بدّ من ملاحظة دليل الحرمة هل يوجد فيه ما يدلّ على ذلك إلقاء الماليّة من قبل الشارع كما في الخمر و الخنزير؟ فإنّ كان فيه ما يدلّ على ذلك أخذ به و حكم بعدم ترتّب آثار المالية عليها من الإرث و الضمان و غيرهما، و إلّا فلا يصح أن يحكم بحرمة الانتفاع بها لمجرد حرمة بيعها.

كيف؟! و قد علمت جواز الانتفاع بالميتة و العذرة و شعر الخنزير و كلب الماشية و كلب الحائط و كلب الزرع و غيرها من أنواع النجاسات مع ذهاب الأكثر إلى حرمة بيعها.

و على ذلك يجب أن تترتّب عليها جميع آثار الماليّة. فإذا أتلفها أحد ضمنها لمالكها، و إذا مات مالكها انتقلت إلى وارثه، و لا يجوز للغير أن يزاحم الورثة في تصرّفاتهم. و كذلك يجوز إعارتها و إجارتها و هبتها و لو هبة معوّضة لأنّ حقيقة الهبة متقوّمة بالمجانيّة، و اشتراط العوض فيها أمر زائد على حقيقتها، و فائدته جواز فسخ الواهب إيّاها إذا لم يف له المتّهب بالشرط.

لا يقال: إنّ الشي ء إذا حرم بيعه حرمت سائر المعاملات عليه بطريق الأولوية القطعية.

فإنّه يقال: إنّ الأحكام الشرعيّة توقيفيّة محضة فلا يجوز التعدّي عن مورد ثبت فيه التعبّد إلى غيره إلّا بدليل ...» «1»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 142.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 130

و قد لا تجعله مالا عرفا لعدم ثبوت المنفعة المقصودة منه له و إن ترتب عليه الفوائد كالميتة التي يجوز إطعامها لجوارح الطير و الإيقاد بها، و العذرة للتسميد، فإنّ الظاهر أنّها لا تعدّ أموالا عرفا. (1) كما اعترف به جامع

______________________________

أقول: قد مرّ منّا أنّه بعد

ما جاز الانتفاع بالشي ء شرعا و صار بذلك مالا مرغوبا فيه ذا قيمة حتّى بلحاظ الشرع فأيّ وجه لعدم جواز المعاملة عليه؟ و ليست أحكام الشرع جزافيّة. و قد حملنا ما ورد في حرمة ثمن الخمر أو الميتة أو نحوهما على صورة المعاملة عليها بلحاظ منافعها المحرّمة- على ما كانت شائعة في سوق الكفّار و شرّاب الخمور-.

و على هذا فيجوز بيع الخمر مثلا للتخليل و الميتة للتشريح و نحو ذلك.

و لا نسلّم سقوطهما عن الماليّة رأسا و عدم ضمان متلفهما. فلو أراد أحد تخليل خمره لا يجوز إتلافها عليه بل الظاهر ضمانها له. و إكفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أواني الخمور في المدينة حين ما نزل تحريمها، «1» لعلّه كان حكما سياسيّا موقتا لقطع مادّة الفساد، حيث إنّه لم يمكن الردع عنها في بدء تشريع الحرمة إلّا بذلك، و لم يحرز كون التخليل في ذلك العصر نفعا معتدّا به، فلا يقاس على ذلك أعصارنا حيث يمكن الانتفاعات المحلّلة من الخمور و الميتات و نحوهما من الأعيان النجسة.

و رواية تحف العقول و إن ظهر منها بدء حرمة جميع التقلّبات فيها حتّى هبتها و عاريتها و إمساكها لكن مضافا إلى ما مرّ من ضعفها و اضطراب متنها كان الظاهر منها بعد ضم بعض فقراتها إلى بعض أنّ ما اشتمل على جهتي الصلاح و الفساد معا فبيعه و التقلّب فيه لجهات الصلاح يكون حلالا، و إنّما يحرم بيع ما تمحّض في الفساد أو وقع التقلّب فيه بلحاظ ما فيه من الفساد، فتدبّر.

(1) إذا فرض ترتّب الفوائد على الشي ء صار مرغوبا فيه عند بعض و لا محالة يعتبر له قيمة و إن نزلت و لا سيّما

و أنّ التسميد- كما مرّ- فائدة عامّة ملحوظة عند العقلاء فكيف لا يوجب الماليّة؟ نعم هي مقولة بالتشكيك، لها مراتب و تختلف ذلك بحسب الرغبات و الشرائط و الأزمنة و الأمكنة.

______________________________

(1) الوسائل 17/ 322، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 131

المقاصد في شرح قول العلّامة: «و يجوز اقتناء الأعيان النجسة لفائدة.» (1)

[ما معنى حقّ الاختصاص و ما هو منشأ ثبوته؟]
اشارة

و الظاهر ثبوت حقّ الاختصاص في هذه الأمور الناشئ إمّا عن الحيازة و إمّا عن كون أصلها مالا للمالك، كما لو مات حيوان له أو فسد لحم اشتراه للأكل على وجه خرج عن الماليّة. (2)

______________________________

(1) فقال: «أمّا البيع فلا يجوز على كلّ حال كما سبق لأنّ الفائدة الموجودة في شي ء منها لا تصيّرها مالا يقابل بالمال.» «1»

أقول: مرّ أنّه قلّما توجد للشي ء فائدة و لا يصير مالا. و يظهر منه أنّه لو صار مالا فجواز المعاوضة عليه بلا إشكال.

ما معنى حقّ الاختصاص و ما هو منشأ ثبوته؟

(2) محصّل كلامه أنّ ما يترتّب عليه الفائدة إذا لم تكن بحدّ توجب ماليّته فلا محالة توجب حقّ الاختصاص و الأولويّة بالنسبة إلى من كان الشي ء في يده و تحت اختياره. و هذا أمر كان يعتبره العقلاء و المتشرّعة في جميع الأعصار. و منشأ اعتباره إمّا حيازة الشي ء المباح أو السبق إلى مكان مشترك كموضع من المسجد أو المدرسة أو الطريق أو نحو ذلك، أو كون الشي ء مالا للمالك و لكن سقطت عن الماليّة كحيوان له مات أو عنب له صار خمرا، أو وقوع الشي ء في ماله كماء المطر النازل في ملكه، و ماء الشطّ الجاري في نهره و نحو ذلك.

و قد وقع الكلام في ماهيّة الحقّ و دليله،

فلنتعرض لذلك هنا تبعا لما في مصباح الفقاهة. «2»

الأوّل: أنّه سلطنة ضعيفة غير الملكيّة.

فإذا مات حيوان الشخص مثلا زالت ماليته و ملكيته معا و لكن العقلاء يعتبرون للمالك أولوية بالنسبة إلى جسده، و يعبّر عنه بحق الاختصاص.

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 15، كتاب المتاجر.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 143.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 132

..........

______________________________

و فيه: أن زوال الماليّة لا يوجب زوال الملكيّة فليحكم ببقاء نفس الملكيّة، و الماليّة أمر اعتباري يعتبره العقلاء وصفا لشي ء يرغب فيه و يبذل بإزائه المال و ليس أمرا إضافيّا، و أمّا الملكيّة فهي إضافة بين الشي ء و بين مالكه. و النسبة بينهما عموم من وجه: فحبّة من حنطة مثلا ملك لمالكها و لا تعدّ مالا إذ لا يبذل بإزائه مال، و أشجار الغابات أموال و ليست ملكا لشخص، و دار زيد مثلا مال و ملك له أيضا.

الثاني: أنّه مرتبة ضعيفة من الملكيّة الاعتباريّة

فإذا زالت بحدّها الأقوى بقيت بعض مراتبها لأنّها مقولة بالتشكيك، فوزانها وزان الكيفيّات و الألوان فترى اللون مثلا ربّما يزول مرتبة منه و تبقى مرتبة أخرى منه ضعيفة، و الملكيّة إضافة اعتبارية بين الشي ء و مالكه يعتبرها العقلاء في نظامهم الاجتماعيّ و قرّرها الشرع أيضا على حذو الملكيّة الحقيقيّة.

و أورد على ذلك في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «أنّ الملكيّة الحقيقيّة من أيّة مقولة كانت- جدة أو إضافة- ليست قابلة للشدّة و الضعف، بل هي أمر بسيط فإذا زالت زالت بأصلها.

سلّمنا و لكن لا يجري هذا في الملكيّة الاعتباريّة، إذ قوامها بالاعتبار، و اعتبار مرتبة منها يغاير اعتبار مرتبة أخرى، فإذا زال اعتبار المرتبة القويّة لم يبق بعده اعتبار للمرتبة الضعيفة.» «1»

أقول: إن أراد بالملكيّة الحقيقيّة مثل ملكيّة نظام الوجود لواجب الوجود فهي ليست من سنخ الماهيّات فضلا عن كونها من مقولة الجدة أو الإضافة. نعم ربّما

يعبّر عنها بالإضافة الإشراقية، و لكنّها ليست من قبيل إضافة شي ء إلى شي ء بل المنسوب حقيقة ذات الإضافة و الانتساب كما حقّق في محلّه.

و إن أراد بها مثل التلبّس و التعمّم فهما من مقولة الجدة، بل الملكيّة و الجدة اسمان لمقولة واحدة حاكية عن إحاطة شي ء بشي ء.

و يمكن أن يقال: إنّ الإحاطة ذات مراتب نظير الكيفيّات و الألوان.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 143.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 133

..........

______________________________

و أمّا الملكيّة الاعتباريّة فحيث إنّ الاعتبار خفيف المؤونة فأيّ مانع من اعتبار العقلاء طبيعة ذات مراتب و يحكمون بعد ارتفاع مرتبة منها ببقاء مرتبة أخرى منها بحيث يرون الباقي من آثار المرتبة السابقة لا أمرا حادثا آخر؟ فتأمّل.

الثالث: أنّه ثبت في الشريعة المقدسة أنّه لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلّا بطيب نفسه.

و قد دلّت على ذلك سيرة العقلاء و المتشرّعة و جملة من الأخبار الواردة، فإذا زالت الملكيّة عن شي ء و شككنا في زوال حكمها كان مقتضى الاستصحاب الحكم ببقائه.

فمن تلك الأخبار: موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (في حديث): «إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: «من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها فإنّه لا يحل دم امرئ مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفس منه.» «1» و الاستثناء فيها راجع إلى المال دون الدم كما لا يخفى.

و منها: موثقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية، و حرمة ماله كحرمة دمه.» «2»

و منها: ما في تحف العقول عن النبي صلى اللّه عليه و آله في خطبته في حجة الوداع: «و لا يحلّ المؤمن مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه.» «3»

و منها:

ما في توقيع صاحب الزمان عليه السّلام الوارد إلى محمد بن عثمان العمري على ما في الاحتجاج، قال: «و أمّا ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا هل يجوز القيام بعمارتها و أداء الخراج منها و صرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتسابا للأجر و تقرّبا إليكم، فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه فكيف يحلّ ذلك في مالنا؟ من فعل شيئا من ذلك بغير أمرنا فقد استحلّ منّا ما حرم

______________________________

(1) الوسائل 3/ 424، الباب 3 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 1.

(2) الكافي 2/ 360، كتاب الإيمان و الكفر، باب السبّاب، الحديث 2.

(3) تحف العقول/ 34.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 134

..........

______________________________

عليه. و من أكل من أموالنا شيئا فإنّما يأكل في بطنه نارا و سيصلى سعيرا.» «1» إلى غير ذلك من الأخبار. هذا.

و أجاب عن ذلك في مصباح الفقاهة فقال: «و فيه- مضافا إلى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام لمعارضته دائما بأصالة عدم الجعل- كما نقّحناه في علم الأصول-: أن موضوع الحكم بحرمة التصرّف هو مال الغير، فإذا سقط الشي ء عن الماليّة سقطت عنه حرمة التصرّف حتّى إذا كان باقيا على صفة المملوكيّة، إذ لا دليل على حرمة التصرّف في ملك الغير، فكيف إذا زالت عنه الملكيّة أيضا.» «2»

أقول: يمكن أن يجاب عن ذلك أوّلا بما مرّ- في مسألة جواز بيع المتنجّس- من جريان الاستصحاب في الأحكام، و الجواب عن المعارضة المذكورة.

و ثانيا: أنّ تقريب الاستدلال كان على الحكم بزوال الملكيّة و هو ممنوع، و إنّما الثابت زوال الماليّة فقط فيمكن بقاء الملكيّة و مع الشكّ تستصحب فيترتّب عليها آثارها.

و لا يخفى أنّ حرمة التصرّف في مال الغير

مضافا إلى حكم الشرع أمر يحكم به العقل أيضا. و بالدقّة يعرف أنّ ما هو الموضوع لحكمه هو التصرّف في حريم الغير و سلطته لأنّه من مصاديق الظلم و التعدّي. و على هذا فيكون التصرّف في نفس الغير و ماله و ملكه و عرضه كلّها حراما بملاك واحد.

و إن شئت قلت: إنّ مال الغير و ملكه و عرضه كلّها من شئون نفسه، و سلطته على نفسه تكوينا تقتضي حرمة التصرّف في جميعها. و إنّما ذكر في الأخبار المال دون الملك من جهة أنّ التعدّي يقع غالبا في الأموال و إلّا فالملاك التجاوز إلى سلطة الغير.

الرابع: دعوى الإجماع على ذلك.

و فيه: أنّ الإجماع- على فرض تحقّقه- ليس عندنا حجّة مستقلّة، بل الملاك

______________________________

(1) الاحتجاج 2/ 559، في ذكر طرف ممّا خرج عنه عليه السّلام من المسائل الفقهية، رقمها 351.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 144.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 135

..........

______________________________

كشفه عن قول المعصومين عليهم السّلام. و ليست المسألة معنونة في كتب القدماء من أصحابنا المعدّة لنقل المسائل المأثورة حتى يكشف بذلك تلقّيها عنهم، و من أفتى بها لعلّه اعتمد على الوجوه المذكورة.

الخامس: دلالة المرسلة المعروفة:

«من حاز ملك» على وجوه حقّ الاختصاص بعد سقوط الماليّة.

و فيه أوّلا: أنّها و إن اشتهرت في ألسنة الفقهاء و الكتب الاستدلاليّة لكن لم نجدها في كتب الحديث من العامّة و الخاصّة، و الظاهر أنّها قاعدة فقهيّة متصيّدة من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة كإحياء الموات و التحجير و نحوهما.

و ثانيا: لو سلّم كونها رواية فمفادها ثبوت مالكيّة المحيز للمحاز لا ثبوت حقّ الاختصاص بعد زوال الملكيّة.

و ثالثا: أنّها ضعيفة و غير منجبرة إذ لم يعلم استناد المشهور إليها و إنّما ذكروها في موارد ذكرها للتأييد لا للتأكيد.

و رابعا: أنّا لا نسلّم جبران ضعف الأخبار بالشهرة و إن اشتهر ذلك. هذه خلاصة ما في مصباح الفقاهة. «1»

أقول: يمكن أن يجاب عن الثاني أوّلا: بأنّ المفروض في كلام المصنّف زوال المالية لا الملكيّة فهي باقية و لو شك تستصحب.

و ثانيا: بأنّه إذا فرض كون حدوث الحيازة سببا للملكيّة فليس إلّا لكونها سببا لاستيلاء الشخص على الشي ء و صيرورته في يده، و على هذا فوجود الاستيلاء بقاء أولى بذلك، فتأمّل. هذا.

و ممّا يستفاد منه سببيّة الحيازة و الاستيلاء للملكيّة أو الحقّ مضافا إلى روايات الإحياء و التحجير: موثقة يونس بن يعقوب عن أبي عبد

اللّه عليه السّلام في باب اختلاف

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 145.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 136

..........

______________________________

الزوجين في متاع البيت، و فيها: «و من استولى على شي ء منه فهو له.» «1»

و معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ الطير إذا ملك جناحيه فهو صيد و هو حلال لمن أخذه.» «2»

و في خبر آخر: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال في رجل أبصر طائرا فتبعه حتّى سقط على شجرة فجاء رجل آخر فأخذه. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «للعين ما رأت و لليد ما أخذت.» «3»

السادس: حديث السبق المعروف بين الفريقين:

1- ففي المستدرك عن عوالي اللآلي عن النبي صلى اللّه عليه و آله: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحقّ به.» «4» و رواه ابن قدّامة عن أبي داود عنه صلى اللّه عليه و آله. «5»

2- و روى البيهقي بسنده عن أسمر بن مضرّس قال: «أتيت النبي صلى اللّه عليه و آله فبايعته فقال: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له.» قال: «فخرج الناس يتعادّون و يتخاطون.» «6»

3- و في الوسائل بسند صحيح عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال أمير المؤمنين عليه السّلام: سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق إلى مكان فهو أحقّ به إلى الليل، و كان لا يأخذ على بيوت السوق كراء.» «7»

4- و فيه أيضا بسند صحيح عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن

______________________________

(1) الوسائل 17/ 525، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 3.

(2) الكافي 6/ 223، كتاب الصيد، باب صيد الطيور الأهلية، الحديث 5.

(3) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 6.

(4) مستدرك

الوسائل 3/ 149، الباب 1 من كتاب إحياء الموات، الحديث 4.

(5) المغني 6/ 153، كتاب إحياء الموات، لا يملك الموات بالتحجير ...

(6) سنن البيهقي 6/ 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ...

(7) الوسائل 3/ 542، الباب 56 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 137

..........

______________________________

أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «سوق المسلمين (القوم خ. ل) كمسجدهم، يعني إذا سبق إلى السوق كان له مثل المسجد.» «1» و الظاهر أنّ التفسير من الراوي.

5- و فيه أيضا بسند صحيح عن محمّد بن إسماعيل، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قلت له: «نكون بمكّة أو بالمدينة أو الحيرة أو المواضع التي يرجى فيها الفضل فربّما خرج الرجل يتوضّأ فيجي ء آخر فيصير مكانه؟ فقال: «من سبق إلى موضع فهو أحقّ به يومه و ليلته.» «2»

و الظاهر أنّ المراد بمحمّد بن إسماعيل هو ابن بزيع الثقة، و طلحة بتري و لكنّهم عملوا برواياته. و إرسال ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا و محمّد بن إسماعيل عن بعض أصحابه يقرب من الصحّة، إذ فرق بين قول المرسل: عن رجل و قوله:

عن بعض أصحابنا. مضافا إلى أنّ ابن أبي عمير- على ما في العدّة- لا يروي و لا يرسل إلّا عن ثقة. «3»

و ناقش في مصباح الفقاهة في أخبار السبق أوّلا: بضعف السند و عدم جبر الضعف.

و ثانيا: بأنّ موردها الأمور المشتركة بين المسلمين كالأوقات العامّة من المساجد و المشاهد و المدارس و نحوها، فإذا سبق إلى موضع منها أحد ممّن ينطبق عليه عنوان الموقوف عليه و أشغلها بالجهة التي وقع الوقف عليها حرمت على غيره مزاحمته.

و لو سلّم التعميم

إلى موارد الحيازة أيضا فإنّما يدلّ على ثبوت الحقّ الجديد للمحيز بالنسبة إلى المحاز، و لا يدلّ على بقاء العلقة بين المالك و ملكه بعد زوال الملكيّة.

و من جميع ما ذكرناه ظهر ما في كلام المحقّق الإيرواني من الوهن حيث قال:

«و الظاهر ثبوت حقّ الاختصاص: أمّا في الحيازة فلعموم دليل من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أولى به، و أمّا فيما إذا كان أصله ملكا للشخص فلاستصحاب

______________________________

(1) الوسائل 12/ 300، الباب 17 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.

(2) الوسائل 3/ 542، الباب 56 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 1.

(3) عدّة الأصول 1/ 386، فصل في ذكر القرائن التي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 138

[جواز المصالحة على هذا الحقّ بلا عوض]

و الظاهر جواز المصالحة على هذا الحقّ بلا عوض بناء على صحّة هذا الصلح. (1) بل مع العوض بناء على أنّه لا يعدّ ثمنا لنفس العين حتّى يكون سحتا بمقتضى الأخبار. (2)

______________________________

بقاء العلقة.» «1» هذه خلاصة ما في مصباح الفقاهة.

أقول: حديث السبق قد شاع بين الفريقين و أفتى بمضمونه الأصحاب في المشتركات. و الظاهر اعتبار بعض أسناده كخبر طلحة و ابن أبي عمير و محمّد بن إسماعيل كما مرّ. و الظاهر أنّ الشهرة العمليّة أيضا ممّا يجبر بها الضعف كما مرّ سابقا في بيان خبر تحف العقول. و قد مرّ منّا أيضا أوّلا: أنّ المفروض في المقام زوال الماليّة لا الملكيّة. و ثانيا: لو فرض كون حدوث الحيازة سببا للملكيّة أو الحقّ فبقاء الاستيلاء سبب لهما بطريق أولى. و يساعده عرف العقلاء و المتشرّعة أيضا، فتدبّر.

(1) يعني قلنا بصحّة الصلح على الحقوق كما يصحّ على الأموال من الأعيان و المنافع،

في قبال احتمال كون الحقوق نظير الأحكام كجواز الهبة مثلا في عدم قبولها للإسقاط و لا للانتقال.

(2) محصّل كلامه أنّه و إن لم يجز بيع العين و أخذ الثمن في قبالها لكونه سحتا على ما مرّ من الأخبار، و لكن لا بأس بالمصالحة على ذلك الحقّ بعوض، إذ لا يقع العوض في قبال نفس العين بل في قبال حقّ الاختصاص، أو في قبال نفس الصلح، بما أنّه عمل، نظير ما يقال في الهبة المعوّضة من كون العوض في قبال نفس الهبة لا الشي ء الموهوب. و لو سلّم منع ذلك و الإشكال فيه أيضا جاز بذل المال لرفع يده عن العين فيحوزها الباذل بعد إعراضه، نظير بذله لمن سبق إلى مكان مشترك ليرفع يده عنه. هذا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 145 و 146.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 139

قال في التذكرة: «و يصحّ الوصية بما يحلّ الانتفاع به من النجاسات كالكلب المعلّم و الزيت النجس لإشعاله تحت السماء و الزبل للانتفاع بإشعاله و التسميد به، و جلد الميتة إن سوّغنا الانتفاع به و الخمر المحترمة لثبوت حقّ الاختصاص فيها و انتقالها من يد إلى يد بالإرث و غيره.» (1) انتهى.

و الظاهر أنّ مراده بغير الإرث الصلح الناقل. (2) و أمّا اليد الحادثة بعد إعراض اليد الأولى فليس انتقالا. (3)

______________________________

و لو فرض كون العين في مكان مملوك له جاز بذله أيضا للإذن في الدخول في ملكه و أخذ العين منه مجانا كما يأتي من المصنّف.

و لكن في حاشية المحقّق الإيرواني: «لكن الدليل لا يختصّ بعنوان الثمن فإنّ رواية التحف مشتملة على عنوان التقلّب و التكسّب و الاتّجار، و كلّ هذه العناوين صادقة على الصلح عن حقّ الاختصاص

بل صادقة على بذل المال لإسقاط الحقّ و رفع اليد حتى يستولي عليه الباذل.» «1»

(1) راجع التذكرة، كتاب الوصية «2»، و في الجواهر قال: «نعم قد يقال بأنّ له حقّ الاختصاص لمن سبق إليه لتحقّق الظلم عرفا بالمزاحمة له. بل لعلّ دفع العوض لرفع يد الاختصاص عنه لا بأس به ضرورة عدم صدق التكسّب به لعدم دفع العوض عنه.» «3»

(2) أو الهبة مجانا أو المعوّضة.

(3) يعني لا يحتمل حمل غير الإرث على بذل المال ليرفع يده فيحوزها الباذل بعد إعراضه لعدم كونه انتقالا.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 12.

(2) التذكرة 2/ 479، كتاب الوصية، الفصل الرابع في الموصى به.

(3) الجواهر 22/ 9، كتاب التجارة، في بيان أقسام ما يكتسب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 140

لكن الإنصاف أنّ الحكم مشكل. نعم لو بذل مالا على أن يرفع يده عنها ليحوزها الباذل كان حسنا كما يبذل الرجل المال على أن يرفع اليد عمّا في تصرّفه من الأمكنة المشتركة كمكانه من المسجد و المدرسة و السوق.

و ذكر بعض الأساطين- بعد إثبات حقّ الاختصاص- أنّ دفع شي ء من المال لافتكاكه يشكّ في دخوله تحت الاكتساب المحظور فيبقى على أصالة الجواز. (1)

______________________________

(1) أقول: قد مرّ منّا أنّ المعاملات ليست أمورا مخترعة للشارع، بل هي عقود كانت رائجة بين العقلاء حسب حاجاتهم في إدامة الحياة و التعيّش متطوّرة حسب تطوّر شرائط الحياة، و الشارع أيضا كأحدهم أمضاها عملا و لم يردع عنها إلّا في موارد خاصّة لما رأى فيها من المضارّ و المفاسد لحياة المجتمع كالربا و المعاملات الغرريّة و نحوها، و ليست أحكام المعاملات أحكاما تعبّديّة محضة جزافيّة أو مبتنية على مصالح سريّة غير مرتبطة بمصالح الأفراد و المجتمع.

و

على هذا فإن فرض أنّ الشارع منع من المعاملة على الأعيان النجسة بأنحائها بما هي نجسة فلا محالة يكون هذا ناشئا عن إرادته تطهير محيط التعيّش منها بالكليّة و عدم تلويث مظاهر الحياة بها أصلا، فلا يبقى فرق بين تحصيلها بالاشتراء أو بالمصالحة مجانا أو بعوض.

و هو المستفاد من ظاهر رواية تحف العقول بدوا حيث نهى فيها عن أكل وجوه النجس و شربها و لبسها و إمساكها و التقلّب فيها بوجه من الوجوه لما فيها من الفساد.

و أمّا إذا منعنا ذلك و ناقشنا في الرواية بضعفها و اضطراب متنها كما مرّ أو حملنا المنع فيها على ما لا يشتمل إلّا على الفساد أو وقع التقلّب بلحاظه و قلنا بجواز الانتفاع منها غير ما ثبت حرمته من الأكل و الشرب و الصلاة فيها و نحو ذلك، فلا محالة يصير الشي ء مرغوبا فيه عرفا و شرعا بلحاظ الانتفاعات

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 141

ثمّ إنّه يشترط في الاختصاص بالحيازة قصد الحائز للانتفاع. و لذا ذكروا أنّه لو علم كون حيازة الشخص للماء و الكلأ لمجرد العبث لم يحصل له حقّ.

و حينئذ فيشكل الأمر فيما تعارف في بعض البلاد من جمع العذرات حتى إذا صارت من الكثرة بحيث ينتفع بها في البساتين و الزروع بذل له مال فأخذت منه، فإنّ الظاهر بل المقطوع أنّه لم يحزها للانتفاع بها و إنّما حازها لأخذ المال عليها. و من المعلوم أنّ حلّ المال فرع ثبوت الاختصاص المتوقّف على قصد الانتفاع المعلوم انتفاؤه في المقام.

______________________________

المحلّلة و إن كانت قليلة و تتحقّق الماليّة بلحاظها قهرا و لو بحسب بعض الأمكنة أو الأزمنة.

و على هذا فلا يبقى فرق بين اشترائه أو الصلح

عليه بعوض. و العوض يقع بإزاء نفس العين فإنّها المرغوب فيها و المشتملة على المنفعة المقصودة.

و أمّا القول بحرمة جعله في قبال العين و جواز جعله في قبال حقّ الاختصاص و نحوه ممّا مرّ فيشبه اللعب بأحكام الشرع المبين و إعمال الحيل فيها مع فرض أنّه لم يقع منه النهي في باب المعاملات إلّا بلحاظ ما يترتّب عليها من المضارّ و المفاسد للمجتمع كما مرّ.

و بالجملة فهذا التفكيك يوهن الشرع و أحكامه عند العقل و العقلاء. فلو فرض أنّك سافرت إلى بعض البلاد الخارجيّة و احتجت فيها إلى تهيئة الكحول الطبّية مثلا و قلت لصاحبها أنا لا أعطيك العوض بإزاء عينها بل بإزاء حقّ الاختصاص الثابت لك أو لرفع يدك عنها لأحوزها، لم يتصوّر هذا الشخص من أحكام الإسلام إلّا كونها ألا عيب و مقرّرات جزافيّة، فتأمّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 142

و كذا لو سبق إلى مكان من الأمكنة المذكورة من غير قصد الانتفاع منها بالسكنى. (1)

نعم لو جمعها في مكانه المملوك فبذل له المال على أن يتصرّف في ذلك المكان بالدخول لأخذها كان حسنا. كما أنّه لو قلنا بكفاية مجرّد قصد الحيازة في الاختصاص و إن لم يقصد الانتفاع بعينه، و قلنا بجواز المعاوضة على حقّ الاختصاص كان أسهل.

______________________________

(1) قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّ المحاز قد يكون من الأمكنة المشتركة كالأوقاف العامّة، و قد يكون من المباحات الأصلية: أمّا الأوّل فلا ريب في أنّ اختصاص الحائز به مشروط بقصد الانتفاع به على حسب ما أوقفه أهله و إلّا فلا يثبت الاختصاص لكونه على خلاف مقصود الواقف. و من هنا لم يجز بيعه و لا إجارته و لا استملاكه. فلا يجوز

إشغال المساجد و المعابد بإلقاء السجادة مثلا ثمّ بيعها من المصلّين لأنّه على خلاف جهة الوقف.

و أمّا الثاني كالاحتطاب و الاصطياد فالظاهر أنّ الاختصاص به غير مشروط بشي ء بل يكفي فيه مجرد الحيازة الخارجيّة لعدم الدليل على التقييد. و من هنا ذهب جمع من الأصحاب و من العامّة إلى عدم الاشتراط.

قال الشيخ في الخلاف (المسألة 3 من إحياء الموات): «الأرضون الموات للإمام خاصّة لا يملكها أحد بالإحياء إلّا أن يأذن له الإمام. و قال الشافعي: من أحياها ملكها أذن له الإمام أو لم يأذن. و قال أبو حنيفة: لا يملك إلّا بإذن، و هو قول مالك ... دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

و لو كان لتقييد الاختصاص بقصد الانتفاع وجه لكان ذلك موردا للخلاف كالتقييد بإذن الإمام. و يؤيّده عموم رواية من سبق و قاعدة الحيازة المتقدّمتين. بل

______________________________

(1) كتاب الخلاف 3/ 525 (ط. أخرى 2/ 222).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 143

..........

______________________________

يمكن استفادة الإطلاق من الأخبار المتظافرة الواردة في إحياء الموات من الأراضي. كصحيحة محمّد بن مسلم: «أيّما قوم أحيوا شيئا من الأرض و عمروها فهم أحقّ بها و هي لهم.» «1» و كحسنة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «من أحيا أرضا مواتا فهو له.» «2» و غير ذلك من الروايات الواردة من طرق الشيعة و من طرق العامّة.» «3» انتهى. «4»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره- قدّس سرّه- في الأمكنة العامّة الموقوفة و أنّها على حسب ما أوقفها أهلها، و الغالب فيها وقفها للانتفاعات الشخصيّة لا لحيازتها و لو بقصد النقل إلى الغير، بل يمكن الإشكال في النقل و لو كانت الحيازة بقصد

الانتفاع إذ بعد الإعراض عن الانتفاع يسقط حقّه. اللّهم إلّا أن يؤخذ المال لنفس الإعراض و رفع اليد، فتأمّل.

نعم لو أحرز في مورد وقفها للأعمّ من الانتفاع الشخصي و الحيازة للنقل إلى الغير جاز حينئذ حيازتها للنقل أيضا.

و كذلك يصحّ ما ذكره في مثل إحياء الموات و الاصطياد و الاحتطاب و حيازة المباحات، كجمع العذرات مثلا، إذ بالعمل يصير الإنسان مالكا لما أحياه أو حازه، و الشرع أجاز ذلك أيضا و لم يقيّدها بقصد انتفاع نفسه، و السيرة أيضا استقرّت على ذلك بإطلاقها، فيصطادون الأسماك و يحيزون الأحطاب للكسب و التجارة لا للانتفاع الشخصي، و كذلك يحيى الأرض و تباع.

و الظاهر أنّ الإنسان بإحيائه يملك حيثيّة الإحياء الذي هو أثر عمله و صنعه، لا لرقبة الأرض، و قد بينّا ذلك بالتفصيل في المجلد الرابع من كتابنا في ولاية

______________________________

(1) الوسائل 17/ 327، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 4.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 6.

(3) سنن البيهقي 6/ 141، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ...

(4) مصباح الفقاهة 1/ 146 و 147.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 144

..........

______________________________

الفقيه، فراجع. «1»

و بالجملة ففي مثل الحيازة و الإحياء ممّا يوجبان الملكيّة لا يعتبر وقوعهما بقصد الانتفاع شخصا لإطلاق أدلّتهما و استقرار السيرة أيضا على الأعمّ فقياسهما على الأمكنة الموقوفة كما في كلام المصنّف بلا وجه.

نعم ربّما يقال باعتبار قصد التملك كما في الدروس في شروط التملّك بالإحياء، قال: «و تاسعها: قصد التملّك، و لو فعل أسباب الملك بغير قصد التملّك فالظاهر أنّه لا يملك.» «2»

و لعلّه لظنّ انصراف النصوص إلى صورة قصد التملّك، إذ الملكيّة القهريّة خلاف سلطة الإنسان على نفسه فيقتصر فيها

على خصوص ما دلّ عليه الدليل كالميراث و نحوه.

و لعل العرف أيضا يساعد على ذلك فلا يعتبرون الملكيّة بالنسبة إلى من حاز الماء و الكلأ بقصد العبث لا الملكيّة.

و لكن يمكن الفرق بين الملكيّة و الحقّ، فالحيازة عبثا و إن لم توجب الملكيّة عندهم لكنّها توجب أحقيّة الحائز فلا يجوز لغيره مزاحمته، اللّهم إلّا مع إعراضه و طرحه لما حازه.

هذا كلّه بالنسبة إلى الحيازة و الإحياء الموجبين للملكيّة.

و أمّا التحجير الذي يوجد غالبا مقدّمة للإحياء و لا يوجب إلّا الاختصاص فالظاهر أنّه يعتبر في ثبوت الحقّ به وقوعه بقصد الإحياء شخصا لا لأن ينقل الحق إلى غيره. فمن حجّر أرضا بقصد إحيائها بنفسه كان عمله هذا محترما موجبا لاعتبار حقّ له عرفا و شرعا.

______________________________

(1) راجع دراسات في ولاية الفقيه 4/ 194.

(2) الدروس/ 294، كتاب إحياء الموات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 145

..........

______________________________

و لو فرض أنّه عرض له مانع بعد ذلك من إتمام عمله كان له أخذ المال لنقل حقّه إلى الغير أو رفع يده عن حقّه. كما أنّه ينتقل حقّه هذا إلى وارثه أيضا بعد موته.

و أمّا من لا يريد الإحياء أو لا يقدر عليه فهل له أن يوجد التحجير بقصد التجارة و النقل إلى الغير؟ و هل يحكم العرف و الشرع بثبوت هذا الحقّ له في الموضوع الذي يكون من الأموال العامّة التي يشترك فيها الجميع و يكون تحت اختيار إمام المسلمين؟ مشكل جدّا بعد التدبّر في مذاق الشرع و أهدافه. و أدلّه أولويّة المحجّر منصرفة عن مثله.

و إن شئت قلت: الأنفال و منها الأراضي للإمام و التصرّف فيها منوط بإذنه و لم يثبت الإذن في التحجير إلّا بمقدار يقدر على إحيائه و

وقع بقصده مقدّمة له.

قال في التذكرة: «و لا ينبغي أن يزيد المحجّر على قدر كفايته و يضيق على الناس، و لا أن يحجر ما لا يمكنه القيام بعمارته، فإن فعل ألزمه الحاكم بالعمارة و التخلّي عن الزيادة فيسلّمها إلى من يقوم بعمارتها.» «1»

و في الجواهر عن كتاب الإسعاد لبعض الشافعيّة: «و إنّما يتحجّر ما يطيق إحياءه بل ينبغي أن يقتصر على قدر كفايته لئلا يضيق على الناس، فإن تحجّر ما لا يطيق إحياءه أو زائدا على قدر كفايته فلغيره أن يحيى الزائد.» «2»

و ظاهرهما تسليم الزائد إلى الغير و إحيائه له مجانا بلا عوض. هذا، و التحقيق موكول إلى محلّه.

______________________________

(1) التذكرة 2/ 411، كتاب إحياء الموات، شرائط الإحياء.

(2) الجواهر 38/ 60، كتاب إحياء الموات، حكم ما لو اقتصر على تحجير الموات ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 147

النوع الثاني: ما يحرم لتحريم ما يقصد به و هو على ثلاثة اقسام:

اشارة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 149

النوع الثاني: ممّا يحرم التكسّب به: ما يحرم لتحريم ما يقصد به، و هو على أقسام: (1)

______________________________

النوع الثاني:

ما يحرم لتحريم ما يقصد به

(1) قد قسّم المصنّف في أوّل الكتاب الاكتساب المحرّم إلى خمسة أنواع و عدّ النوع الأوّل منها: الاكتساب بالأعيان النجسة، و قد مرّ تفصيل ذلك، و الآن تعرّض للنوع الثاني منه أعني ما يحرم لتحريم ما يقصد منه، و قسّمه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: ما اشتمل على هيئة خاصّة لا يقصد منه بهذه الهيئة إلّا الحرام كالأصنام و الصلبان و آلات القمار و آلات اللهو و نحو ذلك.

القسم الثاني: ما قصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة كبيع الخشب على أن يعمله صنما مثلا أو العنب على أن يعمله خمرا و نحو ذلك.

القسم الثالث: ما من شأنه أن يقصد

منه الحرام و يكون مظنّة لذلك كبيع السلاح لأعداء الدين المبين، فانتظر لبيان الأقسام الثلاثة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 151

[القسم الأوّل: ما لا يقصد من وجوده الخاصّ إلّا الحرام و هي أمور:]
[1- هياكل العبادة]
اشارة

الأوّل: ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاصّ إلّا الحرام، و هي أمور:

منها: هياكل العبادة المبتدعة (1)، كالصليب و الصنم بلا خلاف ظاهر

______________________________

القسم الأوّل: ما لا يقصد من وجوده الخاصّ إلّا الحرام و هي أمور:

1- هياكل العبادة

[معني الهيكل و بيعه]

(1) في المسالك: «الأصل في الهيكل أنّه بيت الصنم كما نصّ عليه الجوهري و غيره. و أمّا إطلاقه على نفس الصنم فلعلّه من باب المجاز إطلاقا لاسم المحلّ على الحالّ.» «1»

ثمّ إنّ بيع هياكل العبادة يتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن يكون المقصود في المعاملة المادة و الهيئة معا، و يقع البيع على المادّة بهيئتها و الثمن بإزائهما.

الثاني: أن يكون المقصود المادّة فقط و يقع الثمن بإزائها فقط.

و على الأوّل: فتارة يقع البيع للغاية المحرّمة أعني العبادة باشتراطها في متن العقد أو بالتواطؤ عليها في خارجه. و أخرى يقع بيعها ممّن يعلم أنّه يعبدها أو يبيعها لمن يعبدها من دون اشتراط و لا قصد من البائع لذلك. و ثالثة تباع ممّن لا يريد عبادتها

______________________________

(1) المسالك 1/ 165 (ط. أخرى 3/ 123)، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 152

بل الظاهر الإجماع عليه. (1)

______________________________

و لا يقع منه ذلك بل يريد حفظها في المتاحف بما أنّها من الآثار القديمة أو يريد كسرها و إتلافها تقربا إلى اللّه أو لكسب الوجهة مثلا عند الناس بذلك أو نحو ذلك.

[كلمات الأصحاب في المقام]

(1) الأولى أن نتعرض لبعض كلمات الأصحاب ليظهر بذلك كون المسألة معنونة في كلمات القدماء منهم:

1- ففي مكاسب المقنعة: «و عمل العيدان و الطنابير و سائر الملاهي محرّم و التجارة فيه محظورة. و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك حرام و بيعه و ابتياعه حرام.» «1»

أقول: ظاهره حرمة عمل ما ذكر و كذا بيعها و ابتياعها، و قد مرّ منّا أن لفظ الحرمة و كذا الحليّة في الكتاب و السنّة و كلمات القدماء من أصحابنا كانا يطلقان على الأعمّ من التكليف

و الوضع. و أنّ المتبادر منهما في باب المعاملات هو الوضع أعني الصحّة و الفساد. و كون المراد بهما في العمل التكليف لا يدلّ على إرادة التكليف في البيع أيضا، فتدبّر.

2- و في المراسم في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و عمل الملاهي و التجارة فيها و عمل الأصنام و الصلبان و كل آلة يظنّ بها الكفّار أنّها آلة عبادة لهم، و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك من آلات اللعب و القمار و بيعه و ابتياعه.» «2»

أقول: ظاهر كلامه وجود الملازمة بين حرمة عمل الشي ء أعني صنعه و حرمة بيعه و ابتياعه، و هو كذلك إذ لا يحرم عمل الشي ء إلّا أن تكون منفعته منحصرة في الحرام، و إذا كان كذلك سقط عن الماليّة شرعا فلم يصحّ بيعه قهرا.

نعم يشكل ذلك في التماثيل المجسّمة فإنّ الظاهر مع حرمة عملها جواز بيعها بعد عملها.

______________________________

(1) المقنعة/ 587.

(2) المراسم/ 170؛ و الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 153

..........

______________________________

اللّهم إلّا أن يفرّق بينها و بين آلات الملاهي و العبادة و نحوهما بأنّ العمل إنّما يحرم في الآلات بحسب ما يترتّب عليها من الفساد، فالمحرّم فيها في الحقيقة هي الانتفاعات المترقّبة منها و المترتّبة عليها، و حيث إنّها من آثار الهيئات الخاصّة و هي تحصل بالعمل في المواد صارت الهيئات الخاصّة و عملها مبغوضتين قهرا لانحصار نفعهما في الحرام.

فالهيئات الخاصّة مبغوضة للشارع حدوثا و بقاء، ساقطة عنده عن الماليّة رأسا.

و أمّا في التماثيل فليست الصورة بعد تحقّقها مبغوضة ذات مفسدة و إنما المبغوض نفس العمل بما أنّه تشبّه بالخالق في خلقه و لذا ورد: أنّه يكلّف يوم القيامة أن ينفخ

فيها و ليس بنافخ. «1»

نعم لو صارت بعد صنعها موردا للعبادة و التعظيم صارت من قبيل هياكل العبادة فصار إبقاؤها أيضا مبغوضا.

3- و في النهاية في باب المكاسب المحظورة: «و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار حتّى لعب الصبيان بالجوز فالتجارة فيها و التصرّف و الكسب بها حرام محظور.» «2»

4- و في الشرائع: «الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو مثل العود و الزمر و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم و آلات القمار كالنرد و الشطرنج و ما يفضي إلى المساعدة على محرّم كبيع السلاح لأعداء الدين و إجارة المساكن و السفن للمحرّمات و كبيع العنب ليعمل خمرا و بيع الخشب ليعمل صنما. و يكره بيع ذلك لمن يعملها.» «3»

5- و ذيّل ذلك في الجواهر بقوله: «بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه و النصوص.» «4»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) النهاية/ 363، كتاب المكاسب.

(3) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة.

(4) الجواهر 22/ 25، كتاب التجارة، حرمة التكسّب بآلات اللهو و آلة القمار.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 154

..........

______________________________

6- و في التذكرة: «مسألة: ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له فيحرم بيعه كآلات الملاهي مثل العود و الزمر، و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم و آلات القمار كالنرد و الشطرنج إن كان رضاضها لا يعدّ مالا، و به قال الشافعي.

و إن عدّ مالا فالأقوى عندي الجواز مع زوال الصفة المحرمة. و للشافعي ثلاثة أوجه: الجواز مطلقا لما يتوقّع في المآل، و الفرق بين المتّخذة من الخشب و نحوه و

المتّخذة من الجواهر النفسية، و المنع و هو أظهرها لأنّها آلات المعصية لا يقصد بها سواها.» «1»

7- و في المنتهى: «و يحرم عمل الأصنام و الصلبان و غيرهما من هياكل العبادة المبتدعة و آلات اللهو كالعود و الزمر و آلات القمار كالنرد و الشطرنج و الأربعة عشر و غيرها من آلات اللعب بلا خلاف بين علمائنا.» «2»

أقول: المذكور في كلامه و إن كان عمل هذه الآلات لكن قد مرّ أنّ حرمة العمل في هذه الأشياء تكون بلحاظ الهيئة الحاصلة منه و الآثار الفاسدة المترتبة عليها فتسقط بذلك عن الماليّة شرعا فلا تصحّ المعاملة عليها.

8- و في مجمع الفائدة قال: «و دليل تحريم الكلّ الإجماع.» «3» ثمّ ذكر عبارة المنتهى شاهدة لذلك.

9- و في الرياض: «بإجماعنا المستفيض النقل في كلام جماعة من أصحابنا و هو الحجّة.» «4»

10- و في المستند: «و منها: ما يقصد منه المحرّم كآلات اللهو من الدفّ و القصب و الزمار و الطنبور و هياكل العبادات المبتدعة و آلات القمار من النرد

______________________________

(1) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، في شرائط العوضين.

(2) المنتهى 2/ 1011، كتاب التجارة، النوع الثاني ما يحرم لتحريم ما قصد به.

(3) مجمع الفائدة 8/ 41، أقسام التجارة و أحكامها.

(4) رياض المسائل 1/ 499، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 155

..........

______________________________

و الشطرنج و غيرهما، و لا خلاف في حرمة بيعها و التكسّب بها، و نقل الإجماع- كما قيل به- مستفيض، بل هو إجماع محقّق و هو الحجّة فيه ...» «1».

أقول: يظهر ممّا حكيناه من الكلمات أنّ المسألة كانت معنونة في كتب القدماء من أصحابنا المعدّة لنقل المسائل المأثورة و ادّعاء جمع الإجماع و عدم الخلاف فيها.

و لا يخفى أنّ

الهيئات فيما ذكر من الأمور مقوّمة لماليّتها عند العرف بحيث تلحظ في التقويم و المعاملة بل هي الركن فيهما. و إن فرض لحاظ المادّة أيضا في بعضها.

ثمّ إنّه قد يكون لموادّها أيضا قيمة و ماليّة كما إذا صنعت من الجواهر النفيسة و قد لا تكون كذلك كما إذا صنعت من الطين مثلا.

ثمّ إنّ منفعتها قد تنحصر في الحرام، و قد لا تنحصر فيه بل توجد لها منفعة محلّلة أيضا ملحوظة عند العقلاء. و المحلّلة قد تكون بحدّ توجب الماليّة بنفسها، و قد لا تكون كذلك بل تكون نادرة جدا غير موجبة للماليّة و الرغبة.

و المعاملة قد تقع على المادّة بهيئتها الخاصّة، و قد تقع على المادّة فقط بعد كسر الهيئة أو بدونه.

و على الأوّل فقد تقع بقصد المنفعة المحرّمة فقط و قد تقع بقصد المحلّلة و لو بقصد حفظها في المتاحف، و قد تقع مطلقة و لكن يعلم بأنّه ينتفع منها محرّما و المشتري يشتريها لذلك، فهذه شقوق المسألة.

و القدر المتيقّن من الكلمات و معقد الإجماعات المتقدّمة صورة وقوع المعاملة على الآلات المذكورة بهيئاتها و كون الغرض من اشترائها الانتفاع بها فيما صنعت لأجلها من الانتفاعات المحرّمة.

و يشكل دعوى إطلاقهما لما إذا وقع البيع على موادّها الخشبية أو الفلزية فقط، و لو قبل كسرها، أو كان الغرض من اشترائها كسرها و إتلافها، أو حفظها في المتاحف، فتدبّر.

______________________________

(1) مستند الشيعة 2/ 335، في المكاسب المحرّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 156

[الاستدلال على حرمة بيع هياكل العبادة بقصد منافعها المحرمة]
اشارة

و يدلّ عليه مواضع من رواية تحف العقول المتقدّمة مثل قوله: «و كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه» و قوله: «أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد.» و قوله: «و

كلّ منهي عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّه.»

و قوله: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي هي حرام كلّها ممّا يجي ء منه الفساد محضا نظير المزامير و البرابط و كلّ ملهوّ به و الصلبان و الأصنام- إلى أن قال- فحرام تعليمه و تعلّمه و أخذ الأجرة عليه و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات الخ.»

هذا كلّه مضافا إلى أنّ أكل المال في مقابل هذه الأشياء أكل له بالباطل، و إلى قوله صلى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرم ثمنه.»

بناء على أنّ تحريم هذه الأمور تحريم لمنافعها الغالبة بل الدائمة، فإنّ الصليب من حيث إنّه خشب بهذه الهيئة لا ينتفع به إلّا في الحرام، و ليس بهذه الهيئة ممّا ينتفع به في المحلّل و المحرّم. و لو فرض ذلك كان منفعة نادرة لا يقدح في تحريم العين بقول مطلق الذي هو المناط في تحريم الثمن. (1)

______________________________

الاستدلال على حرمة بيع هياكل العبادة بقصد منافعها المحرمة

(1) أقول: المبحوث عنه أوّلا هو بيع هياكل العبادة بهيئاته الخاصّة بقصد منافعها المحرّمة. و استدلّوا لذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع المدّعى في كلام جماعة كما مرّ.

و فيه: احتمال كون الفتاوى ناشئة عمّا يأتي من الأدلّة اللفظيّة فكون الإجماع هنا دليلا مستقلا بحيث يكشف به عن تلقي المسألة مستقيما عن الأئمة عليهم السّلام يدا بيد مشكل، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 157

الوجه الثاني: فقرات من رواية تحف العقول

______________________________

المتقدّمة كما في المتن.

و فيه: ما مرّ من إرسال الرواية و اضطراب متنها. و كون فتاوى المشهور مستندة إليها بحيث يجبر بها ضعفها غير واضح، مضافا إلى أنّ جبران ضعف الأخبار بالشهرة الفتوائيّة ممنوع عند بعض و إن قرّبناه نحن، فراجع الجهة الرابعة ممّا ذكرناه سابقا في بيان رواية تحف العقول. «1»

و في مصباح الفقاهة أجاب عن الاستدلال بالرواية مضافا إلى ضعفها بأنّ النهي فيها ظاهر في الحرمة التكليفيّة فلا دلالة فيها على الحرمة الوضعيّة. «2»

و فيه: أنّا قد بيّنا في الجهة الرابعة ممّا ذكرناه في بيان الرواية أنّ ألفاظ الحرمة و الحليّة في الكتاب و السنّة، بل في كلمات الأصحاب أيضا استعملت في الأعمّ من التكليف و الوضع و يظهر المراد منهما بقرينة المقام و الموضوع. و في باب المعاملات تنصرفان إلى الوضع حيث إنّه المترقّب منها، و النهي فيها أيضا ظاهر في الإرشاد إلى الفساد.

و بما ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره الأستاذ الإمام في المقام في عنوان البحث، حيث قال: «و منها هياكل العبادات المخترعة مثل الأصنام، و يأتي فيها ما تقدّم في القسم الأوّل من البحث عن حرمة بيعها و المعاوضة عليها بعنوانها، و عن حرمة ثمنها بعنوانه، و عن بطلان المعاملة بها المترتّب عليه كون ثمنها مقبوضا بالمعاملة الفاسدة. «3»»

و محصّل كلامه «ره» وجود أحكام ثلاثة في هذا الموضوع: حرمة معاملتها تكليفا، و حرمة ثمنها بعنوان أنّه

ثمن للصنم مثلا، و بطلان المعاملة عليها وضعا

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 88.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 148.

(3) المكاسب المحرّمة 1/ 106 (ط. الجديدة 1/ 161).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 158

..........

______________________________

المترتّب عليه عدم انتقال الثمن إليه و كون تصرّفه فيه تصرّفا في مال الغير، و قد التزم بذلك في النوع الأوّل أعني بيع النجس، بل جعل الحكمين الأوّلين أصيلين و الحكم الثالث غير أصيل يظهر بالتبع. و استدلّ للحكم الأوّل برواية تحف العقول و نحوها، و للثاني بما دلّ على تحريم الثمن من أخبار الفريقين، و للثالث بأنّ تحريم الثمن لا يجتمع عرفا مع الصحّة و إيجاب الوفاء بالعقود مضافا إلى الإجماع على البطلان.

أقول: يظهر ممّا مرّ أنّ إسناد الحرمة و الحليّة في الكتاب و السنّة إلى المعاملات ظاهر في الوضع نظير قوله- تعالى-: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا «1»، و لا ينافي ذلك إرادة التكليف بهما إن أسندا إلى العمل كالاقتناء و الإمساك. و لا نريد بذلك استعمال اللفظ في معنيين بل في معنى جامع، فأريد بالحلال ما أطلقه الشرع بحسب ما يناسبه من التكليف أو الوضع، و بالحرام ما منع منه و حدّده كذلك.

و قوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» «2» لا يراد به كون ثمن الشي ء بما أنّه ثمن له من المحرّمات، بل هو كناية عن بطلان المعاملة و عدم انتقال الثمن لعدم الماليّة شرعا، فيكون التصرّف فيه تصرّفا في مال الغير، فالثابت في المسألة حكم واحد و هو الحكم الوضعي و يترتّب عليه التكليف قهرا.

و لو سلّم حرمة المعاملة تكليفا أيضا كما ربما نلتزم بها في مثل الربا و بيع الخمر لما فيهما

من التأكيدات فحرمة الثمن بما أنّه ثمن للصنم مثلا غير واضحة و إن أصرّ عليها الأستاذ. «3»

الوجه الثالث: ما أشار إليه المصنّف في المتن، أعني قوله- تعالى:

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

(2) الخلاف 3/ 184 و 185 (ط. أخرى 2/ 81 و 82)، المسألتان 308 و 310. و لتفصيل المصادر راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 143 و ما بعدها.

(3) المكاسب المحرّمة 1/ 13 (ط. الجديدة 1/ 20).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 159

..........

______________________________

لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ. «1» بناء على تعميم الباطل للباطل الشرعي أيضا و إن لم يكن باطلا عند العرف.

و فيه: ما عرفت سابقا «2» من أنّ الباء في قوله: «بالباطل» ظاهرة في السببية لا المقابلة، فأريد النهي عن أكل مال الغير و تملّكه بالأسباب الباطلة نظير الرشوة و القمار و السرقة و نحوها.

و يشهد لذلك استثناء التجارة التي هي من الأسباب المملّكة، و المستثنى يكون من سنخ المستثنى منه. و ليست الباء للمقابلة نظير ما تدخل على الأثمان في المعاوضات.

و بالجملة ليست الآية بصدد بيان شرط العوضين و أنّهما من ذوات الماليّة عرفا و شرعا أو من الأمور الباطلة. بل بصدد النهي عن تملك مال الغير بالأسباب الباطلة عند العقلاء و الشارع.

و يشهد لذلك أيضا- مضافا إلى ما مرّ- ما ورد في تفسير الآية:

كصحيحة زياد بن عيسى، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله (قول اللّه خ. ل)- عزّ و جلّ-: «لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ.» فقال: «كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه- عزّ و جلّ- عن ذلك.» «3»

و نحوها ما رواه العياشي عن محمّد بن عليّ عنه. «4»

و الظاهر أنّ المراد بزياد بن عيسى أبو عبيدة

الحذّاء و لذا وصفنا الرواية بالصحّة.

و ما عن نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى عن أبيه، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام، في قول اللّه- عزّ و جلّ-: لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ قال: «ذلك

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 29.

(2) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 14 و 15.

(3) الوسائل 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 120، الحديث 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 160

..........

______________________________

القمار.» «1»

و نحوها ما رواه العياشي عن أسباط بن سالم عنه عليه السّلام. «2»

الوجه الرابع: ما ذكره المصنّف أيضا من النبويّ المشهور:

«إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» «3»

بتقريب أنّ تعلّق التحريم بشي ء بنحو الإطلاق و كذا تحريم ثمنه لا يصحّ إلّا إذا حرم جميع منافعه أو منافعه الغالبة الموجبة للماليّة بحيث خرج بذلك عن الماليّة شرعا، و هياكل العبادات من هذا القبيل.

و فيه: أنّ الحديث- مضافا إلى عدم وروده من طرقنا و عدم ثبوت اعتماد المشهور عليه ليجبر بذلك ضعفه- اختلف في متنه، و النقل المشهور فيه: «إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه.» «4» فلا يناسب المقام، و يراد به لا محالة تحريم الثمن إذا بيع ما حرّم أكله بداعى أكله لا مطلقا، فوزانه وزان قوله عليه السّلام في صحيحة محمّد بن مسلم في الخمر: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها» «5» حيث حملناها على بيعها بداعي الشرب لا مطلقا.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّه يستفاد من الحديثين وجود الملازمة بين حرمة الانتفاع بالشي ء و حرمة ثمنه إجمالا فيعلم منهما حكم المقام أيضا.

نعم روى الحديث أحمد في موضع ثالث من مسنده بدون كلمة الأكل. «6»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب،

ص 121، الحديث 14.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 120، الحديث 8.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8؛ و من أراد تفصيل البحث حول الرواية فليراجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 143.

(4) سنن أبي داود 2/ 251، كتاب الإجارة.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 160

(5) الوسائل 12/ 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(6) مسند أحمد 1/ 322.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 161

..........

______________________________

فراجع ما حرّرناه في متن الحديث و طرقه في المجلد الأوّل من دراساتنا في المكاسب. «1»

الوجه الخامس: قوله- تعالى:

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ «2»

و قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ «3»

قال في مجمع البيان: «و الأنصاب: الأصنام، واحدها نصب، و سمّي بذلك لأنّها كانت تنصب للعبادة لها.» «4»

و قوله: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «5»

ففي التبيان: «قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و الزهري: معناه: فاهجر الأصنام.» «6»

و في الدر المنثور عن جابر قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول: «و الرجز فاهجر» برفع الراء، و قال: «هي الأوثان.» «7» هذا.

و الاستدلال بالآيات الثلاث بتقريب أنّ الاجتناب و كذا الهجر المطلق يقتضي الاجتناب عن البيع أيضا.

و فيه: أنّ الاجتناب عن كلّ شي ء ينصرف إلى الاجتناب عمّا يناسبه و يترقّب منه بطبعه، فالاجتناب عن الخمر بترك شربها، و عن اللباس بترك لبسه، و عن

______________________________

(1) دراسات في المكاسب المحرّمة 1/ 143.

(2) سورة الحج (22)، الآية 30.

(3) سورة المائدة (5)، الآية 90.

(4) مجمع البيان 2/ 239 (الجزء

الثالث).

(5) المدثر (74)، الآية 5.

(6) التبيان 2/ 724 (ط. أخرى 10/ 173).

(7) الدر المنثور 6/ 281.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 162

..........

______________________________

الأصنام بترك عبادتها، و أمّا ترك بيعها فلا يستفاد من ظاهر الآية.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الاجتناب المطلق عن الشي ء يقتضي حرمة جميع الانتفاعات منه، و مقتضى ذلك سقوطه عن الماليّة شرعا فتبطل المعاملة عليه لذلك، فتدبّر.

الوجه السادس: ما دلّ على النهي عن بيع الخشب لمن يتّخذه صليبا أو صنما،

إذ بيع الخشب الذي هو حلال إذا حرم لذلك فبيعهما أولى بالحرمة:

ففي صحيحة عمر بن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال: «لا بأس به». و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلبانا؟ قال: «لا» «1»

و ظهورها في المنع في محلّ البحث ظاهر و لكن الإشكال في التفصيل بين بيعه لآلات اللهو و بيعه للصليب.

قال المجلسي في مرآة العقول: «و المشهور بين الأصحاب حرمة بيع الخشب ليعمل منه هياكل العبادة و آلات الحرام، و كراهته ممّن يعمل ذلك إذا لم يذكر أنّه يشتريه له، فالخبر محمول على ما إذا لم يذكر أنّه يشتريه لذلك، فالنهي الأخير محمول على الكراهة، و حمل الأوّل على عدم الذكر و الثاني على الذكر بعيد.

و ربّما يفرّق بينهما بجواز التقية في الأوّل لكونها ممّا يعمل لسلاطين الجور في بلاد الإسلام دون الثاني.» «2»

أقول: و يمكن أن يقال: إنّ فساد هياكل العبادة أكثر، فيحرم البيع لها و لو مع عدم الذكر بل في الأمور المهمّة الظنّ و الاحتمال أيضا منجّزان. هذا.

و في خبر عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التوت أبيعه يصنع به

______________________________

(1) الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به،

الحديث 1.

(2) مرآة العقول 19/ 265، كتاب المعيشة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 163

..........

______________________________

الصليب و الصنم؟ قال: «لا.» «1»

أقول: السند في الوسائل عن الشيخ هكذا: «الحسن بن محبوب، عن أبان بن عيسى القمّي، عن عمرو بن حريث.»

و لكن في الكافي و التهذيب: «أبان عن عيسى» و هو الصحيح. و في الكافي:

«عمرو بن جرير» و هو مجهول. نعم في التهذيب: «عمرو بن حريث» و في الطبع القديم من الكافي جعله نسخة، و عليه فالسند لا بأس به. «2»

و في مصباح الفقاهة- بعد الإشارة إلى الروايتين و الاستدلال بهما للمقام- قال: «و هذا هو الوجه الوجيه، و يؤيّده قيام السيرة القطعيّة المتّصلة إلى زمان المعصوم عليه السّلام على حرمة بيع هياكل العبادة، و يؤيّده أيضا وجوب إتلافها حسما لمادّة الفساد كما أتلف النبي صلى اللّه عليه و آله و عليّ عليه السّلام أصنام مكّة فإنّه لو جاز بيعها لما جاز إتلافها.» «3»

أقول: يمكن القول بالتفصيل بحسب الأزمنة و الشرائط: ففي عصر عبادة الأصنام و الاحترام لها وجب إتلافها حسما لمادّة الفساد، كما صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام بأصنام مكّة بعد فتحها، و كما صنع خليل الرحمن عليه السّلام بأصنام النماردة و موسى عليه السّلام بعجل السّامريّ، و مع فرض كونها مادّة للفساد بالكليّة سقطت ماليتها عند الشرع.

و أمّا إذا فرض في أعصارنا العثور على أصنام الأمم البائدة في الحفريّات مع

______________________________

(1) الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) راجع الكافي 5/ 227 (ط. القديمة 1/ 393)، كتاب المعيشة، الباب 13، الحديث 5؛ و التهذيب 6/ 373 (ط. القديمة 2/ 112)، كتاب المكاسب،

الباب 93، الحديث 205؛ و أيضا 7/ 134 (ط. القديمة 2/ 154)، كتاب التجارة، الباب 9، الحديث 62.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 149.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 164

..........

______________________________

انقراض عبدتها بالكليّة فليست مادّة للفساد و لا يترتب على إتلافها فائدة عقلائيّة أو شرعيّة إذ لا يرغب أحد في عبادتها و تكريمها. فإذا رغب العقلاء في حفظها في المتاحف لانتفاعات علميّة و تاريخيّة فوجوب إتلافها حينئذ غير واضح، بل ربما يعدّ تضييعا للأموال، و ليست أحكام الشرع جزافية. و أدلّة منع بيعها من الأخبار و كلمات الأصحاب و معاقد الإجماعات تنصرف جدّا عن هذه الصورة. و يظهر من رواية تحف العقول أيضا بعد ضمّ بعض فقراتها إلى بعض تعليل المنع فيما حرم بما فيه من الفساد، فلا منع مع عدم الفساد و وجود الصلاح.

و قد مرّ منّا نظير ذلك في باب الخمر و أنّ إكفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لأواني الخمر في المدينة حين ما نزل تحريمها كان حكما سياسيا موقّتا لقطع مادّة الفساد و تثبيت حكم التحريم، فلا يجري ذلك في عصرنا بالنسبة إلى من يريد تخليل خمره مثلا، فتدبر.

الوجه السابع: ما في دعائم الإسلام

قال: «روّينا عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ عليهم السّلام: «أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله نهى عن بيع الأحرار و عن بيع الميتة و الدّم و الخنزير و الأصنام. الحديث.» و رواه عنه في المستدرك. «1»

و نحوه ما رواه أبو داود بسنده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.

الحديث.» «2»

و فيه:

ضعف الخبرين سندا و إن لا يبعد الوثوق بالصدور إجمالا بعد تقارب ما عن طرق العامّة و ما في الدعائم عن عليّ عليه السّلام، و أمّا دلالتهما فلا إشكال فيها لما مرّ من أنّ النهي في المعاملات ظاهر في الإرشاد إلى الفساد، و الحرمة فيها ظاهرة

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2/ 18؛ و عنه في مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) سنن أبي داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 165

..........

______________________________

في الوضع. فإشكال مصباح الفقاهة «1» بعدم الدلالة على الفساد مدفوع.

الوجه الثامن: ما ذكره الأستاذ الإمام «ره» في المقام،

و هو بيان جامع يشتمل على الاستدلال بالعقل و بالنقل أيضا بوجوه مختلفة، فلنذكره بعبارته و إن طالت، قال: «لا ينبغي الإشكال في حرمة بيعها و بطلانه في الصور التي يترتّب عليها الحرام، الاستقلال العقل بقبح ما يترتّب عليه عبادة الأوثان و مبغوضيّته، بل قبح تنفيذ البيع و إيجاب الوفاء بالعقد المترتّب عليه عبادة غير اللّه- تعالى-. بل لو ادّعى أحد القطع بأنّ الشارع الأقدس الذي لا يرضى ببيع الخمر و شرائها و عصرها، و لعن بائعها و مشتريها و حرّم ثمنها و جعله سحتا، لا يرضى بذلك في الصنم، و لا يرضى ببيعه و شرائه و نحوهما [كان في محلّه- ظ].

بل يستفاد من الأدلّة أنّ تحريم ثمن الخمر و سائر المسكرات و تحريم بيعها و شرائها للفساد المترتّب عليها، و معلوم أنّ الفساد المترتّب على الأوثان و بيعها و شرائها أمّ جميع المفاسد، و ليس وراء عبّادان قرية.

بل يظهر من الروايات المنقولة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أبي جعفر و أبي

عبد اللّه عليهم السّلام «2» مستفيضة: أنّ مدمن الخمر كعابد وثن: أنّ عبادته شرّ منه يترتّب عليها فوق ما يترتّب عليه، فكيف يمكن ذلك التشديد في الخمر لقطع الفساد دون الأوثان، مضافا إلى دلالة الروايات العامّة المتقدّمة كرواية التحف و غيرها ...» «3»

أقول: مقتضى التشبيه المذكور في الروايات المشار إليها كون الملاك في المشبّه به أقوى فإذا حرم الخمر و شربها و بيعها و ثمنها و جعل ثمنها سحتا و حكمنا بفساد بيعها وضعا و بحرمته تكليفا بمقتضى التأكيدات الواردة فيها كما مرّ في مسألة بيع الخمر، فجميع هذه الأمور تجري في الوثن و عبادته و بيعه و شرائه و ثمنه بنحو أكمل و أوفى.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 149.

(2) راجع الوسائل 17/ 253، الباب 13 من أبواب الأشربة المحرّمة.

(3) المكاسب المحرّمة 1/ 107 (ط. الجديدة 1/ 162).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 166

..........

______________________________

و بذلك يظهر ثبوت التكليف و الوضع معا في المسألة و عدم انحصار دليلها في دليل العقل حتى يناقش في جريان الاستصحاب في الموارد المشكوكة في المسألة، بناء على المناقشة في جريانه في الأحكام الشرعيّة المستنبطة من الأحكام العقليّة المحضة كما ذكره الشيخ الأعظم «ره» في الرسائل. «1»

و قد تحصل ممّا ذكرنا من الأدلّة حرمة بيع هياكل العبادة و بطلانه، و أنها ساقطة عن المالية عند الشارع من غير فرق بين كونها متّخذة ممّا لا قيمة له كالخزف أو ممّا له قيمة و ماليّة كالجواهر النفيسة.

فإن قلت: ما ذكرت من بطلان المعاملة عليها إنّما يصحّ فيما لم يكن لمادّتها قيمة و ماليّة و أمّا إذا كان لمادّتها ماليّة مع قطع النظر عن الهيئة الموجدة فيها كما إذا صنعت من الجواهر النفسية فلم

لا يكون بيعها من قبيل بيع ما يملك و ما لا يملك كبيع الشاة مع الخنزير مثلا حيث قالوا فيه بصحّة البيع بالنسبة إلى ما يملك و تقسيط الثمن عليهما بالنسبة؟ ففي المقام أيضا يجب أن نلتزم بصحّة المعاملة بالنسبة إلى المادّة بقسطها من الثمن، غاية الأمر أنّ للمشتري خيار تبعّض الصفقة مع جهله.

قلت: تبعّض المعاملة و تقسيط الثمن إنّما يجريان فيما إذا كان لكلّ ممّا يملك و ما لا يملك وجود مستقل ملحوظ في التقويم و المعاملة معا كما في مثال الشاة و الخنزير، و المقام ليس كذلك، إذ الهيئة و المادّة هنا توجدان عند العرف بوجود واحد، و الهيئة عندهم بمنزلة الصورة النوعيّة المقوّمة للمادّة المتّحدة معها.

لا أقول: إنّ المعاملة تقع على الهيئة كما قد يتوهّم من بعض الكلمات، بل أقول: إنّها تقع على المادّة المتهيّئة بالهيئة الكذائيّة، و لكنّهما يعتبران أمرا واحدا، و تعدّ الهيئة مقوّمة لها و إن كانت بالنظر الفلسفي من الأعراض. نظير هيئة السرير

______________________________

(1) فرائد الأصول/ 378 (ط. أخرى 2/ 650) التنبيه الثالث من الاستصحاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 167

..........

______________________________

الواردة على الخشب، و هيئة الفراش الواردة على الصوف مثلا، حيث يحكم العرف باتّحاد المادّة و الهيئة وجودا و مالكا و يعدّون الفراش و الثوب مثلا أمرين متباينين و إن كانت مادّتهما واحدة.

فلو نسج أحد صوف الغير عباء لا يحكمون بالتبعض في المالكيّة و كون المادّة لأحدهما و الهيئة للآخر، بل يحكمون بكونه أمرا واحدا لمالك المادّة و أنّ العامل يستحق أجرة عمله إن وقع بالإذن و إلّا وقع هدرا.

و لو باعه شيئا على أنّه عباء مثلا فبان فراشا لا يحكمون بصحّة المعاملة و أنّ للمشتري خيار

تخلّف الوصف بل يحكمون ببطلانها لتباين الشيئين عندهم.

و بالجملة فالهيئات في أمثال هذه الأمور و منها هياكل العبادة و آلات القمار و آلات اللهو و الدراهم و الدنانير متّحدة مع الموادّ عرفا، و الكثرة تحليليّة عقليّة كما في الجسم و الصور النوعيّة المتّحدة معه.

فلا مجال للقول بتبعض المعاملة و تقسيط الثمن، بل تقع باطلة بلحاظ ما يترتب عليها من الفساد المحض.

بعض الصور المستثناة من حرمة بيع هياكل العبادة

نعم، الظاهر- كما مرّ- «1» عدم شمول الأدلّة بكثرتها لما إذا لم يترتّب عليها الفساد أصلا كما إذا انقرضت عبدة الأصنام بالكليّة و كان الغرض من اشترائها حفظها في المتاحف للانتفاعات العلميّة و التاريخيّة.

بل و كذا إذا كان الملحوظ في المعاملة هي المادّة فقط و لم تقع الهيئة ملحوظة أصلا- كما إذا باع وزنة من حطب فظهر فيها صلبان من خشب- كما يأتي في كلام المصنّف عن قريب، إذ لا يبعد القول بانصراف أدلّة المنع عن هذه الصورة

______________________________

(1) راجع ص 163 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 168

..........

______________________________

أيضا، حيث لا يصدق على بيعها حينئذ بيع الصلبان بل بيع الخشب فيشملها عمومات البيع و التجارة و العقود. اللّهم إلّا أن يدّعى في بعض الموارد جريان استصحاب المنع فيقدّم على العمومات بناء على كون المقام من موارد تقديم استصحاب حكم المخصّص على التمسّك بعموم العامّ، و لكنّه قابل للمنع إذ تقديم استصحاب حكم المخصّص إنّما يصحّ فيما إذا لم يتعرض العامّ إلّا للأفراد دون قطعات الزمان و الحالات المختلفة، فإذا خرج منه فرد و شكّ في طول عمره و قصره لم يكن إجزاء الاستصحاب فيه موجبا لتخصيص زائد في العامّ. نظير ما إذا شكّ في فوريّة خيار الغبن و استمراره. و المقام ليس

من هذا القبيل، إذ ليس الصنم مثلا فردا للعام في المقام، بل نفس البيع أو التجارة أو العقد الوارد عليه. فكل بيع مثلا فرد مستقلّ لقوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ، فيكون القول بحرمته و بطلانه حينئذ موجبا لتخصيص زائد في العامّ فيكون المقام مقام الأخذ بالعامّ لا استصحاب حكم المخصّص.

اللّهم إلّا أن يقال أوّلا: بمنع العموم في مثل قوله: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ لعدم كونه في مقام البيان كما مرّ بيانه سابقا. و ثانيا: بمنع تعرّض هذه الأدلّة لحكم متعلّقات البيع و التجارة و العقود و أنّها ممّا يجوز إيقاعها عليها أم لا.

و بعبارة أخرى: عمومها بلحاظ مصاديق البيع و التجارة و العقد و ليست متعرّضة لشرائط العوضين و ما يعتبر فيهما، فتأمّل.

و أمّا المناقشة في الاستصحاب في المقام من جهة المناقشة في استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى حكم العقل، فقد مرّت الإشارة إلى الجواب عنها بأنّ الدليل للمنع في المقام لا ينحصر في حكم العقل، فراجع الأدلّة التي سردناها للمنع. «1»

______________________________

(1) راجع ص 166 و ما قبلها من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 169

..........

______________________________

مضافا إلى ما قيل من إمكان كون الملاك و الموضوع للحكم الشرعي أعمّ من موضوع حكم العقل و إن كان حكم العقل وسطا لإثباته، و التحقيق موكول إلى محلّه. هذا.

كلام المحقّق الإيرواني و المناقشة فيه

و للمحقّق الإيرواني «ره» في المقام كلام ينبغي التعرّض له و لما فيه، قال ما محصّله: «اعلم أنّ هذه الأمور بين ما منفعته منحصرة في الهيئة و بين ما لمادّته أيضا منفعة محلّلة شائعة.

ثمّ القسم الأوّل إمّا أن تنحصر منفعة الهيئة في الحرام أو تكون مشتركة بين الحلال و الحرام، فهذه أقسام ثلاثة.

لا إشكال في أنّ الأوّل تحرم المعاملة عليه،

بل هو المتيقّن من أدلّة المنع كرواية تحف العقول و نحوها. و الأخير تحلّ المعاملة عليه لفرض وجود المنفعة المحلّلة الشائعة المترتّبة على الهيئة، و سيجي ء البحث عن المعاملة على ذي المنفعتين مع قصد المنفعة المحرّمة.

و أمّا القسم الوسط فبعد الكسر و إزالة الهيئة لا إشكال أيضا في أنّه يجوز البيع، و كذا قبل الكسر إن أنشئت المعاملة على مادّته بلا قيد الهيئة.

و إنّما الإشكال فيما إذا وقعت على المادّة بهيئتها. و المصنّف اختار فسادها لعدم المنفعة للبيع في المادّة بقيد الهيئة، و المادّة لا بشرط لم يقع عليها عقد. و الحقّ هو الصحّة و أنّه لا فرق بين أن تكون المنفعتان المحلّلة و المحرّمة واردتين على المادّة المتهيّئة بهيئة خاصّة أو الواردة إحداهما على المادّة و الأخرى على الهيئة، لصدق أنّ المبيع فيه جهة من وجوه الصلاح إذا اشتمل على المنفعة المحلّلة الشائعة سواء كانت للهيئة أو للمادّة، فإنّ ما في الخارج واحد بسيط و المنفعة له، و المعاملة واقعة عليه،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 170

..........

______________________________

و التحليل إنّما هو في العقل. و لو فرضنا التركيب الخارجى أيضا صحّت لعدم بناء أحكام الشرع على هذه المداقّات.

و الحاصل: أنّ كبرى المسألة و هي جواز بيع ذي المنافع المشتركة بين الحلال و الحرام ممّا لا إشكال فيها. و صغرى المسألة أعني كون المقام من هذا القبيل أيضا ممّا لا إشكال فيها و إن كانت إحداهما للمادّة و الأخرى للهيئة، فإنّ المادّة و الهيئة في الخارج شي ء واحد.

فتحصّل: أنّ المعاملة في جميع ما ذكره المصنّف من الأمور جائزة إلّا صورة انحصار المنفعة في الحرام.

هذا مع أنّ هياكل العبادة و أواني النقدين و الدراهم الخارجيّة بهيئاتها أيضا

ذوات منافع شائعة محلّلة و هي منفعة التزيين.» «1»

أقول: ما ذكره من صحّة المعاملة فيما إذا ترتّبت المنفعتان على الشي ء بهيئتها صحيح بشرط وقوعها بلحاظ المحلّلة أو بنحو الإطلاق، إذا لشي ء حينئذ يعدّ مالا عرفا و شرعا، و يشكل الصحّة إن وقعت بلحاظ المحرّمة بل الظاهر الفساد كما يأتي في الجارية المغنّية إذا بيعت بلحاظ غنائها.

و أمّا إذا لم يكن للشي ء بلحاظ هيئتها المقوّمة له عرفا إلّا المنفعة المحرّمة، و المفروض عدم انحياز المادّة و عدم وقوع المعاملة بلحاظها، و وقوعها بلحاظهما معا، لا يوجب تبعّض المعاملة بالنسبة إليهما لما مرّ من عدم تبعضها بالنسبة إلى الأجزاء فكيف بالأجزاء التحليليّة كالمادة و الصورة، فالثمن على هذا يقع بإزاء هذا الشي ء الواحد الخارجي الذي لا يترتّب عليه إلّا الفساد المحض.

و إذا فرض أنّ بيع الخشب لمن يعمله صنما أو صليبا لا يجوز كما دلّ عليه ما مرّ من الروايتين، مع كون الخشب بنفسه حلالا جائز البيع، فكيف يجوز بيع نفس

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 13.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 171

..........

______________________________

الصنم أو الصليب؟!

و يمكن الاستيناس للمسألة ممّا دلّ على فساد المعاملة على الجارية المغنّية إذا وقعت بلحاظ غنائها، إذ مع كون الغناء وصفا زائدا على الجارية عارضا عليها، و الجارية بنفسها لها ماليّة و الثمن يقع بإزائها في المعاملة إذا فرض حكم الشارع بفساد معاملتها بلحاظ ما يترتّب على المبيع في هذه الصورة من الفساد فبطلانها في المقام أولى، لأنّ الهيئة مقوّمة للشي ء و الفساد المترتّب عليه أعظم و أشدّ كما لا يخفى.

و قد تحصّل ممّا ذكرناه بطوله أنّ بيع هياكل العبادة بهيئاتها الخاصّة حرام تكليفا و فاسد وضعا إذا لم يكن لها بلحاظ

هيئاتها المقوّمة لها عرفا إلّا المنفعة المحرّمة أو كانت المحلّلة منها نادرة جدّا غير ملحوظة عند العقلاء، سواء كانت لمادّتها قيمة أم لا. و قد أقمنا لذلك أدلّة ثمانية و إن كان بعضها قابلا للمناقشة.

قال الأستاذ الإمام «ره» في مكاسبه: «هذا حال ما علم ترتّب الحرام عليه. و لا يبعد إلحاق ما يكون مظنّة لذلك به، بل صورة احتمال ترتّبه أيضا، احتياطا لأهميّة الموضوع و شدّة الاهتمام به فلا يقصر عن الأعراض و النفوس بل أولى منهما في إيجاب الاحتياط.» «1» انتهى. و ما ذكره متين كما لا يخفى.

نعم قد مرّ أنّ الظاهر انصراف الأدلّة بكثرتها عمّا إذا لم يترتّب عليها الفساد أصلا كما إذا انقرضت عبدتها بالكليّة و كان الغرض من اشترائها حفظها في المتاحف للانتفاعات العلميّة و التاريخيّة.

و ألحق الأستاذ الإمام «ره» بذلك ما إذا وقع البيع لغرض إدراك ثواب كسرها أو غرض آخر في كسرها. ثمّ أورد على ذلك إشكالات عقليّة ذكرها ببيان علمي

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 108 (ط. الجديدة 1/ 164).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 172

..........

______________________________

معقّد، فراجع. «1»

و عمدة الإشكال- ببيان بسيط- هي أنّ صحّة البيع تتوقّف على الماليّة و المفروض أنّ الشارع أسقط ماليتها بهيئاتها و بكسرها تسقط عن الماليّة العرفيّة أيضا و إن بقيت ماليّة المادّة في بعض الفروض.

أقول: يمكن أن يقال: إنّ المفروض أنّ لها بهيئاتها الخاصّة ماليّة عرفيّة.

و المتيقّن من إسقاط الشارع لذلك ما إذا أريد حفظها بلحاظ منافعها المحرّمة أو وقعت المعاملة عليها بهذا اللحاظ. و أمّا إذا وقعت بلحاظ كسرها لتحصيل الثواب بذلك أو اشتهاره بكونه كاسر الأصنام في عصره أو نحو ذلك فلا دليل على إسقاطها شرعا، نظير حفظ الخمر أو

بيعها بقصد التخليل فإنّ ماليّتها في هذه الصورة معتبرة شرعا. و لا نريد بالماليّة إلّا كون الشي ء مرغوبا فيه يبذل بإزائه المال و لو من ناحية بعض الأشخاص لأغراض خاصّة عقلائيّة و لو موقّتة.

و بالجملة فليست ماليتها بلحاظ ما بعد كسرها بل بلحاظ ما قبله مع عدم ترتّب الفساد عليه، فتأمّل.

قال الأستاذ الإمام «ره»: «ثمّ إنّ صحّة البيع لغاية الكسر تتوقّف على إحراز أنّ المشتري يشتريه لتلك الغاية لأنّ ماليّته تتوقّف على هذه الغاية. و مع الشكّ في كونه لها يشكّ في ماليّته فلا تصحّ المعاوضة عليه، بل صحّة صلحه و هبته و نحوهما أيضا تتوقّف على ذلك الإحراز لعدم جوازها إلّا لتلك الغاية.» «2»

أقول: لا يريد بذلك أنّ الماليّة بلحاظ ما بعد الكسر، بل يريد أنّ ماليّتها بلحاظ فائدة الكسر لإسقاطها بلحاظ الفوائد المحرّمة.

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 1/ 110 (ط الجديدة 1/ 166).

(2) نفس المصدر و الصفحة (ط. الجديدة 1/ 167).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 173

[حكم بيع الآلات المشتركة بين المنافع المحرمة و المحلّلة غير النادرة]

نعم لو فرض هيئة خاصّة مشتركة بين هيكل العبادة و آلة أخرى لعمل محلّل بحيث لا تعدّ منفعة نادرة (1) فالأقوى جواز البيع بقصد تلك المنفعة المحلّلة كما اعترف به في المسالك. (2)

______________________________

حكم بيع الآلات المشتركة بين المنافع المحرمة و المحلّلة غير النادرة

(1) قد شاع في عصرنا صنع المكائن و أجزائها و الأوعية و بعض وسائل التعيش على هيئة الأصنام و الصلبان و آلات اللهو. و المقصود من شرائها الانتفاعات المحلّلة لا المحرّمة.

(2) في المسالك: «آلات اللهو و نحوها إن لم يمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم و لم يكن لمكسورها قيمة فلا شبهة في عدم جواز بيعها لانحصار منفعتها في المحرّم. و إن أمكن

الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم على تلك الحالة منفعة مقصودة و اشتراها لتلك المنفعة لم يبعد جواز بيعها، إلّا أنّ هذا الفرض نادر، فإنّ الظاهر أنّ ذلك الوضع المخصوص لا ينتفع به إلّا في المحرّم غالبا، و النادر لا يقدح، و من ثمّ أطلقوا المنع من بيعها.» «1»

أقول: قد مرّ شيوع صنع كثير من وسائل التعيش على هيئة الأصنام و الصلبان.

و كلام المسالك في آلات اللهو، و قد شاع الانتفاع بها في تنظيم الأصوات و الأناشيد الدينيّة و الحربيّة و إن كثر الانتفاع بها في مجالس اللهو أيضا، فتكون مشتركة بين المنافع المحلّلة و المحرّمة.

و دعوى وجوب كسرها و إتلاف هيئاتها مع كونها مشتركة بلا دليل بعد عدم ترتّب الآثار المحرّمة عليها و منع شمول أدلّة المنع لها. اللّهم إلّا أن يكون فيها دعاية و تبليغ للأديان الباطلة أو للفساد فيمنع بيعها لذلك بل تتلف.

و في حاشية المحقّق الإيرواني في ذيل قول المصنّف: «جواز البيع بقصد تلك المنفعة المحلّلة» قال: «بل الأقوى جواز البيع مطلقا لعموم أدلّة صحّة المعاملات مؤيّدة

______________________________

(1) المسالك 1/ 165 (ط. أخرى 3/ 122)، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 174

فما ذكر بعض الأساطين (1) من أنّ ظاهر الإجماع و الأخبار أنّه لا فرق بين قصد الجهة المحلّلة و غيرها فلعلّه محمول على الجهة المحلّلة الّتي لا دخل للهيئة فيها أو النادرة التي ممّا للهيئة دخل فيه.

نعم ذكر أيضا- وفاقا لظاهر غيره بل الأكثر- أنّه لا فرق بين قصد المادّة و الهيئة.

أقول: إن أراد بقصد المادّة كونها هي الباعثة على بذل المال بإزاء ذلك الشي ء و إن كان عنوان المبيع المبذول بإزائه الثمن هو ذلك الشي ء فما استظهره

من الإجماع و الأخبار حسن لأنّ بذل المال بإزاء هذا الجسم المتشكّل بالشكل الخاصّ من حيث كونه مالا عرفا بذل للمال على الباطل. (2)

______________________________

بعموم قوله عليه السّلام: «و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات.»

و لا دليل على اعتبار قصد المنفعة المحلّلة.» «1»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره إذ في ذي المنفعتين لا يجب قصد المحلّلة بل يجوز البيع بنحو الإطلاق نعم يضرّ قصد المحرّمة منها.

نعم يمكن أن يقال في خصوص هياكل العبادة بعدم جواز تسليمها للمشتري إلّا مع الاطمينان بعدم الانتفاع بها في العبادة، لما عرفت من إيجاب الاحتياط في الأمور المهمّة و العلم بأنّها لا تقصر عن الأعراض و النفوس بل كونها أهمّ منهما.

(1) أراد به كاشف الغطاء في شرحه على قواعد العلّامة، و الظاهر أنّه لم يطبع إلى الآن.

(2) فيه إشارة إلى الاستدلال بآية النهي عن أكل المال بالباطل، و قد عرفت أنّه مبني على كون الباء للمقابلة، التى تدخل على الأثمان في المعاملات، و عرفت منع ذلك و أنّها للسببيّة بقرينة الاستثناء فيها، فيراد بها منع أكل المال بالأسباب الباطلة من القمار و الرشوة و نحوهما.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 13.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 175

و إن أراد بقصد المادة كون المبيع هي المادة سواء تعلّق البيع بها بالخصوص كأن يقول: بعتك خشب هذا الصنم أو في ضمن مجموع مركب كما لو وزن له وزنة حطب فقال: بعتك فظهر فيه صنم أو صليب فالحكم ببطلان البيع في الأوّل و في مقدار الصنم في الثاني مشكل لمنع شمول الأدلّة لمثل هذا الفرد، لأنّ المتيقّن من الأدلّة المتقدّمة حرمة المعاوضة على هذه الأمور نظير المعاوضة على غيره من

الأموال العرفيّة و هو ملاحظة مطلق ما يتقوّم به ماليّة الشي ء من المادة و الهيئة و الأوصاف.

و الحاصل: أنّ الملحوظ في البيع قد يكون مادة الشي ء من غير مدخليّة الشكل. ألا ترى أنّه لو باعه وزنة نحاس فظهر فيها آنية مكسورة لم يكن له خيار العيب لأنّ المبيع هي المادّة. و دعوى أنّ المال هي المادّة بشرط عدم الهيئة مدفوعة بما صرّح به من أنّه لو أتلف الغاصب لهذه الأمور ضمن موادّها. و حمله على الإتلاف تدريجا (1) تمحّل.

______________________________

و يمكن منع شمول الإجماع و الأخبار لما ذكره، إذ المتيقّن منهما صورة ترتّب الفساد عليها و على معاملتها، فلو فرض الاحتياج إلى مادّتها فقط لغرض مشروع و لكن الواجد لها لا يبيع إلا الموجود الخارجي المتهيّئ بهيئة خاصّة فلم لا يصحّ الشراء منه؟!

و الحاصل أنّ الملاك في صحّة المعاملة و فسادها، الأثر المترتّب عليها لا ما وقع الثمن بإزائه، فتأمّل.

(1) بأن يتلف الهيئة أوّلا ثمّ يتلف المادّة، فيراد بضمان المادّة ضمانها في هذه الصورة فقط. و كون هذا تمحّلا واضح لكونه خلاف الظاهر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 176

[حكم بيع مادّة الأصنام]
اشارة

و في محكي التذكرة (1) أنّه إذا كان لمكسورها قيمة و باعها صحيحة لتكسر و كان المشتري ممّن يوثق بديانته فإنّه يجوز بيعها على الأقوى. انتهى.

______________________________

ثمّ لا يخفى أنّ الضمان للمادّة إنّما يثبت فيما إذا أمكن إتلاف الهيئة مع حفظ المادّة. و أمّا إذا توقّف إتلافها الواجب شرعا على إتلافها بمادّتها فلا ضمان بمقتضى دلالة الاقتضاء، حيث إنّ الأمر بإتلافها حينئذ مستلزم للإذن في إتلاف المادّة أيضا.

و في مصباح الفقاهة بعد الحكم بعدم الضمان في هذه الصورة قال: «لا يقال:

إن توقف إتلافه الهيئة على إتلاف المادّة

لا ينافي ضمان المادّة إذا كانت لها قيمة كما أنّ جواز أكل طعام الغير بدون إذنه في المجاعة و المخمصة لا ينافي ضمان ذلك الطعام.

فإنّه يقال: الفرق واضح بين المقامين إذا الباعث إلى أكل طعام الغير في المخمصة إنّما هو الاضطرار الموجب لإذن الشارع في ذلك. و أمّا هياكل العبادة فإنّ الباعث إلى إتلافها ليس إلّا خصوص أمر الشارع بالإتلاف فلا يستتبع ضمانا.» «1»

أقول: أراد بذلك أنّ الباعث إلى الإتلاف في المقام أمر الشارع مباشرة فلا وجه للحكم بالضمان و أمّا في الاضطرار فأمره يكون بلحاظ الاضطرار و مصلحة المضطرّ و الضرورات تتقدّر بقدرها. و ما هو المضطرّ إليه أصل أكل مال الغير لا أكله مجّانا، و إن شئت قلت: المضطرّ إليه التخلّف عن التكليف أعني الحرمة لا الوضع أعني الضمان.

حكم بيع مادّة الأصنام

[كلام مفتاح الكرامة و ما فيه من الوجوه]

(1) حكاه عنه في مفتاح الكرامة «2» و لم أجده في التذكرة.

نعم فيه: «ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له فيحرم بيعه كآلات الملاهي مثل العود و الزمر و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم و آلات القمار كالنرد

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 152.

(2) مفتاح الكرامة 4/ 32، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 177

..........

______________________________

و الشطرنج إن كان رضاضها لا يعدّ مالا، و به قال الشافعي. و إن عدّ مالا فالأقوى عندي الجواز مع زوال الصفة المحرّمة.» «1»

أقول: ظاهر هذه العبارة جواز بيع مادّتها بعد إتلاف هيئتها، و الظاهر أنّه ممّا لا إشكال فيه. و يحتمل بعيدا أن يراد زوال وصف المعبوديّة مع بقاء الهيئة بحالها.

و أمّا ما حكاه عنه في مفتاح الكرامة فيحتمل فيه وجوه:

الأوّل: أن يكون المبيع هي المادّة الثابتة فعلا في ضمن هذا المركب الخارجي المؤلف

من المادّة و الهيئة فيكون المقصود هي المادة و الثمن أيضا بإزائها فقط، و هذا هو مراد المصنّف و لكن ظاهر العبارة المحكيّة يأباه.

الثاني: أن يكون المبيع و ما وقع الثمن بإزائه الموجود الخارجي بمادّته و هيئته و لكن الغاية الملحوظة للمشتري كسره و الانتفاع بمادّته بلا تعرّض لذلك في متن العقد، و هذا ما يظهر من العبارة و لكن المصنّف ناقش في صحّة ذلك كما مرّ بكونه أكلا للمال بالباطل و بشمول الإجماع و الأخبار له، و قد مرّ منّا المناقشة في ذلك من جهة عدم ترتّب الفساد على هذه المعاملة.

الثالث: أن يكون المبيع هذا الموجود أيضا و لكن الغاية الملحوظة للمشتري ترتّب فائدة الكسر أيضا من الثواب أو الاشتهار بذلك. و أمّا احتمال أن يكون الملحوظ فائدة الكسر فقط فيدفعه ما في كلامه من اشتراط القيمة لمكسورها.

الرابع: أن يكون المبيع هذا الموجود أيضا و لكن مع شرط الكسر على المشتري بنحو شرط الفعل بحيث لو لم يعمل بذلك كان للبائع إلزامه بذلك و الخيار مع تخلّفه. و لعلّ البائع لم يتمكن من الفعل بنفسه فشرط ذلك على المشتري.

الخامس: أن يكون المبيع هذا الموجود أيضا بشرط تحقّق الكسر خارجا بنحو الشرط المتأخر فيكون تحقّق الكسر في ظرفه كاشفا عن تحقّق البيع و الانتقال من أوّل الأمر، و عدم تحقّقه في الخارج كاشفا عن عدم تحقّق البيع، فيكون من قبيل

______________________________

(1) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، في شرائط العوضين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 178

و اختار ذلك صاحب الكفاية و صاحب الحدائق و صاحب الرياض نافيا عنه الريب. (1)

______________________________

التعليق في المنشأ.

السادس: أن يكون المبيع المادّة بعد تحقّق الكسر خارجا فلا يدخل في ملك المشتري

إلّا بعد صيرورته مكسورا خارجا، فيكون من قبيل بيع المعدوم حين العقد المشكوك تحقّقه غالبا، و هل يصحّ هذا النحو من البيع؟ و ليس من قبيل بيع الكلّي، إذ المفروض أنّ المبيع عين شخصيّة، و لكن بلحاظ ما بعد كسرها. و ظاهر العبارة الآتية من جامع المقاصد إرادة هذا الوجه.

و كيف كان، فظاهر العبارة المحكيّة عن التذكرة يخالف مراد المصنّف.

(1) في كفاية الأحكام: «و لو كان لمكسورها قيمة، و باعها صحيحة لتكسر و كان المشتري ممّن يوثق بديانته، فالأقوى جوازه. و قوّى في التذكرة الجواز مع زوال الصفة.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ كلامه موافق لما حكاه في مفتاح الكرامة عن التذكرة و هو لم ينسبه إليه بل نسب إليه ما حكيناه عنه.

و في الحدائق: «نعم لو كان الغرض من البيع كسرها مثلا و بيعت لأجل ذلك، فالظاهر أنّه لا ريب في الجواز إذا كان المشتري ممّن يوثق به في ذلك.» «2»

و في الرياض: «فلو فرض لها منفعة محلّلة و قصدت ببيعها و شرائها بحيث لا يعدّ في العادة سفاهة أمكن الجواز فيه و فيما لو كان لمكسورها قيمة و بيعت ممّن يوثق به للكسر، للأصل، و عدم دليل على المنع يشمل محلّ الفرض.» «3»

______________________________

(1) كفاية الأحكام/ 85، كتاب التجارة.

(2) الحدائق 18/ 201، كتاب التجارة، فيما يحرم لتحريم ما يقصد به، في تحريم صنع آلات اللهو و بيعها.

(3) رياض المسائل 1/ 499، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 179

و لعلّ التقييد في كلام العلّامة بكون المشتري ممّن يوثق بديانته لئلّا يدخل في باب المساعدة على المحرّم فإنّ دفع ما يقصد منه المعصية غالبا مع عدم وثوق بالمدفوع إليه تقوية لوجه من وجوه المعاصي فيكون

باطلا كما في رواية تحف العقول.

______________________________

أقول: ظاهر كلام المصنّف أنّ نفي الريب في الرياض، مع أنّه كما ترى في الحدائق لا في الرياض.

و في المسالك بعد العبارة السابقة قال: «و لو كان لمكسورها قيمة و باعها صحيحة للكسر و كان المشتري ممّن يوثق بديانته ففي جواز بيعها حينئذ و جهان، و قوّى في التذكرة جوازه مع زوال الصفة و هو حسن، و الأكثر أطلقوا المنع.» «1»

أقول: الشهيد أيضا لم ينسب إلى التذكرة إلّا ما نقلناه عنه.

و كيف كان، فظاهر هذه العبارة المنسوبة إلى التذكرة أنّ البيع يقع عليها برمّتها لا على مادّتها فقط، غاية الأمر أن الغرض من اشترائها هو الكسر.

اللّهم إلّا أن يجعل قوله: «كان لمكسورها قيمة» دليلا على أنّ المبيع هي المادّة فقط. و ظاهر العبارة المذكورة كون جواز البيع مشروطا بشروط ثلاثة: الأوّل: أن يكون لمكسورها قيمة. الثاني: أن يكون البيع للكسر. الثالث: أن يكون المشتري موثوقا به. فالأوّل بلحاظ أنّ الهيئة لا ماليّة لها شرعا. و الثاني بلحاظ أنّه لولاه بطلت المعاملة لكونها في معرض ترتّب الآثار المحرّمة. و أمّا الثالث فليس شرطا مستقلا في عرضهما و إنما هو لإحراز الشرط الثاني، فلو فرض إحرازه بالعلم أو بطريق آخر كفى في الحكم بالصحّة. و المصنف وجّه التقييد بالشرط الثالث بأن لا يدخل في باب المساعدة على المحرّم، و أجاب عنه أوّلا بالتأمّل في بطلان المعاملة بمجرد الإعانة على الإثم. و ثانيا بالاستغناء عن هذا القيد بكسره قبل أن يقبضه فإنّ الهيئة غير محترمة، بل قد يقال بوجوب إتلافها.

______________________________

(1) المسالك 1/ 165 (ط. أخرى 3/ 122)، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 180

لكن فيه- مضافا إلى التأمّل في بطلان البيع

لمجرّد الإعانة على الإثم- أنّه يمكن الاستغناء عن هذا القيد بكسره قبل أن يقبضه إيّاه. فإنّ الهيئة غير محترمة في هذه الأمور كما صرّحوا به في باب الغصب. بل قد يقال بوجوب إتلافها فورا و لا يبعد أن يثبت لوجوب حسم مادّة الفساد.

نقل كلام الأستاذ «ره» في المقام

______________________________

و قال الأستاذ الإمام «ره» في المقام ما محصّله: «و أمّا بيع مادّتها فالتحقيق عدم الصحّة لو لم يكن لها قيمة رأسا أو كانت لها قيمة بلحاظ الصورة، أو كانت لها قيمة بنفسها و لكن لا يمكن محو الصورة عنها إلّا بإبطال ماليّة المادّة، أو لا يمكن محو الصورة أصلا. ففي جميع هذه الصور بطل البيع على الأقوى. أمّا الأولى فظاهرة. و أمّا الثانية فلأنّ الماليّة الآتية من قبل الصورة ساقطة عند الشارع، و كذا في الثالثة حيث إنّ إبطالها يوجب إبطال ماليّة المادّة، و في الرابعة يجب غرقها أو دفنها حسما لمادّة الفساد فلا ماليّة لها على هذه التقادير. و كذا لا يصح لو كانت لها قيمة مستهلكة في قيمة الصورة، لأنّ البيع كذلك مع سقوط الصورة عن الماليّة شرعا سفهي غير عقلائي.

و أمّا إذا كانت للمادّة قيمة غير مستهلكة و أمكن محو الصورة عنها مع بقاء ماليّتها فيجوز بيعها بلحاظ المادّة بقيمتها أو بأكثر ما لم تصل إلى حدّ السفه حتّى مع شرط بقاء الصورة فضلا عن عدم الاشتراط أو اشتراط الكسر، سواء كان المشتري موثوقا بديانته أم لا. بل مقتضى القاعدة صحّته و لو باعه من وثنيّ للعبادة و شرط على البائع عدم الكسر بناء على عدم كون الشرط الفاسد مفسدا، لأنّ ما وقعت عليه المعاملة هي المادّة و لا مانع من بيعها لكونها غير الصنم الممنوع عن بيعه.

و كون الشرط الفاسد مفسدا و التسليم إعانة على الإثم لا يوجبان بطلان المعاملة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 181

..........

______________________________

و لو قيل: إنّ البيع المذكور موجب لإشاعة الفساد بل يمكن بهذه الحيلة ترويج سوق بيع الأصنام و آلات الملاهي و القمار، و المقطوع من مذاق الشارع عدم إمضاء هذه المعاملات.

يقال: المقطوع من مذاقه عدم تصحيح الشرط الكذائي و تحريم تسليم المبيع مع الهيئة الموجبة للفساد لا بطلان المعاملة على المادّة أي الخشب و الحجر و نحوهما، أو حرمة بيعها و ثمنها. و نظير ذلك بيع الفرس و الشرط على البائع بتسليم صنم إليه أو صنع آلة لهو له فإنّ المعاملة بنفسها صحيحة.

فتحصّل ممّا مرّ أنّ بيع المادّة مع فرض كونها ذات قيمة صحيح، من غير توقّف على اشتراط الكسر و كون المشتري موثوقا به.» «1»

أقول: ما ذكره «ره» و إن كان موجّها على حسب القواعد الكليّة كما بيّنها، و لكن مع ملاحظة ما مرّ من أخبار المنع عن بيع الخشب ممّن يعمله صلبانا أو صنما، و ما يأتي من كون ثمن المغنية سحتا، و قوله: «ما ثمنها إلّا ثمن كلب» «2» مع أنّ الخشب بنفسه مال حلال و الجارية بنفسها أيضا حلال و إنّما حرم بيعهما بلحاظ ما يترتّب عليهما من الأثر المحرّم، يظهر أنّ الشارع لا يرضى ببيع الشي ء الحلال بلحاظ آثاره المحرّمة، فكيف يرضى ببيع مادّة الصنم ممّن يشتريه للعبادة مع شرط عدم إتلاف هيئته، و يحمل جميع ما سبق من الأدلة الثمانية على صورة جعل الثمن بإزاء الصنم لا المادّة مع شرط بقاء الهيئة. و إنّما شرّعت الأحكام على حسب المصالح و المفاسد النفس الأمريّة. و حمل الأخبار المذكورة على التكليف

لا الوضع خلاف الظاهر لما بيّناه من كون النهي في المعاملات إرشادا إلى الفساد.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 112 (ط. الجديدة 1/ 169).

(2) راجع الوسائل 12/ 86، الباب 16؛ و 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 182

[نقل كلام جامع المقاصد]

و في جامع المقاصد (1)- بعد حكمه بالمنع عن بيع هذه الأشياء و إن أمكن الانتفاع على حالها في غير محرّم منفعة لا تقصد منها- قال:

«و لا أثر لكون رضاضها الباقي بعد كسرها ممّا ينتفع به في المحلّل و يعدّ مالا، لأنّ بذل المال في مقابلها و هي على هيئتها بذل له في المحرّم الذي لا يعدّ مالا عند الشارع. نعم لو باع رضاضها الباقي بعد كسرها قبل أن يكسرها- و كان المشتري موثوقا به و أنّه يكسرها- أمكن القول بصحّة البيع. و مثله باقي الأمور المحرّمة كأواني النقدين و الصنم.» انتهى.

______________________________

(1) راجع جامع المقاصد، كتاب المتاجر. «1» و ظاهره كون البيع حاليّا و المبيع استقباليّا، و هل يصحّ مثل هذا البيع؟! مشكل و إن أمكن تنظيره ببيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها، بل قبل وجودها، فإنّه يصحّ و لكن مع ضمّ الضميمة، فتدبّر.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا حرمة المعاملة على هياكل العبادة و بطلانها إلا إذا فرض خروجها عن كونها كذلك بالكليّة لانقراض عبدتها، فكان الغرض من اشترائها حفظها في المتاحف للانتفاعات العلميّة أو التاريخيّة.

و يلحق بذلك اشتراؤها لغرض إتلافها تحصيلا للثواب أو غير ذلك، أو كانت بلحاظ هيئتها ذات منفعة محلّلة عقلائيّة بحيث يبذل بإزائها المال لذلك، أو وقعت المعاملة عليها بلحاظ مادّتها مع فرض كونها ذات قيمة، كل ذلك لانصراف أدلّة المنع عن هذه الصور، فتدبّر.

______________________________

(1) راجع جامع

المقاصد 4/ 15.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 183

[2- آلات القمار]
اشارة

و منها: آلات القمار بأنواعه بلا خلاف ظاهرا. (1)

______________________________

2- آلات القمار

[معنى آلات القمار]

(1) أقول: اللعب المتضمّن للمغالبة المعبّر عنها بالفارسية ب «برد و باخت» قد يقع بالآلات المعدّة لذلك كالنرد و الشطرنج و نحوهما و يعبّر عنها بآلات القمار. و قد يقع بغيرها كما في المسابقات الرائجة قديما و حديثا، و من جملتها السباق في السباحة و الصراع و العدو و أنحاء استعمال الكرة و نحو ذلك. و كلّ منهما قد يكون مع المراهنة و جعل العوض للغالب منهما، و قد يكون بدون ذلك، فهذه أربعة أقسام.

و الكلام تارة في حكم نفس اللعب و تارة في حكم المعاملة على الآلات.

و البحث هنا في الأخير و أمّا حكم اللعب بأقسامه فيأتي في النوع الرابع المتصدّي لبيان حكم الأعمال المحرّمة بترتيب حروف الهجاء.

و حيث إنّ مورد البحث آلات القمار فلنتعرّض لمفهومه إجمالا و أنّه هل يختصّ بما جعل فيه العوض أو يراد به مطلق المغالبة، فنقول:

1- قال في معجم مقاييس اللغة: «القاف و الميم و الراء أصل صحيح يدلّ على بياض في شي ء ثمّ يفرّع منه، من ذلك القمر ... و القمار من المقامرة فقال قوم:

هو شاذّ عن الأصل الذي ذكرناه، و قال آخرون: بل هو منه، و ذلك أنّ المقامر يزيد ماله و ينقص و لا يبقى على حال.» «1»

______________________________

(1) معجم مقاييس اللغة 5/ 25.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 184

..........

______________________________

2- و في القاموس: قامر الرجل مقامرة و قمارا: راهنه فغلبه و هو التقامر. «1»

أقول: هل يراد بالمراهنة في كلماتهم مطلق التشارط المتضمّن للغالب و المغلوب، أو يراد بها خصوص جعل العوض للغالب منهما؟ و لعلّ الثاني أظهر.

3- و في لسان العرب: «قامر الرجل مقامرة و

قمارا: راهنه و هو التقامر.

و القمار: المقامرة ... و في حديث أبي هريرة: «من قال: تعال أقامرك فليتصدّق بقدر ما أراد أن يجعله خطرا في القمار.» «2»

أقول: ظاهر الحديث اعتبار العوض في مفهوم القمار و أنّه مشتمل عليه لا محالة.

4- و في مجمع البحرين: «القمار بالكسر: المقامرة، و تقامروا: لعبوا بالقمار، و اللعب بالآلات المعدّة له على اختلاف أنواعها نحو الشطرنج و النرد و غير ذلك.

و أصل القمار: الرهن على اللعب بشي ء من هذه الأشياء. و ربّما أطلق على اللعب بالخاتم و الجوز.» «3»

5- و في المنجد: «قمر يقمر قمرا: راهن و لعب في القمار، و الرجل: غلبه في القمار، و الرجل ماله: سلبه إيّاه. قامر مقامرة و قماراه: راهنه و لاعبه في القمار. تقمّر الرجل: غلبه في القمار. تقامر القوم: تراهنوا و لعبوا في القمار. القمار (مصدر):

كل لعب يشترط فيه أن يأخذ الغالب من المغلوب شيئا سواء كان بالورق أو غيره.» «4»

6- و في جامع المقاصد في ذيل قول المصنّف: «و القمار حرام» قال: «أي عمله، و هو اللعب بالآلات المعدّة له على اختلاف أنواعها من الشطرنج و النرد و غير ذلك. و أصل القمار: الرهن على اللعب بشي ء من هذه الأشياء. و ربّما أطلق على اللعب بها مطلقا. و لا ريب في تحريم اللعب بذلك و إن لم يكن رهن،

______________________________

(1) القاموس المحيط 2/ 121.

(2) لسان العرب 5/ 115.

(3) مجمع البحرين 3/ 463 (ط. أخرى/ 282).

(4) المنجد/ 653.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 185

..........

______________________________

و الاكتساب به و بعمل آلاته.» «1»

أقول: ظاهره أنّ إطلاق لفظ القمار على اللعب بها بدون الرهن محلّ خلاف، و لكنّ اللعب بها حرام مطلقا بلا ريب.

و بذلك يظهر أنّ

عدم شمول لفظ القمار للمغالبة بلا رهن لا يستلزم القول بجواز اللعب بالآلات المعدّة له حينئذ، إذ لأحد أن يتمسك بإطلاق النهي عن اللعب بالنرد و الشطرنج و كونهما رجسا من عمل الشيطان «2» لما إذا لم يكن في البين رهن، و يمنع انصرافهما إلى صورة وجود الرهن فقط لكثرة استعمالهما بدون الرهن و لا سيّما بين الملوك و الأمراء. هذا و التفصيل يأتي في باب حكم القمار، فانتظر.

[ذكر بعض كلمات الأصحاب]

و المناسب هنا ذكر بعض كلمات الأصحاب و إن تعرّضنا لها في مسألة هياكل العبادة، حيث إنّ الحوالة لا تخلو من خسارة:

1- ففي مكاسب المقنعة: «و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسمة و الشطرنج و النّرد و ما أشبه ذلك حرام، و بيعه و ابتياعه حرام.» «3»

2- و في المراسم في عداد المكاسب المحرّمة: «و عمل الملاهي و التجارة فيها و عمل الأصنام و الصلبان و كلّ آلة يظنّ بها الكفّار أنّها آلة عبادة لهم و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النّرد و ما أشبه ذلك من آلات اللعب و القمار و بيعه و ابتياعه.» «4»

3- و في النهاية في باب المكاسب المحظورة قال: «و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار حتّى لعب الصبيان بالجوز فالتجارة فيها و التصرّف و التكسّب بها حرام محظور.» «5»

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 24، كتاب المتاجر.

(2) راجع الوسائل 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به.

(3) المقنعة/ 587.

(4) المراسم/ 170؛ و الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647).

(5) النهاية/ 363، كتاب المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 186

..........

______________________________

4- و في الشرائع: «الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به

كآلات اللهو مثل العود و الزمر و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم و آلات القمار كالنرد و الشطرنج و ما يفضي إلى المساعدة على محرّم كبيع السلاح لأعداء الدين ...» «1»

5- و ذيّله في الجواهر بقوله: «بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه و النصوص ...» «2»

6- و في المختصر النافع: «الثاني: الآلات المحرّمة كالعود و الطبل و الزمر و هياكل العبادة المبتدعة كالصنم و الصليب و آلات القمار كالنرد و الشطرنج.» «3»

7- و ذيّله في الرياض بقوله: «بإجماعنا المستفيض النقل في كلام جماعة من أصحابنا و هو الحجّة.» «4»

8- و في المستند: «و منها: ما يقصد منه المحرّم كآلات اللهو من الدف و القصب و الزّمار و الطنبور و هياكل العبادات المبتدعة و آلات القمار من النرد و الشطرنج و غيرهما، و لا خلاف في حرمة بيعها و التكسّب بها، و نقل الإجماع- كما قيل به- مستفيض، بل هو إجماع محقّق و هو الحجّة فيه.» «5»

و راجع أيضا عبارتي التذكرة و المنتهى في تلك المسألة «6» فلا نعيدهما. و يظهر من الجميع أنّ المسألة كانت معنونة في كلمات القدماء من أصحابنا في كتبهم المعدّة لنقل المسائل المأثورة، و أنّها مجمع عليها عند الأصحاب إجمالا.

______________________________

(1) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة.

(2) الجواهر 22/ 25، كتاب التجارة، حرمة التكسّب بآلات اللهو و آلة القمار.

(3) المختصر النافع 1/ 117، كتاب التجارة.

(4) رياض المسائل 1/ 499، كتاب التجارة.

(5) مستند الشيعة 2/ 335، في المكاسب المحرّمة.

(6) التذكرة 1/ 465؛ و المنتهى 2/ 1011.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 187

[ما يدل على منع البيع]

و يدلّ عليه جميع ما تقدّم في هياكل العبادة. (1)

______________________________

(1) أقول: قد أنهينا في تلك

المسألة أدلّة المنع إلى ثمانية، و أكثرها جارية في المقام، و كذا في المسألة التالية أعني بيع آلات اللهو، فراجع. «1»

نعم لا يجري فيهما ما مرّ في الوجه الثامن منها من دليل العقل و الإشارة إلى الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ مدمن الخمر كعابد الوثن، و أنّ مقتضى التشبيه فيها كون الملاك في المشبّه به أقوى، فإذا فرض لعن غارس الخمر و عاصرها و بائعها و مشتريها و شاربها، و كذا تحريم ثمنها- كما نطقت بذلك الأخبار- ثبت الحكم في الوثن بطريق أولى، بداهة أنّ هذا البيان لا يجري في آلات القمار و آلات اللهو، كما هو واضح، كما أنّه لا يجري فيهما دليل العقل.

و لا يخفى أنّ محلّ البحث- من حيث حرمة البيع و فساده و وجوب إتلاف الهيئة- هي الآلات المعدّة للقمار بحيث تنحصر فائدتها فيه كالنرد و الشطرنج و نحوهما، لا ما قد يقامر به أحيانا من دون أن يكون معدّا لذلك كالجوز و البيض و نحوهما. نعم يمكن منع بيعها إذا كان بقصد القمار و مقيّدا به، كما لا يجوز شراؤها ممّن استولى عليها بالقمار لعدم ملكه لها شرعا، و إلى ذلك ينظر ما مرّ من النهاية من حرمة التجارة و التكسّب بها.

و كيف كان فيدلّ على منع البيع في الآلات المعدّة مضافا إلى أكثر ما مرّ في المسألة السابقة بعض الأخبار الواردة في المقام:

1- ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ:

«أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب خمر إذا خمّر ... و أمّا الميسر فالنرد و الشطرنج و

كلّ قمار ميسر، و أمّا الأنصاب فالأوثان التي كانوا يعبدونها المشركون. و أمّا الأزلام فالأقداح التي كانت تستقسم بها مشركو العرب في الأمور في الجاهلية، كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشي ء من هذا حرام من اللّه، و هو رجس من عمل

______________________________

(1) راجع ص 156 و ما بعدها من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 188

..........

______________________________

الشيطان، فقرن اللّه الخمر و الميسر مع الأوثان.» «1»

و أبو الجارود: زياد بن المنذر ضعيف، مضافا إلى الجهل بالوسائط بين عليّ بن إبراهيم و أبي الجارود.

و لكن دلالة الرواية على المنع واضحة، و قد مرّ منّا أنّ الحرمة المحمولة على المعاملات- في لسان الكتاب و السنّة و كلمات القدماء من أصحابنا- ظاهرة في الوضع أعني فساد المعاملة، و لا ينافي ذلك حملها على الانتفاع الظاهر في التكليف، إذ المستعمل فيه هو المعنى الجامع بينهما أعني عدم إطلاق الشي ء و كونه في حريم، و قد مرّ تفصيل هذا في المباحث السابقة.

و قد يقال: إنّ لفظ الميسر من اليسر لسهولة تحصيل المال بسببه أو لحصول الإيسار به.

و من معاني الاستقسام: التروّي و الفكر فيراد بالاستقسام بالأزلام التفؤل بها في الأمور.

و لا يخفى أنّ المقصود بالميسر في الآية- بقرينة مقارناته- ذات ما يقامر به لا عمل القمار، و يشهد بذلك أيضا حمل الرجس عليها، و عدّ الذوات من عمل الشيطان بلحاظ أن صنعها يكون بإلقائه و إغوائه.

و في الرواية أيضا فسّر الميسر بنفس النرد و الشطرنج لا بالانتفاع بهما، و البيع و الشراء أيضا يقعان على الذوات. و بذلك يظهر أنّ المراد بالقمار في قوله: «و كل قمار ميسر» أيضا ما يقامر به لا عمل القمار.

و إطلاق الرواية يقتضي

حرمة بيع النرد و الشطرنج و شرائهما و الانتفاع بهما سواء كان في البين رهن أم لا. و انصرافهما إلى صورة المراهنة ممنوع بعد ما شاع اللعب بهما بلا مراهنة أيضا، و لا سيّما بين الملوك و الأمراء غير المعتنين بالأموال و إنّما كانوا يهتمّون بنفس الغلبة على القرن.

______________________________

(1) تفسير القمّي/ 167 (ط. أخرى 1/ 180)؛ و الوسائل 12/ 239، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 189

..........

______________________________

و بذلك يظهر أنّه لو سلّمنا انصراف لفظ القمار إلى ما فيه مراهنة، أو قلنا بوضعه لخصوص ذلك- كما قيل- فانصراف ما وقع فيه النهي عن النرد و الشطرنج أو عن اللعب بهما إلى خصوص ذلك قابل للمنع، فتأمّل.

و كيف كان فالرواية تدل على حرمة بيعهما.

و يمكن الاستدلال لذلك بنفس الآية أيضا بتقريب أنّها أوجبت الاجتناب عمّا ذكر فيها و منها الميسر بنحو الإطلاق و عدّتها رجسا من عمل الشيطان و صنعه، فإذا كانت كذلك عند الشارع فكيف ينفّذ المعاملات الواقعة عليها؟! فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الأزلام أي الأقداح أيضا كانت وسيلة للقمار على لحم الجزور بكيفية خاصّة- على ما في بعض التفاسير- فيكون ذكره بعد الميسر من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ، و لا ينافي ذلك ما ورد من كون الأقداح وسيلة للتفأل في الأسفار و ابتداء الأمور أيضا. و إن شئت تفسير الآية و شرح الاستقسام بالأزلام فراجع تفسير مجمع البيان في تفسير الآية الثالثة من سورة المائدة. «1»

2- ما رواه ابن إدريس- في مستطرفات السرائر- عن جامع البزنطي، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «بيع الشطرنج حرام، و أكل ثمنه سحت، و اتّخاذها

كفر، و اللعب بها شرك، و السلام على اللاهي بها معصية و كبيرة موبقة.» الحديث بطوله. «2»

و الرواية صحيحة و دلالتها واضحة إلّا أن يناقش في الوسائط بين الحلي و البزنطي الراوين له كتاب الجامع.

3- ما رواه الصدوق في حديث المناهي قال: «نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله عن اللعب بالنرد و الشطرنج و الكوبة و العرطبة و هي الطنبور و العود، و نهى عن بيع النرد.»

هكذا في الوسائل. «3»

______________________________

(1) مجمع البيان 2/ 158 (الجزء الثالث).

(2) السرائر 3/ 577؛ و الوسائل 12/ 241، الباب 103 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(3) الوسائل 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 190

..........

______________________________

و في البحار روى الحديث عن أمالي الصدوق، و فيه: «و نهى عن بيع النرد و الشطرنج» و عقب فيه قوله: «و العود» بقوله: «يعني الطبل.» «1»

و يوجد في الفقيه و كذا في البحار عن الأمالي بين الجملة الأخيرة و ما قبلها فصل يقرب نصف صفحة. «2»

و أمّا الكوبة ففي النهاية: «هي النرد، و قيل: الطبل، و قيل: البربط» «3»

و في المنجد: «الكوبة: الطبل الصغير المخصّر.» «4» هذا.

و في الفائدة الخامسة من خاتمة المستدرك قال في سند حديث المناهي: «إنّ الخبر ضعيف على المشهور إلّا أنّه يلوح من متن الخبر آثار الصدق و ليس فيه من آثار الوضع علامة.» «5»

و مورد الخبرين الأخيرين و إن كان خصوص النرد و الشطرنج و لكن يمكن إلقاء الخصوصيّة منهما إلى كلّ ما أعدّ للقمار و المغالبة و عدّت من آلاته. و يشهد للتعميم صحيحة معمّر بن خلّاد عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «النرد و

الشطرنج و الأربعة عشر بمنزلة واحدة، و كلّ ما قومر عليه فهو ميسر.» «6»

أقول: الظاهر أنّ المراد بما قومر عليه الرهن المجعول للغالب منهما، و يحتمل أن يراد به آلة القمار.

و الظاهر من المعنى الأوّل اختصاص الميسر بما فيه رهن، فتذكّر.

و في مرآة العقول في ذيل الصحيحة قال: «فسّروا الأربعة عشر بأنّها قطعة من خشب فيها حفر في ثلاثة أسطر و يجعل في الحفر حصى صغار يلعب بها.» «7»

______________________________

(1) بحار الأنوار 73/ 330 (ط. إيران 76/ 330)، كتاب الآداب و السنن.

(2) الفقيه 4/ 6- 8، باب المناهي.

(3) النهاية لابن الأثير 4/ 207.

(4) المنجد/ 702.

(5) مستدرك الوسائل 3/ 607، في شرح مشيخة كتاب من لا يحضره الفقيه.

(6) الوسائل 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(7) مرآة العقول 22/ 307، كتاب الأشربة، باب النرد و الشطرنج.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 191

..........

______________________________

4- و عن الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام قال: «من السحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح ... و ثمن الشطرنج و ثمن النرد. الحديث.» «1»

5- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عمر: «كان إذا وجد أحدا من أهله يلعب بالنرد ضربه و كسرها.» «2»

6- و فيه أيضا بسنده عن زييد بن الصلت عن عثمان و هو على المنبر: «يا أيّها الناس إني قد كلمتكم في هذا النرد و لم أركم أخرجتموها و لقد هممت أن آمر بحزم الحطب ثمّ أرسل إلى بيوت الذين هي في بيوتهم فأحرقها عليهم.» «3»

وجه الاستدلال بالخبرين- على مذاق القوم- أنّه لو كان لهيئة النرد ماليّة لما جاز كسرها

و إتلافها بدون إذن صاحبها بل مطلقا فجواز كسرها دليل على عدم ماليتها شرعا فلا تصحّ المعاملة عليها، إلّا أن يقال: إنّه ليس في الرواية الأخيرة كسر النرد بل إحراق البيوت لتعزير أهلها.

و قد تحصل ممّا ذكرنا عدم جواز بيع الآلات المعدّة للقمار كالنرد و الشطرنج و نحوهما وضعا بل تكليفا أيضا بنحو الإجمال.

و الظاهر أنّ عدم جواز البيع فيها مسبّب عن حرمة الانتفاع بها الموجب لسقوطها عن الماليّة شرعا و كونها ممّا يترتب عليها الفساد محضا. و هذا إنّما يصحّ على فرض حرمة اللعب بها مطلقا حتى بدون المراهنة و العوض كما هو الظاهر من كثير من الأخبار، إذ لو قيل بجواز اللعب بها بدون المراهنة صارت حينئذ من الآلات المشتركة و جاز بيعها لمنافعها المحلّلة بل مطلقا ما لم يتقيّد بخصوص المحرّمة.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) سنن البيهقي 10/ 216، كتاب الشهادات، باب كراهية اللعب بالنرد ....

(3) نفس المصدر 10/ 215.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 192

و يقوى هنا أيضا جواز بيع المادّة قبل تغيير الهيئة. (1)

و في المسالك: أنّه «لو كان لمكسورها قيمة و باعها صحيحة لتكسر- و كان المشتري ممّن يوثق بديانته- ففي جواز بيعها و جهان. و قوّى في التذكرة الجواز مع زوال الصفة، و هو حسن، و الأكثر أطلقوا المنع.» انتهى. (2)

أقول: إن أراد بزوال الصفة زوال الهيئة فلا ينبغي الإشكال في الجواز، و لا ينبغي جعله محلا للخلاف بين العلّامة و الأكثر. (3)

______________________________

و على هذا فيمكن أن يجعل إطلاق أدلّة المنع عن بيعها دليلا على حرمة الانتفاع بها مطلقا. و تفصيل البحث عن جواز الفعل و عدمه يأتي

في محلّه.

(1) قد مرّ بيان ذلك بالتفصيل في المسألة السابقة «1» فلا نعيد.

(2) راجع المسالك، كتاب التجارة. و في التذكرة: «ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له فيحرم بيعه كآلات الملاهي مثل العود و الزمر و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم و آلات القمار كالنرد و الشطرنج، إن كان رضاضها لا يعدّ مالا، و به قال الشافعي. و إن عدّ مالا فالأقوى عندي الجواز مع زوال الصفة المحرّمة.» «2»

(3) لم يتعرّض المصنّف للمحتمل الآخر لمراده. و في حاشية السيّد الطباطبائي المرحوم: «لعلّه أراد بزوال الصفة عدم مقامرة الناس به و تركهم له بحيث خرج عن كونه آلة قمار و إن كانت الهيئة باقية.» «3»

قال في مصباح الفقاهة: «و يرد على التوجيهين: أنّ ظاهر عبارة العلّامة أنّ الحرمة الفعليّة لبيع الأمور المذكورة تدور مدار عدم صدق المالية على إكسارها. و توجيهها بما ذكره المصنّف أو بما ذكره السيّد- رحمهما اللّه- بعيد عن مساق كلامه جدّا.

______________________________

(1) راجع ص 176 من هذا الكتاب.

(2) المسالك 1/ 165 (ط. أخرى 3/ 122)؛ و التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، في شرائط العوضين.

(3) حاشية المكاسب للمرحوم السيّد محمّد كاظم الطباطبائي/ 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 193

[المراد بالقمار]

ثمّ إنّ المراد بالقمار مطلق المراهنة بعوض، فكلّ ما أعدّ لها- بحيث لا يقصد منه على ما فيه من الخصوصيّات غيرها- حرمت المعاوضة عليه. و أمّا المراهنة بغير عوض فيجي ء أنّه ليس بقمار على الظاهر. (1)

______________________________

نعم يحتمل وقوع التحريف في كلامه بالتقديم و التأخير: بأن تكون العبارة:

«و إن عدّ مالا مع زوال الصفة المحرّمة فالأقوى عندي الجواز.» فيكون ملخّص كلامه جواز البيع إذا كانت المادّة من الأموال. أو يوجّه بتقدير المضاف بين كلمة:

«مع»

و كلمة: «زوال» بأن يكون التقدير: «فالأقوى عندي الجواز مع اشتراط زوال الصفة المحرّمة.»

و كيف كان فهو أعرف بمرامه، و لا ندري ما الذي فهم منه المسالك حتّى استحسنه.» «1»

الكلام في مفهوم القمار

(1) قد مرّ في أوّل المسألة نقل بعض كلمات أهل اللغة في هذا المجال و أنّ الظاهر من الأكثر أخذ المراهنة و العوض في مفهومه. و مرّ كلام جامع المقاصد أيضا في هذا المجال.

و قد استظهرنا أنّ حرمة اللعب بالآلات المخصوصة من النرد و الشطرنج لا تدور مدار صدق القمار عليه، لإطلاق أخبار المنع عنهما و عن اللعب بهما و عن بيعهما، و منعنا انصرافها إلى صورة وجود العوض فقط إذ لا وجه له بعد شيوع اللعب بهما بدونه في تلك الأعصار أيضا بين الخلفاء و الأمراء لعدم اعتنائهم بالأموال، بل كان المهمّ عندهم الغلبة على القرن و كسر شخصيّته.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 154.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 194

نعم: لو قلنا بحرمتها لحق الآلة المعدّة لها حكم آلات القمار، مثل ما يعملونه شبه الكرة يسمّى عندنا الترثة [التوبة] و الصولجان. (1)

______________________________

بل لعلّ أخبار المنع بنحو الإطلاق ناظرة إلى ردّهم في قبال من جوّز ذلك من فقهائهم، حيث إنّ المسألة خلافيّة عندهم، فراجع الخلاف (المسألتين 51 و 53 من الشهادات)، و المغني. «1»

و في سورة المائدة بعد الأمر بالاجتناب عن الخمر و الميسر و عدّهما رجسا من عمل الشيطان قال: إِنَّمٰا يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةَ وَ الْبَغْضٰاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ عَنِ الصَّلٰاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. «2»

و من الواضح أنّ إيقاع العداوة و البغضاء و الصدّ عن الذكر و عن الصلاة يترتّبان على

مطلق اللعب لا على صورة أخذ العوض فقط. و السّكر الحاصل من الاشتغال بهذه الملاهي لا يقلّ عن السكر الحاصل بالخمر كما يقرّ بذلك أهلها.

(1) أقول: يمكن منع كون استعمال الكرة بأنحائه من قبيل القمار الموضوع للغلبة المبني على المصادفة و البخت فقط. بل هو من قبيل المسابقات المتعارفة الموضوعة للتمرّن على الجهاد أو لارتياض البدن و تقويته كالسباق في العدو أو السباحة أو الطفرة أو نحو ذلك، فلا يقال لمن سابق غيره في هذه الأمور: إنّه مقامر، و إن فرض فيها جعل عوض لمن سبق تشويقا.

و ربّما يشهد بذلك اتفاقهم على جواز السباق بعوض في إجراء الخيل أو الرمي، مع إباء آية الاجتناب عن الخمر و الميسر بعد عدّهما رجسا من عمل الشيطان من التخصيص.

______________________________

(1) راجع الخلاف 6/ ... (ط. أخرى 3/ 343 و 344)؛ و المغني لابن قدّامة 12/ 35، كتاب الشهادات.

(2) سورة المائدة (5)، الآية 91.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 195

..........

______________________________

نعم نحكم تعبّدا بحرمة جعل العوض فيما ذكر أيضا بمقتضى الأخبار الواردة كقوله عليه السّلام: «لا سبق إلّا في خفّ أو حافر أو نصل.» «1»

و نحوه غيره بناء على قراءة كلمة: «سبق» بفتح الباء بمعنى الجعل بالضمّ.

و لكن حرمتها بغير العوض غير واضحة بعد كونها نافعة إلّا أن يقرأ كلمة:

«سبق» بسكون الباء و هو غير ثابت، فتدبّر.

و بالجملة فرق بين القمار المبنيّ على التصادف و البخت فقط و المسابقات المبنيّة على المجاهدة و التمرّن و إعمال الفنون.

و بذلك يظهر أنّه لو لا الأخبار الكثيرة الواردة في تحريم الشطرنج و جعلها قرينا للنرد أمكن الفرق بينهما- كما في المغني- بأنّ المعوّل في النرد على ما يخرجه الكعبتان، فأشبه الأزلام، و المعوّل

في الشطرنج على حذق اللاعب و تدبيره، فأشبه المسابقة بالسهام و هو مؤثر جدّا في ارتياض الفكر و ارتقائه.

هذا و لكن التعبد بالأخبار يمنع من هذا الفرق بينهما و كذا في الأربعة عشر فإنّه أيضا من قبيل الشطرنج، فتدبّر.

______________________________

(1) الوسائل 13/ 348، الباب 3 من كتاب السبق و الرماية، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 196

[3- آلات اللهو]
اشارة

و منها: آلات اللهو على اختلاف أصنافها بلا خلاف لجميع ما تقدّم في المسألة السابقة. (1) و الكلام في بيع المادّة كما تقدّم.

______________________________

3- آلات اللهو

[اتفاق فقهاء الفريقين على حرمة المعاملة]

(1) اتفق فقهاؤنا بل فقهاء الفريقين على حرمة المعاملة على الآلات المعدّة للّهو إجمالا تكليفا و وضعا.

و قد مرّ نقل كلمات بعض الأصحاب «1» في هذا المجال في أوّل البحث عن هياكل العبادة المبتدعة و البحث عن آلات القمار، فلا نعيد.

و مرّ عن مجمع الفائدة و الرياض و المستند نقل الإجماع على ذلك، فراجع. «2»

و يدلّ على ذلك- مضافا إلى الإجماع المحكيّ و الأخبار العامّة التي ذكرها المصنّف في أوّل الكتاب من رواية تحف العقول و النبويّ المشهور و غيرهما-:

خصوص ما رواه في المستدرك عن أبي الفتوح الرازي- في تفسيره- عن أبي أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّ اللّه- تعالى- بعثني هدى و رحمة للعالمين، و أمرني أن أمحو المزامير و المعازف و الأوتار و الأوثان و أمور الجاهلية ...

إنّ آلات المزامير شراؤها و بيعها و ثمنها و التجارة بها حرام.» «3»

______________________________

(1) راجع ص 152 و 185 من هذا الكتاب.

(2) راجع ص 153 و 186 من هذا الكتاب.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 458، الباب 79 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 16.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 197

..........

______________________________

قال ابن الأثير في النهاية: «العزف: اللعب بالمعازف و هي الدفوف و غيرها ممّا يضرب، و قيل: إنّ كلّ لعب عزف.» «1»

أقول: أصل العزف: الصوت، فيراد بالمعازف: الآلات التي توجد فيها أو بها الأصوات المطربة. هذا.

و قد يناقش في الإجماع المذكور بأنّه محتمل المدركيّة، و في الأخبار المذكورة بأنّها ضعاف لا يعتمد عليها.

و لكن لا يخفى أنّ

الأخبار قد تواترت من طرق الفريقين على حرمة الانتفاع بالملاهي و المعازف و النهي عن حضورها و الاستماع إليها، و أنّه من الكبائر، و أنّ جعل الملاهي و المعازف من عمل الشيطان، و أنّ ضربها ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة، و أنّه يورث قساوة القلب، و أنّه ينزع الحياء و الغيرة. و أنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه خمر أو دفّ أو طنبور أو نرد، و لا يستجاب دعاؤهم، و أنّ صاحب الطنبور يحشر يوم القيامة و هو أسود الوجه و بيده طنبور من نار و فوق رأسه سبعون ألف ملك بيد كلّ ملك مقمعة يضربون رأسه و وجهه، و أنّ اللّه حرّم الدّف و الكوبة و المزامير و ما يلعب به، و أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: «أنهاكم عن الزفن و المزمار و عن الكوبات و الكبرات»، و أنّ المؤمن لفي شغل عن الملاهي، و أنّ عليّا عليه السّلام كسر طنبور رجل، و أنّه رفع إليه رجل كسر بربطا فأبطله و لم يوجب على الرجل شيئا، و أنّ رجلا كسر طنبورا لرجل فرفعه إلى شريح فلم يضمنه.

إلى غير ذلك من مضامين الأخبار الواردة في هذا المجال، فراجع. «2»

و الزفن: الرقص. و الكبر- بفتحتين-: الطبل. و الكوبة: الطبل الصغير.

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 3/ 230.

(2) الوسائل 12/ 232- 237، الباب 100 و 101 من أبواب ما يكتسب به؛ و مستدرك الوسائل 2/ 458، الباب 79 من أبواب ما يكتسب به؛ و راجع أيضا سنن البيهقي 6/ 101، كتاب الغصب، و 10/ 221، كتاب الشهادات.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 198

..........

______________________________

فهل لا يستفاد من جميع هذه الأخبار أنّ الشارع

أسقط منفعة هذه الأشياء و ماليّتها بالكليّة، مع ما يراه من ترتّب الفساد عليها محضا؟ و هل يحتمل تنفيذه للمعاملة الواقعة عليها مع هذا اللحاظ؟!

و قد مرّ عن العلّامة في التذكرة قوله: «ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له فيحرم بيعه كآلات الملاهي ...» «1»

و في الفقه على المذاهب الأربعة في شرائط المعقود عليه عن الحنفية: «الشرط الرابع: أن يكون المبيع مالا متقوّما شرعا فلا ينعقد بيع الخمر و نحوه من كلّ ما لا يباح الانتفاع به شرعا.» «2»

و عن المالكية: «ثانيهما: أن يكون منتفعا به شرعا فلا يصحّ بيع آلة اللهو.» «3»

و عن الحنابلة: «فلا يصحّ بيع ما لا نفع له أصلا كالحشرات و ما فيه منفعة محرّمة كالخمر.» «4»

و بالجملة فالمبيع يعتبر فيه أن يكون مالا إذ البيع مبادلة مال بمال، و ماليّة الأشياء بمنافعها، فإذا لم تكن لها منفعة أصلا كالحشرات سقطت عن الماليّة و لم يصح بيعها، و كذا إذا أسقط الشارع منافعها الموجبة لماليّتها بالكليّة، بل الأمر في الثاني أوضح إذ كيف ينفذ الشارع معاملة ما لا يترتّب عليه إلّا الفساد محضا؟! و هل ليس هذا إلّا نقضا لغرضه؟ فتدبّر.

و لكن هذا كلّه على فرض استعمال الآلات في التلهّي و البطر و كونها متمحّضا لذلك بحيث لا يقع شراؤها إلّا لذلك.

و أمّا إذا فرض الانتفاع بها في تنظيم نغمات الأصوات و الأناشيد الدينيّة أو النظاميّة

______________________________

(1) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، في شرائط العوضين.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 167، كتاب البيع.

(3) نفس المصدر 2/ 168.

(4) نفس المصدر 2/ 169.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 199

[معنى اللهو و كلام الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي]

و حيث إنّ المراد بآلات اللّهو ما أعدّ له، توقّف على تعيين معنى

اللهو و حرمة مطلق اللهو (1) إلّا أنّ المتيقّن منه ما كان من جنس المزامير و آلات الأغاني و من جنس الطبول (2) و سيأتي معنى اللهو و حكمه. (3)

______________________________

و وقع شراؤها لذلك فيشكل القول حينئذ بحرمة البيع و فساده، إذ تصير على هذا من الآلات المشتركة، و الأخبار تنصرف عن هذه الصورة. و لم يثبت الانتفاع بها لذلك في عصر صدور أخبار المنع، و إنّما كانوا ينتفعون بها في التلهّي و البطر، فتدبّر.

نعم، الظاهر أنّ الطبول كان ينتفع بها في الحروب أيضا لإخبار العسكر و إعدادهم و لم يسمع النهي عن ذلك، و المسألة تحتاج إلى تتبّع أوفى، و يأتي البحث عنها بالتفصيل في مبحث حرمة اللهو في النوع الرابع، فانتظر.

(1) و بعبارة أخرى: عدم جواز بيع آلات اللهو مسبّب لا محالة عن حرمة نفس اللهو بإطلاقه فيتوقّف الحكم بعدم الجواز على إثبات ذلك مع كون الآلة ممحّضة له أو وقوع البيع بقصده و متقيّدا به نظير ما مرّ في آلات القمار.

(2) قد مرّ منّا آنفا أنّ الطبول كانت تستعمل لتنظيم صفوف القتال أيضا، فكونها ممحّضة للهو غير واضح.

معنى اللهو و كلام الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي

(3) تفصيل البحث يأتي في محلّه، فلنشر هنا إلى إجماله:

قال الراغب في المفردات: «اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه و يهمّه، يقال:

لهوت بكذا و لهيت عن كذا: اشتغلت عنه بلهو.» «1»

و في حديث: «كلّ ما الهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر.» «2»

و ظاهره حرمة كلّ ما يشغل عن ذكر اللّه- تعالى-.

و يلوح من بعض الأخبار و الكلمات أنّ أنحاء اللعب و التلذذ و التفرّج تعدّ

______________________________

(1) المفردات/ 475.

(2) الوسائل 12/ 235، الباب 100 من أبواب ما يكتسب

به، الحديث 15.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 200

..........

______________________________

لهوا، و قد ينسب إلى الأصحاب حكمهم بحرمة كل لهو- إلّا فيما ثبت جوازه- من جهة حكمهم بوجوب الإتمام في سفر الصيد للّهو و التفرّج.

و لا يخفى أنّ القول بحرمة كل لعب و لهو يشغل عن ذكر اللّه- تعالى- ممّا لا يمكن الالتزام به و لا يلتزم به أحد، و وجوب الإتمام في سفر أعمّ من كونه سفر معصية، فاللازم التفصيل بين أنحاء اللهو و تشخيص المحرّم منها عن غيره.

قال الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي طاب ثراه- على ما كتبنا عنه من تقريرات بحثه الشريف في مسألة السفر للصيد اللهوي و أنّه هل يكون من مصاديق سفر المعصية أو لا بل يكون الإتمام فيه تعبّدا محضا-: «و حرمة بعض أقسام اللهو و إن كانت قطعية، لكن لا يمكن الالتزام بحرمة جميع أقسامه، إذ المحرّم من اللهو هو ما أوجب خروج الإنسان من حالته الطبيعيّة بحيث يوجد له حالة سكر لا يبقى معها للعقل حكومة و سلطنة، كالألحان الموسيقيّة التي تخرج من استمعها من الموازين العقليّة و تجعله مسلوب الاختيار في حركاته و سكناته، فيتحرك و يترنّم على طبق نغماتها و إن كان من أعقل الناس و أمتنهم. و بالجملة: المحرّم منه ما يوجب خروج الإنسان من المتانة و الوقار قهرا، و يوجد له سكرا روحيّا يزول معه حكومة العقل بالكليّة، و من الواضحات أنّ التصيّد و إن كان بقصد التنزّه ليس من هذا القبيل.» «1»

أقول: ما ذكره متين جدّا و إن كان تشخيص موارد الحلال و الحرام مشكلا في بعض الأحيان.

و من اللطائف في هذا المجال أنّ الكليني «ره» في الكافي ذكر باب الغناء و باب

النرد و الشطرنج في كتاب الأشربة منه، بعد ما تعرض لأخبار الخمر و المسكرات، و ذكر أخبار الملاهي في باب الغناء، فيستأنس من ذلك أنّ ملاك حرمة الغناء و اللهو و القمار عنده ما هو ملاكها في المسكرات من إيجاد الخفة في العقل، فراجع الكافي. «2»

______________________________

(1) البدر الزاهر/ 234 (ط. الجديدة/ 297).

(2) الكافي 6/ 431 و 435.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 201

[4- أواني الذهب و الفضّة]
اشارة

و منها: أواني الذهب و الفضة إذا قلنا بتحريم اقتنائها و قصد المعاوضة على مجموع الهيئة و المادّة لا المادّه فقط. (1)

______________________________

4- أواني الذهب و الفضّة

[كلمات الأصحاب في المقام]

(1) 1- في زكاة الخلاف (المسألة 103): «أواني الذهب و الفضّة محرّم اتخاذها و استعمالها غير أنّه لا تجب فيها الزكاة. و قال الشافعي: حرام استعمالها قولا واحدا، و في اتخاذها قولان: أحدهما محظور و الآخر مباح و على كلّ حال تجب فيها الزكاة ...» «1»

2- و في أطعمة النهاية: «و لا يجوز الأكل و الشرب في أواني الذهب و الفضّة، فإن كان هناك قدح مفضّض يجتنب موضع الفضّة منه عند الشرب.» «2»

3- و في آخر طهارة الشرائع: «و لا يجوز الأكل و الشرب في آنية من ذهب أو فضة و لا استعمالها في غير ذلك ... و في جواز اتّخاذها لغير الاستعمال تردّد، الأظهر المنع.» «3»

4- و في الجواهر ذيّل الجملة الأولى بقوله: «إجماعا منّا بل و عن كلّ من

______________________________

(1) الخلاف 2/ 90، المسألة 104 (ط. أخرى 1/ 307).

(2) النهاية/ 589.

(3) الشرائع/ 44 (ط. أخرى 1/ 55).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 202

..........

______________________________

يحفظ عنه العلم عدا داود فحرّم الشرب خاصّة، محصّلا و منقولا مستفيضا إن لم يكن متواتر كالنصوص به من الطرفين.» «1»

و ذيّل الجملة الثانية بقوله: «وفاقا للمشهور بين الأصحاب نقلا و تحصيلا بل لا أجد فيه خلافا إلّا من مختلف الفاضل ...» «2»

5- و في الفقه على المذاهب الأربعة: «فيحرم اتّخاذ الآنية من الذهب و الفضة فلا يحلّ لرجل أو امرأة أن يأكل أو يشرب فيها لقوله صلى اللّه عليه و آله: «لا تشربوا في آنية الذهب و الفضة، و لا تأكلوا في صحافها

فإنّها لهم في الدنيا و لكم في الآخرة»، و كذلك لا يحلّ التطيّب أو الادّهان أو غير ذلك. و كما يحرم استعمالها يحرم اقتناؤها بدون استعمال.» «3»

و بالجملة فالظاهر إجماع أصحابنا- كما مرّ عن الجواهر- على الحرمة إجمالا، فما في طهارة الخلاف (المسألة 15) من قوله: «يكره استعمال أواني الذهب و الفضّة و كذلك المفضّض منها» «4» يجب حمل الكراهة فيه على الحرمة، بل الظاهر أنّ المراد بالكراهة في لسان الكتاب و السنّة كان هو الحرمة، و استعمالها في الكراهة المصطلحة أمر اصطلح عليه المتأخّرون من الفقهاء.

[بعض أخبار المسألة]

فلنتعرض لبعض أخبار المسألة:

1- صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن آنية الذهب و الفضة، فكرههما. الحديث. «5»

أقول: قد مرّ أن الكراهة في الكتاب و السنّة أعمّ من الكراهة المصطلحة بل

______________________________

(1) الجواهر 6/ 328، كتاب الطهارة، القول في الآنية.

(2) نفس المصدر 6/ 343، كتاب الطهارة، في عدم جواز اتخاذ أواني الذهب و الفضّة.

(3) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 16، كتاب الحظر و الإباحة.

(4) الخلاف 1/ 69 (ط. أخرى 1/ 7).

(5) الوسائل 2/ 1083، الباب 65 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 203

..........

______________________________

تحمل على الحرمة إلّا مع القرينة على الخلاف و ربّما يستفاد من ذيل الحديث حرمة مطلق التزيّن بالفضّة حتى جعل المرآة و القضيب ملبّسين بها، و لكن الظاهر عدم إفتائهم بذلك.

2- رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّه نهى عن آنية الذهب و الفضة.» «1» و في السند سهل و الأمر فيه سهل.

3- خبر موسى بن بكر عن أبي الحسن موسى عليه السّلام، قال: «آنية الذهب و الفضة متاع الذين لا

يوقنون.» «2»

4- خبر داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا تأكل في آنية الذهب و الفضّة.» «3»

5- خبر محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «لا تأكل في آنية ذهب و لا فضّة.» «4»

6- صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا تأكل في آنية من فضّة و لا في آنية مفضّضة.» «5»

7- ما في حديث المناهي، قال: «نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله عن الشرب في آنية الذهب و الفضّة.» «6»

8- خبر أمّ سلمة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: «الذي يشرب في آنية الفضّة إنما يجرجر في بطنه نار جهنّم.» «7»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 1084، الحديث 3.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 1084، الحديث 4.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 1083، الحديث 2.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 1084، الحديث 7.

(5) نفس المصدر، ص 1085، الباب 66، الحديث 1.

(6) نفس المصدر، ص 1084، الباب 65، الحديث 9.

(7) سنن البيهقي 1/ 27، كتاب الطهارة، باب المنع من الشرب في آنية الذهب و الفضّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 204

..........

______________________________

قال ابن الأثير في النهاية: فيه: «الذي يشرب في إناء الذهب و الفضّة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم.» أي يحدر فيها نار جهنّم، فجعل الشرب و الجرع جرجرة، و هي صوت وقوع الماء في الجوف. قال الزمخشري: يروى برفع النار، و الأكثر على النصب. «1»

9- خبر حذيفة، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول: «لا تلبسوا الحرير و لا الديباج، و لا تشربوا في آنية الذهب و الفضّة و لا تأكلوا في صحافها فإنّها لهم في

الدنيا و لكم في الآخرة.» «2»

في النهاية: «الصحفة: إناء كالقصعة المبسوطة و نحوها، و جمعها صحاف.» «3»

10- خبر أنس بن مالك قال: «نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله عن الأكل و الشرب في آنية الذهب و الفضّة.» «4»

إلى غير ذلك من أخبار الفريقين، فراجع الوسائل و البيهقي. «5»

[هل المحرّم الانتفاع أو الاقتناع]

إنّما الإشكال في أنّ المحرّم هل هو اتّخاذ الإناء منهما مطلقا و لو للاقتناء فيجب كسره و إتلاف هيئته كما في هياكل العبادة، أو خصوص الانتفاع بإنائهما و لو للتزيّن و الوضع على الرفوف لذلك مثلا، أو خصوص استعمالهما في الحاجات اليوميّة أو في خصوص الأكل و الشرب، أو في خصوص الشرب فقط كما نسب إلى داود؟ في المسألة وجوه بل أقوال.

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 1/ 255.

(2) سنن البيهقي 1/ 28، كتاب الطهارة، باب المنع من الأكل في صحاف الذهب و الفضّة.

(3) النهاية لابن الأثير 3/ 13.

(4) سنن البيهقي 1/ 28، كتاب الطهارة، باب المنع من الأكل في صحاف الذهب و الفضّة.

(5) راجع الوسائل 2/ 1083- 1086، البابين 65 و 66 من أبواب النجاسات؛ و سنن البيهقي 1/ 27 و 28، كتاب الطهارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 205

..........

______________________________

و المتيقّن عندنا حرمة استعمالهما في الأكل و الشرب، و هو المذكور في أكثر أخبار الفريقين.

و في المستمسك: «إنّ عنوان الأكل و الشرب بما هو محرّم، و غيرهما من العناوين لا يحرم إلّا بالمقدار الذي يصدق عليه الاستعمال.» «1»

أقول: بناء على حرمة مطلق الاستعمال، فالظاهر أنّ حرمة الأكل و الشرب فيهما يكون من جهة أنّهما من مصاديق الاستعمال المطلق، إذ القول بحرمة خصوص الأكل أو الشرب مستقلا و حرمة مطلق الاستعمال كذلك يوجب تحقّق حرمتين نفسيتين

و عصيانين في مورد الأكل أو الشرب، لانطباق عنوان الاستعمال عليهما، و الالتزام بذلك مشكل. هذا.

و قد عرفت أنّ المذكور في أكثر الأخبار خصوص الأكل و الشرب.

و ربّما يستدلّ للقول بالتعميم بما مرّ من صحيحة محمّد بن إسماعيل من إسناد الكراهة إلى الإناءين مطلقا، و بما مرّ في خبر محمّد بن مسلم من النهي عنهما مطلقا، و ما مرّ في خبر موسى بن بكر من كونهما متاع الذين لا يوقنون. «2»

و يجاب عن الأوّل بعدم ذكر جهة السؤال فيه، و لعلّ السائل سأل عن استعمالهما أو خصوص الأكل و الشرب فيهما لأنهما مورد الابتلاء غالبا.

و بالجملة كان السؤال عن جهة صرف الإناء فيما يترقب منه بما هو إناء و كان صنعه لأجله، و الجواب كان على وفق السؤال.

و يجاب عن الثاني أوّلا بضعف السند بسهل بن زياد- و إن قيل إنّ الأمر فيه سهل- و ثانيا بأنّ النهي عن الذوات يرجع بمناسبة الحكم و الموضوع إلى الآثار المترقّبة من كلّ منها: فالنهي عن الأمهات و البنات مثلا يرجع إلى نكاحها، و النهي عن الميتة إلى أكلها، و النهي عن الأواني إلى استعمالها في الأكل و الشرب أو

______________________________

(1) المستمسك 2/ 176، استعمال أواني الذهب و الفضّة.

(2) راجع ص 202 و 203 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 206

..........

______________________________

مطلق الحاجات. و أمّا التزيّن بها فضلا عن اقتنائها فليس من الآثار الظاهرة للأواني بما هي أوان، و الإطلاقات تنصرف عنها.

و بالجملة يفهم بمناسبة الحكم و الموضوع أنّ المنهي عنه استعمالها بما هي أوان فيما صنعت لأجلها.

و يجاب عن الثالث أوّلا بضعف السند بسهل و موسى بن بكر. و ثانيا بأنّ المتاع بمعنى ما يتمتّع به

في الحياة. و التمتّع من كلّ شي ء بحسب ما يترقّب منه. و ليس المترقّب من الأواني التزيّن أو الاقتناء. و عطف المتاع على الحلية في قوله- تعالى-:

ابْتِغٰاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتٰاعٍ «1» يدلّ على المغايرة بينهما فلا يشمل المتاع لما يتزيّن به، و لو سلّم فلا يشمل الاقتناء قطعا. و ثالثا بمنع دلالة الحديث على الحرمة إذ وزانه وزان الأخبار الواردة في المواعظ و الحكم الأخلاقية و ذمّ الدنيا و الترغيب في الزهد و القناعة.

و كون النهي عن أواني الذهب و الفضّة بلحاظ أن اتّخاذها منهما موجب لقلّة الدراهم و الدنانير في السوق و الاختلال في أمر المعاملات غير واضح.

بل لعلّه بلحاظ أنّ استعمالهما يوجب التفاوت بين الناس في مظاهر التعيّش و الاختلاف الفاحش بين الأغنياء و الفقراء و انكسار قلوب المحتاجين، و هذا المعنى لا يجري في اقتنائهما كما لا يخفى.

نعم يمكن أن يستدلّ لحرمة الاتّخاذ مطلقا بما رواه في المستدرك عن أمالي ابن الشيخ «ره» بسنده عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه سئل عن الدنانير و الدراهم و ما على الناس فيها؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام: «هي خواتيم اللّه في أرضه، جعلهما اللّه مصلحة لخلقه و بها تستقيم شئونهم و مطالبهم، فمن أكثر له منها فقام بحقّ اللّه فيها و أدّى زكاتها فذاك الذي طابت و خلصت له، و من أكثر له منها فبخل بها و لم يؤدّ حق

______________________________

(1) سورة الرعد (13)، الآية 17.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 207

..........

______________________________

اللّه فيها و اتّخذ منها الآنية فذاك الذي حقّ عليه و عيد اللّه- عزّ و جلّ- في كتابه يقول اللّه: يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ

ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ. «1»

و فيه: أنّ النهي لعلّه من جهة اتّخاذ ما تعلّق به الزكاة فعلا أو ما في معرض تعلّقه آنية فرارا من الزكاة فلا يشمل اتّخاذ الأواني من سبائك الذهب و الفضّة بعد فرض عدم تعلّق الزكاة بها أو بعد عدم اتّخاذ النقود الرائجة منهما، هذا مضافا إلى ضعف الخبر سندا، فتدبّر.

و تفصيل المسألة موكول إلى مبحث الأواني من كتاب الطهارة، فراجع. «2»

و كيف كان فلو قلنا بحرمة اتّخاذ الأواني منهما مطلقا و وجوب إتلاف هيئتها صار وزانها وزان هياكل العبادة المبتدعة و نحوها ممّا انحصر نفعها في الحرام و أسقط الشارع ماليّتها بالكليّة لذلك فكان بيعها حراما تكليفا و وضعا لترتّب الفساد عليها محضا و يكون تنفيذ الشارع له نقضا لغرضه. و بالجملة كان ذكرها هنا في القسم الأوّل في محلّه.

و أمّا إذا قلنا بجواز اقتنائها بل التزيّن بها أيضا، و خصصنا الحرمة باستعمالها في الأكل و الشرب أو مطلق الحاجات، صارت من الآلات المشتركة و كان اللازم ذكرها في القسم الثاني الآتي نظير بيع العنب لمن يعمله خمرا.

ثمّ على الفرض الأوّل أيضا يجوز بيعها بقصد كسرها أو بإيقاع البيع على المادّة فقط نظير ما مرّ في هياكل العبادة بالتفصيل، فراجع. «3»

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 1/ 166، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات و الأواني، الحديث 2؛ و الآية في سورة التوبة (9)، رقمها 35.

(2) راجع الجواهر 6/ 328 و ما بعدها، كتاب الطهارة، القول في الآنية.

(3) راجع ص 176، من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 208

[5- الدراهم المغشوشة]
اشارة

و منها: الدراهم الخارجة المعمولة لأجل غشّ الناس إذا لم يفرض لها على هيئتها الخاصّة منفعة محللة معتدّ بها، (1)

مثل التزيّن أو الدفع إلى الظالم الذي يريد مقدارا من المال كالعشّار و نحوه (2)، بناء على جواز ذلك و عدم وجوب إتلاف مثل هذه الدراهم و لو بكسرها من باب دفع

______________________________

5- الدراهم المغشوشة

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 208

[في دفعها إلى العشار الظالم]

(1) إذ على فرض وجود المنفعة المحلّلة تصير من القسم الثاني الذي يجوز بيعه إلّا بقصد المنفعة المحرّمة و مقيّدا بها.

(2) أقول: كون دفعها إلى العشّار الظالم من المنافع المحلّلة غير واضح، إذ العشّارون لا يأخذونها إلّا للإنفاق في السوق، فينفقونها و يجلبون بها أموال الناس ظلما.

نعم الظاهر جواز التزيّن بها إذا كان غشّها ظاهرا و لم تكن في معرض الإنفاق و المعاملة.

و بما ذكرنا يظهر المناقشة في كلام صاحب الجواهر، حيث قال: «و في جواز دفع الظلمة بالدراهم المغشوشة و جهان: أقواهما الجواز و أحوطهما خلافه.» «1»

إلّا أن يريد صورة العلم بعدم إنفاقها من قبلهم.

و كيف كان فلو فرض للدراهم المغشوشة الخارجة عن رواج المعاملة منفعة محلّلة عقلائيّة وراء إنفاقها كالتزيّن بها مثلا جاز بيعها لذلك و لم يجز إتلافها على صاحبها، و إلّا صارت من قبيل هياكل العبادة المبتدعة و لم يجز بيعها، إذ لا يقصد

______________________________

(1) الجواهر 24/ 18، في بيع الصرف من كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 209

مادّة الفساد، كما يدلّ عليه قوله عليه السّلام في رواية الجعفي (1) مشيرا إلى درهم: «اكسر هذا فإنّه لا يحلّ بيعه و لا إنفاقه» و في رواية موسى بن بكر (2) «قطعه نصفين» ثم قال: «ألقه في البالوعة حتى لا يباع شي ء

فيه غشّ.» و تمام الكلام فيه في باب الصرف إن شاء اللّه.

______________________________

منها حينئذ إلّا الفساد. و المصنّف استدل لعدم جواز الانتفاع بها و وجوب إتلاف هيئتها بروايتين أشار إليهما في المتن.

[حسم مادة الفساد]

(1) أراد بها ما رواه الشيخ بإسناده عن ابن أبي عمير، عن عليّ الصيرفي، عن المفضل بن عمر الجعفي، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فألقي بين يديه دراهم، فألقى إليّ درهما منها. فقال: أيش هذا؟! فقلت: ستّوق، قال:

و ما الستّوق؟! فقلت: طبقتين فضّة، و طبقة من نحاس و طبقة من فضّة، فقال:

«اكسر هذا فإنّه لا يحلّ بيع هذا و لا إنفاقه.» «1»

و في السند عليّ بن الحسن الصيرفي و هو مجهول الحال و المفضّل مختلف فيه. و في المتن اغتشاش، و الظاهر أنه كان هكذا: «طبقتين: طبقة من فضّة و طبقة من نحاس.»

و في المجمع: «درهم ستّوق كتنّور و قدّوس و تستوق بضمّ التاءين: زيف بهرج ملبّس بالفضّة.» «2»

و في التهذيب بعد ذكر الخبر قال: «الوجه في هذا الخبر أنّه لا يجوز إنفاق هذه الدراهم إلّا بعد أن يبين أنّها كذلك لأنّه متى لم يبيّن يظنّ الآخذ لها أنّها جياد.» «3»

(2) أراد بها ما رواه الكليني بسند فيه ضعف و إرسال عن موسى بن بكر، قال: كنّا عند أبي الحسن عليه السّلام و إذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قطعه بنصفين، ثمّ قال لي: «ألقه في البالوعة حتى لا يباع شي ء فيه

______________________________

(1) التهذيب 7/ 109، كتاب التجارات، الباب 8، الحديث 72.

(2) مجمع البحرين 5/ 183 (ط. أخرى/ 400).

(3) التهذيب 7/ 109.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 210

..........

______________________________

غشّ.» و رواه الصدوق مثله. «1»

و من

هذا القبيل أيضا ما رواه في دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد عليه السّلام أنّه سئل عن إنفاق الدراهم المحمول عليها؟ قال: «إذا كان الغالب عليها الفضّة فلا بأس بإنفاقها» و قال في الستّوق و هو المطبّق عليه الفضّة و داخله نحاس: «يقطع و لا يحلّ أن ينفق، و كذلك المزيبقة و المكحلة.» «2»

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الرواية الأولى: «أنّ الأمر فيها ليس تكليفيّا ليجب كسره و يحرم تركه، بل هو إرشاد إلى عدم صحّة المعاوضة عليها و عدم جواز أداء الحقوق الواجبة منها.

و يدلّ على ذلك من الرواية تعليل الإمام عليه السّلام الأمر بالكسر بأنّه لا يحلّ بيعه و لا إنفاقه، إذ من البديهي أنّ الصدّ عن بيعه و إنفاقه في الخارج لا ينحصر في الكسر بل يحصل بغيره أيضا.» «3»

و أجاب عن الرواية الثانية أوّلا بأنّها ضعيفة غير منجبرة، و ثانيا بأنّ فعله عليه السّلام و إن كان حجّة إلّا أنّ ذلك فيما تكون جهة الفعل معلومة، و عليه فلا يستفاد من الرواية أكثر من الجواز الشرعي، و يكون مؤدّاها الإرشاد إلى عدم نفوذ المعاملة لوجود الغشّ فيه.

بل الظاهر أنّه كان غشّا محضا و إلا لما أمر الإمام عليه السّلام بإلقائه في البالوعة لكونه من أعلى مراتب الإسراف و التبذير. و من هنا ظهر ما في رواية دعائم الإسلام من حكمه عليه السّلام بقطع الدرهم المغشوش. «4»

أقول: لعلّ نظر المستدلّ بها للحرمة و وجوب الإتلاف أنّ الظاهر من الأمر بالكسر أنّه

______________________________

(1) الوسائل 12/ 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) دعائم الإسلام 2/ 29؛ و رواه عنه في المستدرك 2/ 481، الباب 6 من أبواب الصرف، الحديث

1.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 157.

(4) راجع نفس المصدر 1/ 158.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 211

..........

______________________________

لم يكن يترتّب على وجوده بهيئته إلّا الفساد، إذ لم يكن لها منفعة ظاهرة إلّا الإنفاق المحرّم، و ما يترتّب على وجوده الفساد محضا يجب إتلافه لا محالة حسما لمادّته، و هذا أمر يحكم به العقل و العقلاء أيضا، و لو كان يترتّب عليه منفعة محلّلة عقلائيّة كالتزيّن مثلا لما أمر الإمام عليه السّلام بكسره بل أرشد إلى صرفه فيه بل كان إتلافه حينئذ تبذيرا للمال.

فالأولى أن يقال: إنّ الدراهم المغشوشة على قسمين:

قسم يكون فاسدا خارجا عن رواج المعاملة، بل لعلّها عملت و صنعت لإغواء الناس و تصاحب أموالهم بذلك كما شاع في أعصارنا أيضا من عمل ما يشبه النقود الرائجة للتدليس، فهذا القسم ممّا يجب إفناؤها أو تغيير صورتها قطعا حسما لمادّة الفساد، و الظاهر أنّ الروايات المذكورة ناظرة إلى هذا القسم.

و بالجملة فالغش في هذا القسم ضدّ النصح و يكون مشتملا على مفهوم الإخفاء و التدليس، و حرمة الغشّ بهذا المعنى واضحة، فما لا أثر له إلّا الغشّ به وجب إتلافه و حرمت المعاملة عليه.

القسم الثاني: ما تكون رائجة في سوق المعاملات لاعتبار حكومة الوقت إيّاها نحو اعتبارها للدراهم الخالصة، و إن كان خلطها كثيرا بالنسبة إلى الدراهم الجيّدة، إذ العمدة في الرواج و لا سيّما في عصرنا اعتبار حكومة الوقت و قدرتها. و في الحقيقة لا غشّ في هذا القسم بالمعنى الذي مرّ، بل يراد بالغشّ فيها خلطها بغير جنسها.

و الأخبار في جواز المعاملة على الدراهم المغشوشة بهذا المعنى مستفيضة، فراجع الوسائل: «1»

منها: صحيحة فضل أبي العباس، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الدراهم

المحمول عليها؟ فقال: «إذا أنفقت ما يجوز بين أهل البلد فلا بأس، و إن أنفقت مالا يجوز بين أهل البلد فلا.» «2»

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 472، الباب 10 من أبواب بيع الصرف.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 474، الحديث 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 212

[لو وقعت المعاوضة على المغشوش فتبيّن الحال]

و لو وقعت المعاوضة عليها جهلا فتبيّن الحال لمن صار إليه فإن وقع عنوان المعاوضة على الدرهم المنصرف إطلاقه إلى المسكوك سكّة السلطان بطل البيع. و إن وقعت المعاوضة على شخصه من دون عنوان فالظاهر صحّة البيع مع خيار العيب إن كانت المادّة مغشوشة، و إن كان مجرّد تفاوت السكة فهو خيار التدليس فتأمّل. (1)

______________________________

و منها: رواية حريز، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فدخل عليه قوم من أهل سجستان فسألوه عن الدراهم المحمول عليها؟ فقال: «لا بأس إذا كان جواز المصر.» «1»

و منها: رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: جاء رجل من سجستان فقال له: إنّ عندنا دراهم يقال لها: الشاهيّة تحمل على الدرهم دانقين.

فقال: «لا بأس به إذا كانت تجوز.» «2» إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ هذه الأخبار تحمل على ما إذا كانت المغشوشة بيّنة الغشّ رائجة في سوق المعاملات، فلا تدليس فيها و الغشّ فيها بمعنى الخلط لا التغرير، و الأخبار السابقة تحمل على ما إذا كانت غير رائجة بل كان عملها بقصد التدليس و التغرير، فالواجب كسرها و إتلافها، إلّا إذا فرض لها منافع محلّلة عقلائيّة، كالتزيّن مثلا مع الأمن من إنفاقها.

و يظهر من مصباح الفقاهة حمل الأخبار السابقة على الكراهة جمعا بين الطائفتين. «3» و لكن ما ذكرناه من الجمع بينهما

أقرب إلى الاعتبار و إلى ظاهر الأخبار، فتدبّر.

(1) ما ذكر إلى الآن كان على فرض وجوب إتلاف الدراهم المغشوشة. و أمّا على فرض عدم وجوب إتلافها إمّا مطلقا، أو مع وجود المنفعة المحلّلة لها أيضا،

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 474، الحديث 10.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 473، الحديث 6.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 159.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 213

..........

______________________________

أو مع فرض رواجها في السوق فإنفاقها يقع على أحد نحوين:

الأوّل: أن تقع المعاملة على الدرهم الكلّي المنصرف طبعا إلى الدرهم الصحيح ثمّ أعطى البائع أو المشتري في مقام الأداء الدرهم المغشوش، فلا إشكال حينئذ في صحّة المعاملة و لكن يجبر الدافع على دفع الصحيح و استرداد المغشوش، و الغالب في المعاملات هذا النحو و لا سيّما في الأثمان.

الثاني: أن تقع المعاملة على شخص الدرهم المغشوش مثمنا أو ثمنا، فالمتعاملان في هذه الصورة إمّا أن يكونا عالمين بالغشّ أو جاهلين أو مختلفين.

فإن كانا عالمين به فلا ريب في جواز المعاملة تكليفا و وضعا و عدم ثبوت الخيار في البين. و أخبار حرمة الغشّ لا تشمل هذه الصورة قطعا، إذ المتفاهم من الغشّ التدليس و التغرير، و مع علمهما لا تدليس و لا تغرير.

و إن كانا جاهلين فالحرمة التكليفيّة منفية لعدم صدق الغشّ المحرّم مع الجهل، و إنّما البحث في الحكم الوضعي أعني صحة المعاملة و فسادها و الأقوى هو التفصيل، و بيان ذلك يتوقّف على ذكر مقدمة:

القيود الّتي يعتبرها المتعاملان على قسمين

و هي أنّ القيود التي يعتبرها المتعاملان في المبيع أو الثمن- سواء ذكرت في متن المعاملة بنحو التوصيف أو التقييد أو الاشتراط أو انصرفت إليها أو وقعت المعاملة مبنيّة عليها- إذا تخلّفت فهي على قسمين، و قد

أشار إليهما المصنّف في مبحث خيار الرؤية: «1»

الأوّل: أن تعدّ عرفا من مقوّمات الشي ء و من قبيل الصور النوعيّة المقوّمة للذات، و إن لم تكن كذلك بالنظر العقلي الفلسفي، كما إذا باعه شيئا على أنّه ذهب، فبان نحاسا، أو على أنّه عبد حبشي، فبان حمارا وحشيّا، بل و كذا إذا

______________________________

(1) المكاسب للشيخ الأعظم «ره»/ 250.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 214

..........

______________________________

باعه على أنّه جارية جميلة شابّة، فبان عبدا شائبا كريه الوجه، أو على أنّه عباء، فبان فرشا و إن اتّحدا مادّة. فإنّ العناوين في هذه الأمثلة من المقوّمات للمبيع عرفا و إن لم تكن بالنظر العقلي كذلك في بعضها.

الثاني: أن لا تعدّ من المقوّمات بل من العوارض و من جهات الفضل و الكمال، كما إذا باعه عبدا على أنّه كاتب، فبان أميا، بل و كذا إذا باعه الدهن أو اللبن على أنّه من الغنم، فبان أنّه من البقر، مع اختلافهما نوعا.

ففي القسم الأوّل تبطل المعاملة مع التخلّف، إذ المعقود عليه غير موجود و الموجود غير معقود عليه. و على فرض اتّحادهما في المادّة كالعباء و الفرش مثلا لا يتقسّط الثمن على المادّه و الهيئة نحو ما يتقسّط في بيع ما يملك و ما لا يملك كالشاة و الخنزير، إذ في الشاة و الخنزير هما أمران خارجيان، فيتقسّط الثمن عرفا.

و أمّا المادّة و الهيئة فهما متّحدتان وجودا و الكثرة بتحليل العقل.

و أمّا في القسم الثاني فالمعاملة صحيحة، و يثبت للمشتري خيار العيب أو خيار تخلّف الوصف.

ففي المقام أيضا إذا وقعت المعاملة مثمنا أو ثمنا على الدرهم من الفضّة المسكوك بسكّة السلطان، فبان أنّه رصاص مثلا، أو أنّ السكّة سكّة غير السلطان الرائجة في جميع

البلاد، ففي كليهما يعدّ الموجود نوعا آخر غير ما وقع العقد عليه. إذ الظاهر أنّ السكّة الرائجة من مقوّمات الدنانير و الدراهم عرفا، فيكون التخلّف موجبا لبطلان المعاملة و إن فرض اتّحادهما مادّة. نعم لو باعه على أنّها سكّة سنة فلان، فبان أنّها سكّة سنة أخرى مثلا، فالظاهر أنّه من قبيل تخلّف العوارض الخارجة عن الذات، فيثبت خيار تخلّف الوصف.

هذا كلّه ما إذا كان المتعاملان جاهلين، و مثلهما ما إذا كان المشتري فقط جاهلا، فتبطل المعاملة مع تخلّف الذات و تصح مع تخلّف الأوصاف العرضية و يجري فيه خيار التدليس أيضا كما هو واضح.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 215

..........

______________________________

و لو انعكس الأمر، فكان البائع جاهلا و المشتري عالما، فمع تخلّف الذات تبطل المعاملة، و مع تخلّف العوارض تصحّ و لا خيار للمشتري لعلمه، و أخبار الغشّ أيضا لا تشملها، إذ لا تدليس هنا، نعم يثبت الخيار للبائع. هذا.

و المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية «1» مثل لتخلّف المعقود عليه بما إذا حسب المشتري الطبل صندوقا و ذكر للمسألة أربع صور:

الأولى: أن يشتري الصندوق الكلّي فدفع إليه الطبل.

الثانية: أن يشتري الشي ء الخارجي و لكن اعتقد أنّه صندوق فبان أنّه طبل.

الثالثة: أن يشتري عنوان الصندوق الشخصي الخارجي فبان أنّه طبل.

الرابعة: أن يشتري هذا الشي ء المشار إليه على أنّه صندوق فبان أنّه طبل.

فحكم في الأولى بصحّة المعاملة و وجوب إبدال المدفوع، و في الثانية بصحّة المعاملة و عدم الخيار أيضا، فإنّ الاعتقاد المذكور من قبيل المقارنات الاتفاقية التي لا يؤثّر وجودها و عدمها في المعاملة. و حكم في الثالثة ببطلان المعاملة، فإنّ المبيع لا وجود له و الموجود لم تقع عليه المعاملة، و في الرابعة بثبوت خيار

تخلّف الشرط كما إذا اشترى العبد على أنّه كاتب فبان أنّه غير كاتب.

أقول: ما ذكره في الصورة الأولى و الثالثة صحيح كما بيّناه، و لكن يشكل ما ذكره في الثانية و الرابعة و لا سيّما الرابعة، إذ يمكن أن يقال في الثانية: أنّ ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد و العقود تابعة للقصود. و فرق بين تخلّف الاعتقاد في نفس مورد المعاملة و بين تخلّفه فيما يترقّب منه من الآثار، فالأوّل يضرّ بصحّته أو لزومه.

و إن شئت قلت: إنّه يجري في المقام ملاك خيار الغبن، حيث إنّ التضرّر بتخلّف الذات أشدّ من التضرّر بتفاوت القيمة و إن لم يكن البائع مقصّرا في ذلك، فتأمّل.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 13.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 216

..........

______________________________

و يقال في الرابعة: إنّ الظاهر- كما أشرنا إليه- عدم الفرق عرفا بين أن يذكر القيد عنوانا للمبيع أو قيدا له أو شرطا أو وقعت المعاملة مبنيّة عليه، و إنّ التخلّف إن كان فيما يقوّم الذات عرفا بطلت المعاملة، و إن كان في عوارضها الخارجة عن الذات صحّت و ثبت الخيار، و الصندوق و الطبل متباينان عرفا.

إذا عرفت ما ذكرناه في بيان صور المسألة و أحكامها فلنرجع إلى توضيح كلام المصنّف في المتن فنقول:

ظاهر قوله: «فإن وقع عنوان المعاوضة على الدرهم المنصرف إطلاقه إلى المسكوك سكّة السلطان بطل البيع»

إرادة إيقاع العقد على الدرهم الكلّي المنصرف إلى المسكوك سكّة السلطان، و على هذا فحكمه في هذه الصورة ببطلان البيع ممّا لا وجه له لما مرّ من صحّة المعاملة حينئذ، إلّا أنّ اللازم استرداد المغشوش و دفع الصحيح و لو لم يفعل أجبر عليه.

نعم لو أراد بما ذكره

إيقاع المعاملة على شخص الدرهم معنونا بعنوان سكّة السلطان صحّ حكمه بالبطلان مع التخلّف، لما مرّ من أن السكّة الرائجة من مقوّمات الدنانير و الدراهم عرفا، فتخلّفها يوجب بطلان العقد.

و أمّا قوله: «و إن وقعت المعاوضة على شخصه من دون عنوان» فإن أراد بذلك عدم قصد عنوان الدرهم المتقوّم بالسكّة بل قصد نفس المادّة فقط، فلم حكم بخيار التدليس مع تخلّف الهيئة؟! مضافا إلى أنّه خروج عن الفرض إذ البحث في بيع الدرهم.

و إن أراد بذلك قصد عنوان الدرهم بدون ذكره في متن العقد فنقول: إنّ التخلّف في كلّ من المادّة و الهيئة إن رجع إلى التخلّف في المقوّمات- كما إذا تبيّن كون المادة أو أكثرها من الرصاص مثلا أو كون السكّة غير سكّة السلطان الرائجة في البلاد- فالمعاملة باطلة كما مرّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 217

[الفرق بين بيع آلات القمار و بيع الدراهم المغشوشة]

و هذا بخلاف ما تقدّم من الآلات (1)، فإنّ البيع الواقع عليها لا يمكن تصحيحه بإمضائه من جهة المادّة فقط و استرداد ما قابل الهيئة من الثمن المدفوع، كما لو جمع بين الخلّ و الخمر لأنّ كلّ جزء من الخلّ أو الخمر مال لا بدّ أن يقابل في المعاوضة بجزء من المال، ففساد المعاملة باعتباره يوجب فساد مقابله من المال لا غير. بخلاف المادّة و الهيئة فإنّ الهيئة من قبيل القيد للمادّة جزء عقلي لا خارجي تقابل بمال على حدة.

ففساد المعاملة باعتباره فساد لمعاملة المادّة حقيقة. و هذا الكلام مطّرد في كلّ قيد فاسد بذل الثمن الخاصّ لداعي وجوده.

______________________________

نعم لو كان التخلّف في غير المقوّمات بل في الأوصاف الكماليّة فقط، صحّ ما ذكره من الصحّة و ثبوت خيار العيب أو التدليس، و لعلّه أشار إلى ما

ذكرنا أو بعضه بقوله: فتأمّل.

(1) أقول: ظاهر كلامه- قدّس سرّه- الفرق بين بيع آلات القمار و نحوه، و بيع الدراهم المغشوشة، بدعوى أن المبيع في الآلات هي المادّة المتهيّئة بالهيئة الكذائيّة و هما متّحدتان وجودا، فالمبيع شي ء واحد و إن تكثّر بالتحليل العقلي، فلو فرض أنّ للمادّة فيها قيمة، لا تتبعّض المعاملة و الثمن عليهما نحو ما تتبعّضان في بيع ما يملك و ما لا يملك كالخلّ و الخمر، و هذا بخلاف الدراهم فإنّ للمادّة فيها ماليّة، فيمكن أن تصحّ المعاملة بالنسبة إليها.

و هذا على فرض إرادة المصنّف إيّاه عجيب، إذ ما ذكره من الفرق بين بيع الآلات و بيع الخلّ و الخمر و أنّ الثمن يتقسّط في الثاني دون الأوّل أمر صحيح.

و لكن وزان الدراهم أيضا وزان الآلات، إذ المفروض وقوع المعاملة على الدرهم مثمنا أو ثمنا لا على الفضّة مثلا. و كما أنّ قوام آلات القمار بهيئتها و يتّحد المادّة و الهيئة فيها وجودا فكذلك الكلام في الدراهم، حيث إن قوامها بسكّتها الرائجة،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 218

..........

______________________________

فلا يمكن تصحيح المعاملة بالنسبة إلى مادّتها و تقسيط الثمن على المادّة و الهيئة، إذا فرض تخلّف الهيئة فيها.

قال في مصباح الفقاهة: «و من المحتمل أنّ هذه العبارة قد حرّرها النساخ في غير موضعها اشتباها». «1»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 161.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 219

[القسم الثاني من النوع الثاني: ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة و هو على قسمين]
اشارة

القسم الثاني: ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة. و هو تارة على وجه يرجع إلى بذل المال في مقابل المنفعة المحرّمة كالمعاوضة على العنب مع التزامهما أن لا يتصرّف فيه إلّا بالتخمير، و أخرى على وجه يكون الحرام هو الداعي إلى المعاوضة لا غير كالمعاوضة على العنب

مع قصدهما تخميره.

و الأوّل: إمّا أن يكون الحرام مقصودا لا غير كبيع العنب على أن يعمله خمرا و نحو ذلك، و إمّا أن يكون الحرام مقصودا مع الحلال بحيث يكون بذل المال بإزائهما كبيع الجارية المغنية بثمن لو حظ فيه وقوع بعضه بإزاء صفة التغنّي. فهنا مسائل ثلاث: (1)

______________________________

القسم الثاني من النوع الثاني:

ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة

(1) محصّل كلامه- قدّس سرّه- أنّه إمّا أن تكون المنفعة المحرّمة تمام الموضوع في المعاوضة بحيث يرجع مفادها إلى بذل المال بإزائها لا غير كالمعاوضة على العنب بشرط التخمير، أو الخشب بشرط صنعه صنما أو صليبا. و إمّا أن تكون بنحو الداعي من دون اشتراط في متن العقد كالمعاوضة على العنب بقصد جعله خمرا.

و إمّا أن تكون جزء للموضوع بحيث يقع جزء من الثمن بإزائها، كبيع الجارية المغنية

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 220

..........

______________________________

بوصف غنائها بحيث يقع بعض الثمن بإزاء وصف الغناء. فهذه ثلاث صور.

أقول: و هنا صورة رابعة يتعرّض لها المصنّف أخيرا، و هي أن يعلم يترتّب المنفعة المحرّمة على مورد المعاملة من دون قصد لها أصلا، كبيع العنب ممّن يعلم أنّه يصرفه في التخمير من دون قصد البائع لذلك بل لعلّه يشمئز من ذلك أيضا و لكنّه بصدد بيع عنبه.

و يجري الصور الأربعة في الإجارة أيضا، و الملاك في البيع و الإجارة واحد كما لا يخفى.

ذكر كلام الأستاذ الإمام «ره» [في صور المسألة]
اشارة

و قبل التعرّض لما ذكره المصنّف من أحكام الصور المذكورة نذكر لزيادة البصيرة في المسألة ما ذكره الأستاذ الإمام «ره» في المقام من صور المسألة و أحكامها بنحو الإجمال «1» ثمّ نرجع إلى بيان ما ذكره المصنّف «ره».

فنقول: قد قسم هو محلّ البحث إلى صور نذكرها ملخصة:

«الأولى: أن يكون المبيع كليّا مقيّدا بما لا ينطبق إلّا على المحرّم

مثل أن يبيع العنب المنتهي إلى التخمير، فيكون المبيع حصّة خاصّة من العنب لا العنب المطلق، فإذا تسلّمه المشتري و لم يستعمله في التخمير يكشف عن عدم كونه مصداقا للمبيع.

الثانية: أن يكون المبيع جزئيّا خارجيّا مع توصيفه بالوصف المتقدّم،

فيكون المبيع العنب الموجود المنتهي إلى التخمير، فلو لم ينته إليه يكشف عن عدم كونه مبيعا أو عن تخلّف الوصف.

الثالثة: أن يكون القيد على نحو الشرط

- كان المبيع كليّا أو جزئيّا- بحيث يكشف عدم الانتهاء عن عدم كونه مصداقا للمبيع أو عدم كونه مبيعا.

و الفرق بين هذه الصورة و السابقتين أنّ القيد في الأخيرة نفس الأمر المتأخّر،

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «ره» 1/ 115 و ما بعدها (ط. الجديدة 1/ 174 و ما بعدها).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 221

..........

______________________________

و في السابقتين الأمر المقارن المنتزع عن الأمر المتأخّر.

قال: «و الظاهر بطلان البيع في هذه الصور لعدم عقلائيّة الملك الحيثي، و الفرق بين هذا القيد و قيد كون العنب أحمر أو أصفر: أنّ مصداق الأحمر بعد تسليمه يكون ملكا طلقا للمشتري، و أمّا العنب المنتهي إلى التخمير فليس ملكا له إلّا من حيث التخمير دون سائر الحيثيّات، و لم يعهد لدى العقلاء هذا النحو من المليكة، و إلّا لجاز بيع الرداء الذي تحت السقف مثلا فلا يكون ملكه إلّا حصّة من الرداء أو حيثيّة منه، فإذا خرج عن تحت السقف خرج عن ملكيّته. و أنت خبير بأنّ هذا النحو من الملكيّة غير عقلائيّة و لا معهودة ...

نعم يمكن المناقشة في الإشكال في الصورة التي يكون المبيع شخصيّا: بأن يقال: إنّ المبيع هو الموجود الخارجي، و القيد من قبيل الوصف الذي يكون تخلّفه غير مبطل، لكن يأتي فيها الإشكال الآتي في الصورة الآتية، أي اشتراط عدم الانتفاع إلّا بالمحرّم.» «1»

الصورة الرابعة: أن يبيع الشي ء و يشترط على المشتري أن لا يصرفه إلّا في المحرّم.

و هو قد يرجع إلى شرطين: الصرف في المحرّم و عدم الصرف في المحلّل، و قد يرجع إلى شرط واحد و هو عدم الصرف في المحلّل.

و من هذا القبيل أيضا ما إذا تواطئا على هذا الشرط بحيث يقع العقد مبنيّا عليه و إن لم يذكر في متن العقد.

قال «ره» ما حاصله:

أنّ الأقوى بطلان العقد في هذه الصورة أيضا بشقوقها، لأنّ مثل هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد، فإنّ اعتبار الملكيّة متوقف على كون الشي ء ذا منفعة و لو في الجملة. فلو فرض كونه مسلوب الانتفاع مطلقا لم يعتبره العقلاء لا مالا و لا ملكا. لا أقول: إنّ متعلّق الماليّة و الملكيّة نفس الانتفاعات، بل

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «ره» 1/ 115- 116 (ط. الجديدة 1/ 174- 175).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 222

..........

______________________________

أقول: إنّ مناط اعتبارهما لدى العقلاء صحّة الانتفاع في الجملة.

و على هذا فإذا شرط البائع على المشتري أن لا ينتفع بالمبيع مطلقا فهو في قوّة بيع شي ء بشرط أن لا يصير ملكا للمشتري فيكون مخالفا لمقتضى العقد و موجبا لبطلانه، سواء قلنا بأن الشرط الفاسد مفسد أم لا. لأنّ الخلاف في مسألة الشرط الفاسد إنّما هو في الشروط التي لا يضرّ اشتراطها بقوام المعاملة، و أمّا الشروط المنافية لماهيّتها و قوامها فلا إشكال في مفسديتها، لرجوعها إلى التناقض في الجعل و في الإنشاء.

و المقام من هذا القبيل، إذ العنب بحسب الشرع مسلوب المنفعة من حيث التخمير، فإذا كان مفاد الشرط تحريم الانتفاع بالمحلّل رجع ذلك إلى انتقال شي ء مسلوب المنفعة مطلقا، فيكون الشرط في قوّة البيع بشرط عدم الملكيّة.

و عدم منافاته لمقتضى العقد في محيط العقلاء لا يكفي في الصحّة بعد منافاته له في محيط القانون اللازم الإجزاء عقلا. و لذا لا يصحّ بيع الخمر لإسقاط الشارع ماليّتها و إن كانت مالا بنظر العرف.

و ببيان آخر: ماليّة الأشياء- كما مرّ- بلحاظ منافعها المترتّبة عليها، فما لا منفعة له أصلا ليس بمال، فإذا اشترط على المشتري أن لا ينتفع من العنب مثلا إلّا

المنفعة المحرّمة، فماليته من قبل المنافع المحلّلة ساقطة حسب اشتراط البائع، و ماليّته من قبل المنفعة المحرّمة ساقطة حسب الشرع، فلا يبقى مالا و لا يصلح للمبادلة، فيكون دليل إسقاط الماليّة حاكما على أدلّة تنفيذ البيع و يدخل في أكل المال بالباطل، و لك أن تجعل هذا بيانا ثالثا للبطلان، و هو الاستدلال بالآية الكريمة بعد تحكيم ما دلّت على سقوط الماليّة الآتية من قبل المنفعة المحرّمة على الآية صدرا و ذيلا.

و يؤيّد ذلك كلّه ما ورد في النهي عن بيع الخشب ممّن يتّخذه صلبانا و التوت ممّن يصنع الصليب و الصنم. و ما ورد في لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الخمر و غارسها

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 223

..........

______________________________

و حارسها و بائعها و مشتريها، المستفاد منها أنّ بائع العنب للخمر ملعون، و معلوم أنّ ملعونيّته لأجل عمله و أنّ عمله مبغوض، بل يمكن أن يقال: لا يجتمع مبغوضيّة البيع بعنوانه مع تنفيذه و الإلزام بالعمل على وفقه.

نعم لو كانت المبغوضيّة بعنوان آخر، كالإعانة على الإثم- كما هو محتمل في المقام- لا تدلّ على البطلان.

الصورة الخامسة: أن يشترط عليه الانتفاع المحرّم من غير الحصر فيه،

فحينئذ قد يكون الشرط بحيث لا يعتبر بلحاظه و في مقابله شي ء و لو لبّا فيكون من قبيل التزام في التزام محضا، و قد يعتبر بلحاظه شي ء كما لو باع ما قيمته مأئة بخمسين و شرط عليه أن يستفيد من المنفعة المحرّمة لغرض منه فيه.

و المسألة بشقّيها من صغريات أنّ الشرط الفاسد مفسد أم لا. لأنّ الميزان في باب المعاملات محطّ الإنشاءات لا اللبيّات، و المفروض أنّ إنشاء المعاملة وقع بين العينين و الشرط خارج عن محطّها، و لهذا لا يقسّط عليه الثمن.

و يمكن أن

يقال في الشقّ الثاني: إنّ الماليّة الملحوظة من قبل الشرط إذا لم تحصل للطرف مع خروج شي ء بلحاظها من كيسه يكون أخذه بلا عوض لها، و من قبيل أكل المال بالباطل حقيقة.

و بعبارة أخرى: العقلاء لا ينظرون إلى ألفاظ المعاملات، بل عمدة نظرهم إلى واقعها، و في اللّب تكون المقابلة بين العين مع لحاظ الشرط، و مع عدم حصول الشرط له يكون ما بلحاظه بلا عوض واقعا و من أكل المال بالباطل.

الصورة السادسة: المعاوضة على عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام،

و لها شقوق:

لأنّه تارة تقصد المعاوضة على العين الموصوفة مع لحاظ زيادة القيمة لأجل الصفة، كمن باع الجارية المغنّية و لا حظ لصفة تغنّيها زيادة قيمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 224

..........

______________________________

و أخرى تقصد المعاوضة على الموصوفة بلا لحاظ قيمة لأجلها.

و ثالثة تلاحظ الصفة من جهة أنّها صفة كمال فتزاد لأجلها القيمة من غير نظر إلى عملها الخارجي.

و رابعة هذه الصورة بلا ازدياد القيمة.

و خامسة تلاحظ الصفة من حيث إنّها كمال قد يستفاد منها الحلال كالتغنّي في الأعراس. و في هذه الصورة تارة تكون المنفعة المحلّلة نادرة، و أخرى شائعة.

و الكلام في وجه الصحّة في الصور المذكورة هو الكلام في الشروط بما مرّ. و كذا في وجه الفساد في الصور التي يبذل فيها المال بلحاظ الصفة، إلّا أنّ وجه البطلان في المقام لعلّه أوضح منه في الشروط، لأنّ الشروط من قبيل الالتزام في التزام. و أمّا المقام فالأوصاف من قيود المبيع، فمقابلة المال لها في مقابلها أوضح.

فيمكن أن يقال: كما أنّه إذا لم تكن للجارية المغنّية قيمة إلّا بلحاظ وصف التغنّي، فبيعت موصوفة بمائة دينار تكون المعاملة باطلة لأنّ ذاتها لا قيمة لها فرضا و صفتها ساقطة الماليّة شرعا، فتكون أكلا للمال

بالباطل.

و كذا لو كانت لها مع قطع النظر عن الصفة قيمة في غاية القلّة، كدرهم مثلا، إذ تكون المعاملة في محيط الشرع سفهيّة،

فكذلك لو بيعت موصوفة مع لحاظ مقدار من الماليّة لصفتها، فإنّ أكل المال في مقابل شي ء لا ماليّة له أكل له بالباطل. و الأوجه بحسب القواعد و إن كان هو الصحّة، لما تقدّم في الشروط لكنّه غير خال من المناقشة.

هذا حال ما يلاحظ بإزاء الصفة مال، و أمّا مع عدم لحاظه فمقتضى القواعد صحّتها لإطلاق الأدلّة و عمومها. و مجرد توصيف المبيع بصفة يترتّب عليها الحرام لا يوجب البطلان و إن فرض صدق الإعانة على الإثم عليها في بعض الأحيان.

الصورة السابعة: أن يباع الشي ء ممّن يصرفه في الحرام،

كبيع الخشب ممّن يعمله صنما أو بربطا، و بيع العنب ممّن يعمله خمرا، فتارة يعلم البائع أنّه يصرفه في

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 225

..........

______________________________

الحرام و أراد المشتري ذلك فعلا، و أخرى يعلم بعدم إرادته الحرام فعلا لكن يعلم بتجدّد إرادته لذلك، و عليه تارة يكون البيع أو تسليم المبيع له موجبا لإرادته كما لو كان العنب جيّدا صالحا للتخمير فإذا باعه صار موجبا لإرادته، و أخرى يكون تجدّدها لا لذلك.

و على أيّ حال تارة يكون البيع بداعي توصّله إلى الحرام أو برجاء ذلك.

و أخرى لا يكون كذلك. و على أيّ حال تارة يترك الحرام مع ترك البيع، و أخرى لا يترك لوجود بائع آخر.

و الأولى صرف الكلام أوّلا إلى الحكم الكلّي ثمّ الكلام في الروايات الخاصّة.

فيقع الكلام في مقامين: أحدهما فيما يمكن أن يستدلّ به على الحكم (من الأدلّة العامّة) و هو أمور:

أحدها: حكم العقل بقبح إعانة الغير على معصية المولى و إتيان مبغوضه، فكما أنّ إتيان المنكر قبيح عقلا

و كذا الأمر به و الإغراء نحوه، فكذلك تهيئة أسبابه و الإعانة على فاعله و لهذا تكون القوانين العرفية متكفّلة لجعل الجزاء على معين الجرم و إن لم يكن شريكا في أصله.

و قد ورد نظيره في الشرع فيما لو أمسك أحد شخصا فقتله الآخر و ثالث نظر لهما، فيقتل القاتل و يحبس الممسك حتّى يموت و يسمّل عينا الناظر.

ثانيها: قوله- تعالى-: تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ. «1»

ثالثها: أدلّة وجوب النهي عن المنكر، بأن يقال: دفع المنكر واجب كرفعه و لا يتمّ إلّا بترك البيع ... «2»»

______________________________

(1) سورة المائدة (5)، الآية 2.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 115- 135 (ط. الجديدة 1/ 174- 202).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 226

..........

______________________________

أقول: هذا ما أردنا نقله من كلام الأستاذ «ره» في المقام بنحو الإجمال للاطّلاع على الصور التي ذكرها للمسألة و من أراد الاطّلاع على تفصيل مرامه فليراجع كلامه، و قد أدّى حقّ المسألة و إن كان بعض ما ذكره قابلا للمناقشة:

بعض المناقشات في كلام الأستاذ الإمام «ره»

1- فمن ذلك تمسّكه بآية النهي عن أكل المال بالباطل لبطلان المعاملة في بعض الصور، و الاستدلال بها لذلك يتوقّف على كون الباء في قوله: بِالْبٰاطِلِ للمقابلة نظير ما تدخل على الأثمان في المعاملات، و قد مرّ مرارا أنّ الظاهر كونها للسببيّة، و أنّ الغرض منها نفي تملك أموال الناس بالأسباب الباطلة، نظير الرشوة و القمار و السرقة و نحوها، و يشهد لذلك استثناء التجارة عن تراض و بعض الأخبار الواردة في تفسير الآية و تطبيقها، فراجع الوسائل. «1»

2- و من ذلك أيضا نحو خلط في كلامه «ره» بين الملكيّة و الماليّة مع وضوح افتراقهما، فإنّ الملكيّة أمر اعتباري

إضافي بين المالك و الشي ء تقتضي اختصاصه به، و الماليّة وصف اعتباري لنفس الشي ء بلحاظ الرغبة فيه، بحيث يبذل بإزائه المال، و يعبّر عنها بكون الشي ء ذا قيمة، و بينهما عموم من وجه فإنّ حبّة حنطة من صبرتها ملك لمالك الصبرة و لا تعدّ مالا، و الغابات الطبيعيّة تعدّ أموالا و ليست ملكا لشخص، و دار زيد تعدّ مالا و ملكا له. فلو ألقي درّة ثمينة لشخص في قعر البحر بحيث لا يمكن إخراجها فملكيّة الشخص لها باقية و لكن لا تعدّ مالا.

و على هذا ففي قوله «ره»: «اعتبار الملكيّة موقوف على كون الشي ء ذا منفعة و لو في الجملة» كان الأولى ذكر الماليّة بدل الملكيّة، فتأمّل.

3- و من ذلك أيضا أنّ الظاهر من قوله «ره»: «إنّ الشرط من قبيل الالتزام في

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 227

..........

______________________________

التزام» كون العقد و الشرط التزامين مستقلّين غير مرتبطين غاية الأمر كون أحدهما ظرفا للآخر. و لكنّ الظاهر خلاف ذلك بل يكون التزام البائع مثلا بمفاد العقد مرتبطا بالتزام المشتري بمفاد الشرط إنشاء و خارجا، و لذا نلتزم بثبوت الخيار له مع تخلّف المشتري عن الشرط خارجا و ليس من باب التعليق في الإنشاء حتّى يحكم بأنّه غير معقول، لدوران أمره بين الوجود و العدم، بل في المنشأ، فالتزام أحدهما معلّق على التزام الآخر، و المعلّق عليه متحقّق فعلا في مرحلة الإنشاء، و عدم خارجيّته موجب للخيار، و التحقيق موكول إلى محلّه.

4- و من ذلك أيضا ما يلوح من كلامه «ره» من الترديد في أنّ الملاك في المعاملات محطّ الإنشاءات أو القصود اللبيّة، مع وضوح

أنّ الملاك محطّ الإنشاءات، و القصود اللبيّة من قبيل الداعي على الداعي. كيف؟! و لو كان الملاك اللبيّات كان اللازم في صورة تخلّف الشرط أو الوصف تقسيط الثمن و الالتزام بصحّة المعاملة بالنسبة إلى ما وقع في قبال الذات و بطلانها بالنسبة إلى ما وقع في قبال الشرط أو الوصف نظير بيع ما يملك و ما لا يملك، مع أنّ الظاهر تسالمهم على وقوع تمام الثمن في قبال الذات و تخيّر المشروط له بين قبول المعاملة بإزاء تمام الثمن أو فسخها بتمامها، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 228

[المسألة الأولى: بيع العنب و الخشب على أن يعملا خمرا أو صليبا ...]
اشارة

الأولى: بيع العنب على أن يعمل خمرا و الخشب على أن يعمل صنما أو آلة لهو أو قمار، و إجارة المساكن ليباع أو يحرز فيها الخمر، و كذا إجارة السفن و الحمولة لحملها. و لا إشكال في فساد المعاملة فضلا عن حرمته و لا خلاف فيه. (1)

المسألة الأولى:

بيع العنب و الخشب على أن يعملا خمرا أو صليبا ...

______________________________

(1) أفتى- قدّس سرّه- بفساد المعاملة وضعا مضافا إلى حرمتها تكليفا و ادّعى عدم الخلاف في ذلك. و إطلاق كلامه يقتضي عدم الفرق بين أن يكون المبيع كليّا أو شخصيا خارجيّا، و سواء صرّح بالشرط في متن العقد أو وقع العقد مبنيّا عليه، بأن تواطئا عليه قبله ثمّ أوقعا العقد مبنيّا، و البيع و الإجارة في هذا الباب على وزان واحد دليلا و فتوى:

[كلمات الفقهاء في المقام]

1- قال الشيخ في إجارة الخلاف (المسألة 37): «إذا استأجر دارا ليتخذها ماخورا (حانوتا خ. ل) يبيع فيها الخمر أو ليتّخذها كنيسة أو بيت نار فإنّ ذلك لا يجوز و العقد باطل. و قال أبو حنيفة: العقد صحيح و يعمل فيه غير ذلك من الأعمال المباحة دون ما استأجره له، و به قال الشافعي. دليلنا: إجماع الفرقة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 229

..........

______________________________

و أخبارهم. و أيضا فهذه الأشياء محظورة بلا خلاف فلا يجوز الاستيجار لها.» «1»

2- و فيها أيضا (المسألة 38): «إذا استأجر رجلا لينقل له خمرا من موضع إلى موضع لم تصحّ الإجارة، و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة: تصحّ كما لو استأجره لينقل الخمر إلى الصحراء ليريقه. دليلنا: مثل ما قلناه في المسألة الأولى سواء.» «2»

أقول: في نهاية ابن الأثير في تفسير الماخور: «هو مجلس الريبة و مجمع

أهل الفسق و الفساد و بيوت الخمارين، و هو تعريب «ميخور» و قيل: هو عربيّ لتردّد الناس إليه من مخر السفينة الماء» «3»

و يظهر من العبارتين أنّ الشافعي أفتى في المسألة الأولى بالصحّة و في الثانية بالبطلان مع أنّ الملاك فيهما واحد.

و قول أبي حنيفة: «إنّه يعمل فيه غير ذلك من الأعمال المباحة» يرد عليه أنّ ذلك خلاف ما صرّح به في متن العقد فلا حقّ له.

3- و في إجارة الغنية في شرائط العين المستأجرة: «و منها: أن يكون المنفعة مباحة، فلو آجر مسكنا أو دابّة أو وعاء في محظور لم يجز ... كلّ ذلك بدليل إجماع الطائفة المحقّة.» «4»

4- و في المنتهى: «يحرم بيع العنب ليعمل خمرا و كذلك العصير، و به قال الشافعي و أحمد. و قال الثوري: يجوز بيع الحلال ممّن شاء. لنا: قوله- تعالى-:

تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ و عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله:

______________________________

(1) الخلاف 3/ 508 (ط. أخرى 2/ 215).

(2) نفس المصدر.

(3) النهاية لابن الأثير 4/ 306.

(4) الجوامع الفقهية/ 538 (طبعة أخرى/ 600).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 230

..........

______________________________

لعن في الخمر عشرة. قال ابن عباس: إنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله أتاه جبريل عليه السّلام فقال: «يا محمّد إنّ اللّه لعن الخمر و عاصرها و معتصرها و حاملها و المحمولة إليه و شاربها و بائعها و مبتاعها و ساقيها.». و أشار إلى كلّ معاون عليها و مساعد فيها ...» «1»

5- و فيه أيضا: «إذا باع العصير و العنب يعمل خمرا كان البيع باطلا، و قال الشافعي: يصحّ. لنا: أنّه عقد على غيره لمعصية اللّه- تعالى- فلا يصحّ كإجارة الأمة

للزنا. احتجّ بأنّ التحريم لا يمنع صحّة العقد كالتدليس في العيب. و الجواب: الفرق أنّ المحرّم في التدليس ليس هو العقد و التحريم هنا للعقد ...» «2»

أقول: نظره في المسألة الأولى إلى الحرمة التكليفيّة و في الثانية إلى بطلان المعاملة. و قد نسب في كلمات المتأخّرين إلى المنتهى دعوى الإجماع في المسألة، مع أنّك ترى أنّه ليس فيه في المسألتين اسم من الإجماع، اللّهم إلّا أن يستنبط ذلك من نحو طرحه لهما و استدلاله لهما و ذكر فقهاء السنّة فقط بعنوان المخالف.

6- و في تجارة التذكرة في عداد التجارات المحرّمة: «و إجارة السفن و المساكن للمحرّمات و بيع العنب ليعمل خمرا، و الخشب ليعمل صنما و آلة قمار.» «3»

7- و في إجارة التذكرة: «لا يجوز الاستيجار على حمل الخمر لمن يشربها و لا من يبيعها، و لا على حمل خنزير و لا ميتة لمن يأكلها. و يجوز الاستيجار على نقل الميتة من الدار إلى المزبلة و الخمر للإراقة، و به قال الشافعي و أحمد

______________________________

(1) المنتهى 2/ 1010، كتاب التجارة، النوع الثاني ما يحرم لتحريم ما قصد به.

(2) نفس المصدر و الصفحة.

(3) التذكرة 1/ 582، كتاب البيع، في بيان ما هو حرام من التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 231

..........

______________________________

و أبو يوسف و محمّد لأنّ هذه منافع محرّمة فلم يجز عقد الإجارة فيها. و قال أبو حنيفة: يجوز لأنّ العمل لا يتعيّن عليه بدليل أنّه لو حمّله مثله جاز. و لأنّه لو قصد إراقته و طرح الميتة جاز ...» «1»

8- و فيها أيضا: «لا يجوز إجارة المسكن ليحرز فيه خمرا لغير التخليل و لا يوجر دكّانا ليبيع فيه آلة محرّمة و لا إجارة أجير

ليحمل له مسكرا يشربه فإن فعل لم تنعقد الإجارة ... و لا يجوز إجارة الدار لمن يتّخذها كنيسة أو بيعة أو يتّخذها لبيع الخمر أو القمار أو يجعلها بيت نار، و به قال الشافعي و أحمد و أبو يوسف و محمّد لأنّ هذه أفعال محرّمة فلا يجوز الاستيجار لها كما لو استأجر امرأة ليزني بها ...» «2»

9- و قد مرّ عن الشرائع في عداد ما يحرم لتحريم ما قصد به: «و إجارة المساكن و السفن للمحرّمات و كبيع العنب ليعمل خمرا و بيع الخشب ليعمل صنما، و يكره بيع ذلك لمن يعملها.» «3»

أقول: قولهم: «ليعمل خمرا» شامل لما إذا اشترطا ذلك في متن العقد أو عقدا مبنيّا عليه أو قصدا ذلك، نعم قوله: «على أن يعمل» لا يشمل الثالث.

10- و ذيّل ذلك في الجواهر بقوله: «لا خلاف أجدها فيها مع التصريح بالشرطيّة أو الاتّفاق عليها على وجه بني العقد عليها. بل عن مجمع البرهان نسبته إلى ظاهر الأصحاب، بل عن المنتهى دعوى الإجماع عليه، كما عن الخلاف و الغنية الإجماع على عدم صحّة إجارة المسكن ليحرز فيه الخمر أو الدكّان ليباع فيه ...» «4»

______________________________

(1) التذكرة 2/ 300، كتاب الإجارة، اشتراط كون المنفعة محلّلة.

(2) نفس المصدر و الصفحة.

(3) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9) كتاب التجارة.

(4) الجواهر 22/ 30، كتاب التجارة، بيع الخشب ليعمل صنما.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 232

..........

______________________________

أقول: مرّ إجماع الخلاف و الغنية و أنّه لم نجد في المنتهى تصريحا به. و لم نجد في مجمع البرهان أيضا ما يدلّ على اتّفاق الأصحاب في المسألة.

11- و في متاجر مفتاح الكرامة: «فقد تحصّل أنّه إذا باع لمن يعمل الصنم أو الخمر، أو آجر

لمن يتعاطى المحرّمات فإمّا أن يشترط البيع لذلك لفظا أو نيّة مع اتّفاقهما على ذلك، أو لا يشترط، و على الثاني فإمّا أن يعلم أنّه لا يعمل هذا العنب بخصوصه خمرا و لا يتعاطى المحرّمات في خصوص هذا البيت أو هذه الدابّة، أو يعلم أو يظنّ، أو لا يعلم و لا يظنّ. و دليل التحريم في الأوّل ظاهر لأنّه إعانة على الإثم و العدوان، مضافا إلى إجماع المنتهى و إجماع إجارة الخلاف و الغنية، بل بديهة العقل تحكم بقبحه و تحريمه، كما أنّ دليل الجواز في الثاني ظاهر أيضا ... و أمّا الثالث و هو ما إذا آجر لمن يعلم أنّه يعمل أو يتعاطى بدون شرط في متن العقد فإمّا أن يقصد بذلك الإعانة على ذلك أولا. فإن قصد فلا ريب في التحريم لأنّه إعانة على الإثم كبيع السلاح لأعداء الدين ... و أمّا إذا لم يقصد الإعانة فظاهر العبارات التي قد سمعتها بأسرها و عبارات باب الإجارة و إن تفاوتت في الظهور عدم التحريم، و هو صريح المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد و إجارة جامع المقاصد و الفاضل الميسي و المولى الخراساني و هو ظاهر النهاية و السرائر في خصوص الخشب لمن يعمله صنما أو صليبا أو نحو ذلك، و قد نسبا ذلك في الكتابين المذكورين إلى رواية أصحابنا إلّا أنّه قال في السرائر: الأولى اجتنابه.» «1»

12- و في مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة: «و بيع العصير ممّن يتّخذه خمرا باطل.» «2»

13- و ذيّله في المغني بقوله: «و جملة ذلك أنّ بيع العصير لمن يعتقد أنّه يتّخذه خمرا محرّم، و كرهه الشافعي. و ذكر بعض أصحابه: أنّ البائع إذا اعتقد أنّه

______________________________

(1)

مفتاح الكرامة 4/ 37.

(2) المغني لابن القدّامة 4/ 283، كتاب البيوع، بيع العصير ممّن يتّخذه خمرا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 233

و يدلّ عليه- مضافا إلى كونها إعانة على الإثم، (1)

______________________________

يعصرها خمرا فهو محرّم و إنّما يكره إذا شكّ فيه. و حكى ابن المنذر عن الحسن و عطاء و الثوري: أنّه لا بأس ببيع التمر لمن يتّخذه مسكرا. قال الثوري: بع الحلال ممّن شئت، و احتج لهم بقول اللّه- تعالى-: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و لأنّ البيع تمّ بأركانه و شروطه. و لنا: قول اللّه- تعالى-: وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ و هذا نهي يقتضي التحريم. و روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله أنّه لعن في الخمر عشرة، فروى ابن عباس أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله أتاه جبرئيل ...» «1»

أقول: ظاهر كلماتهم حرمة البيع لمن يعلم بصرفه في الحرام و إن لم يكن في البين اشتراط و لا تواطؤ و لا قصد.

الاستدلال على حرمة البيع أو الإجارة في المسألة
اشارة

(1) إذا وقفت على ما حكيناه من كلماتهم في المقام فنقول: استدلّوا للمدّعى أعني حرمة المعاملة على الشي ء و فسادها إذا وقعت عليه على أن يصرف في الحرام فقط إمّا باشتراطه في متن العقد أو بوقوعها مبنيّا عليه بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع المدّعى

في إجارة الخلاف و الغنية على ما مرّ، و المصنّف أيضا ادّعى في المتن عدم الإشكال و عدم الخلاف في المسألة.

و فيه: أنّ الإجماع لا موضوعيّة له عندنا و ليس حجّة مستقلّة و إنّما نقول بحجيّته إذا كشف عن قول المعصومين عليهم السّلام و أحرز به كون المسألة متلقّاة عنهم عليهم السّلام. و يحتمل أن يكون الإجماع هنا مدركيّا ناشئا عن الأدلّة الآتية.

و الظاهر أنّ الإجماعات المذكورة في كلمات القدماء من أصحابنا- و لا سيما ما في الخلاف و الغنية- مرجع أكثرها إلى حكاية رأي المعصومين عليهم السّلام على حسب اجتهاد المدّعي و فتواه المستنبطة من الأدلّة. و لذلك ربّما تراهم يدّعون الإجماع

______________________________

(1) نفس المصدر و الصفحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 234

..........

______________________________

في المسائل الخلافيّة بيننا أيضا. و إنّما عبّروا عمّا استنبطوه من الأدلّة بالإجماع مماشاة للعامّة و إلزاما لهم، حيث إنّهم الطرف المخالف في المسألة المطروحة، فيستدلّون في قبالهم برواياتهم و بالإجماع مماشاة.

و يعبّر عن هذا الإجماع بالإجماع على القاعدة. و في الحقيقة الإجماع منعقد على القاعدة الكليّة المسلّمة من حجّية الكتاب و السنّة و القواعد الكليّة المستنبطة منهما لا على خصوص المسألة المطروحة.

الوجه الثاني: كون المعاملة في المقام- بيعا كانت أو إجارة- إعانة على الإثم
اشارة

فتحرم لذلك.

[إجمال معنى الإعانة على الإثم]

أقول: تفصيل معنى الإعانة على الإثم و أقسامها و أحكامها يأتي في كلام المصنّف في ذيل المسألة الثالثة فلنؤخّر البحث التفصيلي فيه، و في المقام نتعرّض له بنحو الإجمال فنقول:

يمكن أن يكون الاستدلال بآية النهي عن التعاون على الإثم و العدوان، و يمكن أن يكون بحكم العقل بقبح إعانة الغير على معصية المولى و مبغوضه، و لذلك نرى القوانين العرفية أيضا متكفّلة لجعل الجزاء على معين الجرم كما مرّ في كلام الأستاذ «ره».

فإن أريد الأوّل ناقش فيه المحقّق الإيرواني في الحاشية «1» أوّلا: بأنّ مؤدّى الآية الحكم التنزيهي لا التحريمي، و ذلك بقرينة مقابلته بالأمر بالإعانة على البرّ و التقوى الذي ليس للإلزام قطعا.

و ثانيا: بأنّ قضيّة باب التفاعل هو الاجتماع على إتيان الإثم و العدوان كأن يجتمعوا على قتل النفوس و نهب الأموال لا إعانة الغير على إتيان المنكر على أن يكون الغير مستقلا في إتيانه و هذا معينا له بإتيان بعض مقدّمات فعله. و بعبارة أخرى: المنهي عنه في الآية هو التعاون على الإثم لا إعانة الغير في إثمه.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 15.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 235

..........

______________________________

و إن أريد الثاني فيرد عليه- على ما في مصباح الفقاهة-: «1» أوّلا: بمنع الكبرى إلّا في موارد خاصّة كما يأتي.

و ثانيا: بمنع الصغرى، فإن المعاملة و لو مع الشرط ليست بنفسها إعانة على الإثم و إنّما الإعانة عليه بالإقباض و التسليط الخارجي على العين و لو بغير عنوان المعاملة مع العلم بصرفها في الحرام، و إن حصل العلم بعد المعاملة و قبل الإقباض. و بعبارة أخرى: بين المعاملة و عنوان الإعانة على الإثم عموم من وجه، و الإعانة على الإثم

لا تصدق إلّا بالإقباض خارجا مع العلم.

و ثالثا: أنّ قبح الإعانة على الإثم و حرمتها لا تقتضي فساد المعاملة وضعا حتّى على فرض دلالة الآية على ذلك لأنّها تكليف محض.

لا يقال: إنّ النهي المتعلّق بالمعاملات ظاهر في الإرشاد إلى فسادها على ما حقّق في محلّه. و لو سلّم ظهوره في المحرّمة التكليفيّة اقتضى الفساد أيضا لدلالته على كون المتعلّق أعني المعاملة مبغوضة للمولى فلا يشملها أدلّة تنفيذ المولى لها إذ تنفيذه لها يكون نقضا لغرضه.

فإنّه يقال: هذا كلّه فيما إذا تعلّق النهي بنفس عنوان المعاملة بذاتها، و في المقام لم يتعلّق بالمعاملة بل بعنوان الإعانة على الإثم، غاية الأمر انطباقها على المعاملة، فيوجب حرمتها تكليفا بما هي إعانة على الحرام.

و رابعا: أنّ تخلّف الشروط الصحيحة إنّما يوجب الخيار للمشروط له لا فساد المعاملة، لأنّ الشروط لا تقابل بجزء من الثمن حتّى يحكم بفساد المعاملة بالنسبة إليها كما في بيع ما يملك و ما لا يملك. و من الواضح أنّ الشروط الفاسدة لا تزيد على الصحيحة في ذلك فلا يسري فساد الشرط إلى العقد. و لو سلّم أنّ للشروط حصّة من الثمن فيقسط عليها و على المشروط فيه، فإنّما هو في الشروط التي تجعل على البائع كأن يشترط المشتري عليه في ضمن العقد خياطة ثوبه أو بناية داره مثلا

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 162.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 236

..........

______________________________

ممّا يوجب زيادة الثمن. و أمّا الشروط التي تجعل على المشتري كأن يشترط البائع عليه صرف المبيع في جهة خاصّة، سواء كانت محرّمة أو محلّلة، فلا تقابل بشي ء من الثمن. و إذن فاشتراط البائع على المشتري صرف المبيع في الحرام لا يوجب فساد المعاملة حتّى على

القول بالتقسيط.

أقول: هنا جهات ينبغي التعرّض لها:

[جهات من البحث]
الأولى:

أنّ الأستاذ الإمام «ره» أورد على ما حكيناه عن المحقّق الإيرواني بما ملخّصه:

«يرد على الأول: أنّ قرينيّة بعض الفقرات لا تسلّم في المقام لأن تناسب الحكم و الموضوع و حكم العقل شاهدان على أنّ النهي هنا للتحريم، مضافا إلى أنّ مقارنة الإثم للعدوان لا تبقي مجالا لحمل النهي على التنزيه ضرورة حرمة العدوان و الظلم كما دلّت عليها الأخبار المستفيضة.

و على الثاني: أن ظاهر مادّة العون عرفا و بنصّ اللغويين: المساعدة على أمر و المعين هو الظهير.

و إنّما يصدق ذلك فيما إذا كان أحد أصيلا في أمر و أعانه عليه غيره. فيكون معنى الآية: لا يكن بعضكم لبعض ظهيرا و معاونا، و معنى تعاون المسلمين: أنّ كلّا منهم يكون معينا لغيره لا أنّهم مجتمعون على أمر.

ففي القاموس: «تعاونوا و اعتونوا: أعان بعضهم بعضا» و نحوه في المنجد.

و كون التعاون فعل الاثنين لا يوجب خروج مادّته عن معناها. فمعنى تعاون زيد و عمرو: أنّ كلا منهما معين للآخر و ظهير له. فإذا هيّأ كلّ منهما مقدّمات عمل الآخر يصدق أنّهما تعاونا.

فالظاهر من الآية عدم جواز إعانة بعضهم بعضا في إثمه و عدوانه. و هو مقتضى ظاهر المادّة و الهيئة. و لو قلنا بصدق التعاون و التعاضد على الاشتراك في عمل فلا شبهة في عدم اختصاصه به.» «1»

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 131- 132 (ط. الجديدة 1/ 197- 198).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 237

..........

______________________________

أقول: ظاهر عبارته الأخيرة يشعر بنحو ترديد له في صدق مفهوم التعاون على الاشتراك في عمل واحد كرفع ثلاثة رجال مثلا حجرا واحدا، مع أنّه القدر المتيقّن منه، إذ الظاهر من اللفظ دخلهما في العمل في

عرض واحد، و هو المتبادر من عبارة القاموس أيضا. و أمّا إعانة أحد للآخر في عمل و إعانة الآخر له في عمل آخر بأن يحصّل كلّ منهما بعض مقدّمات عمل الآخر فإطلاق التعاون عليه لا يخلو من مسامحة.

و إن شئت قلت: إنّ المتبادر من تعاون الشخصين دخلهما في عمل واحد في عرض واحد. و أمّا إعانة الغير فيصدق على عمل كلّ منهما في هذه الصورة و كذا على تحصيل مقدّمات عمل الأصيل، و لا يصدق على الأصيل أنّه أعان هذا، فالإعانة بحسب المورد أعمّ و النهي في الآية تعلّق بالأخصّ فلا تدلّ على حرمة الأعمّ، فتدبّر.

و لكن الذي يسهّل الخطب أنّا لا نحتاج في الحكم بحرمة الإعانة على الإثم إلى التمسّك بالآية الكريمة، لما عرفت من حكم العقل و العقلاء بقبح إعانة الغير في إتيان معصية المولى و مبغوضه.

الجهة الثانية:

أنّ ما ذكره في مصباح الفقاهة: من أن فساد الشرط لا يسري إلى العقد يمكن أن يناقش فيه بما مرّ من الأستاذ «ره» ملخّصا: «من أنّ الخلاف في مسألة الشرط الفاسد إنّما هو في الشروط التي لا يضرّ اشتراطها بقوام المعاملة.

و أمّا الشروط المنافية لماهيتها و قوامها فلا إشكال في مفسديتها لرجوعها إلى التناقض في الجعل و في الإنشاء. و المقام من هذا القبيل إذ العنب بحسب الشرع مسلوب المنفعة من حيث التخمير فإذا استثنى البائع أيضا منافعه المحلّلة بأجمعها رجع ذلك إلى نقل الشي ء مسلوب المنفعة بالكليّة. و اعتبار الماليّة و الملكيّة متوقّف على كون الشي ء ذا منفعة و لو في الجملة، فلو فرض كونه مسلوب المنفعة بالكليّة لم يعتبره

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 238

..........

______________________________

العقلاء لا مالا و لا ملكا، فيكون الشرط

في قوّة البيع بشرط عدم حصول الملكيّة، و هذا النحو من الشرط مناف لمقتضى العقد فيكون مفسدا له.» «1»

و بما ذكرنا يظهر الإشكال فيما حكوه عن أبي حنيفة من صحّة إجارة الدار مثلا للماخور و أنّه يعمل فيها غير ذلك من المنافع المحلّلة، إذ المفروض أنّ الدار بجميع منافعها للموجر و المفروض أنّه لم يملّك للمستأجر منافعها المحلّلة فكيف ينتفع بها هو؟!. هذا.

و لكن يمكن المناقشة في كلام الأستاذ «ره» بأن الشرط المنافي حقيقة هو أن يكون مفاده منافيا لمفاد العقد بالمطابقة، مثل أن يشترط في عقد البيع مثلا عدم حصول ملكيّة المشتري للمبيع أو البائع للثمن، فهذا ما ينافي قوام العقد و ماهيته، و يكون مفسدا له لا محالة، لمناقضته له. و لا يتصوّر الإنشاء الجدّي في مثله.

و في حكمه عرفا ما إذا اشترط نفي آثار الملكيّة بالكليّة بأن يشترط عليه أن لا يتصرّف فيما ملّكه أيّ تصرّف كان و لا ينتفع به أصلا، حيث إنّ الملكيّة- على ما مرّ من الأستاذ- إنّما تعتبر بلحاظ الآثار و المنافع المترقّبة من الشي ء، فنفي جميع الآثار نفي لملزومها أعني الملكيّة عرفا.

و أمّا إذا اشترط عليه عدم بعض التصرّفات و نفي بعض المنافع فهذا لا يعدّ عرفا منافيا لمقتضى العقد و إن كان منافيا لإطلاقه. و نفي الآثار المحلّلة شرعا و إبقاء المحرّمة منها مرخصا فيها لا يجعل الشرط منافيا لمقتضى العقد عند العرف و العقلاء. إذا العرف كما يعتبر المنافع المحلّلة ملاكا للماليّة و الملكيّة يعتبر المنافع المحرّمة الشائعة أيضا ملاكا لهما. فلا يصدق على هذا الشرط أنّه مناف لقوام العقد و ماهيته أو لمقتضاه. نعم يصدق عليه أنّه مخالف للكتاب و السنّة فيكون فساده لذلك

و تصير المسألة من مصاديق أنّ الشرط الفاسد هل يكون مفسدا للعقد أم لا؟

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 116- 117 (ط. الجديدة 1/ 176- 177).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 239

و إلى أنّ الإلزام و الالتزام بصرف المبيع في المنفعة المحرّمة الساقطة في نظر الشارع أكل و إيكال للمال بالباطل- (1) خبر جابر، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام

______________________________

اللّهم إلّا أن يقال بعدم صحّة العقد في المقام لما أوردناه آنفا على أبي حنيفة من أنّ المفروض أنّ المنافع بأجمعها للبائع و المفروض أنّه لم يملّك المحلّلة منها للمشتري بل المحرّمة فقط فإذا فسد الشرط لم يجز له التصرّف في المبيع أصلا، و عدم فساد العقد بفساد الشرط إنّما يتمشّى فيما إذا بقي للمبيع منافع محلّلة يملكها المشتري، فتدبّر.

الجهة الثالثة:

أنّ ما ذكره في مصباح الفقاهة أخيرا: من أنّه على فرض القول بتقسيط الثمن على الشروط فإنّما هو في الشروط التي تجعل على البائع لا في الشروط التي تجعل على المشتري- كما في المقام- و إن كان صحيحا في الجملة، لكنّه عجيب منه «ره» لوضوح أنّ ذكر تقسيط الثمن على الشروط من باب المثال، إذ على فرض القول بالتقسيط فكما يقع حصّة من الثمن بإزاء الشروط التي تجعل على البائع يقسّط المبيع أيضا و تقع حصّة منه بإزاء الشروط التي تجعل على المشتري، فإذا باع العنب الذي قيمته مأئة مثلا بخمسين و اشترط على المشتري أن يجعله خمرا ففي الحقيقة جعل حصّة من العنب بإزاء هذا الشرط.

نعم أصل القول بالتقسيط على الشروط في مقام المعاملة عندنا باطل- كما مرّ- بل الثمن يقع بكلّه في قبال المبيع بكلّه و لا يقسّط على الشروط شي ء من الثمن و

لا الثمن، و لذا لا نقول ببطلان المعاملة عند تخلّف الشرط بالنسبة إلى ما لوحظ في مرحلة التقويم بإزاء الشروط- نظير بيع ما يملك و ما لا يملك- بل نقول بثبوت الخيار بتخلّفها بقبول المعاملة بتمامها أو فسخها بتمامها.

[الوجه الثالث من وجوه المنع أكل المال بالباطل]

(1) أقول: هذا هو الوجه الثالث من وجوه المنع في المقام.

و تقريبه أنّ المفروض أنّ البائع أو الموجر لم يرخّص في الانتفاع بالمنافع المحلّلة بل اشترط الانتفاع بالمحرّمة منها فقط، و هي ساقطة الماليّة عند الشارع، فيكون أخذ الثمن أو الأجرة في قبالها أكلا للمال بالباطل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 240

عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال: «حرام أجرته.» (1)

______________________________

و فيه: أنّه إن كان المراد التمسّك بالآية الشريفة فيرد عليه ما مرّ مرارا من أن الاستدلال بها لأمثال المقام يتوقّف على كون الباء فيها للمقابلة و كونها بصدد بيان شرط العوضين و اعتبار الماليّة فيهما، و لكنّه ممنوع إذ الظاهر أنّ الباء فيها للسببيّة و تكون الآية بصدد النهي عن أكل المال بالأسباب الباطلة نظير السرقة و الرشوة و القمار.

و يشهد لذلك استثناء التجارة عن تراض التي هي من قبيل أسباب النقل، و الأخبار المستفيضة الواردة في تفسير الآية، فراجع الوسائل. «1»

و إن كان المراد أنّه مع تحريم البائع أو الموجر المنافع المحلّلة تصير المعاملة من قبيل المعاملة على ما لا منفعة له أصلا كالحشرات فتكون سفهيّة، فالمسألة تصير من مصاديق النوع الثالث الذي يأتي البحث فيه و أنّه هل تكون المعاملة السفهيّة باطلة أو أنّه لا دليل على ذلك- كما قيل- و إنّما الباطل هو معاملة السفيه، فانتظر.

و في مصباح الفقاهة بعد الجواب الأوّل قال: «و ثانيا: ما عرفته مرارا أيضا من

أنّ الشروط لا تقابل بجزء من الثمن ليلزم من فسادها أكل المال بالباطل و إنّما هي مجرّد التزامات لا يترتّب على مخالفتها إلّا الخيار.» «2»

أقول: ما ذكره إنّما يصحّ فيما إذا لم يوجب الشرط صيرورة المبيع أو العين المستأجرة مسلوب المنفعة بالكليّة. و أمّا إذا أوجب ذلك- كما في المقام- فلا مجال لصحّة العقد بعد ما لم يرخّص المالك إلّا المنفعة المحرّمة فقط. و كيف يتصرّف في مال الغير بدون إذنه و ترخيصه؟!

[الوجه الرابع من وجوه المنع في المقام رواية جابر]

(1) هذا هو الوجه الرابع من وجوه المنع في المقام. و الرواية رواها في الوسائل «3» عن الكليني و الشيخ. و الراوي الأخير في الكافي و الاستبصار:

______________________________

(1) الوسائل 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 163.

(3) الوسائل 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 241

فإنّه إمّا مقيّد بما إذا استأجره لذلك أو يدلّ عليه بالفحوى، بناء على ما سيجي ء من حرمة العقد مع من يعلم أنّه يصرف المعقود عليه في الحرام.

______________________________

«جابر» «1» و كذا في مكاسب التهذيب الطبعة الجديدة منه. و في القديمة منه:

«صابر» «2» و ذكر جابر أيضا بعنوان النسخة، و لكن في المتاجر منه في كلا الطبعين: «صابر». «3»

و يغلب على الظنّ صحّة جابر و كون صابر مصحّفا عنه، و جابر مردّد بين جماعة، فإن أريد به الجعفي كان موثوقا به، و صابر لم يحرز وثاقته.

و كيف كان فالمصنّف استدلّ بالرواية للمقام بحملها على صورة اشتراط الانتفاع المحرّم، أو بدلالتها عليها بالفحوى.

إذ لو حرمت الأجرة مع عدم الاشتراط فحرمتها معه ثابتة بطريق أولى.

و لكن يرد على ذلك أنّ حمل الرواية على صورة اشتراط الانتفاع بالمحرّم

فقط حمل على الفرد النادر، إذ يبعد جدّا اشتراط المسلم ذلك، غاية الأمر كونه ممّن لا يبالي بالحلال و الحرام، و مع عدم الاشتراط و عدم وقوع العقد مبنيّا عليه لا وجه للبطلان. و الملاك في صحّة العقد و فساده ما وقع العقد عليه، بأن وقع في متنه أو وقع مبنيّا عليه، و أمّا الدواعي المقارنة فلا تؤثّر في صحّة العقد و فساده فضلا عن وقوع المحرّمات خارجا بعد تحقّق العقد مطلقا. فمجرّد بيع المستأجر الخمر لا يوجب بطلان الإجارة أو حرمة الأجرة، و إلّا لزمت حرمة أجرة البيوت أو الدكاكين التي يقع فيها الأعمال أو البيوع المحرّمة من غير وقوع العقد مبنيّا عليها و لا يلتزم بذلك أحد.

______________________________

(1) الكافي 5/ 227، كتاب المعيشة، باب جامع فيما يحلّ الشراء و البيع منه و ما لا يحلّ، الحديث 8؛ و الاستبصار 3/ 55.

(2) التهذيب 6/ 371 (ط. القديمة 2/ 111) كتاب المكاسب، الباب 93، الحديث 198.

(3) التهذيب 7/ 134 (ط. القديمة 2/ 154) كتاب التجارات، الباب 9، الحديث 64.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 242

نعم في مصحّحة ابن أذينة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يؤاجر

______________________________

و قال الأستاذ: «المظنون أن يكون «فيباع» مصحّف «ليباع».» «1» و هذا احتمال وجيه و لكن فيه ما مرّ من استبعاد اشتراط المسلم ذلك. و في الكافي و الاستبصار و موضع من التهذيب: «يباع» بدون الفاء و لعلّه ينسبق منه معنى:

«ليباع». «2»

و في مصباح الفقاهة قال: «إنّها محمولة على الكراهة لمعارضتها بحسنة ابن أذينة الدالّة على الجواز.» «3»

و فيه: أنّ حمل لفظ الحرمة على الكراهة في غاية البعد، فالأولى ردّ علم الرواية إلى أهلها مع ضعف سندها

كما مرّ.

و قد مرّ أنّ في صورة الاشتراط تقتضي القاعدة البطلان، إذ المفروض أنّ الشرط فاسد لمخالفته للكتاب و السنّة، و المفروض أنّ الموجر لم يسقط ماليّة ماله و لم يجعله للمستأجر مجانا، فيسري فساد الشرط إلى العقد قهرا فلا نحتاج في إثبات فساده إلى الرواية.

و يشهد للتفصيل بين وقوع العقد مبنيّا عليه و بين غيره ما رواه في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من اكترى دابّة أو سفينة فحمل عليها المكتري خمرا أو خنازير أو ما يحرم لم يكن على صاحب الدابّة شي ء، و إن تعاقدا على حمل ذلك فالعقد فاسد و الكري على ذلك حرام.» «4» إلّا أنّ حجيّة الكتاب غير ثابتة.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 122 (ط. الجديدة 1/ 184).

(2) راجع الكافي 5/ 227؛ و الاستبصار 3/ 55؛ و التهذيب 7/ 134.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 165.

(4) مستدرك الوسائل 2/ 436، الباب 32 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 243

سفينته أو دابّته لمن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير، قال:

«لا بأس.» (1)

و لكنّها محمولة على ما إذا اتفق الحمل من دون أن يؤخذ ركنا أو شرطا في العقد. بناء على أنّ خبر جابر نصّ فيما نحن فيه و ظاهر في هذا عكس الصحيحة فيطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر، فتأمّل.

______________________________

(1) راجع الوسائل، كتاب التجارة. «1»

أقول: الرواية صحيحة أو حسنة، و مضمونها مطابق للقاعدة لما مرّ آنفا من أنّ الملاك في صحّة العقد و فساده ما هو مفاده، أو ما وقع العقد مبنيّا عليه دون الدواعي المقارنة، أو ما يقع خارجا بعد وقوعه بنحو الإطلاق. و الأصحاب أفتوا بصحّة بيع العنب

ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا بلا قصد لذلك، و ورد بذلك روايات مستفيضة كما يأتي و حملوا أخبار المنع على الكراهة، و لا فرق في هذا الباب بين البيع و الإجارة.

و لو سلّم صدق الإعانة على الإثم مع القصد المقارن أو مع العلم مطلقا- كما قيل- و قلنا بحرمة المعاملة لذلك فلا يوجب ذلك فسادها و لا حرمة الأجرة، لما مرّ من أنّ النهي لم يتعلّق بعنوان المعاملة بذاتها بل بعنوان عام وراء ذاتها، غاية الأمر انطباقه عليها في بعض الأحيان فتحرم تكليفا بما هي إعانة. هذا و لكن الظاهر من قوله: «لا بأس» عدم البأس وضعا و تكليفا.

و سيأتي تفصيل بحيث الإعانة في ذيل المسألة الثالثة.

و المصنّف جمع بين الروايتين بحمل رواية جابر على صورة الاشتراط، و الصحيحة على ما إذا اتّفق الحمل خارجا، و قال: إنّ خبر جابر نصّ فيما نحن فيه و ظاهر في صورة الاتفاق عكس الصحيحة فيطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 244

مع أنّه لو سلّم التعارض كفى العمومات المتقدّمة. (1)

و قد يستدلّ أيضا فيما نحن فيه بالأخبار المسؤول فيها عن جواز بيع الخشب ممّن يتّخذه صلبانا أو صنما: مثل مكاتبة ابن أذينة عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلبانا؟ قال: «لا.»

______________________________

و لكن الإنصاف أنّ الموضوع في كليهما- بحسب الظاهر- واحد و ليس فيهما اسم من الاشتراط. و الملاك في الجمع بين الخبرين ظهور ألفاظهما و كون كلّ منهما قرينة عرفيّة للتصرّف في الآخر لا ما هو القدر المتيقّن خارجا بلحاظ الحكم الواقع فيهما بلا شاهد للجمع، فإنّه جمع تبرّعي لا يجوز

بناء الاستدلال عليه.

و في التعبير عن القدر المتيقّن بالنصّ مسامحة واضحة، و لعلّه أشار إلى ما ذكرنا بقوله: فتأمّل.

و ذكر في التهذيب «1» و الاستبصار «2» في الجمع بينهما وجهين:

أحدهما: أن يكون الخبر الأوّل متوجّها إلى من يعلم أنّه يباع فيه الخمر و يوجر على ذلك، و الخبر الثاني متوجّها إلى من يؤاجر دابّته أو سفينته و هو لا يعلم ما يحمل عليها أو فيها.

و الوجه الآخر: أنّه إنّما حرّم إجارته لمن يبيع الخمر لأنّ بيع الخمر حرام، و أجاز إجارة السفينة لمن يحمل فيها الخمر لأنّ حملها ليس بحرام لأنّه لا يجوز أن يحمل ليجعلها خلا.

أقول: خبر ابن أذينة مشتمل على حمل الخنازير أيضا، و لا يجري فيها التوجيه الذي ذكره لحمل الخمر. مضافا إلى أنّ كلا من الوجهين جمع تبرّعي لا شاهد له.

و قد مرّ عدم جواز بناء الاستدلال و الفتوى على ذلك، فتدبّر.

(1) يعني ما مرّ من حرمة الإعانة على الإثم و حرمة أكل المال بالباطل.

______________________________

(1) التهذيب 6/ 372، كتاب المكاسب، الباب 93، ذيل الحديث 199.

(2) الاستبصار 3/ 56، كتاب المكاسب، الباب 30 باب كراهية إجارة البيت لمن يبيع فيه الخمر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 245

و رواية عمرو بن حريث عن التوت أبيعه ممّن يصنع الصليب أو الصنم؟ قال: «لا.» (1)

و فيه: أنّ حمل تلك الأخبار على صورة اشتراط البائع المسلم على المشتري أو تواطئهما على التزام صرف المبيع في الصنم و الصليب بعيد في الغاية.

______________________________

...

[الوجه الخامس للمنع في المقام رواية عمرو بن حريث]

(1) هذا هو الوجه الخامس للمنع في المقام، فراجع الوسائل. «1» و المكاتبة صحيحة و إن كانت بصورة المكاتبة، و رواية عمرو بن حريث أيضا لا بأس بها.

نعم لو كان الراوي عمرو بن جرير

كما في نسخة من الكافي كان مجهولا. «2»

و متن المكاتبة في الوسائل هكذا: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال: «لا بأس به.» و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلبانا؟ قال: «لا.»

فهي مشتملة على مسألتين و الجواب فيهما مختلف.

و في مرآة العقول قال: «و المشهور بين الأصحاب حرمة بيع الخشب ليعمل منه هياكل العبادة و آلات الحرام. و كراهته ممّن يعمل ذلك إذا لم يذكر أنّه يشتريه له، فالخبر محمول على ما إذا لم يذكر أنّه يشتريه لذلك فالنهي الأخير محمول على الكراهة. و حمل الأوّل على عدم الذكر و الثاني على الذكر بعيد. و ربّما يفرّق بينهما بجواز التقيّة في الأوّل لكونها ممّا يعمل لسلاطين الجور في بلاد الإسلام دون الثاني.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 1 و 2.

(2) الكافي 5/ 227، كتاب المعيشة، باب جامع فيما يحلّ الشراء و البيع منه و ما لا يحلّ، الحديث 5.

(3) مرآة العقول 19/ 265، كتاب المعيشة، باب جامع فيما يحل الشراء و البيع منه و ما لا يحل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 246

و الفرق بين مؤاجرة البيت لبيع الخمر فيه و بيع الخشب على أن يعمل صليبا أو صنما لا يكاد يخفى. (1)

فإنّ بيع الخمر في مكان و صيرورته دكانا لذلك منفعة عرفيّة يقع الإجارة عليها من المسلم كثيرا كما يوجرون البيوت لسائر المحرّمات.

بخلاف جعل العنب خمرا و الخشب صليبا فإنّه لا غرض للمسلم في ذلك غالبا يقصده في بيع عنبه أو خشبه فلا يحمل عليه موارد السؤال.

______________________________

أقول: و قد مرّ منّا إمكان الفرق

بينهما بأنّ فساد هياكل العبادة أكثر بمراتب، فيحرم البيع لها و لو مع عدم الذكر في العقد و عدم التواطؤ. بل في الأمور المهمّة الظنّ و الاحتمال أيضا منجّزان فضلا عن العلم.

(1) لمّا حمل «ره» رواية جابر على صورة الاشتراط أراد بيان أنّ هذا الحمل لا يجري في بيع العنب و الخشب، فإنّه لا غرض للمسلم في ذلك فلا يحمل عليه مورد السؤال في الروايتين.

أقول: ما ذكره في المقام صحيح، و نحن ناقشنا في باب الإجارة أيضا، إذ لا داعي للمسلم إلى الإجارة بشرط الحرام أيضا، غاية الأمر أنّه لا يبالي بالحلال و الحرام، و غرضه الأجرة كيف ما حصلت.

و بالجملة فما ذكره من الفرق بين المسألتين قابل للمناقشة. و ظاهر الخبرين أيضا كون موردهما صورة العلم فقط من دون شرط أو قصد من البائع لخصوص الحرام، فلا مجال للاستدلال بهما للمقام.

لا يقال: إذا فرض الحرمة و الفساد في صورة عدم الاشتراط ففي صورة الاشتراط يثبتان بطريق أولى.

فإنّه يقال: نعم و لكن الأولويّة ثابتة في مورد السؤال أعني صنع هياكل العبادة، و لا تسري منها إلى مسألة بيع العنب لصنعه خمرا التي هي دونها في الأهميّة، إذ

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 247

نعم لو قيل في المسألة الآتية بحرمة بيع الخشب ممّن يعلم أنّه يعمله صنما لظاهر هذه الأخبار صحّ الاستدلال بفحواها على ما نحن فيه.

لكن ظاهر هذه الأخبار معارض بمثله أو بأصرح منه كما سيجي ء. (1)

______________________________

من المحتمل اهتمام الشارع بمسألة هياكل العبادة المبتدعة المرتبطة بمسألة التوحيد و الأمور الاعتقاديّة بحيث يحرّم تحصيل مقدّمات صنعها و لو مع عدم الاشتراط أيضا. و هذا بخلاف مسألة صنع الخمر أو آلات اللهو، و لذا فرّق

في المكاتبة بين الأمرين. و بذلك يظهر الإشكال في الاستدراك الذي ذكره المصنّف بقوله: «نعم لو قيل ...» إذ البحث هنا في مسألة بيع العنب. و لا يجوز إلقاء الخصوصيّة من بيع الخشب ممّن يعمله صنما و إسراء حكمه إلى مسألة بيع العنب لمن يعمله خمرا لاحتمال الخصوصيّة لمورد النصّ كما مرّ وجهه.

(1) أخبار الجواز الآتية واردة في العنب و العصير لا في بيع الخشب لهياكل العبادة.

الوجه السادس من وجوه المنع في المقام: ما ذكره في المستند،

فإنّه بعد التمسّك للمسألة بالإجماع و عدم الخلاف قال: «مع كونه بنفسه فعلا محرّما لما بيّنا في موضعه: أنّ فعل المباح بقصد التوصّل به إلى الحرام محرّم.» «1»

أقول: نظره «ره» إلى الحرمة من جهة المقدميّة للحرام. و لو صحّ ما ذكره من حرمة المعاملة حينئذ تكليفا أمكن إثبات فسادها أيضا بما مرّ من اقتضائها له لدلالتها على كونها مبغوضة للمولى فلا تشملها أدلّة تنفيذها لكونه نقضا للغرض. إلّا أن يقال: إنّ هذا صحيح إن تعلّق النهي بذات المعاملة و في المقام لم يتعلّق بذاتها بل بعنوان المقدّميّة للحرام.

و كيف كان، فيرد على ما ذكره أوّلا: أنّ كون مقدّمة الحرام حراما بنفسها قابل للمناقشة، إذ لازمه كون الفاعل مرتكبا لمحرّمات كثيرة و مستحقّا لعقوبات متعدّدة بعدد المقدّمات مع ذيها، و لا يلتزم بذلك أحد.

______________________________

(1) مستند الشيعة 2/ 336، في المكاسب المحرّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 248

..........

______________________________

بل الظاهر أنّ المحرّم الشرعي نفس ذي المقدّمة بسبب تعلّق النهي الأصلي به و اشتماله على المفسدة الملزمة. و أمّا ارتكاب المقدّمة بقصد التوصّل بها إليه فهو نحو تجرّ على المولى يحكم العقل بقبحه و إن لم يحصل ذوها.

و لا يترتب عليها مفسدة وراء مفسدته الباعثة على تحريمه و لم يتعلق بها

نهي مولوي مستقلّ، و لو فرض تعلّق النهي بها صورة فهو تأكيد للنهي المتعلّق بذيها.

و كذلك الأمر بمقدّمة الواجب: فقول المولى لعبده: ادخل السوق و اشتر اللحم مثلا يرجعان إلى أمر واحد بملاك واحد و هو ملاك ذي المقدّمة، و الأمر بالمقدّمة تأكيد لأمر ذيها.

و بعبارة أخرى: الأوامر و النواهي من المولى الحكيم ليست جزافيّة بل تكون تابعة للمصالح و المفاسد النفس الأمريّة، و هي ثابتة في الواجب و الحرام الأصليّين، و البعث و الزجر متوجّهان إليهما، و أمّا الأوامر و النواهي المتعلّقة بالمقدّمات فهي للإرشاد إلى مقدميّة ما تعلّقا به، و كونها في طريق المبعوث إليه أو المزجور عنه.

فإن قلت: إنّ استحقاق و الذّم و العقاب ليس لتفويت المصلحة أو إيجاد المفسدة فقط، بل نفس الطغيان على المولى و الجرأة عليه و الخروج عن رسم العبوديّة تكون سببا لاستحقاقهما عند العقلاء و لو فرض خلوّ المتعلّق عن المصلحة أو المفسدة، بل لعلّ المهمّ عندهم- في روابط الموالي و العبيد- هي حيثيّة الإطاعة و الانقياد أو العصيان و التجرّي. و العصيان و التجري يشتركان في هذا الملاك عندهم كما يشترك الإطاعة و الانقياد. و قد سلّمت أنّ الإتيان بمقدّمة الحرام بقصد التوصل بها إلى الحرام يعدّ تجرّيا بحكم العقل بقبحها فلا محالة يحكم الشرع بحرمتها.

قلت: العقل و إن حكم بقبح العصيان و التجري كما يحكم بحسن الإطاعة و الانقياد لكن العناوين المتأخرة عن الأمر و النهي المنتزعة بلحاظهما لا يلحقها حكم شرعي مولوي و إلّا لتسلسل، فلو سلّم تعلّق الأمر و النهي بها في الكتاب و السنّة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 249

..........

______________________________

لم يكونا إلّا للإرشاد إلى حكم العقل كما حقّق في محلّه.

و قولهم: «ما حكم به العقل حكم به الشرع» إنّما يجري في حكمه الواقع في علل الأحكام، أعني المصالح و المفاسد لا في العناوين المتأخرة عن الأحكام.

و ثانيا: أنّ حرمة المقدّمة- على فرض تسليمها- إنّما هي في المقدّمات التي لا تنفكّ عن ذيها و يترتّب عليها الحرام قهرا بلا وساطة اختيار و إرادة أو غيرهما بينهما، نظير المقدّمات التوليديّة، كحركة اليد لحركة المفتاح، أو المقدّمة الأخيرة من المقدّمات الإعداديّة. و أمّا ما يتوسّط بينها و بين ذيها وسائط من الإرادة من موجدها أو من غيره أو مقدّمات أخر فلا نسلّم حرمتها، و لا وجه لها بعد عدم ترتّب الحرام عليها قهرا، و ما نحن فيه من هذا القبيل، إذ نفس الاشتراط لا يكون علّة تامّة لوجود الشرط و لا يوجب وقوعه خارجا. و إنما يقع بتوسط اختيار المشروط عليه و إرادته، فتدبّر.

الوجه السابع مما يمكن أن يستدلّ به للمنع في المقام: ما روي من طرق الفريقين من لعن الخمر و كلّ من يرتبط بها

حتى الغارس و الحارس و العاصر:

ففي حديث المناهي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه.» «1»

و في خبر جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في الخمر عشرة:

غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها.» «2»

و في رواية عبد اللّه بن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «أنّ اللّه لعن الخمر و عاصرها و معتصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشربها و آكل ثمنها.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 165،

الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(3) سنن البيهقي 8/ 287، كتاب الأشربة، باب ما جاء في تحريم الخمر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 250

..........

______________________________

و بإلقاء الخصوصيّة عن الطوائف المذكورة في هذه الأخبار عرفا يستفاد منها أنّ كلّ معاون و مساعد على الخمر بنحو من الأنحاء و كلّ من يرتبط بها يكون ملعونا من قبل اللّه- تعالى- و رسوله. و ليس بائع العنب بقصد التخمير بأهون ذنبا من غارس شجرته أو حارسه أو عاصره، فيكشف اللعن عن حرمة المعاملة و عدم شمول أدلّة التنفيذ لها. هذا.

و لكن إلقاء خصوصيّة الخمر و التعدّي عنها إلى كلّ محرّم شرعي مشكل، اللّهم إلّا أن يكون أشدّ من الخمر كعمل الصلبان و الأصنام مثلا، إذ يعلم من الروايات المستفيضة بل المتواترة اهتمام الشارع المقدّس بمسألة الخمر حتّى شرّع حرمة المعاملة عليها وضعا و تكليفا كما صنع ذلك في الربا أيضا.

الوجه الثامن للمنع في المقام [دفع المنكر كرفعه واجب]

: ما يأتي من المصنّف- في بيع العنب ممّن يعلم بصنعه خمرا- من أنّ دفع المنكر كرفعه واجب، و لا يتمّ إلّا بترك البيع فيجب.

و ناقش ذلك في مصباح الفقاهة بقوله: «و فيه: أنّا لو استفدنا من الأدلّة وجوب النهي عن المنكر لدفعه لأمكن الالتزام بوجوب النهي عنه لرفعه بالفحوى، و أمّا العكس فلا.

و لو أغمضنا عن ذلك فهو إنّما يتمّ إذا علم البائع بأنّ المشتري يصرف المبيع في الحرام على حسب الاشتراط و إلّا فلا مقتضي للوجوب، على أنّ مقتضاه إنّما هو مجرّد التكليف، و النهي التكليفي في المعاملات لا يقتضي الفساد.» «1»

أقول: ما ذكره «ره» مشتمل على ثلاث مناقشات.

و يمكن أن يجاب عمّا ذكره أوّلا بما بيّنه و

قرّره الأستاذ «ره» بالتفصيل و ملخّصه: «أنّ دفع المنكر كرفعه واجب بناء على أنّ وجوب النهي عن المنكر عقليّ- كما صرّح به شيخنا الأعظم و حكى عن شيخ الطائفة و بعض كتب العلّامة و عن

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 163.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 251

..........

______________________________

الشهيدين و الفاضل المقداد- و هو الحقّ لاستقلال العقل بوجوب منع تحقّق معصية المولى و مبغوضه و قبح التواني عنه، سواء في ذلك التوصّل إلى النهي أو الأمور الأخر الممكنة. فكما تسالموا ظاهرا على وجوب المنع من تحقّق ما هو مبغوض الوجود في الخارج مطلقا كما إذا همّ حيوان مثلا بإراقة شي ء يكون إراقته مبغوضة للمولى و رأى العبد ذلك، كذلك يجب المنع من تحقّق ما هو مبغوض صدوره من مكلّف، فإنّ المناط في كليهما واحد و هو تحقّق المبغوض.

فإن قلت: على هذا لا يمكن تجويز الشارع ترك النهي عن المنكر.

قلت: هو كذلك لو كان المبغوض فعليّا و لم يكن للنهي مفسدة غالبة. فلو ورد منه تجويز الترك يكشف عن مفسدة في النهي أو مصلحة في تركه.

ثمّ إنّ العقل لا يفرّق بين الرفع و الدفع، بل لا معنى لوجوب الرفع في نظر العقل، فإن ما وقع لا ينقلب عمّا هو عليه. فالواجب عقلا هو المنع عن وقوع المبغوض سواء اشتغل به الفاعل أو همّ بالاشتغال به، أو علم كونه بصدده و كان في معرض التحقّق. و لو بنينا على أنّ وجوب النهي عن المنكر شرعي فلا ينبغي الإشكال في شمول الأدلّة للدفع أيضا لو لم نقل بأنّ الواجب هو الدفع، بل يرجع الرفع حقيقة إليه، فإنّ النهي عبارة عن الزجر عن إتيان المنكر و هو لا يتعلّق بالموجود إلّا

باعتبار ما لم يوجد، فإنّ الزجر عن إيجاد الموجود محال عقلا و عرفا.

فإطلاق أدلّة النهي عن المنكر شامل للزجر عن أصل التحقّق و عن استمراره. بل لو فرض عدم إطلاق فيها من هذه الجهة و كان مصبّها النهي عن المنكر بعد اشتغال الفاعل به، فلا شبهة في إلقاء العرف خصوصيّة التحقّق بمناسبات الحكم و الموضوع.» «1»

أقول: قد تحصل من كلامه «ره» عدم الفرق في المقام بين الرفع و الدفع، بل مرجع الرفع أيضا إلى دفع المنكر بحسب وجوده البقائي.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «ره» 1/ 136 (ط. الجديدة 1/ 203- 206).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 252

ثمّ إنّه يلحق بما ذكر من بيع العنب و الخشب على أن يعملا خمرا أو صليبا بيع كلّ ذي منفعة محلّلة على أن يصرف في الحرام لأن حصر الانتفاع بالمبيع في الحرام يوجب كون أكل الثمن بإزائه أكلا للمال بالباطل. (1)

ثمّ إنّه لا فرق بين ذكر الشرط المذكور في متن العقد و بين التواطؤ عليه خارج العقد و وقوع العقد عليه. و لو كان فرق فإنّما هو في لزوم الشرط و عدمه لا فيما هو مناط الحكم هنا. (2)

______________________________

و أمّا ما ذكره في مصباح الفقاهة ثانيا فهو صحيح. و كذا ما ذكره ثالثا، إذ المفروض أنّ النهي لم يتعلّق بذات المعاملة، بل ليس في المقام نهي، و إنّما صدر من الشارع أمر متعلّق بطبيعة النهي عن المنكر غاية الأمر انطباقه عليها في المورد فلا يقتضي فسادها.

و أمّا إذا فرض تعلّق نهي المولى بذات المعاملة فهو إمّا أن يكون للإرشاد إلى فسادها كما هو الغالب أو يقتضي ذلك لما مرّ من أنّ الدليل إذا دلّ على مبغوضيّة ذات المعاملة

للمولى فلا يشملها أدلّة تنفيذها لكونه نقضا لغرضه، فتدبّر.

حرمة بيع كلّ ذي منفعة محلّلة على أن يصرف في الحرام

(1) لما مرّ من أنّ ماليّة الأشياء بمنافعها المترقّبة منها، و المفروض في المقام أنّ المحلّلة منها ساقطة بحسب اشتراط البائع. و المحرّمة ساقطة بحكم الشارع، فيصير الشي ء في قوّة ما لا منفعة له أصلا و يكون أخذ الثمن بإزائه أكلا للمال بالباطل.

و قد مرّ توضيح ذلك و الجواب عنه، فراجع. «1»

(2) هل وجوب الوفاء يختص بالشرط الواقع في متن العقد اللازم أو يعمّ الشروط الابتدائيّة أيضا؟ فيه كلام يأتي في باب الشروط.

______________________________

(1) راجع ص 239 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 253

و من ذلك يظهر أنه لا يبنى فساد هذا العقد على كون الشرط الفاسد مفسدا بل الأظهر فساده و إن لم نقل بإفساد الشرط الفاسد لما عرفت من رجوعه في الحقيقة إلى أكل المال في مقابل المنفعة المحرّمة. (1)

و قد تقدّم الحكم بفساد المعاوضة على آلات المحرّم مع كون موادّها مشتملة على منافع محلّلة مع أن الجزء أقبل للتفكيك بينه و بين الجزء الآخر من الشرط و المشروط. (2) و سيجي ء أيضا في المسألة الآتية ما يؤيّد هذا أيضا إن شاء اللّه.

______________________________

و يمكن أن يقال في المقام: إنّ ذكرها قبل العقد و بناء العقد عليها بمنزلة ذكرها فيه عند العرف و العقلاء، و عليه استقرّت سيرتهم، و ليست من قبيل الابتدائيّة المحضة. فلو سلّم عدم لزوم الوفاء في الشروط الابتدائيّة المحضة فلا نسلّم عدم لزومه فيما وقع العقد مبنيّا عليها، لالتزام العقلاء بالأخذ بها و ذمّ الناقض لها.

(1) غرضه «ره» ما مرّ من أنّ مسألة إفساد الشرط الفاسد و عدم إفساده للعقد إنّما هي فيما إذ لم يضرّ الشرط بقوام العقد

و ماهيته، و في المقام يضرّ بماهيته و قوامه إذ يوجب عدم ماليّة المبيع فيكون من قبيل أكل المال بالباطل، فتدبّر.

(2) أراد بذلك دفع إشكال مقدّر، و هو أنّه على فرض كون الشرط فاسدا فلم يحكم بفساد المعاملة من رأس و لا يحكم بصحة العقد و تقسيط الثمن نظير بيع ما يملك و ما لا يملك؟ فأجاب المصنّف عن ذلك بأنّه قد مرّ في بيع الآلات المحرّمة التي اشتملت موادّها على منافع محلّلة: «1» أنّ المعاملة فاسدة من رأس و لم نقل بصحّتها بالنسبة إلى الموادّ و تقسيط الثمن على المادّة و الهيئة مع كون كلّ منهما جزء للشي ء المحرّم فإذا لم نقل بالتقسيط بين الأجزاء فلا مجال لأن نلتزم به بين المشروط و الشرط مع أن الجزء أقبل للتفكيك.

______________________________

(1) راجع ص 156 و ما بعدها من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 254

..........

______________________________

أقول: ما ذكره من المقايسة و الحكم بالأولويّة قابل للمناقشة، إذ ما يقبل التفكيك هي الأجزاء الخارجيّة المنفكّ كلّ منها عن الأجزاء الأخر، كبيع الشاة مع الخنزير مثلا بحيث يرجع إلى بيعين، و أمّا المادّة و الهيئة فهما موجودتان بوجود واحد، و الجزئية بتحليل العقل فقط، و في مثله لا مجال لاحتمال التقسيط.

و حيث إنّ الملحوظ في الآلات المحرّمة هي الهيئة، فالثمن يقع بإزائها قهرا و يعدّ المادّة في هذا اللحاظ مستهلكة، و لذا قلنا بفساد المعاملة فيها، و إنّ كانت للمادّة قيمة، و أمّا الشرط فهو التزام في التزام، فهما أقبل للتفكيك من الأجزاء التحليلية. و لكن مع ذلك كلّه نحكم بكون الثمن بتمامه بإزاء المشروط فقط لا بإزائهما حتى يتوهّم التقسيط، سواء كان الشرط صحيحا أو فاسدا. غاية

الأمر أنّ تخلف الشرط يوجب الخيار كما مرّ بيانه.

نعم لو كان الشرط مخالفا لمقتضى العقد بحيث رجع إنشاؤها إلى إنشاء المتناقضين فسد العقد قهرا، و إن لم يكن الشرط فاسدا، مثل أن يقول: بعتك هذا بشرط أن لا يصير ملكا لك أولا يكون لك الانتفاع منه أصلا.

فذلكة البحث:

قد كان البحث في المسألة الأولى في المقام فيما إذا باع أو آجر الشي ء المشتمل على المنافع المحلّلة و المحرّمة بشرط أن لا ينتفع إلّا بالمحرّمة منها، و قد ادّعى المصنّف حرمة المعاملة و فسادها. و قد أقمنا لذلك ثمانية وجوه ناقشنا في أكثرها، و مع ذلك يشكل القول بالجواز و الصحّة مع تسالم الأصحاب و ادعائهم الإجماع و عدم الخلاف على المنع.

و لو قلنا في المسألة الآتية أعني بيع الجارية المغنّية بالحرمة و الفساد بمقتضى الأخبار الواردة فيها كما يأتي فثبوتهما في المقام أولى. حيث إن الجارية المغنّية

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 255

..........

______________________________

تشتمل على المنافع المحلّلة أيضا و لم يسقطها البائع، فإذا فرض الحرمة و الفساد فيها بسبب لحاظ غنائها ففي المقام الذي أسقط البائع جميع المنافع المحلّلة و أسقط الشارع المنفعة المحرّمة يكون المحرمة و الفساد أوضح. إذ المبيع حينئذ يصير في قوّة ما لا منفعة له أصلا كما مرّ. «1»

و لا فرق فيما ذكرناه في المسألة بين البيع و الإجارة، بل الفساد في الإجارة أوضح إذ يمكن أن يقال في البيع: إنّه عبارة عن تمليك العين لا المنافع، و المفروض أنّ البائع قصد تمليك العين حقيقة، غاية الأمر أنّه استثنى منافعها المحلّلة، فقوام البيع متحقّق، و الشرط فاسد لا يسري فساده إلى العقد.

و أمّا الإجارة فهي في الحقيقة تمليك للمنافع، و المفروض

أنّ البائع استثنى المحلّلة منها و الشارع أسقط المحرّمة منها، فيصير الشرط مخالفا لمقتضى العقد و قوامه، و قد صرّح في رواية جابر المتقدّمة بحرمة الأجرة الدالّة على فساد الإجارة قهرا، و القدر المتيقّن منها صورة الاشتراط كما مرّ. و لا فرق في ذلك بين إجارة الأشياء كالبيت و السفينة و نحوهما للانتفاعات المحرّمة و بين إجارة الشخص نفسه للأعمال المحرّمة كالغناء و القمار و تعليمهما و تعليم فنون الفساد، فتدبّر.

______________________________

(1) راجع ص 239 و 252 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 257

[المسألة الثانية: أن تكون المنفعة المحرمة جزء الموضوع كبيع الجارية المغنية ...]
اشارة

المسألة الثانية: يحرم المعاوضة على الجارية المغنّية و كلّ عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام إذا قصد منها ذلك و قصد اعتباره في البيع على وجه يكون دخيلا في زيادة الثمن كالعبد الماهر في القمار أو اللهو و السّرقة إذا لوحظ فيه هذه الصفة و بذل بإزائها شي ء من الثمن لا ما كان على وجه الداعي. (1)

المسألة الثانية:

أن تكون المنفعة المحرمة جزء الموضوع كبيع الجارية المغنية ...

[صور المسألة]

______________________________

(1) قد مرّ أنّ بيع ما يشتمل على المنافع المحلّلة و المحرّمة معا للمحرمة منها له أربع صور: «1»

الأولى: أن يشترط المنفعة المحرّمة فقط في متن العقد أو يبني عليها بحيث تكون تمام الموضوع و يبذل الثمن بإزائها فقط، كبيع العنب بشرط أن يعمله خمرا.

الثانية: أن تكون المنفعة المحرّمة جزء الموضوع بحيث يبذل بعض الثمن بإزائها كبيع الجارية المغنية بوصف غنائها بحيث يقع بعض الثمن بإزاء وصفها.

الثالثة: أن تقع المعاملة بقصد الحرام بحيث يكون الحرام هو الداعي على المعاملة

______________________________

(1) راجع ص 219 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 258

..........

______________________________

من دون أن يؤخذ شرطا، كبيع العنب بداعي تخميره.

الرابعة: أن يعلم بترتّب المنفعة المحرّمة من دون قصد لها أصلا، كبيع العنب ممن يعلم بأنّه يصنعه خمرا.

و قد وقع البحث عن الصورة الأولى في المسألة الأولى بالتفصيل، و الآن و صلت النوبة إلى البحث عن الصورة الثانية في هذه المسألة.

و يظهر من المصنّف تقسيم الصفة التي قد يقصد منها الحرام إلى خمسة أقسام:

الأوّل: أن تكون دخيلة في زيادة الثمن و بذل بإزائها شي ء منه.

الثاني: أن تكون دخيلة في زيادته و لكن بنحو الداعي من دون أن يبذل بعض الثمن بإزائها.

الثالث: أن لا تكون دخيلة في زيادته

و لا تلاحظ أصلا.

الرابع: أن تلحظ الصفة من حيث إنّها صفة كمال قد تصرف في المحلّل، و كانت هذه المنفعة المحلّلة ممّا يعتدّ بها العقلاء في التقويم، فيزاد لأجلها الثمن، كتغنّي الجارية المغنّية لزفّ العرائس إذا كان بحيث يرغب فيها لذلك.

الخامس: هذه الصورة مع كون المنفعة المحلّلة نادرة لا يعتدّ بها عندهم.

و يظهر من الأستاذ الإمام «ره» تسديس الأقسام:

الأوّل: أن تقصد المعاوضة على العين الموصوفة مع لحاظ زيادة القيمة لأجل الصفة.

الثاني: أن تقصد المعاوضة على الموصوفة بلا لحاظ زيادة القيمة لأجل الصفة.

الثالث: أن تلاحظ الصفة من جهة أنّها صفة كمال، فتزاد لأجلها القيمة من غير نظر إلى عملها الخارجي.

الرابع: هذه الصورة بلا ازدياد القيمة لأجلها.

الخامس: أن تلاحظ الصفة من حيث إنّها صفة كمال يستفاد منها الحلال مع كون المنفعة المحلّلة شائعة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 259

..........

______________________________

السّادس: هذه الصورة مع كونها نادرة. «1»

[بعض الكلمات في المسألة]

إذا عرفت ذلك فلنتعرض لبعض الكلمات في المسألة لزيادة البصيرة:

1- قال الشيخ في شهادات المبسوط: «فالغناء عندنا محرّم يفسّق فاعله و تردّ شهادته، و قال بعضهم: هو مكروه. فأمّا ثمن المغنّيات فليس بحرام إجماعا، لأنّها تصلح لغير الغناء من الاستمتاع بها و خدمتها.» «2»

2- و في شهادات السرائر: «الغناء من الصوت ممدود و من المال مقصور، فإذا ثبت هذا فالغناء عندنا محرّم يفسّق فاعله و تردّ شهادته. فأمّا ثمن المغنّيات فليس بحرام إجماعا لأنّها تصلح لغير الغناء.» «3»

3- و قال العلّامة في التذكرة: «أمّا الجارية المغنّية إذا بيعت بأكثر ممّا يرغب فيها لو لا الغناء فالوجه التحريم و به قال أحمد و الشافعي في أحد الوجوه لقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله: «لا يجوز بيع المغنّيات و لا أثمانهنّ و

لا كسبهنّ.» و سئل الصادق عليه السّلام عن بيع الجواري المغنّيات فقال: «شراؤهنّ و بيعهنّ حرام و تعليمهنّ كفر و استماعهنّ نفاق.» و لأنّه بذل للمعصية. و الثاني: تبطل إن قصد الغناء و إلّا فلا. و الثالث و هو القياس: يصحّ. و لو بيعت على أنّها ساذجة صحّ.» «4»

4- و قال في المنتهى: «الغناء عندنا حرام و أجرة المغنّية حرام: روى الجمهور عن أبي أمامة عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يجوز بيع المغنّيات و لا أثمانهنّ و لا كسبهنّ.» و هذا يحمل على بيعهن. و أمّا ماليتهنّ الخاصّة لغير الغناء

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 123 (ط. الجديدة 1/ 185).

(2) المبسوط 8/ 223، فصل فيمن تقبل شهادته و من لا تقبل.

(3) السرائر 2/ 120.

(4) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، في شرائط العوضين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 260

..........

______________________________

فلا تبطل. كما أنّ العصير لا يحرم بيعه لغير الخمر لصلاحيّة الخمر ...» «1»

5- و قال في نهاية الإحكام: «و يجوز بيع الجارية المغنّية و إن كان الغناء أكثر منافعها إذ لا تخرج بهذه الصنعة عن الماليّة. و لو كانت تساوي ألفا و باعتبار الغناء تساوي ألفين فاشتراها بألفين و لو لا الغناء لم تطلب إلّا بألف فالوجه الصحّة. أمّا لو اشتراها بشرط الغناء المحرّم بطل.» «2»

أقول: لعلّه أراد بالشرط اشتراط وقوع الغناء خارجا فيكون شرطا محرّما أو صورة عدم الانتفاع بها إلّا في المحرّم كبيع العنب بشرط التخمير.

6- و في مجمع الفائدة: «ثمّ إنّ الظاهر أنّ المنع من بيع المغنّية للتغنّي مع العلم، و يمكن المنع مع الظنّ الغالب المتاخم للعلم كذلك لا مطلقا فإنّ لها منافع غير الغناء، و يؤيّده جواز

بيع العنب لمن يعمل خمرا كما تقدّم. و الاجتناب مطلقا أولى و أحوط». «3»

7- و في مفتاح الكرامة بعد المنع عن بيع أواني الذهب و الفضّة مطلقا قال:

«و ممّا ذكر يعلم الحال في الجارية المغنّية و بيعها بأكثر ممّا يرغب فيها لو لا الغناء.

و قال عليه السّلام: «المغنّية ملعونة و من آواها ملعون و من أكل كسبها ملعون» إلى غير ذلك من الأخبار المتظافرة و فيها: إلّا أن يمنعها منه.» «4»

أقول: سيأتي نقل الأخبار المستفيضة الواردة من طرق الفريقين الدالّة على حرمة بيع المغنّية. و كان المترقّب ذكر مضمونها في كتب القدماء من أصحابنا المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام و مضامين الأخبار الواردة. و مع ذلك لم أعثر في هذه الكتب على المسألة نفيا و إثباتا، فهل كانت هذه الأخبار معرضا عنها عندهم أو لم تكن دلالتها على الحرمة و الفساد عندهم واضحة.

______________________________

(1) المنتهى 2/ 1011، كتاب التجارة، النوع الثالث ما هو محرّم في نفسه.

(2) نهاية الإحكام 2/ 467، كتاب البيع، الفصل الثالث ما يشترط في المعقود عليه.

(3) مجمع الفائدة 8/ 63، أقسام التجارة و أحكامها.

(4) مفتاح الكرامة 4/ 33، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 261

[الدليل على الحرمة بحسب القواعد]

و يدلّ عليه: أنّ بذل الشي ء من الثمن بملاحظة الصفة المحرّمة أكل للمال بالباطل. و التفكيك بين القيد و المقيّد بصحّة العقد في المقيّد و بطلانه في القيد بما قابله من الثمن غير معروف عرفا لأنّ القيد أمر معنوي لا يوزّع عليه شي ء من المال و إن كان يبذل المال بملاحظة وجوده و غير واقع شرعا على ما اشتهر من أنّ الثمن لا يوزّع على الشروط فتعيّن بطلان العقد رأسا. (1)

______________________________

(1) لا يخفى

أنّ البحث في المسألة تارة بلحاظ القواعد العامّة و أخرى بلحاظ الأخبار الخاصّة الواردة فيها:

أمّا الأوّل فمحصّل الكلام: أنّ الصفة التي قد تقصد منها الحرام كتغنّي الجارية و مهارة العبد في القمار و نحوهما لها صور:

الأولى: أن تكون دخيلة في ازدياد الثمن و بذلت بإزائها حصّة منه، فالمعاملة- عند المصنّف- باطلة رأسا إذ أمرها يدور بين ثلاث: بطلان العقد رأسا، و صحّته كذلك، و التفكيك بين المقيّد و قيده بصحّة العقد في المقيد و بطلانه في قيده- نظير بيع ما يملك و ما لا يملك كالشاة و الخنزير- و الأخيران باطلان إذ أخذ الثمن بإزاء الصفة المحرّمة أكل للمال بالباطل. و التفكيك بين المقيّد و القيد باطل عرفا و شرعا، فتعيّن الأوّل أعني بطلان العقد رأسا.

الثانية: أن تلحظ بنحو الداعي لإيقاع العقد على العين الخاصّة من دون اشتراط في العقد و لا بنائه عليها و لا بذل الثمن بإزائها بحيث لو فرض عدم الوصف واقعا لم يثبت خيار في البين و إن فرض كون توهّم الصفة داعيا على الشراء.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 261

و القاعدة تقتضي صحّة العقد بتمام الثمن من دون خيار و لو مع التخلّف، إذ الدواعي المقارنة الخارجة عن مفاد العقد لا تؤثّر في الصحّة أو الفساد

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 262

..........

______________________________

و لا في ثبوت الخيار.

الثالثة: أن لا تلحظ الصفة أصلا و لو بنحو الداعي على الشراء، بل كان الملحوظ للمتعاقدين ذات الموصوف فقط. و الصحّة في هذه الصورة أوضح من الثانية.

الرابعة: أن تلحظ الصفة بما هي صفة كمال

قد تصرف في الحلال و كانت المنفعة المحلّلة شائعة بحيث يعتدّ بها العقلاء و يبذل بإزائها المال، فالقاعدة أيضا تقتضي الصحّة.

الخامسة: هذه الصورة مع كونها نادرة بحيث لا يعتدّ بها في مقام التقويم، فالمصنّف يذكر فيها وجهين كما يأتي.

أقول: يمكن أن يناقش فيما ذكره المصنّف في القسم الأوّل: أولا: بما مرّ من أنّ الباء في الآية ليست للمقابلة و ليست الآية بصدد بيان شرط العوضين و اعتبار الماليّة فيهما، بل هي للسببيّة، و تكون الآية بصدد النهي عن أكل الأموال بالأسباب الباطلة، نظير القمار و السرقة و نحوهما، كما يشهد بذلك استثناء التجارة عن تراض و الأخبار الواردة في تفسير الآية.

و ثانيا: بأنّ الثمن في البيع يقع بإزاء العين لا بإزاء الصفات و المنافع، و إن فرض لحاظها في مرحلة التقويم أيضا. و الملاك في صحّة المعاملة و فسادها ما وقع عليه الإنشاء لا ما قصد لبّا، و المفروض في المقام ماليّة المبيع عرفا و شرعا. لوجود المنافع المحلّلة أيضا و عدم استثناء البائع إيّاها. فوزان الصفة في المقام وزان الشرط الذي ربّما يلحظ في التقويم، و يذكر في متن العقد أيضا، حيث قالوا: إنّ المعاملة لا تبطل بفساده أو بتخلّفه و لا تتبعّض المعاملة بذلك، غاية الأمر ثبوت الخيار بالتخلّف. و قد مرّ عن العلّامة في التذكرة أيضا أنّ القياس هو الصحّة، و مرّ عن شهادات المبسوط و السرائر الإفتاء بالصحّة بنحو الإطلاق.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 263

..........

______________________________

اللّهم إلّا أن يفرّق بين الوصف في المقام و بين الشروط و الأوصاف المتعارفة، إذ الشرط- على ما قالوا- التزام في التزام، ففساده أو تخلّفه لا يسري إلى العقد، و هذا بخلاف الوصف في المقام

ممّا يعدّ ركنا و بمنزلة العنوان للمبيع، و تخلّف العنوان يوجب فساد المعاملة. و المفروض أنّ الجارية المغنّية بقيد الغناء لا ماليّة لها عند الشارع فلا يصحّ بيعها، و ربّما تكون هي مع قطع النظر عن وصف غنائها لا يرغب فيها أصلا و لا يبذل بإزائها شي ء أو يبذل أقلّ قليل.

و بالجملة وزانها عند العرف وزان آلات اللهو التي لا ماليّة لها شرعا و لا يصحّ بيعها، و إن كانت لمادّتها قيمة إذ شيئيتها بهيئاتها.

و على هذا فالأخبار الآتية الدالّة على منع بيعها لا تكون على خلاف القاعدة.

و ما سمعت من عدم بطلان البيع و عدم تبعّضه بتخلّف الوصف إنّما هو في الأوصاف التي لا تعدّ ركنا و مقوّما للمبيع عرفا، فتأمّل.

و في حاشية السّيد الطباطبائي «قده» في ذيل قول المصنّف: «على وجه يكون دخيلا في زيادة الثمن» قال: «لا يخفى أنّ المناط في المنع كون المقصود من بيعها غناءها و إن لم يبذل الثمن أزيد بلحاظ ذلك أصلا.

و الحاصل: أنّ المناط كون الغرض من البيع الانتفاع المحرّم و غيره لا زيادة الثمن لأجل الصفة و عدمها.» «1»

أقول: يرد على ذلك ما مرّ في القسم الثاني من الأقسام الخمسة من أنّ القصود و الدواعي المقارنة لا تؤثّر في صحّة العقد و فساده ما لم يضرّ بقوام المبيع، فإذا فرض ماليّة المبيع عرفا و شرعا و وقوع العقد عليه فلا وجه لبطلانه بسبب قصد الحرام منه. هذا.

و في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لصور المسألة قال: «القاعدة تقتضي صحّة

______________________________

(1) حاشيه المكاسب للمرحوم السيّد محمّد كاظم الطباطبائي/ 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 264

..........

______________________________

المعاوضة في جميع الوجوه المذكورة لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ بعض الأعمال كالخياطة و نحوها

و إن صحّ أن تقع عليه المعاوضة و أن يقابل بالمال إذا لوحظ على نحو الاستقلال، إلّا أنّه إذا لوحظ وصفا في ضمن المعاوضة فإنّه لا يقابل بشي ء من الثمن و إن كان بذل المال بملاحظة وجودها. و عليه فحرمة الصفة لا تستلزم حرمة المعاوضة في الموصوف و إنّما هي كالشروط الفاسدة لا توجب إلّا الخيار.

الوجه الثاني: لو سلّمنا أنّ الأوصاف تقابل بجزء من الثمن، فإنّ ذلك لا يستلزم بطلان المعاملة، إذ الحرام إنّما هي الأفعال الخارجيّة من التغنّي و القمار و الزنا دون القدرة عليها التي هي خارجة عن اختيار البشر.

على أنّه قد ورد في الآيات و الأحاديث: أنّ قدرة الإنسان على المحرّمات قد توجب كونه أعلى منزلة من الملائكة فإنّ الإنسان يحتوي على القوّة القدسيّة التي تبعث إلى الطاعة و القوّة الشهويّة التي تبعث إلى المعصية، فإذا ترك مقتضى الثانية و انبعث بمقتضى الأولى فقد حصل على أرقى مراتب العبوديّة، و هذا بخلاف الملك ...» «1»

أقول: ما ذكره من الوجهين و إن كان متينا على مذاق المشهور لكنّهما قابلان للمناقشة:

فيناقش في الأوّل بأنّ الوصف إذا أمكن مقابلته بالمال مع لحاظه مستقلا فلا محالة يمكن مقابلته به مع لحاظه وصفا أو شرطا أيضا و لا سيّما إذا كان ركنا في المعاملة عرفا، نظير الغناء للجارية المغنّية و الهيئات لآلات اللهو و القمار و نحوهما.

و يناقش الثاني: بأنّ الحرام و إن كان نفس الأفعال الخارجيّة لكن إذا كانت مباديها و القدرة عليها ممّا تحصل بالاكتساب و الممارسة و لم يترتّب عليها إلّا الحرام

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 167.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 265

[الدليل على الحرمة بحسب الأخبار]

و قد ورد النصّ بأنّ ثمن الجارية المغنّية سحت، و

أنّه قد يكون للرجل الجارية تلهيه و ما ثمنها إلّا كثمن الكلب. (1)

______________________________

فالشارع أسقط ماليّتها قهرا، فيكون أخذ الثمن بإزائها أكلا للمال بالباطل على مذاق المصنّف. و ما ذكره من مقايسة قوى الإنسان مع الملائكة إنّما هي في القوى الطبيعيّة الذاتيّة لا الاكتسابية الفاسدة.

و ما ذكره المصنّف من عدم تبعّض المعاملة و عدم التفكيك بين المقيّد و قيده و إن اشتهر بينهم لكنّه خلاف نظر العرف و العقلاء، و لا سيّما في الشرط الذي هو التزام مستقلّ في قبال التزام العقد، فالقاعدة تقتضي التفكيك إلّا فيما ثبت بالدليل من ثبوت الخيار فقط.

قال الأستاذ «ره» في هذا المجال ما محصّله: «أن العقلاء لا ينظرون إلى ألفاظ المعاملات، بل عمدة نظرهم إلى واقعها، و في اللّب تكون المعاملة بين العين مع لحاظ الشرط. لا يقال: إنّ في تخلّف الشرط الصحيح الخيار فقط. فإنّه يقال: لو قام دليل من إجماع أو غيره على الصحّة و الخيار نقول بمقتضاهما في موردهما على خلاف القواعد لا في غيره.» «1»

هذا، و المسألة تحتاج إلى بحث أو في يأتي في محلّه.

(1) إلى هنا كان البحث فيما يقتضيه القواعد العامّة في المسألة، و الآن وصلت النوبة إلى البحث فيما يستفاد من الأخبار الخاصّة الواردة فيها:

1- ما رواه الكليني عن محمّد بن يحيى، عن بعض أصحابه، عن محمّد بن إسماعيل، عن إبراهيم بن أبي البلاد، قال: أوصى إسحاق بن عمر عند وفاته بجواز له مغنّيات أن نبيعهنّ (أن يبعن- التهذيب) و نحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن عليه السّلام، قال إبراهيم: فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم و حملت الثمن إليه، فقلت له: أنّ مولى لك يقال له: إسحاق بن عمر قد أوصى عند موته ببيع

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 121 (ط. الجديدة 1/ 183).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 266

..........

______________________________

جوار له مغنّيات و حمل الثمن إليك و قد بعتهنّ و هذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم.

فقال: «لا حاجة لي فيه، إنّ هذا سحت و تعليمهنّ كفر و الاستماع منهنّ نفاق و ثمنهنّ سحت.» «1»

و السند لا بأس به، إذ محمّد بن يحيى هو العطّار الأشعري القمّي من مشايخ الكليني، ثقة عين كثير الحديث له كتب. و محمّد بن إسماعيل مردّد بين ابن بزيع و البرمكيّ، فابن بزيع مولى المنصور، ثقة صحيح كثير الحديث له كتب.

و البرمكيّ و إن كان مختلفا فيه لكن الأكثر على توثيقه. و إبراهيم بن أبي البلاد قال النجاشي في حقّه: كان ثقة قارئا أديبا.

بقي الكلام في الإرسال الواقع في السند و لكنّ التعبير يدلّ على كون المجهول من أصحاب محمّد بن يحيى و من ثقاته و معتمديه.

و ظهور متن الحديث في حرمة الثمن و استنادها إلى بطلان المعاملة و عدم تحقّق الانتقال واضح.

قال الخليل في العين: «السحت: كلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار، نحو ثمن الكلب و الخمر و الخنزير.» «2»

و في معجم مقاييس اللغة: «المال السحت: كلّ حرام يلزم آكله العار، و سمّي سحتا لأنّه لا بقاء له.» «3»

و راجع ما حررناه في هذا المجال في الدليل الثالث عشر من أدلّة المنع عن بيع النجس. «4»

______________________________

(1) الكافي 5/ 120 كتاب المعيشة، باب كسب المغنية، الحديث 7؛ و التهذيب 6/ 357، الباب 93، الحديث 142؛ و أيضا في الوسائل 12/ 87، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) كتاب العين 3/ 132.

(3) معجم مقاييس اللغة 3/ 143.

(4) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 1/

202.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 267

..........

______________________________

و لكن يمكن المناقشة بأنّ لفظ السحت أطلق في أخبارنا على كسب الحجّام و أجر القارئ و ثمن اللقاح و عوض الهدية أزيد منها و نحو ذلك ممّا فيه عار و خسّة بلا حرمة شرعيّة أيضا. و على هذا فدلالته على الحرمة لا تخلو من وهن.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ظاهره الحرمة فيحمل عليها إلّا فيما ثبت خلافه و يؤيّد ذلك ما يأتي في خبر الوشاء من أنّ السحت في النار.

ثمّ إنّ إطلاق الحديث يقتضي حرمة الثمن و بطلان المعاملة سواء جعل بعض الثمن في مقام الإنشاء بإزاء وصف الغناء كما هو الغالب، أو جعل الجميع لإزاء ذواتها و لذا ردّ الإمام عليه السّلام ثمنهنّ و لم يستفصل ذلك، إلّا أن يقال: إنّ الغالب فيها لحاظ وصفها في مقام التقويم و بذل بعض الثمن بإزائه، فالإطلاق ينصرف إلى هذه الصورة فلا يدلّ على بطلان غيرها، فتدبّر.

2- ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن محمّد بن الحسين، عن إبراهيم بن أبي البلاد، قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السّلام: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك عنده جوار مغنّيات قيمتهنّ أربعة عشر ألف دينار و قد جعل لك ثلثها؟ فقال:

«لا حاجة لي فيها، إن ثمن الكلب و المغنّية سحت.» «1»

و الظاهر أنّ المراد بمحمّد بن الحسين: محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب الثقة، فالرواية صحيحة بلا إشكال. و من اتّحاد الراوي و المضمون مع الرواية السابقة ربّما يطمئن النفس باتّحاد الروايتين، و البيع قد حصل، و من الممكن كون قيمة الدنانير المذكورة في هذه الرواية في ذلك الزمان مساوية لقيمة الدراهم المذكورة في السابقة. و حمل جميع الثمن إلى الإمام

عليه السّلام على فرض وقوعه لا يدلّ على كون الجميع لشخصه، فلعلّ الموصي أوصى بتصدّي الإمام عليه السّلام لصرف الجميع في مصارف و كون ثلثه لشخصه، و بذلك يجمع بين مضمون الروايتين.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 87، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 268

..........

______________________________

3- ما عن الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن عليّ الوشاء، قال: سئل أبو الحسن الرضا عليه السّلام عن شراء المغنّية؟ قال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه، و ما ثمنها إلّا ثمن كلب، و ثمن الكلب سحت. و السحت في النار.» و رواه الشيخ أيضا. «1»

و في السند سهل، و لكن قيل: إنّ الأمر فيه سهل لرواية الكليني عنه بواسطة عدّة من مشايخه. و دلالة الرواية واضحة.

4- خبر الطاطريّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات؟ فقال: «شراؤهنّ و بيعهنّ حرام و تعليمهنّ كفر، و استماعهنّ نفاق.» «2»

و في السند إهمال.

و قد مرّ مرارا أنّ لفظ الحرمة إذا حمل على المعاملات فظهوره في الوضع أقوى، فيراد بها فساد البيع و الشراء.

5- و فيما رواه إسحاق بن يعقوب في أجوبة مسائلة عن صاحب الزمان عليه السّلام: «و ثمن المغنّية حرام.» «3»

6- ما رواه القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال: «لا يحل بيع المغنّيات و لا شراؤهنّ و ثمنهنّ حرام.» «4»

7- ما عن عوالي اللآلي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله: «إنّه نهى عن بيع المغنّيات و شرائهن و التجارة فيهنّ و أكل ثمنهنّ.» «5»

8- ما في سنن البيهقي بإسناد له عن أبي أمامة عن رسول

اللّه صلى اللّه عليه و آله، قال:

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 88، الحديث 6.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 88، الحديث 7.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 87، الحديث 3.

(4) مستدرك الوسائل 2/ 431، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(5) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 269

..........

______________________________

«لا تبتاعوا المغنّيات و لا تشتروهنّ و لا تعلّمونهنّ، و لا خير في تجارة فيهنّ، و ثمنهنّ حرام.» قال: و في مثل هذا الحديث نزلت: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ. «1»

9- و فيه أيضا بسنده عن مجاهد في قوله: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: «هو اشتراؤه المغنّي و المغنّية بالمال الكثير، و الاستماع إليه و إلى مثله من الباطل.» «2»

و أسناد أكثر هذه الروايات و إن كانت ضعيفة لكن بعضها ممّا لا بأس به كما مرّ.

مضافا إلى أنّ استفاضتها ربّما توجب الوثوق بصدور بعضها.

10- نعم في رواية عبد اللّه بن الحسن الدينوري عن أبي الحسن عليه السّلام قال:

قلت: جعلت فداك، فأشتري المغنّية أو الجارية، تحسن أن تغنّي أريد بها الرزق لا سوى ذلك؟! قال: «اشتر و بع.» «3»

و ظاهرها جواز البيع و الشراء مطلقا حتّى في مورد البحث فتعارض الأخبار السابقة، و لكن عبد اللّه بن الحسن مجهول.

11- و عن الفقيه قال: سأل رجل عليّ بن الحسين عليه السّلام عن شراء جارية لها صوت؟ فقال عليه السّلام: «ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّة.» يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظور. «4»

و الظاهر أنّ التفسير من الصدوق، و السؤال ليس عن شراء المغنّية. و حسن الصوت لا بأس به

ما لم يصل إلى حدّ الغناء كما في الوسائل.

أقول: لا ينقضي تعجّبي من أنّه مع وجود هذه الأخبار المستفيضة الدالّة على المنع تكليفا و وضعا لم لم يلتفت إليها قدماء أصحابنا و لم يتعرّضوا للمسألة

______________________________

(1) سنن البيهقي 6/ 14، كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع المغنّيات. و الآية في سورة لقمان (31)، رقمها 6.

(2) سنن البيهقي 10/ 225، كتاب الشهادات، باب الرجل يتخذ الغلام و الجارية المغنّيين و ...

(3) الوسائل 12/ 86، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 270

..........

______________________________

في كتبهم المعدّة لنقل المسائل المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام؟ و كان المترقّب تعرّضهم لها في كتاب التجارة. و الشيخ تعرّض لها في شهادات المبسوط و تبعه ابن إدريس في شهادات السرائر، و لكنّهما أفتيا بالجواز بنحو الإطلاق كما مرّ. و ظاهرهما الجواز حتّى مع لحاظ وصف الغناء و جعل حصّة من الثمن بإزائه كما هو الغالب المتعارف في بيعهنّ، و اقتضاء القياس الصحّة لا يوجب طرح هذه الأخبار المستفيضة.

و قال في مصباح الفقاهة بعد الإشارة إلى هذه الأخبار ما ملخّصه: «أنّ الظاهر من الأخبار المانعة: أنّ الحرام هو بيع المغنّية المعدّة للتلهّي و التغنّي كالمطربات اللاتي يتّخذن الرقص حرفة لهنّ و يدخلن على الرجال. إذ من الواضح أنّ القدرة على التغنّي كالقدرة على بقية المحرّمات ليست بمبغوضة ما لم يصدر الحرام في الخارج.

على أنّ نفعها لا ينحصر في التغنّي لجواز الانتفاع بها بالخدمة و غيرها. مضافا إلى أنّ بيعها بقصد الجهة المحرّمة لا يكون سببا لوقوع الحرام لبقاء المشتري بعد على اختياره، و عليه فلا موجب لحرمة البيع إلّا

من جهة الإعانة على الإثم و هي بنفسها لا تصلح للمانعيّة.» «1»

أقول: البحث في بيع الجارية المغنّية بما هي مغنّية. و ليست حرمة الغناء عند الأصحاب دائرة مدار الرقص و الدخول على الرجال. اللّهم إلّا أن ينكر حرمته إلّا بلحاظ مقارناته- كما قيل- و الحرام و إن كان نفس الأعمال الخارجيّة لا القدرة عليها، إلّا أنّ الإسلام أسقط ماليّة هذه القدرة الاكتسابية التي لا يترتّب عليها إلّا الفساد، نظير القدرة على القمار و السرقة و نحوهما فلا يصحّ بذل المال بإزائها.

نعم ظاهر تعليق الحكم على الوصف كونه دخيلا في موضوع الحكم ملحوظا فيه.

و على هذا فظاهر الأخبار كون موضوع الحرمة في المقام ما كان وصف الغناء ملحوظا في بيعه و لا محالة يلاحظ هذا الوصف في تقويمها و يجعل حصّة من

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 169.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 271

نعم لو لم يلاحظ الصفة أصلا في كميّة الثمن فلا إشكال في الصحّة.

و لو لوحظ من حيث إنّه صفة كمال قد يصرف إلى المحلّل فيزيد لأجلها الثمن فإن كانت المنفعة المحلّلة لتلك الصفة ممّا يعتدّ بها فلا إشكال في الجواز.

و إن كانت نادرة بالنسبة إلى المنفعة المحرّمة ففي إلحاقها بالعين في عدم جواز بذل المال إلّا لما اشتمل على منفعة محلّلة غير نادرة بالنسبة إلى المحرّمة و عدمه- لأنّ المقابل بالمبذول هو الموصوف و لا ضير في زيادة ثمنه بملاحظة منفعة نادرة- و جهان، أقواهما الثاني، إذ لا يعد أكلا

______________________________

الثمن بإزائه على ما كان متعارفا في بيعهنّ. و المتبادر منه بسبب الغلبة الغناء المحرّم الرائج في تلك الأعصار لا الغناء في زفّ العرائس مثلا. و هذا ما جعله المصنّف موضوعا للحرمة و الفساد،

حيث اعتبر فيه أمرين: لحاظ الصفة المحرّمة، و بذل شي ء من الثمن بإزائها.

و ما ذكروه من اقتضاء القاعدة صحّة المعاملة- على ما مرّ بيانه- لا ينافي تحريم الشارع بيعها تعبدا مع هذين القيدين بلحاظ ما كان يترتب عليها غالبا من الانتفاع المحرّم و إن بقي المشتري بعد على اختياره.

و بالجملة دفع الفساد المترقّب غالبا بقطع مادّته تشريعا ممّا يلتفت إليه الشارع في تشريعاته و كم له نظير في الشرعيّات. فلا وجه لرفع اليد عن ظهور هذه الأخبار و لا سيّما في القدر المتيقّن منها، أعني صورة وقوع البيع بلحاظ الوصف المحرّم و بذل بعض الثمن بل عمدته بإزائه. و قد مرّ منّا أنّ وصف الغناء في الجارية المغنّية المعدّة له كان يعدّ ركنا في المعاملة عليها عند العرف و كان وزانه وزان هيئات آلات اللهو و القمار التي تعدّ ركنا بحيث يستهلك فيها مادّتها و إن كانت لها قيمة. فكأنّ الجارية المغنّية نوع برأسها في قبال ما يشترى للنكاح أو الخدمة و كان لها أهل خاصّ و سوق خاصّ، و ربّما لم يكن لها مع قطع النظر عن غنائها قيمة و لم يرغب فيها أصلا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 272

للمال بالباطل، و النصّ بأنّ ثمن المغنّية سحت مبنيّ على الغالب. (1)

______________________________

(1) قد مرّ أنّ صور المسألة عند المصنّف خمسة، حكم في واحدة منها بحرمة المعاملة و فسادها بمقتضى القاعدة و الأخبار الخاصّة. و يظهر منه الجواز و الصحّة في سائر الصور حتّى في صورة قصد الحرام بنحو الداعي لا في متن المعاملة كما مرّ.

و لكن يظهر من الأستاذ الإمام «ره» خلاف ذلك، فإنّه بعد البحث فيما يقتضيه القواعد العامّة في المسألة قال: «و

أمّا بحسب الأخبار فالظاهر شمول مثل قوله عليه السّلام في التوقيع: «و ثمن المغنّية حرام» و قوله عليه السّلام في صحيحة إبراهيم ابن أبي البلاد:

«إنّ ثمن الكلب و المغنّية سحت» و قوله عليه السّلام في رواية الطاطريّ: «شراؤهنّ و بيعهنّ حرام» للجارية المغنّية التي شغلها التغنّي و كانت معدّة لذلك سواء كان الثمن المجعول في مقابلها بلحاظ كونها مغنّية و منشأ لهذا الأثر كلا أو بعضا، أم جعل بلحاظ نفس ملكة التغنّي مقطوع النظر عن العمل، أو مع النظر إلى الأثر المحلّل كالقراءة بحسن صوتها أو التغنّي لزفّ الأعراس، أو بلحاظ ذاتها أو صفتها الأخرى كالخياطة، لصدق كون ثمنها ثمن المغنّية. فإنّها عبارة عن الذات الموصوفة بالصفة المعدّة لذلك.

و الثمن يجعل في مقابل الموجودة في الخارج و هي الجارية المغنّية. و مجرّد عدم لحاظ كون الثمن لصفتها لم يخرجها عنها، و لا يضرّ بصدق كون الثمن ثمن المغنّية ...

إن قلت: إنّ الأخبار محمولة على الغالب و هو مورد بيع المغنّيات و تزييد القيمة لصنعتها.

قلت: لو سلّم أنّ الغلبة صارت موجبة للانصراف في موارد أخر لا توجب ذلك في المقام، لأنّ مناسبة الحكم و الموضوع و فهم العرف من الروايات نكتة الجعل توجبان التعميم، بل إلقاء الخصوصيّة لو كانت واردة في مورد خاصّ، فالانصراف ممنوع و الإطلاق محكّم. نعم لو تابت المغنّية عن عملها و تركت الاشتغال به فالظاهر صحّة بيعها و إن قلنا بصدق المشتقّ لكون المبدأ هو الملكة العلميّة لا الصنعة و العمل لانصراف الأخبار عن هذه الصورة، بل يقوى احتمال

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 273

..........

______________________________

عدم صدق المشتقّ لاحتمال أن يكون المبدأ التغنّي الذي من قبيل الحرفة ...» «1»

أقول: قد مرّ

أنّ الظاهر من تعليق الحكم على الوصف دخالته في الحكم، و يعبّر عن ذلك بمناسبة الحكم و الموضوع، و الظاهر أنّ حكم الشارع بالحرمة في بيع الجارية المغنّية ليس بلحاظ قدرتها على الغناء، بل بلحاظ الانتفاع المحرّم منها خارجا و الغالب فيها- كما أشار إليه المصنّف- لحاظ ذلك في المعاملة عليها و بذل بعض الثمن بل عمدته بإزائه.

نعم يمكن أن يقال بشمول إطلاق الأخبار لما إذا قصد منها ذلك بنحو الداعي أيضا و إن لم يبذل في متن المعاملة شي ء من الثمن بإزاء وصفها أو عملها حيلة لتصحيح المعاملة عليها. و لكنّها تنصرف قطعا عمّا إذا لم يقصد منها الغناء أصلا، أو قصد منها المحلّل منه، و إن فرض صدق المشتقّ عليها بلحاظ قدرتها و ملكتها أيضا، فتدبّر. هذا.

و في حاشية السّيد الطباطبائي- طاب ثراه- في المقام: «و يمكن الاستدلال بقوله عليه السّلام في حديث تحف العقول: «أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد»- خصوصا بقرينة تمثيله لذلك بالبيع بالربا- و ذلك لأنّ المبيع في بيع الربا ليس ممّا لا يجوز بيعه، بل الوجه في المنع هو خصوصيّة قصد الربا. ففي المقام أيضا الجارية من حيث هي ليست ممّا لا يجوز بيعها، لكن لو قصد بها الغناء يصدق أنّ في بيعها وجه الفساد.

و الحاصل: أنّ مقتضى التمثيل بالربا عدم اختصاص وجه الفساد بما كان في المبيع في حدّ نفسه كآلات اللهو و القمار، بل قد يكون ذلك لخصوصيّة في البيع و إن لم يكن المبيع في حدّ نفسه ممّا فيه الفساد.» «2»

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 125- 126 (ط. الجديدة 1/ 188- 190).

(2) حاشية المكاسب للمرحوم السيد محمّد كاظم الطباطبائي/ 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2،

ص: 274

..........

______________________________

أقول: يرد على ذلك- مضافا إلى ضعف الحديث على ما مرّ بيانه في أوّل الكتاب-: أنّ قياس المقام ببيع الربا بلا وجه بعد وضوح أنّ ملاك الفساد في بيع الربا في نفس البيع بما أنّه بيع مع التفاضل. و أمّا في المقام فملاك الفساد في المبيع بما أنّه متّصف بصفة ينشأ منها الفساد خارجا. هذا.

و يمكن أن يستأنس أيضا لحرمة المعاملة في المقام بما سيجي ء من الأخبار الدالّة على حرمة بيع السّلاح لأعداء المسلمين حين وقوع الحرب بينهم و بين المسلمين و إن لم يقصد بذلك تقويتهم و لم يعلم باستعمالهم لهذا المبيع الخاصّ في حرب المسلمين.

إذ يظهر بذلك أنّ كون الشي ء في مظانّ الانتفاع المحرّم و غلبة ترتّب الفساد عليه في زمان يوجب منع الشارع من بيعه حسما لمادّة الفساد، و حسم مادّة الفساد ممّا يهتمّ به الشارع في تشريعاته، و الجارية المغنّية التي يقوّم غناؤها بأضعاف من ذاتها تكون لا محالة معرضا للانتفاع المحرّم و لا سيّما في المحيط الذي غلب عليه الفساد.

و بذلك يظهر أيضا أنّ الآلات المشتركة التي لها منافع محلّلة و محرّمة كالتلفزيون و الفيديو و أمثالهما إذا فرض غلبة الفساد عليها بحيث لا تشترى غالبا إلّا للانتفاعات المحرّمة و تكون معرضا لإفساد المحيط و المجتمع أمكن القول بفساد المعاملة عليها إلّا إذا فرض الاطمينان بعدم صرفها في المحرّم، و هذا يختلف بحسب الأقوام و الأزمان و الأمكنة، فتدبّر.

[تنبيه:] حرمة كسب المغنّية

تنبيه: قد تعرّض المصنّف هنا لحكم بيع الجارية المغنّية، و يأتي منه في النوع الرابع من المكاسب المحرّمة بيان حكم الغناء بنفسه.

بقي هنا حكم كسب المغنّية التي تجعل الغناء حرفة لها أمة كانت أو حرة، و لم يتعرّض له

المصنّف مستقلا و إن أشار إليه في مبحث الغناء. و قد أشار إلى

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 275

..........

______________________________

المسألة في مصباح الفقاهة هنا «1»، فلنتعرّض لها إجمالا لكثرة الابتلاء بها.

فنقول: يظهر من بعض الأخبار حرمة كسبها تكليفا و وضعا و أنّها ملعونة و ملعون من أكل من كسبها إلّا التي تزفّ العرائس:

1- ففي رواية نصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «المغنّية ملعونة، ملعون من أكل من كسبها.» «2» و السند لا بأس به. و في الوسائل:

«نضر» بالضاد و هو غلط ظاهرا.

2- و في المستدرك عن فقه الرضا و المقنع و الهداية: «و كسب المغنّية حرام.» «3»

أقول: لعن الآكل من كسبها يدلّ على حرمة أجرتها، و مقتضى ذلك فساد الإجارة. و قد مرّ منّا أيضا أنّ لفظ الحرمة في الكتاب و السنّة و كلمات القدماء من الأصحاب أعمّ من التكليف و الوضع و أنّ المتبادر منها في باب المعاملات هو الفساد.

3- خبر أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن كسب المغنّيات. فقال:

«التي يدخل عليها الرجال حرام، و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، و هو قول اللّه- عزّ و جلّ- وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ «4»

و في السند عليّ بن أبي حمزة البطائني الواقفي، و حاله معلوم إلّا أن يثبت كون نقله حال سلامته و عدم انحرافه.

4- خبر ثان لأبي بصير، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، و ليست بالتي يدخل عليها الرجال.» «5» و السند صحيح.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 170.

(2) الوسائل 12/ 85، الباب 15 من أبواب ما يكتسب

به، الحديث 4.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 430، الباب 13 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) الوسائل 12/ 84، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ و الآية في سورة لقمان (31)، رقمها 6.

(5) نفس المصدر و الباب، ص 85، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 276

..........

______________________________

و ظاهر الخبرين عدم حرمة الغناء بنفسه بل بلحاظ مقارناته المحرّمة التي منها دخول الرجال عليهنّ، و سيأتي البحث عن ذلك في محلّه.

5- خبر ثالث له عنه عليه السّلام، قال: «المغنّية التي تزفّ العرائس لا بأس بكسبها.» «1»

و في السند: حكم الحنّاط كما في الكافي أو الخياط كما في الوسائل و هما مجهولان، و الأخبار الثلاثة- كما ترى- ترجع إلى واحد. و المستفاد من هذه الروايات أمران:

1- حرمة كسبها تكليفا و وضعا. 2- جوازه كذلك في التي تزفّ العرائس.

و يدلّ على الحكم الأوّل مضافا إلى ما ذكر من الأخبار: ما يدلّ على حرمة الغناء بنفسه ممّا يأتي في محلّه، إذ أدلّة صحّة العقود و إيجاب الوفاء بها لا تشمل قطعا ما كان العمل المستأجر عليه حراما في نفسه، فإنّ تنفيذ الشارع لمثله نقض لغرضه و يكون من قبيل أكل المال بالباطل، فتأمّل.

و أمّا جواز كسبها في التي تزفّ العرائس فلا إشكال فيه بعد دلالة روايات أبي بصير التي بعضها صحيح على ذلك. و قد أفتى بمضمونها الشيخ في النهاية:

قال في باب المكاسب المحظورة و المكروهة منه: «و كسب المغنّيات و تعلّم الغناء حرام ... و لا بأس بأجر المغنّية في الأعراس إذا لم يغنّين بالأباطيل و لا يدخلن على الرجال و لا يدخل الرجال عليهن.» «2»

و في الجواهر في مبحث حرمة الغناء قال: «و كيف

كان فقد ذكر غير واحد ورود الرخصة في إباحة أجرة المغنّية في الأعراس، بل نسبه بعض مشايخنا إلى الشهرة. و مقتضاه جواز غنائها فيه، ضرورة التلازم بين إباحة الأجرة عليه و بين إباحته. نعم قيّده بعضهم بما إذا لم تتكلم بالباطل و لم تلعب بالملاهي و لم تدخل عليها الرجال، و آخر بالأوّل و الأخير، لكن فيه أنّ ذلك كلّه محرّمات خارجة عنه لا مدخلية له فيها خصوصا الأخير الذي قد يتوهم أخذه من دليل الجواز ... و قد

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 84، الحديث 2.

(2) النهاية/ 365 و 367.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 277

..........

______________________________

عرفت أنّ الأقوى الجواز للنصوص السابقة المعتضدة بالشهرة المحكية، خلافا للمحكي عن الحلّي و الفخر، بل لعلّه ظاهر المصنّف و غيره ممن أطلق الحرمة من دون استثناء.» «1»

أقول: و إن شئت الوقوف على كلمات الأصحاب في المسألة فراجع كتبهم.

و كما يحرم كسب المغنّية بغنائها يحرم كسب المغنّي أيضا بغنائه لحرمته، و هل يجوز تغنيه في الأعراس في محافل الرجال؟ مشكل، إذ لا دليل على تجويزه، و يشكل قياسه على المغنّية في ذلك بعد احتمال الخصوصية لها و لهنّ، فتدبّر.

______________________________

(1) الجواهر 22/ 48، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 279

[المسألة الثالثة: حرمة بيع العنب ممن يعمله خمرا]
اشارة

المسألة الثالثة: يحرم بيع العنب ممّن يعمله خمرا بقصد أن يعمله، و كذا بيع الخشب بقصد أن يعمله صنما أو صليبا، لأنّ فيه إعانة على الإثم و العدوان، و لا إشكال و لا خلاف في ذلك. (1)

______________________________

المسألة الثالثة:

حرمة بيع العنب ممن يعمله خمرا

[بيان موضوع المسألة]

(1) قد جعل المصنّف البحث في القسم الثاني من النوع الثاني فيما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرّمة، ثم تعرّض لهذا القسم في ثلاث مسائل:

الأولى: ما كان بذل الثمن بإزاء المنفعة المحرّمة فقط.

الثانية: ما إذا بذل بعض الثمن بإزاء الصفة المحرمة كبيع الجارية المغنية بوصف غنائها بحيث بذل بعض الثمن بإزائه.

الثالثة: ما إذا قصد المنفعة المحرمة بنحو الداعي فقط من دون أن يبذل الثمن أو بعضه بإزائها.

و ادّعى المصنّف في هذه المسألة أيضا عدم الخلاف و الإشكال في حرمة المعاملة و استدل لها بحرمة الإعانة على الإثم.

و يظهر منه التفصيل بين هذه الصورة و بين ما إذا باع العنب مثلا ممّن يعلم بأنّه يجعله خمرا من دون قصد البائع لذلك، لصدق الإعانة مع القصد قطعا و الإشكال

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 280

..........

______________________________

في صدقها بدونه، و لورود الأخبار المجوزة في الثانية كما يأتي.

و ناقشه في مصباح الفقاهة «1» بما ملخّصه و محصّله:

أوّلا: بأنّ مفهوم الإعانة على الإثم و العدوان كمفهوم الإعانة على البرّ و التقوى أمر واقعي لا يتبدّل بالقصد و لا يختلف بالوجوه و الاعتبار.

و ثانيا: لا دليل على حرمة الإعانة على الإثم ما لم يكن في البين تسبيب و تسبّب كما يأتي.

و ثالثا: لو سلّمنا حرمة البيع مع قصد الغاية المحرّمة لصدق الإعانة فلا بدّ من الالتزام بحرمته مع العلم بترتب الحرام أيضا، لصدق الإعانة على كليهما. و إن

قلنا بالجواز في الثاني من جهة الأخبار المجوزة الآتية كما يأتي فلا بدّ من القول بالجواز في الأوّل أيضا لإطلاق الأخبار و شمولها لصورة القصد أيضا.

و رابعا: ما هو المراد بالقصد في كلامهم؟ فإن أريد به إرادة الفعل الموجبة لتحققه خارجا فهي لا تتعلق بفعل الغير الخارج عن اختيار غير الفاعل، و المفروض في المقام أنّ التخمير في العنب مثلا من فعل المشتري فلا تتعلق به إرادة البائع.

و إن أريد به العلم و الالتفات فهو مفروض الوجود في الصورة الثانية أيضا فلا وجه للتفصيل بينهما.

و إن أريد به الداعي بمعنى كون الداعي إلى بيع البائع ترتّب المنفعة المحرّمة فهذا و إن كان يوجد في الصورة الأولى دون الثانية لكن لا يوجب هذا اختلافهما في صدق الإعانة.

أقول: البحث في مفهوم الإعانة و حكمها يأتي بالتفصيل عند البحث في الصورة الثانية، و على فرض صدقها مع القصد و حرمتها فيمكن أن يقال: إنّها لا توجب فساد المعاملة لعدم تعلق النهي بعنوان المعاملة حتى يقال بظهوره في الإرشاد إلى

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 171.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 281

..........

______________________________

الفساد. و إطلاق الأخبار المجوزة الآتية يشمل صورة القصد أيضا، و الداعي لا يقيد المعاملة و لا يوجب وقوع الثمن بإزائه، و البيع وقع على العين المملوكة التي لها منافع محلّلة و الثمن وقع بإزاء نفس العين، و الملاك في المعاملة ما وقع الإنشاء عليه لا الدواعي المقارنة، و كم للناس في معاملاتهم من دواع عقلائيّة و غير عقلائيّة و شرعيّة و غير شرعيّة لا توجب هي و لا تخلفها فساد المعاملة أو تزلزلها.

فمقتضى القاعدة في المقام أيضا صحة المعاملة، و الإجماع على خلافها بحيث يحرز به

تلقيهم المسألة عن الأئمّة عليهم السّلام غير ثابت.

فإن قلت: صحة المعاملة عبارة عن تنفيذ الشارع إيّاها، فإذا فرض حرمة المعاملة تكليفا لا يمكن تنفيذ الشارع إيّاها لكونه نقضا لغرض نفسه.

قلت: الأحكام الشرعية متعلقة بالعناوين الكلية على نحو القضايا الحقيقة و ليست قضايا شخصيّة جزئيّة، و انطباق عنوانين على موضوع واحد في مورد خاصّ لا يوجب سراية حكم أحدهما إلى الآخر، فإذا صدق في مورد خاصّ على بيع خاصّ عنوان الإعانة على الإثم فلا يسري حكم الإعانة إلى البيع بما أنه بيع، فتدبّر. هذا.

و لكن لأحد أن يقول: إنّ ما ذكرته- من أنّ انطباق عنوانين على مورد واحد لا يوجب سراية حكم أحدهما إلى الآخر- إنّما يصحّ في متعلقات الأحكام الّتي هي من أفعال المكلفين كالصلاة و التصرف في أرض الغير مثلا، حيث إنّ الحكم فيهما يتعلق بنفس الطبيعة، و الحكمان لا يتزاحمان في مرحلة الجعل و التشريع مع وجود المندوحة في البين و إنّما جمع بينهما العبد بسوء اختياره في مرحلة الامتثال.

و أمّا في موضوعات الأحكام و لا سيّما إذا لوحظت بنحو العامّ الاستغراقي كالخمر في قوله: لا تشرب الخمر، و العقود في قوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فهي في مقام الجعل و التشريع أخذت مفروضة الوجود، و كلّ واحد منها بعد وجوده في

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 282

أما لو يقصد ذلك فالأكثر على عدم التحريم. (1)

______________________________

الخارج يصير موضوعا لحكم الشارع. فإذا فرض كون العقد بعد وجوده مصداقا للإعانة على الإثم و مبغوضا للشارع لذلك فكيف يحكم عليه بعد وجوده بوجوب الوفاء به؟ و هل لا يكون هذا الأمر نقضا لغرض نفسه؟

و بالجملة فوزان العقد المحرّم في هذا المجال وزان متعلقه إذا كان محرّما.

و قد اعترفتم بعدم شمول قوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» للعقود المتعلقة بالأمور المحرمة كما يأتي في النوع الرابع.

بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا

(1) حيث إنّ البحث في القسم الثاني من النوع الثاني كان فيما إذا قصد المتعاملان المنفعة المحرمة و لو بنحو الداعي كانت هذه الصورة لا محالة خارجة عن محطّ البحث، و لكن المصنّف تعرض لها استطرادا.

و هذه الصورة هي المبتلى بها خارجا، إذ قلّ من يقصد في معاملته الواقعة على العين المنافع المحرّمة، و إنّما غرض الناس في البيوع بيع أعيانهم، و قد مرّ في كلام الأستاذ الإمام «1» تقسيم هذه الصورة أيضا إلى صور، إذ البائع قد يعلم أنّ المشتري يصرفه في الحرام و أراد ذلك فعلا، و أخرى يعلم بعدم إرادته ذلك فعلا لكن يعلم بتجدد الإرادة له بعد ذلك، و على الثاني تارة يكون البيع أو تسليم المبيع له موجبا لتجدد الإرادة له كما لو كان العنب جيّدا صالحا للتخمير فإذا باعه له صار موجبا لإرادته ذلك، و أخرى يكون تجددها لعلّة أخرى.

ثم قد يكون ترك البيع سببا لتركه الحرام لانحصار البائع فيه، و أخرى لا يكون كذلك لوجود بائع غيره.

فهذه صور هذه الصورة، و لعلّها في صدق الإعانة عليها تختلف.

______________________________

(1) راجع ص 224 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 283

..........

______________________________

و كيف كان فحيث إنّ المسألة مبتلى بها و اختلف فيها الأخبار و كلمات الأصحاب فالأولى نقل بعض الكلمات لزيادة البصيرة، فنقول:

نقل الكلمات في المسألة

1- قال الصدوق في باب المزارعة و الإجارة من المقنع: «و لا بأس ببيع العصير و التمر ممن يجعله خمرا، و لا بأس ببيع الخشب ممن يتخذه برابط، و لا يجوز بيعه ممن يتخذه صلبانا.» «1»

أقول:

فهو «قده» أفتى بمضمون الأخبار المجوّزة في العصير و بالتفصيل الواقع في صحيحة ابن أذينة بين البرابط و الصلبان.

2- و قال الشيخ في مكاسب النهاية: «و لا بأس ببيع الخشب لمن يجعله صنما أو صليبا أو شيئا من الملاهي، لأنّ الوزر على من يجعله كذلك لا على الذي باع الآلة.» «2»

3- و في المتاجر منه: «و لا بأس ببيع الخشب ممن يتخذه ملاهي، و كذلك بيع العنب ممّن يجعله خمرا، و يكون الإثم على من يجعله كذلك، و اجتناب ذلك أفضل.» «3»

و ظاهره البيع ممن يعلم بجعل خصوص هذا صنما أو صليبا أو خمرا، و يظهر منه عدم البأس تكليفا و وضعا.

4- و في المبسوط: «بيع العصير لمن يجعله خمرا مطلقا مكروه و ليس بفساد، و بيعه لمن يعلم أنّه يجعله خمرا حرام و لا يبطل البيع، لما روي عنه عليه السّلام أنّه لعن الخمر و بائعها، و كذلك الحكم فيمن يبيع شيئا يعصى اللّه به من قتل مؤمن أو قطع طريق و ما أشبه ذلك.» «4»

______________________________

(1) المقنع/ 390، باب المزارعة و الإجارة ....

(2) النهاية/ 369، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) نفس المصدر/ 403، باب بيع الغرر و المجازفة و ما يجوز بيعه و ما لا يجوز.

(4) المبسوط 2/ 138، كتاب البيوع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 284

..........

______________________________

أقول: العبارة الأولى لا تخلو من الإجمال، إذ الحكم بالكراهة الشرعية مع عدم العلم بجعله خمرا لا يعرف له وجه، إلّا أن يراد بها مع يعلم إجمالا بأنّه ممن يجعل الأعناب خمرا و لكن لا يعلم تفصيلا بجعله خصوص هذا العنب خمرا، و هو المحتمل في بعض العبارات الآتية الأخر أيضا و إن كان خلاف

الظاهر.

5- و في السرائر: «لا بأس ببيع الخشب لمن يجعله صنما أو صليبا أو شيئا من الملاهي، لأنّ الوزر على من يجعله كذلك لا على الذي باع الآلة، على ما رواه أصحابنا، و الأولى عندي تجنّب ذلك.» «1»

6- و فيه أيضا: «و لا بأس ببيع الخشب ممّن يتخذه ملاهي، و كذلك بيع العنب ممّن يجعله خمرا، فإنّه مكروه و ليس بحرام، و يكون الإثم على من يجعله كذلك لا على الذي باعه، و اجتناب ذلك أفضل. فأمّا إن اشترط البائع على المبتاع بأن يجعله خمرا و عقدا على ذلك مشترطا و مقرونا بالعقد فهذا حرام.» «2»

7- و في الشرائع بعد تحريم بيع العنب ليعمل خمرا و الخشب ليعمل صنما قال:

«و يكره بيع ذلك لمن يعملهما.» «3»

8- و نحوه كلام العلّامة في الإرشاد. «4»

أقول: الظاهر من قولهم: «ليعمل خمرا» اشتراط ذلك في متن العقد لا ما كان بنحو الداعي فقط.

9- و في التحرير: «و يجوز بيع ذلك كلّه على من يعمله إذا لم يبعه لذلك على كراهية.» «5»

______________________________

(1) السرائر 2/ 225، باب ضروب المكاسب.

(2) نفس المصدر 2/ 327، باب بيع الغرر و المجازفة و ما يجوز بيعه و ما لا يجوز.

(3) الشرائع/ 263 (- ط. أخرى 2/ 10)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني مما يحرّم الاكتساب به.

(4) إرشاد الأذهان 1/ 357، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل، الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(5) التحرير/ 160، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 285

..........

______________________________

10- و في القواعد: «و يكره بيعهما على من يعمله من غير شرط.» «1»

11- و في المنتهى عقيب مسألة تحريم بيع العنب ليعمل خمرا قال: «و هل يجوز أن

يباع على من يعمله إذا لم يبعه لذلك، نصّ أصحابنا على جوازه، و هو قول الحسن البصري و عطاء و الثوري، و منع منه أحمد و كرهه الشافعي. لنا: أنّه عقد تمّ بشروطه و أركانه و لم يقرن به ما يبطل و كان سائغا بقوله- تعالى- وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ. لا يقال: إنّه ببيعه إيّاه مكنه من القبيح، فيكون حراما باطلا لقبحه. لأنّا نقول: التمكين من القبيح ليس بقبيح، لأنّ اللّه- تعالى- مكّن الكافر و الظالم من الكفر و الظلم و لم يكن ذلك قبيحا، و القول بالكراهة حسن ...» «2»

12- و لكن في المختلف بعد نقل كلامي النهاية و السرائر قال: «و الأقرب عندي أنّه إذا كان البائع يعلم أنّ المشتري يعمله صنما أو صليبا أو شيئا من الملاهي حرم بيعه و إن لم يشترط في العقد ذلك. لنا: أنّه قد اشتمل على نوع مفسدة فيكون محرّما، لأنّه إعانة على المنكر فيكون قبيحا، و ما رواه عمر بن أذينة ...» «3»

أقول: فهذا علّامتنا النحرير المتوغّل في الفقه تراه أفتى في كتبه المختلفة بطرفي النقيض في المسألة، و في الأكثر أفتى بالجواز.

13- و في سنن البيهقي قال: «باب كراهية بيع العصير ممن يعصر الخمر و السيف ممن يعصي اللّه عزّ و جلّ به». «4»

أقول: ليس في كلامه بيع العصير ممّن يعلم بجعله بخصوصه خمرا، ثم إنّ

______________________________

(1) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، في القسم الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(2) المنتهى 2/ 1010، كتاب التجارة، المقصد الثاني، النوع الثاني من البحث الأوّل.

و الآية من سورة البقرة، رقمها 275.

(3) المختلف/ 343، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(4) سنن البيهقي 5/ 327، كتاب البيوع.

دراسات في المكاسب

المحرمة، ج 2، ص: 286

..........

______________________________

لفظ الكراهة و مشتقاتها في الكتاب و السنّة و كتب القدماء من الفريقين لا يتمحّض في الكراهة المصطلحة بل يستعمل كثيرا في الحرمة أيضا.

14- و في المغني لابن قدّامة في فقه الحنابلة في ذيل قول الخرقي: «و بيع العصير ممّن يتخذه خمرا باطل.» قال: «و جملة ذلك أنّ بيع العصير لمن يعتقد أنّه يتخذه خمرا محرّم، و كرهه الشافعي، و ذكر بعض أصحابه أنّ البائع إذا اعتقد أنّه يعصرها خمرا فهو محرّم، و إنّما يكره إذا شكّ فيه. و حكى ابن المنذر عن الحسن و عطاء و الثوري أنّه لا بأس ببيع التمر لمن يتخذه مسكرا. قال الثوري: بع الحلال ممن شئت، و احتجّ لهم بقول اللّه- تعالى-: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ، و لأنّ البيع تمّ بأركانه و شروطه. و لنا: قول اللّه: وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ، و هذا نهي يقتضي التحريم. و روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه لعن في الخمر عشرة: فروى ابن عباس أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله أتاه جبرئيل فقال: «يا محمّد، إنّ اللّه لعن الخمر، و عاصرها، و معتصرها، و حاملها، و المحمولة إليه، و شاربها، و بائعها، و مبتاعها، و ساقيها»، و أشار إلى كلّ معاون عليها و مساعد فيها.» «1»

أقول: المذكور في الحديث الذي نقله تسعة، و ذكر في مسند أحمد بعد ذكر ساقيها: «و مستقيها.» «2»

15- و في مبسوط السرخسي في فقه الحنفية: «و لا بأس ببيع العصير ممن يجعله خمرا، لأنّ العصير مشروب طاهر حلال، فيجوز بيعه و أكل ثمنه، و لا فساد في قصد البائع، إنّما الفساد في قصد المشتري، وَ لٰا تَزِرُ

وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ. ألا ترى أنّ بيع الكرم ممن يتخذ الخمر من عنبه جائز لا بأس به، و كذلك بيع الأرض ممن يغرس فيها كرما ليتخذ من عنبه الخمر، و هذا قول أبي حنيفة، و هو القياس. و كره

______________________________

(1) المغني 4/ 283، كتاب البيوع، باب المصراة و غير ذلك.

(2) مسند أحمد 1/ 316، في مسند عبد اللّه بن العباس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 287

للأخبار المستفيضة (1):

منها: خبر ابن أذينة، قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له كرم، يبيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا أو مسكرا؟ فقال:

«إنّما باعه حلالا في الإبّان الذي يحلّ شربه أو أكله، فلا بأس ببيعه.» (2)

______________________________

ذلك أبو يوسف و محمّد استحسانا، لأنّ بيع العصير و العنب ممن يتخذه خمرا إعانة على المعصية و تمكين منها و ذلك حرام ...» «1»

أقول: فهذه بعض كلمات الفقهاء من الفريقين، و أنت ترى أنّ المسألة مختلف فيها في العامّة أيضا، فلا مجال لاحتمال حمل أخبار الجواز في المسألة على التقية، فتدبر.

الأخبار الواردة في المسألة

(1) البحث في المسألة تارة بلحاظ القواعد العامّة كآية التعاون و نحوها، و أخرى بلحاظ ما ورد فيها من الأخبار الخاصّة، و المصنّف قدّم الثاني.

فنقول: قد وردت في المسألة طائفتان من الأخبار: منها ما تدلّ على الجواز، و منها ما تدلّ على المنع:

(2) هذا أحد الأخبار المجوّزة، و السند صحيح أو حسن بإبراهيم بن هاشم.

و في الوسائل: «أ يبيع العنب و التمر.» «2» و لكن التمر لا يناسب الكرم، إلّا أن يكون ذكره من باب المثال. و فيه أيضا: «سكرا»، و في القاموس: «السّكر- محركة-: الخمر، و نبيذ يتخذ من التمر.» «3» و لعلّ الترديد من

الراوي.

______________________________

(1) مبسوط السرخسي 24/ 26 (المجلد 12)، كتاب الأشربة.

(2) الوسائل 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(3) القاموس المحيط 2/ 50.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 288

و رواية أبي كهمس، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام- إلى أن قال-:

ثم قال: «هو ذا! نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنّه يصنعه خمرا.» (1)

إلى غير ذلك مما هو دونهما في الظهور. (2)

______________________________

(1) خبر أبي كهمس هكذا: قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن العصير فقال:

لي كرم و أنا أعصره كلّ سنة و أجعله في الدنان و أبيعه قبل أن يغلي؟ قال: «لا بأس به، و إن غلى فلا يحلّ بيعه»، ثم قال: «هو ذا! نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمرا.» «1»

و في السند حنان، و الظاهر أنّه ابن سدير الصيرفي، و قالوا بوقفه و اختلفوا في وثاقته. «2»

و أبو كهمس كنية لثلاثة أشخاص: الهيثم بن عبد اللّه، و الهيثم بن عبيد، و القاسم بن عبيد. «3» و يحتمل اتحاد الأوّلين بل الثلاثة أيضا بكون القاسم مصحّف الهيثم. و كيف كان فلم يثبت وثاقتهم.

و كهمس: اسم من أسماء الأسد، و الرجل القبيح الوجه، و الناقة الكوماء أي العظيمة السنام.

و الظاهر أنّ سؤاله عن حكم بيع العصير قبل أن يغلي بنفسه، و لو غلى بنفسه يعدّ خمرا أو يكون بحكمه و لا يحلّ إلّا بالتخليل.

و ربما احتمل حمل لفظ الخمر في آخر الرواية على العصير المغلي بالنار قبل ذهاب ثلثيه، حيث شاع شربه في تلك الأعصار، و ذلك لاستبعاد بيعهم عليهم السّلام تمورهم ممن يصنعه خمرا اصطلاحيا، و لكن الاحتمال ضعيف جدّا.

(2) ذكر هذه الأخبار في الوسائل في الباب

التاسع و الخمسين من أبواب ما يكتسب به «4»، و قد مرّ اثنان منها.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) راجع تنقيح المقال 1/ 380.

(3) راجع نفس المصدر 3/ 32 من فصل الكنى.

(4) راجع الوسائل 12/ 168- 170.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 289

..........

______________________________

3- صحيحة البزنطي، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن بيع العصير فيصيّر خمرا قبل أن يقبض الثمن. فقال: «لو باع ثمرته ممّن يعلم أنّه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس، فأمّا إذا كان عصيرا فلا يباع إلّا بالنقد.»

هكذا في الوسائل عن الكافي ثمّ قال: «و رواه الشيخ مثله إلّا أنّه قال: «يعلم أنّه يجعله خمرا حراما.» «1»

أقول: لعلّ الفارق بين العصير و الثمرة أن العصير أقرب إلى الخمرية، فلو بيع بالنسيئة كان مظنة لأداء قيمته من ثمن الخمر الحاصلة منه. و أمّا الثمرة فيبعد زمان خمريتها فيحتمل قويا أداء قيمتها من غير ثمن الخمر.

4- صحيحة محمّد الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن بيع عصير العنب ممن يجعله حراما. فقال: «لا بأس به، تبيعه حلالا فيجعله حراما فأبعده اللّه و أسحقه.» «2»

و ليس فيها و كذا في بعض ما سيجي ء من الأخبار الأخر تصريح بعلم البائع حين البيع بجعله حراما، و لكن الظاهر من الأسئلة ذلك.

5- صحيحة أخرى للحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن بيع العصير ممّن يصنعه خمرا، فقال: «بعه ممن يطبخه أو يصنعه خلّا أحبّ إليّ و لا أرى بالأوّل بأسا.» «3»

و الظاهر أنّ المراد بالطبخ هنا هو الطبخ مع إذهاب الثلثين.

6- صحيحة أبي المغراء، قال: سأل يعقوب الأحمر أبا عبد اللّه عليه السّلام و

أنا حاضر فقال: إنّه كان لي أخ و هلك و ترك في حجري يتيما، و لي أخ يلي ضيعة لنا و هو يبيع العصير ممن يصنعه خمرا و يؤاجر الأرض بالطعام- إلى أن قال:- فقال: «أمّا

______________________________

(1) نفس المصدر 12/ 169، الحديث 1 و ذيله؛ عن الكافي 5/ 230؛ و التهذيب 7/ 138.

(2) نفس المصدر و الصفحة، الحديث 4.

(3) نفس المصدر 12/ 170، الحديث 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 290

..........

______________________________

بيع العصير ممن يصنعه خمرا فلا بأس، خذ نصيب اليتيم منه.» «1» و أبو المغراء كنية حميد بن المثنى، و هو ثقة.

7- صحيحة رفاعة بن موسى، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر عن بيع العصير ممن يخمّره، قال: «حلال، ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله شرابا خبيثا؟» «2»

و ظهور الشراب الخبيث في الخمر المصطلح واضح.

8- صحيحة محمد بن إسماعيل، قال: سأل الرضا عليه السّلام رجل و أنا أسمع عن العصير يبيعه من المجوس و اليهود و النصارى و المسلمين قبل أن يختمر و يقبض ثمنه أو ينساه؟ فقال: «لا بأس، إذا بعته حلالا، فهو أعلم- يعني العصير- و ينسئ ثمنه.» «3»

قوله: «فهو أعلم» يعني المشتري بما هو وظيفته. و قوله: «يعني» من كلام الراوي.

9- خبر أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا؟ قال: «إذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس.» «4»

و في السند القاسم بن محمّد الجوهري، و عليّ بن أبي حمزة البطائني، و هما واقفيان و لم يثبت وثاقتهما. «5»

و لعلّ المراد بالطبخ في الحديث الطبخ بلا إذهاب للثلثين، و كان هذا

قسما من الخمر يقال له الباذق أو البختج و إلّا لم يكن وجه للسؤال.

______________________________

(1) نفس المصدر، الحديث 7.

(2) نفس المصدر، الحديث 8.

(3) نفس المصدر 17/ 304، الباب 38 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 2.

(4) نفس المصدر 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(5) راجع تنقيح المقال 2/ 24؛ من أبواب القاف، و 2/ 260.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 291

و قد يعارض تلك بمكاتبة ابن أذينة عن رجل له خشب فباعه ممّن يتخذه صلبانا؟ قال: «لا». (1)

______________________________

10- خبر يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سأله رجل- و أنا حاضر- قال: إنّ لي الكرم؟ قال: «تبيعه عنبا.» قال: فإنّه يشتريه من يجعله خمرا؟ قال:

«فبعه إذا عصيرا.» قال: فإنّه يشتريه مني عصيرا فيجعله خمرا في قربتي؟ قال:

«بعته حلالا فجعله حراما فأبعده اللّه.» ثم سكت هنيهة ثم قال: «لا تذرن ثمنه عليه حتى يصير خمرا فتكون تأخذ ثمن الخمر.» «1»

و يزيد بن خليفة الحارثي واقفي و لم يثبت وثاقته. «2» و لعلّ قوله: «فبعه إذا عصيرا» كان من جهة احتمال إذهاب الثلثين فيه أو احتمال تخليله.

(1) مكاتبة ابن أذينة هكذا: قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه برابط؟ فقال: «لا بأس به.» و عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلبانا؟ قال: «لا.» «3»

و السند صحيح أو حسن بإبراهيم بن هاشم. و كان الأولى نقل المصنّف لكلتا الفقرتين.

و التفصيل بين البرابط و بين الصلبان مع حرمة كلتيهما لعلّه بنفسه شاهد على حمل النفي على الكراهة أو المرتبة الشديدة منها.

و يحتمل أن يكون من جهة قوة المفسدة في هياكل العبادة، كالصلبان،

و ضعفها في آلات اللهو كالبرابط و إن حرمت كلتاهما، بل في الأمور المهمة يكون الشكّ أيضا منجزا.

و على هذا فلا يقاس بيع العنب ممن يخمره ببيع الخشب لمن يتخذه صلبانا، بل

______________________________

(1) الوسائل 12/ 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.

(2) راجع تنقيح المقال 3/ 325.

(3) الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 292

و رواية عمرو بن حريث عن التوت أبيعه ممّن يصنع الصليب أو الصنم؟ قال: «لا.» (1)

______________________________

لعله من قبيل بيعه لمن يتخذه برابط. و قد مرّ عن المجلسي في مرآة العقول قوله:

«و المشهور بين الأصحاب حرمة بيع الخشب ليعمل منه هياكل العبادة و آلات الحرام، و كراهته ممن يعمل ذلك إذا لم يذكر أنّه يشتريه له، فالخبر محمول على ما إذا لم يذكر أنّه يشتريه لذلك، فالنهي الأخير محمول على الكراهة. و حمل الأوّل على عدم الذكر و الثاني على الذكر بعيد، و ربّما يفرق بينهما بجواز التقية في الأوّل لكونها ممّا يعمل لسلاطين الجور في بلاد الإسلام دون الثاني.» «1»

(1) في الوسائل: قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن التوت أبيعه يصنع به الصليب و الصنم؟ قال: «لا.» «2»

و السند في الوسائل نقلا عن الشيخ هكذا: «الحسن بن محبوب، عن أبان بن عيسى القمي، عن عمرو بن حريث.» و لكن في الكافي و كذا التهذيب: «أبان عن عيسى»، و هو الصحيح.

و في الكافي: «عمرو بن جرير»، و هو مجهول. نعم في التهذيب: «عمرو بن حريث.» و في الطبع القديم من الكافي أيضا جعله نسخة. «3» و عليه فالسند لا بأس به، إذ الظاهر كونه عمرو بن

حريث الصير في الأسدي من أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام، و قد وافقوا على توثيقه «4»، فتأمّل.

و كيف كان فهاتان روايتان تدلان على المنع، و لكن مورد كلتيهما- كما ترى- هياكل العبادة، و هي أمر مهمّ.

______________________________

(1) مرآة العقول 19/ 265، في شرح مكاتبة ابن أذينة، المروية في الكافي 5/ 226.

(2) الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(3) راجع الكافي 5/ 226 (طبعته القديمة من الفروع 1/ 393)؛ و التهذيب 6/ 373.

(4) راجع تنقيح المقال 2/ 327.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 293

و قد يجمع بينهما و بين الأخبار المجوّزة بحمل المانعة على صورة اشتراط جعل الخشب صليبا أو صنما أو تواطئهما عليه. (1)

و فيه: أنّ هذا في غاية البعد، إذ لا داعي للمسلم على اشتراط صناعة الخشب صنما في متن بيعه أو في خارجه ثم يجي ء و يسأل الإمام عليه السّلام عن جواز فعل هذا في المستقبل و حرمته، و هل يحتمل أن يريد الراوي بقوله: «أبيع التوت ممّن يصنع الصنم و الصليب» أبيعه مشترطا عليه و ملزما في متن العقد أو قبله أن لا يتصرف فيه إلّا بجعله صنما؟! (2)

______________________________

(1) قد مرّ عن السرائر قوله: «و لا بأس ببيع الخشب ممن يتخذه ملاهي، و كذلك بيع العنب ممّن يجعله خمرا ... فأمّا إن اشترط البائع على المبتاع بأن يجعله خمرا و عقدا على ذلك مشترطا و مقرونا بالعقد فهذا حرام.» «1»

و في الحدائق: «و قد تلخص من ذلك أنّ الظاهر من هذه الأخبار- بعد ضمّ بعضها إلى بعض- هو قصر التحريم على ما إذا وقع الاشتراط في العقد أو الاتفاق على البيع أو الإجارة لتلك الغاية المحرّمة،

و حلّ ما سوى ذلك.» «2»

وجوه الجمع بين الأخبار المتعارضة في المقام
اشارة

(2) قد جمعوا بين الأخبار المتعارضة في المقام بوجوه:

الوجه الأوّل: ما حكاه في المتن من حمل المانعة على صورة الاشتراط.

و يرد عليه أوّلا: ما ذكره المصنّف من أنّه لا داعى للمسلم إلى اشتراط صناعة الخشب صنما في متن بيعه أو في خارجه.

و ثانيا: أنه جمع تبرّعي لا شاهد له، لإطلاق كلتا الطائفتين و شمولهما لصورة

______________________________

(1) السرائر 2/ 327، باب بيع الغرر و المجازفة و ما يجوز بيعه و ما لا يجوز.

(2) الحدائق 18/ 206، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة، البحث الأوّل، المقام الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 294

فالأولى حمل الأخبار المانعة على الكراهة، لشهادة غير واحد من الأخبار على الكراهة، كما أفتى به جماعة. و يشهد له رواية الحلبي عن بيع العصير ممّن يصنعه خمرا؟ قال: «بيعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلا أحبّ إليّ، و لا أرى به بأسا.» (1) و غيرها.

______________________________

الاشتراط و غيرها. و مجرّد وجود القدر المتيقن في البين لكل منهما لا يوجب انصراف الإطلاق إليه و حمله عليه.

و ثالثا: أنّ صحيحة ابن أذينة المانعة جمع فيها بين الجواز و المنع فأجازت بيع الخشب لأن يتخذ برابط و منعت عن بيعه لاتخاذ الصلبان، و لا مجال لحمل رواية واحدة مع وحدة السياق فيها على جهتين متنافيتين كما مرّ عن المجلسي في مرآة العقول.

[الوجه الثاني من وجوه الجمع في المقام، حمل أخبار المنع على الكراهة]

(1) في الوسائل و التهذيبين: «بعه ممّن يطبخه ... و لا أرى بالأوّل بأسا.» «1»

و كيف كان فهذا هو الوجه الثاني من وجوه الجمع في المقام، و هو حمل أخبار المنع على الكراهة، و قد أفتى بها كثيرون كما مرّ و هو المختار للمصنّف أيضا. و لكن قوله: «لشهادة غير واحد من الأخبار على الكراهة» قابل للمناقشة، إذ لم نجد في أخبار الجواز ما يستشهد به للكراهة غير صحيحة الحلبي.

و يرد على هذا الوجه أوّلا: بأنّه لا

يلائم ما في بعض أخبار الجواز من بيعهم عليهم السّلام تمرهم ممّن يجعله خمرا أو شرابا خبيثا، لبعد صدور المكروه عنهم عليهم السّلام دفعة فضلا عن دفعات. إلّا أن يقال: إنّ المقصود من قوله عليه السّلام: «نحن نبيع تمرنا»، و قوله عليه السّلام: «ألسنا نبيع تمرنا» جماعة شيعتهم لا الأئمة عليهم السّلام، فأراد الإمام عليه السّلام بيان استقرار عمل شيعتهم على ذلك، و هذا يدلّ إجمالا على أصل الجواز، لتعبدهم بقول الأئمة عليهم السّلام، و لكن هذا خلاف الظاهر جدّا.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 170؛ و التهذيب 7/ 137؛ و الاستبصار 3/ 106، و قد مرّت في ص 289.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 295

أو التزام الحرمة في بيع الخشب ممن يعمله صليبا أو صنما لظاهر تلك الأخبار، و العمل في مسألة بيع العنب و شبهها على الأخبار المجوّزة. (1)

و هذا الجمع قول فصل لو لم يكن قولا بالفصل. (2)

______________________________

و ثانيا: لا نسلّم دلالة قوله: «أحبّ إليّ» على الكراهة و لا سيما مع تصريحه بعده بقوله: «و لا أرى بالأوّل بأسا»، إذ التفصيل يدلّ على محبوبية كلا الأمرين غاية الأمر كون أحدهما أحبّ من الآخر. نعم لو قال: «لا أحبّ» كان دليلا على الكراهة، إلّا أنّ يقال: إنّ اللفظ هنا للوصف لا للتفصيل، نظير قوله: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، و لكن مع ذلك دلالته على الكراهة غير واضحة.

و بالجملة فالقول بالكراهة و إن اشتهر بين الأصحاب لكن إقامة الدليل عليها مشكلة.

[الوجه الثالث للجمع بين الأخبار في المقام، العمل بكل من أخبار الجواز و المنع في مورده]

(1) هذا هو الوجه الثالث للجمع بين الأخبار في المقام، و حاصله: العمل بكل من أخبار الجواز و المنع في مورده و ما يشبهه، فيجوز بيع العنب ممّن يعلم بجعله خمرا،

و لا يجوز بيع الخشب ممن يتخذه صليبا أو صنما.

و يشهد لذلك صحيحة ابن أذينة، حيث فصّل فيها بين بيع الخشب ممن يتخذه برابط و بيعه ممن يتخذه صلبانا، و الاعتبار أيضا يساعد هذا التفصيل، إذ المفسدة في هياكل العبادة قوية جدّا. و قد ثبت في محلّه أنّ في الأمور المهمة الاحتمال أيضا منجز فضلا عن العلم. و شرب الخمر و صنعها و كذا صنع البرابط و غيرها من آلات اللهو و إن كانت محرّمة إلّا أنها ليست في حدّ عبادة الأصنام و اتخاذ الصلبان التي هي من شعار المسيحية، و يمكن اختلاف مقدّمات الحرام جوازا و منعا حسب اختلاف ذويها في مراتب المفسدة و المبغوضية.

(2) لا بأس بالقول بالفصل إلّا إذا ثبت الإجماع على عدم الفصل، و ثبوته بنحو يكشف عن تلقي المسألة عن الأئمة عليهم السّلام مشكل، و قد مرّ عن الصدوق في المقنع الإفتاء بهذا الفصل، «1» فتدبّر.

______________________________

(1) راجع المقنع/ 390، و قد مرّ في ص 283.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 296

[الوجه الرابع: حملها على وهم البائع أنّ المشتري يعمل هذا المبيع خمرا لكونه ممن يجعله خمرا]

______________________________

الوجه الرابع: ما ذكره المقدس الأردبيلي في مجمع الفائدة، فإنّه بعد التأمّل في الجواز مع العلم أو الظنّ بعمل المبيع خمرا فإنّه معاونة على الإثم و العدوان و هو محرّم بالعقل و النقل قال: «و يمكن حملها على وهم البائع أنّ المشتري يعمل هذا المبيع خمرا لكونه ممن يجعله خمرا، أو يكون الضمير راجعا إلى مطلق العصير و التمر لا إلى المبيع. و لا صراحة في الأخبار ببيعه ممن يعلم أنّه يجعل هذا المبيع خمرا، بل لا يعلم فتوى المجوز بذلك. و بالجملة الظاهر التحريم مع علمه بجعل هذا المبيع خمرا بل ظنه أيضا، فتأمّل.» «1»

و ناقشه في

الحدائق بقوله: «لا يخفى ما فيه من التعسف و التكلّف و الخروج عن ظاهر الأخبار بل صريحها ... و ما ذكره من الحمل على توهّم البائع أو رجوع الضمير إلى مطلق العصير و التمر لا المبيع عجيب من مثله. و كيف لا و هو عليه السّلام يقول: «إنّا نبيع تمرنا ممن نعلم أنّه يصنعه خمرا و شرابا خبيثا»، أي يصنع ذلك التمر الذي نبيعه إيّاه، كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم و الفهم القويم.

و بالجملة فإنّه لو قامت هذه الاحتمالات البعيدة لا نغلق باب الاستدلال.» «2»

الوجه الخامس: [حمل المجوزة على كون المشتري شغله ذلك و المانعة على العلم بصرف هذا في المحرّم]

ما ذكره السيّد الطباطبائي «قده» في حاشيته و مرجعه إلى وجهين يقرب أحدهما مما ذكره المقدس الأردبيلي «قده»، قال: «و يمكن الجمع بحمل الأخبار المجوزة على صورة العلم بكون المشتري شغله ذلك و إن لم يكن جعله هذا العنب الخاص خمرا معلوما، و الأخبار المانعة على صورة العلم بصرف هذا المبيع في المحرّم. و يمكن بوجه آخر، و هو حمل المانعة على صورة العلم بقصد المشتري صرفه في المحرّم، إذ حينئذ يدخل تحت الصورة الأولى التي ذكر أنّه لا خلاف و لا إشكال فيها، لما عرفت من عدم الفرق بين قصدهما معا أو أحدهما، و حمل الأخبار المجوزة على صورة العلم بالتخمير مع عدم العلم بقصده ذلك

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 50، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل.

(2) الحدائق 18/ 205، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة، البحث الأوّل، المقام الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 297

و كيف كان فقد يستدلّ على حرمة البيع ممّن يعلم أنه يصرف المبيع في الحرام بعموم النهي عن التعاون على الإثم و العدوان. (1)

______________________________

حين الشراء.» «1»

أقول: ظاهر ما ذكره المصنّف هو

التفصيل بين قصد البائع و عدم قصده لا قصد المشتري، و قد مرّ أنّ الملاك و الميزان في المعاملة ما وقع الإنشاء عليه من العوضين، و الدواعي و القصود المقارنة لا توجب تقيّدا في العوضين سواء كانت في ناحية البائع أو في ناحية المشتري. و أمّا ما ذكره من الوجه الأوّل فمرجعه إلى ما ذكره الأردبيلي و يرد عليه ما أورد عليه.

الوجه السادس: أن تحمل أخبار الجواز على التقية،

لما مرّ من إفتاء بعض فقهاء العامّة و منهم أبو حنيفة بالجواز.

و فيه- مضافا إلى كون المسألة خلافية بين العامّة أيضا كما مرّ بعض كلماتهم- أنّ الجمع الدلالي مهما أمكن مقدم على لحاظ جهة الصدور. هذا.

و المحقّق الإيرواني «قده» بعد الإشارة إلى بعض ما مرّ من طرق الجمع و الإشكال فيها قال: «فالمتعيّن العمل بأخبار الجواز، لقوّة سندها باشتمالها على الصحيح. و مع فرض التكافؤ فالأصل هو التخيير، فجاز الأخذ بأخبار الجواز.

و لو فرض التساقط فالمرجع عمومات حلّ البيع و التجارة عن تراض.» «2» هذا.

و المسألة في غاية الإشكال، إذ رفع اليد عن الأخبار المستفيضة الدالّة على الجواز مشكل، و الالتزام بمضمونها على فرض صدق الإعانة على الإثم أشكل.

(1) قد مرّ أنّ البحث في المسألة تارة بلحاظ القواعد العامّة، و أخرى بلحاظ الأخبار الخاصّة الواردة فيها. و المصنّف قدّم الثانية و حكم بلحاظها بالجواز مع الكراهة، و الصناعة الفقهية أيضا تقتضي الجواز لاستفاضة أخبار الجواز و صحّة

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 7، ذيل قول المصنّف: أو التزام الحرمة ...

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 15، ذيل قول المصنّف: للأخبار المستفيضة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 298

..........

______________________________

كثير منها و إفتاء الأكثر بها. و خبرا المنع وردا في خصوص بيع الخشب ممّن يتّخذه صليبا

أو صنما، و يمكن التفصيل بين هياكل العبادة و بين غيرها ممّا ليست في حدّها من الأهمية و الفساد. و إلقاء الخصوصية إنّما يصحّ مع العلم بعدمها و لا علم بذلك في المقام مع قوة المفسدة في هياكل العبادة.

البحث في المسألة بلحاظ القواعد العامّة

و أمّا البحث بلحاظ القواعد العامّة فالعمدة منها ثلاثة أمور:

الأوّل: حكم الشارع بحرمة التعاون على الإثم و العدوان.

الثاني: حكم العقل بقبح إعانة الغير في الأمر القبيح و المحرم.

الثالث: أن دفع المنكر واجب كرفعه.

أمّا الأمر الأوّل فالبحث فيه تارة في مفهوم التعاون و الإعانة و ما يعتبر في صدقهما، و أخرى في بيان حكمهما شرعا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 299

..........

______________________________

البحث في مفهوم الإعانة و ما يعتبر في صدقها
[البحث في مفهوم الإعانة]
[الأقوال في المسألة]

أمّا الأوّل ففيه وجوه بل أقوال:

الأوّل: ما استظهره المصنّف من الأكثر، و هو أنّ الإعانة عبارة عن إيجاد مقدمة من مقدّمات فعل الغير و إن لم يقصد حصوله منه.

الثاني: إيجادها بقصد حصوله منه، كما في كلام المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد. و إطلاق القولين يقتضي التعميم لصورة وقوع المعان عليه في الخارج و عدم وقوعه.

الثالث: أنّه يعتبر فيه مع قصد ذلك وقوع الفعل المعان عليه في الخارج أيضا، و قد نسبه المصنّف إلى بعض معاصريه و أراد به صاحب العوائد كما يأتي.

الرابع: ما نسبه المصنّف إلى المحقّق الأردبيلي من اعتبار القصد أو وقوع المقدّمة على وجه يصدق عليها الإعانة عرفا، مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاه و لو لم يقصد ذلك.

الخامس: إيجاد بعض المقدمات القريبة دون البعيدة.

السّادس: إيجاد بعض المقدّمات مطلقا بشرط وقوع المعان عليه في الخارج سواء تحقق القصد أم لا، اختار هذا في مصباح الفقاهة «1»، كما يأتي بيانه.

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 176، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني، و يأتي في ص 316.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 300

و قد يستشكل في صدق الإعانة بل يمنع، حيث لم يقع القصد إلى وقوع الفعل من المعان، بناء على أنّ الإعانة هي فعل

بعض مقدمات فعل الغير بقصد حصوله منه لا مطلقا. و أوّل من أشار إلى هذا المحقق الثاني في حاشية الإرشاد في هذه المسألة، حيث إنّه بعد حكاية القول بالمنع مستندا إلى الأخبار المانعة قال: «و يؤيّده قوله- تعالى-:

وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ. و يشكل بلزوم عدم جواز بيع شي ء مما يعلم عادة التوصّل به إلى محرّم لو تمّ هذا الاستدلال، فيمنع معاملة أكثر الناس. (1) و الجواب عن الآية المنع من كون محلّ النزاع معاونة، مع أنّ الأصل الإباحة، و إنّما يظهر المعاونة مع بيعه لذلك.»

انتهى.

______________________________

(1) إذا العلم أعمّ من التفصيلي، و العلم الإجمالي بالصرف في الحرام متحقق في كثير من الموارد بل التفصيلي أيضا يتحقق كثيرا.

قال في مفتاح الكرامة بعد نقل كلام المحقّق الثاني: «و هذا متين جدّا، لأن السيرة قد استمرّت على المعاملة على بيع المطاعم و المشارب للكفّار في شهر رمضان مع علمهم بأكلهم، و على بيعهم بساتين العنب و النخيل مع العلم العادي بجعل بعضه خمرا، و على معاملة الملوك فيما يعلمون صرفه في تقوية الجند و العساكر المساعدين لهم على الظلم و الباطل، إلى غير ذلك مما لا يحصى.» «1»

و ذكر نحو ذلك في الجواهر و أضاف إلى ما ذكر: إجارة الدور و المساكن و المراكب لهم و بيع القرطاس منهم مع العلم بأنّ منه ما يتخذ كتب ضلال. ثم قال: «و من

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 38، كتاب المتاجر، المقصد الأول، الفصل الأول.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 301

و وافقه في اعتبار القصد في مفهوم الإعانة جماعة من متأخري المتأخرين كصاحب الكفاية و غيره. (1) هذا.

و ربما زاد بعض المعاصرين (2) على اعتبار القصد اعتبار وقوع المعان عليه

في تحقق مفهوم الإعانة في الخارج، و تخيّل أنّه لو فعل فعلا بقصد تحقق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقق منه لم يحرم من جهة صدق الإعانة بل من جهة قصدها، بناء على ما حرّره من حرمة الاشتغال بمقدّمات الحرام بقصد تحققه، و أنّه لو تحقق الفعل كان حراما من جهة القصد إلى المحرّم و من جهة الإعانة.

______________________________

ذلك يظهر أنّ قصد العليّة من طرف المشتري غير قادح، ضرورة حصوله فيما عرفت، فلو كان قادحا لاقتضى فساد البيع لأنّ فساده من جانب، فساد من الجانبين ...» «1»

(1) راجع كفاية السبزواري في هذه المسألة «2» و لم يعلم المراد بقوله:

«و غيره»، فإن أراد المقدس الأردبيلي «قده» فهو- كما يأتي- لا يشترط القصد تعيينا بل القصد أو الصدق العرفي.

نقل كلام الفاضل النراقي في العوائد

(2) أراد به الفاضل النراقي «قده» في العوائد، و الأولى نقل كلامه ملخصا لما فيه من فوائد:

قال في أوائل العوائد ما ملخّصه: «عائدة: قال اللّه- سبحانه- في سورة المائدة: وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ و هذه الآية تدلّ على حرمة المعاونة على كلّ

______________________________

(1) الجواهر 22/ 32- 33، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(2) كفاية الأحكام/ 85، كتاب التجارة، المقصد الثاني، المبحث الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 302

و فيه تأمّل، فإنّ حقيقة الإعانة على الشي ء هو الفعل بقصد حصول الشي ء سواء حصل أم لا، و من اشتغل ببعض مقدمات الحرام الصادر عن الغير بقصد التوصّل إليه فهو داخل في الإعانة على الإثم، و لو تحقق الحرام لم يتعدّد العقاب.

______________________________

ما كان إثما و عدوانا، و استفاضت على تحريمها الروايات و انعقد عليه إجماع العلماء كافة، و لا كلام في ثبوت تحريمها و

النهي عنها، و إنّما الكلام في تعيين ما يكون مساعدة و معاونة على الإثم و العدوان.

و تحقيقه أنّه لا شكّ و لا خفاء في أنّه يشترط في تحقق الإعانة صدور عمل و فعل من المعاون له مدخلية في تحقق المعاون عليه و حصوله أو في كماله و تماميّته.

و إنّما الخفاء في اشتراط القصد إلى تحقق المعاون عليه من ذلك العمل، و في اشتراط تحقق المعاون عليه و عدمه أي ترتّبه على فعله، و في اشتراط العلم بتحقق المعاون عليه أو الظنّ أم لا، و في اشتراط العلم بمدخلية فعله في تحققه.

أمّا الأوّل فالظاهر اشتراطه. و معناه أن يكون مقصود المعاون من فعله ترتّب المعاون عليه و حصوله في الخارج، سواء كان على سبيل الانفراد أم على الاشتراك، لأنّ المتبادر من المعاونة و المساعدة ذلك عرفا، فإنّا نعلم أنّه لو لم يعط زيد ثوبه إلى الخياط ليخيطه لا يخيطه الخياط و لا يتحقّق منه خياطة، مع أنّه لو أعطاه إيّاه و خاطه لا يقال: إنّه أعانه على صدور الخياطة، لأنّ غرضه كان صيرورة الشي ء مخيطا لا صدور الخياطة منه، إلّا إذا كان مقصوده صدور هذه الخياطة منه، كما إذا كان ثوب لشخص و أراد ثلاثة من الخيّاطين خياطته فسعى شخص في إعطائه إلى واحد معين ليصدر منه الخياطة فيقال: إنّه أعانه على ذلك. و لذا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 303

..........

______________________________

ترى أنّه لا يقال للدافعين أثوابهم إلى الخياط إنّهم أعانوه على صنعة الخياطة و تعلّمها، مع أنّه لو لا دفع أحد ثوبه إليه لم يتعلّم صنعة الخياطة.

و لو دفع أحد ثيابا متعددة إلى شخص ليخطيها و كان غرضه ترغيبه إلى تعلمها و تحسينها حتى

صار ذلك سببا لتعلّمها يقال عرفا إنّه أعانه عليها. و كذا التاجر لا يتجر لو علم أنّ أحدا لا يشتري منه شيئا أو لا يبيعه، فللبيع و الشراء منه مدخلية في تحقق التجارة منه و لا يقال للبائعين و المشترين إنّهم معاونوه على التجارة، بخلاف ما لو باع أحد منه و اشترى منه لترغيبه في التجارة و تعلّمه لها فيقال: إنّه أعانه عليها.

و أمّا الثاني: فالظاهر أيضا اشتراطه، فلو فعل أحد عملا قد يترتب عليه أمر و يكون له مدخلية في تحقق ذلك الأمر و لم يترتّب عليه ذلك فلا يقال: إنّه أعانه على ذلك الأمر و إن كان مقصوده منه إعانة شخص آخر في تحقّق ذلك و حصوله.

و لكن لو كان ذلك الأمر الذي يريد المعاونة عليه إثما و محرما يكون ذلك الفعل الذي صدر من المعاون أيضا إثما و حراما، لما علم في العائدة السابقة، كما لو قلنا بكونه معاونة على الإثم، غاية الأمر اختلاف جهة الحرمة و لو قلنا بكون ذلك أيضا معاونة على المحرم يحرم بالاعتبارين. و على هذا فلو غرس أحد كرما بقصد عصر الخمر منه للخمارين فهو عاص في هذا الغرس آثم مطلقا، فلو أثمر و حصل منه الخمر و شرب يكون معاونة على الإثم أيضا و يكون حراما من هذه الجهة أيضا. و لو لم يتفق فيه ذلك حتّى قلع لا يكون معاونة على إثم و لكن يكون حراما لأجل قصده.

و أمّا الثالث و هو العلم بتحقق المعاون عليه و بترتبه على عمله فهو لا يشترط، فإنّه لو غرس كرما بقصد أنّه لو أراد أحد شرب الخمر كان حاضرا فأثمر و أخذ منه الخمر و شرب يكون عمله

معاونة على الإثم، و إن لم يؤخذ منه الخمر لا يكون

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 304

..........

______________________________

معاونة و إن أثم في غرسه بهذا القصد. فالمناط في الإثم و الحرمة مطلقا هو العمل مع القصد سواء ترتب عليه ما قصد ترتبه عليه أم لا. و سواء علم أنّه يتحقق أو فعله بقصد أنّه لعلّه يتحقق. و المناط في المعاونة على الإثم هو القصد و تحقق المعاون عليه معا، فلو تحقق يأثم بالاعتبارين.

و من هذا يظهر حال الرابع أيضا، أي اشتراط العلم بمدخلية عمله في تحقق المعاون عليه أم لا، و ذلك كما إذا علم أنّ زيدا الظالم يقتل اليوم عمرا ظلما فأرسل إليه سيفا لذلك مع عدم علمه بأنّه هل يحتاج إلى هذا السيف في قتله و له مدخلية في تحقق القتل أم لا؟ فإنّه يكون آثما في الإرسال قطعا، فإن اتفق احتياجه إليه و ترتب القتل عليه يكون معاونا على الإثم أيضا و إلّا فلا.

ثم إذا أحطت بما ذكرنا تعلم ما ذهب إليه الأكثر من جواز بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا ما لم يتفق عليه و حرمته مع الاتفاق عليه.

أمّا الأوّل فلأنّ المقصود من البيع ليس جعل ذلك خمرا فلا يكون إعانة على الإثم.

و ذلك مثل حمل التاجر المتاع إلى بلد للتجارة مع علمه بأنّ العاشر يأخذ منه العشور.

و أمّا الثاني فلأنّ مع الاتفاق عليه أو شرطه يكون البائع بائعا بقصد الحرام فيكون آثما و إن لم يكن لأجل المعاونة على الإثم لو لم يتحقق جعله خمرا.

و من هذا يظهر عدم الحاجة إلى التأويلات البعيدة في الروايات المصرّحة بجواز بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمرا و الخشب لمن يجعله برابط

و إجارة السفينة لمن يحمل الخمر و الخنزير، بل تبقى على ظاهرها.

و من ذلك أيضا يظهر سرّ ما ورد في روايات كثيرة من جواز بيع المتنجّس من الذمّي و الميتة لمستحلّ الميتة مع كون الكفّار مكلّفين بالفروع، فإنّه لا ضير في ذلك لأنّ البائع لم يفعل حراما.» «1»

______________________________

(1) عوائد الأيّام/ 26، العائدة السابعة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 305

..........

______________________________

أقول: أمّا ما أشار إليه في أثناء كلامه و فصّله في العائدة السابقة من أنّ الإتيان بمقدمة الحرام بقصد التوصل بها إليه يكون محرما شرعا و إن لم يترتب عليها، فهو ممنوع و إلّا لزم كون الآتي بالحرام مع مقدماتها الكثيرة بقصده مرتكبا لمعاص كثيرة و مستحقا لعقوبات كثيرة، و هو كما ترى.

و بالجملة فكما لا نسلّم وجوب مقدمة الواجب وجوبا شرعيا لا نسلّم حرمة مقدمة الحرام أيضا حرمة شرعية و إن وقعت بقصد التوصّل بها إليه.

نعم لا ننكر كونه متجريا و لكنه غير مفهوم العصيان المنتزع عن مخالفة الأمر و النهي المولويين في قبال مفهوم الإطاعة. و القول بكون الإعانة على الإثم و العدوان بنفسها محرما شرعيا بمقتضى العقل و الآية و إن أوجب كون عمل المعين بنفسه محرما شرعيا غير عمل المعان لكن هذا العنوان لا ينطبق و لا يصدق على إتيان نفس المعان بمقدمات عمله كما لا يخفى. هذا. و لكن في خصوص باب الخمر يمكن القول بحرمة مقدمات تحصيلها و شربها أيضا، لما ورد من لعن غارسها و حاملها و المحمولة إليه، فتدبّر.

و أمّا ما ذكره الفاضل النراقي أخيرا من جعل الحكم بجواز بيع المتنجّس من الذمّي و الميتة من مستحلّها من باب عدم صدق الإعانة بدون القصد.

ففيه أنّ مقتضى ذلك جواز

بيعهما من فسّاق المسلمين أيضا مع عدم القصد و لا يقولون بذلك إذ يحكمون بحرمة بيعهما منهم و بطلانه لعدم ماليتهما شرعا، و إنّما حكموا بجواز بيعهما من مستحليهما بالروايات الخاصة الواردة فيهما، فراجع. و لعلّه من جهة أنّ المستحلّ لهما و إن كان في متن الواقع مكلّفا بالفروع لكنه في حال أكلهما لا يرى نفسه متهتكا و عاصيا بخلاف المؤمن الفاسق. و كيف كان فليس جواز بيعهما من مستحلّهما ناشئا عن عدم قصد البائع للانتفاع المحرم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 306

التعرّض لخمسة أمور يمكن القول بدخالتها في صدق مفهوم الإعانة

______________________________

ثمّ إنّك رأيت أنّه «قده» تعرّض لأربعة أمور يمكن القول بدخالتها في صدق مفهوم الإعانة:

الأوّل: قصد موجد المقدمة لتحقق المعان عليه.

الثاني: تحققه و ترتبه عليها خارجا.

الثالث: العلم أو الظن بتحققه.

الرابع: العلم بمدخلية فعل المعين في تحققه.

و قد صرّح «قده» باعتبار الأوّلين في صدقها و عدم اعتبار الأخيرين.

و أضاف الأستاذ الإمام «قده» إلى الأمور الأربعة أمرا خامسا، و هو قصد المعان خصوص المنفعة المحرمة فعلا و أنّه هل يعتبر ذلك في صدق الإعانة أو يكفي في ذلك تخيّل المعين لقصده ذلك. «1»

فلنتعرّض للأمور الخمسة إجمالا:

هل القصد معتبر في مفهوم الإعانة أم لا؟

أمّا الأوّل فقد مرّ من المصنّف عن المحقّق الثاني و المحقّق السبزواري اعتبار قصد البائع في صدقها. و اختار الأستاذ الإمام «قده» أيضا ذلك:

قال: «فإنّ الظاهر أنّ إعانة شخص على شي ء عبارة عن مساعدته عليه و كونه ظهيرا للفاعل، و هو إنّما يصدق إذا ساعده في توصّله إلى ذلك الشي ء، و هو يتوقّف على قصده لذلك.

فمن أراد بناء مسجد فكلّ من أوجد مقدمة لأجل توصّله إلى ذلك المقصد

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «قده» 1/ 141 (ط. أخرى 1/ 210)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 307

..........

______________________________

يقال: ساعده عليه و أعانه على بناء المسجد.

و أمّا البائع للجصّ و الآجرّ و سائر ما يتوقف عليه البناء إذا كان بيعهم لمقاصدهم و بدواعي أنفسهم، فليس واحد منهم معينا و مساعدا على البناء و لو علموا أنّ الشراء لبنائه. نعم لو اختار أحدهم من بين سائر المبتاعين الباني للمسجد لتوصّله إليه كان مساعدا بوجه دون ما إذا لم يفرّق بينه و بين غيره لعدم قصده إلّا الوصول بمقصده.

فالبزّاز البائع لمقاصده ما يجعل سترا للكعبة ليس معينا على البرّ

و التقوى و لا البائع للعنب بمقصد نفسه ممن يجعله خمرا معين على الإثم و مساعد له فيه. بل لو أوجد ما يتوقف عليه مجّانا لغرض آخر غير توصّله إلى الموقوف لا يصدق أنّه أعانه و ساعده عليه.

و التشبّث ببعض الروايات و الآيات لنفي اعتباره مع أنّ الاستعمال فيها من قبيل الاستعارة و نحوها في غير محلّه.

و أمّا الصدق على إعطاء العصا و السكّين لمريد الظلم و القتل حينهما فلعلّه لعدم التفكيك في نظر العرف بين إعطائه في هذا الحال و قصد توصّله إلى مقصده.

و لهذا لو جهل بالواقعة لا يعدّ من المعاون على الظلم، فلو أعطاه العصا لقتل حيّة و استعمله في قتل إنسان لا يكون معينا على قتل الإنسان. و بالجملة إنّ الصدق العرفي في المثال المتقدم لعدم التفكيك عرفا، و لهذا لو اعتذر المعطي بعدم إعطائه للتوصّل إلى الظلم مع علمه بأنّه أراده لا يقبل منه.» «1»

أقول: قوله «قده»: «و التشبث ببعض الروايات» إشارة إلى ما يأتي الإشارة إليها ممّا استعمل فيها لفظ الإعانة و مشتقاتها فيما لا قصد فيه.

و قوله: «و أمّا الصدق على إعطاء العصا و السكّين» إشارة إلى ما يأتي عن المقدس الأردبيلي في آيات أحكامه.

و أمّا ما ذكره «قده» من المثال ببناء المسجد و غيره فيمكن أن يناقش بأنّ المتبادر من الإعانة على البرّ و الأمور الدينية في الاصطلاح الدارج بين المتشرّعة هو

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 142 (ط. أخرى 1/ 212).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 308

و ما أبعد ما بين ما ذكره المعاصر و بين ما يظهر من الأكثر من عدم اعتبار القصد:

فعن المبسوط الاستدلال على وجوب بذل الطعام لمن يخاف تلفه بقوله صلى اللّه

عليه و آله: «من أعان على قتل مسلم و لو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آئس من رحمة اللّه.» (1)

______________________________

الإقدام فيها تبرعا و قربة إلى اللّه- تعالى-، و هذا اصطلاح خاصّ دارج بيننا، فلا يجوز أن يجعل ملاكا و مقياسا لمفهوم الإعانة بحسب اللغة و العرف العامّ، فلعلّها بحسب اللغة موضوعة لكلّ ماله دخل في تحقق الفعل من الغير، و الآية تحمل على المفهوم اللغوي و العرف العامّ. و حمل الاستعمالات الكثيرة الواردة في الروايات على الاستعارة و المجازيّة يحتاج إلى دليل متقن.

ثمّ إنّه «قده» بعد اختيار اعتبار القصد في مفهوم الإعانة استدرك على كلامه هذا فقال: «ثمّ إنّه على القول باعتبار القصد و تحقق الإثم في مفهومها لقائل أن يقول بإلقاء القيدين حسب نظر العرف و العقلاء بالمناسبات المغروسة في الأذهان، بأن يقال: إنّ الشارع الأقدس أراد بالنهي عن الإعانة على الإثم و العدوان قلع مادّة الفساد و المنع عن إشاعة الإثم و العدوان. و عليه لا فرق بين قصده إلى توصّل الظالم بعمله و عدمه مع علمه بصرفه في الإثم و العدوان. فالنهي عن الإعانة إنّما هو لحفظ غرضه الأقصى و هو القلع المذكور فيلقي العرف خصوصية قصد التوصّل.» «1»

أقول: فيرجع كلامه الأخير إلى أن القصد و إن أخذ في مفهوم الإعانة لغة لكن المنهي عنه شرعا في الحقيقة أعمّ من ذلك.

(1) راجع أطعمة المبسوط، و سنن ابن ماجة. و رواه في الوسائل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. «2»

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 143 (ط. أخرى 1/ 214).

(2) راجع المبسوط 6/ 285؛ و سنن ابن ماجة 2/ 874، كتاب الديات، الباب 1؛ و الوسائل 19/ 9، الباب 2 من أبواب

القصاص في النفس، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 309

و قد استدلّ في التذكرة على حرمة بيع السّلاح من أعداء الدين بأنّ فيه إعانة على الظلم. (1)

و استدلّ المحقق الثاني على حرمة بيع العصير المتنجّس ممّن يستحلّه بأنّ فيه إعانة على الإثم. (2)

و قد استدلّ المحقق الأردبيلي على ما حكي عنه من القول بالحرمة في مسألتنا بأنّ فيه إعانة على الإثم. (3)

و قد قرّره على ذلك في الحدائق فقال: إنّه جيّد في حدّ ذاته لو سلم من المعارضة بأخبار الجواز. (4)

______________________________

(1) راجع لواحق كتاب البيع من التذكرة. «1»

(2) عن حاشيته على الإرشاد و لم يطبع.

(3) قال في مجمع الفائدة: «و لكن في الجواز تأمّل إذا علم أو ظنّ بعمل المبيع خمرا، فإنّه معاونة على الإثم و العدوان، و هو محرّم بالعقل و النقل كما مرّ.» «2»

(4) راجع كتاب التجارة من الحدائق. «3»

______________________________

(1) راجع التذكرة 1/ 852، كتاب البيع، المقصد الثامن، الفصل الأول، القسم الثاني من التجارة المحرّمة.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 50، كتاب المتاجر، المقصد الأول، المطلب الأوّل.

(3) الحدائق 18/ 205، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة، البحث الأوّل، المقام الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 310

و في الرياض- بعد ذكر الأخبار السّابقة الدالّة على الجواز- قال:

«و هذه النصوص و إن كثرت و اشتهرت و ظهرت دلالتها بل ربما كان بعضها صريحا لكن في مقابلتها للأصول و النصوص المعتضدة بالعقول إشكال.» انتهى. (1)

و الظاهر أنّ مراده بالأصول قاعدة حرمة الإعانة على الإثم، و من العقول حكم العقل بوجوب التوصّل إلى دفع المنكر مهما أمكن.

و يؤيد ما ذكروه من صدق الإعانة بدون القصد إطلاقها في غير واحد من الأخبار:

ففي النبوي المرويّ في الكافي عن

أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أكل الطّين فمات فقد أعان على نفسه.» (2)

______________________________

(1) راجع الرياض، أوائل كتاب التجارة. «1» و في حاشية الإيرواني:

«و يحتمل أن يكون مراده بالأصول أصالة الفساد أعني استصحاب عدم تحقق الأثر.» «2»

(2) رواه في الوسائل عن الكليني، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: من أكل الطين.» الحديث. و رواه الشيخ أيضا عنه. «3» و السند معمول به عند القدماء من أصحابنا في الأبواب المختلفة، كما يظهر بالتتبع.

______________________________

(1) رياض المسائل 1/ 500، كتاب التجارة.

(2) حاشية المكاسب/ 16، ذيل قول المصنّف: و الظاهر أنّ مراده بالأصول ...

(3) الوسائل 16/ 393 (ط. أخرى 16/ 485)، الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 7؛ عن الكافي 6/ 266؛ و التهذيب 9/ 89.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 311

و في العلوي الوارد في الطين المرويّ أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «فإن أكلته و متّ فقد أعنت على نفسك.» (1)

و يدلّ عليه غير واحد ممّا ورد في أعوان الظلمة، و سيأتي. (2)

______________________________

(1) رواه في الوسائل عن الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل، عن ابن فضّال، عن ابن القدّاح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام في رجل يأكل الطين، فنهاه و قال: «لا تأكله فإن أكلته و متّ كنت قد أعنت على نفسك.» و رواه الشيخ أيضا عنه. «1» و السند لا بأس به إلّا من ناحية السهل، و قيل: الأمر فيه سهل.

(2) راجع الوسائل، الباب الاثنين و الاربعين من أبواب ما يكتسب به، فعن الكليني، عن عليّ

بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بشير، عن ابن أبي يعفور قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل (فدخل خ. ل) عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك (أصلحك اللّه خ. ل) إنّه ربما أصاب الرجل منا الضيق أو الشدّة فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه، أو المسنّاة يصلحها فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما أحبّ أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء و أنّ لي ما بين لابتيها، لا و لا مدّة بقلم. إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللّه بين العباد.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن ابن أبي عمير مثله. «2»

و بشير مجهول، حاله غير واضح، «3» إلّا أن يعتمد على نقل ابن أبي عمير عنه بناء ما ذكره الشيخ في العدّة من أنّه ممن لا يروي و لا يرسل إلّا عن ثقة. «4»

______________________________

(1) نفس المصدر 16/ 393 (ط. أخرى 16/ 484)، و الباب، الحديث 6؛ عن الكافي 6/ 266؛ و التهذيب 9/ 90.

(2) نفس المصدر 12/ 129، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(3) راجع تنقيح المقال 1/ 175.

(4) راجع عدّة الأصول 1/ 386، فصل في ذكر القرائن التي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 312

و حكي أنّه سئل بعض الأكابر (1) و قيل له: إنّي رجل خيّاط أخيط للسلطان ثيابه فهل تراني داخلا بذلك في أعوان الظلمة؟ فقال له: المعين لهم من يبيعك الإبر و الخيوط، و أمّا أنت فمن الظلمة أنفسهم!

و قال المحقق الأردبيلي في آيات أحكامه في الكلام على الآية: «الظاهر

أنّ المراد الإعانة على المعاصي مع القصد أو على الوجه الذي «يصدق أنّها شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاها، أو يطلب القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاه و نحو ذلك مما يعدّ «معونة عرفا» [ذلك معاونة عرفا- الزبدة] فلا يصدق على التاجر الذي يتجر لتحصيل غرضه أنّه معاون للظالم العاشر في أخذ العشور، و لا على الحاجّ الذي يؤخذ منه «المال ظلما» [بعض المال في طريقه ظلما- الزبدة] و غير ذلك ممّا لا يحصى. فلا يعلم صدقها [على شراء من لم يحرم عليه شراء السلعة من الذي يحرم عليه البيع، و لا- الزبدة] على بيع العنب ممن يعمله خمرا أو الخشب ممّن يعمله صنما.

و لذا ورد في الروايات «الصحيحة» [الكثيرة الصحيحة- الزبدة] جوازه

______________________________

و ظاهر قوله عليه السّلام: «إنّ أعوان الظلمة ...» تطبيق هذا العنوان على المصاديق المسؤول عنها و هي لا تشتمل غالبا على القصد.

(1) عن شرح الشهيدي للمكاسب عن شرح النخبة لسبط الجزائري عن البهائي- رحمهم اللّه- أنّ المراد ببعض الأكابر: عبد اللّه بن المبارك، على ما نقله أبو حامد. «1» هذا. و لكن لا حجية في أمثال هذه النقليات.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 312

______________________________

(1) راجع هداية الطالب للشهيدي «قده»/ 33.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 313

و عليه الأكثر، و نحو ذلك مما لا يحصى.» انتهى كلامه رفع مقامه. (1)

و لقد دقّق النظر، حيث لم يعلّق صدق الإعانة على القصد و لا أطلق القول بصدقه بدونه بل علّقه بالقصد أو بالصدق العرفي و إن لم يكن قصد.

______________________________

(1) راجع زبدة البيان، كتاب الحج. «1»

و ما ذكره

«قده» في هذا الكتاب يخالف ما مرّ منه في مجمع الفائدة من التأمّل في المسألة لكونها معاونة و هي محرمة بالعقل و النقل.

و كيف كان فهو «ره» أيضا ممن لا يعتبر القصد بخصوصه في صدق مفهوم المعاونة.

و بالجملة ففي قبال من مضى ممن يعتبر القصد في صدقها ترى كثيرا من الأصحاب لا يعتبرونه فيها، و هو الظاهر من بعض الأخبار.

و من هذا القبيل المحقّق الإيرواني في حاشيته، قال- بعد المناقشة في دلالة الآية على حرمة الإعانة كما يأتي بيانه-: «و بعد الغضّ عن هذا نقول: إنّ القصد قصدان: قصد بمعنى الداعي الباعث نحو الفعل فيكون حصول الحرام غاية لفعل المعين، و هذا هو الذي أراده المصنّف من القصد، و قصد بمعنى الإرادة و الاختيار فيكون الحرام ممّا اختاره المعين باختيار ما يعلم ترتّبه عليه.

و القصد بكلا معنييه غير معتبر في تحقق عنوان الإعانة، فإنّ الحقّ أنّ الإعانة عنوان واقعي غير دائر مدار القصد. فنفس الإتيان بمقدمات فعل الغير إعانة للغير على الفعل.

نعم مع عدم العلم بترتب الحرام لا يعلم كون الفعل إعانة على الحرام، فمن أجل ذلك لا يحرم، إذ كانت الشبهة تحريمية موضوعية، و هذا غير خروجه عن عنوان الإعانة واقعا.

______________________________

(1) راجع زبدة البيان/ 297، كتاب الحج، في تفسير الآية الثانية- آية التعاون- من النوع الثالث في أشياء من أحكام الحج.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 314

..........

______________________________

أمّا إذا علم بالترتب زالت الشبهة و تنجز حكم الإعانة ...

فإذا لا إشكال في حرمة إعطاء السيف و العصا بيد من يعلم أنّه يقتل به أو يضرب بها، و كذا حرمة بيع العنب لمن يعلم أنّه يعمله خمرا.

و أمّا تجارة التاجر و سير الحاجّ مع العلم بأخذ

العشّار و الظالم، و كذا عدم تحفظ المال مع العلم بحصول السرقة، فالكلّ خارج عن عنوان الإعانة. و ذلك لا من جهة عدم حصول القصد الغائي لما عرفت من عدم اعتبار هذا القصد و لا ما دون هذا القصد، بل من جهة أنّ الإعانة ليست هي مطلق إيجاد مقدمة فعل الغير، و إلّا حرم توليد الفاسق، و الإنسان عادة يعلم أنّ في نسله يحصل مرتكب ذنب فيلزمه أن يجتنب النكاح، و أيضا حرم بذل الطعام و الشراب لمن يعلم أنّه يرتكب الذنب.

بل الإعانة عبارة عن مساعدة الغير بالإتيان بالمقدّمات الفاعلية لفعله دون مطلق المقدمات الشاملة للمادية فضلا عن إيجاد نفس الفاعل أو حفظ حياته.

فتهيئة موضوع فعل الغير و الإتيان بالمفعول به لفعله ليس إعانة له على الحرام.

و من ذلك سير الحاجّ و تجارة التاجر و فعل ما يغتاب الشخص على فعله. نعم ربّما يحرم لا بعنوان الإعانة و من ذلك القيادة.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ العناوين القصدية عبارة عن العناوين الاعتبارية التي لا واقعية لها وراء الاعتبار، و إنّما تنتزع عن الأفعال و الأمور الواقعية بالقصد و الاعتبار، فيكون تقوّمها بقصدها، نظير عنوان التعظيم المنتزع عن الانحناء الخاصّ بقصده، و من هذا القبيل الملكية و الزوجية و الحريّة و العبودية و نحوها من العناوين التي تحصل بالعقود و الإيقاعات، و كذلك عناوين العبادات المخترعة من الصلاة و الزكاة و نحوهما.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 15، ذيل قول المصنّف: فقد يستدلّ على حرمة البيع ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 315

..........

______________________________

و الظاهر أنّ الإعانة- كما ذكروه- ليست من العناوين الاعتبارية بل من العناوين الواقعية غير المتقومة بالقصد و إن كان تنجز التكليف المتعلق بها متوقفا على العلم

و القصد كما في سائر موارد التكليف.

اللّهم إلا أنّ يقال: إنّ عدم كون الإعانة من العناوين القصدية، بمعنى عدم توقف صدقها على قصد عنوانها، لا ينافي توقف صدقها على فعل خاصّ بلحاظ غاية خاصّة على قصد هذه الغاية الخاصّة، إذ العرف يفرّق بين قصد الغاية الخاصّة و عدم قصدها، كما يفرّق بين العلم بترتبها و عدم العلم به، فتدبّر.

و أمّا ما ذكره من عدم صدق الإعانة على إيجاد ذات الفاعل و توليده فالظاهر صحّته أيضا و إلّا لكان خلق اللّه- تعالى- لأفراد الإنسان و إبقاؤه لهم و رزقهم إعانة منه على الكفر و الفسوق و العصيان.

و السرّ في ذلك أنّ الإعانة- كما مرّ- عبارة عن إيجاد مقدمة من مقدمات فعل الغير أعني المعان، فهي من العناوين الإضافية المتقوّمة بوجود المعين و المعان، فما لم يوجد ذات المعان لا مجال لتحقق الإعانة و صدقها.

و أمّا ما ذكره «ره» من اختصاص الإعانة بالإتيان بالمقدمات الفاعلية دون الماديّة فلم يظهر لي مراده و لا وجهه، إذ تهيئة موضوع فعل الغير إذا لم يكن إعانة فكيف حكم بحرمة بيع العنب لمن يعلم أنّه يجعله خمرا لأجل ذلك؟ و هل هذا إلّا تهيئة موضوع فعل الغير من دون أن يسلب الاختيار من الغير؟ بل يكون وقوع التخمير باختياره و إرادته، فوزانه من هذه الجهة وزان تجارة التاجر التي تكون موضوعا لأخذ العشر.

و في مصباح الفقاهة أيضا حكم بعدم اعتبار القصد في مفهوم الإعانة و لا العلم بترتب المعان عليه، بل يراد بها إيجاد مقدمة الفعل مع وقوع المعان عليه في الخارج.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 316

..........

______________________________

قال ما ملخّصه: «فإنّ صحة استعمال كلمة الإعانة و ما اقتطع منها في

فعل غير القاصد بل و غير الشاعر بلا عناية و علاقة تقتضي عدم اعتبار القصد و الإرادة في صدقها لغة. كقوله عليه السّلام في دعاء أبي حمزة الثمالي: «و أعانني عليها شقوتي.»

و قوله- تعالى-: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلٰاةِ. و في بعض الروايات أنّ المراد بالصبر الصوم. و في أحاديث الفريقين: «من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه.» و في رواية أبي بصير: «فأعينونا على ذلك بورع و اجتهاد.» و قوله: «من أعان على قتل مؤمن و لو بشطر كلمة ...» و قوله عليه السّلام: «من تبسّم على وجه مبدع فقد أعان على هدم الإسلام.» و في رواية أبي هاشم الجعفري: «و رزقك العافية فأعانتك على الطاعة.» و في الصحيفة السجّادية في دعائه لطلب الحوائج:

«و اجعل ذلك عونا لي.» و أيضا يقال: «الصوم عون الفقير، و الثوب عون للإنسان، و سرت في الماء و أعانني الماء و الريح على السير، و أعانتني العصا على المشي، و كتبت باستعانة القلم.»

إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة الصحيحة. و دعوى كونها مجازات جزافية لعدم القرينة عليها ....

و أمّا مسير الحاجّ و متاجرة التاجر مع العلم بأخذ المكوس و الكمارك، و هكذا عدم التحفظ على المال مع العلم بحصول السرقة فكلّها داخل في عنوان الإعانة، فإنّه لا وجه لجعل أمثالها من قبيل الموضوع للإعانة و خروجها عن عنوانها كما زعمه شيخنا الأستاذ و المحقق الإيرواني، كما لا وجه لما ذهب إليه المصنّف من إخراجها عن عنوان الإعانة من حيث إنّ التاجر و الحاج غير قاصدين لتحقق المعان عليه، لما عرفت من عدم اعتبار القصد في صدقها.» «1»

أقول: فأخصّ الأقوال في بيان مفهوم الإعانة قول الفاضل النراقي،

حيث

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 176، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 317

..........

______________________________

اعتبر في صدقها قصد الحرام و ترتّبه معا، و المحقق الثاني و من تبعه اعتبر القصد فقط، و في مصباح الفقاهة اعتبر الترتب فقط، و المحقق الإيرواني أيضا اعتبر الترتب فقط و لكنه فصّل بين المقدمات الفاعلية و بين المقدمات المادية الراجعة إلى تهيئة موضوع فعل الغير.

هذا كلّه في بيان اعتبار القصد و عدمه، و سنعود إليه ثانيا عند شرح ما يأتي من المصنّف في المتن.

هل يعتبر في صدق الإعانة ترتّب المعان عليه أم لا؟

هذا هو الأمر الثاني من الأمور الخمسة التي وقع البحث في اعتبارها في صدق الإعانة، و قد مرّ عن الفاضل النراقي اعتباره مضافا إلى القصد، و ناقشه المصنّف كما مرّ بقوله: «إنّ حقيقة الإعانة على الشي ء هو الفعل بقصد حصول الشي ء سواء حصل أم لا.»

و الظاهر اعتباره، إذ الإعانة- كما مرّ- عنوان إضافي متقوّم بالمعين و المعان و المعان عليه، فما لم يتحقّق المعان عليه خارجا في ظرفه لا تتحقق الإعانة.

فإن قلت: قوام الإعانة في ناحية المعان عليه بصورته الذهنية لا بوجوده الخارجي كسائر العلل الغائية.

قلت: نعم و لكن الصورة ملحوظة بما هي طريق إلى الخارج لا بنحو الموضوعية، فإذا لم يتحقق المعان عليه في ظرفه ظهر عدم تحقق الإعانة و إن صدق التجرّي إن كان المعان عليه أمرا محرما. و بالجملة فإذا لم يتحقق إثم خارجا ظهر عدم تحقق الإعانة على الإثم.

و قد مرّ أنّ في مصباح الفقاهة أيضا حكم باعتبار ترتب المعان عليه في صدقها:

قال: «الذي يوافقه الاعتبار و يساعد عليه الاستعمال هو تقييد مفهوم الإعانة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 318

..........

______________________________

بحسب الوضع

بوقوع المعان عليه في الخارج و منع صدقها بدونه، و من هنا لو أراد شخص قتل غيره بزعم أنّه مصون الدّم و هيّأ له ثالث جميع مقدّمات الفعل ثم أعرض عنه مريد القتل أو قتله ثم بان أنّه مهدور الدم فإنّه لا يقال: إنّ الثالث أعان على الإثم بتهيئة مقدمات الفعل. كما لا تصدق الإعانة على التقوى إذا لم يتحقق المعان عليه في الخارج، كما إذا رأى شبحا يغرق فتوهم أنّه شخص مؤمن فأنقذه إعانة منه له على التقوى فبان أنّه خشبة ...» «1»

و للأستاذ الإمام «ره» في هذا المجال كلام طويل لا يخلو من فائدة، فلنتعرض له بتلخيص:

قال: «أمّا الأول (: وقوع الإثم في الخارج) فقد يقال باعتباره، لأنّ الظاهر من قوله: لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ أي على تحققه، و هو لا يصدق إلّا معه، فإذا لم يتحقق خارجا و أوجد شخص بعض مقدمات عمله لا يقال: إنّه أعانه على إثمه، لعدم صدوره منه.

و بالجملة الإعانة على الإثم موقوفة على تحققه و إلّا يكون من توهّم الإعانة عليه لا نفسها و يكون تجريا لا إثما، و لهذا لو علم بعدم تحققه منه لا يكون إيجاد المقدمة إعانة على الإثم بلا شبهة.

و لكن يمكن أن يقال: المفهوم العرفي من الإعانة على الإثم هو إيجاد مقدمة إيجاد الإثم و إن لم يوجد، فمن أعطى سلّما لسارق بقصد توصّله إلى السرقة فقد أعانه على إيجادها، فلو حيل بينه و بين سرقته و لم تقع منه يصدق أنّ المعطي للسلم أعانه على إيجاد سرقته.

فلو كان تحقق السرقة دخيلا في الصدق فلا بدّ أن يقال: إنّ المعتبر في صدقها إيجاد المقدمة الموصلة، أو الالتزام بأنّ وجود السرقه من قبيل

الشرط المتأخّر

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 178.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 319

..........

______________________________

لصدقها، و كلاهما خلاف المتفاهم العرفي، أو يقال: لا يصدق الإعانة على الإثم حتّى وجدت السرقة، فالفعل المأتي به لتوصّل الغير إلى الحرام مراعى حتى يوجد ذو المقدمة و بعده يقال: إنّه أعانه عليه، و هو أيضا خلاف الواقع، أو يقال: إنّ صدقها فعلا باعتبار قيام الطريق العقلائي على وجود الإثم، و بعد التخلّف يكشف عن كونها تجريا لا إعانة، و هو أيضا غير صحيح لأنّ الطريق العقلائي عليه لا يتّفق إلّا أحيانا، و مع عدم القيام أيضا يقال: إنّه أعانه على إيجاده.

و إن شئت قلت: فرق بين كون الإثم بمعنى اسم المصدر و كونه بمعنى المصدر في صدق الإعانة، فعلى الأوّل يعتبر في صدقها الوجود بخلاف الثاني، و المقام من قبيل الثاني. لكن مع ذلك كلّه لا يخلو الصدق من خفاء و المسألة من غموض و إن كان الصدق أظهر عرفا.» «1»

أقول: اسم المصدر ينتزع من المصدر، فهما متساويان صدقا مختلفان بالاعتبار فقط، فالحدث كالإثم مثلا بلحاظ صدوره عن الفاعل و إضافته إليه يكون مصدرا و بلحاظه في نفسه يسمّى اسم المصدر، و على نظر الأستاذ يكون المصدر أعمّ من اسم المصدر، و قد عرفت أنّ الإعانة أمر إضافي متقوم بأطراف الإضافة و منها المعان عليه فلا تتحقق بدونه.

و على فرض القول بحرمة إتيان مقدمة الحرام بقصده حرمة شرعية فالمراد إتيان فاعل الحرام لمقدمة فعل نفسه لا إتيان الغير المقدمة من مقدمات فعل الآخر.

نعم على فرض كونها إعانة على الإثم و حرمتها شرعا تكون حرمتها من هذه الجهة، و لكن المفروض عدم تحققها لعدم تحقق أحد مقوماتها فلا يصدق عصيان حكم

الإعانة و إن صدق التجري بالنسبة إليه و هذا أمر آخر غير العصيان.

اللّهم إلّا أن يقال- كما يظهر من عبارة المتن الآتية أيضا-: إنّ تخمير العنب غاية تملك المشتري و واجديته للعنب لا بيع البائع له، و إنما الغاية لبيع البائع تملك

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 141 (ط. أخرى 1/ 211)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 320

..........

______________________________

المشتري له و هو أمر مقصود للبائع قهرا و متحقق جزما. فإذا فرض كون تملكه له حراما- كما إذا وقع منه بقصد التخمير و قلنا بحرمة الإتيان بمقدمة الحرام بقصد الحرام مطلقا أو في خصوص التخمير إذ لا يقلّ هذا عن غرسه للكرم بقصده- فلا محالة يكون البيع إعانة للمشتري على هذا التملك الحرام لكونه مقصودا و مترتبا عليه سواء ترتب عليه التخمير أم لا.

قال الأستاذ الإمام «ره»: «هذا كلّه في كلّي المسألة. و أمّا خصوص الخمر فالظاهر المتفاهم من المستفيضة الحاكية عن لعن الخمر و غارسها و حارسها و بائعها و مشتريها و ... أنّ اشتراء العنب للتخمير حرام، بل كل عمل يوصله إليه حرام، لا لحرمة المقدمة، فإنّ التحقيق عدم حرمتها، و لا لمبغوضية تلك الأمور بعناوينها، بل الظاهر أنّ التحريم نفسي سياسي لغاية قلع مادّة الفساد. فإذا كان الاشتراء للتخمير حراما سواء وصل المشتري إلى مقصوده أم لا، تكون الإعانة عليه حراما لكونها إعانة على الإثم بلا إشكال، لأنّ قصد البائع وصول المشتري إلى اشترائه الحرام، و الفرض تحقق الاشتراء أيضا. فبيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا حرام و إعانة على الإثم ...» «1»

هل يعتبر علم البائع أو ظنّه بترتب الحرام أم لا؟

الأمر الثالث: هل يعتبر في صدق مفهوم الإعانة علم البائع أو ظنّه بترتب الحرام

أو يكفي في ذلك إتيانه بمقدمة الحرام برجاء ترتبه عليه؟ و قد مرّ عن العوائد عدم اعتباره و أنّه يكفي في صدقها القصد و الترتب خارجا و هو الأقوى. قال: «فإنّه لو غرس كرما بقصد أنّه لو أراد أحد شرب الخمر كان حاضرا فأثمر و أخذ منه الخمر و شرب يكون عمله معاونة على الإثم ...» إلى آخر ما ذكره، فراجع ما مرّ من كلامه.

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 144 (- ط. أخرى 1/ 215).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 321

لكن أقول: لا شك في أنّه إذا لم يكن مقصود الفاعل من الفعل وصول الغير إلى مقصده و لا إلى مقدمة من مقدماته، بل يترتب عليه الوصول من دون قصد الفاعل فلا يسمّى إعانة، كما في تجارة التاجر بالنسبة إلى أخذ العشور و مسير الحاجّ بالنسبة إلى أخذ المال ظلما.

______________________________

هل يعتبر العلم بمدخلية عمله في تحقق المعان عليه؟

هذا هو الأمر الرابع مما احتمل اعتباره في صدق الإعانة، و قد مرّ عن العوائد أيضا عدم اعتباره، و هو الأقوى أيضا. قال: «و ذلك كما إذا علم أنّ زيدا الظالم يقتل اليوم عمرا ظلما فأرسل إليه سيفا لذلك مع عدم علمه بأنّه هل يحتاج إلى هذا السيف في قتله و له مدخلية في تحقق القتل أم لا؟ فإنّه يكون آثما في الإرسال قطعا، فإن اتفق احتياجه إليه و ترتب القتل عليه يكون معاونا على الإثم أيضا.»

أقول: حكمه بكونه آثما قطعا من جهة اختياره لحرمة مقدمة الحرام إذا أتى بها بقصده و قد مرّ منا الإشكال في ذلك.

هل يعتبر قصد المعان للإثم أو يكفي في ذلك تخيّل المعين لذلك؟

هذا هو الأمر الخامس مما احتمل اعتباره في صدق الإعانة، و الظاهر اعتباره، إذ على فرض عدم قصده له

لا إثم حتى يصدق الإعانة عليه. و مجرّد تخيّل الإنسان لذلك لا يوجب تحقق الإثم و صدق الإعانة عليه. نعم يكون البيع منه مع هذا التخيّل تجرّيا و لكنه غير الحرمة و العصيان. هذا. و لكن لا يلزم وقوع القصد من المعان حين الشراء، بل لو كان حينه قاصدا للخير و لكن نعلم أنّه سيقصد الإثم بعد ذلك و يوجده خارجا كفى ذلك في صدق الإعانة عليه و لا سيّما إذا وقع البيع منه بقصد ذلك، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 322

و كذلك لا إشكال فيما إذا قصد الفاعل بفعله و دعاه إليه وصول الغير إلى مطلبه الخاصّ، فإنّه يقال: إنّه أعانه على ذلك المطلب فإن كان عدوانا مع علم المعين به صدق الإعانة على العدوان.

و إنّما الإشكال فيما إذا قصد الفاعل بفعله وصول الغير إلى مقدمة مشتركة بين المعصية و غيرها مع العلم بصرف الغير إيّاها إلى المعصية، كما إذا باعه العنب، فإنّ مقصود البائع تملك المشتري له و انتفاعه به، فهي إعانة له بالنسبة إلى أصل تملك العنب، و لذا لو فرض ورود النهي عن معاونة هذا المشتري الخاصّ في جميع أموره أو في خصوص تملك العنب حرم بيع العنب عليه مطلقا.

فمسألة بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا نظير إعطاء السيف أو العصا لمن يريد قتلا أو ضربا، حيث إنّ الغرض من الإعطاء هو ثبوته في يده و التمكن منه، كما أن الغرض من بيع العنب تملكه له، فكلّ من البيع و الإعطاء بالنسبة إلى أصل تملك الشخص و استقراره في يده إعانة، إلّا أن الإشكال في أنّ العلم بصرف ما حصل بإعانة البائع و المعطي في الحرام هل يوجب

صدق الإعانة على الحرام أم لا؟ فحاصل محلّ الكلام هو أنّ الإعانة على شرط الحرام مع العلم بصرفه في الحرام هل هي إعانة على الحرام أم لا؟

فظهر الفرق بين بيع العنب و بين تجارة التاجر و مسير الحاجّ، و أنّ الفرق بين إعطاء السوط للظالم و بين بيع العنب لا وجه له، و أنّ إعطاء

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 323

السوط إذا كان إعانة- كما اعترف به فيما تقدم من آيات الأحكام- كان بيع العنب كذلك كما اعترف به في شرح الإرشاد. (1)

تعقيب المصنف البحث فيما يعتبر في صدق مفهوم الإعانة على الإثم
[محصّل كلام المصنّف]

______________________________

(1) أقول: محصّل ما ذكره المصنّف «ره» أنّ وزان بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا و زان إعطاء العصا للظالم، إذ الداعي في كليهما تمكين الغير من مقدمة عمله، و أمّا في تجارة التاجر فإنّ داعيه إلى تجارته تحصيل المال لنفسه لا للعشّار و لم يقصد وصول العشّار إلى مقدمة فعله.

و لكن يمكن أن يناقش أوّلا بأنّ تجارة التاجر شرط لأخذ الظالم العشور، و المفروض كون هذا الشرط مقصودا للتاجر، فوزانها و زان تملك المشتري للعنب الذي هو مقدمة لعمله المحرّم، و في كليهما قصد ذات المقدمة لا بما أنّها مقدمة للعمل المحرّم.

و ثانيا- كما سيشير المصنّف أيضا- بأنّ الاعتبار في صدق المفاهيم ليس بالدّقة العقلية بل بالصدق العرفي، و العرف يفرّق بين مثال إعطاء العصا للظالم و بين بيع العنب لمن يخمّر، حيث إنّ الظالم قصد الضرب فعلا و تهيأ له، و اختياره و إن لم يسلب بعد لكن لمّا لم يكن بين قصده و بين تحقق الضرب منه حالة منتظرة إلّا وقوع العصا في يده صارت فائدة إعطاء العصا له في هذه الحالة منحصرة في الضرب بها و

يعدّ هذا سببا لوقوع الضرب و الجزء الأخير من علّته، و هذا بخلاف بيع العنب، لوقوع الفصل الزماني بين قصد المشتري للتخمير و بين وقوعه خارجا، و يمكن انصرافه عن قصده و صرف العنب في مصرف آخر حلال، فلا يعدّ البيع منه سببا لوقوع التخمير خارجا و لا سيّما إذا لم ينحصر البائع في هذا الشخص و أمكن تحصيل العنب من بائع آخر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 324

فإذا بنينا على أنّ شرط الحرام حرام مع فعله توصّلا إلى الحرام- كما جزم به بعض (1)- دخل ما نحن فيه في الإعانة على المحرم، فيكون بيع العنب إعانة على تملك العنب المحرّم مع قصد التوصّل به إلى التخمير و إن لم يكن إعانة على نفس التخمير أو على شرب الخمر.

______________________________

و إلى ما ذكرنا أشار المحقق الأردبيلي في آيات أحكامه، حيث جعل صدق الإعانة مدار القصد أو الصدق العرفي. «1» و لو فرض انعكاس الأمر في المثالين انعكس الصدق العرفي أيضا كما لا يخفى.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال بفرق العرف أيضا بين قصد الغاية المحرمة و عدم قصدها في صدق الإعانة، كما يفرّق بين صورة العلم بترتّب الغاية و عدمه، و إن منعنا ذلك سابقا. و عدم كون الإعانة من العناوين المتقوّمة بالقصد كالتعظيم و نحوه- على ما مرّ بيانه- لا ينافي توقف صدقها و انطباقها على فعل خاصّ بلحاظ غاية خاصّة على قصد هذه الغاية الخاصة و العلم بترتبها معا.

و بالجملة فرق بين قصد العنوان في العناوين القصدية الاعتبارية و بين قصد الغاية للفعل، فكون الإعانة من العناوين الواقعية غير المتقوّمة بقصد عنوانها لا ينافي توقف صدقها عرفا على فعل خاصّ بلحاظ غاية خاصّة على

قصد هذه الغاية. فافهم.

[حرمة مقدمة الحرام]

(1) و ممّن جزم بذلك الفاضل النراقي «ره» في العوائد، حيث عقد فيه لهذه المسألة عائدة مستقلّة و قال ما ملخّصه: «مقدمة الحرام إن كانت سببا له فهو حرام و معصية كما ثبت في الأصول كوضع النار على يد زيد بعد النهي عن إحراقها، و إن كانت شرطا له فإن لم يكن قصده من فعله التوصّل إلى المحرّم فلا شكّ في

______________________________

(1) راجع زبدة البيان/ 297، و قد مرّ في ص 312.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 325

..........

______________________________

عدم حرمته و عدم كونه معصية، كما إذا أوقد نارا في المثال أو اشترى فحما أو حطبا أو سافر إلى بلدة فيها من نهي من قتله أو فيها فاحشة أو خمر من غير أن يريد التوصل بها إلى الحرام. و إن قصد من فعله التوصل إلى المحرّم كأن يسافر إلى البلدة المذكورة لأجل قتل الرجل أو شرب الخمر و نحوهما فالظاهر كون هذا الفعل معصية و حراما، فلو سافر بهذا القصد و حصل له مانع عن فعل أصل المحرّم و لم يفعله يكون آثما بأصل المسافرة عاصيا به مستحقا للعقاب لأجله، بل لو فعل المحرّم يكون له العقاب و الإثم لأجلهما. و يتفرع عليه أيضا حرمة المعاونة على هذه المقدمة إذا فعلت بقصد التوصّل و إن لم يعلم أنّه يحصل له التوصّل و يتمّ ما قصده و أراده ...» «1» هذا.

و المصنّف ناقش في ذلك، و قد مرّ منا أيضا أنّ المحرّم شرعا ليس إلّا ما اشتمل على المفسدة و تعلّق به النهي المولوي النفسي دون مقدماته. فكما لا وجوب لمقدمة الواجب وجوبا شرعيا و إن أمر به إرشادا كما في قوله: «ادخل

السوق و اشتر اللحم» كذلك لا حرمة لمقدمة الحرام أيضا و إن كانت سببية و تعلق بها النهي صورة.

نعم لا نأبى عن تعلق النهي المولوي بها في بعض الموارد سياسة و احتياطا على ما قيل في غرس العنب للخمر و كتابة الربا و الشهادة عليه و نحو ذلك. كما لا ننكر كون الإتيان بها بقصد التوصّل إلى الحرام مبغوضا من باب التجري. و لكن هذا غير عنوان العصيان المنتزع عن مخالفة الأمر و النهي المولويين في قبال عنوان الإطاعة المنتزع عن موافقتهما. و الالتزام باستحقاق عقوبات كثيرة في ارتكاب حرام واحد مشتمل على مقدمات كثيرة أتي بها بقصده عجيب.

______________________________

(1) عوائد الأيّام/ 25، العائدة السادسة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 326

و إن شئت قلت: إنّ شراء العنب للتخمير حرام كغرس العنب لأجل ذلك، فالبائع إنّما يعين على الشراء المحرم. نعم لو لم يعلم أنّ الشراء لأجل التخمير لم يحرم، (1) و أن علم أنّه سيخمّر العنب بإرادة جديدة منه. و كذا الكلام في بائع الطعام على من يرتكب المعاصي فإنّه لو علم إرادته من الطعام المبيع التقوي به- عند التملك- على المعصية حرم البيع منه. و أمّا العلم بأنّه يحصل من هذا الطعام قوة على المعصية يتوصّل بها إليها فلا يوجب التحريم. هذا.

و لكن الحكم بحرمة الإتيان بشرط الحرام توصلا إليه قد يمنع، إلّا من حيث صدق التجرّي.

و البيع ليس إعانة عليه و إن كان إعانة على الشراء إلّا أنّه في نفسه ليس تجرّيا، فإنّ التجرّي يحصل بالفعل المتلبس بالقصد.

و توهّم أنّ الفعل مقدمة له فيحرم الإعانة مدفوع بأنّه لم يوجد قصد إلى التجرّي حتى يحرم و إلّا لزم التسلسل، فافهم. (2)

______________________________

(1) أي لم يحرم

البيع بعنوان الإعانة على الشراء المحرم، و إن أمكن القول بحرمته بعنوان الإعانة على التخمير المحرم المعلوم بناء على كفاية العلم في صدقها.

و لا يصح إرجاع الضمير إلى الشراء، إذ عدم علم البائع بكونه للتخمير لا يوجب عدم حرمته واقعا و عدم كونه له.

[شرط الحرام إن أتي به بقصد الحرام يكون حراما]

(2) كان محصّل كلام الفاضل النراقي «ره» أنّ شرط الحرام إن أتي به بقصد الحرام يكون حراما شرعا و إن لم يترتب عليه نفس الحرام. و مقتضى ذلك كون شراء العنب بقصد التخمير حراما و كون البيع إعانة على هذا الشراء المحرّم فيحرم لذلك لتحقق شرطيها من القصد و ترتّب المعان عليه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 327

..........

______________________________

و محصّل كلام المصنّف في ردّه: منع حرمة شرط الحرام و إن أتي به بقصده، فلا يحرم الشراء في المثال إلّا من حيث التجرّي. و لو فرض حرمة التجرّي لم يكن البيع إعانة عليه بل على نفس الشراء، و هو بنفسه ليس تجريا و حراما بل بضميمة قصد التخمير به، إذ قد اعترف الفاضل بأنّ شرط الحرام ليس حراما إلّا مع قصد التوصّل به إلى الحرام.

و توهّم أنّ نفس الشراء و إن لم يكن تجريا لكنه مقدمة للتجري المحرّم فيكون محرما من جهة أنّه شرط للحرام و يكون البيع إعانة عليه، مدفوع بما أوضحه المحقق الشيرازي «ره» في حاشيته، و محصّله: «أنّ المفروض عدم كفاية المقدمية في التحريم ما لم تقع بقصد ترتب ذي المقدمة المحرم، فلا يحرم الشراء في المقام ما لم يقع بقصد وقوع الحرام أعني التجري الأوّل، فيكون تجريا ثانيا مقدمة للتجري الأوّل، فليزم التسلسل، إذ ننقل الكلام حينئذ إلى هذا التجري الثاني فيقال: إنّ البيع مقدمة لذات الشراء و

ذات الشراء فيه ليس محرما بل إذا وقع بقصد ترتب التجري الثاني عليه، فيحتاج إلى قصد ثالث و يحصل تجرّ ثالث و هكذا إلى ما لا نهاية له من القصود و التجريات و في كلّ مرتبة ليس البيع إعانة على الشراء بقصد التجري بل على ذات الشراء.» «1»

أقول: و قول المصنّف: «فافهم» لعلّه إشارة إلى أمرين:

الأوّل: أنّه على فرض صحة التسلسل و وقوع قصود و تجريات غير متناهية في الخارج لا ينفع الفاضل «ره»، إذ مع ذلك لا يصير ذات الشراء محرما حتى يحرم البيع بعنوان الإعانة عليه، و البيع مقدمة لذات الشراء لا للتجري المحرم.

الثاني: أنّه لا دليل على حرمة التجرّي شرعا و إن كان قبيحا عقلا. بل وزانه وزان العصيان و الإطاعة المنتزعتين عن مخالفة الأوامر و النواهي المولوية

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 50، ذيل قول المصنّف: ... مدفوع بأنّه لم يوجد قصد التجرّي.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 328

..........

______________________________

و موافقتهما، فهي عناوين واقعة في الرتبة المتأخرة عن الأوامر أو النواهي المولوية و منتزعة عنها، فلا يتعلق بأنفسها أمر أو نهي مولوي نفسي و إلّا لزم تسلسل الأوامر أو النواهي في كل مورد ورد فيه أمر أو نهي مولوي و وقوع إطاعات أو عصيانات أو تجريات غير متناهية و استحقاق عقوبات غير متناهية في مخالفة كلّ أمر أو نهي، و هذا باطل جزما. و على هذا فالأمر المتعلق بعنوان الإطاعة كالنهي المتعلق بالعصيان أو التجري إرشاديّ محض، فتدبّر.

و أورد المحقق الإيرواني «ره» في حاشيته في المقام على المصنّف بوجهين:

الأوّل: ما حاصله: «أنّه إن قلنا بأنّ الحرام في باب التجري هو قصد الشراء لم يكن البيع إعانة عليه، و أمّا إذا قلنا بأنّ الحرام

فيه هو نفس الفعل المتجرّى به أعني الشراء دون القصد، و القصد واسطة في الثبوت و لحوق الحكم بالفعل الخارجي كان البيع إعانة عليه فكان إعانة على الإثم.»

الثاني: ما حاصله: «أنّ القصد إنّما يعتبر في حرمة المقدمات الخارجية للحرام دون المقدمات الداخلية. فإذا حرم الفعل أعني الشراء بقصد التوصّل به إلى الحرام بعنوان التجرّي حرم نفس الفعل ضمنا بعين حرمة الكلّ لا بحرمة أخرى مقدميّة لتحتاج إلى قصد آخر حتى يلزم التسلسل في القصود.» «1»

أقول: محصّل كلامه يرجع إلى البحث في أنّ المحرّم في باب التجري- على القول بحرمته- هل هو القصد دون الفعل، أو الفعل فقط و القصد علّة محضة، أو هما معا؟

و الذي يسهّل الخطب ما مرّ من منع الحرمة الشرعية فيه رأسا و أنّ وزانه وزان العصيان و الإطاعة. و الالتزام بحرمة القصد فقط مخالف لما يستفاد من مذاق الشرع من عدم العقوبة على النيات و القصود ما لم تبرز في الخارج. كما أنّ

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 16، ذيل قول المصنّف: و البيع ليس إعانة ... و قوله: مدفوع بأنّه ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 329

نعم لو ورد النهي بالخصوص عن بعض شروط الحرام كالغرس للخمر (1) دخل الإعانة عليه في الإعانة على الإثم. كما أنّه لو استدللنا بفحوى ما دلّ على لعن الغارس على حرمة التملك للتخمير حرم الإعانة عليه أيضا بالبيع.

فتحصّل ممّا ذكرناه أنّ قصد الغير لفعل الحرام معتبر قطعا في حرمة فعل المعين، و أنّ محلّ الكلام هي الإعانة على شرط الحرام بقصد تحقق الشرط دون المشروط و أنّها هل تعدّ إعانة على المشروط فتحرم أم لا فلا تحرم ما لم يثبت حرمة الشرط من غير

جهة التجرّي.

______________________________

الالتزام بالحرمة الشرعية لذات الفعل الحلال بمجرد تعلق قصد الحرام به- كشرب الماء بقصد كونه خمرا- بعيد في الغاية. نعم لا إشكال في حكم العقل بقبحه بعنوان التجري على المولى.

فإن قلت: قد حكموا بأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع أيضا، فحكم العقل بالقبح يستتبع حكم الشرع بالحرمة.

قلت: ما حكموا به إنّما هو في العناوين الأوّلية و ملاكاتها من المصالح و المفاسد النفس الأمرية لا في العناوين الواقعة في الرتبة المتأخرة عن الأوامر و النواهي المولوية كعناوين الإطاعة و العصيان و التجرّي كما مرّ بيانه.

[لو ورد النهي عن بعض شروط الحرام]

(1) ففي الوسائل عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الخمر عشرة: غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها.» «1»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4. و سنده:

الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمّد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 330

..........

______________________________

و فيه في حديث المناهي: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى أن يشترى الخمر و أن يسقى الخمر، و قال: لعن اللّه الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه.» «1» هذا.

و لكن- مضافا إلى ضعف الروايتين سندا و لا سيّما الأولى منهما بعمرو بن شمر «2»- يمكن المناقشة في دلالتهما، لعدم وضوح دلالة اللعن- و لا سيّما إذا تعلّق بالشخص- على النهي المولوي الشرعي. و هل لا يصحّ لعن

المتجري على المولى بفعل بعض مقدمات الحرام بقصد التوصل بها إليه؟ فتأمّل.

و قال المحقق الإيرواني «ره» في حاشيته: «ليت شعري ما الفرق بين أن يرد النهي بالخصوص عن الغرس لأجل التخمير و بين أن يحرم ذلك بعنوان التجرّي؟

فإنّ قصد الحرام معتبر في كلا التقديرين مع أن البيع ليس إعانة إلّا على ذات ما هو المقصود، فإن حرم ذات ما هو المقصود ضمنا بحرمته بما هو مقصود أو كان القصد واسطة في الثبوت دون العروض كان البيع إعانة على الحرام و إلّا فلا.» «3»

أقول: و يرد هذا الإشكال بعينه أيضا على ما ذكره المصنّف من الاستدلال لحرمة التملك للتخمير بفحوى ما دلّ على لعن الغارس، إذ التملك بنفسه ليس محرما بل إذا وقع بقصد التخمير.

و يرد أيضا على القول بحرمة المقدمة إذا أتى بها بقصد التوصل بها إلى ذيها كما في كلام الفاضل النراقي «ره»، فلم خصّ المصنف الإشكال بفرض التجرّي؟

و الحلّ في الجميع ما ذكره المحقق الإيرواني من الوجهين، فتدبّر.

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 5. و سنده: الصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد.

(2) راجع تنقيح المقال 2/ 332.

(3) حاشية المكاسب/ 16، ذيل قول المصنّف: نعم لو ورد النهي ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 331

و أنّ مجرّد بيع العنب ممن يعلم أنّه سيجعله خمرا من دون العلم بقصده ذلك من الشراء ليس محرما أصلا لا من جهة الشرط و لا من جهة المشروط. (1) و من ذلك يعلم ما فيما تقدم عن حاشية الإرشاد من أنّه لو كان بيع العنب ممن يعمله خمرا إعانة لزم المنع عن معاملة أكثر الناس. (2)

[اعتبار قصد المشتري حين الشراء في صدق الإعانة و عدمه]

______________________________

(1) هذا يصحّ على أساس اعتبار قصد المشتري

حين الشراء في صدق الإعانة، و لكن لأحد منع إطلاقه، إذ لو فرض علم البائع بأنّ المشتري سيقصد التخمير بعد ذلك و يخمّره و قصد البائع ببيعه تخميره الآتي و باعه لأجله فالظاهر صدق الإعانة حينئذ بلحاظ المشروط حتى على القول باعتبار قصد المعين في صدقها، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ هذا خلاف المفروض، إذ المفروض صورة عدم قصد البائع بالنسبة إلى المشروط.

(2) من الإشكالات المهمّة الواردة على الاستدلال بآية التعاون في المقام ما مرّ عن المحقق الثاني في حاشية الإرشاد من أنّه لو تمّ هذا الاستدلال يمنع معاملة أكثر الناس. و قد مرّ بيان ذلك بأنّ السيرة قد استمرّت على بيع المطاعم و المشارب للكفّار في شهر رمضان، مع علمهم بأكلهم، و على بيعهم بساتين العنب و النخيل مع العلم بجعل بعضه خمرا، و على معاملة الملوك و الأمراء فيما يعلم صرفه في تقوية العساكر المساعدين لهم على الظلم و الباطل، و على إجارة الدور و المساكن و المراكب لهم، إلى غير ذلك.

فالمحقق الثاني تخلّص عن هذا الإشكال بأنّ المعتبر في صدق الإعانة قصد البائع ترتب الحرام، و البائع في هذه الموارد لم يقصد ذلك و إن علم به.

و قال المصنّف: إنّ قصد الغير لفعل الحرام معتبر قطعا في حرمة فعل المعين، فلو علم إرادته من الطعام المشترى التقوّي به على المعصية حرم البيع منه، و أمّا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 332

..........

______________________________

العلم بأنّه يحصل له قوّة عليها فلا يوجب التحريم، فكلامه هنا ناظر إلى هذا التفصيل و أنّ البائع غالبا لا علم له بإرادة المشتري ذلك.

و لكن هنا شي ء و هو أنّ هذا الكلام من المصنّف كان على مبنى حرمة الشرط

المأتي به بقصد التوصّل إلى الحرام و قد منع ذلك هو إلّا من حيث صدق التجرّي.

و في مصباح الفقاهة أنكر حرمة الإعانة على الإثم و جعل استقرار هذه السيرة من أدلّة جوازها. «1»

و الأستاذ الإمام «ره» قال في مقام الجواب عن هذا الإشكال ما ملخّصه: «أمّا عن السيرة ببيع المطاعم للكفار و بيع العنب لهم فحكم العقل بالقبح و صدق الإعانة على الإثم فرع كون الإتيان بما ذكر إثما و عصيانا، و هو ممنوع- لا لكون الكفار غير مكلفين بالفروع فإنّ الحقّ أنّهم مكلفون و معاقبون عليها- بل لأنّ أكثرهم إلّا ما قلّ و ندر قاصرون لا مقصّرون، أمّا عوامّهم فظاهر، لعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هم قاطعون بصحّة مذهبهم و بطلان سائر المذاهب، نظير عوامّ المسلمين، و القاطع معذور في متابعة قطعه و لا يكون آثما و عاصيا. و أمّا غير عوامّهم فالغالب فيهم أنّه بواسطة التلقينات من أوّل الطفولية و النشو في محيط الكفر صاروا جازمين بمذاهبهم الباطلة، بحيث كلّ ما ورد على خلافها ردّوها بعقولهم المجبولة على خلاف الحقّ، فالعالم اليهودي و النصراني كالعالم المسلم لا يرى حجة الغير صحيحة و صار بطلانها كالضروري له.

نعم فيهم من يكون مقصّرا لو احتمل خلاف مذهبه و ترك النظر إلى حجته عنادا.

فتحصّل مما ذكر أنّ ما ادّعي من السيرة على بيع الطعام من الكفار خارج عن عنوان الإعانة على الإثم، لعدم الإثم و العصيان غالبا و عدم العلم- و لو إجمالا- بوجود مقصّر فيمن يشتري الطعام و غيره منهم. هذا مع غفلة جلّ أهل السوق

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 183، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع

الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 333

..........

______________________________

لو لا كلّهم عن هذا العلم الإجمالي.

و أمّا ما ذكر من السيرة على معاملة الملوك و الأمراء لو سلّم حصول العلم الإجمالي المذكور فلا تكشف تلك السيرة عن رضى الشارع بعد ما وردت الروايات الكثيرة في باب معونة الظالم، حيث يظهر منها حرمة إيجاد بعض مقدمات الظلم و لو لم يقصد البائع ذلك. و إن شئت قلت: إنّ السيرة ليست من المسلمين المبالين بالديانة أو قلت: إنّ تلك السيرة مردوعة بالروايات المستفيضة ...» «1»

أقول: ما ذكره «ره» من كون علماء اليهود و النصارى قاصرين غير آثمين و لا معاقبين لا يمكن المساعدة عليه، إذ كيف يمكن القول بكون علمائهم العائشين في البلاد الإسلامية و مجاورتها و لا سيما في أعصارنا قاصرين غير مطلعين مع بسط الإسلام و انتشار خبر ظهور نبينا بكتاب جديد و شريعة جديدة؟ بل العوامّ منهم أيضا إلّا ما قلّ و ندر قد سمعوا خبر الإسلام و الدين الجديد بعد المسيح عليه السّلام.

و الاحتمال في الأمور المهمة منجّز عقلا و فطرة، فكان عليهم البحث و الفحص.

و بالجملة فأكثرهم مقصرون إلّا من لم يقرع سمعه اسم الإسلام و المسلمين.

و الحقّ أن يجاب بأنّ الأمثلة التي ذكروها في المقام مختلفة متفاوتة بحسب نظر العرف و إن اشترك الجميع في إيجاد شرط من شروط الحرام. ففي بعضها لا تصدق عنوان الإعانة على الإثم عرفا كتجارة التاجر و سير الحجّاج و الزوّار مع علمهم بأخذ الضرائب و الكمارك منهم، حيث إنّ التاجر مثلا يكون مشتغلا بحرفته الحلال مقبلا على شأنه و لكن الظالم هو الذي يسدّ عليه الطريق قهرا فيضطرّ لدفع شرّه إلى إعطاء الضريبة له.

و من هذا القبيل

أيضا بناء المساجد و المدارس و المشاهد و نحوها و إقامة مجالس الإرشاد و الوعظ و التعزية بقصد القربة مع العلم بأنّه قد يحضر فيها من يتفكّه

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 123 (- ط. أخرى 1/ 199)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 334

..........

______________________________

بالكذب و النميمة و الغيبة و التهمة، أو ينظر إلى النساء الأجانب و نحو ذلك.

فالإقدام على هذه الخيرات و الأعمال الحسنة لا يعدّ إعانة على الإثم و إن وجد بها أرضيّته.

و من هذا القبيل أيضا بيع المطاعم و المشارب و سائر الحاجات العامّة في السّوق مع العلم إجمالا بأنّ الكفّار و الظالمين و العصاة أيضا في عداد المبتاعين لها و لا محالة يتقوون بها و يديمون الكفر و الظلم و المعاصي و لكن لا يقصد البائع ببيعه ذلك و لا المشتري التقوّي بها على الظلم و المعصية بل إدامة الحياة و التعيش على و زان سائر الناس.

و مثل هذا البيع لو كان قبيحا و حراما لقبح على اللّه- تعالى- أيضا خلقهم و إدامة حياتهم و رزقهم بأنواع رزقه مع علمه بأنّهم يتقوون بذلك و يعصونه، و الأحكام العقلية تنطبق على اللّه- تعالى- أيضا و لا تخصيص فيها.

و من هذا القبيل أيضا تمكين الزوجة لزوجها أداء لحقّه المشروع مع علمها بتركه لغسل الجنابة. إلى غير ذلك من الأمثلة.

و إنّما الإشكال فيما إذا كان في البين بيع و شراء أو أخذ و إعطاء و كان الشراء أو الأخذ بقصد الانتفاع المحرّم و البائع أيضا يعلم ذلك و مع ذلك يبيعه له أو يعطيه كبيع العنب لمن يشتريه للتخمير، و بيع المساكن و المراكب أو إجارتها بل و بيع

المطاعم و المشارب ممّن يعلم بإرادة الانتفاعات المحرّمة منها، و إن لم يكن البائع أو الموجر قاصدين لذلك، و بيع القرطاس ممن يعلم و لو إجمالا بصرف بعضه في نشر كتب الضلال، و إعطاء العصا أو السيف لمن يريد الضرب بها أو القتل ظلما.

و الإنصاف أنّ عنوان الإعانة على الإثم في أمثالها صادقة.

فهل يحكم في أمثال ذلك بالحرمة مطلقا و تطرح أخبار الجواز في المسألة بكثرتها بسبب كونها على خلاف حكم العقل، كما قيل،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 335

[محلّ الكلام فيما يعدّ شرطا للمعصية الصادرة عن الغير]

ثمّ إنّ محلّ الكلام فيما يعدّ شرطا للمعصية الصادرة عن الغير. فما تقدّم من المبسوط من حرمة ترك بذل الطعام لخائف التلف مستندا إلى قوله عليه السّلام:

«من أعان على قتل مسلم ...» محلّ تأمّل، إلّا أن يريد الفحوى. (1)

______________________________

أو يحكم بالجواز مطلقا بلحاظ أخبار الجواز و يقال بعدم الدليل على حرمة الإعانة على الإثم، كما في مصباح الفقاهة.

أو يفصّل بين الأمور المهمّة كما إذا كان الحرام المقصود منه مثل الظلم و الفساد في الأرض أو صنع الأصنام و الصلبان و بين غيرها، كما يشهد بهذا التفصيل مكاتبة ابن أذينة السابقة المفصلة بين بيع الخشب ممن يتخذه برابط و بيعه ممّن يتخذه صلبانا كما مرّ.

أو يفصّل بين مثل إعطاء العصا أو السيف للظالم و بين بيع العنب لمن يقصد تخميره، كما مرّ بيانه و يظهر من المصنّف أيضا، حيث إنّه لا يكون بين قصد الظالم و بين تحقق الضرب منه حالة منتظرة إلّا وقوع العصا في يده و صارت فائدة إعطائها له في هذه الحالة منحصرة في الضرب بها بلا فصل، و هذا بخلاف بيع العنب لوقوع الفصل الزماني بين قصد المشتري للتخمير و بين

وقوعه خارجا.

أو يفصّل بين انحصار البائع أو المعطي في هذا الشخص و بين عدم انحصاره فيه فيقال بصدق الإعانة في الأوّل دون الثاني، إذ الحرام في هذه الصورة يتحقق لا محالة سواء باعه هذا الشخص أم لا فليس بيعه سببا لوقوع الحرام؟

في المسألة وجوه. و لعلّ التفصيل الأخير يقرب من الاعتبار. و يمكن حمل أخبار الجواز أيضا على هذه الصورة، إذ الغالب عدم الانحصار، و يبعد جدا بيع الأئمة عليهم السّلام تمرهم ممن يعلمون بتخميره مع انحصار البائع فيهم بحيث لو امتنعوا من البيع انتفى موضوع التخمير و ارتفع المنكر من رأس، فتدبّر.

(1) عبارة الشيخ في أطعمة المبسوط هكذا: «إذا اضطرّ الإنسان إلى طعام الغير ... كان على صاحب الطعام بذله، لقوله عليه السّلام: «من أعان على قتل مسلم و لو

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 336

و لذا استدلّ في المختلف بعد حكاية ذلك عن الشيخ بوجوب حفظ النفس مع القدرة و عدم الضرر. (1)

[التفصيل في شروط الحرام المعان عليه]

ثمّ إنّه يمكن التفصيل في شروط الحرام المعان عليه بين ما ينحصر فائدته و منفعته عرفا في المشروط المحرّم كحصول العصا في يد الظالم المستعير لها من غيره لضرب أحد، فإنّ ملكه للانتفاع به في هذا الزمان ينحصر فائدته عرفا في الضرب، و كذا من استعار كأسا ليشرب الخمر فيه، و بين ما لم يكن كذلك كتمليك الخمّار للعنب، فإنّ منفعة التمليك

______________________________

بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آئس من رحمة اللّه. و قالوا: هذا أولى.» «1»

فهو بنفسه لم يستدلّ بالحديث للمسألة بل أشار إلى استدلال القوم بفحواه لذلك، بتقريب أنّه لو كان إعانة شخص آخر في قتل مسلم حراما كان ترك بذل الطعام للمضطرّ أولى بالحرمة

لكونه مساوقا لكونه بنفسه قاتلا له، فلا محلّ للتأمّل في كلام الشيخ، و لعلّ المصنّف أخذ كلام الشيخ من المختلف و لم يراجع المبسوط.

و في حاشية المحقق الإيرواني: «لا قصور في شمول دليل حرمة قتل النفس لهذا حتى يحتاج إلى التشبث بفحوى دليل حرمة الإعانة.» «2»

أقول: يشكل الالتزام بكون مجرّد ترك بذل الطعام أو ترك إنقاذ الغريق مثلا قتلا بحيث يوجب القصاص، إذ يعتبر في القتل الاستناد إلى فعله.

(1) راجع أطعمة المختلف. «3»

______________________________

(1) المبسوط 6/ 285.

(2) حاشية المكاسب/ 16، ذيل قول المصنّف: إلّا أن يريد الفحوى.

(3) راجع المختلف/ 686، الفصل الخامس من كتاب الصيد و توابعه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 337

و فائدته غير منحصرة عرفا في الخمر حتى عند الخمّار، فيعدّ الأوّل عرفا إعانة على المشروط المحرّم بخلاف الثاني. (1)

و لعلّ من جعل بيع السلاح من أعداء الدين حال قيام الحرب من المساعدة على المحرّم، و جوّز بيع العنب ممّن يعمله خمرا كالفاضلين في الشرائع و التذكرة و غيرهما نظر إلى ذلك. و كذلك المحقق الثاني، حيث منع من بيع العصير المتنجّس على مستحلّه مستندا إلى كونه إعانة على الإثم، و منع من كون بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا من الإعانة، فإنّ تملك المستحلّ للعصير منحصر فائدته عرفا عنده في الانتفاع به حال النجاسة، بخلاف تملك العنب.

______________________________

(1) قد مرّ بيان كلام المصنّف سابقا، و لا يريد أنّ في مثال إعطاء العصا صار الظالم مسلوب الاختيار بعد أخذ العصا و أنّ الفعل يستند إلى معطي العصا، بل يريد أنّ قصده للضرب و تهيئه له و عدم الفصل الزماني بين أخذ العصا و وقوع الضرب صارت سببا لحكم العرف بالسببية و كون إعطاء

العصا له بمنزلة الجزء الأخير من العلّة. هذا.

و في حاشية المحقق الشيرازي «ره»: «يمكن أن يقال: إنّ صدق الإعانة حينئذ من جهة ظهور الحال حينئذ في القصد إلى الحرام خصوصا، و العارية عبارة عن الإذن في الانتفاع المفروض انحصاره في المورد في الحرام، فيكون رخصة له في الضرب به و إلّا كان غاصبا في الضرب و هو خلاف فرض العارية. و بالجملة فيمكن في المقام دعوى ظهور حال المعير في الفرض في قصده إلى وقوع الانتفاع الذي قصده المستعير ... فلو علم عدم قصده إلى وقوع العمل المستعار له كما إذا كان إعطاؤه له لخوفه منه و إن لم يكن الخوف بالغا حدّا يباح معه المحذورات أو

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 338

و كيف كان فلو ثبت تميز موارد الإعانة من العرف فهو، و إلّا فالظاهر مدخلية قصد المعين. (1)

______________________________

استحياؤه منه أو نحو ذلك من الدواعي الأخر فلم يعلم حكم العرف بصدق الإعانة.» «1»

(1) ظاهر هذا الكلام من المصنّف عدم تعيّن القصد بل الملاك حكم العرف بالصدق أو ثبوت القصد، و ظاهره إرادة قصد المشروط أعني الغاية المحرّمة، فكلامه يوافق ما مرّ من المحقق الأردبيلي من اعتبار القصد أو الصدق العرفي.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 50، ذيل قول المصنّف: ثم إنّه يمكن التفصيل في شروط الحرام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 339

القواعد العامّة في المقام ثلاث:
اشارة

______________________________

قد مرّ أنّ في مسألة بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا قد يبحث بلحاظ الأخبار الخاصّة الواردة فيها، و قد يبحث بلحاظ القواعد العامّة أمّا الأخبار الخاصّة فقد كانت على طائفتين، و ذكرنا وجوه الجمع بينهما، فراجع.

و أمّا القواعد العامّة فهي في المقام ثلاث:

الأولى: حرمة الإعانة على الإثم شرعا بلحاظ آية

التعاون.

الثانية: حكم العقل بحرمة الإعانة على الحرام.

الثالثة: وجوب دفع المنكر كرفعه.

1- حرمة الإعانة على الإثم شرعا بلحاظ آية التعاون

أمّا الأولى فالبحث فيها تارة في بيان مفهوم الإعانة و ما يعتبر فيها، و أخرى في بيان حرمتها الشرعية بلحاظ الآية الشريفة.

و قد طال البحث في مفهوم الإعانة و كلمات المصنّف و الأصحاب فيها.

و الآن وصلت النوبة إلى البحث عن حرمتها الشرعية بلحاظ الآية، و قد شاع بينهم الاستدلال بها لذلك.

و لكن ناقش فيه المحقق الإيرواني «ره» في حاشيته بوجهين: قال ما هذا لفظه:

«يمكن أن يقال: إنّ آية لا تعاونوا مؤدّاها الحكم التنزيهي دون التحريمي، و ذلك بقرينة مقابلته بالأمر بالإعانة على البرّ و التقوى الذي ليس للإلزام قطعا،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 340

..........

______________________________

كما يمكن أن يقال: إنّ قضية باب التفاعل هو الاجتماع على إتيان الإثم و العدوان كأن يجتمعوا على قتل النفوس و نهب الأموال لا إعانة الغير على إتيان المنكر على أن يكون الغير مستقلا في إتيان المنكر و هذا معينا له بالإتيان ببعض مقدماته.» «1»

و قد تبعه في إيراد المناقشة الثانية في مصباح الفقاهة، فراجع «2». هذا.

و لكنّ الأستاذ الإمام «ره» أورد على الوجهين بما ملخّصه: «يرد على الأوّل: أنّ قرينية بعض الفقرات لا تسلّم في المقام، لأنّ تناسب الحكم و الموضوع و حكم العقل شاهدان على أنّ النهي هنا للتحريم، مضافا إلى أنّ مقارنة الإثم للعدوان لا تبقى مجالا لحمل النهي على التنزيه، ضرورة حرمة العدوان و الظلم كما دلّت عليها الأخبار المستفيضة.

و على الثاني: أنّ ظاهر مادّة العون عرفا و بنصّ اللغويين: المساعدة على أمر، و المعين هو الظهير، و إنّما يصدق ذلك فيما إذا كان أحد أصيلا في أمر و أعانه عليه غيره، فيكون معنى الآية:

لا يكن بعضكم لبعض ظهيرا و معاونا.

و معنى تعاون المسلمين: أنّ كلا منهم يكون معينا لغيره لا أنّهم مجتمعون على أمر. ففي القاموس: «تعاونوا و اعتونوا: أعان بعضهم بعضا.» و نحوه في المنجد.

و كون التعاون فعل الاثنين لا يوجب خروج مادّته عن معناها.

فمعنى تعاون زيد و عمرو: أنّ كلّا منهما معين للآخر و ظهير له. فإذا هيّأ كلّ منهما مقدمات عمل الآخر يصدق أنّهما تعاونا. و بالجملة كون التفاعل بين الاثنين لا يلازم كونهما شريكا في إيجاد فعل شخصي. فالتعاون كالتكاذب و التراحم و التضامن مما هي فعل الاثنين من غير اشتراكهما في فعل شخصي.

______________________________

(1) حاشيه المكاسب/ 15، ذيل قول المصنّف: فقد يستدلّ على حرمة البيع ...

(2) راجع مصباح الفقاهة 1/ 180، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 341

..........

______________________________

فالظاهر من الآية عدم جواز إعانة بعضهم بعضا في إثمه و عدوانه. و هو ظاهر المادّة و الهيئة. و لو قلنا بصدق التعاون و التعاضد على الاشتراك في عمل فلا شبهة في عدم اختصاصه به.» «1»

أقول: قد مرّ من المصنّف في المسألة الأولى من مسائل بيع العنب- أعني بيعه على أن يعمل خمرا- الاستدلال بكونه إعانة على الإثم، و مرّ منّا نقل مناقشتي المحقق الإيرواني و إيراد الأستاذ الإمام «ره» عليهما و قلنا هناك: «2» إنّ ظاهر العبارة الأخيرة من الأستاذ «ره» يشعر بنحو ترديد له في صدق مفهوم التعاون على الاشتراك في عمل واحد كرفع ثلاثة رجال لحجر واحد، مع أنّه القدر المتيقّن منه بلحاظ الهيئة، إذ الظاهر من اللفظ دخلهم في العمل في عرض واحد، و هو المتبادر من عبارة القاموس أيضا. و أمّا إعانة أحد

لآخر في عمل و إعانة الآخر له في عمل آخر فإطلاق التعاون عليه لا يخلو من مسامحة. و إن شئت قلت: إنّ المتبادر من تعاون الشخصين دخلهما في عمل واحد شخصي في عرض واحد.

هذا ما ذكرناه هناك، و نضيف هنا: أنّه إذا فرض كون الحرام إعانة أحد الشخصين لآخر في عمل و إعانة الآخر له في عمل آخر فهنا محرّمان مستقلان و لا دخل لأحدهما في حرمة الآخر و لا ارتباط بينهما، فلا يرى على هذا وجه لاستعمال باب التفاعل الظاهر في ارتباط الفعلين و كونهما محكومين بحرمة واحدة، بل كان المناسب أن يقال: لا يعين أحد منكم غيره في الإثم و العدوان.

فاستعمال باب التفاعل و تعلق نهي واحد به ظاهران في كون المنهي عنه اشتراكهما في عمل واحد قائم بشخصين أو بأشخاص، بحيث لا يتحقق غالبا إلّا بالاشتراك و التعاون، مثل أن يجتمع جماعة على قتل نفس محترمة أو هدم مسجد

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 131 (- ط. أخرى 1/ 197)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

(2) راجع ص 234- 237 و ما بعدها من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 342

..........

______________________________

بحيث يكون كلّ واحد منهم معينا للآخرين في إيجاد فعل محرّم، إذ الأفعال التي يترتب عليها المصالح أو المفاسد على نوعين: بعضها مما يقوم بشخص واحد و بعضها مما لا يتحقق غالبا إلّا بالشركة فيه.

فالمتبادر من الآية النهي عن التعاون في الأعمال الاشتراكية المشتملة على المفاسد و الأمر بالتعاون في الأعمال الاشتراكية المشتملة على المصالح. و كون مادّة العون ظاهرة في كون أحد الشخصين أصيلا و مستقلا و الآخر فرعا له ممنوع، بل الظاهر من هيئة التفاعل كون الشخصين متلبسين بالمادّة في

عرض واحد، فتدبّر.

و كيف كان فلا دلالة في الآية الشريفة على حرمة الإعانة على الإثم شرعا بمعنى كون أحد أصيلا في عمل و الآخر فرعا له موجدا لبعض مقدمات فعله، بل لم نجد بذلك دليلا من السنة أيضا.

نعم لا إشكال في حرمة الإعانة على الظلم لما ورد في ذلك من أخبار أهل البيت عليهم السّلام:

ففي صحيحة أبي حمزة عن علي بن الحسين عليه السّلام: «إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين.» «1»

و في رواية السكوني، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواتا، أو ربط كيسا، أو مدّ لهم مدّة قلم؟ فاحشروهم معهم» «2» إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

هذا كلّه بلحاظ الكتاب و السنة، و سيأتي الاستدلال بحكم العقل في هذا المجال.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 128، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر 12/ 130، و الباب، الحديث 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 343

..........

______________________________

2- حكم العقل بحرمة الإعانة على الإثم

الثانية من القواعد العامّة التي استدل بها للمقام و أمثاله حكم العقل بحرمة إعانة الغير على معصية المولى و إتيان مبغوضه.

و قد أوضح ذلك الأستاذ الإمام «ره»، و ملخّصه: «أنّه كما أنّ إتيان المنكر قبيح عقلا و كذا الأمر به و الإغراء نحوه فكذلك تهيئة أسبابه و إعانة فاعله قبيح عقلا موجب لاستحقاق العقوبة. و لهذا كانت القوانين العرفية متكفّلة لجعل الجزاء على معين الجرم. فلو أعان أحد السّارق على سرقته و ساعده في مقدماتها يكون مجرما في نظر العقل و العقلاء و في القوانين الجزائية. و قد ورد نظيره في الشرع

فيما لو أمسك أحد شخصا و قتله الآخر و نظر لهما ثالث: أنّ على القاتل القود، و على الممسك الحبس حتى يموت، و على الناظر تسميل عينيه.

و لا ينافي ذلك ما حرّرناه في الأصول من عدم حرمة مقدّمات الحرام، لأن ما ذكرناه هناك هو إنكار الملازمة بين حرمة الشي ء و حرمة مقدماته، و ما أثبتناه هنا هو إدراك العقل قبح العون على المعصية و الإثم، لا لحرمة المقدّمة بل لاستقلال العقل بقبح الإعانة على الحرام الصادر عن الغير، و هذا عنوان لا يصدق على إتيان الفاعل لمقدمات فعله.

و بالجملة العقل يرى فرقا بين الآتي بالجرم و بمقدماته و بين المساعد له في الجرم و لو بتهيئة أسبابه و مقدماته، فلا يكون الأوّل مجرما في إتيان المقدمات زائدا على إتيان الجرم، و أمّا الثاني فيكون مجرما في تهيئة المقدمات، فيكون في نظر العقل المساعد له كالشريك له في الجرم و إن تفاوتا في القبح.

و الظاهر عدم الفرق في القبح بين ما إذا كان بداعي توصّل الغير إلى الجرم و غيره، فإذا علم أنّ السّارق يريد السرقة و يريد ابتياع السّلّم لذلك يكون تسليم

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 344

..........

______________________________

السّلّم إليه قبيحا و إن لم يكن التسليم لذلك، و إن كان الأوّل أقبح. كما لا فرق في نظر العقل بين الإرادة الفعلية و العلم بتجدّدها لا سيّما إذا كان التسليم موجبا لتجدّدها. كما لا فرق بين وجود بائع آخر و عدمه و إن تفاوتت الموارد في القبح.

ثمّ إنّ حكم العقل ثابت في تلك الموارد و إن لم يصدق على بعضها عنوان الإعانة على الإثم و التعاون و نحو ذلك. و لعلّ ما ورد من النهي

عن التعاون على الإثم و العدوان أو معنونة الظالمين أو لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الخمر غارسها و حارسها و ...، و كذا ما وردت من حرمة بيع المغنّيات و إجارة المساكن لبيع بعض المحرمات كلّها لذلك أو لنكتته.

ثمّ إنّه بعد إدراك العقل قبح ذلك لا يمكن تخصيص حكمه في مورد كما لا يمكن تجويز المعصية.» «1»

أقول: الإنصاف أنّ ما ذكره من الاستدلال بحكم العقل و العقلاء قويّ جدّا، و الأحكام العقلية- كما ذكر- لا تقبل الاستثناء و تجري على اللّه- تعالى- أيضا، و على هذا فيشكل القول بالحرمة في كلي المسألة و استثناء خصوص بيع العنب أو التمر للتخمير و الخشب لصنع البرابط بمقتضى النصوص الواردة.

و قال الأستاذ «ره» في مورد آخر ما ملخّصه: «و لا يصحّ القول بتقييد الآية و السنّة، لإباء العقول عن ذلك، فإنّ الالتزام بحرمة التعاون على كل إثم إلّا بيع التمر و العنب للتخمير بأن يقال: إنّ الإعانة على غرسها و حرسها و حملها و غير ذلك محرّمة سوى خصوص الاشتراء، أو الالتزام بأنّ الإعانة على كلّ إثم حرام إلّا على شرب الخمر الذي هو من أعظم المحرمات، كما ترى.

و توهّم أنّ الإعانة على الاشتراء المحرّم و هو ليس من المحرمات المهتم بها مدفوع بأنّ المفهوم من الآية و لو بمعونة حكم العقل أنّ مطلق تهيئة أسباب

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 129 (- ط. أخرى 1/ 194)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 345

..........

______________________________

الإثم منهي عنه ...» «1»

أقول: قد تعرّض في إرشاد الطالب لاستدلال الأستاذ «ره» في المقام بحكم العقل ثمّ أجاب عنه بما ملخّصه: «الظاهر أنّه اشتبه على

هذا القائل الجليل مسألة منع الغير عن المنكر الذي يريد فعله، و مسألة إعانة الغير على الحرام، حيث إنّ منع الغير عن المنكر مع التمكن منه واجب، و يمكن الاستدلال على وجوبه بحكم العقل باستحقاق الذمّ فيما إذا ترك المنع مع التمكن و لزوم منعه هو المراعى في القوانين الدارجة عند العقلاء، كما إذا باع سلّما مع علمه بأنّ السّارق يستعمله في سرقة الأموال، فلا يؤخذ على بيعه فيما إذا ثبت أنّه لم يكن يترتب على ترك بيعه ترك السرقة، كما إذا كان السّارق في بلد يباع في جميع أطرافه السّلّم، بحيث لو لم يبع هذا أخذ من غيره، و في مثل ذلك لا يؤخذ البائع ببيعه بل يقبل اعتذاره عن البيع بما ذكر- مع ثبوته-.

و ما ذكر من الرواية ناظر إلى هذه الجهة، و إلّا لم يكن وجه لتسميل عيني الناظر، فإنّه لم يرتكب الحرام و لم يساعد عليه، بل إنّما لم يمنع عن القتل، و على الجملة حكم العقل، و المراعى في بناء العقلاء هو التمكن من منع الغير عما يريده من الجرم و نلتزم بذلك و نقول بعدم جواز بيع الخشب أو العنب فيما لو لم يبعهما من المشتري المزبور لما يكون في الخارج خمر أو آلة قمار.

و أمّا إذا أحرز أنّه لو لم يبعه لاشترى من غيره فمثل ذلك يدخل في مسألة الإعانة على الحرام و لا دليل على قبح هذه الإعانة و لا على حرمتها إلّا في موارد الإعانة على الظلم.

و يظهر أيضا جوازها في غير ذلك المورد من بعض الروايات، كموثقة ابن فضّال، قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام أسأله عن قوم عندنا يصلّون و لا يصومون

شهر رمضان، و ربما احتجت إليهم يحصدون لي، فإذا دعوتهم إلى

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 146 (- ط. أخرى 1/ 218).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 346

..........

______________________________

الحصاد لم يجيبوني حتّى أطعمهم و هم يجدون من يطعمهم فيذهبون إليهم و يدعوني، و أنا أضيق من إطعامهم في شهر رمضان. فكتب بخطّه أعرفه: «أطعمهم.»

و حملها على صورة الاضطرار إلى الإطعام لا تساعده قرينة، فإنّ المذكور في الرواية احتياج المعطي إلى عملهم، و الحاجة غير الاضطرار الرافع للتكليف، كما أنّ حملها على صورة كونهم معذورين في الإفطار يدفعه إطلاق الجواب و عدم الاستفصال فيه عن ذلك.» «1»

أقول: كون حبس الممسك لغيره حتى يقتل و تسميل عيني الناظر من جهة عدم منعهما عن القتل فقط ممنوع، بل الظاهر كونهما بلحاظ تصدّي كلّ منهما لعمل وجودي دخيل في تحقق القتل الواقع. و ليس المقصود من الناظر في المسألة كلّ من اتفق صدفة نظره إلى القتل الواقع، بل من كان عينا للقاتل و ربيئة له كما في الجواهر «2»، حيث إنّ من يريد قتل غيره يرصد له غالبا جوّا خاليا من الأغيار، و ربما يستخدم لذلك من يراقبه و يحفظه من إشراف الغير.

و القول بأنّ المعين للجرم و الموجد لبعض مقدماته عالما مع عدم الانحصار و التمكن من غيره لا يستحق الذمّ عند العقلاء أيضا قابل للمنع. نعم الإعانة مع الانحصار أقبح كما صرّح به الأستاذ «ره» في كلامه.

و موثقة ابن فضال التي ذكرها تحمل على صورة الاحتياج و الاضطرار العرفي كما هو الظاهر منها، و مصلحة التسهيل على المكلّفين ربما توجب رفع القبح و المنع من بعض المحرمات، و نظيره في الشرع و كذا في الأحكام العرفية كثير،

فتدبّر.

______________________________

(1) إرشاد الطالب 1/ 88 و ما بعدها، عند قول المصنّف: و كيف كان فقد يستدلّ على حرمة البيع .... و الموثقة رواها في الوسائل 7/ 266، الباب 36 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

(2) راجع الجواهر 42/ 47 (- ط. أخرى 42/ 43)، كتاب القصاص، الفصل الأوّل، المرتبة الرابعة من مراتب التسبيب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 347

[3- أنّ دفع المنكر كرفعه واجب]

نعم يمكن الاستدلال على حرمة بيع الشي ء ممّن يعلم أنّه يصرف المبيع في الحرام بأنّ دفع المنكر كرفعه واجب و لا يتمّ إلّا بترك البيع فيجب.

و إليه أشار المحقق الأردبيلي «ره» حيث استدل على حرمة بيع العنب في المسألة بعد عموم النهي عن الإعانة بأدلّة النهي عن المنكر. (1)

______________________________

3- أنّ دفع المنكر كرفعه واجب

(1) قال في مجمع الفائدة: «و مما يستبعد الجواز و عدم البأس- و هو الباعث على تأويل كلامهم-: أن يجوز للمسلم أن يحمل خمرا لأن يشرب و الخنزير لأن يأكله من لا يجوز له أكله، و يبيع الخشب و غيره ليصنع صنما و الدفوف و المزمار مع وجوب النهي عن المنكر، و إيجاب كسر الهياكل و عدم جواز الحفظ، و كسر آلات اللهو، و منع الشرب، و الحديث الدالّ على لعن حامل الخمر و عاصرها المذكور في الكافي و قد تقدّم، و كذا ما تقدّم في منع بيع السلاح لأعداء الدين، فإنّه يحرم للإعانة على الإثم و هو ظاهر.» «1» و الظاهر أنّ اللام في قوله: «لأن يشرب» و أمثاله لام العاقبة لا للغاية لئلّا يخرج عن مفروض البحث.

قال الأستاذ «ره» بعد نقل هذا الكلام: «و هو في كمال الإتقان، و حاصله دعوى منافاة أدلّة النهي عن المنكر المستفاد منها أنّ

سبب تشريعه- لو كان شرعيا- قلع مادّة الفساد و العصيان لا سيما مع تلك التأكيدات فيه و الاهتمام به من وجوبه بالقلب و اليد و اللسان، و دلالة بعض الأحاديث على إيعاد العذاب لطائفة من الأخيار لمداهنتهم أهل المعاصي و عدم الغضب لغضب اللّه- تعالى-، و النهي عن الرضا بفعل المعاصي، و الأمر بملاقاة أهلها بالوجوه المكفهرة و غيرها و كذا سائر ما ذكره، مع تجويز بيع التمر ممن يعلم أنّه يجعله خمرا، و الخشب ممن يجعله صنما و صليبا

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 51، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل، و راجع الكافي 6/ 398.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 348

..........

______________________________

أو آلة لهو و طرب. مع أنّ فيه إشاعة الفحشاء و المعاصي و ترويج الإثم و العصيان و ملازم للرضى بفعل العاصي.» «1»

ثم شرع الأستاذ «ره» في بيان أصل الاستدلال بالتعبير الذي ذكره المصنّف- و قد أدّى حقّه- فقال ما ملخصه: «أنّ دفع المنكر كرفعه واجب، بناء على أنّ وجوب النهي عن المنكر عقليّ كما صرّح به شيخنا الأعظم و حكى عن شيخ الطائفة و بعض كتب العلّامة و عن الشهيدين و الفاضل المقداد. و عن جمهور المتكلمين منهم المحقق الطوسي عدم وجوبه عقلا بل يجب شرعا، و الحقّ هو الأوّل لاستقلال العقل بوجوب منع تحقق معصية المولى و مبغوضه و قبح التواني عنه سواء في ذلك التوصل إلى النهي أو الأمور الأخر الممكنة. فكما تسالموا ظاهرا على وجوب المنع من تحقق ما هو مبغوض الوجود في الخارج سواء صدر من مكلّف أم لا، فكذلك يجب المنع من تحقق ما هو مبغوض صدوره من مكلّف فإنّ المناط في كليهما واحد، و

هو تحقق المبغوض، فإذا همّ حيوان بإراقة شي ء يكون إراقته مبغوضة للمولى و رأى العبد ذلك و تقاعد عن منعه يكون ذلك قبيحا منه، كذلك لو رأى مكلفا يأتي بما هو مبغوض لمولاه لاشتراكهما في المناط، و الحاكم به العقل.

فإن قلت: على هذا لا يمكن تجويز الشارع ترك النهي عن المنكر.

قلت: هو كذلك لو كان المبغوض فعليا و لم يكن في النهى مفسدة غالبة، فلو ورد منه تجويز الترك كشف عن مفسدة في النهى أو مصلحة في تركه. فدعوى السيّد الطباطبائي في تعليقته على المكاسب عدم قبح ترك النهي عن المنكر في غير محلّها.

ثم إنّ العقل لا يفرّق بين الرفع و الدفع بل لا معنى لوجوب الرفع في نظر العقل، فإنّ ما وقع لا ينقلب عما وقع عليه، فالواجب عقلا هو المنع عن وقوع المبغوض

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 135 (- ط. أخرى 1/ 203)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 349

..........

______________________________

سواء اشتغل به الفاعل أو همّ بالاشتغال به و كان في معرض التحقق، و ما يدرك العقل قبحه هو هذا المقدار لا التعجيز بنحو مطلق حتّى يشمل مثل ترك التجارة و الزراعة و النكاح إلى غير ذلك.

نعم الظاهر عدم الفرق بين إرادته الفعلية و ما علم بتجدّدها بعد البيع لا سيّما إذا كان البيع سببا له كما مرّ.

و لو بنينا على أنّ وجوب النهي عن المنكر شرعيّ فلا ينبغي الإشكال في شمول الأدلّة للدفع أيضا لو لم نقل بأنّ الواجب هو الدّفع، بل يرجع الرفع إليه حقيقة، فإنّ النهي عبارة عن الزجر عن إتيان المنكر و هو لا يتعلق بالموجود إلّا باعتبار ما لم يوجد، فإطلاق أدلّة النهي

عن المنكر شامل للزجر عن أصل التحقق و استمراره، بل لو فرض عدم إطلاق فيها من هذه الجهة و كان مصبّها النهي عن المنكر بعد اشتغال العامل به فلا شبهة في إلقاء العرف بمناسبة الحكم و الموضوع خصوصيّة التحقق.

فهل ترى من نفسك أنّه لو أخذ أحد كأس الخمر ليشربها بمرأى و منظر من المسلم يجوز التماسك عن النهي حتّى يشرب جرعة منها ثم وجب عليه النهي؟

و هل ترى عدم وجوب النهي عن المنكر في الدفعيات؟! و لعمري أنّ التشكيك فيه كالتشكيك في الواضحات.» «1»

أقول: محصّل كلامه «ره» أنّ العقل- الذي هو المحكّم في باب روابط الموالى و العبيد- كما يحكم بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض للمولى بنحو الإطلاق و إن صدر عن غير المكلّف، كما إذا أراد سبع افتراس ولد المولى مثلا، كذلك يحكم بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض الصدور عن المكلّفين، لاشتراكهما في الملاك أعني المبغوضية للمولى، من غير فرق في ذلك بين الرفع و الدفع. هذا

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 136 (- ط. أخرى 1/ 203).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 350

..........

______________________________

على فرض كون وجوب النهي عن المنكر عقليا، و كذلك لو فرض كونه بحكم الشرع، إذ المستفاد من أدلّته وجوب قلع مادّة الفساد و العصيان بسبب النهي و غيره مثل كسر آلات اللهو و هياكل العبادة. و هذا ينافي تجويز الشرع لبيع العنب مثلا ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا. هذا.

و قد أشار «ره» في أثناء كلامه إلى النزاع المعروف في باب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر من أن وجوبهما عقليّ أو شرعي، و اختار هو كونه عقليا، و به صرّح المصنّف أيضا كما يأتي.

هل وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عقلي أو شرعي؟
[كلمات الأصحاب في المسألة]

قال الشيخ

في كتاب النهاية: «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام.» «1»

أقول: كلامه هذا ساكت عن هذه الجهة و إن كان المتبادر منه كون وجوبهما بحكم الشرع.

و قال في الاقتصاد: «الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان بلا خلاف بقول الأمّة و إن اختلفوا في أنّه هل يجبان عقلا أو سمعا: فقال الجمهور من المتكلّمين و الفقهاء و غيرهم: إنّهما يجبان سمعا، و إنّه ليس في العقل ما يدلّ على وجوبهما، و إنّما علمناه بدليل الإجماع من الأمّة و بآي من القرآن و كثير من الأخبار المتواترة، و هو الصحيح. و قيل: طريق وجوبهما هو العقل.

و الذي يدلّ على الأوّل: أنّه لو وجبا عقلا لكان في العقل دليل على وجوبهما، و قد سبرنا أدلّة العقل فلم نجد فيها ما يدلّ على وجوبهما ...

و يقوى في نفسي أنّهما يجبان عقلا: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لما فيه

______________________________

(1) النهاية/ 299، باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 351

..........

______________________________

من اللطف ...» «1»

أقول: أنت ترى أنّ كلامه لا يخلو من تهافت. و الظاهر أنّ مقصوده من اللطف فعل ما يقرّب العبيد إلى الطاعة و يبعّدهم عن المعصية، فلطف اللّه- تعالى- بعباده يقتضي وجوبهما من قبله.

و على هذا فمرجع كلامه إلى كون وجوبهما من قبل الشارع غاية الأمر كشف ذلك بحكم العقل، و لم يرد كون وجوبهما بحكم العقل نفسه، نظير وجوب الإطاعة التي لا مجال فيها لحكم الشرع و إلّا لتسلسل كما قرّر في محلّه.

و في الجواهر بعد قول المصنّف بوجوبهما إجماعا قال: «من المسلمين بقسميه عليه، مضافا إلى ما تقدم من الكتاب و السنّة و غيره، بل

عن الشيخ و الفاضل و الشهيدين و المقداد أنّ العقل مما يستقلّ بذلك من غير حاجة إلى ورود الشرع، نعم هو مؤكّد.» «2»

و لكن المحقّق الطوسي «ره» منع من وجوبهما عقلا و حكم بكونه بحكم السّمع، قال في آخر التجريد: «و الأمر بالمعروف الواجب واجب و كذا النهى عن المنكر، و المندوب مندوب سمعا، و إلّا لزم خلاف الواقع أو الإخلال بحكمته- تعالى-.»

و قال العلّامة في شرحه: «... و هل يجبان سمعا أو عقلا؟ اختلف الناس في ذلك، فذهب قوم إلى أنّهما يجبان سمعا للقرآن و السنة و الإجماع، و آخرون ذهبوا إلى وجوبهما عقلا. و استدلّ المصنّف على إبطال الثاني بأنّهما لو وجبا عقلا لزم أحد الأمرين: و هو إمّا خلاف الواقع أو الإخلال بحكمة اللّه- تعالى- و التالي بقسميه باطل فالمقدّم مثله. بيان الشرطية أنّهما لو وجبا عقلا لوجبا على اللّه- تعالى-، فإنّ كل واجب عقليّ يجب على كلّ من حصل في حقّه وجه الوجوب، و لو وجبا عليه- تعالى- لكان إمّا فاعلا لهما فكان يلزم وقوع المعروف

______________________________

(1) الاقتصاد/ 146، فصل في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(2) الجواهر 21/ 358، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 352

..........

______________________________

قطعا لأنّه- تعالى- يحمل المكلّفين عليه، و انتفاء المنكر قطعا لأنّه- تعالى- يمنع المكلّفين منه، و إمّا غير فاعل لهما فيكون مخلا بالواجب و ذلك محال لما ثبت من حكمته- تعالى-.» «1» و راجع في هذا المجال المنتهى أيضا. «2»

نكات ينبغي الإشارة إليها:
الأولى: الظاهر أنّ الغرض من إيجاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إيجاد الداعي

الغرض من إيجاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إيجاد الداعي و تقويته في نفوس المكلّفين لتوجههم إلى ما هو معروف و انزجارهم عما هو منكر حتّى

يصير المجتمع مجتمعا صالحا إسلاميّا رائجا فيه الخير و الصلاح و يقلّ فيه الشرّ و الفساد، و ليس الغرض من إيجابهما إلجاء الناس و سلب الاختيار منهم بحيث لا يتمكن أحد من إتيان المنكر، إذ الدار دار الاختيار و الاختبار، و الكمال المطلوب للإنسان لا يحصل إلّا إذا بقي فاعلا مختارا ينتخب بحسن نيته ما فيه الخير و الصلاح أو يختار بسوء سريرته ما فيه الشرّ و الفساد.

قال اللّه- تعالى- في سورة الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «3» و البلاء لا يحصل إلّا مع الاختيار.

ففي الحقيقة يكون إيجابهما بداعي تقوية الأوامر و النواهي الأوّلية الواردة من قبل اللّه- تعالى- بوساطة الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام، و كلاهما واقعان في طريق تقوية العقل و الفطرة.

و بالجملة فالغرض من إيجابهما جعل المحيط محيطا سالما إسلاميا يكثر فيه الاشتياق إلى الخير و الصلاح، لا إلجاء المكلّفين و سلب الاختبار منهم و حملهم بالإجبار على الطاعة و إن فرض قدرتنا على ذلك.

______________________________

(1) كشف المراد/ 428، المقصد السادس، المسألة السادسة عشرة.

(2) راجع المنتهى 2/ 993، كتاب الجهاد ...، المقصد التاسع، البحث الثاني.

(3) سورة الملك (67)، الآية 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 353

..........

______________________________

و على هذا فلو فرض وجوبهما على اللّه- تعالى- أيضا كان وجوبهما عليه أيضا على حدّ وجوبهما علينا لا على نحو الإلجاء و الحمل الإجبارى بحيث لا يتحقق معصية أصلا كما هو المستفاد من كلام المحقق الطوسي و بيان العلامة في شرحه و في المنتهى حيث يظهر منهما إرادة الحمل التكويني و المنع التكويني من ناحية اللّه- تعالى- لو وجبا عليه و عمل بهما.

و حينئذ فيمكن أن يقال: إنّ كيفية العمل بهذين

الواجبين تختلف حسب الموارد، فإذا فرض أنّ أحدا مبسوط اليد يريد الأمر و النهي بالنسبة إلى جماعة كثيرة منتشرة في البلاد المختلفة فطريق ذلك عند العقلاء إبلاغ أوامره و نواهيه بوساطة عمّاله المتفرقين في البلاد و أمرهم بنشرهما و إبلاغهما، لا تصدّي ذلك بنفسه و مباشرته، و على هذا فيمكن أن يقال: إنّ أمر اللّه- تعالى- عباده بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إيجاب ذلك عليهم في الحقيقة أمر اللّه بالمعروف و نهي اللّه عن المنكر، إذا لأمر بالأمر أمر و الأمر بالنهي نهي، و لا يجب تحقق ذلك بمباشرته و لا يلزم في تحقق الواجب أزيد من ذلك.

الثانية: أنّ ما يقال من أنّ الواجبات العقلية تجب على اللّه- تعالى

- أيضا لعدم تطرّق الاستثناء إليها لا كليّة له، إذ لا يجري هذا في باب الإطاعة و العصيان من العناوين المنتزعة في الرتبة المتأخرة عن الأوامر و النواهي، فإنّ وجوب الأوّل و حرمة الثاني و إن كانا بحكم العقل لكن موضوعهما العبيد في قبال الموالي، فلا يمكن أن يجريا على اللّه- تعالى- نفسه، إذ لا مولى له حتى يجب عليه إطاعته و يحرم عليه عصيانه.

الثالثة: لا يخفى أنّ أحكام العقل على قسمين:

بعضها مما يدركه العقل و يحكم به مستقلا و لا مجال لحكم الشرع فيها، كوجوب الإطاعة و حرمة العصيان، إذ لو كانا شرعيين لزم التسلسل أعني وجود أوامر

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 354

..........

______________________________

غير متناهية و وجوب إطاعات غير متناهية و حرمة عصيانات غير متناهية كما مرّ بيانه.

و بعض منها من أحكام الشرع حقيقة و لكن العقل كاشف عنها كما في المقام- على القول به-، إذ الظاهر أنّ وجوبهما شرعي و هما من فرائض الإسلام كما مرّ في عبارة النهاية و لكن طريق إثباتهما العقل بناء على ما قالوا من وجوبهما بقاعدة اللطف.

و معنى ذلك أنّه لو فرض عدم وجود آية أو رواية تدلّ على وجوبهما شرعا فالعقل يدرك وجوبهما من قبل الشارع لاقتضاء لطفه ذلك.

و بعبارة أخرى: القسم الأوّل من أحكام العقل في مقام الثبوت، و القسم الثاني من أحكامه في مقام الإثبات.

الرابعة: أنّ القائلين بوجوبهما عقلا ربما يستدلّون لذلك بقاعدة اللطف

- كما مرّ عن الشيخ في كتاب الاقتصاد و يأتي من المصنف أيضا- و إنّما يحكم العقل بوجوب اللطف في المقام- على القول به- لو لم يتحقق من ناحية الشارع في هذا المقام لطف و عناية، فلأحد أن يقول: إنّ إرساله للأنبياء و الرسل و إنزاله للكتب السماوية و أوامره الواردة في باب الإرشاد و التبليغ و ما ورد منه في الثواب و العقاب على الأعمال و أمثال ذلك كافية في تحقق ما يجب عليه- تعالى- من تقريب العبيد إلى الطاعة و تنفيرهم عن المعصية، فلا يحكم العقل بوجوب أزيد من ذلك.

و أمّا ما ذكره الأستاذ «ره» من أنّ العقل كما يحكم بوجوب المنع عن تحقق ما هو مبغوض المولى بنحو الإطلاق يحكم أيضا بوجوب المنع عن تحقق ما

هو مبغوض الصدور عن المكلّفين، فيمكن أن يناقش فيه بالفرق بينهما بما أشرنا إليه آنفا من أنّ الغرض من خلق الإنسان من نطفة أمشاج و إيداع قوى مختلفة فيه: رحمانية و شيطانية، و جعله ذا إرادة و اختيار هو ابتلاؤه و اختباره ليميز اللّه الخبيث من الطيب و يظهر بذلك قداسة أهل الطاعة و خباثة أهل الطغيان.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 355

..........

______________________________

و على هذا فاللازم أن توجد له أرضية السعادة و الشقاوة كليهما و أن يخلّى هو و طبعه المختار، و ليس وزانه وزان السبع الذي يريد افتراس ابن المولى مثلا- و هو غير مكلف- حيث يجب منعه بأيّ نحو كان.

نعم لو كان المنكر من الأمور المهمة التي علم إرادة الشارع منع تحققه في الخارج من غير نظر إلى من يصدر عنه مثل قتل النفوس مثلا حكم العقل حينئذ بوجوب رفعه و دفعه كيف ما كان، و لكن لا من باب النهي عن المنكر بل لكون الوجود مبغوضا للّه- تعالى- و إن صدر عن غير المكلف. هذا، و لكن لا يجب دفع ذلك أيضا من قبل اللّه- تعالى- تكوينا و مباشرة، إذ مباشرته بذلك توجب الإلجاء و سلب الاختيار عن الفاعل المختار، و هذا خلاف مصلحة نظام الاختيار و الاختبار.

و إذا وصل الكلام إلى هذا المقام فلأحد أن يفصّل و يقول- كما مرّ-: إن كان المنهي عنه من الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بوقوعها كيف ما كان، كتقوية الشرك و قتل النفوس و تقوية الظالمين، حرمت الإعانة عليها بأيّ نحو كان.

و أمّا إذا لم يكن كذلك فلا بأس بإيجاد بعض المقدمات البعيدة لها إذا لم يكن عن قصد و لم يسلب اختيار

الفاعل و لم تعدّ الفائدة المترتبة عليها منحصرة في الحرام عرفا كمثال إعطاء العصا للظالم، و لم تكن المقدمة منحصرة أيضا بنحو يعدّ إيجادها سببا لوقوع المعصية لا محالة بل عدّ وقوعها مستندا إلى المباشر فقط، و ذلك كبيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا و الخشب ممن يعلم أنّه يتخذه برابط مع عدم الانحصار، كما دلّت على جواز ذلك الأخبار الصحيحة- كما مرّت- و قد عرفت أنّ الغالب في مواردها عدم الانحصار فليحمل إطلاقها عليه.

و قد دلّ على هذا التفصيل مكاتبة ابن أذنية السابقة، «1» حيث فصّل فيها بين بيع الخشب ممن يتخذه برابط و بيعه ممن يتخذه صلبانا.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1. و قد مرّت في ص 291.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 356

[ما يشهد لقاعدة حرمة الإعانة]

و يشهد بهذا ما ورد من أنّه لو لا أنّ بني أميّة وجدوا من يجبي لهم الصدقات و يشهد جماعتهم ما سلبوا حقّنا. (1)

دلّ على مذمّة الناس في فعل ما لو تركوه لم يتحقق المعصية من بني أميّة، فدلّ على ثبوت الذمّ لكلّ ما لو ترك لم يتحقق المعصية من الغير.

______________________________

و قد علّل في صحيحة الحلبي السابقة عدم البأس بقوله عليه السّلام: «تبيعه حلالا فيجعله حراما فأبعده اللّه و أسحقه.» «1» فيظهر منه أنّ ملاك عدم البأس استناد الحرام إلى المشتري دون البائع.

و على هذا فطرح النصوص الكثيرة الدالّة على الجواز- مع صحّة كثير منها- بسبب ما سمعته من التشكيك في كلمات الأعلام اجتهاد في قبال النصّ، و سهولة الشريعة و سماحتها تقتضي جواز الأخذ بها.

و غاية ما يمكن أن يقال: إنّ البائع يجب عليه نهي المشتري عما يقصده،

لا تركه لبيع ما هو محلّل بطبعه و لا ينحصر فائدته في الحرام، و لا تعجيز المشتري بعد كون المشتري مختارا و الدار دار الاختيار و الاختبار لا دار الإلجاء و التعجيز كما مرّ، فتأمّل.

ما يشهد لهذه القاعدة

(1) راجع الوسائل، و متن الحديث هكذا: فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لو لا أنّ بني أميّة وجدوا من يكتب لهم و يجبي لهم الفي ء و يقاتل عنهم و يشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا. الحديث.» «2»

و حكومة بني أميّة الموجبة لسلب حقّهم- عليهم السّلام- قائمة بأعمال الجميع، بحيث يكون عمل كلّ منهم جزء من علّتها، و دفعها يتحقق بترك الجميع أعمالهم،

______________________________

(1) نفس المصدر 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4. و قد مرّت في ص 289.

(2) نفس المصدر 12/ 144، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 357

..........

______________________________

فترك كلّ واحد منهم عمله دخيل في دفع حكومتهم، فيكون واجبا و العمل حراما و إن لم يكن بوحدته كافيا لدفعها. هذا.

و قد أجاب في مصباح الفقاهة عن الاستدلال بوجوب دفع المنكر بما ملخّصه: «أوّلا: بأنّ الاستدلال به هنا إنّما يتّجه إذا علم المعين بانحصار دفع الإثم بتركه الإعانة عليه، و أمّا مع الجهل بالحال أو العلم بوقوع الإثم بإعانة الغير فلا يتحقق مفهوم الدفع.

و ثانيا: بأنّ دفع المنكر إنّما يجب إذا كان ممّا اهتمّ الشارع بعدم وقوعه كقتل النفوس المحترمة و هتك الأعراض المحترمة و نهب الأموال المحترمة و هدم أساس الدين و كسر شوكة المسلمين و نحو ذلك. و أمّا في غير ما يهتم الشارع بعدمه من الأمور فلا دليل على وجوب دفع المنكر.

و أمّا أدلة

النهي عن المنكر فلا تدلّ على وجوب دفعه، فإنّ معنى دفعه تعجيز فاعله عن الإتيان به، و النهي عن المنكر ليس إلّا ردع الفاعل و زجره عنه على مراتبه المقرّرة في الشريعة، و لا وجه لقياس دفع المنكر على رفعه، إذ مرجع الرفع و إن كان بالتحليل إلى الدفع إلّا أنّ الأحكام الشرعية و موضوعاتها لا تبتني على التدقيقات العقلية. و لا شبهة في صدق رفع المنكر في العرف و الشرع على منع العاصي عن إتمام المعصية التي ارتكبها، بخلاف الدفع.

و أمّا رواية ابن أبي حمزة فمضافا إلى ضعف السند، فيها أنّها أجنبية عن رفع المنكر فضلا عن دفعه لاختصاصها بحرمة إعانة الظلمة.» «1»

أقول: أمّا ما ذكره أوّلا فيأتي البحث فيه عن قريب عند تعرّض المصنف له.

و أمّا ما ذكره من الفرق بين الرفع و الدفع فقد أجاب عنه الأستاذ «ره» بما مرّ من إلقاء الخصوصية بمناسبة الحكم و الموضوع، قال «ره»: «و هل ترى من نفسك أنّه

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 181 و ما بعدها، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 358

و هذا و إن دلّ بظاهره على حرمة بيع العنب و لو ممّن يعلم أنّه سيجعله خمرا مع عدم قصد ذلك حين الشراء، إلّا أنّه لم يقم دليل على وجوب تعجيز من يعلم أنّه سيهمّ بالمعصية،

[الثابت من النقل و العقل من وجوب اللطف]

و إنما الثابت من النقل و العقل القاضي بوجوب اللطف (1) وجوب ردع من همّ بها و أشرف عليها

______________________________

لو أخذ أحد كأس الخمر ليشربها يجوز التماسك عن النهي حتى يشرب جرعة منها ثم وجب علينا النهي؟!» «1».

نعم الظاهر صحة ما ذكره من الفرق بين المعاصي المهمة التي لا

يرضى الشارع بوقوعها كيف ما كانت و بين غيرها، كما مرّ، ففي القسم الأوّل يجب السعي في عدم وقوعها و عدم استمرارها بأيّ نحو كان، لا من باب النهي عن المنكر بل لكونها مبغوضة للمولى و إن فرض صدورها عما لا تكليف له كالصغار و المجانين، بل و البهائم و الحوادث الطبيعية كالزلزلة و نحوها، بخلاف القسم الثاني. و لا فرق في كليهما بين الرفع و الدفع، و ليس الدفع مطلقا عبارة عن تعجيز الفاعل. و مورد رواية ابن أبي حمزة من الموارد المهمة.

و بالجملة ففي غير الموارد المهمة و إن وجب النهي عن المنكر رفعا و دفعا رعاية لمصلحة الفرد لكن لا إلى حدّ يصل إلى الإلجاء و التعجيز، و لذا لا يجوز فيها إعمال الضرب و الجرح أيضا إلّا بإذن الحاكم إذا رآهما صلاحا، و في الحقيقة يلاحظ فيهما مصلحة المجتمع لا مصلحة الفرد فقط.

(1) قد مرّ أنّ إرسال الأنبياء و إنزال الكتب السماوية و الأوامر الأوّلية و ما ورد في إيجاب الإرشاد و التبليغ و الثواب و العقاب على الأعمال كافية في تحقق اللطف منه تعالى- على فرض وجوبه-، و لا يحكم العقل بوجوب أزيد من ذلك عليه- تعالى-. «2»

______________________________

(1) راجع المكاسب المحرّمة 1/ 137 (- ط. أخرى 1/ 206)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

(2) راجع ص 354، النكتة الرابعة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 359

بحيث لو لا الردع لفعلها و استمرّ عليها. (1)

ثمّ إنّ الاستدلال المذكور إنّما يحسن مع علم البائع بأنّه لو لم يبعه لم يحصل المعصية، لأنّه حينئذ قادر على الردع، أمّا لو لم يعلم ذلك أو علم بأنّه يحصل منه المعصية بفعل الغير فلا يتحقق الارتداع

بترك البيع، كمن يعلم عدم الانتهاء بنهيه عن المنكر.

و توهّم أنّ البيع حرام على كلّ أحد فلا يسوغ لهذا الشخص فعله معتذرا بأنّه لو تركه لفعله غيره، مدفوع بأنّ ذلك فيما كان محرما على كلّ واحد على سبيل الاستقلال فلا يجوز لواحد منهم الاعتذار بأنّ هذا الفعل واقع لا محالة و لو من غيري فلا ينفع تركي له.

أمّا إذا وجب على جماعة شي ء واحد كحمل ثقيل مثلا، بحيث يراد منهم الاجتماع عليه، فإذا علم واحد من حال الباقي عدم القيام به و الاتفاق معه في إيجاد الفعل كان قيامه بنفسه بذلك الفعل لغوا فلا يجب، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ عدم تحقق المعصية من مشتري العنب موقوف على تحقق ترك البيع من كل بائع، فترك

______________________________

(1) كلام المصنّف هنا لا يخلو من تشويش، إذ لو دلّ ظاهر ما ذكره من وجوب الدفع على حرمة بيع العنب ممن يعلم أنّه سيجعله خمرا و لو لم يكن قاصدا حين الشراء فبأيّ ملاك رفع اليد عن هذا الظاهر؟ و أيّ فرق بين هذه الصورة و بين صورة القصد مع تحقق العلم في كليهما؟! و مجرّد كون الثاني أقرب إلى الوقوع بلحاظ تحقق الداعي و القصد فعلا لا يصير فارقا بعد ما كان الغرض من النهي رفعا و دفعا عدم تحقق المنكر في الخارج، فإمّا أن يقال بوجوب الدفع في كليهما مع العلم و إمّا أن ينكر الوجوب مطلقا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 360

المجموع للبيع سبب واحد لترك المعصية، كما أنّ بيع واحد منهم على البدل شرط لتحققها. فإذا علم واحد منهم عدم اجتماع الباقي معه في تحصيل السبب، و المفروض أنّ قيامه منفردا لغو،

سقط وجوبه. (1)

______________________________

(1) أقول: محصّل ما يوجّه به كلام المصنّف في المقام هو الفرق بين الرفع و الدفع، إذ المقصود بالرفع رفع المنكر الموجود، واحدا كان أو متعددا، فالحكم فيه يتكثر بتكثّر وجودات الطبيعة.

و أمّا الدفع فالمتعلّق له نفس الطبيعة، و هي أمر واحد، إذ لا تكثر لها ما لم توجد. فالغرض من إيجاب دفعها منع تحققها في الخارج من رأس، فهو تكليف واحد توجّه إلى الجميع إمّا بنحو الوجوب المطلق- كما هو الظاهر من كلماتهم- بأن يجب على كلّ واحد منهم السّعي في منع تحقق الطبيعة بقيام نفسه و ببعث الآخرين أيضا نحوه حتى يحصل المنع المطلق، أو بنحو الوجوب المشروط بأن يجب على كلّ فرد منهم بشرط مساعدة غيره و قيامه.

و كيف كان فلو فرض العلم بعدم قيام غيره و عدم مساعدته في هذا الترك لم يجب عليه أيضا لكونه لغوا، فوزانه وزان إيجاب حمل جسم ثقيل لا يقدر على حمله إلّا جماعة، فلا يجب إقدام واحد منهم إلّا مع إقدام غيره و مساعدته.

و لو شكّ في مساعدة غيره فإن كان الوجوب بنحو الإطلاق وجب عليه الإقدام أيضا، إذ مع الشكّ في القدرة لا يجوز التواني في الامتثال بل يجب الإقدام حتى يثبت العجز، إذ الظاهر أنّ القدرة من شرائط تنجّز التكليف لا من شرائط أصله.

و إن كان الوجوب بنحو الوجوب المشروط رجع الشكّ إلى أصل التكليف، إذ الشكّ في الشرط شكّ في المشروط فتجري البراءة.

و المصنّف خصّ أوّلا- كما ترى- وجوب الدفع بصورة علم البائع بأنّه لو لم يبعه لم يحصل المعصية، و لكن يأتي عنه عن قريب قوله: «فإن علم أو ظنّ أو احتمل

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 361

..........

______________________________

قيام الغير بالترك وجب قيامه به.» «1» و مقتضى ذلك ثبوت التكليف مع الشك في إقدام الغير و مساعدته أيضا. هذا.

و في حاشية المحقق الإيرواني «ره» في ذيل قول المصنّف: «إنّما يحسن مع علم البائع» قال: «بل يحسن مع جهله، بل و مع علمه بحصول المعصية على كلّ حال، و ذلك أنّ النهي عن الطبيعة ينحلّ إلى نواهي متعددة حسب تعدّد أفراد تلك الطبيعة على سبيل العموم الاستغراقي، فكان كلّ فرد تحت نهي مستقل، و لذا يعاقب بارتكاب كل فرد بعقاب مستقل و إن ترك سائر ما عداه من الأفراد.

و على هذا فترك بيع فرد من العنب دفع لتخمير هذا الفرد و إن علم أنّ عنبا آخر يباع و يخمّر لو لم يبع هو هذا، فإذا تراكمت التروك بترك هذا للبيع و ترك ذاك له و هكذا، حصل ترك التخمير رأسا و كان كل ترك مقدمة لترك فرد من الحرام، لا أنّ مجموع التروك يكون مقدمة لترك حرام واحد حتى لا يجب على المكلّف ترك بيع ما عنده من العنب مع عدم العلم بترك سائر أرباب العنب للبيع أو العلم بعدم تركهم.

فليس المقام من قبيل رفع الحجر الثقيل كيلا يجب الإقدام مع عدم إقدام آخرين، بل يجب على كلّ مكلف ترك البيع دفعا لمنكر يحصل ببيعه سواء ترك المنكر رأسا بترك آخرين أولا.» «2»

و محصّل ما ذكره هذا المحقق: أنّ النهي المتعلق بالطبيعة ينحلّ إلى نواهي متعددة تارة بلحاظ تكثر المكلّف و أخرى بلحاظ تكثر موضوع الحكم، و على هذا فكلّ مصداق من العنب يتعلق به نهي التخمير مستقلا و يجب دفعه بترك بيع هذا العنب و إن علم أنّ عنبا آخر يباع و يخمّر

لو لم يبع هو هذا. فليس الواجب ترك واحد متعلق بالطبيعة و يكون مجموع التروك سببا واحدا له حتّى يصير نظير حمل الثقيل

______________________________

(1) يأتي في ص 369.

(2) حاشية المكاسب/ 16.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 362

..........

______________________________

المذكور في المتن، بل كلّ ترك واجب مستقل لكونه دفعا بالنسبة إلى فرد من المنكر. هذا.

و لكن الأستاذ الإمام «ره» سلك في المقام مسلكا آخر- و الظاهر صحة ما ذكره- و ملخّصه: «أن الشي ء قد يكون منكرا بوجوده السّاري كشرب الخمر و تخميرها، و أخرى بصرف وجوده المنطبق على أوّل فرد يوجد. و على الأوّل فالمشتري تارة يكون مريدا لتخمير كلّ عنب يشتريه، و أخرى لا يريد إلّا تخمير مصداق واحد، فهنا ثلاثة أقسام: ففي القسم الأوّل يحرم البيع منه مطلقا- على القول بوجوب الدفع-، لأن المفروض أنّ كلّ مصداق منكر مستقل يجب دفعه، و أمّا في القسمين الآخرين فهل يجوز البيع منه إلّا فيما انحصر البائع فيه لأنّ دفع المنكر حينئذ غير مقدور عليه لوجود بائع آخر أولا يجوز لأنّ الدفع يجب على كل واحد منهم و لو بمنع الغير عن المخالفة؟ و انتقاض الدفع الواجب غير جائز شرعا و عقلا لكونه مخالفة للأمر. و مجرّد بناء الغير على انتقاضه لا يكون عذرا، فالبائع الواحد و إن لا يقدر على الدفع المطلق لكنه قادر على انتقاض الحكم و مخالفته، و هذا كاف في تحقق المعصية منه.

فلو أمر المولى عبيده بدفع السّارق عن سرقة ماله و توقّف ذلك على بقاء الباب مسدودا، وجب على كل واحد منهم دفعه بحفظ سدّ الباب، فلو علم أحدهم أنّ بعض العبيد يريد فتح الباب و تمكين السارق لا يوجب ذلك البناء و

العلم بفتحه على أيّ حال أن يكون هذا معذورا في فتح الباب، فلو فتحه كان فاتح الباب عاصيا لا الباني على فتحه. و هذا بوجه نظير أن يتعذر قاتل مظلوم محقون الدّم بأنّه لا محالة كان مقتولا و لو لم يقتله لقتله غيره.

و تنظير المقام بحمل الجسم الثقيل غير وجيه، فإنّ الواجب هناك حمل الثقيل، و هو أمر بسيط لا يتحقق إلّا بالاجتماع، فمع العلم بعدم اجتماعهم يكون إقدامه لغوا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 363

..........

______________________________

و أمّا في المقام فالواجب هو الدفع عن التخمير لأجل كونه مبغوضا، و كلّ واحد منهم مستقل في القدرة على نقضه، فمن نقضه أوّلا فهو عاص لا من بنى على نقضه. و إن شئت قلت: إنّ بيع الغير و تسليمه للعنب موجب لتعجيزه عن دفع المنكر لا بناءه عليه. فما لم يتحقق التسليم من الغير تكون القدرة على الدفع باقية له فإنّه قادر على إبقاء الدفع و نقضه ما دام الدفع لم ينتقض». «1» هذا.

و قال السيّد الطباطبائي اليزدي «ره» في الحاشية: «إذا كان المطلوب فعلا واحدا بسيطا من جماعة على وجه الاشتراك و لم يكن مقدورا إلّا للمجموع من حيث المجموع كدفع المنكر فيما نحن فيه و كحفظ النفس إذا لم يكن مقدورا إلّا لمجموع جماعة فلا يعقل أن يكون المطلوب الأوّلي من كلّ واحد منهم ذلك العنوان، بل لا بدّ أن يكون المطلوب من كلّ واحد مقدار ما هو مقدوره من مقدمات حصول ذلك الفعل، إذ لا بدّ في تعلق التكليف من وجود القدرة، و العنوان الذي يتوقف حصوله على اجتماع جماعة لا يكون مقدورا لواحد منهم، و المفروض أنّ كلّ واحد منهم مكلّف مستقل و مخاطب

كذلك فلا بدّ أن يمتاز ما هو المطلوب منه من غيره، فعلى هذا يكون ذلك العنوان البسيط غرضا في المطلوب لا مطلوبا أوّليا.

و هذا بخلاف ما إذا كان مقدورا لكلّ منهم، فإنّه لا بأس بتعلّق التكليف به حينئذ، بناء على المختار من أنّ الأمر بالمسبّب ليس أمرا بالسبب و أنّ المقدور بالواسطة مقدور.

و الغرض أنّ الإشكال في المقام أنّ ذلك العنوان ليس مقدورا بالواسطة أيضا لأنّ كونه مقدورا للجميع لا يكفي في تعلق الطلب بكلّ واحد، و من المعلوم أنّ كلّ واحد مكلّف على حياله و في حدّ نفسه فلا يمكن إلّا بالتزام أنّ تكليفه إيجاد ما هو مقدور له من المقدمات.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 137 (- ط. أخرى 1/ 206)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 364

..........

______________________________

و مما ذكرنا ظهر أنّه لا يعقل أن يكون المطلوب منه المقدّمة بشرط كونها موصلة، أي مع وصف الإيصال الفعلي، لأنّه أيضا ليس داخلا تحت قدرة كلّ واحد ...

فالمقدمة المطلوبة من كلّ منهم واجب نفسيّ أوّلي بالنسبة إليه و ليست واجبة من باب المقدمة لأنّه فرع وجوب ذي المقدمة عليه، و المفروض عدم كونه مقدورا له، فيكون ذلك العنوان غرضا في المطلوب لا مطلوبا أوّليا ... فلا بدّ في مقامنا هذا من أن يكون الواجب على كلّ من المكلفين ترك بيع العنب لا عنوان دفع المنكر لعدم كونه فعلا مقدورا له ...

فإن قلت: هب أنّ الواجب على كلّ واحد ما يتمشّى منه من المقدمات إلّا أنّ إيجاد المقدمة مع عدم حصول الغرض لغو فيسقط حينئذ الوجوب بالعلم باللغوية.

قلت: نمنع أنّ اللغوية مسقطة للطلب، نعم إذا فرض تحقق العصيان من البعض يسقط الخطاب

عن البقية، ففي مسألة بيع العنب لا يجوز البيع إلّا بعد عصيان غيره بالبيع، و إلّا فالبناء على العصيان غير مسقط للخطاب ...» «1»

أقول: لا يخفى أنّ ما ذكره أخيرا يناقض ما بنى عليه من كون كلّ مقدمة بنفسها واجبا نفسيا مستقلا على كلّ واحد، إذ عصيان بعضهم لا يوجب تخلف غيره عما وجب عليه، حيث إنّ الغرض بمنزلة الحكمة لا العلّة، و تخلّف الحكمة لا يوجب سقوط الحكم.

و الأستاذ الإمام «ره» أطال الكلام في ردّ كلام السيّد في المقام. «2» و محصّل ما ذكره أمران:

الأوّل: أنّ أوامر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا تفي بما ذكره بعد ما كان وجوبهما شرعيا لا عقليا كما هو مذهبه. و ذلك لأنّ تلك الأوامر كغيرها في سائر

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 8، ذيل قول المصنّف: مدفوع بأنّ ذلك ...

(2) راجع المكاسب المحرّمة 1/ 139 (- ط. أخرى 1/ 209) في النوع الثاني من القسم الثاني

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 365

..........

______________________________

الأبواب متوجّهة إلى آحاد المكلّفين لا إلى مجموعهم، و لا يعقل أن تكون متوجهة إلى الآحاد مستقلا و إلى المجموع بلفظ واحد، فحينئذ يكون إيجاب الدفع على طبق الرفع أيضا متوجها إلى الآحاد فلم يكن أمر متوجها إلى المجموع حتّى يقال:

لا بدّ من إرجاعه إلى السبب.

الثاني: أنّ متعلق الأوامر هو الرفع المفهوم منها الدفع أو الدفع أيضا و لا يكون الدفع غير مقدور مطلقا. و كونه في بعض الأحيان غير مقدور لا يوجب إرجاع الأمر إلى السبب بالنسبة إليه حتى يكون مفاد الأمر الواحد في المقدور شي ء و في غيره شي ء آخر. و لو فرض فهم ذلك من الأوامر بإلقاء الخصوصية فلا يلزم منه الإرجاع إلى

السبب، فإنّ الأمر كما يتعلق بآحاد المكلفين يمكن أن يتعلق بمجموع منهم، فيكون الأمر واحدا و المأمور به واحدا هو المجموع. و يشترط فيه عقلا قدرة المجموع لا الآحاد فتكون الطاعة بإيجاد المجموع و العصيان بتركهم أو ترك بعضهم.

أقول: لا يخفى أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد الكامنة في الأفعال، و على هذا فتصير الواجبات على قسمين:

إذ قد تكون المصلحة في صدور الفعل عن الفاعل بقيد صدوره عن نفسه كالصلاة مثلا، حيث إنّ الغرض منها قرب الفاعل إلى مولاه.

و قد تكون المصلحة في أصل تحقق الفعل في الخارج بلا دخل لصدوره عن فاعل خاصّ في ذلك كالأمور المرتبطة بتجهيز الموتى من المسلمين و كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر رفعا و دفعا و حفظ ثغور المسلمين و الدفاع عن المظلومين و نحو ذلك.

و يسمّى القسم الأوّل من الواجبات بالواجبات العينية، و القسم الثاني بالواجبات الكفائية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 366

..........

______________________________

و القسم الثاني أيضا على صنفين: إذ بعضها مما يقدر كلّ فرد على إيجاده، و بعضها مما لا يقدر البعض على إيجاده إلّا بمساعدة غيره معه. و المطلوب في كلا الصنفين أصل تحقق المطلوب.

و حينئذ فربما يتخيل أن المأمور و المكلّف في الواجبات العينية كل شخص و المأمور في الواجبات الكفائية مجموع المكلفين، و لكن بإتيان من به الكفاية تسقط عن الباقين.

و لعلّ هذا هو الظاهر مما ذكره الأستاذ هنا في الأمر الثاني.

و لكن الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- قال: إنّ الفارق بين الواجبين ليس بالمأمور بل بالمأمور به. فالمأمور في كليهما كل فرد، و لكن المأمور به في الواجبات العينية هي الطبيعة بقيد صدورها عن فاعله لقيام المصلحة بذلك، و

أمّا في الواجبات الكفائية فكل فرد مأمور و لكن المأمور به نفس الطبيعة بلا تقيّد بصدورها عن فاعل خاصّ، إذ المصلحة في نفس تحقق الطبيعة، فإذا تحققت في الخارج سقط التكليف عن الجميع و إلّا عوقب الجميع.

و على هذا فكلّ فرد يجب عليه السعي في إيجاد هذه الطبيعة المطلوبة بنفسه أو بمساعدة غيره، لا بنحو الوجوب المشروط بأن يكون الوجوب على كلّ فرد مشروطا بمساعدة الغير بحيث لا يجب عليه تحصيل الشرط، بل بنحو الوجوب المطلق، فيكون كلّ فرد مكلّفا بالسعي في تحقق المطلوب على أيّ حال و لو ببعث غيره أو الاستمداد منه إلى أن يحصل المطلوب، غاية الأمر أنّ العقل يحكم بارتفاع التنجز مع ارتفاع القدرة رأسا كما في سائر التكاليف. «1»

و الظاهر صحة ما ذكره هذا الأستاذ و يساعده الاعتبار أيضا.

و نتيجة ذلك أنّ كلّ فرد مأمور مستقلا و المأمور به تحقّق نفس الطبيعة كيف

______________________________

(1) راجع نهاية الأصول/ 228 و ما بعدها (من طبعته الحديثة)، الفصل السادس من المقصد الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 367

و أمّا ما تقدّم من الخبر في اتّباع بني أمية، فالذمّ فيه إنّما هو على إعانتهم بالأمور المذكورة في الرواية. (1) و سيأتي تحريم كون الرجل من أعوان الظلمة، حتى في المباحات التي لا دخل لها برئاستهم، فضلا عن مثل جباية الصدقات و حضور الجماعات و شبههما ممّا هو من أعظم المحرّمات.

______________________________

ما كان، فيجب فيما لا يقدر الفرد بوحدته على إيجادها أن يستعين بغيره و يستمدّ منه إلى أن يحصل المطلوب أو يظهر العجز المطلق، فتدبّر. و أمّا المجموع من حيث المجموع فهو أمر اعتباري لا عقل له و لا شعور و لا يتوجه إليه

تكليف إلّا بلحاظ الأشخاص.

و أمّا ما ذكره السيّد من إيجاب المقدمات وجوبا نفسيا فلا يمكن المساعدة عليه، إذ الأمر لا يتعلق إلّا بما هو مطلوب للمولى و مشتمل على غرضه، و هذا واضح.

(1) في حاشية السيّد «ره»: «أقول: سلّمنا أنّ الأمور المذكورة في الرواية مما يعدّ فاعلها من أعوان الظلمة، و هو عنوان آخر مستقل، إلّا أنّ الظاهر منها أنّ وجه حرمة ذلك العنوان كون الفعل دخيلا في حصول سلب الحقّ الذي هو المحرّم، فيستفاد منها أنّ إيجاد المقدّمة التي يترتب عليها محرّم حرام، ألا ترى لو قال: لو أنّ الناس لم يبيعوا عنبهم من الخمار لم يشرب خمرا يستفاد منه أنّ وجه حرمة البيع ترتب شرب الخمر. إلّا أن يقال: لعلّ لمسألة سلب حق الخلافة عن الأئمة عليهم السّلام خصوصية لكونه من أعظم المحرمات، فحرمة إيجاد مقدمته لا تدلّ على حرمة إيجاد مقدمات سائر المحرمات، و المفروض أنّ الرواية خاصّة بهذه المسألة.» «1»

أقول: الظاهر أنّ المصنف كان ناظرا إلى هذه الخصوصية، و التعدّي عنها يتوقف على إلقاء العرف لها بنحو القطع و هو ممنوع.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 9، ذيل قول المصنّف: فالذمّ فيه إنّما هو ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 368

[خلاصة البحث]

و قد تلخّص مما ذكرنا أنّ فعل ما هو من قبيل الشرط (1) لتحقق المعصية من الغير من دون قصد توصّل الغير به إلى المعصية غير محرّم، لعدم كونها في العرف إعانة مطلقا، أو على التفصيل الذي احتملناه أخيرا. (2)

و أمّا ترك هذا الفعل فإن كان سببا يعني علّة تامّة لعدم المعصية من الغير، كما إذا انحصر العنب عنده، وجب لوجوب الردع عن المعصية عقلا و نقلا. (3) و أمّا لو لم

يكن سببا بل كان السبب تركه منضمّا إلى

______________________________

خلاصة البحث

(1) كتمليك العنب ممّن يقصد تخميره، و إعطاء العصا لمن يريد ضرب المظلوم بها.

(2) أمّا عدم كونها إعانة مطلقا فلما مرّ منه و من غيره من اعتبار القصد في صدقها. و أمّا التفصيل الأخير فأراد به ما مرّ منه من التفصيل بين ما ينحصر فائدته عرفا في المشروط المحرّم كحصول العصا في يد الظالم المريد لضرب المظلوم، حيث يعدّ سببا لوقوع الضرب و الجزء الأخير من علّته، و بين ما لم يكن كذلك عرفا كتمليك العنب لمن يريد تخميره فيعتبر القصد في الثاني دون الأوّل.

(3) أمّا عقلا فلما مرّ من المصنّف من وجوب اللطف على اللّه- تعالى- و اقتضائه إيجاب النهي عن المنكر رفعا و دفعا و إن لم يرد به آية أو رواية، أو لما مرّ من الأستاذ «ره» من أنّه كما يحكم بوجوب المنع من تحقق ما هو مبغوض الوجود في الخارج مطلقا فكذلك يحكم بوجوب المنع من تحقق ما يكون مبغوضا صدوره عن المكلف رفعا و دفعا، و قد مرّت المناقشة في كليهما. «1»

______________________________

(1) راجع ص 358- 348.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 369

ترك غيره فإن علم أو ظنّ أو احتمل قيام الغير بالترك وجب قيامه به أيضا، (1) و إن علم أو ظنّ عدم قيام الغير سقط عنه وجوب الترك (2) لأنّ تركه بنفسه ليس برادع حتّى يجب، نعم هو جزء للرادع المركّب من مجموع تروك أرباب العنب لكن يسقط وجوب الجزء إذا علم بعدم تحقق الكلّ في الخارج.

______________________________

و أمّا نقلا فلأدلّة النهي عن المنكر بناء على دلالتها على وجوب دفع المنكر كرفعه و لو بإلقاء الخصوصية.

(1) ذكر المصنف سابقا أنّ الاستدلال

المذكور إنّما يحسن مع علم البائع بأنّه لو لم يبعه لم يحصل المعصية، «1» و لكن مفاد كلامه هنا كفاية الظنّ بل و الاحتمال أيضا في عدم جواز بيعه.

و قد مرّ منّا أنّ الوجوب إن كان بنحو الوجوب المطلق ففي صورة الشكّ يجب الاحتياط، لرجوعه إلى الشكّ في القدرة و قد قالوا فيه بالاحتياط حتّى يثبت العجز، هذا مضافا إلى أنّ الدليل على وجوب الدفع لو كان دليل النهي عن المنكر كان مقتضاه العمل به و لو مع الشكّ في التأثير أيضا، و إنّما لا يجب إذا علم بعدم الفائدة، للإجماع المدّعى و إلّا فالإطلاق يقتضي الوجوب حتى مع العلم بعدمها.

نعم لو كان الوجوب بنحو الوجوب المشروط، بأن وجب عليه الدفع بشرط مساعدة الغير و على فرض مساعدته، رجع الشك فيه إلى الشك في التكليف في الشبهة الموضوعية، إذ الشك في الشرط شك في المشروط فتجري أصالة البراءة و الحلّ. هذا.

و لو فرضنا وجوب الاحتياط في صورة الشكّ وجب في صورة الظنّ بأحد الطرفين أيضا إلّا إذا قام دليل على حجيته.

و على هذا فيشكل قوله بعد ذلك: «و إن علم أو ظنّ عدم قيام الغير سقط عنه وجوب الترك.»

(2) قد مرّ الإشكال في ذلك بتقريب أنّ مجرّد بناء الغير على نقض التكليف بالترك لا يكون عذرا ما لم يحصل النقض منه بالفعل، فراجع. «2»

______________________________

(1) راجع ص 359.

(2) راجع ص 362 و ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 370

فعلم ممّا ذكرناه في هذا المقام أنّ فعل ما هو شرط للحرام الصادر من الغير يقع على وجوه: (1)

أحدها: أن يقع من الفاعل قصدا منه لتوصّل الغير به إلى الحرام.

و هذا لا إشكال في حرمته

لكونه إعانة.

الثاني: أن يقع منه من دون قصد لحصول الحرام و لا لحصول ما هو مقدّمة له (2)، مثل تجارة التاجر بالنسبة إلى معصية العاشر، فإنّه لم يقصد بها تسلّط العاشر عليه الذي هو شرط لأخذ العشر، و هذا لا إشكال في عدم حرمته.

الثالث: أن يقع منه بقصد حصول ما هو من مقدمات حصول الحرام عن الغير لا لحصول نفس الحرام منه.

______________________________

(1) محصّل ما ذكره المصنّف أن الوجوه المذكورة في المسألة خمسة، و حرمة البيع فيها يدور مدار أحد الأمرين: إمّا صدق الإعانة المتوقف على قصد الحرام، أو كون بيع هذا الشخص علّة تامّة منحصرة لتحقق الحرام حتى يجب عليه دفعه بترك البيع.

(2) قد مرّ منّا أنّ تجارة التاجر أيضا مقدمة لأخذ العشور و شرط له، «1» إذ لولاها لم يتحقق موضوع لأخذها، و المفروض أنّ التجارة مقصودة للتاجر و إن لم يقصدها بعنوان المقدمية لأخذ العشور، كما أنّ تملك المشتري للعنب أيضا مقصود للبائع و إن لم يقصد مقدميته للتخمير. فوزان التجارة في المثال و زان تملك المشتري للعنب. نعم هما يفترقان بأنّ قصد المشتري للتخمير متحقق قبل الشراء، و أمّا العاشر فلا يتحقق قصده لأخذ العشور إلّا بعد تحقق التجارة و حصول الفائدة، و لكن كون هذا فارقا في الحكم محل إشكال كما يأتي في الحاشية التالية.

______________________________

(1) راجع ص 315 و ص 323.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 371

و هذا قد يكون من دون قصد الغير التوصّل بذلك الشرط إلى الحرام كبيع العنب من الخمّار المقصود منه تملكه للعنب الذي هو شرط لتخميره لا نفس التخمير مع عدم قصد الغير أيضا التخمير حال الشراء. و هذا أيضا لا إشكال في عدم حرمته.

(1)

و قد يكون مع قصد الغير التوصّل به إلى الحرام أعني التخمير حال شراء العنب، و هذا أيضا على وجهين:

أحدهما: أن يكون ترك هذا الفعل من الفاعل علّة تامّة لعدم تحقق الحرام من الغير، و الأقوى هنا وجوب الترك و حرمة الفعل.

و الثاني: أن لا يكون كذلك بل يعلم عادة أو يظنّ بحصول الحرام من الغير من غير تأثير لترك ذلك الفعل. و الظاهر عدم وجوب الترك حينئذ. (2) بناء على ما ذكرنا من اعتبار قصد الحرام في صدق الإعانة عليه مطلقا أو على ما احتملنا من التفصيل.

______________________________

(1) قد مرّت المناقشة في الفرق بين هذه الصورة و بين صورة قصد الخمّار فعلا بعد اشتراكهما في علم البائع بوقوع الحرام و ترتّبه على بيعه. «1» قال السيد «ره» في الحاشية: «التحقيق عدم الفرق بين هذه الصورة و التي بعدها فإنّ قصد المشتري ليس مناطا في صدق الإعانة و لا في عنوان وجوب دفع المنكر، بل المدار على قصد البائع- بناء على اعتباره- و على العلم بوقوع المنكر، و إن لم يكن المشتري قاصدا حين الشراء.» «2»

(2) قال السيّد «ره» في الحاشية: «التحقيق ذلك لكن لا لما ذكره- قدّس سرّه- من الوجه، بل للأخبار المتقدمة المجوّزة، و إلّا فصدق الإعانة لا ينوط بالقصد

______________________________

(1) راجع ص 331.

(2) حاشية المكاسب/ 9، السطر الأخير.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 372

..........

______________________________

حسبما عرفت سابقا، و أيضا قد عرفت تمامية فحوى أدلة النهي عن المنكر ...» «1»

أقول: و قد مرّ منّا أيضا أنّ رفع اليد عن الأخبار المستفيضة الصحيحة المفتى بها بهذه المناقشات اجتهاد في قبال النصّ. «2» و مقتضى التعليل المستفاد من بعضها كقوله عليه السّلام في صحيحة الحلبي: «لا

بأس به تبيعه حلالا فيجعله حراما فأبعده اللّه و أسحقه»، «3» و قوله عليه السّلام في صحيحة ابن أذنية: «إنّما باعه حلالا في الإبّان الذي يحلّ شربه أو أكله فلا بأس ببيعه» «4» عدم اختصاص الجواز بمسألة بيع العنب أو التمر، فيعلم بذلك أنّ وجوب دفع المنكرات بهذه الوسعة بحيث يوجب التعجيز عن الإتيان بها غير واضح، و الدار دار الاختيار و الاختبار فيخلّى الناس و اختيارهم بعد تحقق الإرشاد و النهي القولي، فتدبّر.

و قال في مصباح الفقاهة: «بعد ما علمت أنّه لا دليل على حرمة الإعانة على الإثم و لا على اعتبار القصد في مفهوم الإعانة و لا في حكمها فلا وجه لما ذهب إليه المصنّف و أتعب به نفسه من التطويل و التقسيم.

ثمّ على القول بحرمة الإعانة على الإثم فلا وجه للحكم بحرمة البيع في شي ء من الشقوق التي ذكرها المصنّف، إذ الإعانة على الإثم إنّما تتحقق بالتسليم و التسلّم في الخارج، و من الواضح أنّ بينهما و بين البيع عموما من وجه.» «5»

أقول: ما ذكره أخيرا صحيح، و يجري في التمسك بوجوب الدفع عن المنكر أيضا، إذ الدفع إنّما يتحقق بعدم التسليم.

______________________________

(1) نفس المصدر/ 10، السطر الأوّل.

(2) راجع ص 356.

(3) الوسائل 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(4) نفس المصدر، الحديث 5.

(5) مصباح الفقاهة 1/ 185، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 373

[لو قلنا بحرمة البيع فهل يقع صحيحا أم لا؟]

ثمّ كلّ مورد حكم فيه بحرمة البيع من هذه الموارد الخمسة فالظاهر عدم فساد البيع، لتعلّق النهي بما هو خارج عن المعاملة أعني الإعانة على الإثم أو المسامحة في الردع عنه. (1)

______________________________

لو قلنا بحرمة البيع فهل

يقع صحيحا أم لا؟

(1) توضيح الكلام أنّ النهي تارة يتعلق بنفس عنوان المعامله كقوله عليه السّلام:

«لا تبع الحنطة بالشعير إلّا يدا بيد.» «1» و أخرى بعنوان آخر ربما ينطبق أحيانا على المعاملة كالإعانة على الإثم في المقام- بناء على حرمتها-، حيث إنّ بينها و بين عنوان البيع مثلا بحسب المورد عموما من وجه كما لا يخفى. و لعلّ من هذا القبيل أيضا النهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة، إذ النهي و إن تعلق بالبيع صورة لكنه لا بما أنّه بيع و معاملة خاصّة، بل بما أنه عمل شاغل عن الجمعة، فكأنّه قال: «ذروا ما يزاحم الجمعة من الأعمال» مضافا إلى أنّه نهي تبعي وقع تأكيدا لقوله- تعالى-:

فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ. «2»

أمّا في القسم الأوّل فإن كان ظاهرا في الإرشاد إلى الفساد- كما هو الظاهر غالبا- فهو، و أمّا إن فرض دلالته على حرمة المتعلق تكليفا فهل تقتضي حرمته

______________________________

(1) الوسائل 12/ 439، الباب 8 من أبواب الربا، الحديث 8.

(2) سورة الجمعة (62)، الآية 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 374

..........

______________________________

الفساد- كما قيل- أو الصحة- كما عن أبي حنيفة و تلميذه محمد بن الحسن الشيباني- أو لا تقتضي شيئا منهما و إنّما يعرف الفساد أو الصحة من الخارج؟ في المسألة وجوه.

ربما يقال باقتضائها الفساد، إمّا لأنّ صحة المعاملات تكون بإمضاء الشارع لها و حكمه بوجوب الوفاء بها، و من المستبعد جدّا اعتبار الشارع و إمضاؤه لما يكون حراما و مبغوضا له، و إمّا لأنّ المهمّ عند الشارع و العقلاء في باب المعاملات الآثار العملية المترتبة عليها، لا نفس الأسباب بما هي ألفاظ، و لا نفس المسبّبات الاعتبارية كالملكية الاعتبارية المنشأة مثلا. و على هذا

فالنهي عنها في الحقيقة نهي عن ترتيب الآثار المترقبة منها عليها، و مقتضى ذلك فسادها، إذ لا معنى لصحة المعاملة و اعتبار المسبّب مع حرمة ترتيب الآثار عليها، فتدبّر.

و أمّا القائل باقتضائها الصحة فربّما يستدلّ له بأنّ الظاهر من النهي المتعلق بها و حرمتها حرمة المسببات أو التسبّب بالأسباب إليها، و مقتضى ذلك صحتها و وقوعها باعتبارها، إذ متعلق التكليف يجب أن يكون مقدورا للمكلّف، و على فرض فسادها و عدم وقوعها قهرا عليه لا تكون مقدورة. نعم لو تعلقت الحرمة بنفس الأسباب لم تقتض الصحة و لا الفساد. هذا.

و الأولى أن يقال- كما مرّت الإشارة إليه-: إنّ النهي في هذه الموارد ظاهر في الإرشاد إلى المانعية و الفساد، بتقريب أنّ المتبادر من الأوامر و النواهي الواردة من الشارع الحكيم المتعلقة بالعبادات المركبة المخترعة أو بالمعاملات بنحو خاصّ و كيفية خاصّة، كونها للإرشاد إلى جزئية الشي ء الخاصّ أو شرطيّته أو مانعيته، و ليست بصدد بيان الحكم التكليفي، و هذا نظير أمر المتخصّص في الأدوية و المعاجين بجعل شي ء خاصّ في معجون خاصّ أو نهيه عن جعله فيه، حيث إنّ المتبادر من الأمر في مثله كون متعلق الأمر جزء أو شرطا، و من النهي كونه مانعا و مضرّا، فلا وجه لحمل النهي على الحرمة التكليفية حتّى يبحث عن اقتضائها الفساد أم لا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 375

..........

______________________________

هذا كلّه في القسم الأوّل أعني فيما إذا كان النهي متعلقا بنفس عنوان المعاملة.

و أمّا القسم الثاني أعني ما إذا تعلق النهي بعنوان آخر ربما ينطبق أحيانا على المعاملة كالإعانة على الإثم في المقام فقد يقال: إنّ النهي لم يتعلق بنفس المعاملة بنحو خاصّ حتّى يتبادر منه الإرشاد

إلى المانعية و الفساد- على ما مرّ بيانه- بل تعلّق بعنوان آخر غيرها، و ظهوره في حرمة المتعلق و إن كان لا ينكر لكن المفروض كون المحرّم غير عنوان المعاملة. و انطباقه عليها أحيانا لا يوجب سراية الحرمة منه إليها حتى تقتضي فسادها- على ما مرّ من الوجهين-، فهذا بوجه نظير ما قالوا في مبحث الاجتماع من أنّ النهي عن التصرّف في أرض الغير مثلا لا يسري إلى عنوان المأمور بها المتّحد معه أحيانا كالصلاة. فالبيع في المقام بما أنّه إعانة على الإثم أو مسامحة في دفع المنكر محرّم تكليفا و لكنه بعد وقوعه يصير مصداقا لقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

و لكن يمكن أن يناقش- كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة- «1» بأنّ ما ذكرت من أنّ انطباق عنوانين على مورد واحد لا يوجب سراية حكم أحدهما إلى الآخر، إنّما يصحّ في متعلقات الأحكام أعني أفعال المكلّفين مع وجود المندوحة في البين، كالتصرف في أرض الغير مع الصلاة مثلا، حيث إنّ الحكمين لا يتزاحمان في مرحلة الجعل و التشريع، و إنّما جمع بينهما العبد في مرحلة الامتثال بسوء اختياره، فلا يسري حكم أحد العنوانين إلى الآخر. و أمّا في موضوعات الأحكام- و لا سيما فيما إذا لو حظت بنحو العامّ الاستغراقي كالعقود في قوله- تعالى-:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ مثلا- فهي في مرحلة الجعل و التشريع لو حظت مفروضة الوجود، و كلّ فرد منها بعد وجوده في الخارج يصير محطّا لحكم الشارع المجعول على نحو القضية الحقيقيّة. فإذا فرض كون العقد بلحاظ وجوده الخارجي مصداقا

______________________________

(1) راجع ص 281.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب

المحرمة؛ ج 2، ص: 376

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 376

..........

______________________________

للإعانة على الإثم و مبغوضا للشارع لذلك فكيف يحكم بوجوب الوفاء به؟ و هل لا يكون هذا الحكم منه نقضا لغرض نفسه؟

و بالجملة فصحّة المعاملة- على ما مرّ- عبارة عن إمضاء الشارع لها و حكمه بوجوب الوفاء بها، و كيف يعقل إمضاؤه لما يكون مبغوضا له؟!

فإن قلت: بين عنوان الإعانة على الإثم و عنوان العقود عموم من وجه فيمكن انفكاكهما خارجا، و وجوب الوفاء وضع على عنوان العقود فلا يسري من موضوعه إلى الحيثيات الأخر المتحدة معه.

قلت: الجعل في قوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و إن كان جعلا واحدا و لكن مقتضى عمومه الاستغراقي تكثر الحكم بتكثر أفراد الموضوع، فكلّ فرد من العقد بعد تحققه في الخارج يصير محطا للحكم المجعول قهرا، فإذا فرض اتحاده خارجا مع عنوان آخر مبغوض فلا محالة يكون الحكم الفعلي فيه تابعا لأقوى الملاكين، و في أمثال المقام يترجح جانب الحرمة قهرا، فتدبّر.

و العمدة وجود الفرق بين متعلقات الأحكام، أعني أفعال المكلفين، و بين موضوعاتها، أعني الأمور الخارجية التي يتعلق بها أفعال المكلفين كالعقود في المقام المتعلق بها الوفاء الواجب، فإنّ المتعلق للحكم في مرحلة الجعل و التشريع نفس طبيعة فعل المكلف الواجد للملاك لا وجوده الخارجي، بل وجوده الخارجي مسقط للحكم، فإذا كان بين الفعلين عموم من وجه كالصلاة و التصرف في أرض الغير مثلا لم يكن بين الحكمين المتعلقين بهما تزاحم في مرحلة الجعل و التشريع، و المكلف يقدر على التفكيك بينهما في مرحلة الامتثال، فلا وجه لتقييد أحدهما بعدم الآخر في مرحلة الجعل بعد كون الملاك للطبيعة بإطلاقها.

و أمّا الموضوع للحكم فهو عبارة عن الوجود الخارجي الذي يتعلق به

فعل المكلف، فالملحوظ في مرحلة الجعل و إن كان هي الطبيعة لكنها جعلت مرآة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 377

..........

______________________________

لوجوداتها الخارجية، و كلّ فرد منها بعد وجوده في الخارج يصير محطّا لحكم الشرع، فإذا فرض كون وجوده في الخارج متحدا مع عنوان مبغوض فلا محالة يتزاحم الملاكان و يكون الحكم تابعا لأقواهما ملاكا و لازمه التخصيص في الدليل الآخر لبّا.

و هذا نظير قوله: «أكرم العلماء» و قوله: «لا تكرم الفساق»، حيث يتزاحم الملاكان في العالم الفاسق فيتعارض الدليلان فيه و يكون الحكم في مرحلة الجعل تابعا لأقواهما ملاكا و يتصرف في الدليل الآخر.

و بذلك يظهر المناقشة على كلام الأستاذ المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه-، حيث عدّ المثال من باب التزاحم المصطلح على ما كتبنا عنه في نهاية الأصول، و ناقشناه في ذيل كلامه بأنّ المثال من قبيل تعارض الدليلين لا من قبيل التزاحم المصطلح، فيجب أن يكون الكسر و الانكسار بين الملاكين في مرحلة الجعل و التشريع، فراجع النهاية. «1»

فإن قلت: العقد بنفسه يوجد بفعل المكلّف فكيف تعدّه من موضوعات الأحكام؟!

قلت: نعم و لكنه بلحاظ وجوده الخارجي يصير موضوعا لوجوب الوفاء.

هذا كلّه على فرض كون العقد بنفسه إعانة على الإثم و مبغوضا لذلك على ما يظهر من كلماتهم، و أمّا على ما مرّ من مصباح الفقاهة من أنّ عنوان الإعانة لا ينطبق على العقد بل على التسليم الخارجي فلا وقع لهذه الإشكالات، فتدبّر.

هذا.

و للأستاذ الإمام في هذا المقام كلام طويل يناسب التعرّض له إجمالا، قال ما ملخّصه:

«التفصيل أن يقال: إنّ المعاملة قد تقع بالمعاطاة، و قد تقع بالصيغة:

______________________________

(1) راجع نهاية الأصول/ 335 (من طبعته الحديثة)، الفصل الرابع من المقصد الرابع.

دراسات في

المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 378

..........

______________________________

فالأقوى صحتها في الأوّل، لأنّ المحرم عنوان آخر منطبق على المعاملة الخارجية، و بينهما عموم من وجه، و الموضوع الخارجي مجمع لهما، و لكل منهما حكمه. و بذلك يدفع استبعاد تنفيذ الشارع سببا يؤدّي إلى مبغوضه، لأن التنفيذ لم يقع إلّا على عنوان البيع و نحوه و هو ليس بمبغوض.

و على الثاني تقع المزاحمة- بعد وقوع المعاوضة- بين دليل حرمة التعاون على الإثم و دليل وجوب تسليم المثمن. فإن قلنا بترجيح الثاني يجب عليه التسليم و يعاقب على الإعانة على الإثم. و إن قلنا بترجيح الأوّل فلا يجوز له التسليم.

فحينئذ ربما يقال: إنّ المعاوضة لدى العقلاء متقوّمة بإمكان التسليم و التسلّم، و مع تعذّره عقلا أو شرعا لا تقع المعاملة صحيحة، ففي المقام يكون تسليم المبيع متعذّرا شرعا لعدم جوازه فرضا. و مع عدم تسليمه يجوز للمشتري عدم تسليم الثمن. و المعاوضة التي هو حالها ليست عقلائية و لا شرعية فتقع باطلة.

و فيه: أنّ ما يضرّ بصحة المعاوضة هو العجز عن التسليم تكوينا أو نهي الشارع عن التسليم بعنوانه، و المقام ليس من قبيلهما، لعدم العجز تكوينا و عدم تعلّق النهي بتسليم المبيع بعنوانه، بل النهي عن الإعانة على الإثم صار موجبا لعدم التسليم.

و إن شئت قلت: إنّ البائع قادر على التسليم و غير ممتنع عنه بشرط رجوع المشتري عن قصد التخمير، فنكول البائع إنّما هو بتقصير من المشتري و في مثله لا يكون النكول منافيا لمقتضى المبادلة، بل يجب على المشتري تسليم الثمن.» «1»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره أخيرا، حيث إنّ نكول البائع عن التسليم إذا كان ناشئا عن تقصير المشتري لا يكون مجوّزا للمشتري لأن يتخلّف عن وظيفته

أعني تسليم الثمن، فتأمّل.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 149 (- ط. أخرى 1/ 222)، في النوع الثاني من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 379

..........

______________________________

و يظهر من بيانه أيضا أنّ الإعانة على الإثم إنّما يتحقق بتسليم المثمن لا بنفس العقد.

و لكن يمكن المناقشة فيما ذكره أوّلا بأن كون إنشاء البيع بالتعاطي أو بالصيغة لا يكون فارقا في المقام، إذ بعد إنشائه بأحدهما هل ينفّذه الشارع و يحكم عليه بوجوب الوفاء أم لا؟ فعلى الأوّل يلزم نقضه لغرضه، و على الثاني يقع باطلا، إذ قد مرّ أنّ معنى صحّة المعاملة إمضاء الشارع و تنفيذه لها.

و قوله «ره»: «و بذلك يدفع استبعاد تنفيذ الشارع ...» لم يظهر لي وجه دفعه، لما مرّ من أنّ العقد بلحاظ وجوده الخارجي يقع موردا للتنفيذ و الحكم بوجوب الوفاء، و المفروض أنّه بوجوده الخارجي مبغوض للمولى فكيف ينفّذه و يوجب الوفاء به.

اللّهم إلّا أن ينطبق عليه بعد تحققه عصيانا عنوان ذو مصلحة أقوى تقتضي وجوب الوفاء به مع بقاء ملاك الحرمة أيضا، نظير ما قالوا في التصرّف الخروجي من الأرض المغصوبة بعد الدخول فيها عصيانا، و كما إذا حصّل لنفسه بالاختيار مرضا مهلكا يتوقف الشفاء منه على شرب الخمر مع علمه بذلك، و لكن الالتزام بهذا الانطباق يحتاج إلى دليل، إلّا أن يقال باستكشاف ذلك بعمومات وجوب الوفاء و حلية البيع و التجارة، فتدبّر. هذا.

ثم لا يخفى: أنّ ما ذكر كان على فرض إثبات التحريم من جهة الإعانة على الإثم أو المسامحة في دفع المنكر، و أمّا إذا استفدنا من الروايات الحاكية للعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الخمر و غارسها و عاصرها و بائعها و مشتريها كون

بيع العنب لها أيضا مبغوضا و محرّما بالذات بطريق أولى و لو لم يكن عن قصد- كما مرّ بيانه- فالحرمة وقعت- على هذا- على نفس عنوان البيع فكان الأمر أوضح، لما مرّ من الوجهين لبيان أنّ حرمته تلازم الفساد، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 380

و يحتمل الفساد، لإشعار قوله عليه السّلام في رواية التحف المقدّمة- بعد قوله: «و كل مبيع ملهوّ به.»-: «و كلّ منهي عنه مما يتقرب به لغير اللّه أو يقوى به الكفر و الشرك في جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه ...» بناء على أنّ التحريم مسوق لبيان الفساد في تلك الرواية، كما لا يخفى، (1) لكن في الدلالة تأمّل. (2) و لو تمّت لثبت الفساد مع قصد المشتري

______________________________

(1) قد مرّ منّا في الجهة الثالثة في ذيل الرواية أنّ محطّ النظر في الأخبار الواردة في باب المعاملات و كذا كلمات القدماء من أصحابنا في باب المكاسب بيان حكمها الوضعي، أعني الصحة أو الفساد، لا التكليف المحض، و النهي الوارد فيها غالبا إرشاد إلى المانعية و الفساد، و يراد بالحرمة فيها الممنوعية المطلقة، أعمّ من التكليف أو الوضع. كما أنّ المراد بالحلّ فيها الإطلاق بالمعنى الأعم، بل الغالب فيهما إرادة الوضع. و يظهر من التأمّل في جميع رواية التحف المتضمنة لتقسيم معايش العباد أنّ محطّ النظر فيها بيان حرمة ما يكتسب من الأموال و حلّيتها وضعا لا تكليفا، فراجع. و هما الظاهران أيضا من قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا «1»

(2) في حاشية الإيرواني: «ظاهر هذه الفقرة حرمة بيع ما يوجب وهن الديانة الإسلامية و تقوية المذاهب الفاسدة، لأنّ

منصرف الحق و الباطل في المقام ذلك، لا ما يعمّ الفروع، و كذا قوله: «و كل منهي عنه يتقرب به لغير اللّه.»

و أمّا قوله: «فكلّ أمر يكون فيه الفساد» فلا يشمل ما كان مشتملا على منفعتين:

محلّلة و محرّمة كالعنب و الخشب و إلّا لزم تخصيص الأكثر بإخراج صور عدم قصد الحرام.» «2» هذا.

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

(2) حاشية المكاسب/ 17، ذيل قول المصنّف: لكن في الدلالة تأمّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 381

خاصّة للحرام، لأنّ الفساد لا يتبعّض. (1)

______________________________

و لكن في كلام المصنّف سقط، و العبارة في تحف العقول هكذا: «من جميع وجوه المعاصي أو باب من الأبواب يقوى به باب من أبواب الضلالة أو باب من أبواب الباطل أو باب يوهن به الحق ...» «1»

قال الأستاذ الإمام بعد نقلها: «إنّ أبواب الباطل تشمل مطلق المعاصي لا سيّما مع وقوعها في مقابل أبواب الضلالة و باب يوهن به الحقّ، فالحديث متعرض لما يوجب الضلالة ككتب الضلال و بيع القرطاس لذلك، و لما يوجب الوهن في الإسلام كبيع السّلاح لأعداء الدين، و منه بيع العنب مثلا ممّن يجعله خمرا و يبيعه علنا في شوارع المسلمين أو جنب المشاهد المعظّمة مما يوجب الوهن في الإسلام، و لما يكون بابا من أبواب الباطل و هو سائر المعاصى، و لهذا أطلق الباطل على كثير منها في الأخبار كالقمار و الشطرنج و السّماع و نحوها.» ثم ذكر في هذا المجال رواية الفضيل و غيرها، فراجع. «2»

و كيف كان فالاستدلال برواية التحف لا إشكال فيه من حيث الدلالة، و لكن قد مرّ في محلّه أنّها ضعيفة سندا و مضطربة متنا، «3» فيشكل الاعتماد عليها في إثبات حكم شرعي.

(1)

أراد بذلك أنّه على فرض الفساد فلا فرق بين قصد المتبايعين للحرام و قصد أحدهما فقط، إذ المعاملة تتقوم بالطرفين، فإذا فسدت من ناحية أحدهما فسدت في ناحية الآخر أيضا.

و قد يستدلّ لفساد المعاملة أيضا برواية صابر أو جابر، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال: «حرام أجره.» «4»

______________________________

(1) تحف العقول/ 333.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 150 (- ط. أخرى 1/ 224)، في النوع الثاني من القسم الثاني. و رواية الفضيل رواها في الوسائل 12/ 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) راجع 1/ 70 و 88 و ما بعدهما و 1/ 194 من الكتاب.

(4) الوسائل 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 382

..........

______________________________

بتقريب أنّ حرمة الأجرة تدلّ على بطلان الإجارة، و بعدم الفصل بينها و بين البيع يتمّ الاستدلال. هذا.

و لكن الراوي مردّد بين صابر و جابر، و صابر لم تحرز وثاقته، «1» و جابر مردّد بين جماعة فإن أريد به الجعفي كان موثوقا به. «2» و المتن أيضا مردّد بين: «فيباع» و «يباع»، و لعلّه ينسبق من الثاني معنى: «ليباع»، فيراد منه صورة اشتراط الحرام، اللّهم إلّا أن يستبعد إجارة المسلم بيته بشرط الانتفاع المحرّم. و قد مرّ تفصيل ذلك في أوائل المسألة الأولى، فراجع. «3»

هذا مضافا إلى معارضة الرواية بمصححة ابن أذنية، قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته أو دابّته ممن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير؟ قال: «لا بأس.» «4»

فتحمل الرواية- على ما قيل- على الكراهة جمعا، و لكن حمل لفظ الحرمة على

الكراهة بعيد جدّا، فتدبّر.

______________________________

(1) راجع تنقيح المقال 2/ 90.

(2) نفس المصدر 1/ 198 و ما بعدها.

(3) راجع ص 240 و ما بعدها.

(4) الوسائل 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 383

[القسم الثالث: ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأنا كبيع السلاح من أعداء الدين]
اشارة

القسم الثالث: ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأنا، بمعنى أنّ من شأنه أن يقصد منه الحرام. (1) و تحريم هذا مقصور على النصّ، إذ لا يدخل ذلك تحت الإعانة خصوصا مع عدم العلم بصرف الغير له في الحرام، كبيع السلاح من أعداء الدين مع عدم قصد تقوّيهم، بل و عدم العلم باستعمالهم لهذا المبيع الخاصّ في حرب المسلمين. (2)

______________________________

القسم الثالث:

ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأنا كبيع السلاح من أعداء الدين

(1) أقول: قد مرّ في أوّل النوع الثاني مما يحرم التكسب به تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: ما اشتمل على هيئة خاصّة لا يقصد منه بهذه الهيئة إلّا الحرام كهياكل العبادة و آلات اللهو و القمار و نحوها.

القسم الثاني: ما قصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة و إن اشتمل على منافع محلّلة أيضا كبيع الخشب ممن يتخذه صنما أو العنب ممن يتخذه خمرا.

القسم الثالث: ما من شأنه أن يقصد منه الحرام و يكون مظنّة كذلك كبيع السّلاح لأعداء الإسلام.

و قد مرّ تفصيل القسمين الأوّلين، «1» و الآن وصلت النوبة إلى بيان القسم الثالث.

(2) أراد بذلك أنّ صدق الإعانة على الإثم- على ما مرّ منه- يتوقف على

______________________________

(1) راجع ص 151 و 219 و ما بعدهما من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 384

..........

______________________________

وقوع البيع بقصد الحرام، و المفروض في المقام عدم القصد و لا العلم بل مجرّد الشأنية و القابلية له، فليس الحكم

في المسألة حكما كليّا دائرا مدار صدق الإعانة، و ليس دائرا مدار الشأنية أيضا، إذ ما من مباح إلّا و له شأنية الانتفاع المحرّم به، و لا يمكن الالتزام بحرمة المعاملة على أمثال ذلك، و لذا تعرّض الأصحاب لخصوص مسألة بيع السّلاح من أعداء الدين لوجود النصوص الواردة فيها، فالأولى تخصيص البحث بها كما صنع الأصحاب، إلّا أن يتعدّى منها بإلقاء الخصوصية و تنقيح المناط القطعي إلى موارد أخر تشابهها كما سيأتي بيانها.

[كلام الأستاذ الإمام «ره» في بيان موضوع البحث]

قال الأستاذ الإمام «ره» في بيان موضوع البحث في المسألة ما ملخّصه و محصّله:

«أنّ موضوع البحث ليس مطلق ما ينطبق عليه عنوان السلاح كائنا ما كان، بل الموضوع ما كان سلاح الحرب فعلا، و هو يختلف بحسب الأزمان و الأمكنة، ففي الأزمنة القديمة كانت الأحجار الخاصّة و الأخشاب آلات للحرب، ثم انقرض زمانها و خرجت عن صلاحية ذلك و قامت مقامها أسلحة أخرى كالسيف و الرمح و العمود و نحوها، ثم انقرضت هي أيضا و قام مقامها غيرها. فالمراد من السّلاح في موضوع البحث سلاح اليوم الذي يستعمل في الحروب، لا ما انقرضت أيّامه، فإن أراد بعض أعداء الدين حفظ الأسلحة القديمة في المتاحف لقدمتها فلا مانع من بيعها منه بلا إشكال، و كذلك ليس المقصود مطلق أعداء الدين، فإنّ كل مخالف لنا في ديننا فهو عدوّنا في الدين، و لكن موضوع البحث أخصّ منه و هو الدولة المخالفة للإسلام أو الطائفة الكذائية، فلا ينبغي الإشكال في جواز بيعه من يهوديّ في بلاد المسلمين يكون تابعا لهم لو لا جهات أخر.

ثم اعلم أنّ هذا الأمر أعني بيع السّلاح من أعداء الدين من الأمور السّياسية التابعة لمصالح اليوم، فربّما تقتضي مصالح المسلمين بيع

السّلاح بل إعطاؤه مجّانا لطائفة من الكفّار، و ذلك مثل ما إذا هجم على حوزة الإسلام عدوّ قويّ لا يمكن دفعه إلّا بتسليح هذه الطائفة و كان المسلمون في أنّ منهم. بل لو هجم دولة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 385

..........

______________________________

المخالفين على دولة الشيعة مريدين قتلهم و أسرهم و هدم مذهبهم يجب عليهم دفعهم و لو بوسيلة تلك الطائفة الكافرة المأمونة.

و ربما تقتضي المصالح ترك بيع السّلاح و غيره مما يتقوى به الكفّار مطلقا سواء كان موقع قيام الحرب أو التهيؤ له أم زمان الهدنة و الصلح، أمّا في الأوّلين فواضح، و أمّا في الأخيرة فحيث خيف على حوزة الإسلام و لو آجلا، بأن احتمل أنّ تقويتهم موجبة للهجمة على بلاد المسلمين و السلطة على نفوسهم و أعراضهم، فنفس هذا الاحتمال منجّز في هذا الأمر الخطير لا يجوز التخطي عنه فضلا عن كون تقويتهم مظنة له أو في معرضه. و لا فرق في ذلك بين الخوف على حوزة الإسلام من غير المسلمين أو على حوزة حكومة الشيعة من غيرهم.

و بالجملة، هذا الأمر من شئون الحكومة و الدولة و ليس أمرا مضبوطا بل تابع لمصالح اليوم و مقتضيات الوقت. فلا الهدنة مطلقا موضوع حكم لدى العقل و لا المشرك و الكافر. و التمسك بالأصول و القواعد الظاهرية في مثل المقام في غير محلّه. و الظاهر عدم استفادة شي ء زائد مما ذكرناه من الأخبار. بل لو فرض إطلاق لبعضها يقتضي خلاف ذلك أي يقتضي جواز البيع فيما خيف الفساد و هدم أركان الإسلام أو التشيّع فلا مناص عن تقييده أو طرحه، أو يقتضي عدم الجواز فيما يخاف في تركه عليهما كذلك لا بدّ من تقييده،

و ذلك واضح.» «1»

أقول: يظهر من كلامه «ره» أمور:

الأوّل: عدم إرادة مطلق السّلاح، بل في كلّ عصر السّلاح المتعارف فيه.

الثاني: أنّ المراد من أعداء الدين من يعادي المسلمين و يكون في معرض التهجّم عليهم.

الثالث: تعميم الحكم بالنسبة إلى المخالفين المعادين للشيعة المحقة أيضا.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 152 (- ط. أخرى 1/ 226)، في النوع الثالث من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 386

..........

______________________________

الرابع: أنّ المسألة لها هويّة سياسية، و لا محالة تختلف بحسب الشرائط و التطوّرات السياسية في كل عصر و مكان.

الخامس: جريان حكم المسألة في زمان الهدنة أيضا مع احتمال كون تقويتهم موجبة لسلطتهم السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية آجلا، بداهة أنّ الاحتمال في الأمور المهمة منجّز عقلا و شرعا.

السّادس: عدم اختصاص الحكم- و لو بإلقاء الخصوصية- بأسلحة الحرب، بل يشمل كلّ ما يوجب أحيانا شوكة الأعداء و هجمتهم على بلاد المسلمين كبيع الموادّ الغذائية في بعض الشرائط أو الأراضى أو المصانع أو نحو ذلك، بل مطلق إيجاد الروابط التجارية و الاقتصادية، و هذا أمر مهمّ يجب على المسلمين و حكّامهم رعايته في قبال الكفّار و المخالفين، و قد شاهدنا في عصرنا أنّ الصهاينة تغلّبوا على بلاد المسلمين و نفوسهم و أعراضهم عن طريق اشتراء أراضي فلسطين تدريجا، و بذلك يظهر منع ما ربما يظهر من كلام الأستاذ من اختصاص المنع بالحكّام و رؤساء الدول، لوجود الملاك في بيع كلّ فرد في محيط تعيّشه أيضا مع احتمال الخطر، كما هو المجرّب في معاملات الأراضي في فلسطين، حيث إنّ المعاملات كانت بحسب الغالب واقعة بين الأشخاص و إن كان أعمال اليهود واقعة تحت هداية الحزب الصهيوني العالمي، فتدبّر. هذا.

و يظهر من عبارة المصنّف

عدم جواز الاستدلال في المسألة بآية التعاون، لما مرّ منه من اعتبار العلم و القصد في صدق الإعانة.

و لكن يمكن أن يقال: إنّه و إن لم يصدق على البيع في المقام الإعانة على الإثم لكن يصدق عليه إعانة الكفّار و الظلمة، و هي بنفسها من أشدّ المحرّمات على ما يظهر من الأخبار، فراجع. «1» هذا.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 128- 132، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 387

[نقل بعض كلمات الأعلام في المقام]

إلّا أنّ المعروف بين الأصحاب حرمته، بل لا خلاف فيها. (1)

______________________________

(1) الأولى نقل بعض كلمات الأعلام في المقام:

1- قال المفيد في المقنعة: «و بيع السّلاح لأعداء الدين حرام، و عمله لمعونتهم على قتال المسلمين.» «1»

أقول: ظاهر الصدر الإطلاق، و ظاهر الذيل الاختصاص بموقع قتالهم مع المسلمين.

2- و قال الشيخ في النهاية: «و بيع السّلاح لسائر الكفّار و أعداء الدين حرام، و كذلك عمله لهم و التكسب بذلك ... و لا بأس ببيع ما يكنّ من آلة السّلاح لأهل الكفر مثل الدروع و الخفاف، و تجنب ذلك أفضل على كلّ حال.» «2»

3- و في المهذّب لابن البرّاج: «و عمل السّلاح مساعدة و معونة لأعداء الدين و بيعه لهم.» «3»

4- و في السّرائر: «و عمل السّلاح مساعدة و معونة لأعداء الدين و بيعه لهم إذا كانت الحرب قائمة بيننا و بينهم، فإذا لم يكن ذلك و كان زمان هدنة فلا بأس بحمله إليهم و بيعه عليهم على ما روي في الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السّلام.» «4»

5- و في الشرائع في عداد ما يحرم الاكتساب به: «و ما يفضي إلى المساعدة على محرّم كبيع السلاح لأعداء الدين.» «5»

6- و ذيّله في الجواهر بقوله:

«مع قصد الإعانة أو كانت الحرب قائمة ...» «6»

أقول: الظاهر من أكثر هذه العبارات أنّ الملاك في الحرمة صدق الإعانة، و يظهر من الجواهر أنّ الإعانة إنّما تصدق مع القصد أو الصدق العرفي كما في

______________________________

(1) المقنعة/ 588، باب المكاسب.

(2) النهاية/ 365 و 366، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) المهذّب 1/ 345، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب.

(4) السرائر 2/ 216، باب ضروب المكاسب.

(5) الشرائع/ 263 (- ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني ممّا يحرم الاكتساب به.

(6) الجواهر 22/ 28، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني ممّا يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 388

..........

______________________________

حال الحرب، و قد تقدم نظير ذلك عن المحقق الأردبيلي في مسألة بيع العنب. «1»

7- و في المستند: «و منها بيع السّلاح لأعداء الدين مسلمين كانوا أم مشركين، و حرمته في الجملة إجماعية ... و على هذا فالمنع مطلقا في الكفّار، و في حال المباينة في أعداء الدين من المسلمين أقوى و أظهر. و صرّح في المهذّب بأنّ التفصيل إنّما هو في ذلك: قال: بيع السلاح لأهل الحرب لا يجوز إجماعا، و أمّا أعداء الدين كأصحاب معاوية هل يحرم بيع السّلاح منهم مطلقا أو في حال الحرب خاصة؟ انتهى. هذا. و أمّا غير أعداء الدين من فرق المسلمين المحاربين للمسلمين فلا شكّ في عدم لحوقهم بالكفّار، فيجوز البيع منهم في حال عدم الحرب، و الظاهر من جماعة إلحاقهم بأعداء الدين من فرق المسلمين ...» «2»

أقول: أراد بالمهذب المهذّب البارع لابن فهد الحلي. «3»

8- و السيّد الطباطبائي اليزدي «ره» في الحاشية أنهى الأقوال في المسألة إلى ثمانية فقال: «و المتحصّل من ظواهر كلماتهم أقوال: أحدها

و هو ظاهر المشهور:

اختصاص الحرمة بحال قيام الحرب. الثاني: التحريم في حال المباينة و عدم الصلح، و هو مختار جماعة. الثالث: التحريم في حال الحرب أو التهيؤ له، و هو ظاهر المسالك. الرابع: التحريم مطلقا، و هو المحكيّ عن حواشي الشهيد بل عن الشيخين و الديلمي و الحلبي و التذكرة، و ربما يستظهر من الشرائع أيضا. الخامس:

التحريم مع قصد المساعدة فقط، حكاه في الجواهر عن بعض، و يمكن استظهاره من عبارة الشرائع. السّادس: التحريم مع أحد الأمرين من القصد إلى المساعدة أو قيام الحرب، اختاره في الجواهر. السّابع: التحريم مع الأمرين من القصد و قيام الحرب، حكاه في الجواهر. الثامن: ما اختاره في المستند من إطلاق المنع بالنسبة

______________________________

(1) راجع ص 312 من الكتاب.

(2) مستند الشيعة 2/ 335، كتاب مطلق الكسب، المقصد الثالث، الفصل الثاني.

(3) راجع المهذّب البارع 2/ 350، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 389

[بيان الأخبار]

و الأخبار بها مستفيضة: منها: رواية الحضرمي، قال: دخلنا على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له حكم السّراج: ما تقول فيمن يحمل إلى الشام من السّروج و أداتها؟ قال: «لا بأس، أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إنّكم في هدنة، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السّلاح و السّروج.»

و منها: رواية هند السّراج، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أصلحك اللّه إنّي كنت أحمل السّلاح إلى أهل الشّام فأبيعه منهم، فلمّا عرّفني اللّه هذا الأمر ضقت بذلك و قلت: لا أحمل إلى أعداء اللّه. فقال: «احمل إليهم و بعهم، فإنّ اللّه يدفع بهم عدوّنا و عدوّكم، يعني الرّوم، فإذا كانت

الحرب بيننا (فلا تحملوا- الوسائل.) فمن حمل إلى عدوّنا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك.» (1)

و صريح الروايتين اختصاص الحكم بصورة قيام الحرب بينهم و بين

______________________________

إلى المشركين، و التفصيل بين حال المباينة و الصلح بالنسبة إلى المسلمين المعادين للدين، و هو المحكيّ عن المهذّب، بل مقتضى عبارته المحكيّة في المستند أنّ إطلاق المنع بالنسبة إلى الكفّار إجماعي ... و الأقوى هو التحريم مع القصد مطلقا و مع عدمه في غير حال الصلح سواء كان الحرب قائما بالفعل أو كانوا متهيئين له أولا، فيكفي مطلق المباينة، و الظاهر أنّ صورة القصد خارجة عن محل الكلام، إذ لا ينبغي الإشكال في الحرمة معه لصدق الإعانة على الإثم ...» «1»

(1) راجع الوسائل، «2» و المراد بالحضرمي في الرواية الأولى أبو بكر عبد اللّه بن محمّد الحضرمي، و السند إليه صحيح، و هو أيضا ثقة أو ممدوح، «3» فالرواية

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 10، ذيل قول المصنّف: إلّا أنّ المعروف ...

(2) الوسائل 12/ 69، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديثين 1 و 2.

(3) راجع تنقيح المقال 2/ 204.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 390

المسلمين، بمعنى وجود المباينة في مقابل الهدنة، و بهما يقيّد المطلقات جوازا و منعا.

______________________________

صحيحة أو حسنة. و كون حكم السّراج مجهولا لا يضرّ لعدم كونه راويا. و أمّا الرواية الثانية فضعيفة بهند السّراج و بأبي سارة الراوي عنه لكونهما مجهولين. «1»

ثم لا يخفى أنّ الأخبار الواردة في المسألة على طوائف يستفاد- بدوا- من بعضها الجواز مطلقا و من بعضها المنع كذلك، و من بعضها التفصيل تارة بين الهدنة و بين المباينة، و أخرى بين وجود الحرب فعلا و عدمها، و ثالثة بين الأسلحة و

بين وسائل الدفاع، و رابعة المنع في مورد الفتنة. و الموضوع في بعضها المشركون، و في بعضها أهل الحرب، و في بعضها أهل الباطل، و في بعضها السلطان- المنصرف إلى سلطان الإسلام-، و في بعضها أهل الخلاف من المسلمين.

و المصنّف تعرّض أوّلا لروايتين مفصّلتين، و أراد حمل المطلقات جوازا أو منعا عليهما، مع أنّ محطّ السؤال في كلتيهما حمل السّلاح إلى المخالفين المدافعين عن بلاد الإسلام لا إلى المشركين و الكفّار، فلا وجه لحمل ما استدلّ به للمنع بنحو الإطلاق بالنسبة إلى المشركين على التفصيل الواقع فيهما. هذا.

و مورد المنع في الأولى من المفصلتين صورة المباينة، و في الثانية صورة قيام الحرب فعلا، و الأولى أعمّ و لا تنافي بينهما لكونهما مثبتتين فيحتمل المنع في كلتيهما، و الظاهر من المباينة تحقق قدرة مستقلة في قبال حكومة الإسلام أو التشيع. و الغالب في حال المباينة شأنية قيام الحرب، فتدبّر.

قال الأستاذ الإمام «ره» بعد نقل الروايتين ما ملخصه: «و هاتان الروايتان صارتا منشأ للقول بالتفصيل، تارة بين زمان الهدنة و غيره مطلقا، و أخرى في خصوص البيع من المخالفين و الأخذ بإطلاق المنع عن البيع من الكفّار.

و التحقيق أنّ الروايتين قاصرتان عن إثبات هذا التفصيل في المقامين، لأنّ السؤال

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 3/ 305، و 3/ 17 من فصل الكنى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 391

مع إمكان دعوى ظهور بعضها في ذلك (1) مثل مكاتبة الصيقل: أشتري السيوف و أبيعها من السلطان، أ جائز لي بيعها؟ فكتب: «لا بأس به.» (2)

______________________________

فيهما عن حمل السّلاح إلى الشام في عصر الصادقين عليهما السّلام، و هو عصر لم تكن للشيعة الإمامية مملكة مستقلة و حكومة على حدة، بل

كان المسلمون كافة تحت حكومة واحدة هي سلطنة خلفاء الجور- لعنهم اللّه-، فلم يكن في حمل السلاح إلى الشام خوف على حوزة الشيعة و بلادهم، لعدم الموضوع لهما- و لهذا نزّلهم منزلة أصحاب رسول اللّه، حيث إنّ كلّهم جمعية واحدة تديرهم حكومة واحدة- بل كان تقوية للمسلمين في قبال الكفّار، كما أشار إليه في الرواية الثانية، فلا يجوز التعدّي عن مثل تلك الهدنة التي كانت كالهدنة في عصر أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى مطلق الهدنة و السكون، كما إذا كانت لنا دولة مستقلة و لهم كذلك و كانت بيننا هدنة و تعاقد و مع ذلك كان في تقويتهم فساد أو مظنته بل و احتماله بحيث خيف على دولة الشيعة و حكومتهم من ذلك.

و يستفاد من التعليل في الثانية أنّ كلّ مورد يدفع عدوّ قويّ بعدوّ مأمون منه يجوز بيع السلاح منه لدفعه.

و كيف كان فلا يمكن القول بجواز بيع السّلاح و نحوه من الكفّار أو المخالفين بمجرد الهدنة و عدم الحرب، بل لا بد من النظر إلى مقتضيات اليوم و صلاح المسلمين و الأمّة، كما أنّ في عصر الصادقين عليهما السّلام كان من مقتضيات الزمان جواز دفع السلاح إلى حكومة الإسلام لدفع المشركين من غير ترقّب فساد عليه. و كلما كان كذلك يجوز بل قد يجب، فلا يستفاد من الروايتين أمر زائد على ما يحكم به العقل.» «1» انتهى ما ذكره الأستاذ، و هو كلام متين.

(1) أي في التفصيل بين الهدنة و حال الحرب أو المباينة كما يأتي بيانه.

(2) رواها في الوسائل عن أبي القاسم الصيقل، قال: كتبت إليه: إنّي رجل صيقل أشتري السيوف و أبيعها من السلطان أ جائز لي بيعها؟

فكتب: «لا بأس

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 154 (- ط. أخرى 1/ 229)، في النوع الثالث من القسم الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 392

و رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة؟ قال: «إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس.» (1)

______________________________

به.» «1» و لكن أبو القاسم الصيقل مجهول، و لا يعرف المروي عنه أيضا.

و الظاهر أنّ مراده بالسلطان السلطان من خلفاء الجور في عصره و لم يكن في قباله إلّا دول الكفر، فالأسلحة كانت تصرف لدفعهم. فوزان الرواية وزان رواية الحضرمي، و لم يكن الصيقل في بلاد الإسلام مرتبطا بسلاطين الكفر يبيع منهم السلاح، فتأمّل.

(1) راجع الوسائل «2» و عبّروا عنها بالصحيحة- بناء على اعتبار الكتاب المنسوب إلى علي بن جعفر- و لكن دلالتها على المنع بالمفهوم، و إطلاقه غير واضح لكونها في مقام بيان حكم المنطوق، و يكفي في صحّة التقييد و ثبوت المفهوم تحقق المنع في بعض الصور كصورة المباينة أو الحرب مثلا. و إن شئت قلت: إنّ مفهوم القضية بمنزلة النقيض لها و نقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية و نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية.

هذا مضافا إلى أنّ الظاهر من المشركين في السؤال المشركون المجاورون لبلاد الإسلام، و الغالب فيهم في تلك الأعصار كونهم في حال الحرب أو المباينة مع دولة الإسلام.

و بالجملة دلالة الرواية على المنع بنحو الإطلاق ممنوعة.

و تجويز التجارة معهم في هذه الرواية لا ينافي ما مرّ منّا من تنقيح المناط القطعي و القول بحرمة كلّ ما يوجب قوتهم و شوكتهم في قبال المسلمين بحيث يخاف منهم عليهم و لو آجلا، و من أظهر مصاديق ذلك في أعصارنا إيجاد العلاقات التجارية.

بداهة

أنّ هذا المعنى يختلف بحسب الأزمنة و أنواع التجارة، و لم يكن في تلك

______________________________

(1) الوسائل 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 393

و مثله ما في وصية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «يا عليّ، كفر باللّه العظيم من هذه الأمّة عشرة أصناف»، و عدّ منها بائع السلاح من أهل الحرب. (1)

______________________________

الأعصار التجارات الجزئيّة الصادرة عن الأفراد مع المشركين و الكفّار بحدّ توجب قوّتهم و سلطتهم على المسلمين. هذا.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ التجارات الجزئية معهم كانت جائزة لا محالة على فرض عدم قيام الحرب بينهم و بين المسلمين، إذ في حال الحرب لا يجوز معاونتهم بأيّ نحو كان كما هو واضح، و على هذا فمورد الصحيحة لا محالة صورة الهدنة.

و حيث فصّل فيها بين تجارة الأسلحة و غيرها- و التفصيل قاطع للشركة- كان مقتضاها عدم الجواز في الأسلحة مطلقا و لو في حال الهدنة، فتدبّر.

(1) راجع الوسائل «1» و الرواية و إن اشتملت على مضامين عالية و لكن في سندها مجاهيل، فيشكل الاعتماد عليها، و عدّها من الروايات المطلقة الدالّة على المنع أيضا قابل للمناقشة، إذ الظاهر أنّه يراد بأهل الحرب فيها الكفّار المحاربون فعلا مع دولة الإسلام أو المستعدّون لها كما ربما يؤيد ذلك التشديد المذكور في الرواية من الحكم بكفر بائع الأسلحة منهم، فلا تشمل الكفّار العائشتين تحت ظلّ حكومة الإسلام و إن لم يعملوا بشرائط الذمّة.

و في هذا الباب من الوسائل رواية أخرى لم يتعرض لها المصنف، قال:

«و عنهم، عن أحمد بن محمد، عن أبي عبد اللّه البرقي، عن السرّاج،

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قلت له: إنّي أبيع السلاح؟ قال: فقال: «لا تبعه في فتنة.» هكذا في الوسائل «2»، و على هذا فالسرّاج مجهول، و لكن في الكافي «3»

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 12/ 71، و الباب، الحديث.

(2) نفس المصدر 12/ 70، و الباب، الحديث 4.

(3) راجع الكافي 5/ 113، كتاب المعيشة، باب بيع السلاح منهم، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 394

[الإشكال في كلام الشهيد في المقام]

فما عن حواشي الشهيد من أنّ بيع السّلاح حرام مطلقا في حال الحرب و الصلح و الهدنة لأنّ فيه تقوية الكافر على المسلم فلا يجوز على كلّ حال، شبه الاجتهاد في مقابل النصّ، مع ضعف دليله كما لا يخفى. (1)

______________________________

و التهذيب «1» عن السرّاد، فإن أريد به الحسن بن محبوب فهو لا يمكن أن يروي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إلّا بواسطة، و إن أريد به غيره فهو مجهول. و في الاستبصار «2»:

عن السرّاد عن رجل، فيصير الخبر مرسلا.

و كيف كان فالفتنة معنى عامّ تشمل محاربة بعض الشيعة مع بعض أيضا إذا نشأت عن الأهواء و لم تكن في طريق الدفاع عن الحقّ، و أمّا الدفاع عن الإسلام و الحقّ و العدالة فلا يسمى فتنة، كما هو واضح، هذا.

و في سنن البيهقي أيضا بأسانيده عن عمران بن حصين قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن بيع السّلاح في الفتنة.» «3» و عمران بن حصين صحابيّ مرضيّ الفريقين. «4»

(1) أراد أنّ الشهيد «ره» حيث أخذ بظهور ما يدلّ بإطلاقه على المنع المطلق و ترك تقييده بما هو نصّ في التفصيل فكأنّه اجتهد في مقابل النصّ.

و لكن يرد على ذلك: أنّه على فرض إطلاق رواية علي

بن جعفر مفهوما وجب الأخذ بإطلاقها، كما أفتى به جماعة و حكاه المصنّف عن الشهيد أيضا، و لا وجه لتقييد إطلاق مفهومها بسبب روايتي الحضرمي و الهند المفصّلتين، لما مرّ من أنّ موردهما حمل الأسلحة إلى المسلمين المخالفين للدفاع عن حوزة الإسلام و بلاده في قبال الكفر، و لم يكن في عصر صدور هذه الأخبار تشكّل شيعي و دولة شيعية مستقلة يخاف عليها من ناحية هؤلاء المخالفين. و أمّا رواية علي بن جعفر

______________________________

(1) راجع التهذيب 6/ 354، باب المكاسب، الحديث 128.

(2) راجع الاستبصار 3/ 57، كتاب المكاسب، باب كراهية حمل السلاح إلى أهل البغي، الحديث 1.

(3) سنن البيهقي 5/ 327، كتاب البيوع، باب كراهية بيع ... و السيف ممن يعصي اللّه عزّ و جلّ به.

(4) راجع تنقيح المقال 2/ 350؛ و أسد الغابة 4/ 137.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 395

..........

______________________________

فالموضوع فيها المشركون.

و على هذا فليس إفتاء الشهيد بالمنع بالنسبة إلى المشركين مطلقا اجتهادا منه في مقابل النصّ. و ما ذكره من الدليل أيضا قويّ- و يظهر مفاده من عبارة المصنف أيضا- إذ نفس تمكين الكفّار و المشركين من الأسلحة القتّالة يوجب قوّتهم في قبال المسلمين، و تقويتهم بذلك أمر يحكم بقبحه العقل لكونها في معرض التعرّض لبلاد المسلمين و قتل النفوس المحترمة و هتك الأعراض. كيف؟! و في الأمور المهمة مجرّد الاحتمال منجّز عقلا فكيف مع المعرضية و الظنّ؟ و الشرع الذي أوجب إعداد القوة و رباط الخيل في قبالهم بداعي إرهابهم كيف يجوّز تمكينهم من الأسلحة و مظاهر القوّة و القدرة؟! و قد مرّ في رواية تحف العقول في عداد ما يحرم بيعه: «و كلّ منهي عنه مما يتقرب به لغير

اللّه أو يقوى به الكفر و الشرك.» و فيها أيضا في وجه الحرام من الولاية: «فولاية الوالي الجائر و ولاية ولاته ... و العمل لهم و الكسب معهم بجهة الولاية ... فلذلك حرم العمل معهم و معونتهم و الكسب معهم إلّا بجهة الضرورة.» «1» نعم الرواية مضطربة المتن و لا سند لها كما مرّ في أوائل المكاسب. «2». هذا. و لكن يمكن أن يقال- كما في مصباح الفقاهة أيضا-:

«إنّ هذا كلّه لو تقارن البيع مع التسليم و التسلّم الخارجي.» «3» إذ لا يلزم من البيع المجرّد عنهما تقوية للكفّار على المسلمين.

______________________________

(1) تحف العقول/ 333 و 332.

(2) راجع 1/ 70 و 88 و ما بعدهما من الكتاب.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 188، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 396

[حكم المسألة في ما إذا لم يقصد البائع المعونة]

ثمّ إنّ ظاهر الروايات شمول الحكم لما إذا لم يقصد البائع المعونة و المساعدة أصلا، بل صريح مورد السؤال في روايتي الحكم و الهند هو صورة عدم قصد ذلك. فالقول باختصاص حرمة البيع بصورة قصد المساعدة كما يظهر من بعض العبائر (1) ضعيف جدّا. و كذلك ظاهرها الشمول لما إذا لم يعلم باستعمال أهل الحرب للمبيع في الحرب بل يكفي مظنة ذلك بحسب غلبة ذلك مع قيام الحرب بحيث يصدق حصول التقوّي لهم بالبيع.

[الحكم مخالف للأصول يقتصر على مورد النص]

و حينئذ فالحكم مخالف للأصول (2) صير إليه للأخبار المذكورة و عموم رواية تحف العقول المتقدمة، فيقتصر فيه على مورد الدليل و هو السّلاح، دون

______________________________

(1) في المختصر النافع: «الثالث: ما يقصد به المساعدة على المحرّم كبيع السّلاح لأعداء الدين في حال الحرب، و قيل مطلقا.» «1»

و في المسالك: «لا فرق في أعداء الدين بين كونهم مسلمين أو كفّارا، لاشتراكهم في الوصف و هو الإعانة على المحرّم المنهي عنها، و منهم قطّاع الطريق و نحوهم، و إنّما يحرم مع قصد المساعدة أو في حال الحرب أو التهيؤ له، أمّا بدونها فلا.» «2» و مرّ عن الجواهر قوله: «مع قصد الإعانة أو كانت الحرب قائمة.» «3»

(2) يعني ما يدلّ على حلّية كلّ عمل تكليفا إلّا ما ثبت حرمته، إذ البحث فعلا في الحكم التكليفي لا الوضعي.

______________________________

(1) المختصر النافع/ 116، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

(2) المسالك 3/ 123، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(3) الجواهر 22/ 28، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني مما يحرم الاكتساب به، و قد مرّ في ص 387.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 397

ما لا يصدق عليه ذلك كالمجنّ

و الدرّع و المغفر و سائر ما يكنّ، (1) وفاقا للنهاية و ظاهر السّرائر و أكثر كتب العلامة و الشهيدين و المحقق الثاني (2)،

______________________________

و في حاشية السيّد «ره»: «إذا كان المدار على حصول التقوّي و خصّ بحال الحرب- كما يظهر من عبارته- فليس الحكم مخالفا للأصول، إذ يصدق الإعانة على الإثم حينئذ و إن لم يقصد البائع حسبما عرفت، مع أنّ من القواعد حرمة تقوية الكفر، يدلّ عليها العقل و النقل، فإنّ المستفاد من خبر تحف العقول حرمة ذلك مطلقا لقوله عليه السّلام: أو يقوى به الكفر و الشرك.» «1»

أقول: أراد بما ذكره من صدق الإعانة على الإثم حينئذ ما أشار إليه قبل ذلك في كلامه- وفاقا للمحقق الأردبيلي- من أنّ الإعانة تصدق مع القصد أو الصدق العرفي، و في حال الحرب أو التهيؤ لها تصدق عرفا و إن لم تقصد، نظير ما مرّ في إعطاء العصا لمن أراد ضرب المظلوم بها.

(1) في الصحاح: «كننت الشي ء: سترته و صنته من الشمس، و أكننته في نفسي: أسررته ... و كننت الجارية و أكننتها، فهي مكنونة و مكنّة.» «2»

(2) قد مرّ عن نهاية الشيخ قوله: «و لا بأس ببيع ما يكنّ من آلة السّلاح لأهل الكفر مثل الدروع و الخفاف.» «3»

و في السرائر ذكر عبارة النهاية و رواية محمد بن قيس الآتية، «4» و ظاهره قبول مضمونهما.

و في الدروس: «و يكره بيع ما يكنّ كالدرع و البيضة و الخف و التجفاف- بكسر التاء- و هو الذي يلبس الخيل.» «5»

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 12.

(2) الصحاح 6/ 2189.

(3) النهاية/ 366، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(4) راجع السرائر 2/ 216، باب ضروب المكاسب.

(5) الدروس/ 328 (- ط. أخرى 3/

166)، كتاب المكاسب، الدرس 232، الثاني مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 398

للأصل و ما استدلّ به في التذكرة (1) من رواية محمد بن قيس، قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفئتين من أهل الباطل تلتقيان، أبيعهما السّلاح؟ قال: «بعهما ما يكنّهما: الدرع و الخفّين و نحوهما. (و نحو هذا- الوسائل.) (2)

______________________________

و في الروضة: «و لا يلحق بالسّلاح ما يعدّ جنة للقتال كالدرع و البيضة و إن كره.» «1»

و قال العلّامة في النهاية: «و يجوز بيع ما يكنّ من آلات السّلاح كالدرع و البيضة.» «2»

و في القواعد: «و لا بأس ببيع ما يكنّ من آلة السّلاح.» «3»

و في جامع المقاصد في ذيل تعرض المصنّف لحرمة بيع السّلاح لأعداء الدين قال: «و هذا إنّما هو فيما لا يعدّ جنّة كالدرع و البيضة و الخفّ و التجفاف- بكسر التاء- و هو ما يلبس للخيل، فلا يحرم نحو هذه.» «4»

(1) فيها: «و يجوز بيع ما يكنّ من النبل لأعداء الدين، لأنّ محمد بن قيس سأل الصادق عليه السّلام عن الفئتين. الحديث.» «5»

(2) راجع الوسائل «6» و السند صحيح.

______________________________

(1) الروضة في شرح اللمعة 3/ 211، كتاب المتاجر، الفصل الأوّل.

(2) نهاية الإحكام 2/ 467، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الثالث، المطلب الثاني.

(3) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، القسم الثاني.

(4) جامع المقاصد 4/ 17، كتاب المتاجر، في القسم الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(5) التذكرة 1/ 587، كتاب البيع، المقصد الثامن، الفصل الأوّل في أنواع المكاسب.

(6) الوسائل 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3. و سنده هكذا: محمد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن

علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن محمد بن قيس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 399

لكن يمكن أن يقال: إنّ ظاهر رواية تحف العقول إناطة الحكم على تقوّي الكفر و وهن الحقّ. و ظاهر قوله عليه السّلام في رواية هند: «من حمل إلى عدوّنا سلاحا يستعينون به علينا» أنّ الحكم منوط بالاستعانة، و الكلّ موجود فيما يكنّ أيضا كما لا يخفى. مضافا إلى فحوى رواية الحكم المانعة عن بيع السّروج. و حملها على السيوف السريجيّة لا يناسبه صدر الرواية مع كون الراوي سرّاجا. (1)

______________________________

(1) محصّل الجواب عن التفصيل بين ما يقاتل به و بين ما يكنّ به و القول بجواز الثاني وجوه:

الأوّل: أنّ لفظ السّلاح يعمّ ما يكنّ به أيضا:

ففي المصباح المنير: «السلاح: ما يقاتل به في الحرب و يدافع.» «1»

و في مجمع البحرين: «قوله- تعالى-: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ هي جمع سلاح- بالكسر- و هو ما يقاتل به في الحرب و يدافع.» «2»

أقول: هذا ما يظهر من مصباح الفقاهة، «3» و لكن يمكن أن يناقش بأنّ لفظ السّلاح منصرف إلى ما يقاتل به. و حيث إنّ آلات القتال وسائل للدفاع أيضا ذكر في كلامهما لفظ الدفاع. و بالجملة فإطلاق لفظ السّلاح على مثل الدرع و المغفر و المجنّ غير مأنوس، فتأمّل.

الوجه الثاني: أنّ اللّه- تعالى- أمر بإعداد القوة و رباط الخيل لإرهاب أعداء اللّه، و بيع ما يكنّ به منهم نقض لهذا الغرض المهمّ.

الوجه الثالث: أنّ تمكين أعداء اللّه من مطلق وسائل الحرب و لو مما يكنّ به تقوية لهم في قبال المسلمين، و هي قبيحة عقلا و محرّمة شرعا، كما يشهد بذلك

______________________________

(1) المصباح المنير/ 284.

(2) مجمع البحرين

2/ 373 (- ط. أخرى/ 172).

(3) راجع مصباح الفقاهة 1/ 189، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 400

و أمّا رواية محمد بن قيس فلا دلالة لها على المطلوب، لأنّ مدلولها بمقتضى أنّ التفصيل قاطع للشركة الجواز فيما يكنّ و التحريم في غيره مع كون الفئتين من أهل الباطل، فلا بدّ من حملهما على فريقين محقوني الدماء، إذ لو كان كلاهما أو أحدهما مهدور الدّم لم يكن وجه للمنع من بيع السلاح على صاحبه. فالمقصود من بيع ما يكنّ منهما تحفّظ كلّ منهما عن صاحبه و تترّسه بما يكنّ، و هذا غير مقصود فيما نحن فيه، بل تحفّظ أعداء الدين عن بأس المسلمين خلاف مقصود الشارع. فالتعدّي عن مورد الرواية إلى ما نحن فيه يشبه القياس مع الفارق. و لعلّه لما ذكر قيّد الشهيد فيما حكي عن حواشيه على القواعد إطلاق العلّامة جواز بيع ما يكنّ بصورة الهدنة و عدم قيام الحرب.

______________________________

قوله في رواية تحف العقول فيما يحرم بيعه: «أو يقوى به الكفر و الشرك من جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحق ...»، «1» و قوله عليه السّلام في رواية هند السّراج:

«من حمل إلى عدوّنا سلاحا يستعينون به علينا ...»، «2» حيث يظهر منه أنّ ملاك الحرمة استعانتهم به علينا، و جميع هذه العناوين منطبقة على ما يكنّ به أيضا.

الرابع: أنّ في رواية الحضرمي مورد سؤال حكم السّراج حمل السروج و أداتها إلى الشام، و السّروج ليست مما يقاتل بها. و حملها على السيوف السريجية لا يناسب كون السائل سرّاجا، هذا مضافا إلى أنّ السّروج جمع للسرج لا للسريجي و إلى أنّ السيف لا أداة

له.

بقي الكلام في صحيحة محمد بن قيس التي استدلّ بها في التذكرة للجواز فيما يكنّ به، و الجواب عنها أنّها غير مرتبطة بما نحن فيه، أعني بيع السّلاح من أعداء الدين، و قد أوضح ذلك المصنّف في المتن فلا نعيد.

______________________________

(1) تحف العقول/ 333.

(2) الوسائل 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 401

..........

______________________________

فذلكة البحث: تحريم بيع كلّ ما يوجب قوّة أعداء الإسلام في قبال المسلمين

قد تحصّل مما ذكرناه بطوله أنّ موضوع البحث في المسألة و إن كان خصوص بيع السلاح من أعداء الدين، لكن الظاهر عدم اختصاص الحكم ببيع الأسلحة منهم بل كل ما يوجب أحيانا شوكة أعداء الإسلام و قوّتهم في قبال المسلمين بحيث يخاف منهم على حوزة الإسلام أو حوزة الفرقة المحقّة، سواء في ذلك المشركون أو المخالفون بل و الطغاة من الشيعة، و ما يقاتل به أو يكنّ به، بل و العلاقات التجارية الموجبة لقوّة الطرف كما في أعصارنا، كلّ ذلك بإلقاء الخصوصية و تنقيح المناط.

و لا فرق في ذلك بين قيام الحرب فعلا أو وجود مظنّته، بل و احتماله و إن تحققت الهدنة فعلا.

و ما في رواية الحضرمي من الجواز في الهدنة و عدمه في المباينة يراد بالهدنة فيها ما كان بين أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عصره أو بعد وفاته بلا فصل من الاجتماع تحت راية واحدة و حكم واحد، و من المباينة تشكّل الفريقين و تمايزهما في الحكم و السياسة و إن فرض تصالحهما فعلا لأغراض سياسية.

و بالجملة فللمسألة هوية سياسية، و اللازم رعاية مصلحة الإسلام و الأمّة فلا يجوز تقوية الجماعة التي يخاف منها و لو في المآل بالنسبة إلى حوزة الإسلام أو الفرقة المحقّة. فلو

فرض أنّ جماعة من الكفّار كانت تحت لواء الإسلام و كان تقويتهم بالسلاح أو غيره في طريق الدفاع عن حوزة الإسلام و كيان المسلمين جاز تسليم الأسلحة و غيرها إليهم و لو مجانا بل قد يجب، و لو فرض أنّ جماعة من

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 402

[بيع السّلاح من قطّاع الطريق]

ثمّ إنّ مقتضى الاقتصار على مورد النصّ عدم التعدّي إلى غير أعداء الدين كقطّاع الطريق، (1) إلّا أنّ المستفاد من رواية تحف العقول إناطة الحكم بتقوّي الباطل و وهن الحقّ، فلعلّه يشمل ذلك، و فيه تأمّل.

______________________________

الشيعة الظالمة المتهتكة تشكّلت و خيف منهم على حوزة الإسلام و قوانينه أو الفرقة المحقة و أصولها و لو في بعض البلاد لم يجز تقويتهم و أخبار المسألة بعد ضمّ بعضها إلى بعض لا تدلّ على غير ذلك و بذلك يحكم العقل الصريح أيضا، فتدبّر.

بيع السّلاح من قطّاع الطريق

(1) قد مرّ عن المسالك قوله: «لا فرق في أعداء الدين بين كونهم مسلمين أو كفّارا لاشتراكهم في الوصف و هو الإعانة على المحرّم المنهي عنها، و منهم قطّاع الطريق و نحوهم.» «1»

و ظاهره دخول قطّاع الطريق في أعداء الدين، و هو خلاف الظاهر، إذ الظاهر منهم من يجابه المسلمين بجهة إسلامهم.

و يحتمل بعيدا رجوع ضمير الجمع إلى الإعانة على المحرّم بلحاظ الوصف المشتق منها، يعني: و من المعين على المحرم المعين لقطّاع الطريق، و عليه فيكون الملاك في الحرمة عنده صدق الإعانة على الإثم.

و مرّ عن المستند قوله: «و أمّا غير أعداء الدين من فرق المسلمين المحاربين للمسلمين فلا شكّ في عدم لحوقهم بالكفّار، فيجوز البيع منهم في حال عدم الحرب، و الظاهر من جماعة إلحاقهم بأعداء الدين من فرق المسلمين.»

«2» و لعلّ المحارب يشمل قاطع الطريق أيضا، فتأمّل.

______________________________

(1) المسالك 3/ 123، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(2) مستند الشيعة 2/ 335، كتاب مطلق الكسب، المقصد الثالث، الفصل الثاني. و قد مرّ في ص 388.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 403

[هل النهي في المقام يدلّ على الفساد أم لا؟]

ثمّ إنّ النهي في هذه الأخبار لا يدلّ على الفساد (1)، فلا مستند له سوى ظاهر خبر تحف العقول الوارد في بيان المكاسب الصحيحة و الفاسدة، و اللّه العالم.

______________________________

و ظاهر المصنّف أنّ عنوان أعداء الدين لا يشمل قطّاع الطريق، إلّا أنّ الحكم في رواية تحف العقول لمّا كان منوطا بتقوّي الباطل و وهن الحقّ فلعلّه يشمل لهم، و لكنه تأمّل في ذلك بلحاظ أنّ الحق و الباطل ينصرفان إلى خصوص الأمور الدينية و الاعتقادية.

أقول: قد أطلق الباطل في كثير من الأخبار على مثل القمار و الشطرنج و الغناء، فيراد به مطلق المعاصي و المنكرات، فراجع الوسائل. «1»

ثمّ إنّ قوله عليه السّلام في رواية التحف: «أو شي ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد» «2» يشمل بيع السلاح من قطّاع الطريق قطعا و لكن الرواية ضعيفة كما مرّ.

هذا.

و لكن لا يخفى أنّ مما يحكم العقل بقبحه و الشرع بحرمته إعانة الظالمين و الطغاة في ظلمهم و طغيانهم، و قطّاع الطريق من أوضح مصاديقهم، و بيع الأسلحة منهم من أوضح مصاديق الإعانة.

هل النهي في المقام يدلّ على الفساد أم لا؟

(1) في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «لا شبهة في أنّ الحرمة الوضعية متقوّمة بكون النهي إرشادا إلى الفساد و لا نظر له إلى مبغوضية متعلّقه، كما أنّ قوام الحرمة التكليفية بكون النهي مولويا تكليفيا ناظرا إلى مبغوضية متعلقه، فهما لا يجتمعان في استعمال

واحد.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 227- 242، الأبواب 99- 104 من أبواب ما يكتسب به.

(2) تحف العقول/ 333.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 404

..........

______________________________

و أيضا النهى من حيث هو تحريم بحث لا يقتضي الفساد لا شرعا و لا عرفا و لا عقلا، سواء تعلّق بذات المعاملة أو بوصفها أو بأمر خارج منطبق عليها.

و عليه فإن كان المراد بالنهي المتوجّه إلى المعاملة النهي التكليفي كما هو الظاهر منه بحسب الوضع لدلّ على خصوص الحرمة التكليفية، كالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة. و إن لم يرد منه الحرمة التكليفية كان إرشادا إلى الفساد، كالنهي المتوجه إلى المعاملات، أو إلى المانعية كالنهي المتوجه إلى موانع الصلاة.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ النهي عن بيع السّلاح من أعداء الدين ليس إلّا لأجل مبغوضية ذات البيع في نظر الشارع فيحرم تكليفا فقط و لا يكون دالّا على الفساد، و يتّضح ذلك جليّا لو كان النهي عنه لأجل حرمة تقوية الكفر، لعدم تعلّق النهي به بل بأمر خارج يتحد معه.» «1»

أقول: محصّل كلامه «ره» أنّ مبغوضية المعاملة و حرمتها تكليفا لا تقتضي فسادها وضعا.

و أراد بكلامه الأخير بيان أمر آخر، و هو أنّ النهي في أخبار الباب و إن تعلّق صورة ببيع الأسلحة لكنه في الحقيقة متعلّق بتقوية الكفر، و هو عنوان آخر غير عنوان البيع، فلو سلّم أنّ حرمة المعاملة تقتضي فسادها ففي المقام لا تسري الحرمة إلى عنوان البيع حتى يتوهم اقتضاؤها لفساده.

و يمكن أن يؤيّد كلامه هذا ببيان آخر أيضا، و هو أنّ النهي و إن تعلّق في بعض أخبار الباب بالبيع لكن المذكور في أكثرها حمل الأسلحة، أعني تسليمها إلى أعداء الدين. فما هو المحرّم عنوان الحمل

و التسليم لا عنوان البيع و لذا يحرم الحمل و لو مجانا، فلا وجه لفساد البيع. هذا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 191، في المسألة الثالثة من القسم الثاني من النوع الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 405

..........

______________________________

و لكن قد مرّ منّا في مسألة بيع العنب ممّن يعمله خمرا «1» أنّه لو فرض حرمة المعاملة و مبغوضيّتها فيمكن أن يقال باقتضائها الفساد إمّا لأنّ صحّة المعاملة تكون بإمضاء الشارع لها و حكمه بوجوب الوفاء بها و لا أقل بعدم ردعه عنها الكاشف عن رضاه بها، و من المستبعد جدّا اعتبار الشارع و إمضاؤه أو عدم ردعه لما يكون حراما و مبغوضا له، و إمّا لأنّ المهمّ في باب المعاملات الآثار العملية المترقبة منها لا نفس الأسباب بما هي ألفاظ و لا نفس المسببات الاعتبارية. و على هذا فالنهي المتعلق بها في الحقيقة نهي عن ترتيب الآثار المترقبة منها، و مقتضى ذلك فسادها، إذ لا معنى لصحة المعاملة و اعتبار المسبّب مع حرمة جميع الآثار المترتبة عليها.

هذا على فرض تعلّق النهي بنفس المعاملة. و أمّا إذا تعلّق بعنوان آخر قد ينطبق عليها فربّما يقال بعدم سراية النهي إليها، نظير ما قالوه في مسألة اجتماع الأمر و النهي، و لكن نحن ناقشنا في ذلك و فرّقنا بين متعلقات الأحكام أعني أفعال المكلّفين و بين موضوعاتها المأخوذة على نحو العموم الاستغراقي، فراجع ما حرّرناه في تلك المسألة. «2» هذا.

و أمّا النهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة فليس نهيا حقيقيا ناشئا عن مبغوضية متعلقه، بل هو نهي تبعي ناش عن الأمر بالجمعة، نظير الأمر المقدّمي الواقع تأكيدا لأمر ذيها، فقوله: وَ ذَرُوا الْبَيْعَ وقع تأكيدا لقوله: فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ

اللّٰهِ فالنهي في الحقيقة متولّد من الأمر بالضدّ على ما قالوا من أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه.

و كيف كان فالحكم بصحّة المعاملة مع كونها مبغوضة للشارع مشكل جدّا، اللّهم إلّا أن ينطبق عليها بعد وقوعها و لو عصيانا عنوان آخر ذو مصلحة

______________________________

(1) راجع ص 374.

(2) راجع ص 281.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 406

..........

______________________________

أقوى تقتضي وجوب الوفاء بها مع بقاء ملاك الحرمة و المبغوضية، نظير ما قالوا في التصرف الخروجي من الأرض المغصوبة التي توسّطها عمدا، و لكن الالتزام بهذا الانطباق يحتاج إلى دليل إلّا أن يقال باستكشاف ذلك بعمومات وجوب الوفاء و حلية البيع و التجارة. هذا.

و المصنف منع دلالة النهي في المقام على الفساد و لكنه التزم بأنّ المستند للمنع إن كان رواية تحف العقول كان مقتضاه الفساد لما مرّ من أنّ محطّ النظر فيها بيان المكاسب و التجارات الصحيحة و الفاسدة، و لكن الرواية لا سند لها كما مرّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 407

النوع الثالث: ما ليس فيه منفعة محلّلة معتدّ بها

اشارة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 409

النوع الثالث: ممّا يحرم الاكتساب به: ما لا منفعة فيه محلّلة معتدّا بها عند العقلاء. و التحريم في هذا القسم ليس إلّا من حيث فساد المعاملة و عدم تملك الثمن، و ليس كالاكتساب بالخمر و الخنزير. (1)

______________________________

النوع الثالث:

ما ليس فيه منفعة محلّلة معتد بها

[الفرق بين هذا النوع و النوعين السابقين]

(1) غرضه أنّ في النوعين السّابقين كان نفس البيع محرّما تكليفا، و أمّا في هذا النوع فلا دليل على حرمة المعاملة تكليفا و لكن لما لم يقع شي ء ذو منفعة بإزاء الثمن كانت المعاملة فاسدة فلم ينتقل الثمن إلى البائع و كان تصرفه فيه حراما بما أنّه تصرّف في مال الغير.

و بعبارة أخرى البحث في هذا النوع متمحّض في الحرمة الوضعية، و أمّا في النوعين السّابقين فكان محطّ البحث حرمة نفس المعاملة تكليفا و إن كانت ربما تستعقب الفساد أيضا إن دلّ عليه دليل.

أقول: على ما ذكره المصنّف كان المناسب ذكر هذا النوع في مبحث شرائط العوضين لرجوع البحث فيه إلى اشتراط المالية في العوضين.

ثم إنّ ما ذكره إنما يصحّ على فرض تسليم كون المعاملة في جميع موارد النوعين

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 410

..........

______________________________

السابقين محرمة تكليفا، و لكن يمكن المناقشة في كثير منها، إذ مرّ منّا أنّ بيع النجس مثلا بما أنّه نجس لا دليل على حرمته تكليفا و إنّما الثابت عدم جواز بيع ما لا منفعة محلّلة له من النجاسات، ففي الحقيقة تكون النجاسات مندرجة في النوع الثالث، غاية الأمر أنّ الشي ء قد لا تكون له منفعة عقلائية أصلا، و قد تكون له منفعة عقلائية و لكنها محرّمة شرعا، فبلحاظ حكم الشرع يكون ممّا لا منفعة له و حكمه حكمه.

و القول بأنّ في بيع النجس الذي لا منفعة محلّلة له يكون نفس البيع حراما تكليفا مطلقا قابل للمناقشة. نعم في بعض المصاديق كالخمر مثلا يمكن الالتزام بذلك، لما ورد فيها في الروايات من التأكيدات حتى بالنسبة إلى غارسها و حارسها، نظير ما نلتزم به في البيع الربوي من أنّه مضافا إلى فساد المعاملة و عدم انتقال الثمن إلى البائع يكون نفس معاملته محرّمة تكليفا بمقتضى التأكيدات الواردة فيه و ليس حرمة أكله في حدّ حرمة أكل مال الغير فقط.

و قد مرّ منّا أيضا أنّ لفظ الحرمة الواقعة في كلمات القدماء من أصحابنا و في الروايات تحمل على الحرمة الوضعية، و اللفظ بحسب المفهوم أعمّ، و كذا الحلية الواقعة في قبالها، و قد شاع استعمالهما في الوضع، و محطّ النظر في المعاملات غالبا هو الصحة أو الفساد، و على ذلك حمل المصنّف رواية تحف العقول أيضا و إن عبّر فيها بالنهي أو بلفظ الحرمة، فتدبّر.

و كيف كان فبنظر المصنّف يفترق هذا النوع عن النوعين السّابقين كما مرّ بيانه.

[كلام الأستاذ الإمام «ره» في توجيه هذا النوع في عداد ما يحرم بيعه تكليفا]

و لكن الأستاذ الإمام «ره» صار بصدد توجيه ذكر هذا النوع أيضا في عداد ما يحرم بيعه تكليفا و ذكر لذلك ثلاثة وجوه نذكرها ملخّصة: «الأوّل: التمسك لحرمة نفس المعاملة بقوله- تعالى-: لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ بدعوى شمول الأكل بالباطل لتملك مال الغير بلا مال في قباله، فيصدق على بيع البائع، و نقله ما لا مالية له باعتبار تضمنه لنقل العوض إلى نفسه أنّه أكل مال المشتري، أي تملّكه بالباطل، فيكون حراما بمقتضى الآية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 411

..........

______________________________

الثاني: التمسك بالآية لحرمة الثمن لا بعنوان التصرف في مال الغير بل بعنوان أكل المال بالباطل،

بدعوى ظهورها في أنّه محرّم بهذا العنوان.

الثالث: التمسك برواية تحف العقول، حيث يظهر منها انحصار التجارات المحلّلة فيما هو مأمور به ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في أمورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره، و ما لا منفعة فيه خارج عن ذلك لعدم صلاح الناس فيه، فإذا خرج عن ذلك دخل في المحرّم.»

ثم ناقش هو في هذه الوجوه بما ملخّصه:

«أمّا في الأوّل فبأنّ الأكل و إن كان كناية و لا يراد به خصوص الأكل في قبال الشرب لكن لا يستفاد منه إلّا سائر التصرفات الخارجية لا مثل إنشاء البيع و الصلح و نحوهما ممّا لا يعدّ تصرّفا، و لا أظنّ أن يلتزم أحد بحرمة إنشاء المعاملة على مال الغير مع عدم رضا صاحبه، مع وضوح حرمة التصرّف في مال الغير بغير رضاه.

و أمّا في الثاني فبأنّ الظاهر أنّ الباطل عنوان انتزاعيّ من العناوين المقابلة للتجارة مثل القمار و السّرقة و الخيانة و نحوها، فأكل المال بالقمار حرام لكونه أكل مال الغير بلا سببية التجارة، و لا يكون حراما تارة بعنوان كونه مال الغير، و أخرى بعنوان كونه باطلا، بل الباطل عنوان مشير إلى العناوين الأخر من القمار و السّرقة و نحوهما، نعم نفس عنوان القمار حرام مستقلّ، و أخذ الثمن في مقابل ما لا منفعة له حرام من جهة كونه تصرفا فيه بلا سبب ناقل لا لانطباق عنوان آخر عليه حتى يكون محرما بعنوانين.

و أمّا في الثالث فبأنّ الرواية متعرّضة لوجوه التجارات العقلائية المتعارفة بين الناس كالأمثلة المذكورة فيها في شقّي الصحة و الفساد، و ليست متعرّضة لما لا صلاح و لا فساد فيها كما هو مفروض المقام لعدم إقدام العقلاء

على مثلها، و يشهد له قوله في صدرها: سأله سائل فقال: كم جهات معايش العباد التى فيها

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 412

[الدليل على الفساد في هذا القسم]
[أكل المال بالباطل]

و الدليل على الفساد في هذا القسم- على ما صرّح به في الإيضاح- كون أكل المال بإزائه أكلا بالباطل. (1)

______________________________

الاكتساب و التعامل بينهم و وجوه النفقات؟ فقال: جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم مما يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات ...». «1»

أقول: يمكن أن يناقش فيما ذكره أوّلا بأنّ مقتضى الوجه الثاني حرمة الثمن لا حرمة نفس المعاملة تكليفا و لا يقتضي حرمته حرمتها بل فسادها.

و ثانيا بأنّ كون عنوان الباطل مشيرا إلى العناوين الأخر كالقمار و نحوه لا يوجب عدم انطباق عنوان آخر على الثمن، إذ بعد كون القمار مثلا حراما يمكن أن يقال: إنّ المال المأخوذ به حرام بعنوانين: بعنوان أنّه مال الغير و بعنوان أنّه مال القمار، نظير ما التزم به هو من أنّ ثمن الخمر مثلا حرام بما أنّه مال الغير و بما أنّه ثمن للخمر، لقوله عليه السّلام: «ثمن الخمر سحت»، و إن ناقشنا نحن ذلك.

و ثالثا بأنّ ما ذكره بالنسبة إلى رواية تحف العقول مبنيّ على كونها بصدد بيان التجارات المحرمة و المحلّلة تكليفا، و لكن الظاهر- كما ذكره المصنّف أيضا- أنّ محطّ النظر فيها بيان التجارات الصحيحة و الفاسدة، فراجع. هذا.

و بعد اللتيا و التي لا نرى وجها لحرمة المعاملة على ما لا منفعة فيه حرمة تكليفية، بل قد مرّت المناقشة في حرمة كثير من النوعين السّابقين أيضا فالبحث في هذا النوع- كما ذكره المصنّف- يتمحّض في الصحة و الفساد. نعم لو ثبت فساد المعاملة كان التصرف في الثمن حراما بملاك

أنّه مال الغير إلّا أن يأذن صاحبه فيه مع قطع النظر عن وقوعه ثمنا في المعاملة، فتدبّر.

(1) راجع كتاب التجارة من إيضاح الفوائد «2».

و ظاهر المصنّف أيضا صحة الاستدلال بالآية للمقام على فرض كون الشي ء

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 158، (- ط. أخرى 1/ 237)، في القسم الثالث مما يحرم الاكتساب به.

(2) راجع الإيضاح 1/ 401، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 413

و فيه تأمّل، لأنّ منافع كثير من الأشياء التي ذكروها في المقام تقابل عرفا بمال و لو قليلا بحيث لا يكون بذل مقدار قليل من المال بإزائه سفها.

فالعمدة ما يستفاد من الفتاوى و النصوص من عدم اعتناء الشارع بالمنافع النادرة و كونها في نظره كالمعدومة.

قال في المبسوط: «إنّ الحيوان الطاهر على ضربين: ضرب ينتفع به و الآخر لا ينتفع به- إلى أن قال:- و إن كان مما لا ينتفع به فلا يجوز بيعه بلا خلاف، مثل الأسد و الذئب و سائر الحشرات مثل الحيّات و العقارب

______________________________

بحيث لا يبذل عرفا بإزائه شي ء من المال و لو قليلا.

و قد مرّ مرارا أنّ الاستدلال بالآية للمقام مبنيّ على كون الباء فيها للمقابلة، نظير ما يدخل على الثمن في المعاملة، فيكون مفادها النهي عن أخذ مال الغير بعوض لا مالية له و يكون باطلا محضا.

و لكن الظاهر عدم صحّة هذا المبنى، بل الباء للسببية، فتكون الآية ناظرة إلى بيان الأسباب الناقلة كما يشهد بذلك استثناء التجارة عن تراض التي هي منها أيضا، فيراد بها النهي عن أكل أموال الناس بمثل القمار و السرقة و نحوهما من الأسباب الباطلة عند الشرع بل عند العرف أيضا إذا بقي على صرافة عقله و فطرته.

و يشهد بما

ذكرنا أخبار وردت في تفسير الآية، حيث فسّرت فيها بالقمار، فراجع الوسائل «1».

و بالجملة ليست الآية في مقام بيان شرط العوضين بل في مقام بيان الأسباب الناقلة.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 119- 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الأحاديث 1 و 8 و 9 و 14.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 414

و الفأر و الخنافس و الجعلان و الحدأة و النسر و الرخمة و بغاث الطير و كذلك الغربان.» انتهى. (1)

[التمسك بالإجماع على ذلك]

______________________________

(1) راجع كتاب البيوع من المبسوط. «1»

و الظاهر من عبارة المصنّف الاعتماد في المسألة على الإجماع و عدم الخلاف المذكورين في كلمات الأصحاب في المقام، و لكن الظاهر من عبارة المبسوط أنّ عدم جواز البيع في الحيوانات المذكورة ليس لتعبّد خاص ورد فيها من الشرع، بل لكونها مما لا ينتفع بها من جهة كونها محرّمة اللحم، و لم تكن في تلك الأعصار ينتفع بها بطريق آخر، فكانت المعاملة عليها سفهية، بل لم تكن بيعا حقيقة لأنّه مبادلة بمال.

و بذلك يظهر أنّ ادّعاء الإجماع في مثل هذه المسألة بلا وجه و إن فرض اتفاق الفتاوى و عدم الخلاف فيها، إذ الإجماع إنّما يكون حجة في المسائل التعبّدية المأثورة المتلقاة عن المعصومين عليهم السّلام، لا في المسائل المبتنية على الاستنباط من القواعد الكلّية، إذ هو نظير الإجماع في المسائل العقلية و الفلسفية المبتنية على الاستنباط و النظر.

و على هذا فلو فرض وجود منفعة عقلائية محلّلة في هذا السنخ من الحيوانات كان اللازم الحكم بجواز المعاملة عليها بمقتضى عمومات العقود و البيع و التجارة و سيرة العقلاء، و في أعصارنا ينتفع بها كثيرا في الأدوية و تغذية الطيور و استخراج الموادّ الكيمياوية النافعة و نحو

ذلك، بل و حفظها في حديقة الوحوش و الطيور لمشاهدة المراجعين. و نفس معرفة الحيوانات المتنوعة و الاطلاع عليها و على خصوصياتها و حركاتها منفعة عقلائية و لم يرد في الشرع منع منها، و جميع ذلك توجب ماليتها و الرغبة فيها و في اشترائها. هذا.

______________________________

(1) راجع المبسوط 2/ 166، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 415

..........

______________________________

و لكن ربما يظهر من تطابق كلماتهم على ذكر هذا السنخ من الحيوانات في المقام و ادّعاء بعضهم الإجماع في المسألة أنّ المسألة عندهم بهذا النحو من المسائل المأثورة المتلقّاة عن المعصومين عليهم السّلام، فلنتعرض لبعض هذه الكلمات:

1- قال المفيد في مكاسب المقنعة: «و التجارة في القردة و السّباع و الفيلة و الذئبة و سائر المسوخ حرام و أكل أثمانها حرام ... و التجارة في الفهود و البزاة و سباع الطير التي يصاد بها حلال، و بيع الجرّي و المارماهي و الزمّار و الطافي و كلّ سمك لا فلس له حرام، و كذلك بيع الضفادع و السّلاحف و الرقاق و كلّ محرّم من البحار حرام.» «1»

أقول: في لسان العرب: «الرقّ: ضرب من دوابّ الماء شبه التمساح، و الرقّ:

العظيم من السّلاحف، و جمعه رقوق. و في الحديث: كان فقهاء المدينة يشترون الرقّ فيأكلونه.» «2»

و لعلّ المتراءى من عبارة المقنعة بدوا أنّ حرمة التجارة فيما ذكره من الحيوانات من الأصول المتلقّاة عن المعصومين عليهم السّلام لكون المقنعة من الكتب المؤلفة لذكر هذا السنخ من المسائل.

و لكن بالدقة في كلامه يظهر أنّ حرمة التجارة و حلّيتها فيها دائرة عنده مدار كونها ذوات منفعة محلّلة و عدمه، و حيث إنّ بعضا منها

و لا سيّما البحرية منها تكون عند أهل الخلاف محلّلة اللحوم تعرّض لها في قبالهم، فالمسألة متلقاة عنهم عليهم السّلام بلحاظ حرمة لحومها لا بلحاظ حرمة التجارة عليها، فلا ينافي ذلك جواز بيعها بلحاظ المنافع المحلّلة غير الأكل، كأن يصاد بسببها مثلا. و هذا البيان بعينه يجري فيما يأتي من الكلمات أيضا.

______________________________

(1) المقنعة/ 589، باب المكاسب.

(2) لسان العرب 10/ 123.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 416

..........

______________________________

2- و قال الشيخ في بيوع الخلاف (المسألة 308): «لا يجوز بيع شي ء من المسوخ مثل القرد و الخنزير و الدّبّ و الثعلب و الأرنب و الذئب و الفيل و غير ذلك ممّا سنبينه. و قال الشافعي: كلّ ما ينتفع به يجوز بيعه مثل القرد و الفيل و غير ذلك.

دليلنا إجماع الفرقة، و أيضا قوله عليه السّلام: «إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و هذه الأشياء محرمة اللحم بلا خلاف إلّا الثعلب فإنّ فيه خلافا، و هذا نصّ.» «1»

أقول: ظاهره كون حرمة البيع بنفسها مجمعا عليها عند الفرقة، و لكن من المحتمل كون المراد بالإجماع المذكور إجماعهم على حرمة لحومها في قبال بعض العامّة، أو إجماعهم على حرمة بيع النجس على مبناه من نجاسة المسوخ كلّها كما صرّح بها في أطعمة الخلاف (المسألة 2). «2» و عليك بمراجعة ما حرّرناه في مسألة بيع المسوخ. «3»

3- و قال في مكاسب النهاية: «و بيع سائر المسوخ و شراؤها و التجارة فيها و التكسب بها محظور مثل القردة و الفيلة و الدّببة و غيرها من أنواع المسوخ ... و بيع جميع السباع و التصرّف فيها و التكسب بها محظور إلّا الفهود خاصّة، فإنّه لا بأس بالتكسب بها و التجارة فيها لأنّها

تصلح للصيد، و لا بأس بشري الهرّ و بيعه و أكل ثمنه، و بيع الجرّي و المارماهي و الطافي و كلّ سمك لا يحلّ أكله و كذلك الضفادع و السّلاحف، و جميع ما لا يحلّ أكله حرام بيعه و التكسب به و التصرّف فيه.» «4»

أقول: ظهور كلامه في كون حرمة البيع فيها ناشئة عن حرمة أكلها و عدم منفعة محلّلة أخرى لها واضح.

______________________________

(1) الخلاف 3/ 184 (- ط. أخرى 2/ 81).

(2) نفس المصدر 6/ ... (- ط. أخرى 3/ 264).

(3) راجع 1/ 473 من الكتاب.

(4) النهاية/ 364، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 417

..........

______________________________

و على هذا فالمتلقّى عن المعصومين عليهم السّلام حرمة أكلها، و أمّا حرمة بيعها فعلى ما هو المسلّم عندهم من اعتبار المالية في العوضين، لتخرج المعاملة عن كونها سفهية فحكموا بها على طبق القاعدة. كيف؟! و لو كانت حرمة التجارة فيها بنفسها مأثورة لوجدنا بها روايات عنهم عليهم السّلام، و لم نجدها إلّا في بعض الأفراد كالقرد مثلا، فراجع.

4- و في المبسوط أيضا: «كلّ ما ينفصل من آدميّ من شعر و مخاط و لعاب و ظفر و غيره لا يجوز بيعه إجماعا لأنّه لا ثمن له و لا منفعة فيه.» «1»

5- و في الغنية: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرّزا مما لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها. و قيّدنا بكونها مباحة تحفّظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السّماء، و هو إجماع الطائفة.» «2»

أقول: المصنّف أرجع هذا الإجماع المدّعى إلى جميع ما ذكر،

و لا يخلو من إشكال، بل الظاهر رجوعه إلى الأخير، فتأمّل.

6- و في الشرائع: «الثالث: ما لا ينتفع به كالمسوخ، بريّة كانت كالقرد و الدبّ، و في الفيل تردد و الأشبه جواز بيعه للانتفاع بعظمه، أو بحرية كالجرّي و الضفادع و السّلاحف و الطافي، و السّباع كلّها إلّا الهرّ، و الجوارح طائرة كانت كالبازي أو ماشية كالفهد، و قيل: يجوز بيع السباع كلّها تبعا للانتفاع بجلدها أو ريشها، و هو الأشبه.» «3»

______________________________

(1) المبسوط 2/ 167، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصح.

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (- ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(3) الشرائع/ 264 (- ط. أخرى 2/ 10)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 418

..........

______________________________

أقول: ظهور كلامه في كون حرمة البيع فيها ناشئة من عدم المنفعة لا التعبّد المحض واضح. و على هذا فكثير من الأمثلة قابلة للمناقشة، إذ الفيل مثلا مضافا إلى الانتفاع بعظمها كان ينتفع بها في الحروب و في حمل الأمتعة.

7- و في الجواهر في ذيل قول المصنّف: «ما لا ينتفع به» قال: «نفعا مجوزا للتكسب به على وجه يرفع السفه عن ذلك، بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، إنّما الكلام فيما ذكره المصنّف مثالا له.» «1»

فيظهر منه أنّ الملاك عدم عدّ المعاملة سفهية و أن الإجماع منعقد على هذه الكليّة لا على الأمثلة المذكورة.

8- و في التذكرة: «الشرط الثاني: المنفعة. مسألة: لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه لأنّه ليس مالا فلا يؤخذ في مقابلته المال كالحبة و الحبتين من الحنطة ... مسألة:

لا يجوز بيع ما لا ينتفع به من الحيوانات كالخفاش و العقارب

و الحيّات و بنات وردان و الجعلان و القنافذ و اليرابيع، لخسّتها و عدم التفات نظر الشرع إلى مثلها في التقويم، و لا يثبت الملكية لأحد عليها. و لا اعتبار بما يورد في الخواصّ من منافعها، فإنّها مع ذلك لا تعدّ مالا، و كذا عند الشافعي. و في السّباع التي لا تصلح للصيد عنده وجهان لمنفعة جلودها. أمّا العلق ففي بيعه لمنفعة امتصاص الدّم إشكال، و أظهر وجهي الشافعي و أحمد الجواز. و كذا ديدان القزّ تترك في الشطّ فيصاد بها السّمك. و الأقرب عندي المنع، و هو أحد الوجهين لهما لندور الانتفاع فأشبه ما لا منفعة فيه، إذ كلّ شي ء فله نفع ما، و منع الشافعي من بيع الحمار الزمن و ليس بجيّد للانتفاع بجلده.» «2»

أقول: و الإشكال في بعض ما ذكره واضح أشار إليه المصنّف في المتن.

______________________________

(1) الجواهر 22/ 34، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(2) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، الفصل الرابع، الشرط الثاني من شروط العوضين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 419

..........

______________________________

9- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنابلة: «و يجوز بيع سباع البهائم كالفيل و السبع و نحوهما. كما يجوز بيع جوارح الطير كالصقر و الباز، و لا يصحّ بيع الحشرات كالعقرب و الحيّة و دود القزّ و الدود الذي يصاد به.»

و عن الحنفية: «و يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح كالأسد و الذئب و الفيل و سائر الحيوانات سوى الخنزير إذا كان ينتفع بها أو بجلودها على المختار. و كذلك يصحّ بيع الحشرات و الهوامّ كالحيّات و العقارب إذا كان ينتفع بها، و الضابط في ذلك: أنّ كلّ ما فيه منفعة تحلّ شرعا فإنّ

بيعه يجوز.» «1»

10- و فيه أيضا عن الحنفية: «فإذا لم يكن من شأنه الانتفاع به كحبّة من حنطة أو لم يكن الانتفاع به مباحا شرعا كالخمر و الخنزير و المنخنقة و الموقوذة و نحو ذلك ممّا يعتبر ميتة في نظر الشرع فإنّه لا يعتبر مالا، فإذا باع ما لا ينتفع به أصلا كالتراب و الدم المسفوح و القليل التافه كحبّة من حنطة فإنّ بيعه يقع باطلا، و كذلك إذا باع ما ينتفع به و لكن لم يكن الانتفاع به مباحا في نظر الشرع ... و من هذا الضابط نعلم أنّ المعوّل عليه في انعقاد البيع هو أن يكون للشي ء قيمة مالية شرعيّة. فإذا لم تكن له قيمة في بعض الأزمنة ثم عرض له ما يجعل له قيمة كان بيعه صحيحا متى كان يباح الانتفاع به شرعا كالتراب إذا كان يستعمل سمادا للزرع أو ينتفع به في شي ء آخر ...» «2»

أقول: يظهر من كلام الحنفية عدم ابتناء المسألة عندهم على تعبّد خاصّ، و إنّما الملاك وجود المالية و عدمها على ما تسالموا عليه من اعتبار المالية في العوضين.

و ليتهم اكتفوا بذكر هذا الملاك بكلّيته و لم يتعرضوا للأمثلة الجزئية التي يمكن أن يناقش في بعضها بحسب اختلاف الأزمنة و الأمكنة.

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 232، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

(2) نفس المصدر 2/ 237، كتاب البيع، مبحث التصرف في المبيع قبل قبضه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 420

و ظاهر الغنية الإجماع على ذلك أيضا، و يشعر به عبارة التذكرة، حيث استدلّ على ذلك بخسّة الأشياء و عدم نظر الشارع إلى مثلها في التقويم، و لا يثبت يد لأحد عليها، قال: «و لا

اعتبار بما ورد في الخواصّ من منافعها، لأنّها لا تعدّ مع ذلك مالا، و كذا عند الشافعي.» انتهى.

و ظاهره اتفاقنا عليه.

و ما ذكره من عدم جواز بيع ما لا يعدّ مالا مما لا إشكال فيه، و إنّما الكلام فيما عدّوه من هذا.

قال في محكي إيضاح النافع (1)- و نعم ما قال-: «جرت عادة الأصحاب بعنوان هذا الباب و ذكر أشياء معيّنة على سبيل المثال، فإن كان ذلك لأنّ عدم النفع مفروض فيها فلا نزاع، و إن كان لأنّ ما مثّل به لا يصح بيعه لأنّه محكوم بعدم الانتفاع فالمنع متوجه في أشياء كثيرة.»

انتهى.

و بالجملة فكون الحيوان من المسوخ أو السّباع أو الحشرات لا دليل على كونه كالنجاسة مانعا. (2) فالمتعين فيما اشتمل منها على منفعة مقصودة للعقلاء جواز البيع. فكلما جاز الوصية به لكونه مقصودا

______________________________

(1) للفاضل القطيفي على ما حكاه عنه في مفتاح الكرامة. «1»

(2) قد مرّ منّا منع كون النجاسة بنفسها أيضا مانعة و إنّما المانع في النجاسات عدم وجود المنفعة المحلّلة فيها، و لذا استثنوا منها موارد اربعة، فنفس الاستثناءات فيها دليل على أنّ الملاك وجود المنفعة المحلّلة الموجبة لماليتها شرعا و عدمها.

______________________________

(1) راجع مفتاح الكرامة 4/ 40، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل. و فيه: «جرت عادة الأصحاب بعنوان هذا الباب بعدم الانتفاع و ذكر أشياء معينة على سبيل المثل ...».

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 421

بالانتفاع للعقلاء فينبغي جواز بيعه إلّا ما دلّ الدليل على المنع فيه تعبدا.

و قد صرّح في التذكرة (1) بجواز الوصية بمثل الفيل و الأسد و غيرهما من المسوخ و الموذيات و إن منعنا عن بيعها. و ظاهر هذا الكلام أنّ المنع من بيعها- على القول

به- للتعبّد لا لعدم المالية.

ثمّ إنّ ما تقدّم منه- قدّس سرّه- من أنّه لا اعتبار بما ورد في الخواصّ من منافعها لأنها لا تعدّ مالا مع ذلك يشكل بأنّه إذا اطّلع العرف على خاصية في إحدى الحشرات معلومة بالتجربة أو غيرها فأيّ فرق بينها و بين نبات من الأدوية علم فيه تلك الخاصية؟

و حينئذ فعدم جواز بيعه و أخذ المال في مقابله بملاحظة تلك الخاصية يحتاج إلى دليل لأنّه حينئذ ليس أكلا للمال بالباطل. (2) و يؤيد ذلك ما تقدّم في رواية التحف من أن «كل شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك حلال بيعه الخ.»

______________________________

(1) راجع وصية التذكرة قال: «و أمّا ما يكون مقصودا فإنّه تصحّ الوصية به و إن حرم بيعه كالفيل و الأسد و غيرهما من المسوخ و الموذيات إن منعنا من بيعها تبعا للانتفاع بجلودها.» «1»

أقول: و الظاهر أنّ قوله: «تبعا للانتفاع بجلودها» تعليل لكونها مقصودة للعقلاء، و مقتضى ذلك ماليتها قهرا فلم لا يجوز بيعها؟

(2) ظاهره جواز الاستدلال بالآية للمنع على فرض انتفاء الخاصية و المالية بالكلية، و قد مرّ الإشكال في ذلك و أنّ الآية بصدد بيان الأسباب الناقلة لا اشتراط المالية في العوضين.

______________________________

(1) التذكرة 2/ 479، كتاب الوصية، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 422

و قد أجاد في الدروس حيث قال: «ما لا نفع فيه مقصودا للعقلاء كالحشار و فضلات الإنسان.» (1)

و عن التنقيح: «ما لا نفع فيه بوجه من الوجوه كالخنافس و الديدان.» (2)

و مما ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره في التذكرة من الإشكال في جواز بيع العلق الذي ينتفع به لامتصاص الدّم، و ديدان القزّ التي يصاد بها السّمك،

ثمّ استقرب المنع قال: «لندور الانتفاع فيشبه ما لا منفعة فيه إذ كل شي ء فله نفع ما.» انتهى. (3)

______________________________

(1) راجع مكاسب الدروس «1» و لا يخفى أنّ فضلات الإنسان تختلف بحسب الأزمنة و الأمكنة، و في بعض البلاد تباع و تشترى بأغلى الأثمان، و لعلّ بعض الحشرات أيضا كذلك فكان الأولى اكتفاءهم بذكر الضابط الكلي.

(2) في التنقيح: «كل واحد من الأعيان المبيعة لا يخلو إمّا أن لا يكون فيه نفع بوجه ما من الوجوه أو يكون، فإن كان الأوّل فلا يجوز بيعه كالخنافس و الديدان ...» «2»

(3) قد مرّت عبارة التذكرة «3»، و ما ذكره المصنّف: «من التزام جواز بيع كلّ ما له نفع ما، و لو فرض الشك في صدق المال و البيع أمكن الحكم بصحة المعاوضة لعمومات التجارة و العقود و نحوهما» كلام صحيح، إذ المالية تختلف باختلاف الرغبات، و لعلّ شي ء لا يرغب فيه الأكثر و لكن يرغب فيه بعض لخصوصية تلاحظ فيه و معها تعدّ عنده مالا و المعاملة عليه عقلائيّة و لا سيّما في عصرنا الذي

______________________________

(1) الدروس/ 328 (- ط. أخرى 3/ 167)، الدرس 232، الثالث مما يحرم الاكتساب به.

(2) التنقيح الرائع 2/ 10، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) راجع التذكرة 1/ 465. و قد مرّت في ص 418.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 423

أقول: و لا مانع من التزام جواز بيع كلّ ما له نفع ما. و لو فرض الشكّ في صدق المال على مثل هذه الأشياء المستلزم للشكّ في صدق البيع أمكن الحكم بصحة المعاوضة عليها لعمومات التجارة و الصلح و العقود و الهبة المعوضة و غيرها، و عدم المانع لأنّه ليس

إلّا أكل المال بالباطل، و المفروض عدم تحققه هنا.

______________________________

يتنوّع فيه الرغبات، و التمسك بالعمومات المذكورة أيضا بلا إشكال.

ثمّ إنّ عدم مالية شي ء قد يكون لقلّته كحبّة من حنطة مثلا، و قد يكون لكثرته كإناء من ماء في ساحل الشطّ مثلا، و قد يكون لخسّته و رداءته كبعض الحشرات التي لا يرغب فيها أصلا، و قد يكون لحرمة الانتفاع به شرعا كبعض الأعيان النجسة التي لا يوجد لها منفعة عقلائية محلّلة و لا يعدّ مالا عند المتشرّعة، و لأجل ذلك منعنا كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحة البيع بل جعلنا النوع الأوّل قسما من النوع الثالث كما مرّ بيانه.

و ليعلم كما مرّت إليه الإشارة: أنّ المالية إنّما تعتبر بلحاظ الفوائد الكامنة في الشي ء و الأغراض المترتبة عليه. و الفائدة لا تنحصر في مثل الأكل و الشرب و نحوهما، بل ربما يرغب العقلاء في شي ء بلحاظ فوائد معنوية أو علمية. و من ذلك حفظ بعض الحيوانات لظرافتها و نقوشها الجالبة أو نغماتها الحسنة أو للإحاطة العلمية بحركاتها و كيفية تعيّشها و تغذيها و توليدها و نحو ذلك. و من هذا القبيل أيضا حفظها في حديقة الوحوش لمشاهدة المراجعين. و قد لا يوجد في الشي ء رغبة عامّة و لكن يوجد فيه رغبة عقلائية لبعض الأشخاص، كما إذا فرض وجود ورقة خطّية مثلا عند البائع فرأى المشتري أنّ الخطّ فيها خطّ أبيه أو جدّه فأراد اشتراءها و حفظها بعنوان ذكرى أبيه أو جدّه.

فجميع هذه فوائد عقلائية محلّلة موجبة للرغبة و الماليّة و لو لبعض و لا وجه لمنع

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 424

..........

______________________________

المعاملة عليها.

بل قد لا يكون الغرض متعلقا بنفس الشي ء بل بشرائه و جمعه، كما

إذا هجمت الموذيات إلى المزارع فأراد الوالي أو المالك دفعها و انحصر ذلك في إعلان شرائها ممن يصرف وقته لجمعها، فهذه المعاملة أيضا عقلائيّة، فتدبّر.

ما استدلّ به لعدم صحّة بيع ما لا فائدة له
اشارة

قد ذكر في مصباح الفقاهة لذلك خمسة وجوه و ناقش فيها، فلنتعرّض لها و لمناقشاته ملخّصة:

الوجه الأوّل: أنه باطل فلا يجوز أخذ الثمن بإزائه

بمقتضى الآية الشريفة، كما مرّ في المتن عن إيضاح الفوائد.

و فيه ما مرّ من أنّ الاستدلال بالآية مبني على كون الباء فيها للمقابلة و هو ممنوع، إذ هي للسببية بقرينة الاستثناء الوارد فيها و الأخبار الواردة في تفسيرها بالقمار.

الوجه الثاني: أنّ أصل البيع كما عن المصباح المنير: «مبادلة مال بمال»، و ما لا نفع له لا يعدّ مالا.

و فيه أوّلا: أنّه لا يعتبر في مفهوم البيع و صدقه لغة و عرفا عنوان المبادلة بين المالين، و من هنا ذكر في القاموس: «أنّ كلّ من ترك شيئا و تمسّك بغيره فقد اشتراه»، و من الواضح عدم تحقق الاشتراء بدون البيع. و قال الراغب في المفردات: «البيع و الشراء متلازمان.» و قد كثر في الكتاب العزيز استعمال البيع و الشراء في غير المبادلة المالية: قال اللّه- تعالى-: الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا بِالْآخِرَةِ، إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمٰانِ. إلى غير ذلك من الآيات. و أمّا ما عن المصباح فمضافا إلى عدم حجية قوله إنّه ليس تعريفا حقيقيا بل لمجرد شرح

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 425

..........

______________________________

الاسم. و ثانيا: أنّه لو ثبت ذلك فغاية ما يلزم منه عدم كون المعاملة بيعا و لكن يمكن تصحيحها بعمومات العقود و التجارة و نحوهما.

الوجه الثالث: أنّ المعاملة على ما لا نفع له سفهية فتكون فاسدة لذلك.

و فيه منع ذلك صغرى و كبرى: أمّا الصغرى فلأنّها إنّما تكون سفهية إن انتفت فيها الأغراض النوعية و الشخصية كلتاهما، و المقام ليس كذلك، إذ ربما تتعلق الأغراض الشخصية باشتراء ما لا نفع فيه من الحشرات و غيرها. و أمّا الكبرى فلعدم الدليل على بطلان المعاملة السفهية بعد شمول العمومات لها. و إنّما الثابت بالأدلّة بطلان معاملة السفيه لكونه محجورا عن التصرّف.

الوجه الرابع: ما ذكره المصنّف من قوله عليه السّلام في رواية تحف العقول:

«و كلّ شي ء لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال بيعه و شراؤه»، إذ لا يراد به مجرّد المنفعة و إلّا لعمّ الأشياء كلّها، و قوله عليه السّلام في آخرها: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضا نظير كذا و كذا.» فإنّ كثيرا من الأمثلة المذكورة هناك لها منافع محلّلة، فإنّ الأشربة المحرّمة كثيرا ما ينتفع بها في معالجة الدوابّ و المرضى فجعلها مما يجي ء منه الفساد محضا باعتبار عدم الاعتناء بهذه المصالح لندرتها.

و فيه: أنّ هاتين القطعتين من الرواية إنّما سيقتا لبيان حكم الأشياء التي تمحّضت للصلاح أو الفساد أو تساوت فيها الجهتان أو غلبت إحداهما على الأخرى فيحكم بصحة بيعها أو فساده. و أمّا الأشياء التي لها نفع محلّل نادر فخارجة عن حدود الرواية، إذ ليس فيها تعرّض لذلك بوجه، و عليه فلا مانع من صحّة المعاملة عليها للعمومات.

الوجه الخامس: دعوى غير واحد الإجماع على ذلك.

و فيه: أنّ المحصّل منه غير حاصل، و المنقول منه ليس بحجة، على أنّه لا نطمئن بوجود الإجماع التعبّدي الكاشف عن الحجة المعتبرة لاحتمال استناد المجمعين إلى

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 426

..........

______________________________

الوجوه المذكورة في المسألة.» «1»

أقول: ما ذكره في الوجه الثالث من عدم الدليل على بطلان المعاملة السفهية يمكن أن يناقش فيه بأنّ الظاهر أنّ حكم الشارع ببطلان معاملة السفيه ليس إلّا كون معاملاته في معرض وقوعها سفهية موجبة لتضييع المال، فلا يحتمل صحة المعاملة التي تعدّ عند العقلاء سفهية و الحال أنّ معرضيتها لذلك موجبة لبطلانها، فتدبّر. هذا.

و الأستاذ الإمام «ره» بعد ما تعرّض لأقسام ما لا منفعة له كما مرّ ذكر وجها آخر لبطلانها و أطال الكلام في بيانه، و نحن نذكر كلامه ملخصا

تتميما للفائدة، قال:

«فإن كان عدم المنفعة لخسّته فلا ينبغي الإشكال في بطلانها، و هو المتيقّن من معقد الإجماع المحكي عن المبسوط و غيره.

و يدلّ عليه- مضافا إلى ذلك- عدم صدق واحد من عناوين المعاملات عليها، لأنّ حقيقة المعاوضة و نحوها- كالهبة مجانا- متقوّمة بتبديل الإضافات الخاصّة.

فالبيع عبارة عن مبادلة مال بمال أو عين بعين، لا مطلقا و لا في ذاتهما أو أوصافهما الحقيقيّة و لا في مطلق الإضافات، بل في إضافة خاصّة هي إضافة الملكية أو الأعمّ منها و من إضافة الاختصاص. و الهبة عبارة عن تمليك عين مجانا أو في مقابل تمليك عين مثلا، و حقيقتها أيضا نقل الإضافة الخاصّة أو تبديلها.

فمع عدم اعتبار العقلاء الملكية أو الاختصاص لشي ء بالنسبة إلى شخص لا يمكن تحقق العناوين المتقومة بهما و هو واضح. و لا ريب في أنّ اعتبار الملكية أو الاختصاص لدى العقلاء ليس جزافا و عبثا، بل للاعتبارات العقلائية مناشئ و مصالح. فاعتبار الملكية أو الاختصاص فيما لا ينتفع به و لا يرجى هي منه و لا يكون موردا لغرض عقلائي نوعي أو شخصي لغو صرف و عبث محض.

______________________________

(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 193، في النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 427

..........

______________________________

فمثل البرغوث و القمّل ليس ملكا لأحد و لا لأحد حقّ اختصاص به. فما ربما يقال: إنّ للإنسان حقّ اختصاص بالنسبة إلى فضلاته ليس وجيها على إطلاقه، فالنخامة الملقاة على الأرض ليست ملكا لصاحبها و لا له حقّ اختصاص بها أعرض عنها أم لم يعرض.

و بالجملة اعتبار الملكية و حقّ الاختصاص تابع لجهة من جهات المصالح، و ما لا نفع فيه مطلقا و لا غرض لأحد في

اقتنائه لا يعتبر ملكا و لا مختصا بأحد، فأساس المعاملات المتقومة بالإضافتين منهدم رأسا، بل الظاهر عدم صدق شي ء من عناوين المعاملات مع فقد المالية مطلقا.

فما قيل من أنّ البيع عبارة عن تبديل عين بعين من غير اعتبار المالية فيهما ساقط لا ينبغي أن يصغى إليه.

كما أنّ توهّم الافتراق بين البيع و بين العقد و التجارة غير وجيه، لاشتراك الجميع في عدم الصدق و في عدم المناط لاعتبار العقلاء.

و من هنا يظهر جواز التمسك بقوله- تعالى-: لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ. فإنّ الظاهر منه أنّ الأكل بغير التجارة مطلقا منهيّ عنه، فالأمر دائر بين أمرين لا ثالث لهما، فإذا لم يصدق على مورد التجارة عن تراض يدخل في مقابله، بل لو شك في صدق أكل المال بالباطل في مورد لكن علم عدم صدق التجارة فيه يرفع الشكّ عنه و ينسلك في الأكل بالباطل. كما أنّه لو فرض الشك في صدق التجارة و علم أنّه أكل المال بالباطل يرفع الشك عنه، فالعلم بكل طرف إثباتا و نفيا رافع للشك عن الآخر كذلك كما هو الشأن في المنفصلتين الحقيقيتين.

و أمّا الاستدلال على البطلان بسفهية المعاملة فغير وجيه، لأنّ البطلان من ناحيتها- على القول به- إنّما هو بعد فرض صدق المعاملة، و أمّا مع عدم الصدق

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 428

..........

______________________________

كما في المقام فلا موضوع لها.

و يلحق بما تقدم في البطلان ما لا منفعة عقلائية له و لم يتعلق به غرض عقلائي كاشتراء الزيز مثلا لاستماع صوته و الجعل لرؤية تلاعبه مع العذرة، و ذلك لأنّ المعاملة سفهية غير عقلائية، و الأدلة العامّة كقوله- تعالى-: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و نحوه

غير شاملة لها، إمّا لعدم صدق هذه العناوين عليها كما لا يبعد- و مع الشك فالمرجع أصل الفساد- أو لانصرافها عنها فإنّها أدلة إمضائية لما لدى العقلاء و ليست بصدد تأسيس أمر زائد على ذلك لا سيّما مثل الأعمال السفهية التي هي أضحوكة العقلاء و تتنفر عنها الطباع السّليمة، بل لو تعارف أمر سفهي بين أراذل الناس لا يمكن كشف رضى الشارع عنه لو لم يصل إلينا الردع لغاية بعد رضاه بما هو سفهي، بل لا يبعد صدق الأكل بالباطل على مثلها.

و يلحق به أيضا بيع ما لا مالية له لقلّته كحبّة من خردل، أو لكثرته كالثلج في الشتاء مع عدم تعلق غرض عقلائي بالمعاملة، و ذلك أيضا لسفهيتها، بل لا يبعد عدم صدق عنوان المعاملة عليها، و لا أقلّ من الشك فيه.

و يلحق به أيضا ما له منفعة نادرة جدّا بحيث يعدّ لدى العقلاء كلا منفعة لندورها.

فالميزان في الصحّة عقلائية المعاملة و الخروج عن السفهية، سواء كانت متعلقة لغرض شخص خاصّ، كمن ابتلي بمرض لا يبتلى به غيره و كان دواؤه شيئا لا يرغب فيه أحد، فإنّ اشتراءه لغرضه عقلائي و المعاملة من أوضح مصاديق المعاملات العقلائية و تشملها الأدلة، أو لأغراض عقلائية نادرة.

و أمّا ما لا تكون له منفعة مطلقا أو عقلائية، و لكن كان في المعاملة غرض عقلائي كما لو هجمت الموذيات إلى المزارع فأراد الحاكم أو المالك شراءها لقلع مادتها فالتحقيق صحتها و عقلائيتها، لأنّ مالية الشي ء و مراتبها تابعة للعرض

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 429

..........

______________________________

و التقاضي.

فما تعلق باشترائه غرض سياسي أو اقتصادي مثلا صار ذلك منشأ للرغبة في اشترائه و أوجبت ذلك حدوث المالية فيه، فلا ينبغي

الإشكال في صحّة تلك المعاملات و صدق البيع و التجارة و العقد عليها، و الحكم بالبطلان يحتاج إلى دليل.

و أمّا القول باعتبار كون المنفعة غير نادرة- و لو مع كون الندرة بحيث لم تخرج المعاملة عن العقلائية- بدعوى اعتبار ذلك شرعا إمّا لقيام الإجماع عليه أو لدلالة بعض الروايات ففيه ما لا يخفى ...» «1» انتهى كلام الأستاذ «ره».

أقول: أمّا ما ذكره أخيرا من الإشكال في الإجماع و الروايات المشار إليها فسيأتي بيان ذلك عن قريب في ذيل تعرّض المصنّف لهما.

و أمّا ما ذكره في أثناء كلامه من جواز التمسك بآية: لٰا تَأْكُلُوا للمنع في المقام فيمكن أن يناقش فيه بأنّه مخالف لما مرّ منه في أوائل البحث من أنّ الأكل بالباطل ليس بنفسه موضوعا للحرمة و الفساد، بل الباطل في الآية عنوان مشير إلى العناوين الأخر من القمار و السرقة و نحوهما من الأسباب الباطلة، اللّهم إلّا أن يجاب بأنّه «ره» أراد أنّ ظاهر الآية حرمة أكل كلّ ما انتقل إلى الإنسان بغير التجارة عن تراض بأيّ سبب كان، و حيث إنّ التجارة لا تصدق على المعاملة على ما لا نفع فيه أو تكون منصرفة عنها فلا محالة ينطبق عليها أحد العناوين الباطلة كالاختلاس أو التغرير أو نحوهما، فيكون التصرف فيما أخذ حراما و المعاملة باطلة بمقتضى حصر السبب الناقل شرعا في التجارة عن تراض.

ثمّ إنّه يرد على ما ذكره من الحصر عدم انحصار السبب الناقل شرعا في التجارة لصحة الهبة شرعا و لا يصدق عليها عنوان التجارة قطعا، فالحصر إضافي.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمه 1/ 160 (- ط. أخرى 1/ 241)، في القسم الثالث مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 430

فالعمدة

في المسألة الإجماع على عدم الاعتناء بالمنافع النادرة (1)،

______________________________

و كان عليه «ره» في مثال الزيز و الجعل رعاية الترتيب في البيان بأن يمنع أوّلا صدق عناوين المعاملات و على فرض الصدق ينصرف عنها أدلتها و لا سيّما مع كونها سفهية عند العقلاء، إذ ليست هي للتأسيس بل لإمضاء ما دار في العقلاء و شاع بينهم عملا.

و كيف كان فلو لم يكن في الشي ء نفع أصلا و لا في المعاملة عليه غرض عقلائي و لو شخصي فالظاهر بطلان المعاملة عليه لما ذكره الأستاذ «ره» من عدم اعتبار العقلاء الملكية أو الاختصاص بالنسبة إليه، و لو سلّم كانت المعاملة بالنسبة إليه سفهية، و ليس بطلان معاملات السفيه و حجره عن التصرف إلّا لكون معاملاته في معرض وقوعها سفهية و كون الغالب عليها ذلك، فتدبّر.

هذا إذا لم يكن في الشي ء نفع أصلا و لا غرض عقلائي في المعاملة عليه.

و أمّا إذا وجدت فيه منفعة و لو جزئية موجبة للرغبة فيه و لو في زمان خاصّ أو مكان خاصّ أو شرائط خاصّة أو تعلّق بالمعاملة عليه غرض عقلائي كذلك بحيث عدّ مالا حينئذ و المعاملة عليه عقلائية فلا وجه لبطلان المعاملة عليه، و يشملها العمومات و سيرة العقلاء. و ما يأتي من المصنّف من الإجماع و الروايات على عدم الاعتناء بالمنافع النادرة يأتي الجواب عنه آنفا.

(1) مرّ الإشكال في ثبوت الإجماع في المسألة بنحو يكشف به فتوى المعصوم عليه السّلام أو النصّ المعتبر «1»، و من المحتمل جدّا استناد المجمعين إلى بعض ما مرّ من الأدلّة على المنع، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، و على فرض ثبوته فإنّما هو فيما لا نفع له أصلا. و موضوع المنع في

كلام الأكثر كان عنوان ما لا ينتفع به، و ظاهره عدم النفع مطلقا بحيث تعدّ المعاملة عليه سفهيّة. و الحيوانات التي ذكروها

______________________________

(1) راجع ص 414 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 431

[التمسك بالأخبار]

و هو الظاهر من التأمّل في الأخبار أيضا، مثل ما دلّ على تحريم بيع ما يحرم منفعته الغالبة مع اشتماله على منفعة نادرة محلّلة مثل قوله عليه السّلام:

«لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها.» (1) بناء على أنّ للشحوم منفعة نادرة محلّلة على اليهود، لأنّ ظاهر تحريمها عليهم تحريم أكلها أو سائر منافعها المتعارفة. فلو لا أنّ النادر في نظر الشارع كالمعدوم لم يكن وجه للمنع عن البيع، كما لم يمنع الشارع عن بيع ما له منفعة محلّلة مساوية للمحرمة في التعارف و الاعتداد.

______________________________

لذلك بعنوان المثال كانت مما يحرم أكلها عندنا و لم يكن لها في تلك الأعصار منفعة محلّلة غير الأكل توجب الرغبة في اشترائها، فلأجل ذلك حكموا بحرمة التجارة عليها و استثنوا منها ما كان ينتفع بها للصيد و نحوه كالفهود و البزاة و سباع الطير في عبارة المقنعة و الفهود و الهرّ في عبارة النهاية. و ذكر هذه الحيوانات في الكتب المعدّة لنقل المسائل المأثورة كان بلحاظ كون حرمة لحمها مأثورة لا حرمة التجارة عليها، فراجع ما حرّرناه في ذيل ما حكيناه من كلمات الأصحاب في المسألة. «1»

(1) في المستدرك عن عوالي اللآلي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها، و إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه.» قال: و رواه في الدعائم عنه صلّى اللّه عليه و

آله إلى قوله:

«و أكلوا»، و فيه موضع ثمنها: «أثمانها.» «2»

أقول: و الرواية عامية رواها أرباب السنن و المسانيد منهم عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و في أكثر النقول كلمة الأكل:

______________________________

(1) راجع ص 415 و ما بعدها.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8؛ و عوالي اللآلي 1/ 181، الحديث 240؛ و الدعائم 1/ 122.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 432

..........

______________________________

ففي سنن أبي داود السجستاني في باب ثمن الخمر و الميتة بسنده عن ابن عباس قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جالسا عند الركن، قال: فرفع بصره إلى السّماء فضحك فقال: «لعن اللّه اليهود- ثلاثا- إن اللّه- تعالى- حرّم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها، و إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي ء حرّم عليهم ثمنه.» «1»

و رواها أحمد أيضا في ثلاثة مواضع من مسنده و في موضع منها بدون كلمة الأكل. «2»

و حرمة الثمن كناية عن فساد المعاملة، فيظهر من الرواية وجود الملازمة شرعا بين حرمة أكل الشي ء و فساد بيعه، و الالتزام بهذا الإطلاق مشكل، فوجب أن تحمل على صورة كون المبيع مما يترقّب منه الأكل و يصرف عادة فيه و وقع بيعه لذلك، و لعلّ هذا هو المتبادر منها، و لعلّ اليهود أيضا كانوا يبيعون الشحوم لمن يصرفها في الأكل مع حرمة أكلها على أنفسهم. هذا.

و لكن قصّة بيع اليهود للشحوم رواها جابر أيضا عنه صلّى اللّه عليه و آله بدون الضابطة المذكورة في الذيل:

ففي سنن أبي داود أيضا في الباب المذكور بسنده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله يقول عام الفتح و هو بمكة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود، إنّ اللّه لمّا حرّم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.» و رواها بسند آخر أيضا عن جابر و ليس فيه: «هو حرام.» «3»

______________________________

(1) سنن أبي داود 2/ 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة، الحديث 4.

(2) راجع مسند أحمد 1/ 247 و 293 و 322، في مسند عبد اللّه بن عباس.

(3) سنن أبي داود 2/ 250- 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة، الحديثين 2 و 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 433

و أوضح من ذلك قوله عليه السّلام في رواية تحف العقول في ضابط ما يكتسب به: «و كلّ شي ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال بيعه و شراؤه الخ.» إذ لا يراد منه مجرّد المنفعة و إلّا لعمّ الأشياء كلّها. و قوله في آخرها: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضا نظير كذا و كذا» إلى آخر ما ذكره، فإنّ كثيرا من

______________________________

و رواها الشيخ أيضا في بيوع الخلاف عن جابر (المسألة 311). «1»

أقول: السفن- محرّكة-: جلد خشن كان يجعل على قوائم السيوف.

و في نهاية ابن الأثير: «جملت الشحم و أجملته: إذا أذبته و استخرجت دهنه، و جملت أفصح من أجملت.» «2»

و لعلّ الظاهر من هذه الرواية أنّ الشحوم كانت محرّمة على اليهود بجميع انتفاعاتها،

إلّا أن يقال: إنّها كانت لهم بحكم الميتة، و لا نسلّم حرمة جميع الانتفاعات منها، بل المحرّم منها- مضافا إلى الأكل- استعمالها فيما يقع التماسّ معها كثيرا بحيث يوجب تنجيس مظاهر التعيش.

و يظهر من المصنّف هنا أنّ للشحوم منفعة نادرة غير محرّمة على اليهود، و على ذلك بنى الاستدلال بالرواية للمقام.

و هذا ينافي ما مرّ منه في مسألة بيع الأبوال حيث قال: «و الظاهر أنّ الشحوم كانت محرّمة الانتفاع على اليهود بجميع الانتفاعات لا كتحريم شحوم غير المأكول علينا.»

و إذا احتملنا حرمة جميع الانتفاعات لهم و لو كانت نادرة فالاستدلال بالرواية للمقام يصير بلا وجه، مضافا إلى كون الرواية عامّية.

______________________________

(1) الخلاف 3/ 186 (- ط. أخرى 2/ 83).

(2) النهاية لابن الأثير 1/ 298.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 434

الأمثلة المذكورة هناك لها منافع محلّلة، فإنّ الأشربة المحرمة كثيرا ما ينتفع بها في معالجة الدوابّ بل المرضى، فجعلها مما يجي ء منها الفساد محضا باعتبار عدم الاعتناء بهذه المصالح لندرتها. (1)

______________________________

(1) أقول:- مضافا إلى ضعف الرواية و اضطرابها متنا- قد مرّ عن مصباح الفقاهة الجواب عن هذا الدليل «1» بأنّ هاتين القطعتين من الرواية سيقتا لبيان حكم الأشياء التي تمحّضت للصلاح أو للفساد أو وجدت فيها الجهتان معا بالتساوي أو بالاختلاف. و أمّا الأشياء التي لا فساد فيها و لها نفع محلّل نادر فخارجة عن حدود الرواية، إذ ليس فيها تعرّض لها، فلا مانع من صحّتها بعد شمول العمومات لها.

فإن قلت: الرواية في مقام بيان إعطاء الضابطة الكلية للمعاملات الصحيحة و الفاسدة فإذا انصرفت الفقرة الأولى المتصدية لبيان المعاملات الصحيحة عن المقام لندور النفع فيه دخلت المعاملة عليه لا محالة في القسم الفاسد.

قلت: أوّلا: الالتزام

بعكس ذلك أولى، إذ الفقرة الثانية مشتملة على أداة الحصر، فمفادها حصر المعاملات الفاسدة فيما اشتمل على الفساد محضا، و المفروض في المقام عدم الفساد.

و ثانيا: يمكن منع الانصراف المذكور، إذ الصحّة إذا كانت دائرة مدار وجود المصلحة فأيّ تفاوت بين كونها غالبة أو نادرة بعد فرض وقوع المعاملة عليه بلحاظ المصلحة الموجودة؟

و ثالثا: لو سلّم تعارض الفقرتين أو انصرافهما بالنسبة إلى المقام كان المرجع عمومات العقود و التجارة و نحوهما.

و رابعا: كون الرواية بصدد بيان الضابط لجميع المعاملات ممنوع، بل الظاهر كونها في مقام بيان الضابط للمعاملات الرائجة بين العقلاء في تعيّشهم، و المقام

______________________________

(1) راجع ص 425 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 435

[الإشكال في تعيين المنفعة النادرة و تميزها عن غيرها]

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 435

إلّا أنّ الإشكال في تعيين المنفعة النادرة و تميزها عن غيرها، فالواجب الرجوع في مقام الشكّ إلى أدلّة التجارة و نحوها ممّا ذكرنا.

______________________________

ليس من هذا القبيل لندورها. و يشهد بذلك صدر الرواية أعني قوله: «سأله سائل فقال: كم جهات معايش العباد التي فيها الاكتساب و التعامل بينهم؟»

فإن قلت: ما ذكرت إلى هنا كان في المعاملة على ما لا نفع فيه إلّا منفعة نادرة محلّلة، و أمّا ما حرمت منافعه الغالبة و اشتمل على منفعة محلّلة نادرة أيضا فالظاهر شمول الفقرة الثانية له، فإنّ بعض أمثلتها كالأشربة المحرّمة مثلا يمكن أن ينتفع بها في معالجة الدوابّ بل المرضى و مع ذلك حكمت بحرمة المعاملة عليها، فيظهر بذلك عدم اعتناء الشارع بهذه المصالح النادرة- كما في كلام المصنّف-.

قلت: لا نسلّم حرمة المعاملة عليها

بلحاظ هذه المصالح مع الحاجة إليها، و قد مرّ منا في مبحث بيع الخمر جواز بيعها للتخليل مثلا. «1» و أدلّة تحريم صنعها و بيعها و منها هذه الرواية منصرفة إلى صناعتها و بيعها للمنافع المحرمة.

فقوله صلّى اللّه عليه و آله في صحيحة محمد بن مسلم مثلا: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها» «2» يظهر منه بمناسبة الحكم و الموضوع و تعليق الحكم على الوصف فساد بيعها بقصد شربها المحرّم لا مطلقا، فراجع ما حرّرناه في مبحث بيع الخمر و نحوها. «3» هذا.

و ناقش في مصباح الفقاهة في الاستدلال بالرواية بوجه آخر أيضا فقال: «هي مختصّة بالحرمة التكليفية على ما تقدم في أوّل الكتاب فلا تشمل الحرمة الوضعية.» «4»

______________________________

(1) راجع 1/ 451 و ما بعدها من الكتاب.

(2) الوسائل 12/ 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3) راجع 1/ 451 و 469 و 185 و ما بعدها و غيرها من الكتاب.

(4) مصباح الفقاهة 1/ 194، في النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 436

..........

______________________________

أقول: قد مرّ من المصنّف و منّا أيضا أنّ محطّ النظر في رواية تحف العقول بيان المعاملات الصحيحة و الفاسدة و أن المراد بالحرمة فيها هي الوضعية، و إطلاق لفظي الحرمة و الحليّة في باب المعاملات ينصرف إلى الوضع، و ليس استعمالهما فيه مجازا، بل الموضوع له لهما بحسب الوضع هو الأعمّ، فيراد بالحرمة:

المحدودية و بالحلّية: الإطلاق و عدم المحدودية، فراجع ما حرّرناه في الجهة الثالثة في شرح الرواية. «1»

______________________________

(1) راجع 1/ 86 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 437

[حكم بيع السباع]
اشارة

و منه يظهر أنّ الأقوى جواز بيع السباع بناء على وقوع التذكية عليها،

للانتفاع البيّن بجلودها، و قد نصّ في الرواية على بعضها، و كذا شحومها و عظامها. (1)

______________________________

حكم بيع السباع

(1) أقول: قد مرّ منّا البحث في بيع المسوخ بما هي مسوخ عند إشارة المصنّف إليه في آخر البحث عن بيع النجاسات، فراجع. «1» و قد كان البحث عنه هناك بلحاظ قول البعض بنجاستها كما أفتى بها الشيخ في أطعمة الخلاف (المسألة 2)، «2» و المبحوث عنه هنا بيع السباع و نحوها بلحاظ وجود المنفعة و عدمها،

[بعض كلمات الأصحاب في المقام]

فلنذكر بعض كلماتهم في هذا المقام فنقول:

1- قد مرّ عن مكاسب المقنعة قوله: «و التجارة في الفهود و البزاة و سباع الطير التي يصاد بها حلال.» «3»

2- و مرّ عن مكاسب النهاية قوله: «و بيع جميع السباع و التصرّف فيها و التكسب بها محظور إلّا الفهود خاصّة فإنّه لا بأس بالتكسب بها و التجارة فيها

______________________________

(1) راجع 1/ 473 من الكتاب.

(2) الخلاف 6/ ... (- ط. أخرى 3/ 264).

(3) المقنعة/ 589، باب المكاسب. و قد مرّ في ص 415.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 438

..........

______________________________

لأنّها تصلح للصيد، و لا بأس بشري الهرّ و بيعه و أكل ثمنه.» «1»

3- و فيها أيضا: «و لا بأس ببيع عظام الفيل و التكسب بصنعته و اتخاذ الأمشاط منها و غير ذلك. و لا بأس ببيع جلود السباع مثل الفهد و الأسد و النمر و غير ذلك إذا كانت مذكّاة.» «2»

أقول: لا يخفى أنّ بين الكلامين نحو تهافت، إذ مع فرض جواز بيع جلود السباع يكشف وجود المنفعة المحلّلة فيها، فيجوز بيع أنفسها أيضا بلحاظ ذلك.

و ظاهر هذه الكلمات كون جواز البيع دائرا مدار وجود المنفعة المحلّلة، و ليس الجواز أو المنع بلحاظ تعبد خاصّ

في كلّ مورد.

4- و في المبسوط في عداد ما ينتفع به من الحيوانات قال: «و ما لا يؤكل لحمه مثل الفهد و النمر و الفيل و جوارح الطير مثل البزاة و الصقور و الشواهين و العقبان و الأرانب و الثعالب و ما أشبه ذلك- و قد ذكرناه في النهاية- فهذا كلّه يجوز بيعه.» «3»

5- و في السرائر بعد نقل كلام النهاية من عدم جواز بيع المسوخ قال: «قال محمّد بن إدريس: قوله- رحمه اللّه-: الفيلة و الدببة، فيه كلام، و ذلك أنّ كلّ ما جعل (حلّل- ظ.) الشّارع و سوّغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه و ابتياعه لتلك المنفعة، و إلّا يكون قد حلّل و أباح و سوّغ شيئا غير مقدور عليه. و عظام الفيل لا خلاف في جواز استعمالها مداهن و أمشاطا و غير ذلك، و الدبّ ليس بنجس السؤر بل هو من جملة السّباع، فعلى هذا جلده بعد ذكاته و دباغه طاهر ... و قد قلنا ما عندنا في السباع و جلودها، و هو أنّه يجوز بيعها لأخذ جلدها، لأنّ جلود

______________________________

(1) النهاية لشيخ الطائفة/ 364، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(2) نفس المصدر و الباب/ 369.

(3) المبسوط 2/ 166، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 439

..........

______________________________

السباع لا خلاف أنّها مع الذكاة الشرعية يجوز بيعها و هي طاهرة، و بمجرد الذكاة يجوز بيع الجلود بلا خلاف و بانضمام الدباغ يصحّ التصرف فيها في جميع الأشياء من لبس و فرش و دثار و خزن المائعات لأنّها طاهرة، إلّا الصلاة فإنّها لا تجوز فيها فحسب ...» «1»

أقول: اعتبار الدباغ في جواز التصرف

فيها مفاد بعض الروايات كما يأتي، و الظاهر أنّ اعتباره ليس بلحاظ مطهّريته- على ما عند العامّة- إذ لا نقول نحن بذلك بعد فرض نجاسة الجلد كالميتة، بل لعلّه بلحاظ أنّ استعمال غير المدبوغ يوجب وقوع بعض شعراته على الألبسة فتمنع عن الصلاة.

6- و مرّ عن الشرائع قوله: «و قيل: يجوز بيع السباع كلّها تبعا للانتفاع بجلدها أو ريشها، و هو الأشبه.» «2»

7- و مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنابلة: «و يجوز بيع سباع البهائم كالفيل و السبع و نحوهما، كما يجوز بيع جوارح الطير كالصقر و الباز.»

و عن الحنفية: «و يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح كالأسد و الذئب و الفيل و سائر الحيوانات سوى الخنزير إذا كان ينتفع بها أو بجلودها على المختار.» «3»

[الروايات الواردة في المقام]
اشارة

أقول: هذه بعض كلماتهم في بيع السباع و التجارة فيها، فلنتعرّض للروايات الواردة فيها. و الأولى- كما صنع المصنّف- إفراد الهرّ و القرد، فلنذكر أوّلا الأخبار الواردة في غيرهما، و هي على طوائف:

______________________________

(1) السرائر 2/ 220، باب ضروب المكاسب.

(2) الشرائع/ 264 (- ط. أخرى 2/ 10)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

(3) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 232، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 440

..........

______________________________

الأولى: ما يظهر منها جواز بيع نفس الحيوان.

الثانية: ما وردت في حكم بيع جلودها و الانتفاع بها و بلحومها.

الثالثة: ما دلّت على جواز الانتفاع بعظام الفيل. و لا يخفى أنّ جواز الانتفاع بها يوجب ماليّتها، و مقتضى ذلك صحة بيعها و بيع الحيوان أيضا.

أمّا الطائفة الأولى فصحيحة عيص بن القاسم،

قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الفهود و سباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال: «نعم.» «1»

و لعلّها مستند المفيد و الشيخ فيما حكيناه عن المقنعة و النهاية. و التعليل بكونها ممّا يصاد بها اجتهاد منهما- و نعم الاجتهاد- و مقتضاه التعدّي إلى كلّ ما ينتفع به نفعا عقلائيّا.

الطائفة الثانية: ما وردت في حكم بيع جلودها و الانتفاع بالجلود و اللحوم،

و هي كثيرة:

1- ما رواه أبو مخلّد السرّاج، قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام إذ دخل عليه معتّب فقال: بالباب رجلان، فقال: «ادخلهما»، فدخلا، فقال أحدهما: إني رجل سرّاج أبيع جلود النمر. فقال: «مدبوغة هي؟» قال: نعم. قال: «ليس به بأس.» «2»

و السند إلى أبي مخلّد لا بأس به، و أبو مخلّد لم يوثق و لكن يروي عنه الثقات كصفوان و ابن أبي عمير و غيرهما.

و السؤال- من حيث التذكية و عدمها- مطلق، و الدباغ عندنا لا يطهّر الميتة، فلعل محطّ السؤال الجلود المذكّاة، و اعتبار الدباغ كان بلحاظ عدم وقوع شعراتها على اللباس فتمنع عن الصلاة، و يحتمل فيها التقية أيضا.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 123، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر 12/ 124، الباب 38 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 441

..........

______________________________

2- موثقة سماعة، قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده و أمّا الميتة فلا.» «1»

و الرواية صريحة في قبول السّباع للتذكية الشرعية.

3- موثقة أخرى لسماعة، قال: سألته عن لحوم السباع و جلودها؟ فقال: «أمّا لحوم السباع فمن الطير و الدوابّ فإنّا نكرهه. و أمّا الجلود فاركبوا عليها و لا تلبسوا منها شيئا تصلّون فيه.» «2»

و الظاهر أنّ الركوب عليها من باب

المثال، فيجوز جميع الانتفاعات بعد تذكيتها ما عدا الصلاة فيها. و الكراهة في لسان القرآن و الحديث أعمّ من الحرمة، بل لعلّ الظاهر منها الحرمة، و التخصيص بهم عليهم السّلام من جهة تحليل أهل الخلاف لحوم بعضها، و الظاهر أنّ محطّ النظر في اللحوم خصوص الأكل، فلا تنافي الرواية بيع لحومها لتغذية الكلاب أو الطيور مثلا لجواز هذا النحو من الانتفاعات قطعا.

4- موثقة ثالثة له، قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن جلود السباع؟ فقال:

«اركبوها و لا تلبسوا شيئا منها تصلّون فيه.» «3»

و الظاهر أنّها قطعة مما قبلها.

5- ما رواه البرقي عن علي بن أسباط، عن علي بن جعفر، عن أخيه قال:

سألته عن ركوب جلود السباع؟ فقال: «لا بأس ما لم يسجد عليها.» «4»

و لعلّ السجود عليها كناية عن الصلاة فيها، فتأمّل. و العامّة يسجدون على كلّ شي ء فلعلّه عليه السّلام أراد الردع عن ذلك.

______________________________

(1) نفس المصدر 16/ 368 (- ط. أخرى 16/ 453)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرّمة، الحديث 4.

(2) نفس المصدر 3/ 256، الباب 5 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 442

..........

______________________________

6- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه، قال: سألته عن جلود السباع و بيعها و ركوبها أ يصلح ذلك؟ قال: «لا بأس ما لم يسجد عليها.» «1»

و لا يخفى اتحاد الروايتين، و صاحب الوسائل فرّق بينهما.

7- صحيحة علي بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن لباس الفراء و السمّور و الفنك و الثعالب و جميع الجلود قال: «لا بأس بذلك.» «2»

و الظاهر حملها على التقية أو على

غير الصلاة فيها، إذ لا يجوز عندنا الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه و إن كان مذكّى.

أقول: الفراء- بالهمز و فتحتين-: حمار الوحش. و بكسر الفاء ممدودا جمع فرو: جبّة تصنع من الجلود. و الفنك بفتحتين: حيوان صغير يشبه الثعلب.

و الرواية عامّة تشمل جميع الجلود.

8- رواية ذريح المحاربي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن جلود السباع التي يجلس عليها؟ فقال: «ادبغوها.» فرخّص في ذلك. «3»

و الكلام فيها هو الكلام فيما مرّ من رواية أبي مخلّد.

فهذه أخبار يستفاد منها جواز الانتفاع بجلود السباع المستلزم لجواز البيع كما مرّ، و لعلّ هذا يستفاد من بعض الأخبار الأخر أيضا، فراجع.

و بإزاء هذه الأخبار بعض الأخبار التي يستفاد منها المنع:

1- ما رواه في الجعفريات بسنده عن علي بن أبي طالب عليه السّلام، قال: «من السحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح و كسب الحجام ... و ثمن النرد و ثمن القرد و جلود السّباع و جلود الميتة قبل أن تدبغ. الحديث.» «4»

______________________________

(1) نفس المصدر 12/ 124، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) نفس المصدر 3/ 256، الباب 5 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 436، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) نفس المصدر 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ عن الجعفريات/ 180.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 443

..........

______________________________

2- ما رواه في دعائم الإسلام عن علي عليه السّلام أنّه قال: «من السحت ثمن جلود السباع.» «1»

أقول: الروايتان مع عدم ثبوت صحتهما لا تقاومان الأخبار السابقة مع كثرتها و صحة بعضها.

و الظاهر أنّ التعبير بالسّحت ليس لبيان الحرمة بل لبيان خسّة الاكتساب و مهانته

بحيث يتنفر منه الطباع، و لذا أطلق في الروايات على بعض ما يحلّ قطعا أيضا مثل كسب الحجام.

و في النهاية: «يرد في الكلام على الحرام مرّة و على المكروه أخرى، و يستدلّ عليه بالقرائن.» «2» و قد مرّ تفصيل معنى الكلمة في المباحث السابقة. «3»

[الطائفة الثالثة:] الانتفاع بعظام الفيل و عاجه و بيعها و شراؤها

الطائفة الثالثة: ما دلّت على جواز الانتفاع بعظام الفيل و عاجه:

1- ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن الحسن بن عاصم، عن أبيه قال: دخلت على أبي إبراهيم عليه السّلام و في يده مشط عاج يتمشّط به، فقلت له: جعلت فداك، إنّ عندنا بالعراق من يزعم أنّه لا يحلّ التمشط بالعاج، فقال: «و لم؟ فقد كان لأبي منها مشط أو مشطان.» ثم قال: «تمشّطوا بالعاج، فإنّ العاج يذهب بالوباء.» «4»

و الحسين و أبوه الحسن مجهولان «5»، و لكن الراوي عنه ابن أبي عمير الذي

______________________________

(1) نفس المصدر 2/ 436، الباب 31 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2؛ عن الدعائم 1/ 126.

(2) النهاية لابن الأثير 2/ 345.

(3) راجع 1/ 204 و ما بعدها من الكتاب.

(4) الوسائل 1/ 427، الباب 72 من أبواب آداب الحمام، الحديث 1.

(5) راجع تنقيح المقال 1/ 286، عنون فيه الأب فقط.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 444

..........

______________________________

قال الشيخ في حقه أنّه لا يروي و لا يرسل إلّا عن ثقة. «1»

2- خبر موسى بن بكر، قال: رأيت أبا الحسن عليه السّلام يتمشّط بمشط عاج، و اشتريته له.

أقول: ذكر في الوسائل هذه الرواية تارة في آداب الحمّام، و أخرى في أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة «2»، و لكن في الموضع الثاني ذكر موسى بن يزيد بدل

موسى بن بكر، و الصحيح موسى بن بكر.

3- خبر القاسم بن الوليد، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن عظام الفيل:

مداهنها و أمشاطها؟ قال: «لا بأس به.» «3»

أقول: المدهن- بضمتين-: قارورة الدهن و إناؤه. و راجع في هذا المجال الروايات الأخر من الباب 72 من آداب الحمّام. «4»

4- خبر عبد الحميد بن سعيد (سعد- الكافي) قال: سألت أبا إبراهيم عليه السّلام عن عظام الفيل يحلّ بيعه أو شراؤه الذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال: «لا بأس، قد كان لي (لأبي- الكافي) مشط أو أمشاط.» «5» هذا.

و الأصل أيضا يقتضي جواز الانتفاع بالجلود و اللحوم و العظام و لا سيّما إذا كانت مذكّاة إلّا فيما ثبت حرمته كالأكل فيما لا يؤكل لحمه. و إذا جاز الانتفاع بها صارت مالا فجاز بيعها و كذا بيع نفس الحيوان لأجلها.

و لا وجه لتوهّم حرمة الانتفاع بعظام الفيل إلّا توهّم نجاستها بلحاظ عدّه من

______________________________

(1) راجع عدّة الأصول 1/ 386، فصل في ذكر القرائن التي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد ....

(2) راجع الوسائل 1/ 427، الباب 72 من أبواب آداب الحمام، الحديث 2؛ و 12/ 123، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) نفس المصدر 1/ 427، الباب 72 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

(4) راجع نفس المصدر و الصفحة.

(5) نفس المصدر 12/ 123، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2؛ عن الكافي 5/ 226.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 445

[حكم لحوم السباع]

و أمّا لحومها فالمصرّح به في التذكرة (1) عدم الجواز معلّلا بندور المنفعة المحلّلة المقصودة منه كإطعام الكلاب المحترمة و جوارح الطير.

______________________________

المسوخ، و نحن منعنا نجاستها و كذا عدم جواز الانتفاع بالنجس. «1» بل

الظاهر أنّ منفعة الفيل لا تنحصر في عاجه و عظامه، فإنّ الحيوان بنفسه يمكن أن ينتفع به كثيرا في الحمل و الركوب، و مع المنفعة المحلّلة يصح بيعه قهرا.

(1) في التذكرة: «لحم المذكّى مما لا يؤكل لحمه لا يصح بيعه لعدم الانتفاع به في غير الأكل المحرّم. و لو فرض له نفع ما فكذلك لعدم اعتباره في نظر الشارع.» «2»

أقول: ظاهره وجود تعبّد خاصّ بعدم كفاية المنفعة النادرة في صحّة البيع كما مرّ من المصنّف أيضا. و قد مرّ منّا منع ذلك. «3» و أنّ المناط مرغوبية الشي ء و ماليته و لو في شرائط خاصّة لشخص خاصّ بحيث لا تعدّ المعاملة معها سفهية غير عقلائية.

و اللحوم و إن كانت محرّمة الأكل قد كثرت منافعها المحلّلة في أعصارنا، كما لا يخفى، فيجوز بيعها لذلك.

______________________________

(1) راجع 1/ 476 من الكتاب.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، الفصل الرابع، في الشرط الأوّل من شروط العوضين.

(3) راجع ص 414.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 446

[حكم بيع الهرّة و القردة]

و يظهر أيضا جواز بيع الهرّة. (1)

و هو المنصوص في غير واحد من الروايات، و نسبه في موضع من التذكرة إلى علمائنا. (2)

______________________________

حكم بيع الهرّة و القردة

(1) الجملة معطوفة على قوله: «و منه يظهر»، و كلتاهما متفرعتان على ما ذكره «1» من عدم كفاية المنفعة النادرة و الإشكال في تميزها عن غيرها و أنّ الواجب في مقام الشك هو الرجوع إلى أدلّة التجارة و نحوها. و مقتضى ذلك عدم جريان أدلّة البيع لكون الشبهة مصداقية لها، و على هذا فلم حكم بجواز بيع الهرّة بنحو القطع مع احتمال كون المنفعة فيها نادرة أيضا؟

(2) في التذكرة: «الخامس: لا بأس ببيع الهرّ عند علمائنا، و به

قال ابن عباس و الحسن و ابن سيرين و الحكم و حمّاد و الثّوري و مالك و الشافعي و إسحاق و أصحاب الرأي، لقول الصادق عليه السّلام: «لا بأس بثمن الهرّة.» و لأنّه ينتفع به و يحلّ اقتناؤه فجاز بيعه كغيره. و كرهه أبو هريرة و طاوس و مجاهد و جابر بن زيد و أحمد، لما روي عن جابر أنّه سئل عن ثمن السنّور، فقال: «زجر النبي صلّى اللّه عليه و آله عن

______________________________

(1) راجع ص 430- 437.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 447

..........

______________________________

ذلك.» و هو محمول على غير المملوك أو ما لا نفع فيه.» «1»

أقول: حمل زجر النبي صلّى اللّه عليه و آله- على فرض وقوعه- على الزجر عما لا يقدم عليه شخص عاقل بعيد جدّا، إلّا أن يقع منه إرشادا في مورد خاصّ.

و كيف كان فالظاهر عدم الإشكال في جواز بيعها مع وجود منفعة عقلائية توجب الرغبة فيها و ماليّتها و لو في محيط خاصّ و شرائط خاصّة، لشمول الأدلّة العامّة لها، و قد مرّ عن النهاية قوله: «و لا بأس بشري الهر و بيعه و أكل ثمنه» «2» و ظاهر التذكرة إجماع علمائنا على ذلك.

و يدلّ على ذلك صريحا موثقة محمد بن مسلم و عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت» ثم قال:

«و لا بأس بثمن الهرّ.» «3»

و في دعائم الإسلام عن عليّ عليه السّلام أنّه رأى رجلا يحمل هرّة، قال: «ما تصنع بها؟» قال: أبيعها، فنهاه. قال: فلا حاجة لي بها، قال: «فتصدق إذا بثمنها.» «4»

و رواه عنه في المستدرك. «5»

و دلالته على جواز البيع واضحة، و لعلّ

نهيه عليه السّلام ثم أمره بالتصدق بثمنها وقعا إرشادا، لجلالة شأن البائع عن صرف مثله في مئونة نفسه و عياله.

نعم ورد في روايات السنّة النهي عن بيعها:

ففي سنن البيهقي بسنده عن أبي الزبير، قال: سألت جابرا عن ثمن الكلب

______________________________

(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، الفصل الرابع، في الشرط الأوّل من شروط العوضين.

(2) النهاية للشيخ الطوسي/ 364، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(4) دعائم الإسلام 2/ 20، الفصل الثاني: ذكر ما نهي عن بيعه، الحديث 30.

(5) مستدرك الوسائل 2/ 430، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 448

بخلاف القرد، لأنّ المصلحة المقصودة منه- و هو حفظ المتاع- نادر. (1)

______________________________

و السنّور، فقال: «زجر النبي صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك.» «1»

و فيه أيضا بسنده عنه أنّه سمع جابر بن عبد اللّه يقول: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أكل الهرّ و أكل ثمنه.» «2»

أقول: لعلّ المتبادر من الرواية كون المنهي عنه أكل ثمنه إذا وقع بيعه بقصد أكل لحمه، فتأمّل، لبعد تعارف أكل لحمه.

و فيه أيضا بسنده عن أبي سفيان عن جابر، قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ثمن الكلب و السنّور.»

قال البيهقي: «و قد حمله بعض أهل العلم على الهرّ إذا توحّش فلم يقدر على تسليمه، و منهم من زعم أنّ ذلك كان في ابتداء الإسلام حين كان محكوما بنجاسته ثم حين صار محكوما بطهارة سؤره حلّ ثمنه، و ليس على واحد من هذين القولين دلالة بيّنة.» «3»

أقول: العمدة عدم ثبوت الرواية عندنا. ثم مفادها

حكاية نهيه صلّى اللّه عليه و آله، فلعلّه كان تنزيهيا لخسّة السّلعة، فتأمّل، فإنّ ظاهر النهي هي الحرمة.

(1) في بيوع الخلاف (المسألة 306): «القرد لا يجوز بيعه، و قال الشافعي:

يجوز بيعه. دليلنا إجماع الفرقة على أنّه مسخ نجس، و ما كان كذلك لا يجوز بيعه بالاتفاق.» و راجع المسألة الثامنة و الثلاثمائة منه أيضا. «4»

أقول: الظاهر أنّ الإجماع المدّعى على كونه مسخا لا على نجاسته و إنّما هي

______________________________

(1) سنن البيهقي 6/ 10، كتاب البيوع، باب ما جاء في ثمن السنّور.

(2) نفس المصدر 6/ 11، و الباب.

(3) نفس المصدر 6/ 11، و الباب.

(4) الخلاف 3/ 183 و 184 (- ط. أخرى 2/ 81).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 449

..........

______________________________

نظره و فتواه بشخصه، و قد مرّ منّا منع نجاسة المسوخ و منع مانعية النجاسة أيضا «1» و إن ادّعى هو الاتفاق على ذلك.

و قد مرّ عن النهاية أيضا المنع عن بيع المسوخ مطلقا و عدّ منها القرد و الفيلة و الدببة، فراجع. «2»

و في مقنعة المفيد: «و التجارة في القردة و السباع و الفيلة و الذئبة و سائر المسوخ حرام، و أكل أثمانها حرام.» «3»

و لعلّ مرادهما بيعها لأكل لحومها، و إلّا فقد مرّ جواز بيع السباع لأجل جلودها، بل للحومها أيضا لإطعام الطيور و الكلاب و نحو ذلك.

و في الشرائع عدّ مما يحرم الاكتساب به: «ما لا ينتفع به كالمسوخ، بريّة كانت كالقرد و الدّب ...»، فراجع. «4» هذا.

و في رواية مسمع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن القرد أن يشترى و أن يباع.» «5»

و مرّ عن الجعفريات عن عليّ عليه السّلام أنّه

عدّ من السحت: ثمن القرد و جلود السباع. «6»

أقول: الظاهر من كلماتهم أنّ منعهم عن بيع القرد كان لأجل كونه من المسوخ و كونه نجسا لذلك، أو لأجل عدم الانتفاع به نفعا محلّلا. و قد مرّ منا منع نجاسة المسوخ أوّلا و منع مانعية النجاسة ثانيا، و نمنع عدم الانتفاع المحلل به ثالثا، إذ القرد قابل للتعليم و التربية كثيرا و بعد التربية ينتفع به كثيرا لحفظ الأمتعة و غير ذلك من

______________________________

(1) راجع 1/ 476 من الكتاب.

(2) راجع النهاية للشيخ الطوسي/ 364.

(3) المقنعة/ 589، باب المكاسب.

(4) الشرائع/ 264 (- ط. أخرى 2/ 10).

(5) الوسائل 12/ 124، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(6) مستدرك الوسائل 2/ 426؛ عن الجعفريات/ 180.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 450

[هل يوجب غصب ما لا نفع فيه الضمان أم لا؟]

ثم اعلم أنّ عدم المنفعة المعتدّ بها يستند تارة إلى خسّة الشي ء- كما ذكر من الأمثلة في عبارة المبسوط- و أخرى إلى قلّته كجزء يسير من المال لا يبذل في مقابله مال كحبّة من حنطة. (1) و الفرق أنّ الأوّل لا يملك و لا يدخل تحت اليد كما عرفت من التذكرة بخلاف الثاني فإنّه يملك، و لو غصبه غاصب كان عليه مثله إن كان مثليا خلافا للتذكرة فلم يوجب شيئا كغير المثلي. (2)

______________________________

الانتفاعات المحلّلة. و الروايتان مضافا إلى ضعفهما سندا يمكن أن يجاب عنهما بعدم دلالة السحت على الحرمة كما مرّ، و أنّ نهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعلّه كان من جهة أنّه كان ينتفع به كثيرا في الألاعيب و الأمور المستهجنة، كما كان رائجا في عصر خلفاء الجور من الأموية و العباسية أيضا. و كيف كان فمع وجود الانتفاعات الكثيرة المحلّلة العقلائية

لا يرى وجه لمنع بيعه و التجارة فيه، فتأمّل.

هل يوجب غصب ما لا نفع فيه الضمان أم لا؟

(1) و ثالثة إلى كثرته أو عدم الحاجة إليه كالماء عند الشطّ و الجمد في الشتاء.

و الملاك الجامع عدم الرغبة في شرائه و بذل المال بإزائه.

(2) في التذكرة: «فلا يجوز أخذ حبّة من صبرة الغير، فإن أخذت وجب الردّ، فإن تلفت فلا ضمان لأنّه لا مالية لها، و هذا كلّه للشافعي أيضا، و في وجه آخر له: جواز بيعها و ثبوت مثلها في الذمّة، و ليس بجيّد.» «1»

أقول: الحق أنّ الموارد مختلفة، ففي بعضها يثبت المالية مع القلّة أيضا، فيجوز بيعها حينئذ، و في التلف يثبت المثل أو القيمة.

و المصنّف- كما ترى- فرّق بين المثلي و القيمي، فحكم بالضمان في الأوّل

______________________________

(1) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، الفصل الرابع، في الشرط الثاني من شروط العوضين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 451

..........

______________________________

فقط بلحاظ أنّ ضمانه بمثله فيمكن الخروج عن عهدته، بخلاف القيمي إذ ضمانه بقيمته و المفروض عدم القيمة له، و ظاهر العلامة نفي الضمان في كليهما.

و يرد عليه: أنّ المفروض ثبوت الملكية و إن لم يكن مالا، فيجب على الغاصب ردّ عينه و مع التلف ردّ مثله، لعموم قوله: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي.» «1»

بل يمكن القول بثبوت الضمان في القيمي أيضا، إذ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال، و المفروض ثبوت الملكية و تعدّي الغاصب، فيشمله الحديث و يحكم العقل و العرف بوجوب إرضاء مالكه و لو بإعطاء مال، و هكذا الكلام في المثلي إذا لم يوجد مثله و أمكن إرضاؤه و لو بإعطاء مال، فتأمّل.

و في مصباح الفقاهة استدلّ للضمان في المقام بنحو يشمل بيانه القيمي

أيضا، فقال ما ملخّصه: «الدليل على الضمان إنّما هو السيرة القطعية من العقلاء و المتشرّعة، و عليه فلا بدّ أن يخرج من عهدة الضمان إمّا بردّ عينه أو مثله، و مع فقدهما لا يمكن الخروج منها بأداء القيمة، بل أصبح مشغول الذمّة إلى يوم القيامة مثل المفلس، إذ الانتقال إلى القيمة إنّما هو فيما إذا كان التالف من الأموال، فلا ينتقل إليها إذا لم يكن التالف مالا.

و ربما يتمسك للضمان بقاعدة ضمان اليد، لشمولها لمطلق المأخوذ بالغصب.

و فيه: أنّ القاعدة و إن ذكرت في بعض الأحاديث و استند إليها المشهور لكنها ضعيفة السند و غير منجبرة بشي ء.

و قد يتمسك للضمان بقاعدة الإتلاف (: من أتلف مال الغير فهو له ضامن).

و لكنه واضح الفساد لاختصاص موردها بالأموال.

نعم لو كانت العبارة هكذا: «من أتلف ما للغير فهو له ضامن» شملت المقام

______________________________

(1) تأتي مصادره آنفا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 452

..........

______________________________

أيضا إلّا أنّه بعيد جدّا، على أنّ القاعدة المذكورة متصيّدة و ليست بمتن رواية، و كيف كان فموردها خصوص الإتلاف فلا تدلّ على الضمان عند عدمه، فلا تدلّ على الضمان إلّا السيرة كما عرفت.» «1»

أقول: قد ذكروا في محلّه أنّ أسباب الضمان ثلاثة: اليد و الإتلاف مباشرة أو تسبيبا، و خصّوا الأوّل باليد العادية كما في الغصب و كما في العارية و الإجارة و نحوهما مع التعدّي أو التفريط في الحفظ، و خصّوا الثالث بما إذا كان السبب أقوى من المباشر عرفا بحيث يستند الإتلاف إليه.

و استندوا في القسم الأوّل إلى ما رواه سمرة بن جندب عن النبي صلّى اللّه عليه و آله من قوله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي.» أو «حتّى تؤدّي.»

رواه في

المستدرك منّا في كتاب الوديعة عن عوالي اللآلي، «2» و أبو داود في الإجارة في باب تضمين العارية، «3» و الترمذي في البيوع في باب «العارية مؤدّاة»، «4» و ابن ماجة في الباب الخامس من الصدقات، «5» و أحمد، «6» و البيهقي. «7»

و الرواية عاميّة، و الراوي في الجميع سمرة، و حاله معلوم، و لكن الاستدلال بالرواية مشهور في كتب الفريقين، و مضمونها مطابق للاعتبار و سيرة العقلاء كما لا يخفى. هذا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 196، في النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 504، الباب 1 من أبواب كتاب الوديعة، الحديث 12؛ عن العوالي 3/ 251، و عن تفسير الرازي 3/ 419. و أيضا عنهما في المستدرك 3/ 145، الباب 1 من كتاب الغصب، الحديث 4.

(3) سنن أبي داود 2/ 265، كتاب الإجارة، الحديث 1.

(4) سنن الترمذي 3/ 566، الحديث 1266.

(5) سنن ابن ماجة 2/ 802، الحديث 2400.

(6) مسند أحمد 5/ 8 و 12 و 13 (من حديث سمرة بن جندب).

(7) سنن البيهقي 6/ 90، باب العارية مضمونة. راجع أيضا مستدرك الحاكم 2/ 55.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 453

و ضعّفه بعض بأنّ اللازم حينئذ عدم الغرامة فيما لو غصب صبرة تدريجا. (1) و يمكن أن يلتزم فيه بما يلتزم في غير المثلي، فافهم.

______________________________

و ما ذكره في مصباح الفقاهة فيما لم يوجد له المثل من البقاء مشغول الذمّة إلى يوم القيامة يمكن أن يناقش فيه بما أشرنا إليه من أنّ الظلم و التعدّي إلى حقّ الغير إذا أمكن جبرانه وجب عقلا و شرعا و لو بإعطاء مال للمظلوم لا بعنوان القيمة بل بقصد إرضائه، اللّهم إلّا أن يكون فيه إجحاف خارج

عن المتعارف بحيث لا يمكن تحمّله فيسقط التكليف قهرا، فتأمّل. و الفرق بينه و بين المفلس واضح، إذ المفلس لا مال له فلا سبيل له إلى إرضاء الغرماء.

(1) قال في جامع المقاصد: «و يلزم المصنّف أنّ من أتلف على غيره حبّات كثيرة منفردات لا يجب عليه شي ء. و بيان الملازمة: أنّ إتلاف كلّ واحدة على حدة لا يوجب شيئا و إذا لم يترتب على تلفها شي ء حال التلف لا يترتب عليه شي ء بعد ذلك، لعدم المقتضي، و كذا يلزمه فيمن أتلف مدّا من الحنطة لعدّة ملّاك لكلّ واحدة حبّة، أن لا يترتب عليه شي ء لانتفاء المقتضي بالإضافة إلى كلّ واحد ...» «1»

و يجاب عن ذلك بما أشار إليه المصنّف هنا من أنّ الإشكال وارد في القيمي أيضا، و يمكن أن يلتزم فيهما بأنّ عدم الضمان على فرض الوحدة و بشرط لا، و أمّا مع انضمام سائر الأجزاء و لو تدريجا بحيث يصير المجموع مالا فيلتزم العلّامة و أمثاله في كليهما بالضمان. هذا.

و قد ظهر ممّا بيّناه أنّ الضمان من أحكام الملك لا خصوص المال، و ملاكهما مختلف، و بينهما عموم من وجه، فالحنطة من صبرة ملك لمن ولّدها أو اشتراها و ليس مالا، و نفس الصبرة مال و ملك له، و أشجار الغابات أموال و ليست ملكا لأحد و كلا العنوانين اعتباريان و لكن الملكية أمر إضافي متقوم بطرفين: المالك و المملوك، بخلاف المالية، فتدبّر.

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 90، كتاب المتاجر، المقصد الثاني، الفصل الثالث.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 454

ثمّ إنّ منع حقّ الاختصاص في القسم الأوّل مشكل، مع عموم قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه

أحد من المسلمين فهو أحقّ به.» (1) مع عدّ أخذه قهرا، ظلما عرفا.

______________________________

(1) أقول: هذا الحديث أيضا عامّي رواه في المستدرك عن عوالي اللآلي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لفظه هكذا: «من سبق إلى ما لا يسبقه إليه مسلم فهو أحقّ به.» «1»

و لكن مضمونه موافق للاعتبار و السيرة.

و رواه أبو داود في كتاب الإمارة، و لكن لفظه هكذا: «من سبق إلى ماء لم يسبقه إليه مسلم فهو له.» «2» هذا.

و حقّ الاختصاص إنّما يعتبر فيما يعتني به العقلاء إجمالا، و يشكل اعتباره في مثل النخامة التي ألقاها الشخص و يتنفر هو منها، و لو فرض تصرّف أحد فيه لا يعدّ عمله هذا تعدّيا و ظلما.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3/ 149، الباب 1 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 4؛ عن العوالي 3/ 480، الحديث 4.

(2) سنن أبي داود 2/ 158، كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، باب في إقطاع الأرضين، الحديث 14. و راجع أيضا سنن البيهقي 6/ 142.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 455

النوع الرابع: الاكتساب بما هو حرام في نفسه و فيه مسائل:

اشارة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 457

النوع الرابع: ما يحرم الاكتساب به لكونه عملا محرما في نفسه.

و هذا النوع و إن كان أفراده هي جميع الأعمال المحرّمة القابلة لمقابلة المال بها في الإجارة و الجعالة و غيرهما، إلّا أنّه جرت عادة الأصحاب بذكر كثير ممّا من شأنه الاكتساب به من المحرّمات، بل و غير ذلك ممّا لم يتعارف الاكتساب به كالغيبة و الكذب و نحوهما. (1)

______________________________

النوع الرابع:

الاكتساب بما هو حرام في نفسه

[في بيان موضوع البحث و كلام الأستاذ الإمام في ذلك]

(1) أقول: البحث تارة في حرمة نفس هذه الأعمال، و أخرى في حكم التكسب بها و أخذ الأجرة عليها: أمّا حرمة نفس هذه الأعمال فسيتعرّض لها المصنّف بالتفصيل بترتيب حروف الهجاء، فلنتعرّض هنا لحكم التكسب بها و حكم أجرتها.

قال الأستاذ الإمام «ره» في هذا المجال ما محصّله: «البحث تارة في حرمة الكسب و الإجارة على الحرام، و أخرى في حرمة الثمن أي الأجرة بعنوان كونها أجرة على الحرام، و ثالثة في الحكم الوضعي أعني بطلان الإجارة و فسادها. و قد تقدّم أنّ المقصود الأصلي بالبحث هنا العنوانان الأوّلان، و أنّ الثالث استطراديّ يناسب البحث عنه في شرائط العوضين في الإجارة.» «1»

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 165 (- ط. أخرى 1/ 251)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 458

..........

______________________________

أقول: قد مرّ منّا سابقا المناقشة في كلام الأستاذ «ره» و أنّا نمنع حرمة ثمن المحرمات بما هي ثمن لها و بهذا العنوان- و إن أصرّ على ذلك الأستاذ «ره» و استدلّ لها بمثل قوله: «ثمن العذرة سحت» و قوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.»

و نحو ذلك- و قلنا نحن: إنّ الظاهر كون تحريم الثمن المذكور

في الروايات كناية عن فساد المعاملة و عدم انتقال الثمن إلى البائع، فيكون حرمته بلحاظ كونه مال الغير. و مقتضى كلام الأستاذ: أنّ البائع للخمر مثلا يرتكب بفعله ذلك ثلاث محرمات: بيع الخمر و أكل ثمنها و أكل مال الغير، و هذا بعيد جدّا.

فالمهم هنا البحث عن حرمة المعاملة تكليفا و وضعا، و ما هو الأهمّ في نظر الفقهاء و المتشرّعة و المنظور إليه في الروايات هو صحّة المعاملة أو فسادها، و مرادهم بلفظ الحرمة غالبا هي الحرمة الوضعية. و أمّا حرمة نفس التكسب و المعاملة تكليفا فأمر آخر ربما نلتزم به في بعض المعاملات الفاسدة كبيع الخمر و المعاملات الربوية و أمثالهما كما مرّ تفصيل ذلك في بعض أبحاثنا. «1» هذا.

[استدلّ الأستاذ «ره» لحرمة الإجارة على الأعمال المحرّمة تكليفا بوجوه]
اشارة

و استدلّ الأستاذ «ره» لحرمة الإجارة على الأعمال المحرّمة تكليفا بوجوه «2» نتعرض لها ملخّصة ببيان أوضح:

الوجه الأوّل: قبح الاستيجار و الإيجار على معصية اللّه- تعالى- عقلا،

إذ كما أنّ الاستيجار و الإيجار على القبائح العقلية كارتكاب الفاحشة قبيحان بحكم العقل و العقلاء فكذلك هما قبيحان لمعصية اللّه- تعالى- فإنّها أيضا من القبائح العقلية، و كلّ ما حكم العقل بقبحه حكم الشرع بحرمته. و دعوى أنّ القبح فاعليّ لا فعلي نظير التجرّي غير وجيهة، ضرورة أنّ نفس عنوان إجارة النواميس قبيح عقلا، و لا ينافي ذلك كشفها عن دناءة الفاعل و خبث سريرته أيضا.

الوجه الثاني: فحوى أدلّة وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،

إذ المستفاد

______________________________

(1) راجع 1/ 184 من الكتاب.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 166 (- ط. أخرى 1/ 252)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 459

..........

______________________________

من تلك الأدلّة أو فحواها أنّ الأمر بالمنكر و النهي عن المعروف محرّمان، بل مطلق ما يوجب الإغراء على المحرم و التشويق إليه، سواء ارتكب الطرف أم لا. و لا ريب أنّ استيجار المغنية للتغني مثلا دعوة لها إلى إتيان المحرّم.

الوجه الثالث: استفادة ذلك من قوله- تعالى- في سورة التوبة:

الْمُنٰافِقُونَ وَ الْمُنٰافِقٰاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ. «1» بدعوى أنّ العنوانين ليسا لمجرد معرّفية المنافقين، بل في مقام تعييرهم و تقريعهم و ذكر ما هو قبيح عقلا و محرّم شرعا، و بدعوى عدم خصوصية الأمر بالمنكر، بل المراد أعمّ مما يفيد فائدته من الترغيب و التشويق، و بدعوى أنّه ليس المراد من الأمر بالمنكر خصوص ما يرجع إلى ردّ قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مخالفته في قوانينه، بل المراد أعمّ من ذلك، فيكون الأمر بالمنكر محرّما و إن لم يكن الغرض ردّ قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الوجه الرابع: تأييد ذلك برواية تحف العقول،

و فيها: «فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم عليه أكله أو شربه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشي ء أو حفظه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا أو قتل النفس بغير حلّ، أو حمل التصاوير و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدم أو شي ء من وجوه الفساد الذي كان محرما عليه من غير جهة الإجارة فيه، و كلّ أمر منهي عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له ...» «2»

أقول: يمكن أن يناقش في الوجه الأوّل بأنّ قاعدة الملازمة لا تجري في العناوين المتأخرة عن الأحكام الشرعية المنتزعة منها كعنواني الإطاعة و المعصية مثلا، للزوم التسلسل كما مرّ بيان ذلك في بعض الأبحاث السابقة، «3» فإذا لم يستتبع قبح

______________________________

(1) سورة التوبة (9)، الآية 67.

(2) تحف العقول/ 334.

(3) راجع ص 248 و 329 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 460

..........

______________________________

المعصية حرمتها شرعا لم يستتبع قبح الإجارة لها أيضا ذلك و إلّا لزم زيادة الفرع على الأصل، فتأمّل، إذ يمكن أن يقال: إنّ فاعل الاستيجار غير فاعل المعصية، فيمكن أن يقال: إنّه يصدق عليه أنّه موجد لما هو عصيان بالحمل الشائع تسبيبا فيشمله أدلّة تحريمه.

و يناقش في الوجه الرابع أوّلا بما مرّ من ضعف رواية التحف و اضطرابها متنا، و ثانيا بما مرّ من المصنّف و منّا أيضا «1» من حمل لفظ الحرمة فيها على الحرمة الوضعية لا التكليفية، إذ الظاهر أنّ النظر في الرواية إلى بيان المعاملات الصحيحة و الفاسدة.

و استدل الأستاذ «ره» للحكم الوضعي في المقام
اشارة

أعني بطلان الإجارة أيضا بوجوه «2» نذكرها ملخصة:

الوجه الأوّل: أنّ العمل المحرّم ليس مالا في نظر الشارع،

و لهذا لو منع شخص عن تغنّي جارية مغنّية أو عبد مغني لا يكون ضامنا بالنسبة إلى المنفعة المحرمة بلا إشكال و إن كانا أجيرين لذلك، و ما لا يكون مالا في محيط التشريع لا تكون المعاملة عليه معاملة، و إن شئت قلت: إنّ سلب المالية عن شي ء و إسقاطها دليل على ردع المعاملة به.

الوجه الثاني: أنّ مقتضى ذات المعاملة لدى العقلاء إمكان التسليم و التسلّم،

و مع منع الشارع عن تسليم المنفعة المحرّمة و تسلّمها لا يعقل أن تكون المعاملة نافذة، فمنع التسليم و التسلّم دليل على ردع المعاملة فتقع باطلة.

و لا ينتقض ذلك بمسألة بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعلها خمرا، إذ هناك لم يكن تسليم العنب بذاته محرما، بل المحرّم عناوين أخر منطبقة عليه كعنوان الإعانة على الإثم مثلا، فكان للبائع أن يقول: أنا لا أمتنع عن التسليم بشرط أن لا تجعله خمرا، فالتقصير متوجّه إلى المشتري، بخلاف المقام فإنّ تسليم المنفعة التي هي مقابلة للثمن و مورد للإجارة ممنوع شرعا.

______________________________

(1) راجع ص 380.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 167 (- ط. أخرى 1/ 253)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 461

الوجه الثالث: أنّ الآية الكريمة أعني قوله- تعالى-:

______________________________

لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ «1» و إن كان الموضوع فيها البطلان العرفي و العقلائي لا الشرعي لكن بتحكيم ما دلّ على نفي المالية أو نفي تسليم المنفعة ينسلك في مفاد الآية، فإنّ أخذ مال الغير بلا انتقال منفعة إليه أكل للمال بالباطل، و يؤيده النبوي و التحف.

أقول: يرد على الوجه الأخير ما مرّ من أنّ الاستدلال بالآية للمقام و أمثاله يتوقف على كون الباء في الآية للمقابلة، نظير ما تدخل على الثمن في المعاوضات، و قد مرّ منع ذلك و أنّ الباء فيها للسببية بقرينة استثناء التجارة عن تراض التي هي من الأسباب الناقلة، فيراد النهي عن أكل أموال الناس بمثل الرشوة و القمار و نحوهما من الأسباب الباطلة عرفا و شرعا، و لا نظر في الآية إلى بيان شرط العوضين و أنّه يعتبر فيهما كونهما من الأموال. هذا.

و استدلّ في مصباح الفقاهة لفساد المعاملة أعني الإجارة على الأعمال المحرّمة

ب «أنّه يكفي في عدم جواز المعاملة عليها ما دلّ على حرمتها من الأدلّة الأوّلية، إذ مقتضى صحة العقود لزوم الوفاء بها، و مقتضى أدلّة المحرمات حرمة الإتيان بها و هما لا يجتمعان ... و أمّا ما في حاشية السيّد من عدم جواز أخذ الأجرة على العمل المحرم لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» فإنّ المراد من الثمن مطلق العوض، فهو فاسد، فإنّه مضافا إلى ضعف سند هذا الحديث إنّا نمنع صدق الثمن على مطلق العوض.» «2»

أقول: الظاهر أنّ الاستدلال بالحديث ليس بلحاظ استعمال لفظ الثمن في كلّ عوض، بل بلحاظ إلقاء الخصوصية و تنقيح المناط القطعي و إسراء حكم البيع إلى الإجارة أيضا، إذ هما كرضيعي لبان، كما يساعد على ذلك الاعتبار العقلي و فهم العقلاء. و كيف كان فلا إشكال في بطلان الإجارة للأعمال المحرّمة.

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 29.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 197، في النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 462

و كيف كان فنقتفي آثارهم بذكر أكثرها في مسائل مرتّبة بترتيب حروف أوائل عنواناتها إن شاء اللّه تعالى، فنقول:

______________________________

و يمكن أن يستأنس لذلك بخبر جابر أو صابر، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع (يباع) فيه الخمر؟ فقال: «حرام أجره.» «1»

و حرمة الأجر كناية عن فساد المعاملة، و قد مرّ بيان الرواية سابقا في مسألة بيع العنب على أن يعمل خمرا.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ عن التهذيب 7/ 134؛ و الاستبصار 3/ 55؛ و الكافي 5/ 227.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 463

[المسألة الأولى: تدليس الماشطة]
اشارة

المسألة الأولى:

تدليس الماشطة المرأة التي يراد تزويجها، أو الأمة التي يراد بيعها حرام بلا خلاف فيه كما عن الرياض (1)، و عن مجمع الفائدة (2) الإجماع عليه، و كذا فعل المرأة ذلك بنفسها.

و يحصل بوشم الخدود كما في المقنعة و السرائر و النهاية و عن جماعة:

قال في المقنعة: «و كسب المواشط حلال إذا لم يغششن و لم يدلّسن في عملهن، فيصلن شعور النساء بشعور غيرهن من الناس، و يشمن الخدود، و يستعملن ما لا يجوز في شريعة الإسلام، فإن وصلن شعرهن

______________________________

المسألة الأولى: تدليس الماشطة

[كلمات الفقهاء في المقام]

(1) في الرياض في ذيل قول المصنّف: «و تدليس الماشطة» قال: «بإظهارها في المرأة محاسن ليست فيها، من تحمير وجهها و وصل شعرها و نحو ذلك، إرادة منها ترويج كسادها، بلا خلاف بل عليه الإجماع في بعض العبارات، و هو الحجة.» «1»

(2) فيه في شرح عبارة المصنّف: «و تدليس الماشطة» قال: «المراد تدليس المرأة التي تريد تزويج امرأة برجل أو بيع أمة بأن يستر عيبها و يظهر ما يحسنها، من تحمير وجهها و وصل شعرها مع عدم علم الزوج و المشتري بذلك. و الظاهر أنّه غير مخصوص

______________________________

(1) رياض المسائل 1/ 504، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 464

بشعر غير الناس لم يكن بذلك بأس.» انتهى. و نحوه بعينه عبارة النهاية. (1)

و قال في السّرائر- في عداد المحرمات-: «و عمل المواشط بالتدليس بأن يشمن الخدود و يحمّرنها و ينقشن بالأيدي و الأرجل، و يصلن شعر النساء بشعر غيرهن و ما جرى مجرى بذلك.» انتهى (2)

و حكي نحوه عن الدروس (3) و حاشية الإرشاد. (4)

______________________________

بالماشطة، بل لو فعلت المرأة بنفسها ذلك كذلك، بل لو فعلته أوّلا لا للتدليس، ثم حصل في

هذا الوقت المشتري أو الزوج، فإخفاؤه مثل فعله. و دليل التحريم كأنّه الإجماع و أنّه غشّ و هو حرام كما يدلّ عليه الأخبار.» «1»

(1) العبارة المذكورة في المتن عبارة النهاية «2» بتفاوت ما، و أمّا عبارة المقنعة فهي هكذا: «و كسب المواشط حلال إذا لم يغششن و يدلّسن في عملهن فيصلن شعر النساء بشعور غيرهن من الناس و يوشّمن الخدود و يستعملن في ذلك ما حرّمه اللّه، فإن فعلن شيئا من ذلك كان كسبهن حراما.» «3»

(2) راجع باب ضروب المكاسب من السرائر، و فيه: «و ينقشن الأيدي.»

و في آخر عبارته هكذا: «مما يلبسن به على الرجال في ذلك.» «4»

(3) قال- في عداد المكاسب المحرّمة-: «و تدليس الماشطة، كتزيين الخدّ و تحميره و النقش في اليد و الرجل. قاله ابن إدريس، و وصل شعرها بشعر غيرها.» «5»

(4) للمحقق الثاني، و لم يطبع بعد ظاهرا.

1- و في مكاسب المقنع للصدوق: «و لا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 83، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل.

(2) راجع النهاية للشيخ الطوسي/ 366، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) المقنعة/ 588، باب المكاسب.

(4) السرائر 2/ 216.

(5) الدروس/ 327 (- ط. أخرى 3/ 163)، الدرس 231، الأوّل مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 465

..........

______________________________

و قبلت ما تعطى، و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها. و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن يوصل بشعر المرأة.» «1»

أقول: الظاهر حمل النهي عن المشارطة في فعل التمشيط أو الحجامة أو نحوهما على الحزازة، لعلوّ شأن الإنسان من أن يشارط في أمثالها. و هل يكون منعهم من وصل شعر امرأة بشعر غيرها تحريما

أو كراهة بلحاظ كونه تدليسا، أو بلحاظ كونه من أجنبية فيحرم أو يكره على زوجها النظر إليه، أو بلحاظ كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه فلا يجوز الصلاة فيه؟ كلّ محتمل. و ربما يستفاد من بعض الكلمات توهّم نجاسته بلحاظ كونه من الأجزاء المبانة من الحيّ، و لكن التوهم فاسد لعدم كونه ذا حياة.

2- و في صلاة الخلاف (المسألة 234): «يكره للمرأة أن تصل شعرها بشعر غيرها رجلا كان أو امرأة، و لا بأس بأن تصل شعرها بشعر حيوان آخر طاهر، فإن خالفت تركت الأولى و لا تبطل صلاتها ... دليلنا على كراهيّة ذلك إجماع الفرقة ...» «2»

3- و في طهارة المنتهى: «يكره للمرأة أن تصل شعرها بشعر غيرها رجلا كان أو امرأة، و لا بأس أن تصل شعر حيوان طاهر، و لا يجوز أن تصل شعر نجس العين.

و قال الشافعي: إن كان الشعر نجسا منع من صحة الصلاة، و إن كان طاهر فإن كان لها زوج أو مولى كره ذلك و إلّا فلا. و قال أحمد: يكره مطلقا. و لا بأس بالقرامل، و هو اختيار أحمد و ابن جبير، و نقل عن الشافعي: أنّ الرجل متى وصل شعره بشعر ما لا يؤكل لحمه بطلت صلاته. لنا: أنّ الشعر غير قابل للنجاسة إن لم يكن من حيوان نجس العين فكان حكمه حكم غيره، و أمّا كراهية ذلك فبالاتفاق ...» «3»

______________________________

(1) المقنع/ 361، باب المكاسب و التجارات.

(2) الخلاف 1/ 492 (- ط. أخرى 1/ 169).

(3) المنتهى 1/ 184، كتاب الطهارة، المقصد الخامس، البحث الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 466

و في عدّ و شم الخدود من جملة التدليس تأمّل، لأنّ الوشم في نفسه زينة،

و كذا التأمّل في التفصيل بين وصل الشعر بشعر الإنسان و وصله بشعر غيره، فإنّ ذلك لا مدخل له في التدليس و عدمه.

إلّا أن يوجّه الأوّل بأنّه قد يكون الغرض من الوشم أن يحدث في البدن نقطة خضراء حتى يتراءى بياض سائر البدن و صفاؤه أكثر ممّا كان يرى لو لا هذه النقطة.

و يوجّه الثاني بأنّ شعر غير المرأة لا يلتبس على الشعر الأصلي للمرأة فلا يحصل التدليس به بخلاف شعر المرأة.

______________________________

أقول: أراد بقوله: «غير قابل للنجاسة» ما أشرنا إليه من أنّ الجزء المبان من الحيّ إن لم يكن له حياة فلا ينجس بالإبانة منه. و كان عليه أن يقيّد شعر الحيوان الطاهر بكونه مما يؤكل لحمه و إلّا لم يجز الصلاة فيه كما هو ظاهر.

4- و في المغني لابن قدامة: «و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه لعن الواصلة و المستوصلة، و النامصة و المنتمصة، و الواشرة و المستوشرة، فهذه الخصال محرّمة، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعن فاعلها، و لا يجوز لعن فاعل المباح. و الواصلة هي التي تصل شعرها بغيره أو شعر غيرها، و المستوصلة الموصول شعرها بأمرها، فهذا لا يجوز للخبر، لما روت عائشة: أنّ امرأة أتت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالت: إنّ ابنتي عرس قد تمزّق شعرها أ فأصله؟ فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لعنت الواصلة و المستوصلة.» فلا يجوز وصل شعر المرأة بشعر آخر لهذه الأحاديث ... و الظاهر أنّ المحرّم إنّما هو وصل الشعر بالشعر لما فيه من التدليس و استعمال المختلف في نجاسته ...» «1»

5- و في الفقه على المذاهب الأربعة في عداد ما لا يجوز بيعه: «و

منها: شعر الإنسان، لأنّه لا يجوز الانتفاع به لحديث لعن اللّه الواصلة و المستوصلة.» «2»

______________________________

(1) المغني 1/ 76، كتاب الطهارة.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 240، كتاب البيع، مبحث التصرف في المبيع قبل قبضه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 467

[ذكر الأخبار في المقام]

و كيف كان يظهر من بعض الأخبار المنع عن الوشم و وصل الشعر بشعر الغير، و ظاهرها المنع و لو في غير مقام التدليس:

ففي مرسلة ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «دخلت ماشطة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه؟

قالت: يا رسول اللّه، أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه فأنتهي عنه. قال:

افعلي فإذا مشطت فلا تجلي الوجه بالخرقة (بالخرق- الكافي) فإنّها تذهب بماء الوجه، و لا تصلي شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن يوصل بشعر المرأة.» (1)

______________________________

6- و البيهقي عقد في كتاب الصلاة من سننه بابا سمّاه: «باب لا تصل المرأة شعرها بشعر غيرها.» و ذكر فيه روايات:

منها: ما رواه بسنده عن أسماء بنت أبي بكر: أنّ امرأة جاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: إنّ لي بنتا عروسا و إنّ الحصبة أخذتها فسقط شعر رأسها أ فأصل في شعر رأسها؟ قالت أسماء: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه الواصلة و المستوصلة.»

و منها: ما رواه بسنده عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «لعن اللّه الواصلة و المستوصلة، و الواشمة و المستوشمة.» «1» و راجع كتاب القسم و النشوز من البيهقي أيضا. «2»

(1) راجع الوسائل، و الكافي، و التهذيب. «3»

و

آخر الرواية في الجميع قوله: «و لا تصلي الشعر بالشعر.» ففي عبارة المصنّف زيادة ليست في الرواية.

______________________________

(1) سنن البيهقي 2/ 426.

(2) نفس المصدر 7/ 312، باب ما لا يجوز للمرأة أن تتزين به.

(3) راجع الوسائل 12/ 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2؛ عن الكافي 5/ 119؛ و التهذيب 6/ 360.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 468

و في مرسلة الفقيه: «لا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط و قبلت ما تعطى، و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها. و أمّا شعر المعز فلا بأس بأن يوصل بشعر المرأة.» (1)

______________________________

و في التهذيب: «فإذا مشطت فلا تحكّي الوجه بالخزف»، و كأنّه أنسب بالتعليل.

و في سند الرواية مناقشتان:

الأولى: وجود علي بن أحمد بن أشيم فيه، و لم يوثق و إن قيل بحسنه لرواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه.

و الثانية: الجهل بالرجل الذي روى عنه ابن أبي عمير، و لكن قال الشيخ في العدّة: «فإن كان ممن يعلم بأنّه لا يرسل إلّا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح بخبر غيره على خبره، و لأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير و صفوان بن يحيى و أحمد بن محمد بن أبي نصر و غيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون و لا يرسلون إلّا ممّن يوثق به، و بين ما أسنده غيرهم، و لذلك عملوا بمرسلهم ...» «1»

و في مرآة العقول في ذيل قوله: «و لا تصلي» قال: «و كأنّه لعدم جواز الصلاة أو للتدليس إذا أرادت التزويج.» «2»

(1) راجع الوسائل. «3» و الظاهر من الفقيه كون المرويّ عنه أبو عبد اللّه عليه السّلام، فراجع. «4» و إسناده الرواية

إلى الإمام بنحو الجزم يدلّ على ثبوتها عنده و اعتماده عليها.

و مثلها ما مرّت من عبارة المقنع. و نحوهما عبارة فقه الرضا، فراجع. «5»

______________________________

(1) عدّة الأصول 1/ 386، فصل في ذكر القرائن التي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد ....

(2) مرآة العقول 19/ 78، كتاب المعيشة، باب كسب الماشطة و الخافضة.

(3) الوسائل 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(4) راجع كتاب من لا يحضره الفقيه 3/ 162، كتاب المعيشة، باب المعايش و المكاسب ..، الحديث 3591 و ما قبله.

(5) راجع المقنع/ 361، باب المكاسب و التجارات. و قد مرّت في ص 464؛ و فقه الرضا/ 252، باب التجارات و البيوع و المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 469

و عن معاني الأخبار بسنده عن علي بن غراب، عن جعفر بن محمّد عليه السّلام، (عن آبائه عليهم السّلام) قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله النامصة و المنتمصة، و الواشرة و الموتشرة (و المستوشرة)، و الواصلة و المستوصلة، و الواشمة و المستوشمة.»

قال الصدوق: قال علي بن غراب: النامصة: التي تنتف الشعر (من الوجه)، و المنتمصة: التي يفعل ذلك بها. و الواشرة: التي تشر أسنان المرأة و تفلجها و تحدّدها، و الموتشرة (و المستوشرة): التي يفعل ذلك بها.

و الواصلة: التي تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و المستوصلة: التي يفعل ذلك بها. و الواشمة: التي تشم وشما في يد المرأة أو في شي ء من بدنها، و هو أن تغرز بدنها (يديها) أو ظهر كفها بإبرة حتّى تؤثر فيه ثم تحشوها بالكحل أو شي ء من النورة فتخضرّ، و المستوشمة: التي يفعل بها ذلك. (1)

______________________________

(1) راجع المعاني، «1» و الوسائل «2» مع تفاوت ما

لا يتغيّر به المعنى.

و في سند الرواية مجاهيل، و علي بن غراب مختلف فيه. «3» و تفسير العناوين المذكورة من علي بن غراب، و لم ينسبه إلى الإمام عليه السّلام و لعلّه أخذ ذلك من العامّة فهم قد فسّروها بما ذكر، فراجع سنن البيهقي و ما حكاه في هذا المجال عن أبي داود و عن الفرّاء و أبي عبيد. «4»

______________________________

(1) معاني الأخبار/ 249، باب معنى النامصة و المنتمصة ... و السند هكذا: أحمد بن محمد بن الهيثم، عن أحمد بن يحيى بن زكريا، عن بكر بن عبد اللّه، عن تميم بن بهلول، عن أبيه، عن علي بن غراب.

(2) الوسائل 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7 و ذيله.

(3) راجع تنقيح المقال 2/ 301.

(4) راجع سنن البيهقي 7/ 312، كتاب القسم و النشوز، باب ما لا يجوز للمرأة أن تتزين به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 470

و ظاهر بعض الأخبار كراهة الوصل و لو بشعر غير المرأة، مثل ما عن عبد اللّه بن الحسن، قال: سألته عن القرامل؟ قال: و ما القرامل؟ قلت:

صوف تجعله النساء في رءوسهن. قال: «إن كان صوفا فلا بأس، و إن كان شعرا فلا خير فيه من الواصلة و المستوصلة.» (1)

و ظاهر بعض الأخبار الجواز مطلقا: ففي رواية سعد الإسكاف قال:

سئل أبو جعفر عليه السّلام عن القرامل التي يضعها النساء في رءوسهن يصلن شعورهن، قال: «لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها.» قال: فقلت له: بلغنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعن الواصلة و المستوصلة؟ فقال: «ليس هناك، إنّما لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الواصلة التي تزني في شبابها فإذا

كبرت قادت النساء إلى الرجال، فتلك الواصلة و الموصولة.» (2)

______________________________

(1) راجع الوسائل. «1» و في السند ضعف، و القرامل جمع للقرمل كزبرج.

و الظاهر انصراف الشعر في الحديث إلى شعر الإنسان لوضوح عدم الفرق بين الصوف و بين شعر الحيوانات الطاهرة المحلّلة اللحم. و قد فصّل في مرسلة الصدوق بين شعر المعز و شعر المرأة، فحكم بعدم البأس في شعر المعز، إلّا أن يقال: إنّ الشعر مطلقا يمكن أن يدلّس به دون الصوف، فتدبّر.

(2) راجع الوسائل. «2» و السند إلى سعد لا بأس به، و سعد مختلف فيه، و يقال له: سعد الخفاف و سعد بن طريف أيضا، و في رجال المامقاني: «قال الشيخ: هو صحيح الحديث.» «3» هذا.

و تفسير الواصلة بما ذكر في هذا الحديث ورد في بعض الأخبار الأخر أيضا:

______________________________

(1) الوسائل 12/ 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(3) تنقيح المقال 2/ 15.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 471

[الجمع بين الأخبار]

و يمكن الجمع بين الأخبار بالحكم بكراهة وصل مطلق الشعر كما في رواية عبد اللّه بن الحسن (1)، و شدّة الكراهة في الوصل بشعر المرأة، و عن

______________________________

ففي رواية إبراهيم بن زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الواصلة و المستوصلة يعني الزانية و القوّادة.» «1»

و في رواية عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يروون: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعن الواصلة و الموصولة؟ قال: فقال: «نعم»، قلت: التي تمتشط و تجعل في الشعر القرامل؟ قال: فقال لي: «ليس بهذا بأس.» قلت: فما الواصلة و الموصولة؟ قال:

«الفاجرة و القوّادة.» «2»

و التفسير للّفظين بنحو اللّف و النشر المشوّش، و في الأحاديث الثلاثة تصديق لأصل صدور اللعن عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و في نهاية ابن الأثير: «و فيه: «أنّه لعن الواصلة و المستوصلة.» الواصلة: التي تصل شعرها بشعر آخر، و المستوصلة: التي تأمر من يفعل بها ذلك. و روي عن عائشة أنّها قالت: ليست الواصلة بالتي تعنون، و لا بأس أن تعري المرأة عن الشعر، فتصل قرنا من قرونها بصوف أسود، و إنّما الواصلة: التي تكون بغيّا في شبيبتها، فإذا أسنّت و صلتها بالقيادة. و قال أحمد بن حنبل- لما ذكر له ذلك-:

ما سمعت بأعجب من ذلك.» «3»

و حكاه عنه في ملاذ الأخيار، «4» و مرآة العقول. «5»

(1) أقول: مرّ آنفا انصراف الشعر المنهي عنه إلى شعر الإنسان، و قد مرّت

______________________________

(1) معاني الأخبار/ 250، باب معنى آخر للواصلة و المستوصلة، الحديث 1.

(2) الوسائل 14/ 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 4.

(3) النهاية 5/ 192.

(4) ملاذ الأخيار 10/ 342، باب المكاسب، ذيل الحديث 153.

(5) مرآة العقول 19/ 79، كتاب المعيشة، باب كسب الماشطة و الخافضة، ذيل الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 472

الخلاف و المنتهى الإجماع على أنّه يكره وصل شعرها بشعر غيرها رجلا كان أو امرأة.

______________________________

عبارتا الخلاف و المنتهى في هذا المجال. «1»

و في رواية ثابت بن سعيد قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن النساء تجعل في رءوسهن القرامل؟ قال: «يصلح الصوف و ما كان من شعر امرأة لنفسها، و كره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها، فإن وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها فلا يضرّها.» و نحوها رواية سليمان

بن خالد، فراجع. «2»

و على هذا فكان الأولى للمصنّف أن يقول في مقام الجمع بين روايات الباب بجواز وصل شعرها بشعر نفسها أو بالصوف أو بشعر الحيوانات المحلّلة اللحم، و كراهة وصله بشعر إنسان غيرها و شدّتها في الوصل بشعر امرأة أخرى. إذ في تلك الأعصار كان وصل شعرها بشعر إنسان آخر في معرض التبين لزوج المرأة و محارمها، و كان ذلك موجبا لتهيج الرجل و توجّهه إلى صاحب الشعر و لا سيّما إذا كان امرأة فربما كان يستتبع ذلك مفاسد أخلاقية، بل يمكن أن يقال بوجود ملاك الحرمة في ذلك في بعض الأحيان كما هي ظاهر بعض أخبار الباب.

و سنعود إلى البحث في المسألة ثانيا فانتظر. هذا.

و تحقيق المقام يقتضي البحث في ثلاث جهات:

حكم تدليس الماشطة

الجهة الأولى: في حكم تدليس الماشطة.

قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه:

«الظاهر أنّه لا دليل على حرمة التدليس و الغشّ إلّا في بيع أو شراء أو تزويج، بل ربما يكونان مطلوبين للعقلاء كتزيين الدور و الألبسة و الأمتعة لإظهار العظمة

______________________________

(1) راجع الخلاف 1/ 492 (- ط. أخرى 1/ 169)، كتاب الصلاة، المسألة 234؛ و المنتهى 1/ 184، كتاب الطهارة. و قد مرّت عبارتاهما في ص 465.

(2) الوسائل 14/ 135 و 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديثين 1 و 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 473

..........

______________________________

و الشوكة و حفظ الكيان و إراءة أنّها جديدة. نعم لو قلنا بحرمة الإعانة على الإثم لكان تزيين المرأة التي في معرض التزويج أو الأمتعة التي في معرض البيع حراما لكونه مقدمة للغش المحرّم.

و قد أجاد المحقق الإيرواني حيث قال: «إنّ الماشطة لا ينطبق على فعلها غشّ و لا تدليس، و إنّما الغشّ يكون

بفعل من يعرّض المغشوش و المدلّس فيه على البيع، نعم الماشطة أعدّت المرأة لأن يغشّ بها، و حالها كحال الحائك الذي بفعله يعدّ العمامة لأن يدلّس بلبسها، و كفعل صانع السبحة المعدّ لها لأن يدلّس بالتسبيح بها رياء. و أمّا نفس التمشيط فلا دليل يدلّ على المنع عنه بقول مطلق، بل الأخبار رخصت فيه».» «1»

أقول: حصر حرمة التدليس و الغشّ في البيع و التزويج لا يخلو من مسامحة إلّا أن يكون من باب المثال لوضوح حرمتهما في جميع المعاملات المبنيّة على المداقّة كالإجارة و المزارعة و المصالحة و القرض و نحو ذلك. و إذا لم يكن في البين معاملة لم يتحقق مفهومهما لا أنّهما يتحققان و لا يحرمان، إذ الظاهر أنّ الغشّ ضدّ النصح، و التدليس إخفاء العيب من الطرف المقابل، فهما أمران إضافيان يتقومان بالطرفين، و ليس كلّ إخفاء تدليسا، فتأمّل.

و أمّا ما ذكره المحقق الإيرواني «ره» فإنّما يصحّ إذا لم يكن الماشطة بنفسها هى المتصدية لتزويج المرأة و بيع الأمة و لو بالوكالة.

حكم حرفة المشاطة بنحو الإجمال

الجهة الثانية: في حكم حرفة المشاطة

مع قطع النظر عن الأعمال الأربعة المنهي عنها في أخبار الفريقين.

و الظاهر جوازها إجمالا، و يدلّ على ذلك أخبار مستفيضة:

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 198، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به، و راجع حاشية المحقق الإيرواني «قده»/ 19.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 474

..........

______________________________

1- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث أمّ حبيب الخافضة- قال: «و كانت لأمّ حبيب أخت يقال لها: أمّ عطيّة، و كانت مقيّنة يعني ماشطة، فلما انصرفت أمّ حبيب إلى أختها فأخبرتها بما قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأقبلت أمّ عطيّة إلى

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته بما قالت لها أختها، فقال لها: «ادني منّي يا أمّ عطيّة، إذا أنت قيّنت الجارية فلا تغسلي وجهها بالخرقة فإنّ الخرقة تشرب ماء الوجه.» «1»

أقول: قان المرأة و قيّنها: زيّنها. و في النهاية: «التقيين: التزيين، و منه الحديث:

أنا قيّنت عائشة.» «2»

2- خبر القاسم بن محمد عن عليّ، قال: سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك و قد دخلها ضيق؟ قال: «لا بأس و لكن لا تصل الشعر بالشعر.» «3»

أقول: الظاهر أنّ المراد بالقاسم بن محمد: القاسم بن محمد الجوهري و بعليّ: علي بن أبي حمزة، و كلاهما واقفيان، و المرويّ عنه موسى بن جعفر عليه السّلام.

3- مرسلة ابن أبي عمير المذكورة في المتن «4» إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال، مضافا إلى استقرار السيرة و عدم الدليل على منع أصل الحرفة، فالأصل يقتضي الجواز.

نعم قد مرّ في مرسلة الصدوق قوله: «لا بأس بكسب الماشطة ما لم تشارط و قبلت ما تعطى.» و نحوها عبارة المقنع وفقه الرضا كما مرّ. «5»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 93، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) النهاية لابن الأثير 4/ 135.

(3) الوسائل 12/ 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(4) مرّت في ص 467.

(5) راجع ص 468.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 475

..........

______________________________

و مقتضى ذلك حرمة كسبها إن شارطت أو لم تقبل ما أعطيت، و سيأتي البحث في ذلك في عبارة المصنّف. «1»

حكم الأعمال الأربعة المنهي عنها:

الوصل و النمص و الوشم و الوشر

الجهة الثالثة: في حكم الأعمال الأربعة المنهي عنها في أخبار الفريقين،
اشارة

و هي الوصل و النّمص و الوشم و الوشر، فلنتعرض لها في مسائل:

المسألة الأولى: في حكم الوصل.
اشارة

فنقول: إن أريد به عمل القيادة- كما فسرّ بها في خبر سعد الإسكاف و غيره ممّا مر- فلا إشكال في حرمته.

و إن أريد به وصل شعر المرأة بغيره فالظاهر عدم الإشكال أيضا في جواز وصله بمثل الصوف و الأبريسم و نحوهما بل بشعر نفسها أيضا. و يدلّ على ذلك- مضافا إلى الأصل و استقرار السيرة عليه- أخبار الباب.

و أمّا وصله بشعر آخر فالأخبار فيه على طوائف:
الطائفة الأولى: ما دلّت على الجواز مطلقا،

كخبر سعد الإسكاف، حيث وقع فيه السؤال عن حكم القرامل بإطلاقها و الإمام عليه السّلام أجاب بأنّه لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها، فشمل عموم الموصول لوصل الشعر بالشعر أيضا، و بعدم الفصل بين المرأة المزوّجة و غيرها يثبت الحكم لغير المزوّجة أيضا، ثمّ إنّ السائل لما توهّم منافاة ذلك لما ورد من لعن الواصلة و الإمام عليه السّلام دفع ذلك بحمله على معنى آخر صار كلامه هذا أيضا ظاهرا في جواز وصل الشعر بغيره مطلقا، إذ لو كان قسم منه حراما لكان على الإمام عليه السّلام أن يدفع ذلك أيضا بأن يقول: «و لكن وصل

______________________________

(1) يأتي في ص 486.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 476

..........

______________________________

الشعر بالشعر أيضا حرام و إن لم يرده النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بلعنه هذا.»

الطائفة الثانية: ما دلّت على المنع مطلقا،

كمرسلة ابن أبي عمير و خبر عليّ، و فيهما: «لا تصلي الشعر بالشعر.» و خبر عبد اللّه بن الحسن، و فيه: «و إن كان شعرا فلا خير فيه.» و من هذا القبيل أيضا إطلاق ما ورد في لعن الواصلة و الموصولة من طرق الفريقين على تفسير العامّة و تفسير ابن غراب، مع قطع النظر عما ورد في تفسير ذلك في خبر سعد و غيره.

الطائفة الثالثة: ما دلّت على التفصيل بين وصله بشعر نفسها أو بشعر المعز،

و بين وصله بشعر غيرها أو بشعر امرأة أخرى، مثل مرسلة الفقيه و خبري ثابت بن سعيد و سليمان بن خالد كما مرّت.

[جمع المصنّف بين الطوائف الثلاث]

و قد جمع المصنّف بين هذه الطوائف الثلاث- كما مرّ- بكراهة الوصل بالشعر مطلقا و شدّتها في الوصل بشعر امرأة أخرى. و قد مرّ منّا: أنّ المتبادر من الشعر المنهي عنه هو شعر إنسان آخر أو شعر امرأة أخرى، و أمّا شعر المعز مثلا فلا وجه للمنع عنه و لا كراهة فيه، لوضوح عدم الفرق بين الصوف المجاز و بين شعر الحيوانات الطاهرة المحلّلة اللحم، فما دلّ على المنع عن الوصل بالشعر ينصرف إلى شعر إنسان آخر، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الشعر مطلقا قابل لأن يقع به التدليس، و هذا بخلاف مثل الصوف و الأبريسم و نحوهما، و على هذا فيشمل المنع للوصل بشعر نفسها أيضا.

و كيف كان فالمنع عن الوصل بشعر الإنسان، إمّا لكونه في معرض التدليس به، أو لشبهة النجاسة من جهة احتمال كونه ميتة كما يظهر من بعض كلمات العامّة، أو من جهة كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه فلا يجوز الصلاة فيه، أو لكونه من امرأة أجنبية فيحرم على زوجها و محارمها النظر إليه.

فنقول: أمّا صدق التدليس فينحصر فيما إذا كان في مقام بيع الجارية أو تزويج المرأة، فلا كليّة له. و أمّا النجاسة فممنوعة عندنا، إذ لا نلتزم بها إلّا في الأجزاء

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 477

..........

______________________________

المبانة التي لها حياة، و نمنع أيضا عدم جواز الصلاة في أجزاء الإنسان و إن حرم لحمه، لانصراف عنوان ما لا يؤكل لحمه إلى غير الإنسان.

نعم يبقى شبهة كونه من أجنبية إذا فرض كونه منها لا

من أمّ الزوجة مثلا، فهل حرمة النظر إلى شعر الأجنبية تجري مع إبانته منها مطلقا أو لا تجري كذلك، أو يفصّل بين ما إذا عرف صاحب الشعر و ما إذا لم يعرف؟

قال في الجواهر في هذا المجال: «و ربما حمل النهي المزبور على المنع من جهة الصلاة بشعر الغير. و فيه: أنّه لا بأس به كما حرّرناه في محلّه، أو على أنّه شعر امرأة أجنبية و هو عورة، و فيه:- مضافا إلى ترك الاستفصال في النصوص المزبورة- منع جريان حكم العورة عليه بعد انفصاله، فليس حينئذ إلّا الكراهة.» «1» هذا.

و ظاهر المصنّف و صاحب الجواهر تبعا للخلاف و المنتهى و غيرهما حمل أخبار المنع على الكراهة لا الحرمة، و هذا خلاف ظاهر النهي، إلّا أن يقال: إنّ مرسلة ابن أبي عمير حيث اشتملت على النهي عن تجلية الوجه بالخرق أيضا معللا بما لا يناسب إلّا الكراهة و لا يلتزم بحرمته أحد صار هذا قرينة على حمل ما بعدها أيضا على الكراهة لوحدة السياق. و كذا مرسلة الفقيه، حيث منعت عن المشارطة، مع وضوح أنّ المشارطة و أخذ الأجرة على العمل المباح جائزان بلا إشكال، فمساقها مساق الكراهة. و قوله في رواية عبد اللّه بن الحسن: «و إن كان شعرا فلا خير فيه» أيضا لا يستفاد منه أزيد من الكراهة.

و يشهد للجواز و عدم الحرمة أيضا خبر سعد الإسكاف على ما بيّناه. و خبر القاسم بن محمد عن عليّ ضعيف لا يثبت به أزيد من الكراهة بناء على التسامح في دليلها على وزان ما قالوا به في المستحبّات.

______________________________

(1) الجواهر 22/ 114، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2،

ص: 478

..........

______________________________

و أمّا لعن الواصلة و الموصولة فهو و إن كان ظاهرا في الحرمة لكن فسّرا في خبر سعد و غيره بعمل القيادة. و تفسير ابن غراب لهما لا حجية له، لعدم نقله من الإمام عليه السّلام، فلعلّه أخذ ذلك من العامّة كما مرّ، فراجع البيهقي. «1»

و المحقق الإيرواني «ره» في الحاشية منع من دلالة اللعن على الحرمة، فقال: «مع أنّ اقتضاء اللعن للحرمة ممنوع، فإنّه طلب البعد من اللّه- تعالى-، و فاعل المكروه بعيد منه- تعالى- بمقدار فعله، بل يمكن أن يقال: إنّ اللعن يجتمع مع الإباحة و يكون اللعن باعتبار لازم هذه الأفعال من حصول إغراء الفسّاق بالنظر إليهن، فإذا حصل الأمن من ذلك لم يكن بفعله بأس.» «2»

و ذكر نحو ذلك في مصباح الفقاهة أيضا، «3» و استشهد لذلك بروايات:

منها: ما في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام، قال: «يا عليّ، لعن اللّه ثلاثة: آكل زاده وحده، و راكب الفلاة وحده، و النائم في بيت وحده.» «4»

و منها: ما عن الصادق عليه السّلام: «ملعون ملعون من وهب اللّه له مالا فلم يتصدق منه بشي ء.» «5» إلى غير ذلك من الأخبار. هذا.

و لكن ظهور اللعن في الحرمة واضح و إن جاز رفع اليد عنه بما دلّ على الجواز و عدم الحرمة، و بذلك صرّح في مصباح الفقاهة أيضا.

و ربما يستشهد للكراهة و عدم الحرمة بقوله عليه السّلام في رواية ثابت بن سعيد: «و كره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها.» «6»

______________________________

(1) راجع البيهقي 7/ 312، كتاب القسم و النشوز، باب ما لا يجوز للمرأة أن تتزين به.

(2) حاشية المكاسب/ 19، ذيل قول المصنّف: المسألة الأولى: تدليس الماشطة.

(3)

راجع مصباح الفقاهة 1/ 204، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(4) الوسائل 16/ 528 (- ط. أخرى 16/ 636)، الباب 101 من أبواب آداب المائدة، الحديث 1.

(5) نفس المصدر 11/ 519، الباب 41 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 7.

(6) نفس المصدر 14/ 135، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 479

..........

______________________________

و فيه: أنّ لفظ الكراهة في الكتاب و السنة لا يختص بالكراهة المصطلحة في الفقه، بل يكون أعمّ، بل لعلّ إطلاقه يحمل على الحرمة. و يشهد للحرمة في المقام قوله- بعد هذه العبارة-: «فإن وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها فلا يضرّها»، إذ مفهوم ذلك أنّ وصله بشعر غيرها يضرّها، و ظهور ذلك في الحرمة واضح و إن رفعنا اليد عنه بأدلّة أخر. هذا.

و يتحصل مما ذكرنا بطوله أنّ ظهور خبر سعد الإسكاف في الجواز قويّ، و كذلك رواية أبي بصير الآتية، و مساق أكثر الروايات الكراهة لا الحرمة، و قد مرّ إجماع الخلاف عليها، فيحمل ما ظاهره الحرمة على الكراهة أو يطرح لضعفه.

و لعلّ القائل بالحرمة لا يوجد فينا و إن أفتى بها كثير من العامّة كما مرّ.

نعم لو عرفت المرأة صاحب الشعر و كانت أجنبية يشكل نظر زوج المرأة الموصولة و كذا محارمها إليه إذا كان مهيجا، لكونه في معرض الانجذاب إلى صاحب الشعر و الوقوع في الفساد، نظير ما قد يقال و يحتاط في النظر إلى تصوير الأجنبية إذا عرفت. و لعلّ في تلك الأعصار كان الغالب معرفة صاحب الشعر، و في هذا الجوّ و المحيط وردت أخبار المنع، فتدبّر.

المسألة الثانية: في حكم النمص أعني حفّ الشعر و نتفه:

فربما يستدلّ لكراهته بالنبويّ الذي رواه الفريقان المشتمل

على لعن النامصة و المنتمصة، فراجع رواية علي بن غراب، «1» و ما رواه العامّة في هذا المجال. «2»

و اللعن و إن كان ظاهرا في الحرمة كما مرّ لكن الظاهر أنّه لم يقل بها أحد منّا، و السند ضعيف. فغاية الأمر الكراهة بناء على التسامح في أدلّتها على نحو ما قيل به في المستحبات، و لو منعنا ذلك لم يثبت الكراهة أيضا. بل بعد صرف الوصل في الحديث عن ظاهره و تفسيره بالقيادة المحرمة قطعا يقرب إلى الذهن أن تحمل

______________________________

(1) نفس المصدر 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

(2) راجع سنن البيهقي 7/ 312، كتاب القسم و النشوز، باب ما لا يجوز للمرأة أن تتزين به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 480

..........

______________________________

العناوين الأخر أيضا على ما إذا وقعت بنحو الحرام كالتدليس أو للإظهار و ترغيب الفسّاق، فلا مجال لأن يستدلّ بالرواية للكراهة، فتدبّر.

و كيف كان فلا حرمة للنمص عندنا، و يدلّ على جوازه- مضافا إلى الأصل و خبر سعد الإسكاف- خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام، قال: سألته عن المرأة أ تحفّ الشعر عن وجهها؟ قال: «لا بأس.» «1»

و نحوه رواية قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه عليه السّلام. «2» فهما رواية واحدة فرّق بينهما في الوسائل.

و في رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن قصة النواصي تريد المرأة الزينة لزوجها، و عن الحفّ و القرامل و الصوف و ما أشبه ذلك؟ قال:

«لا بأس بذلك كلّه.» «3»

أقول: القصة بضمّ القاف: الخصلة من الشعر، و قصة النواصي: الخصلة من الشعر تجمع في الناصية للزينة، نحو

ما هو المتعارف في عصرنا أيضا. و يظهر من بعض أخبار العامّة النهي عن ذلك:

ففي سنن البيهقي بسنده عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنّه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حجّ- و هو على المنبر و تناول قصة من شعر كانت في يد حرسيّ- يقول: يا أهل المدينة، أين علماؤكم، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ينهى عن مثل هذا و يقول: «إنّما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم.» «4»

أقول: و لعلّ نهي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- على فرض ثبوته- كان من جهة عادة النساء بكشفها و عدم سترها عن الأجانب.

______________________________

(1) الوسائل 14/ 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 6.

(2) نفس المصدر 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(3) نفس المصدر 14/ 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 5.

(4) سنن البيهقي 2/ 426، كتاب الصلاة، باب لا تصل المرأة شعرها بشعر غيرها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 481

..........

______________________________

و لعلّ لعن العناوين الأربعة في المقام- على فرض صحة روايته- أيضا كان بهذا اللحاظ، حيث كانت النساء تتزين بها غالبا و تظهرها للأجانب، نظير ما يشاهد في عصرنا من عدم تستّر النساء المترفات و عدم تحفظهن.

فيكون مقتضى الجمع بين هذا السنخ من الروايات و بين روايتي سعد الإسكاف و أبي بصير جواز تزيّن المرأة بها لزوجها بلا كراهة، و حرمة التزين بها في المجامع لمن تكشفها في قبال الأجانب، فتدبّر.

المسألة الثالثة: في حكم الوشم و الوشر،

و قد مرّ تفسيرهما في رواية علي بن غراب.

و استدلّ لكراهتهما بما ورد من طرق الفريقين من اللعن على فاعلهما، و ربما رواه عبد اللّه بن

سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«الواشمة و الموتشمة و الناجش و المنجوش ملعونون على لسان محمّد صلّى اللّه عليه و آله.» «1»

و في النهاية: «فيه أنّه نهى عن النجش في البيع، و هو أن يمدح السّلعة لينفقها و يروّجها أو يزيد في ثمنها و هو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها.» «2»

و في سند الرواية محمد بن سنان، و هو من الشيوخ و له كتب و لكن فيه خلاف فقد ضعّفه الأكثر و وثّقه المفيد و المجلسي و بعض آخر، و عمدة دليلهم على التضعيف رميه بالغلوّ.

قال المامقاني «ره»: «فهم متسالمون على كونه من الشيوخ و كونه ثقة لو لا الغلوّ، و قد بيّنا مرارا عديدة أنّه لا وثوق لنا برميهم رجلا بالغلوّ لأنّ ما هو الآن من الضروري عند الشيعة في مراتب الأئمة عليهم السّلام كان يومئذ غلوّا، حتّى إنّ مثل الصدوق «ره» عدّ نفي السّهو عنهم عليهم السّلام غلوّا مع أنّ نفي السّهو عنهم اليوم من ضروريات مذهبنا.» «3» هذا.

______________________________

(1) الوسائل 14/ 177، الباب 137 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

(2) النهاية لابن الأثير 5/ 21.

(3) تنقيح المقال 3/ 125.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 482

و أمّا ما عدا الوصل ممّا ذكر في رواية معاني الأخبار فيمكن حملها أيضا على الكراهة لثبوت الرخصة من رواية سعد في مطلق الزينة. (1)

خصوصا مع صرف الإمام عليه السّلام للنبوي الوارد في الواصلة عن ظاهره المتّحد سياقا مع سائر ما ذكر في النبوي. (2)

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في

المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 482

______________________________

و ظاهر الروايات الحرمة و لكن تحمل على الكراهة بمقتضى ما مرّ من خبري سعد الإسكاف و أبي بصير الدالّين على جواز كل ما تزينت به المرأة لزوجها.

لا يقال: مفاد الخبرين عامّ و مقتضى الصناعة تخصيصهما بسبب ما دلّ على المنع من الوشم و الوشر.

فإنّه يقال- مضافا إلى ضعف أخبار المنع-: إنّ العناوين الأربعة ذكرت في أخبار الفريقين في رديف واحد فإذا قلنا بجواز الوصل و النمص بمقتضى ما دلّ على جوازهما كما مرّ حكمنا بالجواز في الوشم و الوشر أيضا، فتأمّل.

(1) و كذلك رواية أبي بصير التي مرّت في حكم النمص، و قد مرّ حكم العناوين الأربعة تفصيلا في طيّ ثلاث مسائل، فراجع.

(2) قال في مصباح الفقاهة: «صرف النبويّ عن ظاهره بالتصرف في معنى الواصلة و المستوصلة بإرادة القيادة من الواصلة يقتضي حرمة الوصل و النمص و الوشم و الوشر المذكورة في النبويّ لاتحاد السياق، دون الكراهة.» «1»

أقول: قد مرّ منّا أنّ مع صرف الواصلة إلى معنى القيادة يحتمل أن تكون العناوين الثلاثة أيضا ناظرة إلى ما كان تفعله الفواجر بقصد جذب الفسّاق إليهن و إغرائهم إلى الفحشاء، و لا ينافي ذلك جوازها بلا كراهة إذا تزيّن بها المرأة لزوجها، كما يدلّ على ذلك روايتا سعد الإسكاف و أبي بصير.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 205، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 483

و لعلّه أولى من تخصيص عموم الرخصة بهذه الأمور. (1)

مع أنّه لو لا الصرف لكان الواجب إمّا تخصيص الشعر بشعر المرأة (2) أو تقييده بما إذا كان هو أو أحد أخواته في مقام التدليس، فلا دليل على تحريمها في غير مقام التدليس، كفعل

المرأة المزوّجة ذلك لزوجها، خصوصا بملاحظة ما في رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام

______________________________

(1) في حاشية الإيرواني: «بل تخصيص عموم الرخصة بهذه الأمور تخصيص بالأكثر، فإنّ عمدة أفعال التمشيط هي هذه الأمور.» «1»

(2) لوضوح أنّ الوصل بشعر المعز أو الصوف أو نحوهما لا يوجد فيه ملاك الحرمة و لا يتأتى فيه احتمالها إلّا مع فرض التدليس.

و في حاشية الإيرواني: «لا يقال: تخصيص الشعر بشعر المرأة لا بدّ منه على كلّ حال إن قيل بالحرمة أو قيل بالكراهة، للأخبار المقيدة للمنع بذلك. فإنّه يقال:

على الكراهة يمكن العمل بالطائفتين بالحمل على اختلاف مراتب الكراهة كما تقدمت إليه الإشارة.» «2»

أقول: نظره في ذلك إلى ما قالوه من أنّ حمل المطلق على المقيّد لا يجري في المستحبات و المكروهات بل يحملان على مراتب الاستحباب أو الكراهة. و السرّ في ذلك أنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما يجري مع إحراز وحدة الحكم، و في المستحبات و المكروهات لا يحرز ذلك غالبا لاحتمال المراتب فيهما. و قد مرّ منّا: أنّ لفظ الشعر المنهي عنه في الروايات ينصرف عن مثل شعر المعز، لوضوح عدم الفرق بين الصوف و شعر المعز إلّا أن يكون شعر المعز في معرض التدليس به.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 19، عند قول المصنّف: و لعلّه أولى من تخصيص عموم الرخصة.

(2) نفس المصدر/ 19، ذيل قول المصنّف: مع أنّه لو لا الصرف ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 484

عن المرأة تحفّ الشعر عن وجهها؟ قال: «لا بأس.» (1)

و هذه أيضا قرينة على صرف إطلاق لعن النامصة في النبويّ عن ظاهره بإرادة التدليس أو الحمل على الكراهة.

______________________________

(1) راجع الوسائل «1» و قد مرّت في المسألة الثانية، و نحوها روايتا

قرب الإسناد و أبي بصير، فراجع. هذا.

تلخيص المقال في المسألة و إشارة إلى فروع

خلاصة المقال في المقام: أنّ وصل المرأة شعرها بشعر نفسها أو بمثل الصوف و شعر المعز و الابريسم و نحوها لا بأس به بلا إشكال، بل يشكل الحكم بكراهته أيضا إلّا إذا وقع للتدليس فيحرم، بل و كذلك وصله بشعر امرأة أخرى أيضا إلّا إذا عرفت و صار ذلك سببا لتوجّه زوجها إلى الأجنبية أو كان في معرض ذلك فلا يخلو من إشكال، و على ذلك ينبغي أن يحمل ما ورد في النهي عنه.

و أمّا الخصال الثلاث الأخر فهي من أوضح مصاديق الزينة، فإن وقعت بقصد التدليس أو بقصد جذب الفسّاق من الأجانب- على ما كانت تصنعه الفواجر- كانت محرّمة بلا إشكال، و إلّا فلا وجه لحرمتها بل و لا كراهتها و لا سيّما فيما إذا تزينت بها المرأة لزوجها و أخفاها عن الأجانب، بل يمكن القول بحسنها عقلا و استحبابها شرعا في هذه الصورة لإعفاف الزوج و إقناعه و كفّه عن المحرمات، و على ذلك استقرت سيرة العقلاء بل و المتشرّعة أيضا، و تحمل أخبار النهي و اللعن على موارد التدليس و قصد الفساد أو المعرضية لهما و لا سيّما بعد تفسير الوصل فيها بالقيادة التي لا إشكال في حرمتها، فتدبّر.

______________________________

(1) راجع الوسائل 14/ 136، الباب 101 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 6.

و راجع ص 480.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 485

[الحكم في وشم الأطفال]

نعم قد يشكل الأمر في وشم الأطفال من حيث إنّه إيذاء لهم بغير مصلحة (1)، بناء على أن لا مصلحة فيه لغير المرأة المزوّجة إلّا التدليس بإظهار شدّة بياض البدن و صفائه بملاحظة النقطة الخضراء الكدرة في البدن.

لكن الإنصاف أنّ كون ذلك تدليسا مشكل بل ممنوع، بل هو تزيين

للمرأة من حيث خلط البياض بالخضرة فهو تزيين لا موهم لما ليس في البدن واقعا من البياض و الصفاء.

نعم مثل نقش الأيدي و الأرجل بالسّواد يمكن أن يكون الغالب فيه إرادة إيهام بياض البدن و صفائه، و مثله الخطّ الأسود فوق الحاجبين أو وصل الحاجبين بالسّواد لتوهّم طولهما و تقوّسهما.» (2)

[التدليس بالأمر الخفيّ]

ثمّ إنّ التدليس بما ذكرنا إنّما يحصل بمجرد رغبة الخاطب أو المشتري و إن علما أنّ هذا البياض و الصفاء ليس واقعيا بل حدث بواسطة هذه الأمور، فلا يقال: إنّها ليست بتدليس لعدم خفاء أثرها على الناظر. (3)

______________________________

(1) لا يخفى أنّ الوشم لا يستلزم الإيذاء دائما، إذ يمكن تخدير الموضع بنحو لا يتأذى، كما هو المتعارف في ثقب الآذان. و على تقدير التأذي فمصلحة التزيين أقوى من مفسدة التأذي الجزئي، و التزيين أمر مرغوب فيه عند العقلاء حتى بالنسبة إلى الصبيان ذكورا و إناثا و استقرّت عليه سيرة العقلاء و المتشرعة في جميع الأعصار.

(2) جميع هذه الأمور و ما حذا حذوها تعدّ عرفا من مصاديق التزيين، و لا بأس بها و لا سيّما للمرأة المزوّجة بالنسبة إلى زوجها. نعم لو وقعت بقصد التدليس أو لجذب الأجانب صارت محرّمة كما هو واضح.

(3) في حاشية المحقق الإيرواني: «التدليس هو تلبيس الأمر على الغير بإظهار كمال ليس فيه، و أمّا ترغيب الخاطب و المشتري بسبب التزيين فهو أجنبيّ عن التدليس

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 486

و حينئذ فينبغي أن يعدّ من التدليس: لبس المرأة أو الأمة الثياب الحمر أو الخضر الموجبة لظهور بياض البدن و صفائه، و اللّه العالم.

[كراهة كسب الماشطة مع شرط الأجرة]

ثمّ إنّ المرسلة المتقدمة عن الفقيه (1) دلّت على كراهة كسب الماشطة مع شرط الأجرة المعيّنة، و حكي الفتوى به عن المقنع و غيره. و المراد

______________________________

و ليس بحرام قطعا.» «1»

و في القاموس: «الدلس- بالتحريك-: الظلمة كالدلسة بالضمّ ... و مالي دلس: خديعة، و التدليس: كتمان عيب السلعة عن المشتري ...» «2»

و في الصحاح: «التدليس في البيع: كتمان عيب السلعة عن المشتري، و المدالسة كالمخادعة.» «3»

فقد أخذ في

مفهومه جهل الطرف و إغفاله، مضافا إلى أنّ الدليل على حرمة التدليس ما ورد من الأخبار في حرمة الغشّ، و قد فسّروه بالخدعة و إظهار خلاف ما أضمر و لا يتحقق ذلك إلّا مع جهل الطرف. و على هذا فتزيين السلعة بنحو يرغب فيها المشتري و لبس المرأة ما يوجب رغبة الخاطب مع علم الطرف بوضعهما لا يصدق عليهما الغش و التدليس.

(1) عبارة المرسلة هكذا: «لا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط و قبلت ما تعطى.» «4»

و الظاهر من الفقيه كون المرويّ عنه أبو عبد اللّه عليه السّلام. «5» و مثلها عبارة المقنع كما مرت، و كذا عبارة فقه الرضا. «6»

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 19.

(2) القاموس المحيط 2/ 216.

(3) الصحاح 3/ 930.

(4) الوسائل 12/ 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(5) راجع الفقيه 3/ 162، كتاب المعيشة، باب المعايش و المكاسب، الحديث 3591 و ما قبله.

(6) راجع المقنع/ 361، باب المكاسب و التجارات؛ و فقه الرضا/ 252، باب التجارات و البيوع و المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 487

بقوله عليه السّلام: «إذا قبلت ما تعطى»: البناء على ذلك الفعل و إلّا فلا يلحق العمل بعد وقوعه ما يوجب كراهته. (1)

ثمّ إنّ أولوية قبول ما تعطى و عدم مطالبة الزائد إمّا لأنّ الغالب عدم نقص ما تعطى عن أجرة مثل العمل إلّا أنّ مثل الماشطة و الحجّام و الختّان و نحوهم كثيرا ما يتوقعون أزيد مما يستحقون- خصوصا من أولي المروّة و الثروة- و ربما يبادرون إلى هتك العرض إذا منعوا، و لا يعطون ما يتوقعون من الزيادة أو بعضه إلّا استحياء و صيانة للعرض، و هذا لا يخلو عن شبهة، فأمروا في

الشريعة بالقناعة بما يعطون و ترك مطالبة الزائد، فلا ينافي ذلك جواز مطالبة الزائد و الامتناع عن قبول ما يعطى إذا اتفق كونه دون أجرة المثل. (2)

______________________________

و في قول المصنّف: «و حكي الفتوى به» يرجع الضمير إمّا إلى المرسلة أو إلى الكراهة، و لعلّ الثاني أظهر.

(1) في مصباح الفقاهة: «لا موجب لهذا التوجيه بعد إمكان الشرط المتأخّر و وقوعه، فلا غرو في تأثير عدم القبول بعد العمل في كراهة ذلك العمل كتأثير الأغسال الليلية في صحة الصوم على القول به.» «1»

(2) أقول: ربما يتوهّم تقييد ما دلّت من الأخبار على حلّية عمل المشاطة- كما مرّت- بمفهوم المرسلة، فتكون النتيجة حلّية كسبها ما لم تشارط و قبلت ما تعطى و إلّا حرم كسبها.

و أورد على ذلك أوّلا بضعف المرسلة و كذا فقه الرضا، فلا يجوز الاستدلال بهما للحرمة و تقييد المطلقات بهما. نعم يجوز الاستدلال بهما للكراهة بناء على

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 200، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 488

و إمّا لأنّ المشارطة في مثل هذه الأمور لا تليق بشأن كثير من الأشخاص لأن المماكسة فيها خلاف المروّة، و المسامحة فيها قد لا تكون مصلحة لكثرة طمع هذه الأصناف، فأمروا بترك المشارطة و الإقدام على العمل بأقلّ ما يعطى و قبوله. و ترك مطالبة الزائد مستحب للعامل و إن وجب على من عمل له إيفاء تمام ما يستحقه من أجرة المثل، فهو مكلّف وجوبا بالإيفاء، و العامل مكلف ندبا بالسكوت و ترك المطالبة خصوصا على ما يعتاده هؤلاء من سوء الاقتضاء.

______________________________

التسامح في دليلها كما قيل به في المستحبات.

لا يقال: إن الصدوق «ره» أسند ذلك إلى أبي عبد اللّه

عليه السّلام بنحو الجزم، و هذا يدلّ على ثبوت الخبر عنده و اعتماده عليه.

فإنّه يقال: ثبوت الخبر عنده لا يكفي في اعتمادنا عليه ما لم نطّلع على الوسائط و لم نحرز صحتها.

و ثانيا: أنّ عمل المشاطة بعد ما ثبت حلّيتها و كونها عملا محترما لا وجه لعدم جواز تعيين الأجرة لها فيجب توجيه الرواية. و المصنّف احتمل فيها ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أنّ ما يعطى للماشطة و الحجّام و الختّان و أمثالهم لا ينقص غالبا عن أجرة المثل و لكنهم لشدّة حرصهم يتوقعون غالبا أزيد مما يستحقون، و لو منعوا عن ذلك لبادروا إلى هتك عرض الطرف و لا يخلو هذا عن شبهة- إذ المأخوذ حياء كالمأخوذ غصبا- فلأجل ذلك منعوا عن المشارطة، فلا ينافي ذلك جواز مطالبتهم لحقّهم و امتناعهم عن قبول ما أعطوا إذا اتفق كونه أقلّ من أجرة مثل أعمالهم.

الثاني: أنّ المشارطة و المماسكة في مثل هذه الأعمال الخسيسة النازلة لا تليق بشأن أهل المروّة و إن وجب على من عمل له إيفاء حقهم، فهو مكلّف وجوبا بإيفاء حقوقهم، و هم مكلّفون ندبا بالسكوت و ترك المطالبة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 489

أو لأنّ الأولى في حقّ العامل قصد التبرع بالعمل (1) و قبول ما يعطى على وجه التبرّع أيضا، فلا ينافي ذلك ما ورد من قوله عليه السّلام:

«لا تستعملن أجيرا حتّى تقاطعه.» (2)

______________________________

الثالث: أنّ الأولى في حقّ العامل لهذه الأعمال- بل مطلقا- قصد التبرع بالعمل و قبول ما يعطى على وجه التبرع أيضا.

(1) قوله: «أو لأن الأولى» عطف على قوله: «إما لأنّ الغالب»، فهذا هو الاحتمال الثالث في عبارة المصنّف.

و يرد عليه أوّلا ما في مصباح الفقاهة، حيث قال: «المرسلة إنّما دلّت

على عدم المشارطة المستلزمة لعدم تحقق الإجارة المعتبر فيها تعيين الأجرة، و هذا لا يستلزم قصد التبرع، لجواز أن يكون إيجاد العمل بأمر الآمر فيكون أمره هذا موجبا للضمان بأجرة المثل كما هو متعارف في السوق كثيرا.» «1»

و ثانيا: أنّ العمل بعد كونه عملا حلالا محترما لا وجه لأولوية قصد التبرّع فيه، بل ينافي لفظ الكسب المذكور في المرسلة لقصد التبرع.

(2) هذا المضمون ورد في بعض الأخبار و لكن لا بهذا اللفظ، فراجع الوسائل. «2»

و لا يخفى أنّ مورد هذه الرواية و نحوها صورة الاستيجار للعمل، و مع فرض كون الأولى في مثل المشاطة و نحوها قصد التبرّع يكون عملها خارجا عن حريم الإجارة و موضوعها بالكلية، فلا يتوهم تنافيهما، فتدبّر.

______________________________

(1) نفس المصدر 1/ 201.

(2) راجع الوسائل 13/ 245، كتاب الإجارة، الباب 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 491

[المسألة الثانية: تزيّن الرجل بما يحرم عليه ...]
اشارة

المسألة الثانية: تزيين الرجل بما يحرم عليه من لبس الحرير و الذهب حرام، لما ثبت في محلّه من حرمتهما على الرجال، و ما يختصّ بالنساء من اللباس- كالسوار و الخلخال و الثياب المختصة بهن في العادات- على ما ذكره في المسالك. و كذا العكس، أعني تزيين المرأة بما يختصّ بالرجال- كالمنطقة و العمامة-، و يختلف باختلاف العادات. (1)

______________________________

المسألة الثانية: تزيّن الرجل بما يحرم عليه ...

(1) قد تعرّض المصنّف هنا لمسألتين: الأولى تزين الرجل بالحرير و الذهب، الثانية: تزيّن كلّ من الرجل و المرأة بما يختصّ بالآخر، و ربما يعبّر عن الثانية بتشبّه كلّ منهما بالآخر في اللباس و الزينة، و بعض تعبيرات الأصحاب ربما يعمّ المسألتين كما سيظهر، و المسألة الثانية بنفسها تعمّ المسألة الأولى، إذ الظاهر من الأخبار و الفتاوى أنّ التزين بالحرير و

الذهب من مختصّات النساء.

و قد عبّرنا بلفظ التزيّن و عبّر المصنّف و غيره بلفظ التزيين، و لعلّهم أرادوا بذلك تزيين الغير لهما في مقابل أخذ الأجرة لذلك ليصحّ عدّه من المكاسب المحرمة.

و كيف كان فالأولى إفراد كلّ من المسألتين بالبحث، فنقول:

الأولى: تزيّن الرجل بالحرير و الذهب
[بيان بعض كلمات الفقهاء في المقام]

و الظاهر اتفاق الفريقين على حرمة ذلك إجمالا، فلنتعرض لبعض كلماتهم:

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 492

..........

______________________________

1- قال المفيد في مكاسب المقنعة: «و معالجة الزينة للرجال بما حرّمه اللّه- تعالى- حرام.» «1»

2- و في مكاسب النهاية: «و معالجة الزينة للرجال بما حرّمه اللّه عليهم حرام.» «2» و مثلها عبارة السرائر. «3»

أقول: في مفتاح الكرامة: «و أمّا تزيين الرجل بالحرام ففي المقنعة و النهاية ما يعطي أن المراد بالحرام: الذهب و ما حرم من الحرير.» «4» ثم ذكر عبارة الكتابين.

3- و في مكاسب الشرائع: «و تزين الرجل بما يحرم عليه.» «5»

4- و ذيّل هذه العبارة في المسالك بقوله: «المحرّم عليه من الزينة هو المختصّ بالنساء، كلبس السوار و الخلخال و الثياب المختصة بها بحسب العادة، و يختلف ذلك باختلاف الأزمان و الأصقاع. و منه تزيينه بالذهب و إن قلّ، و بالحرير زيادة عمّا استثني، و كذا يحرم على المرأة التزيين بزينة الرجل و التحلّي بحليته المختصة به كلبس المنطقة و العمامة و التقلّد بالسيف. و لا فرق في الأمرين بين مباشرة الفاعل لذلك بنفسه، و تزيين غيره له، إلّا أنّ المناسب للعبارة هنا فعل الغير بهما ليكتسب به.» «6»

أقول: فهو «ره» حمل عبارة المصنّف على المسألة الثانية و عدّ المسألة الأولى من مصاديقها.

5- و في المكاسب المحرّمة من المختصر النافع: «و تزيين الرجل بما يحرم عليه.» «7»

6- و ذيّله في التنقيح بقوله: «ذلك كالحرير

المحض و الذهب كثيره و قليله حتى جزء لا يتجزّى. و كذا تزيين المرأة بما يحرم عليها كاتخاذ المنطقة و السيف لها،

______________________________

(1) المقنعة/ 590، باب المكاسب.

(2) النهاية للشيخ الطوسي/ 365، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) راجع السرائر 2/ 222، باب ضروب المكاسب.

(4) مفتاح الكرامة 4/ 59، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع من المحرم.

(5) الشرائع/ 264 (- ط. أخرى 2/ 10)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(6) المسالك 3/ 130، كتاب التجارة ... الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(7) المختصر النافع/ 117، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، الخامس مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 493

..........

______________________________

و لا أدري لم أهمل المصنّف ذلك؟!» «1»

أقول: يظهر منه أيضا حمل عبارة المصنّف على كلتا المسألتين.

7- و في المكاسب المحرمة من إرشاد العلّامة قوله: «و تزيين الرجل بالمحرم.» «2»

8- و ذيّله في مجمع الفائدة بقوله: «كتزيينه بالذهب و الحرير إلّا ما استثني، قيل:

و منه تزيينه بما يختصّ بالنساء كلبس السّوار و الخلخال و الثياب المختصّة بها بحسب العادة، و يختلف ذلك باختلاف الأزمان و البلاد، و كذا العكس. و لعلّ دليله الإجماع و أنّه نوع غشّ و هو محرّم، و الإجماع غير ظاهر فيما قيل، و كذا كونه غشّا و هو ظاهر.» «3»

9- و في لباس المصلّي من الشرائع: «الرابعة: لا يجوز لبس الحرير المحض للرجال، و لا الصلاة فيه إلّا في الحرب و عند الضرورة.» «4»

10- و في الجواهر ذيّل عدم جواز اللبس بقوله: «إجماعا من المسلمين»، و عدم جواز الصلاة فيه بقوله: «عندنا إذا كان مما تتمّ به الصلاة ...» «5»

11- و فيه أيضا: «لا يجوز لبس الذهب للرجل إجماعا

أو ضرورة و لا الصلاة في الساتر منه بلا خلاف أجده ...» «6»

12- و في المغني لابن قدامة: «القسم الثاني: ما يختصّ تحريمه بالرجال دون النساء، و هو الحرير و المنسوج بالذهب و المموّه به، فهو حرام لبسه و افتراشه في الصلاة و غيرها، لما روى أبو موسى: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «حرم لباس الحرير و الذهب على ذكور أمّتي و أحلّ لإناثهم.» أخرجه أبو داود و الترمذي و قال حديث

______________________________

(1) التنقيح الرائع 2/ 15، كتاب التجارة ... الخامس مما يحرم الاكتساب به.

(2) إرشاد الأذهان 1/ 358، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 85، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل.

(4) الشرائع/ 54 (- ط. أخرى 1/ 69)، كتاب الصلاة، الركن الأوّل، المقدمة الرابعة.

(5) الجواهر 8/ 114.

(6) نفس المصدر 8/ 109.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 494

..........

______________________________

حسن صحيح. و عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تلبسوا الحرير فإنّ من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة.» متفق عليه، و لا نعلم في تحريم لبس ذلك على الرجال اختلافا إلّا لعارض أو عذر، قال ابن عبد البرّ: هذا إجماع، فإن صلّى فيه فالحكم فيه كالصلاة في الثوب الغصب على ما بيّناه من الخلاف و الروايتين. و الافتراش كاللبس في التحريم، لما روى البخاري عن حذيفة قال: «نهانا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن نشرب في آنية الذهب و الفضة و أن نأكل فيها و أن نلبس الحرير و الديباج و أن نجلس عليه.» «1»

13- و في الفقه على المذاهب الأربعة في

هذا المجال كلام طويل نذكر بعض فقراته: «الشافعية قالوا: يحرم على الرجال لباس الحرير ... و لا يجوز للرجال أن يجلسوا على الحرير و لا أن يستندوا إليه من غير حائل ... و يحرم أن يكتب الرجل على الحرير أو يرسم عليه أيّ نقش، كما يحرم ستر الجدران به في أيّام الفرح و الزينة إلّا لعذر ...

الحنابلة قالوا: يحرم على الرجل استعمال الحرير من لبس و غيره و لو كان الحرير بطانة لغيره أو مبطّنا بغيره ... و كذا يحرم الجلوس عليه و الاستناد إليه و توسّده و تعليقه و ستر الجدران به إلّا الكعبة ....

الحنفية قالوا: يحرم على الرجال لبس الحرير المأخوذ من الدودة إلّا لضرورة، أمّا فرشه و النوم عليه و اتخاذه و سادة أي مخدّة فالمشهور أنّه جائز ....

المالكية قالوا: يحرم على الذكور البالغين لبس الحرير، أمّا الصغار فقيل: يحلّ إلباسهم الحرير، و قيل: يحرم، و قيل: يكره.» «2»

14- و فيه أيضا: «يحرم على الرجل و المرأة استعمال الذهب و الفضّة، و علّة النهي عن استعمال الذهب و الفضة للرجال و النساء واضحة ... لذلك حرّمت الشريعة الإسلامية استعمالهما على الرجال و النساء إلّا في أحوال تقتضيها فأباحت

______________________________

(1) المغني 1/ 626، الفصل الرابع من جملة الكلام في اللباس.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 10- 13، كتاب الحظر و الإباحة، مبحث ما يحلّ لبسه ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 495

..........

______________________________

للنساء ما تتزين به منهما لأن المرأة في حاجة ضرورية إلى الزينة فلها أن تتحلّى بما شاءت من الذهب و الفضة، و كذلك أباحت للرجال التختم بالفضة ...»

و في الذيل عن الشافعية: «و يحلّ للرجل التختم بالفضة بل يسنّ ما

لم يسرف ... أمّا التختم بالذهب فحرام مطلقا.» «1»

أقول: هذه بعض كلمات الأعلام في المقام، و قد رأيت أنّ المذكور في كلام المصنّف و كلمات أكثر الأعلام من أصحابنا عنوان الزينة و التزيين لا اللبس أو التشبّه، و المقنعة و النهاية من الكتب المعدّة لنقل المسائل المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام.

و لكن يظهر من مصباح الفقاهة أنّ المحرّم للرجل في باب الحرير و الذهب عنوان لبسهما لا التزين بهما، و نفى أن يلازم أحدهما الآخر. و الأولى نقل عبارته بتمامها لكون المسألة من المسائل المبتلى بها، و الحوالة لا تخلو من الخسارة.

قال: «اتفق فقهاؤنا و فقهاء العامّة و استفاضت الأخبار من طرقنا و من طرق السنّة «2» على حرمة لبس الرجل الحرير و الذهب إلّا في موارد خاصّة، و لكن الأخبار خالية عن حرمة تزيّن الرجل بهما، فعقد المسألة بهذا العنوان كما صنعه المصنّف «ره» فيه مسامحة واضحة.

نعم ورد في بعض الأحاديث: «لا تختّم بالذهب فإنّه زينتك في الآخرة.» و في بعضها الآخر: «جعل اللّه الذهب في الدنيا زينة النساء فحرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه.» «3»

و لكن- مضافا إلى ضعف السند فيهما-: أنّهما لا تدلّان على حرمة تزين الرجل بالذهب حتى يشمل النهي غير صورة اللبس أيضا. بل تفريعه عليه السّلام في الرواية

______________________________

(1) نفس المصدر 2/ 14- 15، مبحث ما يحلّ لبسه و استعماله من الذهب و الفضة و ما لا يحلّ.

(2) راجع سنن البيهقي 2/ 422 و ما بعدها، كتاب الصلاة، باب نهي الرجال عن ثياب الحرير، و باب العلم في الحرير، و باب نهي الرجال عن لبس الذهب.

(3) راجع الوسائل 3/ 299- 302، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديثين

1 و 5 و غيرهما.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 496

..........

______________________________

الثانية حرمة لبس الذهب على كونه زينة النساء في الدنيا لا يخلو عن الإشعار بجواز تزين الرجل بالذهب ما لم يصدق عليه عنوان اللبس.

و قد يقال: إنّ عنوان التزيّن بالذهب و الفضة و إن لم يذكر في الأخبار، إلّا أنّ لبس الحرير و الذهب يلازم التزين بهما، فالنهي عن لبسهما يلازم النهي عن التزين بهما.

و فيه: أنّها دعوى جزافية، لمنع الملازمة، بل بين العنوانين عموم من وجه، فإنّ التزين قد يصدق حيث لا يصدق اللبس، كما إذا جعلت أزرار الثوب من الذهب أو من الحرير، و كما إذا خيط بهما الثوب كما تتعارف خياطة الفراء بالحرير و الديباج، و كما إذا صاغ الإنسان أسنانه من الذهب. و قد يصدق اللبس و لا يصدق التزيّن كلبس الحرير و الذهب تحت سائر الألبسة، و تختّم الرجل بالذهب للتجربة و الامتحان. و قد يجتمع العنوانان. و تفصيل الكلام في البحث عن لباس المصلّي في كتاب الصلاة.

و من هنا ظهر أنّه لا وجه لما ذهب إليه في العروة في المسألة «23» من مسائل لباس المصلّي، قال: نعم إذا كان زنجير الساعة من الذهب و علّقه على رقبته أو وضعه في جيبه لكن علّق رأس الزنجير يحرم لأنّه تزيّن بالذهب و لا تصحّ الصلاة فيه أيضا.» «1» انتهى.

أقول: و نحن أيضا علقنا على قول العروة: «و لا تصحّ الصلاة فيه» فقلنا:

«مشكل إلّا مع صدق اللبس و الصلاة فيه كما في التعليق على الرقبة.» «2»

و في حاشية السيّد «ره» على المكاسب في المقام أيضا: «لا يخفى أنّ عنوان المحرّم ليس هو التزيين بل لبس الحرير و الذهب و لو لم

يكن للتزيين، و أيضا التشبّه و لو لم يكن بقصد التزيين فلا تغفل.» «3» هذا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 206، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به؛ و راجع العروة الوثقى 1/ 563.

(2) راجع التعليقة على العروة 1/ 261.

(3) حاشية المكاسب/ 16، في ذيل قول المصنّف: تزيين الرجل بما يحرم ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 497

..........

______________________________

و لكن لا يخفى أنّ الغالب في لبس الحرير و الذهب قصد التزين بهما بحيث يوجد بين العنوانين ملازمة عرفية. و كتب أصحابنا الإمامية- حتّى ما أعدّ منها لنقل خصوص المسائل المأثورة- ملاء من ذكر عنوان التزيين كما مرّ. و في الأخبار الواردة في الباب أيضا إشعار بذلك، و مناسبة الحكم و الموضوع أيضا تشعر بكون الملاك ذلك فيشكل الإغماض عنه.

و يمكن أن يقال: إنّ عنوان التزين ليس من العناوين القصدية المتقومة بالقصد، إذ يصدق التزين على مثل لبس الحرير و الذهب و تعليقهما و التختم بالذهب و شدّ الأسنان به مثلا و إن لم يقصد عنوان التزيّن، فتدبّر.

و لو فرض كون المحرّم عنوان اللبس كما في المصباح فالظاهر انصرافه عما إذا وقع موقتا للتجربة و الامتحان مثلا.

أخبار النهي عن لبس الحرير و الذهب
اشارة

و كيف كان فلنذكر بعض أخبار النهي عن لبس الحرير و الذهب:

أمّا الحرير:

1- ففي رواية إسماعيل بن الفضل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يصلح للرجل أن يلبس الحرير إلّا في الحرب.» «1»

2- و في مرسلة ابن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«لا يلبس الرجل الحرير و الديباج إلّا في الحرب.» «2»

3- و في مرسلة الفقيه: «لم يطلق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لبس الحرير لأحد من الرجال إلّا لعبد الرحمن بن عوف، و ذلك أنّه كان رجلا قملا.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 269، الباب 12 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(3) نفس المصدر 3/ 270، و الباب، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 498

..........

______________________________

4- و في سنن البيهقي بسنده عن أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة.» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار من طرق الفريقين.

و يدلّ على منع الصلاة فيه:

1- صحيحة الأحوص، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام هل يصلّي الرجل في ثوب أبريسم؟ فقال: «لا.» «2»

2- و صحيحة محمّد بن عبد الجبّار، قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله هل يصلّى في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج؟ فكتب عليه السّلام: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض.» «3» إلى غير ذلك من الأخبار.

و المراد بعدم الحلّ في المقام و أمثاله عدم الصحّة كما لا يخفى.

و أمّا الذهب:

1- ففي رواية روح بن عبد الرحيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام: «لا تتختّم بالذهب فإنّه زينتك في الآخرة.» «4»

و إشعارها بكون وجه الحرمة كونه

زينة واضح، و في السند غالب بن عثمان و لم يثبت وثاقته إلّا أن يراد به المنقري بقرينة رواية ابن فضّال عنه. «5»

2- و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ: «إنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، و أكره لك ما أكره لنفسي، لا تتختّم بخاتم ذهب، فإنّه زينتك في الآخرة.» «6»

______________________________

(1) سنن البيهقي 2/ 422، كتاب الصلاة، باب نهي الرجال عن ثياب الحرير.

(2) الوسائل 3/ 267، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(4) نفس المصدر 3/ 299، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(5) راجع تنقيح المقال 2/ 365.

(6) الوسائل 3/ 300، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 499

..........

______________________________

3- و في رواية حنّان بن سدير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «إيّاك أن تتختم بالذهب، فإنّه حليتك في الجنّة.» «1»

4- و في رواية موسى بن أكيل النميري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في الحديد أنّه حلية أهل النار، و الذهب أنّه حلية أهل الجنة. و جعل اللّه الذهب في الدنيا زينة النساء فحرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه.» «2»

و إشعارها بكون النهي بلحاظ كونه زينة أيضا واضح، و تفريع اللبس عليه من جهة أنّ التزين به غالبا كان بلبسه، و إشارة إلى عدم حرمة جعله من النقود مثلا، فلا يرد على ذلك ما مرّ من المصباح.

5- و في خبر ابن عباس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد ذكر أشراط السّاعة:

«فعند ذلك تحلّى ذكور أمّتي بالذهب و يلبسون الحرير و الديباج.» «3»

6- و في دعائم الإسلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه نهى الرجال عن حلية الذهب و قال: «هو حرام في الدنيا.» «4»

7- و فيه أيضا عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام أنّه سئل عن حليّ الذهب للنساء؟ قال: «لا بأس به، إنّما يكره للرجال.» «5» و رواهما عنه في المستدرك. «6»

و الكراهة في لسان الكتاب و السنّة أعمّ كما مرّ.

8- و في خبر جراح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تجعل في يدك خاتما

______________________________

(1) نفس المصدر 3/ 302، و الباب، الحديث 11.

(2) نفس المصدر 3/ 300، و الباب، الحديث 5.

(3) نفس المصدر 11/ 277، الباب 49 من أبواب جهاد النفس و ما يناسبه، الحديث 22.

(4) دعائم الإسلام 2/ 164، الفصل الثالث: ذكر لباس الحلي، الحديث 588.

(5) نفس المصدر 2/ 163، و الفصل، الحديث 583.

(6) راجع مستدرك الوسائل 1/ 204، كتاب الصلاة، الباب 24 من أبواب لباس المصلّي، الحديثين 3 و 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 500

..........

______________________________

من ذهب.» «1»

9- و في سنن البيهقي بسنده عن عليّ عليه السّلام قال: «نهاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن التختم بالذهب. الحديث.» «2»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة من طرق الفريقين، فراجع. و الظاهر من الأكثر كون النهي بلحاظ الزينة و التحلّي.

و يمكن التفصيل بين الحرير و الذهب فيقال: إن المحرّم في الحرير لبسه دون التزيّن به و لذا جاز لبس المخلوط به قطعا كما في الأخبار و الفتاوى، و في رواية يوسف بن إبراهيم: «لا بأس بالثوب أن يكون سداه و زرّه و

علمه حريرا.» «3» مع صدق عنوان التزيّن فيها. و نلتزم بحرمة لبسه و إن لم يصدق عليه التزيّن، كما فيما إذا لبسه تحت ألبسته.

و أمّا في الذهب فالظاهر من كثير من الأخبار كون المنهي عنه التزين و التحلّي به للرجال، و مناسبة الحكم و الموضوع و التفصيل فيه بين الرجال و النساء يشعران بذلك، فإنّ التحلّي هو الجهة الفارقة بين الرجل و المرأة. و قد قال اللّه- تعالى- في حقّ المرأة: أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ «4» فتأمّل.

و ما ورد فيه النهي عن التختّم به فالظاهر أنّ حيثية الزينة فيه أظهر من حيثية اللبس، بل لا يطلق اللبس فيه إلّا بنحو من العناية.

و على هذا فنلتزم بحرمة الزرّ و العلم و نحوهما من الذهب دون الحرير.

و لا يستلزم حرمتها بطلان الصلاة معها و إن كان أحوط، إذ البطلان دائر

______________________________

(1) الوسائل 3/ 299، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

(2) سنن البيهقي 2/ 424، كتاب الصلاة، باب نهي الرجال عن لبس الذهب.

(3) الوسائل 3/ 272، الباب 13 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.

(4) سورة الزخرف (43)، الآية: 18.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 501

..........

______________________________

مدار صدق الصلاة فيه، و صدق ذلك في مثل الزرّ و العلم، بل و في الخاتم أيضا يحتاج إلى عناية. و في موثقة عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا يلبس الرجل الذهب و لا يصلّي فيه، لأنّه من لباس أهل الجنة.» «1» فظاهرها النهي عن إيقاع الصلاة فيه بحيث يصير ظرفا لها، و صدق ذلك في مثل الخاتم قابل للمنع. و الالتزام بكفاية مطلق المعيّة في المانعية في باب أجزاء ما

لا يؤكل لحمه بمقتضى موثقة ابن بكير لا يستلزم الالتزام بذلك في المقام.

و تحقيق المسألة في مبحث لباس المصلّي، و راجع ما علّقناه على الشرط الخامس من شرائط لباس المصلّي من العروة. «2»

فإن قلت: مقتضى ما ذكرت من حرمة التزيّن بالذهب مطلقا عدم جواز شدّ الأسنان به أيضا، لصدق الزينة، و قد مرّ منكم عدم توقف صدقها على القصد، و في صحيحة محمد بن مسلم قال: رأيت أبا جعفر عليه السّلام يمضغ علكا، فقال: «يا محمّد، نقضت الوسمة أضراسي فمضغت هذا العلك لأشدّها». قال: و كانت استرخت فشدّها بالذهب.» «3»

قلت: أوّلا: الظاهر من الحديث إرادة الأسنان غير البارزة، فلا يصدق على شدّها الزينة، و ثانيا: لا إطلاق لكلام محمّد بن مسلم، لكونه حكاية عن واقعة خاصّة، و ثالثا: إن موردها الضرورة، فيشكل التعدّي منه إلى ما لا ضرورة فيه.

هذا كلّه في المسألة الأولى، أعني تزين الرجل بالحرير و الذهب.

______________________________

(1) الوسائل 3/ 300، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 4.

(2) راجع التعليقة على العروة 1/ 261 و ما بعدها.

(3) الوسائل 1/ 407، الباب 49 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 502

و اعترف غير واحد بعدم العثور على دليل لهذا الحكم (1) عدا النبويّ المشهور المحكيّ عن الكافي و العلل: (2) «لعن اللّه المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال.»

الثانية: تزين كلّ من الرجل و المرأة بما يختصّ بالآخر
اشارة

______________________________

و قد يعبّر عنها بتشبّه أحدهما بالآخر في اللباس و الزينة، و قد مرّ كلام الشهيد في المسالك «1» و أنّه حمل كلام المحقق: «و تزين الرجل بما يحرم عليه» على هذه المسألة و عدّ المسألة الأولى التي مرّت من مصاديق هذه المسألة. و مرّ منّا أن الأولى

إفراد كلّ منهما بالبحث لاختلافهما في الوضوح و الخفاء و بحسب المبنى و الدليل.

[الدليل على الحكم]

(1) أقول: قد مرّ عن مجمع الفائدة- بعد الإشارة إلى كلام المسالك- قوله:

«لعلّ دليله الإجماع و أنّه نوع غشّ، و الإجماع غير ظاهر و كذا كونه غشّا.» «2»

و في الحدائق بعد نقل كلام المسالك قال: «لم أقف في هذا الموضع على خبر و لا دليل يدلّ على ما ذكروه سوى ما ورد من عدم جواز لبس الرجل الذهب و الحرير، فلو خصّ تحريم التزيين بذلك لكان له وجه لما ذكرناه، و أمّا ما عداه فلم نقف على دليل تحريمه ... نعم قد ورد في بعض الأخبار لعن المتشبهين بالنساء و لعن المتشبهات بالرجال، إلّا أنّ الظاهر منها- باعتبار حمل بعضها على بعض- إنّما هو باعتبار التأنيث و عدمه لا باعتبار اللبس و الزيّ ...» «3»

(2) في الوسائل عن الكافي بسند فيه ضعف عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- في حديث-: «لعن اللّه المحلّل و المحلّل له، و من تولّى غير مواليه، و من ادّعى نسبا لا يعرف، و المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات

______________________________

(1) راجع المسالك 3/ 130. و قد مر كلامه في ص 492.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 85، كتاب المتاجر. و قد مرّ في ص 493.

(3) الحدائق 18/ 198، كتاب التجارة، المقدمة 3، البحث 1، المقام 3، المسألة 9، المورد 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 503

..........

______________________________

من النساء بالرجال و من أحدث حدثا في الإسلام أو آوى محدثا، و من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه.» «1»

و ليس في العلل هذه الرواية، بل ما حكاه

المصنّف عنه بعد ذلك للتأييد.

أقول: قال ابن الأثير في النهاية: «و فيه: «لعن اللّه المحلّل و المحلّل له.» و في رواية: «المحلّ و المحلّ له.» ... و المعنى في الجميع هو أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا فيتزوجها رجل آخر على شريطة أن يطلّقها بعد وطئها لتحلّ لزوجها الأوّل.

و قيل: سمّي محلّلا بقصده إلى التحليل، كما يسمّى مشتريا إذا قصد الشراء.» «2»

و قال المجلسي في مرآة العقول: «مع الاشتراط ذهب أكثر العامّة إلى بطلان النكاح، فلذا فسّروا التحليل بقصد التحليل، و لا يبعد القول بالبطلان على أصول أصحابنا أيضا.

ثمّ اعلم أنّه يمكن أن يحمل هذا الكلام على معنى آخر غير ما حملوه عليه، بأن يكون المراد النسي ء في الأشهر الحرم.

قال الزمخشري: كان جنادة بن عوف الكناني مطاعا في الجاهلية، و كان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرّم فأحلّوه، ثم يقوم في القابل فيقول: إنّ آلهتكم قد حرّمت عليكم المحرّم فحرّموه ...

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و من يوالي غير مواليه» فسّر أكثر العامّة بالانتساب إلى غير من انتسب إليه من ذي نسب أو معتق، و بعضهم خصّه بولاء العتق فقط، و هو هنا أنسب ....

قوله: «و المتشبهين من الرجال بالنساء» بأن يلبس الثياب المختصة بهن و يتزين بما يختصهن و بالعكس، و المشهور بين علمائنا الحرمة فيهما.

قوله: «و من أحدث حدثا» أي بدعة أو أمرا منكرا. و ورد في بعض الأخبار تفسيره بالقتل ...

______________________________

(1) الوسائل 12/ 211، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ عن الكافي 8/ 71.

(2) النهاية 1/ 431.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 504

و في دلالته قصور لأنّ الظاهر من التشبّه

تأنث الذكر و تذكر الأنثى لا مجرّد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبه. (1)

و يؤيده المحكيّ عن العلل: أنّ عليا عليه السّلام رأى رجلا به تأنيث في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: «اخرج من مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لعن اللّه الخ.» (2)

______________________________

قوله: «و من قتل غير قاتله.» أي غير مريد قتله، أو غير قاتل من هو وليّ دمه فكأنّما قتل نفسه.» «1»

أقول: حمل التحليل في الحديث على النسي ء خلاف الظاهر و لا سيّما و أنّ النسي ء كان في زمان الجاهلية و انتفى موضوعه بطلوع الإسلام، بل الظاهر إرادة المحلّل للمطلّقة ثلاثا، و جوازه شرعا بالكتاب و السنّة لا ينافي عدم الجواز مع اشتراط الطلاق في متن العقد بناء على عدم الصحة حينئذ، مضافا إلى أنّ العمل فيه حزازة أخلاقية، و يمكن أن يقع اللعن بالنسبة إلى مرتكب المكروهات أيضا.

و في مرآة العقول عن الطيبي في شرح المشكاة: «و إنّما لعن لأنّه هتك مروّة و قلّة حيّة و خسّة نفس و هو بالنسبة إلى المحلّل له ظاهر، و أمّا المحلّل فإنّه كالتيس يعير نفسه بالوطي لغرض الغير.» «2»

(1) ظاهره كون التشبّه من العناوين القصدية المتقومة بالقصد، و سيأتي عدم صحة ذلك. «3»

(2) راجع الوسائل، «4» و العلل. «5» و فيهما: «اخرج من مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يا لعنة رسول اللّه. (يا من لعنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- العلل) ثم قال عليّ عليه السّلام: «سمعت

______________________________

(1) مرآة العقول 25/ 166، كتاب الروضة، ذيل الحديث 27.

(2) نفس المصدر و الكتاب.

(3)

يأتي في ص 511.

(4) الوسائل 12/ 211، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(5) علل الشرائع/ 602، الباب 385، الحديث 63.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 505

و في رواية يعقوب بن جعفر- الواردة في المساحقة-: أنّ فيهنّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه المتشبهات بالرجال من النساء الخ.» (1)

______________________________

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لعن اللّه ...».

و في حديث آخر: «أخرجوهم من بيوتكم فإنّهم أقذر شي ء.» «1» هذا.

و في السند من يجهل حاله و من لم يثبت وثاقته أيضا، فراجع. «2»

و الظاهر من الخبر كون الرجل مخنثا أو متزييا بزيّ النساء، و عدم إجرائه الحدّ أو التعزير عليه لعلّه من جهة أن الحكم لم يكن بيده عليه السّلام و لم يكن يقدر على ذلك أو أنّ نفس إخراجه من مجامع المسلمين كان كافيا في تعزيره و تأديبه.

(1) راجع الوسائل، و الكافي. و متن الخبر هكذا: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام أو أبا إبراهيم عليه السّلام عن المرأة تساحق المرأة، و كان متكئا فجلس فقال: «ملعونة الراكبة و المركوبة، و ملعونة حتى تخرج من أثوابها الراكبة و المركوبة، فإنّ اللّه- تبارك و تعالى- و الملائكة و أولياءه يلعنونهما و أنا و من بقي في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فهو و اللّه الزنا الأكبر، و لا و اللّه ما لهن توبة، قاتل اللّه لا قيس بنت إبليس ما ذا جاءت به؟!» فقال الرجل: هذا ما جاء به أهل العراق. فقال: و اللّه لقد كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل أن يكون العراق، و فيهن قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله: لعن اللّه المتشبهات بالرجال من النساء و لعن المتشبهين من الرجال بالنساء.» «3»

قال في مرآة العقول قوله: «حتى تخرج» يحتمل أن يكون الخروج من الأثواب التي لبستها عند ذلك العمل. «4»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 64؛ و عنه الوسائل 12/ 212.

(2) في السند: أبو الجوزاء و الحسين بن علوان و عمرو بن خالد. و الأوّل مختلف فيه و الآخران عامّيان. راجع تنقيح المقال 3/ 247 و 1/ 335 و 2/ 330.

(3) الوسائل 14/ 262، الباب 24 من أبواب النكاح المحرّم، الحديث 5؛ و الكافي 5/ 552، باب السحق، الحديث 4.

(4) مرآة العقول 20/ 402، ذيل الحديث 4 من باب السحق.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 506

و في رواية أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال، و هم المخنّثون و اللائي ينكحن بعضهن بعضا.» (1)

______________________________

أقول: و قوله: «ما لهن توبة» لعلّ المراد عدم توفيقهم لها لكبر الذنب جدّا، و يعقوب بن جعفر مجهول.

(1) راجع الوسائل. «1» و التفسير الأخير في ذيل الرواية بنحو اللّف و النشر المرتّب كما لا يخفى. هذا.

1- و في المستدرك عن الخصال بسنده عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام يقول: «لا يجوز للمرأة أن تتشبّه بالرجل لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعن المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال.» «2»

2- و فيه أيضا عن الجعفريات بسنده عن أبي هريرة قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مخنّثين الرجال المتشبهين بالنساء و المترجلات من النساء المتشبهات

بالرجال.» «3»

3- و فيه أيضا عن الطبرسي في مجمع البيان عن أبي أمامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «أربع لعنهم اللّه من فوق عرشه و أمّنت عليه ملائكته: الذي يحصر نفسه فلا يتزوج و لا يتسرّى لئلا يولد له، و الرجل يتشبه بالنساء و قد خلقه اللّه ذكرا، و المرأة تتشبه بالرجال و قد خلقها اللّه أنثى.» «4»

______________________________

(1) الوسائل 14/ 262، الباب 24 من أبواب النكاح المحرّم، الحديث 6.

(2) مستدرك الوسائل 1/ 208، الباب 9 من أبواب أحكام الملابس، الحديث 1؛ عن الخصال/ 587. و فيه: «لا يجوز لها أن تتشبه بالرجال ...»

(3) نفس المصدر 2/ 455، الباب 70 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 507

..........

______________________________

4- و فيه أيضا عن كتاب أبي سعيد بسنده عن جوير بن نعير الحضرمي، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «لعن اللّه و أمّنت الملائكة على رجل تأنّث و امرأة تذكّرت.» «1»

5- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعن المخنّثين من الرجال و المترجلات من النساء و قال: «أخرجوهم من بيوتكم، و أخرجوا فلانا و فلانا يعني المخنّثين.» «2»

6- و فيه أيضا بسنده عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أتي بمخنّث قد خضب يديه و رجليه بالحناء، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ما بال هذا؟ فقيل: يا رسول اللّه يتشبّه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع. قالوا: يا رسول اللّه ألا تقتله؟ قال: «إنّي نهيت عن قتل المصلّين.» قال أبو أسامة: و النقيع ناحية عن المدينة

و ليس بالبقيع. «3» إلى غير ذلك من الأخبار. هذا.

و محصّل كلام المصنّف في المقام:

أنّ غير واحد اعترفوا بعدم الدليل على حرمة التشبه في اللباس إلّا توهم دلالة لعن المتشبه منهما بالآخر على ذلك. و في دلالة ذلك قصور، لأنّ الظاهر من التشبّه المنهي عنه تأنث الذكر و تذكر الأنثى لا مجرد لبس أحدهما لباس الآخر.

و هل يريد المصنّف بهذا التعبير جعل أحد الجنسين نفسه عملا في عداد الجنس الآخر في الزيّ و الآداب و المعاشرة أو خصوص الانحراف في الرابطة الجنسية بالإقدام على اللواط أو المساحقة؟ كلّ منهما محتمل و إن كان الظاهر بملاحظة بعض الأخبار المذكورة للتأييد هو الثاني.

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

(2) سنن البيهقي 8/ 224، كتاب الحدود، باب ما جاء في نفي المخنّثين.

(3) نفس المصدر 8/ 224، كتاب الحدود، باب ما جاء في نفي المخنّثين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 508

..........

______________________________

و ردّ المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية كلام المصنّف فقال: «لا قصور في دلالته، فإنّ إطلاق التشبّه يشمل التشبه في كلّ شي ء. و دعوى انصرافه إلى التشبه فيما هو من مقتضيات طبع صاحبه لا ما هو مختص به بالجعل كاللباس، في حيّز المنع. بل كون المساحقة من تشبّه الأنثى بالذكر ممنوع، و أيّة واحدة من المساحقتين شبهت نفسها بالذكر، أو أنّ كلتيهما شبهتا أنفسهما بالذكر كما هو ظاهر رواية أبي خديجة الآتية. بل التخنث أيضا ليس تشبّها بالأنثى.» «1»

و قال في ذيل رواية العلل: «لعلّ الرجل الذي أخرجه عليّ عليه السّلام من المسجد كان متزينا بزينة النساء كما هو الشائع في شبّان عصرنا، و كان هو المراد من التأنث لا التخنث، و لو سلّم فالرواية لا تدلّ على انحصار الملعون في لسان

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله به، فلعلّه أحد أفراده ... نعم رواية أبي خديجة ظاهرة في انحصار الملعون في كلامه في المخنثين و اللائي ينكحن بعضهن بعضا.» «2»

أقول: منعه كون المساحقة من تشبه الأنثى بالذكر و كون التخنث تشبها بالأنثى واضح الفساد كما لا يخفى.

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الاستدلال بأخبار التشبه بما حاصله: «أوّلا: أنّ هذه الأخبار كلّها ضعيفة السند.

و ثانيا: لا دلالة لها على حرمة التشبه في اللباس، لأنّ التشبه المذكور فيها إمّا أن يراد به مطلق التشبّه، أو التشبّه في الطبيعة كتأنث الذكر و تذكر المرأة، أو التشبه الجامع بين التشبه في الطبيعة و التشبه في اللباس.

أمّا الأوّل فبديهي البطلان، إذ لازمه حرمة اشتغال الرجل بما هو من أعمال النساء عادة كالغزل و غسل الثوب و تنظيف البيت و نحو ذلك، و حرمة اشتغال المرأة بشغل الرجال كالاحتطاب و الاصطياد و الزرع و السقي و نحوها، و لا يلتزم بذلك أحد.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 19، ذيل قول المصنّف: و في دلالته قصور.

(2) نفس المصدر/ 20.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 509

..........

______________________________

و أمّا الثالث: فلا يمكن أخذه، إذ لا جامع بين التشبه في اللباس و التشبه في الطبيعة.

فيتعين الثاني، و يكون المراد من تشبه أحدهما بالآخر تأنّث الرجل باللواط و تذكر المرأة بالسّحق، و هو الظاهر من لفظ التشبه في المقام. و يؤيد ذلك تطبيق الإمام عليه السّلام النبويّ على المخنّثين و المساحقات في جملة من الروايات الواردة من طرق الخاصّة و العامّة.

و قد اتضح بذلك بطلان ما ادّعاه المحقق الإيرواني من أنّ إطلاق التشبه يشمل التشبّه في كلّ شي ء، و كذلك ما في حاشية السيّد «ره» من عدم اختصاص النبوي

بالتشبه في التأنّث و التذكر لإمكان شموله للتشبه في اللباس أيضا.» «1» انتهى ما في المصباح ملخصا.

أقول: ظهور بعض الأخبار في الانحراف الجنسي، أعني اللواط و المساحقة واضح، و لكن يمكن أن يكون ذكره فيها من جهة كونه من أظهر مصاديق التأنث و التذكّر، و إلّا فليس في مفاهيم التأنث و التذكّر و تشبّه أحدهما بالآخر دلالة على خصوص الرابطة الجنسية، لصدق هذه العناوين على تزيّي أحدهما بزيّ الآخر في اللباس و الزينة و الآداب و وروده بهذه الهيأة في المجتمعات و إن لم يكن من أهل اللواط أو المساحقة، فقوله عليه السّلام في رواية الخصال السابقة: «لا يجوز للمرأة أن تتشبه بالرجل لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعن المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال» «2» لا يراد به نهي المرأة عن خصوص المساحقة بل عن تزييها بزيّ الرجال في اللباس و الزينة كما هو واضح.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 208، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) الخصال/ 587، الحديث 12 من أبواب السبعين و ما فوقه. و المتن أثبتناه من المستدرك 1/ 108.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 510

[الحكم بالكراهة]

نعم في رواية سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجرّ ثيابه؟

قال: «إنّي لأكره أن يتشبه بالنساء.» (1)

و عنه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يزجر الرجل أن يتشبه بالنساء، و ينهى المرأة أن تتشبه بالرجال في لباسها.» (2)

و فيهما خصوصا الأولى بقرينة المورد ظهور في الكراهة، فالحكم المذكور لا يخلو عن إشكال.

______________________________

(1) راجع أبواب أحكام الملابس من الوسائل، رواه في الباب الثالث عشر منها عن مكارم الأخلاق

مرسلا، و في الباب الثالث و العشرين منها عن الكافي مسندا بسند موثوق به. «1»

و الكراهة في الكتاب و السنة و إن كانت أعمّ من الكراهة المصطلحة لكن المورد ربما يشهد بعدم الحرمة، لوضوح عدم حرمة جرّ الثياب.

(2) راجع الباب الثالث عشر من أبواب أحكام الملابس من الوسائل، رواها عن مكارم الأخلاق أيضا مرسلة. «2»

و ظهورها في الكراهة كما يظهر من المصنّف ممنوع، إذ ظاهر لفظي الزجر و النهي الحرمة كما لا يخفى، نعم الرواية مرسلة فيشكل إثبات الحرمة بها بوحدتها. و لو سلّم فالظاهر من هذه الرواية و أمثالها صورة اتخاذ أحدهما لباس الآخر لباسا لنفسه في حياته و تعيشه الاجتماعي، فلا يشمل اللبس الموقّت لغرض عقلائي كما في الأفلام و التعازي المتداولة و الإراءة للخيّاط مثلا و نحو ذلك.

هذا.

______________________________

(1) راجع الوسائل 3/ 354، الباب 13، الحديث 1؛ عن مكارم الأخلاق/ 118؛ و ص 367، الباب 23، الحديث 4، عن الكافي 6/ 458.

(2) راجع نفس المصدر 3/ 355، الباب 13، الحديث 2؛ عن مكارم الأخلاق/ 118.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 511

..........

______________________________

و في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لهاتين الروايتين قال ما ملخّصه: «ليس المراد من التشبه في الروايتين مجرّد لبس كلّ من الرجل و المرأة لباس الآخر، و إلّا لحرم لبس أحد الزوجين لباس الآخر لبعض الدواعي كبرد و نحوه. بل الظاهر من التشبه في اللباس المذكور في الروايتين هو أن يتزيّا كلّ من الرجل و المرأة بزيّ الآخر، كالمطربات اللاتي أخذن زيّ الرجال، و المطربين الذين أخذوا زيّ النساء، و من البديهي أنّه من المحرمات بل من أخبث الخبائث و أكبر الكبائر، و قد تجلّى مما ذكرناه أنّه لا شك في جواز

لبس الرجل لباس المرأة لإظهار الحزن و تجسّم قضية الطفّ و إقامة التعزية لسيّد شباب أهل الجنة. و قد علم مما تقدم أيضا أنّه لا وجه لاعتبار القصد في مفهوم التشبه و صدقه، بل المناط في صدقه وقوع وجه الشبه في الخارج مع العلم و الالتفات، على أنّه قد أطلق التشبّه في الأخبار على جرّ الثوب و التخنّث و المساحقة مع أنّه لا يصدر شي ء منها بقصد التشبه. و دعوى أنّ التشبه من التفعّل الذي لا يتحقق إلّا بالقصد دعوى جزافية.» «1»

أقول: ما ذكره من عدم حرمة اللبس الموقت لبعض الدواعي العقلائية أمر صحيح كما مرّ منّا أيضا، و كذا ما ذكره أخيرا من عدم اعتبار القصد في مفهوم التشبه، بل الظاهر عدم اعتبار العلم و الالتفات فيه أيضا إلّا في تنجز التكليف المتعلّق به.

و أمّا تمثيله بعمل المطربين و المطربات فيرد عليه أنّ محلّ البحث تزيّي كلّ من الجنسين بزيّ الآخر في اللباس و التجملات، و هذا أمر غير عمل الإطراب المحرم قطعا، فلا وجه لخلط المسألتين.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 210، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 512

الاستدلال للمقام بأخبار لباس الشهرة

______________________________

و قد استدلّ بها في الرياض في مسألة تزيين الرجل بما يحرم عليه. قال: «لأنّه من لباس الشهرة المنهي عنه في المستفيضة.» «1»

و نحوه في مفتاح الكرامة. «2» فلنتعرض لهذه الأخبار، و قد ذكر أكثرها في الوسائل في الباب الثاني عشر من أبواب أحكام الملابس بهذا العنوان: «باب كراهة الشهرة في الملابس و غيرها»:

1- صحيحة أبي أيّوب الخزّاز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «إنّ اللّه يبغض شهرة اللباس.» «3»

و لا يخفى أنّ الظاهر من المبغوضية الحرمة.

2- خبر

ابن مسكان، عن رجل، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «كفى بالمرء خزيا أن يلبس ثوبا يشهّره أو يركب دابّة تشهّره.» «4»

أقول: قد فسّر الخزي تارة بالذلّ و الهوان و تارة بالعذاب و العقاب، و على الأوّل لا دلالة له على الحرمة، مضافا إلى إرسال الرواية.

3- مرسل عثمان بن عيسى، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«الشهرة خيرها و شرّها في النار.» «5»

أقول: لعلّ كون خيرها أيضا في النار من جهة أنّ الشهرة به يوجب غالبا غروره و تكبّره، و مآل الكبر و الغرور إلى النار.

______________________________

(1) رياض المسائل 1/ 504، كتاب التجارة.

(2) راجع مفتاح الكرامة 4/ 60، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع من المحرم.

(3) الوسائل 3/ 354، الباب 12 من أبواب أحكام الملابس، الحديث 1.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(5) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 513

..........

______________________________

4- خبر أبي سعيد عن الحسين عليه السّلام، قال: «من لبس ثوبا يشهّره كساه اللّه يوم القيامة ثوبا من النار.» «1»

قال في الوسائل: «هذا مخصوص ببعض الأقسام المحرمة.» فيظهر منه أنّ مجرد التشهير ليس فيه ملاك الحرمة عنده.

5- و روى أيضا في الباب السابع عشر منها بسنده عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «نهاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن لبس ثياب الشهرة.» «2»

6- و يمكن أن يستأنس للمقام أيضا بقوله عليه السّلام في صحيحة حمّاد بن عثمان:

«إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، و لو لبس مثل ذلك اليوم لشهّر به.» «3» فتأمّل. هذا.

و لا يخفى أنّ لبس

أحد الجنسين ما يختصّ بالجنس الآخر و وروده كذلك في المجتمع من أظهر مصاديق لباس الشهرة.

و العمدة هي الرواية الأولى الصحيحة و ظهورها في الحرمة واضح و إن أمكن استعمال المبغوضية في المكروهات أيضا، و ظاهر الوسائل حمل الروايات على الكراهة.

و في العروة الوثقى أفتى بالحرمة فقال في مبحث لباس المصلّي (المسألة 42):

«يحرم لبس لباس الشهرة، بأن يلبس خلاف زيّه من حيث جنس اللباس أو من حيث لونه أو من حيث وضعه و تفصيله و خياطته، كأن يلبس العالم لباس الجندي أو بالعكس مثلا، و كذا يحرم على الأحوط لبس الرجال ما يختصّ بالنساء و بالعكس.» «4»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(2) نفس المصدر 3/ 358، الباب 17، الحديث 5.

(3) نفس المصدر 3/ 348، الباب 7، الحديث 7.

(4) العروة الوثقى 1/ 568.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 514

..........

______________________________

فأفتى في الأولى بالحرمة و احتاط في الثانية، و كأنه جعل الثانية من مصاديق الأولى.

أقول: الظاهر أنّه لا مجال للقول بحرمة كلّ ما يشهّر الإنسان و إن كان بالذات أمرا حلالا مطابقا لشئونه.

فأنت ترى أنّ الشخصيات البارزة في المجتمع يتوجّه الناس كثيرا إلى حركاتهم و تطوراتهم و زيّهم و ألبستهم و مركوبهم و أملاكهم، و يتفكّهون بذكرها و يشهّرونهم بها، فهل يكون اشتراء اللباس الجديد أو المركوب الجديد أو غير ذلك لحاجة أو عرس أو نحو ذلك حراما عليهم؟!

لا يمكن الالتزام بذلك و إن امكن وجود الحزازة و الكراهة في بعض الموارد.

و لأجل ذلك علّقنا سابقا على القسمة الأولى من عبارة العروة بقولنا:

«في الإطلاق تأمّل، و المتيقن صورة ترتب الهتك و الهوان. و العجيب التمثيل لذلك بلبس العالم لباس الجندي! مع أنّه ربما يكون واجبا و

يكون فخرا لا وهنا. كيف؟! و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يلبس لباس الجندي و يقاتل أعداء الإسلام. و يحتمل في الروايات الواردة في الباب إرادة لباس الكفر و الفسوق أو التزهد و الرياء.» «1»

و علّقنا على القسمة الثانية، أعني لبس أحد الجنسين لباس الآخر بقولنا:

«المتيقن من ذلك- على فرض الحرمة- ما إذا تزيّى أحدهما بزيّ الآخر في البدن و اللباس و دسّ نفسه في زمرة الجنس المخالف، فلا بأس باللبس الموقّت لغرض عقلائي.» «2»

______________________________

(1) التعليقة على العروة 1/ 263.

(2) نفس المصدر 1/ 264.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 515

[حكم الخنثى في المقام]

ثمّ الخنثى يجب عليها ترك الزينتين المختصّتين بكلّ من الرجل و المرأة كما صرّح به جماعة، (1) لأنّهما من قبيل المشتبهين المعلوم حرمة أحدهما.

______________________________

حكم الخنثى في المقام

(1) في مفتاح الكرامة: «و الخنثى يجب عليها ترك الزينتين و تلبس ما جاز لهما معا.» «1»

و في الجواهر: «و أمّا الخنثى المشكل ففي شرح الأستاذ: أنّه يجب عليها ترك الزينتين و لها العمل بما جاز لكلّ من النوعين، و هو جيّد: أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فللقطع بكونه مكلّفا بأحد الأمرين و لا يتمّ العلم بامتثاله إلّا باجتناب الزينتين.» «2»

أقول: ما ذكروه إنّما يصحّ بناء على عدم كون الخنثى المشكل طبيعة ثالثة، كما هو الظاهر من الكتاب و السنّة، و إلّا فلا دليل على كونها مكلّفة بأحد التكليفين، و مع الشك يحكم بالبراءة فيجوز لها التزيّي بزيّ كلّ منهما ما لم يترتب عليه مفسدة.

قال السيّد الطباطبائي «ره» في الحاشية ما ملخّصه: «اختلفوا في الخنثى و الممسوح أنّهما طبيعة ثالثة أو هما بحسب الواقع ذكر أو أنثى، على أقوال: ثالثها التفصيل بينهما بكون الخنثى طبيعة ثالثة دون

الممسوح، و محلّ الكلام المشكل منهما لا من دخل تحت أحد العنوانين بعلامات عرفية أو شرعية. و الإنصاف عدم ثبوت كونهما داخلين تحت أحد العنوانين، و ذلك لأنّ غاية ما استدلّ به على الأوّل:

1- قوله- تعالى-: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثىٰ «3»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 60، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع من المحرم.

(2) الجواهر 22/ 116، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) سورة النجم (53)، الآية 45.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 516

..........

______________________________

2- و قوله- تعالى-: يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ إِنٰاثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ الذُّكُورَ. «1»

3- و أيضا ما ورد من قضاء عليّ عليه السّلام بعدّ الأضلاع، معللا بأنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم الأيسر. «2» بدعوى أنّه دالّ على كونها في الواقع داخلا تحت أحدهما.

4- و أيضا صحيحة الفضيل عن الصادق عليه السّلام في فاقد الفرجين، حيث إنّه حكم بالقرعة بدعوى أنّه لتشخيص الواقع المجهول. «3»

5- و أيضا ما ورد من أنّ الخنثى ترث نصف ميراث المرأة و نصف ميراث الرجل. «4»

و أنت خبير بضعف الكلّ: أمّا الآيتان فواضح، إذ لا يستفاد منهما الحصر.

و أمّا عدّ الأضلاع فهو أمارة تعبديّة و الكلام مع عدمها. و أمّا القرعة فقد ثبت في محلّه أن موردها أعمّ مما كان له واقع أولا، كما هو المستفاد من جملة من الأخبار.

و أمّا إعطاء نصف كلّ من النصيبين فلا دلالة له أصلا، بل يمكن أن يكون من جهة كونها طبيعة ثالثة.» «5» انتهى ما في الحاشية.

أقول: بل الإنصاف ظهور الأخبار في عدم كون الخنثى طبيعة ثالثة، بل إن وجد فيها أمارة أحد الجنسين ألحقت به و إلّا بقيت مشكلة و ليست بخارجة

عنهما.

نعم يمكن أن يوجد فيها مقتضيات كلا الجنسين و خواصّهما، و ربما يغلب فيهما إحداهما و بالعملية تلحق بأحدهما، اللّهم إلّا أن يريد السيّد «ره» بالطبيعة الثالثة هذا القسم، أعني من وجد فيه مقتضيات طبع كلا الجنسين، فكأنّها رجل و امرأة معا.

______________________________

(1) سورة الشورى (42)، الآية 49.

(2) راجع الوسائل 17/ 576، الباب 2 من أبواب ميراث الخنثى و ما أشبهه، الحديث 3.

(3) راجع نفس المصدر 17/ 580، الباب 4 من أبواب ميراث الخنثى و ما أشبهه، الحديث 2.

(4) نفس المصدر 17/ 577، الباب 2 من أبواب ميراث الخنثى و ما أشبهه، الحديث 6.

(5) حاشية المكاسب/ 16، في ذيل قول المصنّف: ثمّ الخنثى يجب عليها ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 517

و يشكل- بناء على كون مدرك الحكم حرمة التشبّه- بأنّ الظاهر من التشبّه صورة علم المتشبه. (1)

______________________________

(1) أقول: العلم و لو سلّم كونه شرطا في صدق عنوان التشبه لكن لا ينحصر في التفصيلي، بل يكفي في ذلك العلم الإجمالي أيضا و هو موجود في الخنثى بناء على عدم كونها طبيعة ثالثة كما لا يخفى. هذا.

و قال السيّد «ره» في الحاشية في هذا المجال: «إن كان ذلك من جهة اعتبار القصد في صدقه فلازمه عدم الحرمة مع العلم أيضا إذا لم يكن من قصده التشبه، و لا يلتزم به، و إن لم يعتبر في صدقه القصد فلا وجه للقصر على صورة العلم.

مع أنّه على فرضه نقول: يكفي العلم الإجمالي في ذلك، و يدلّ على عدم اعتبار القصد و الصدق بمجرد اللبس رواية سماعة كما لا يخفى.» «1»

[تنبيه:] حكم تغيير الجنسيّة

تنبيه: يمكن أن يتوهم أنّ من التشبه المنهي عنه تغيير الجنسية المتداول في عصرنا.

و هذا توهّم فاسد، إذ

معنى تشبه أحد الجنسين بالآخر تشبّهه به في الزيّ و اللباس أو في الرابطة الجنسية مثلا مع حفظ أصل الجنسية، و أمّا تغييرها بالكليّة و تبديل الموضوع حقيقة فلا يصدق عليه التشبّه كما هو واضح.

و هل يجوز تغيير الجنسية مطلقا أو لا يجوز مطلقا أو يجوز مع صدق المعالجة عليه و لزومها عرفا أو شرعا؟ وجوه.

و الظاهر أنّه لا دليل على حرمته ذاتا و لكن إذا كانت مقدماته محرّمة شرعا كنظر الأجنبي إلى عورته أو لمسه لها فلا يجوز إلّا مع صدق الضرورة، كما إذا فرض وجود تمايلات الجنس المخالف فيه شديدا و غلبت فيه مقتضيات طبعه بحيث يكون بحسب الطبع من مصاديقه أو قريبا منه و لم يكن إبرازه و علاجه إلّا

______________________________

(1) نفس المصدر/ 17، في ذيل قول المصنّف: ... صورة علم المتشبه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 518

..........

______________________________

بالعملية، ففي هذه الصورة لا مانع منه، لصدق العلاج و الضرورة عليه، بل ربما يجب إذا توقف العمل بالوظائف الشرعية على ذلك.

و كيف كان فأصل العمل لا دليل على حرمته ذاتا و إن حرم بعض مقدماته إذا لم تكن ضرورة.

فإن قلت: قوله- تعالى- في سورة النساء: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّٰهِ «1» يدلّ على حرمة تغيير الصورة التي خلقها اللّه- تعالى-.

قلت: الأخذ بإطلاق الآية يقتضي حرمة جميع الصنائع و التغييرات في نظام الطبيعة، و لا يلتزم بذلك أحد.

و لعلّ المراد في الآية- بمناسبة الحكم و الموضوع- تغيير العقائد الحقة و أحكام الفطرة التي فطر الناس عليها بسبب وسوسة الشيطان.

قال الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية: «قيل: يريد دين اللّه و أمره، عن ابن عباس و إبراهيم و مجاهد و الحسن و قتادة و

جماعة، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و يؤيده قوله- سبحانه و تعالى-: فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ.» «2»

و قد تعرّض لمسألة تغيير الجنسية و بعض فروعها إجمالا الأستاذ الإمام «ره» في المسائل المستحدثة من التحرير، فراجع. «3»

و أمّا إذا فرض أنّ العملية لا توجب تغيير الجنسية من رأس بل توجب العملية أو تزريق بعض المواد تغيير الصورة و القيافة فقط، بحيث يصير الرجل بصورة المرأة أو بالعكس مع بقاء الجهاز الجنسي بحاله، فأخبار التشبه المنهي عنه تشمل مثل ذلك، و هذا نوع من تأنث الرجل و تذكر الأنثى، و مقتضى تلك الأخبار كون ذلك مرغوبا عنه شرعا، فتدبّر.

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 119.

(2) مجمع البيان 2/ 113 (الجزء الثالث من التفسير). و الآية المذكورة من سورة الروم (30)، رقمها 30.

(3) راجع تحرير الوسيلة 2/ 626 و ما بعدها، البحث حول المسائل المستحدثة ... و منها تغيير الجنسيّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 519

[المسألة الثالثة: حكم التشبيب بالمرأة المؤمنة]
[المراد بالتشبيب]

المسألة الثالثة: التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة المحترمة- و هو كما في جامع المقاصد (1) ذكر محاسنها و إظهار شدّة حبّها بالشعر- حرام على

______________________________

المسألة الثالثة: حكم التشبيب بالمرأة المؤمنة

(1) قال في جامع المقاصد: «المراد به: ذكر محاسنها و شدّة حبّها، و نحو ذلك بالشعر، و يقال: النسيب أيضا.» ثم قال ما ملخّصه: «و إنما يحرم بقيود: 1- كونها معينة معروفة و إن لم يعرفها السامع. 2- كونها مؤمنة، فلا يحرم بنساء أهل الحرب. و أمّا نساء أهل الذمّة فظاهر التقييد بالمؤمنة يقتضي الحلّ، و الظاهر العدم، لأنّ النظر إليهن بريبة حرام فهذا أولى. و نساء أهل الخلاف أولى بالتحريم.

3- كونها محرّمة، أي في

الحال. و أمّا التشبيب بالغلام فحرام على كلّ حال.» «1»

و قال ابن الأثير في النهاية: «تشبيب الشعر: ترقيقه بذكر النساء.» «2»

و في الصحاح: «و التشبيب: النسيب. يقال: هو يشبّب بفلانة، أي ينسب بها.» «3»

و في المصباح: «شبّب الشاعر بفلانة تشبيبا: قال فيها الغزل و عرّض بحبّها، و شبّب

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 28، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) النهاية 2/ 439.

(3) الصحاح 1/ 151.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 520

ما عن المبسوط و جماعة كالفاضلين و الشهيدين و المحقق الثاني. (1)

______________________________

قصيدته: حسّنها و زيّنها بذكر النساء.» «1»

أقول: يشبه أن تكون الكلمة مأخوذة من لفظ الشباب، لكون هذا العمل من مقتضيات طبع الشبّان أو لكونه سببا لتهييجهم. و الغالب وقوعه بالشعر و تعلّقه بالنساء. قال في المنجد: «شبّب: ذكر أيّام الشباب و اللهو و الغزل.» «2» و فيه أيضا: «نسب الشاعر بالمرأة: شبّب بها في شعره و تغزّل.» «3»

ثم لا يخفى أنّ التشبيب إمّا أن يقع بالمرأة أو بالغلام، و هما إمّا معروفان أو مبهمان خياليان، و المرأة إمّا محرّمة للشاعر أو غير محرمة كزوجته.

(1) 1- في شهادات المبسوط: «و إن تشبب بامرأة و وصفها في شعره نظرت، فإن كانت ممن لا يحلّ له وطيها ردّت شهادته، و إن كانت ممّن تحلّ له كالزوجة و الأمة كره و لم تردّ شهادته. و إن تشبب بامرأة مبهما و لم تعرف كره و لم تردّ شهادته لجواز أن تكون ممن تحلّ له.» «4»

أقول: يمكن القول بحرمة التشبيب بالزوجة أو الأمة أيضا عند الأجنبي إن كان موجبا لرغبته فيها و إغرائه بها بل مطلقا.

2- و في شهادات الشرائع: «و يحرم من الشعر

ما تضمن كذبا أو هجاء مؤمن أو تشبيبا بامرأة معروفة غير محلّلة.» «5»

3- و ذيّل هذا في المسالك بقوله: «و كذا يحرم منه ما اشتمل على الفحش و التشبيب بامرأة بعينها، لما فيه من الإيذاء و الاشتهار و إن كان صادقا ... و كذا

______________________________

(1) المصباح المنير/ 302.

(2) المنجد/ 371.

(3) نفس المصدر/ 803.

(4) المبسوط 8/ 228.

(5) الشرائع/ 913 (- ط. أخرى 4/ 128)، كتاب الشهادات، الطرف الأوّل، المسألة الخامسة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 521

..........

______________________________

التشبيب بالغلام محرّم مطلقا لتحريم متعلقه.» «1»

4- و في الجواهر بقوله: «أو غلام بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى ما في الكتاب و السنة من تحريم إيذاء المؤمنين و إغراء الفسّاق بالامرأة و الولد ...» «2»

أقول: لا وجه لدعوى الإجماع في المسألة الغير المعنونة في كتب القدماء المعدّة لذكر المسائل المتلقّاة عن المعصومين عليهم السّلام كالهداية و المقنع و المقنعة و النهاية و نحوها، و الشيخ عنونها في المبسوط الموضوع لذكر الفروع المستنبطة، و بالجملة الإجماع في المسائل التفريعية المستنبطة على فرض ثبوته لا يفيد لعدم كشفه عن تلقّي المسألة عنهم عليهم السّلام.

5- و في المكاسب المحرمة من القواعد: «و سبّ المؤمنين، و مدح من يستحق الذمّ و بالعكس، و التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة.» «3»

أقول: الحرمة لا تختص بالمؤمنة، لحرمة التشبيب بالمسلمة المخالفة بل و الذمية أيضا، لاحترامهما كما مرّ عن جامع المقاصد.

6- و في التذكرة: «و يحرم سبّ المؤمنين، و الكذب عليهم و التهمة، و مدح من يستحق الذمّ و بالعكس، و التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة بلا خلاف في ذلك كلّه.» «4»

7- و في المكاسب المحرمة من الدروس: «و الغزل مع الأجنبية، أي محادثتها و

مراودتها و التشبيب بها معينة و بالغلمان مطلقا، و يجوز التشبيب بنساء

______________________________

(1) المسالك 2/ 404 (من طبعته الحجرية)، كتاب الشهادات ... المسألة الخامسة.

(2) الجواهر 41/ 49، كتاب الشهادات ... المسألة الخامسة.

(3) القواعد 1/ 121، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(4) التذكرة 1/ 582، كتاب البيع، المقصد الثامن، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 522

..........

______________________________

أهل الحرب.» «1»

8- و في شهادات المغني: «فما كان من الشعر يتضمن هجو المسلمين و القدح في أعراضهم، أو التشبيب بامرأة بعينها و الإفراط في وصفها فذكر أصحابنا أنّه محرّم، و هذا إن أريد به أنّه محرّم على قائله فهو صحيح، و أمّا على راويه فلا يصحّ ...» «2»

9- و في الفقه على المذاهب الأربعة: «فلا يحلّ التغني بالألفاظ التي تشتمل على وصف امرأة معينة باقية على قيد الحياة، لأنّ ذلك يهيج الشهوة إليها و يبعث على الافتتان بها، فإن كانت قد ماتت فإن وصفها لا يضر لليأس من لقائها. و مثلها في ذلك الغلام الأمرد.» «3»

و في الذيل منه عن الحنفية: «قالوا: التغني المحرّم ما كان مشتملا على ألفاظ لا تحلّ كوصف الغلمان و المرأة المعيّنة التي على قيد الحياة.» «4»

أقول: التغني بأوصاف المرأة الميتة إن أوجبت هتكها كان حراما أيضا، لحرمة عرض المسلم حيّا كان أو ميتا. و ظاهرهم أنّ حرمة الغناء تكون بلحاظ المضمون و المحتوى لا نفس كيفية الصوت، و به قال بعض أصحابنا أيضا و سيأتي البحث فيه في محلّه.

هذه بعض كلمات الأعلام في هذا المقام ذكرناها نموذجا.

و قال في مصباح الفقاهة تنقيحا لموضوع البحث: «لا شبهة في حرمة ذكر الأجنبيّات و التشبيب بها،

كحرمة ذكر الغلمان و التشبيب بهم بالشعر و غيره إذا كان التشبيب لتمنّي الحرام و ترجّي الوصول إلى المعاصي و الفواحش كالزنا و اللواط

______________________________

(1) الدروس/ 327 (- ط. أخرى 3/ 163)، الدرس 231، الأوّل مما يحرم الاكتساب به.

(2) المغني 12/ 45، كتاب الشهادات، فصل في الملاهي.

(3) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 42، كتاب الحظر و الإباحة، حكم الغناء.

(4) نفس المصدر 2/ 43، و الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 523

[الاستدلال على الحرمة]
اشارة

و استدلّ عليه بلزوم تفضيحها و هتك حرمتها، و إيذائها، و إغراء الفسّاق بها، و إدخال النقص عليها و على أهلها، و لذا لا ترضى النفوس الآبية ذوات الغيرة و الحميّة أن يذكر ذاكر عشق بناتهم و أخواتهم بل البعيدات من قراباتهم. (1)

______________________________

و نحوهما، فإنّ ذلك هتك لأحكام الشارع و جرأة على معصيته، و من هنا حرم طلب الحرام من اللّه بالدعاء. و لا يفرق في ذلك بين كون المذكورة مؤمنة أو كافرة، و على كلّ حال فحرمة ذلك ليس من جهة التشبيب. و أمّا التشبيب بالمعنى الذي ذكره المحقق الثاني في جامع المقاصد مع القيود التي اعتبرها المصنّف ففي حرمته خلاف، فذهب جمع من الأكابر إلى الحرمة، و ذهب بعض آخر إلى الجواز، و ذهب جمع من العامّة إلى حرمة مطلق التشبيب.» «1»

أقول: ما ذكره أوّلا لتنقيح مورد البحث صحيح. و أمّا ما ذكره أخيرا من ذهاب البعض إلى جواز التشبيب مطلقا فلم أعثر عاجلا على القائل به.

(1) قد استدلّ على حرمة التشبيب في كلام المصنّف و غيره بوجوه نذكرها إجمالا ثم نبيّنها بالتفصيل:

1- استلزام التشبيب هتكها و إدخال النقص عليها و على أهلها. 2- استلزامه إيذاءها. 3- استلزامه إغراء الفسّاق بها.

4- التشبيب من أقسام اللهو و الباطل.

5- من أنواع الفحشاء المحرّمة. 6- منافاته للعفاف المأخوذ في العدالة. 7- فحوى حرمة النظر إلى الأجنبية. 8- فحوى منع الخلوة بها. 9- فحوى المنع عن جلوس الرجل في مكانها حتى يبرد. 10- فحوى الأمر بتسترها عن نساء أهل الذمّة لأنّهنّ يصفن لأزواجهن. 11- فحوى الأمر بتسترها عن الصبي المميز الذي يصف ما يرى. 12- فحوى المنع عن خضوعهن بالقول و ضرب أرجلهن ليعلم ما يخفين من

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 211، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 524

و الإنصاف أنّ هذه الوجوه لا تنهض لإثبات التحريم (1) مع كونها أخصّ من المدّعى، إذ قد لا يتحقق شي ء من المذكورات في التشبيب، بل و أعمّ منه من وجه، فإنّ التشبيب بالزوجة قد توجب أكثر المذكورات.

______________________________

زينتهن، إلى غير ذلك من المحرمات و المكروهات التي يعلم منها حرمة ذكر المرأة المعينة المحترمة بما يهيّج الشهوة عليها خصوصا ذات البعل التي لم يرض الشارع بتعريضها للنكاح بقول: «ربّ راغب فيك.»

(1) في حاشية المحقق الإيرواني: «ليت شعري أيّ شي ء تنهض لو لم تنهض هذه الوجوه؟ و أيّ شي ء منها محلّ للخدش فيه؟ و العجب أنّه عدل عن هذه الوجوه إلى وجوه أخرى في غاية الضعف، نعم المناقشة في عموم هذه الوجوه في محلّها ...» «1»

أقول: ما ذكره صحيح، لوضوح حرمة العناوين الثلاثة المذكورة، غاية الأمر عدم الملازمة بينها و بين التشبيب، إذ بينهما عموم من وجه، و لعلّ المصنّف أراد هذا، فيكون قوله: «مع كونها أخصّ من المدّعى» لبيان عدم نهوضها لا إشكالا آخر.

و بعد ما أشرنا إلى الوجوه التي استدلّوا بها لحرمة التشبيب بالمعنى

المذكور و القيود المذكورة في كلماتهم أعني ذكر محاسن المرأة المؤمنة المحترمة الأجنبية بالشعر نتعرض لهذه الوجوه بالتفصيل مع الإشارة إلى ما فيها، فنقول:

الوجه الأوّل: كونه هتكا لها و لأهلها.

و فيه أوّلا: أنّ هتكها و إن كان حراما عقلا و نقلا لكنها لا تختصّ بالشعر و لا بالمؤمنة الأجنبية، لحرمة هتك كلّ مسلم و مسلمة، بل كل ذمّي و ذمّية أيضا و لو كانت المشبّب بها زوجة أو أمة له، سواء كان بإنشاء الشعر أو إنشاده أو بالنثر.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 20، ذيل قول المصنّف: لا تنهض لإثبات التحريم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 525

..........

______________________________

و ثانيا: أنّ النسبة بين التشبيب و بين الهتك عموم من وجه، إذ ربما يتحقق الهتك بغير التشبيب، و ربما يتحقق التشبيب و لا هتك كما إذا أنشأ الشعر أو أنشده في الخلوة بحيث لم يطلع عليه أحد أو كان ذكر محاسنها و جمالها و كمالها لمصلحة عقلائية كذكرها لمن استشار و يريد أن يخطبها و المستشار مؤتمن.

و ثالثا: أنّ عنوان التشبيب غير عنوان الهتك، فلا يسري حكم أحد العنوانين إلى الآخر و إن تلازما خارجا.

الوجه الثاني: كون التشبيب إيذاء لها.

و فيه أوّلا: عدم اختصاص ذلك بالمؤمنة الأجنبية، لحرمة إيذاء كلّ مسلم و مسلمة و ذمّي و ذمّية حتى الزوجة و الأمة.

و ثانيا: أنّ النسبة بينهما عموم من وجه، لإمكان الإيذاء بغير التشبيب و التشبيب بدون الإيذاء كالتشبيب بالنساء المتبرجات حيث يفرحن بذلك.

و ثالثا: لا دليل على حرمة كلّ عمل يتأذّى منه الغير و إن لم يقصد الفاعل ذلك، إذ قد يتأذى الغير من فعل المباحات بل المستحبات و الواجبات أيضا، فربّ تاجر يتأذّى من تجارة رقيبه، و عالم يتأذى من تدريس عالم آخر أو تبليغه، و جار يتأذّى من إمكانات جاره و حسن داره و نحو ذلك حسدا عليه، فهل يحرم جميع ذلك؟!

اللّهم إلّا أن يفرّق بين عمل يرتبط بالغير و يشتمل على

نحو تصرف في حق الغير أو تعرّض لعرضه، و بين ما لا يرتبط به أصلا و لكنه لحسادته و سوء سريرته يتأذّى منه قهرا، إذ الثاني لا يصدق عليه الإيذاء، و التشبيب من النوع الأوّل كما لا يخفى.

الوجه الثالث: أنّه موجب لإغراء الفسّاق بها.

و فيه أيضا نحو ما مرّ في الوجهين الأوّلين، إذ بين التشبيب و الإغراء عموم من وجه، مضافا إلى عدم اختصاص حرمة ذلك بالشعر و لا بالمؤمنة الأجنبية، لحرمته و لو بالنسبة إلى المخالفة و الذمّية و الزوجة و الأمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 526

و يمكن أن يستدلّ عليه بما سيجي ء من عمومات حرمة اللهو و الباطل، و ما دلّ على حرمة الفحشاء، و منافاته للعفاف المأخوذ في العدالة. (1)

______________________________

و ملخّص الكلام أنّ حرمة العناوين الثلاثة المذكورة لا إشكال فيها و لكن لا توجب ذلك حرمة عنوان التشبيب بالمعنى المصطلح و القيود المذكورة في كلماتهم، و الأحكام تابعة لعناوين موضوعاتها المذكورة في الأدلّة و لا يسري حكم عنوان إلى عنوان آخر و إن تلازما خارجا فضلا عن عدم التلازم في المقام.

[الوجه الرابع: عمومات حرمة اللهو و الباطل]

(1) الوجه الرابع: عمومات حرمة اللهو و الباطل، و سيجي ء من المصنّف التعرض لها في مبحث الغناء، و التشبيب من مصاديقهما.

و فيه أوّلا: أنّ النسبة بين التشبيب و بين الباطل عموم من وجه، إذ قد يتعلق بالتشبيب غرض عقلائي، و يكون الكلام أيضا مشتملا على مطالب عالية و لطائف راقية، فلا يكون باطلا لا بالذات و لا بحسب الغاية المقصودة.

و ثانيا: نمنع حرمة اللهو و الباطل بنحو الإطلاق، إذ فسّر اللهو بما ألهى و شغل الإنسان عن ذكر اللّه و عن الأمور النافعة. و جميع المشاغل و الأعمال الدنيوية تلهي عن ذكر اللّه و عن ذكر القيامة و تبعاتها. و في الكتاب العزيز أطلق على الحياة الدنيا اللهو، قال اللّه- تعالى- في سورة العنكبوت: مٰا هٰذِهِ الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا إِلّٰا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ «1»، فهل يكون جميع هذه حراما؟

و الظاهر أنّ المحرّم من

اللهو ما يخرج به الإنسان عن الاستقامة و الاعتدال و يؤثر في عقله و إحساساته نحو ما يؤثر الخمر فيها كما حقق في محلّه. و الباطل في مقابل الحق، و كلّ شي ء ما خلا اللّه باطل فلا يكون كلّ باطل حراما.

و ثالثا: لو سلم حرمتهما بنحو الإطلاق فحكم كلّ عنوان ثابت لنفسه و لا يسري إلى عنوان آخر و إن فرض ملازمته له خارجا كما مرّ.

______________________________

(1) سورة العنكبوت (29)، الآية 64.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 527

الوجه الخامس: كونه من الفحشاء،

______________________________

و هي منهي عنها، قال اللّه- تعالى- في سورة النحل: وَ يَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ. «1»

و قال في سورة النور: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ. «2»

و في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أذناه فهو من الذين قال اللّه- عزّ و جلّ-: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ.» «3»

و في لسان العرب: «الفحش و الفحشاء و الفاحشة: القبيح من القول و الفعل.» «4»

و فيه: منع كون التشبيب مطلقا من الفحشاء المحرّمة، و لو سلّم فلا يختصّ بما اصطلحوا عليه، إذ لا فرق في ذلك بين أن يكون بالشعر أو بالنثر، بأنثى أو بغلام، كانت الأنثى مؤمنة أو غير مؤمنة.

الوجه السّادس: منافاة التشبيب للعفاف المأخوذ في العدالة

على ما في صحيحة ابن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: «أن تعرفوه بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان. الحديث.» «5»

و فيه: أنّ الظاهر من الصحيحة بمناسبة الحكم و الموضوع كون المراد بالعفاف اجتناب المحارم التي حرّمها اللّه- تعالى- لا العفاف الأخلاقي، و كون التشبيب من المحرّمات أوّل الكلام.

______________________________

(1) سورة النحل (16)، الآية 90.

(2) سورة النور (24)، الآية 19.

(3) الكافي 2/ 357، كتاب الإيمان و الكفر، باب الغيبة و البهتان، الحديث 2.

(4) لسان العرب 6/ 325.

(5) الوسائل 18/ 288، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 528

و فحوى ما دلّ على حرمة ما يوجب- و لو

بعيدا- تهييج القوة الشهوية بالنسبة إلى غير الحليلة. (1) مثل ما دلّ على المنع عن النظر، لأنّه سهم من سهام إبليس، و المنع عن الخلوة بالأجنبية لأن ثالثهما الشيطان.

[الوجه السّابع: فحوى ما ورد في النهي عن الأمور التي توجب تهييج القوة الشهوية إلى غير الحليلة و هي على طوائف]
اشارة

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 528

______________________________

(1) الوجه السّابع: فحوى ما ورد في النهي عن الأمور التي توجب- و لو بعيدا- تهييج القوة الشهوية إلى غير الحليلة من المحرمات و المكروهات التي يعلم منها إجمالا حرمة ذكر المعينة المحترمة بما يهيج الشهوة عليها، و هي على طوائف أشار إليها المصنّف:

الطائفة الأولى: ما ورد في النهي عن النظر إلى الأجنبية

و أنّه سهم من سهام إبليس، و إطلاق السهم عليه من جهة تأثيره في قلب الناظر و في إيمانه، و إذا كان النظر إليها سهما مؤثرا في الإيمان فالتشبيب بها أولى بالحرمة و لا أقلّ من مساواته له، فراجع الباب الرابع و المائة من أبواب مقدمات نكاح الوسائل:

1- رواية علي بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سمعته يقول:

«النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، و كم من نظرة أورثت حسرة طويلة.» «1»

2- رواية أخرى لعقبة، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها للّه- عزّ و جلّ- لا لغيره أعقبه اللّه أمنا و إيمانا يجد طعمه.» «2»

3- رواية أبي جميلة عن أبي جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام، قالا: «ما من أحد إلّا و هو يصيب حظّا من الزنا، فزنا العينين النظر، و زنا الفم القبلة، و زنا اليدين اللمس. الحديث.» «3»

______________________________

(1) الوسائل 14/ 138، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

(2) نفس المصدر 14/ 139، و الباب، الحديث 5.

(3) نفس المصدر 14/ 138، و الباب، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 529

..........

______________________________

4- رواية الكاهلي، قال: قال

أبو عبد اللّه عليه السّلام: «النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، و كفى بها لصاحبها فتنة.» «1»

قال في مصباح الفقاهة في ردّ الاستدلال بأخبار النظر: «و فيه أنّك قد عرفت عدم الملازمة بين التشبيب و بين سائر العناوين المحرّمة، و كذلك في المقام، إذ قد يكون التشبيب مهيجا للشهوة و لا يكون حراما كالتشبيب بالزوجة، و قد يكون التشبيب غير مهيج للشهوة كما إذا شبّب بإحدى محارمه، و قد يجتمعان، فلا ملازمة بينهما.» «2»

أقول: و على فرض وجود التلازم بين عنوانين خارجا فحكم كلّ عنوان ثابت لنفسه و لا يسري إلى العنوان الآخر إلّا بالعرض.

و في حاشية السيّد «ره»: «مع أنّ كون المناط في المذكورات تهيج الشهوة ممنوع، بل حرمة النظر أو كراهته تعبّدي و من حيث إنّه موضوع من الموضوعات، و كذا الخلوة بالأجنبية و غيرها من المذكورات، و لذا لا نحكم بتسري حكمها إلى ما يساويها في التأثير من الأفعال الأخر، بل و لا إلى الأقوى منها.» «3»

أقول: مرجع كلامه هذا إلى إنكار حجية الفحوى و الأولوية، و مآل ذلك إلى منع كون الأحكام بلحاظ الملاكات الكامنة فيها، و قد مرّ منّا مرارا: أنّ التعبّد المحض في غير العبادات المحضة لا وجه له، بل الظاهر أنّ تشريع الأحكام بلحاظ المصالح و المفاسد الكامنة في متعلقاتها. و في بعض أخبار النظر و منها رواة الكاهلي المتقدمة إشارة إلى أنّ ملاك الحرمة فيه تهيج الشهوة.

الطائفة الثانية: ما ورد في النهي عن الخلوة بالأجنبية،

و هي أيضا كثيرة و في بعضها أنّ ثالثهما الشيطان.

______________________________

(1) نفس المصدر 14/ 139، و الباب، الحديث 6.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 215، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) حاشية المكاسب/ 17، في ذيل قول المصنّف: و يمكن أن

يستدلّ عليه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 530

..........

______________________________

و مقتضى ذلك حرمة كل ما يهيج الشهوة إلى الأجنبية، و هذا الملاك موجود في التشبيب بها أيضا، فلنتعرض لبعض هذه الأخبار:

1- ما في الفقيه، قال: و روي عن محمّد الطيّار (الطيّان خ. ل) قال: دخلت المدينة و طلبت بيتا أتكاراه، فدخلت دارا فيها بيتان بينهما باب و فيه امرأة، فقالت:

تكاري هذا البيت؟ قلت: بينهما باب و أنا شابّ. قالت: أنا أغلق الباب بيني و بينك، فحوّلت متاعي فيه و قلت لها: أغلقي الباب، فقالت: تدخل عليّ منه الروح، دعه. فقلت: لا، أنا شابّ و أنت شابّة أغلقيه، قالت: اقعد أنت في بيتك فلست آتيك و لا أقربك، و أبت أن تغلقه. فأتيت أبا عبد اللّه عليه السّلام فسألته عن ذلك، فقال:

«تحوّل منه، فإنّ الرجل و المرأة إذا خلّيا في بيت كان ثالثهما الشيطان.» «1»

2- ما في المستدرك عن دعائم الإسلام عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «لا يخلو بامرأة رجل، فما من رجل خلا بامرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما.» «2»

3- و فيه أيضا عن الجعفريات بإسناده عن عليّ عليه السّلام قال: «ثلاثة من حفظهن كان معصوما من الشيطان الرجيم و من كلّ بليّة: من لم يخل بامرأة لا يملك منها شيئا، و لم يدخل على سلطان، و لم يعن صاحب بدعة ببدعته.» «3»

4- و فيه أيضا عن الراوندي في لبّ اللباب: روي أنّ إبليس قال: «لا أغيب عن العبد في ثلاث مواضع: إذا همّ بصدقة، و إذا خلا بامرأة، و عند الموت.» «4»

5- ما في الوسائل عن الكافي بإسناده عن مسمع أبي سيّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «فيما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله البيعة على النساء أن لا يحتبين و لا يقعدن مع

______________________________

(1) الفقيه 3/ 252، كتاب المعيشة، باب المزارعة و الإجارة، الحديث 3913؛ و عنه الوسائل 13/ 280.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 553، الباب 77 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 2؛ عن الدعائم 2/ 214.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 1؛ عن الجعفريات/ 96.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 531

..........

______________________________

الرجال في الخلاء.» «1»

6- و فيه أيضا عن مكارم الأخلاق عن الصّادق عليه السّلام، قال: «أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على النساء ألّا ينحن و لا يخمشن و لا يقعدن مع الرجال في الخلاء.» «2»

أقول: يحتمل اتحاد الروايتين و وقوع تصحيف في إحداهما.

و في المنجد: «احتبى احتباء: جمع بين ظهره و ساقيه بعمامة و نحوها، و بالثوب: اشتمل به.» «3»

7- و فيه أيضا عن المجالس و الأخبار بإسناده عن موسى بن إبراهيم، عن موسى بن جعفر عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يبت في موضع يسمع نفس امرأة ليست له بمحرم.» «4»

8- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس، قال: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول:

«لا يخلونّ رجل بامرأة و لا تسافر امرأة إلّا معها ذو محرم.» «5»

9- و فيه أيضا بسنده عن عمر بن الخطّاب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- في حديث-:

«فمن أراد منكم بحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الواحد و هو من الاثنين أبعد، و لا يخلونّ أحدكم بامرأة، فإنّ الشيطان ثالثهما.» «6»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة

من طرق الفريقين في هذا المجال، فراجع.

فيستفاد من هذه الأخبار حرمة خلوة الرجل مع الأجنبية إجمالا. لأنّ الشيطان لا يغيب عنه في هذه الحالة فيوسوس في قلبه و يهيج قوته الشهوية، و يستفاد من

______________________________

(1) الوسائل 14/ 133، الباب 99 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

(2) نفس المصدر 14/ 134، و الباب، الحديث 3.

(3) المنجد/ 115.

(4) الوسائل 14/ 133، الباب 99 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 2.

(5) سنن البيهقي 7/ 90، كتاب النكاح، باب لا يخلو رجل بامرأة أجنبية.

(6) نفس المصدر 7/ 91، و الكتاب و الباب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 532

..........

______________________________

فحوى ذلك حرمة التشبيب أيضا لتحقق هذا الملاك فيه.

أقول: قد مرّ عن حاشية السيّد منع كون المناط في حرمة النظر و الخلوة مع الأجنبية و نحوهما تهيج الشهوة حتى يتسرى حكمها إلى التشبيب، بل الحكم في كلّ منها تعبدي و من حيث إنّه موضوع خاصّ فلا يتسرى الحكم منها إلى ما يساويها في التأثير بل و لا إلى الأقوى منها، و عرفت منّا المناقشة في هذا الجواب. «1»

و أجاب في مصباح الفقاهة ببيان طويل و ملخّصه: «أنّه لا دلالة في شي ء من تلك الأخبار على حرمة الخلوة مع الأجنبية فضلا عن دلالتها على حرمة التشبيب.

أمّا روايتا مسمع و مكارم الأخلاق فالمستفاد منهما حرمة قعود الرجل مع المرأة في بيت الخلاء، فقد كان من المتعارف في زمان الجاهلية أنّهم يهيئون مكانا لقضاء الحاجة و يسمونه بيت الخلاء، و يقعد فيه الرجال و النساء و الصبيان، و لا يستتر بعضهم عن بعض، و لمّا بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عن ذلك و أخذ من النساء البيعة على

ترك ذلك، على أنّ الخلوة مع الأجنبية لو كانت محرمة فلا تختص بحالة القعود.

و يؤيّد ما ذكرنا: أنّ النهي في الروايتين تعلق بقعود الرجال مع النساء في الخلاء مطلقا و إن كنّ من المحارم، و من الواضح أنّه لا مانع من خلوة الرجل مع محارمه.

و إن لم يكن للروايتين ظهور فيما ادعيناه فلا ظهور لهما في حرمة الخلوة أيضا.

على أنّ من جملة ما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله البيعة به على النساء أن لا يزنين، و لعلّ أخذ البيعة عليهن أن لا يقعدن مع الرجال في الخلاء من جهة عدم تحقق الزنا، فإنّ الخلوة مظنة للزنا. و عليه فلا موضوعية لعنوان الخلوة بوجه، و الغرض المهم هو النهي عن الزنا، و يدلّ على ما ذكرناه أيضا ما ورد من تعليل النهي عن الخلوة بأنّ الثالث هو الشيطان. فإنّ الظاهر منه أنّه لو خلا بها يكاد أن يوقعهما الشيطان في الزنا.

______________________________

(1) راجع ص 529 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 533

و كراهة جلوس الرجل في مكان المرأة حتى يبرد المكان، و برجحان التستر عن نساء أهل الذمّة لأنّهنّ يصفن لأزواجهن، و التستّر عن الصبي المميز الذي يصف ما يرى، (1) و النهي في الكتاب العزيز عن أن

______________________________

و أمّا رواية موسى بن إبراهيم فهي خارجة عما نحن فيه، إذ لا ملازمة بين سماع النفس و الخلوة دائما بل بينهما عموم من وجه. كما أنّ النهي عن نومهما تحت لحاف واحد لا يدلّ على حرمة عنوان الخلوة. و يمكن أن يكون النهي عن النوم في كليهما من جهة كونهما من المقدمات القريبة للزنا.

و على الجملة فلا دليل على حرمة الخلوة بما هي خلوة

و إنّما النهي عنها للمقدمية فقط.

و يضاف إلى جميع ما ذكرناه أنّ روايات النهي عن الخلوة كلّها ضعيفة السند و غير منجبرة بشي ء.

و لو سلّم وجود الدليل على ذلك فلا ملازمة بين حرمة الخلوة و حرمة التشبيب و لو بالفحوى، إذ لا طريق لنا إلى العلم بأنّ ملاك الحرمة في الخلوة هو إثارة الشهوة حتى يقاس عليها كلّ ما يوجب تهيجها.» «1»

أقول: التشكيك في حرمة الخلوة بالأجنبية بعد كثرة الأخبار الواردة فيها من طرق الفريقين بنحو يطمئن النفس بصدور بعضها لا محالة بلا وجه، و كون الحكمة فيها أيضا هيجان الشهوة إليها واضح، إذ هو المتبادر من كون ثالثهما الشيطان، و قد اعترف هو أيضا بأنّ الخلوة مظنة للزنا. فإذا فرض كون التشبيب بها أيضا واجدا لهذا الملاك كان اللازم الحكم بحرمته أيضا، فتدبّر.

[الطائفة الثالثة: بعض الأمور المكروهة التي يظنّ أنّ النهي عنها بلحاظ كونها مهيجة للشهوة]

(1) الطائفة الثالثة: بعض الأمور المكروهة التي يظنّ أنّ النهي عنها بلحاظ كونها مهيجة للشهوة بالنسبة إلى الأجنبية، فيستدلّ بفحواها على حرمة التشبيب بها بتوهم كونه أقوى منها في هذا الملاك:

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 217، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 534

يخضعن بالقول فيطمع الذي في قبله مرض (1) و عن أن يضربن

______________________________

1- ما ورد في التنزيه عن جلوس الرجل في مكان المرأة حتى يبرد، مثل معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إذا جلست المرأة مجلسا فقامت عنه فلا يجلس في مجلسها رجل حتى يبرد.» «1»

2- ما ورد في رجحان تستّر المسلمة عن نساء أهل الذمّة و كراهة انكشافها لهنّ، كصحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا ينبغي

للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية و النصرانية، فإنّهن يصفن ذلك لأزواجهنّ.» «2»

3- ما ورد في التستر عن الصبي المميز، مثل معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن الصبيّ يحجم المرأة؟ قال: «إن كان يحسن يصف فلا.» «3»

أقول: الاستدلال بكراهة بعض الأمور على حرمة أمر آخر عجيب غير معهود حتى على القول بالقياس، مضافا إلى عدم وضوح كون الملاك لكراهة الأمور المذكورة تهيج الشهوة. و يشبه أن تكون النساء غير المسلمة يصفن عيوب النساء المسلمات، فيكون هتكا لهن.

و في حاشية السيّد: «و أمّا رجحان التستر عن نساء أهل الذمّة فلخصوصية فيه، و لذا لا يكون كذلك بالنسبة إلى نساء المسلمين مع أنّهن يصفن لأزواجهنّ، و التستر عن الصبي المميّز مستحب من حيث إنّه مميز لا من كونه واصفا، فيكون الوصف كناية عن كونه مميزا.» «4»

(1) في سورة الأحزاب: يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلٰا

______________________________

(1) الوسائل 14/ 185، الباب 145 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

(2) نفس المصدر 14/ 133، الباب 98 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 1.

(3) نفس المصدر 14/ 172، الباب 130 من أبواب مقدمات النكاح و آدابه، الحديث 2.

(4) حاشية المكاسب/ 17، في ذيل قول المصنّف: و يمكن أن يستدلّ عليه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 535

بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مٰا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ. (1)

إلى غير ذلك من المحرمات و المكروهات التي يعلم منها حرمة ذكر المرأة المعينة المحترمة بما يهيّج الشهوة عليها، خصوصا ذات البعل التي لم يرض الشارع بتعريضها للنكاح بقول: «ربّ راغب فيك.» (2)

______________________________

تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض. «1»

يستفاد من هذه الآية اختصاص

نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله- بلحاظ احترامه الخاصّ- بلزوم الاحتفاظ، فلا يستفاد منها لزوم الاحتفاظ على غيرهنّ فضلا عن أن يستفاد منها حرمة التشبيب بهنّ. نعم يستأنس منها رجحان احتفاظهن و كراهة التشبيب بهنّ، فتدبّر.

(1) في سورة النور: وَ لٰا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مٰا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ. «2»

أقول: استيناس كون المنع في الآية بلحاظ كونه مهيجا غير بعيد كما لا يبعد إسراؤه إلى التشبيب بهنّ بهذا الملاك.

(2) في سورة البقرة بعد ذكر عدة الوفاة قال: وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسٰاءِ ... وَ لٰكِنْ لٰا تُوٰاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلّٰا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً. «3»

و ورد عن الصادق عليه السّلام في تفسير القول المعروف: «يلقاها فيقول: إنّي فيك لراغب و إنّي للنساء لمكرم.» «4»

و فيه دلالة على جواز قول هذه الجملة للمعتدة، و أمّا حرمة قولها لذات البعل فلم أعثر عاجلا على رواية فيها، فتتبع.

______________________________

(1) سورة الأحزاب (33)، الآية 32.

(2) سورة النور (24)، الآية 31.

(3) سورة البقرة (2)، الآية 235.

(4) نور الثقلين 1/ 232.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 536

نعم لو قيل بعدم حرمة التشبيب بالمخطوبة قبل العقد- بل مطلق من يراد تزويجها- لم يكن بعيدا لعدم جريان أكثر ما ذكر فيها. (1) و المسألة غير صافية عن الاشتباه و الإشكال.

[جواز التشبيب بالحليلة و المرأة المبهمة دون المعروفة]

ثمّ إنّ المحكيّ عن المبسوط و جماعة جواز التشبيب بالحليلة بزيادة الكراهة عن المبسوط. (2)

و ظاهر الكلّ جواز التشبيب بالمرأة المبهمة، بأن يتخيّل امرأة و يتشبب بها.

______________________________

(1) أقول: لا يلزم جريان جميع ما ذكر في الحكم بالحرمة، إذ انطباق بعض العناوين المحرمة المذكورة كاف في الحكم بها كما لا يخفى.

و قد تحصّل مما ذكرنا أنّ عنوان التشبيب بنفسه لم

يذكر في أخبارنا و لا في كتب أصحابنا المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة، و على هذا فليس بنفسه و عنوانه موضوعا للحرمة، و ادّعاء الإجماع في المسألة غير المعنونة في كلمات القدماء من أصحابنا بلا وجه.

نعم قد ينطبق عليه بعض العناوين المحرمة كهتك النفس المحترمة أو الإيذاء أو إغراء الفسّاق أو نحو ذلك من العناوين المحرمة، فبهذا اللحاظ يصير محرما بالعرض لا محالة، من غير فرق في ذلك بين الأجنبية و الحليلة، و المؤمنة و غيرها ممّن لها حرمة شرعية، و سواء كانت الأجنبية ذات بعل أو مخلّاة مخطوبة أو غير مخطوبة و كان التشبيب بالشعر أو بالنثر.

اللّهم إلّا أن يكون التشبيب في مورد خاصّ لسامع خاصّ بالنسبة إلى المخلّاة لغرض عقلائي مستحسن كتشويقه للسعي في خطبتها كما مرّ.

(2) قد مرّ في أوّل المسألة ذكر عبارات المبسوط و الشرائع و الدروس و جامع المقاصد، حيث يظهر منها حصر الحرمة في المرأة غير المحلّلة، و من المبسوط الكراهة في المحلّلة، فراجع. و قد مرّ الإشكال في ذلك. «1»

______________________________

(1) راجع ص 519 و ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 537

و أمّا المعروفة عند القائل دون السّامع سواء علم السامع إجمالا بقصد معينة أم لا ففيه إشكال. و في جامع المقاصد- كما عن الحواشي- الحرمة في الصورة الأولى. (1) و فيه إشكال من جهة اختلاف الوجوه المتقدمة للتحريم و كذا إذا لم يكن هنا سامع.

[اعتبار الإيمان في التشبيب]

و أمّا اعتبار الإيمان فاختاره في القواعد و التذكرة (2)، و تبعه بعض الأساطين، لعدم احترام غير المؤمنة.

______________________________

(1) أقول: المصرّح به في كلماتهم حرمة التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة، و مرّ عن المبسوط «1» الكراهة بالنسبة إلى من لم تعرف. و في جامع

المقاصد في ذكر قيود الموضوع قال: «1- كونها معينة معروفة و إن لم يعرفها السامع إذا علم أنّه قصد معينة، لما فيه من هتك عرضها، أمّا إذا لم يقصد مخصوصة فلا بأس.» «2»

و في مفتاح الكرامة: «و المراد بالمعروفة: المعروفة عند القائل سواء عرفها السامع أو لا إذا علم أنّه قصد معينة كما في جامع المقاصد و حواشي الشهيد، و في الثاني: أنّه على التقديرين يحرم الاستماع على السامع. قلت: قد نقول: إذا لم تكن معروفة عند السامع لا يحرم عليه الاستماع و لا يحرم على القائل التشبيب، كما هو الظاهر الموافق للاعتبار و للمتبادر من الإطلاق.» «3»

أقول: و صدق هتك عرضها مع عدم معرفة السّامع إيّاها غير واضح بل ممنوع.

(2) مرّت عبارة الكتابين في أوّل المسألة. «4» و المراد ببعض الأساطين كاشف الغطاء في شرحه على القواعد و لم يطبع بعد. و عدم احترام المخالفة و الذميّة ممنوع و إن اختلفت النساء في مراتب الحرمة.

______________________________

(1) راجع ص 520.

(2) جامع المقاصد 4/ 28، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) مفتاح الكرامة 4/ 69، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع من المحرم الاكتساب به.

(4) راجع ص 521.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 538

و في جامع المقاصد- كما عن غيره- حرمة التشبيب بنساء أهل الخلاف و أهل الذمّة، لفحوى حرمة النظر إليهن. (1)

و نقض بحرمة النظر إلى نساء أهل الحرب مع أنّه صرّح بجواز التشبيب بهنّ. (2) و المسألة مشكلة من جهة الاشتباه في مدرك أصل الحكم.

و كيف كان فإذا شكّ المستمع في تحقق شروط الحرمة لم يحرم عليه الاستماع كما صرّح به في جامع المقاصد. (3)

______________________________

(1) مرّت عبارته في

أوّل المسألة. «1» و يظهر مما مرّ من الدروس «2» أيضا ذلك، حيث خصّ الجواز بنساء أهل الحرب.

(2) وجه حرمة النظر إليهن إطلاقات أدلّة الحرمة، اللّهم إلّا بالنسبة إلى المواضع التي جرت عادتهن على عدم سترها مع عدم التلذذ و الريبة.

و يمكن الجواب عن النقض بإمكان أن يكون حرمة التشبيب بلحاظ مصلحة المشبّب بها لكونه هتكا لها و نساء أهل الحرب لا حرمة لهنّ. و أمّا حرمة النظر فبلحاظ مصلحة الناظر من جهة كونه من مراتب الزنا و من مقدماته و التشبيب ليس كذلك، فتأمّل، و إلى ذلك أشار المصنّف أيضا.

(3) فإنّه بعد ما قيّد موضوع الحرمة بكونها معينة معروفة و مؤمنة و محرّمة قال: «فمتى انتفى واحد من الثلاثة لم يحرم. و إذا شكّ في حصولها لا يحرم الاستماع.» «3» و وجهه واضح لأصالة الحلّ و البراءة.

______________________________

(1) راجع ص 519.

(2) راجع ص 521.

(3) جامع المقاصد 4/ 28 كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 539

[التشبيب بالغلام]

و أمّا التشبيب بالغلام فهو محرّم على كلّ حال- كما عن الشهيدين و المحقق الثاني و كاشف اللثام- (1) لأنّه فحش محض فيشتمل على الإغراء بالقبيح. (2)

و عن المفاتيح: أنّ في إطلاق الحكم نظرا. (3) و اللّه العالم.

______________________________

(1) قد مرّت في أوّل المسألة عبارات الدروس و المسالك و جامع المقاصد، فراجع. «1»

و في شهادات كشف اللثام في ذيل قول المصنّف: «و كذا التشبب بامرأة معروفة محرمة عليه» قال: «أو غلام، حرام لما فيه من الإيذاء و إغراء الفسّاق بها أو به.» «2»

(2) في مصباح الفقاهة: «التشبيب بالغلام إن كان داخلا في عنوان تمني الحرام فلا ريب في حرمته لكونه

جرأة على حرمات المولى كما تقدّم، و إلّا فلا وجه لحرمته فضلا عن كونه حراما على كلّ حال، بل ربما يكون التشبيب به مطلوبا، و لذا يجوز مدح الأبطال و الشجعان و مدح الشبّان بتشبيههم بالقمر و النجوم.

و لا شبهة في صدق التشبيب عليه لغة و عرفا.»

و قال أيضا: «لا شبهة في حرمة الفحش و السبّ كما سيأتي إلّا أنّه لا يرتبط ذلك بالتشبيب بعنوانه الأوّلي الذي هو محلّ الكلام في المقام.» «3»

(3) في المفتاح الخامس و الستين و الأربعمائة في عدّ المعاصي قال: «و إنشاد شعر يتضمن هجاء مؤمن أو فحشا، و قيل: أو تشبيبا بامرأة بعينها غير محلّلة له أو بغلام لتحريم متعلقه و لما فيه من الإيذاء. و في إطلاق هذا الحكم نظر، أمّا غير المعينين و المحلّلة فلا بأس.» «4»

و الحمد للّه ربّ العالمين و صلّى اللّه على محمّد و آله الطاهرين 17 ذي الحجة 1416 ه. ق، الموافق ل 17/ 2/ 1375 ه. ش.

______________________________

(1) راجع ص 519- 521.

(2) كشف اللثام 2/ 193، كتاب القضاء، المقصد التاسع في الشهادات، الفصل الأوّل.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 220 في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(4) مفاتيح الشرائع 2/ 20، كتاب مفاتيح النذور و العهود، الباب الثاني في أصناف المعاصي ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 541

[المسألة الرابعة: التصوير]
اشارة

المسألة الرابعة: تصوير صور ذوات الأرواح حرام إذا كانت الصورة مجسّمة بلا خلاف فتوى و نصّا. (1) و كذا مع عدم التجسّم، وفاقا لظاهر النهاية و صريح السرائر و المحكيّ عن حواشي الشهيد و الميسيّة و المسالك و إيضاح النافع و الكفاية و مجمع البرهان و غيرهم.

______________________________

المسألة الرابعة: التصوير

(1) أقول: يظهر من عبارة المصنّف عدم الخلاف

في حرمة إيجاد الصور المجسمة لذوات الأرواح و كون المسألة واضحة عنده بنحو لم يجد نفسه محتاجا إلى الاستدلال عليها، و لكنّه أفتى بحرمة غير المجسّمة منها أيضا و استدلّ لها بما يأتي في كلامه من الروايات.

و الأستاذ الإمام «ره» قوّى حرمة المجسمة منها فقط و قال: «هو المتيقّن من معقد الإجماع المحكيّ و تدلّ عليه مضافا إليه الأخبار الآتية، و أمّا حرمة سائر الصور فلا دليل على حرمتها ...» «1»

و حيث إنّ مسألة التصوير بشقوقها من المسائل المهمّة المبتلى بها في عصرنا فاللازم البحث عنها بنحو التفصيل.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 168 (- ط. الجديدة 1/ 255).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 542

التعرض لمقدّمات البحث
اشارة

______________________________

و قبل الورود في بيان الأدلّة نتعرّض لمقدّمات لا بدّ منها:

المقدّمة الأولى: قد وقع البحث عن التصاوير و التماثيل- مضافا إلى باب المكاسب المحرّمة- في أبواب لباس المصلّي و مكانه،

و أحكام المساجد و المساكن، و الزيّ و التجمّل، و وليمة النكاح، فتعرّضوا لحكم الصلاة في ثوب فيه تماثيل، أو خاتم فيه تماثيل، أو بيت فيه تماثيل، أو مع دراهم فيها تماثيل، أو على بساط يكون عليه تماثيل، أو الجلوس على ذلك البساط، أو تزيين المساجد أو البيوت أو السقوف بالتصاوير، أو يلبس لباسا فيه تصاوير، أو يدخل في وليمة فيها صور و تماثيل، إلى غير ذلك من المسائل المطروحة في الأخبار و الفتاوى.

و المستفاد من أكثر الأخبار الواردة في الأبواب المختلفة عدم وجوب إفناء الصور و التماثيل بعد ما وجدت، و إن وقع النهي عن الاستقبال إليها أو الانتفاع بها بنحو يشعر بتعظيمها على نحو ما كان يصنعه الأعاجم، بخلاف ما إذا جعلها تحته و وطأها بأقدامه، و على هذا فليس وزان التماثيل بما هي تماثيل وزان الأصنام التي لا يجوز إبقاؤها بل يجب إفناؤها، اللّهم إلّا أن تنقلب التصاوير أصناما معرضا للعبادة و التقديس فيجب إفناؤها حينئذ، فراجع الوسائل و المبسوط. «1»

المقدّمة الثانية: لا يخفى أن التصوير و لا سيّما المجسّم منه ليس أمرا حادثا في الأعصار الأخيرة،

بل له سابقة تاريخيّة تقارب عصر تكوّن الإنسان، و يشهد بذلك الآيات و الروايات المتعرّضة لأنواع الأصنام و عبدتها، و الحفريّات و الاكتشافات الواقعة في آثار الأمم البائدة، حيث يعثر فيها على أصنام لهم مصنوعة

______________________________

(1) راجع الوسائل 3/ 317، 461، 493 و 560، الأبواب 45 من أبواب لباس المصلّي، 32 من أبواب مكان المصلّي، 15 من أبواب أحكام المساجد، و 3 من أبواب أحكام المساكن، 12/ 219، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به؛ و راجع المبسوط 4/ 323.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 543

..........

______________________________

من الأحجار و أنواع الجواهر و الفلزّات.

و قد كان قوم نوح النبي صلى اللّه عليه

و آله- على ما في سورة نوح من الكتاب- يكرّمون و يعظمون ودا و سواعا و يغوث و يعوق و نسرا، قال اللّه تعالى-: وَ قٰالُوا لٰا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لٰا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لٰا سُوٰاعاً وَ لٰا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً. «1» و أخرج السامريّ لبني إسرائيل- بعد ما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم و غاب عنهم موسى عليه السّلام- عجلا جسدا له خوار فقال: هٰذٰا إِلٰهُكُمْ وَ إِلٰهُ مُوسىٰ. «2» هذا.

و في بادي الأمر ربّما كانوا يصوّرون صور الأنبياء و القدّيسين تكريما لهم و حفظا لقداستهم، أو يصوّرون صورا خيالية لما توهّموه أرباب الأنواع و وسائط الفيض الربوبي، ثمّ بمرور الزمان خضعوا لها تعظيما و طلبا للحاجات منها و عبدوها من دون اللّه- تعالى- معتذرين بأنّا لا نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى اللّه زلفى، ثمّ أنساهم الشيطان ذكر ربّهم فجعلوا الأصنام آلهة من دون اللّه- تعالى- و تربّوا على ذلك نسلا بعد نسل.

و في رواية بريد بن معاوية قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ إبليس اللعين هو أوّل من صوّر صورة على مثال آدم عليه السّلام ليفتن به الناس و يضلّهم عن عبادة اللّه- تعالى- الحديث بطوله.» «3»

و كان لعبدة الشمس و السيّارات في عصر إبراهيم الخليل عليه السّلام بيوت عبادة فيها هياكل للسيّارات السبع يعظّمونها و يعبدونها بتوهّم أنّها مظاهر للسيّارات و السيّارات مظاهر للعقول المدبّرة لها.

و بذلك كلّه يظهر عدم صحّة ما يأتي في كلام المصنّف حيث قال: «إنّ ذكر الشمس و القمر قرينة على إرادة مجرد النقش» و قال: «إنّ الشائع من التصوير

______________________________

(1) سورة نوح (71)، الآية

23.

(2) سورة طه (20)، الآية 88.

(3) بحار الأنوار 3/ 250، الباب 7 من كتاب التوحيد، الحديث 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 544

..........

______________________________

و المطلوب منه هي الصور المنقوشة على أشكال الرجال و النساء و الطيور و السباع دون الأجسام المصنوعة على تلك الأشكال.» «1»

و ذلك لبداهة أن المعهود من الأصنام المعبودة هي الأجسام و لم يعهد عبادة النقوش المجرّدة عن المادّة. هذا.

و كان من أهم واجب الأنبياء و الأولياء في كلّ عصر: الدفاع عن تحريم التوحيد و إبعاد الناس عن مظاهر الشرك و عبادة الأصنام. و قد كان على الكعبة و ما حولها ثلاثمائة و ستون صنما لقبائل العرب عدد أيّام السنة كسرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد ما فتح مكّة و أعانه على ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام. و في أعصارنا أيضا مع رقيّ الأفكار و التقدّم في العلوم و مظاهر التمدّن ترى كثيرا من الناس في أقطار العالم يعبدون الأصنام و يوقّرونها و يطلبون منها الحاجات و يقرّبون لها القرابين حتّى من أولادهم، و هذا يحكي عن بقاء الخصلة الانحرافية التي نشأت عليها الأمم من تقليد الآباء و الأجيال الماضية. هذا.

و نحن نرى أنّ العادات و العقائد الموروثة مما تبقى كثيرا ببعض مراتبها في طباع الإنسان و إن فرض إرشاده و اهتداؤه إلى العقائد الحقّة و وروده عملا في مجتمعات المسلمين. فلعلّ بعض مراتب العلاقة بالأصنام و الاعتقاد بقداستها بقيت في نفوس بعض المتوسّطين و السّاذجين من أفراد المسلمين حتى في أعصار الأئمة عليهم السّلام فضلا عن عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أوائل البعثة، فكانوا يصوّرونها و يحفظونها في خفايا بيوتهم. و الأخبار الشديدة المضامين الواردة

في التصوير و التمثيل صدرت ناظرة إلى أمثال هؤلاء بداعي تطهير نفوسهم عن بقايا العقائد الفاسدة التي أشربت بها قلوبهم.

قال الأستاذ الإمام «ره»: «إنّ ظاهر طائفة من الأخبار بمناسبة الحكم

______________________________

(1) راجع المكاسب للشيخ الأعظم «ره»/ 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 545

..........

______________________________

و الموضوع: أنّ المراد بالتماثيل و الصور فيها هي تماثيل الأصنام التي كانت مورد العبادة، كقوله عليه السّلام: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج من الإسلام.» «1»

و قوله عليه السّلام: «من صوّر التماثيل فقد ضادّ اللّه.» «2» و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيّا أو قتله نبيّ، و رجل يضلّ الناس بغير علم أو مصوّر يصوّر التماثيل.» «3» و قوله عليه السّلام: «إنّ من أشدّ الناس عذابا عند اللّه يوم القيامة المصوّرون.» «4» و أمثالها.

فإن تلك التوعيدات و التشديدات لا تناسب مطلق عمل المجسّمة أو تنقيش الصور، ضرورة أنّ عملها لا يكون أعظم من قتل النفس المحترمة أو الزنا أو اللواطة أو شرب الخمر أو غيرها من الكبائر.

و الظاهر أن المراد منها تصوير التماثيل التي هم لها عاكفون، مع احتمال آخر في الأخيرة و هو أنّ المراد بالمصوّرون: القائلون بالصورة و التخطيط في اللّه- تعالى-، كما هو مذهب معروف في ذلك العصر.

و المظنون الموافق للاعتبار و طباع الناس: أنّ جمعا من الأعراب بعد هدم أساس كفرهم و كسر أصنامهم بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمره كانت علقتهم بتلك الصور و التماثيل باقية في سرّ قلوبهم، فصنعوا أمثالها حفظا لآثار أسلافهم و حبّا لبقائها، كما نرى حتّى اليوم علاقة جمع بحفظ آثار المجوسيّة و عبدة النيران في هذه البلاد،

حفظا لآثار أجدادهم، فنهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنه بتلك التشديدات و التوعيدات التي لا تناسب إلّا الكفّار و من يتلو تلوهم، قمعا لأساس الكفر و مادّة الزندقة، و دفعا عن حوزة التوحيد. و عليه تكون تلك الروايات ظاهرة أو منصرفة إلى ما ذكر.» «5»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 10.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(4) سنن البيهقي 7/ 268، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

(5) المكاسب المحرّمة 1/ 169 (- ط. الجديدة 1/ 257).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 546

..........

______________________________

أقول: أمّا ما ذكره من عدم تناسب هذه التشديدات لمطلق عمل التصوير فهو أمر متين، بداهة أن الجزاء ليس أمرا جزافيا، بل هو نتيجة للعمل و من قبيل الثمرة له و الثمر يناسب الشجر، و ليس هذا القبيل من الأحكام الشرعيّة من قبيل الأحكام التعبديّة المحضة التي لا يعلم سرّها و ملاكاتها و عواقبها إلّا اللّه- تعالى-، فلا محالة تكون تابعة لملاكات متناسبة لها عند العقل و الفطرة.

و إن شئت قلت: إنّ الأوامر و النواهي الواردة في أبواب المعاملات و السياسات و الجزائيّات من قبيل الأحكام الإرشاديّة إلى ما يدركه العقل و الفطرة أيضا بعد التنبّه لها.

و أمّا الروايات التي ذكرها فكلّها ضعاف لا اعتبار بها، إذ في سند الأوّل أبو الجارود و هو ضعيف، و البواقي كلّها مراسيل. هذا مضافا إلى تمشّي احتمالات أخر في معاني بعضها، و سيأتي التعرّض لها بعد ذلك.

المقدّمة الثالثة: في إشارة إجماليّة إلى أنواع الصور و التماثيل و أقسامها:

قد قسّموا التصوير إلى أنواع أربعة: إذ الصورة إمّا لذي روح من الإنسان و أنواع الحيوان، أو

لغيره. و كلّ منهما إمّا بنحو التجسيم بحيث يوجد له ظلّ و يكون له يمين و يسار و أمام و خلف، أو بنحو النقش فقط، فهذه أربعة أقسام.

ثم لا يخفى أنّ كلا منها إمّا أن يوجد بنحو المباشرة و عمل اليد، و إمّا أن يوجد بالمكائن و المطابع مثل أن يكون هنا مكينة يلقى فيها الموادّ الأوّليّة فتتبدّل فيها بأنواع الصور المجسّمة، أو مطبعة يطبع بها على الأوراق أو الثياب أنواع النقوش المختلفة بألوان متفاوتة.

و يظهر من الأستاذ الإمام «ره» اختصاص المنع على القول به بما يقع بعمل اليد مباشرة و عدم شمول الأدلّة لما يوجد بالمكائن و المطابع، «1» و لكنّه محلّ إشكال بل منع، و سيأتي البحث فيه في فروع المسألة. هذا.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 177 (- ط. الجديدة 1/ 269).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 547

..........

______________________________

و هنا بعض أقسام للتصوير ينبغي الالتفات إليها و استخراج أحكامها:

1- النقش بنحو الحكّ في الفلز أو الخشب، أو بنحو إحداث خطوط لها أظلال، فهل هما بحكم المجسم أو المنقوش أو يفصّل بينهما؟

2- رسم خطوط كثيرة متوازية و متقاطعة و منكسرة على الأوراق أو الثياب بقصد التزيين بنحو ربما يتراءى للنظّار شبهها بصورة إنسان أو حيوان خاصّ أو شجر خاصّ و إن لم يقصد الفاعل ذلك.

3- إيجاد صورة ناقصة للحيوان أو غيره بنحو التجسيم أو النقش كهيئة إنسان جالس مثلا أو أسد نائم و نحو ذلك، أو إيجاد صورة بعض أجزاء الحيوان مثلا كرأسه أو يديه و نحو ذلك.

4- التصوير الخيالي للجنّ أو الملك أو بعض الموجودات الخياليّة التي لا واقعيّة لها كالغول مثلا.

5- التصوير بالوسائل الحديثة الرائجة المسمّى بالفارسيّة بالعكس، و نحوه الصور الموجودة في

الأفلام.

6- التصويرات الكاريكاتورية الرائجة.

7- التصويرات الكارتونية الدارجة.

8- صنع جسم خاصّ لأغراض عقلائيّة فيه شبه خاصّ بجسم الإنسان أو حيوان خاصّ كما تعارف في عصرنا و يسمّى بالروبات، و أمثال هذه الأمور ممّا يحتمل صنعها. فهل الحكم بحرمة التصوير على القول بها يشمل هذه الأمور أم لا؟

المقدمة الرابعة: في إشارة إجمالية إلى الأقوال في المسألة:

ربما يظهر من كلماتهم اتفاق الفريقين على حرمة التصوير إجمالا و عدم الخلاف في ذلك و إنما اختلفوا في سعة الموضوع و ضيقه على أقوال أربعة:

الأوّل: حرمته مطلقا سواء كان للحيوان أو لغيره و سواء كان بنحو التجسيم أو

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 548

..........

______________________________

النقش. يظهر من العلّامة في المختلف «1» استظهار هذا القول من كلامي ابن البرّاج و أبي الصلاح الحلبي.

الثاني: حرمة المجسمة فقط سواء كانت لذي روح أو لغيره، يظهر من المختلف نسبته إلى الشيخين و سلّار.

الثالث: حرمة ما كان لذي روح فقط سواء بنحو التجسيم أو بالنقش اختاره ابن إدريس، و اختاره المصنّف أيضا و نسبه إلى ظاهر النهاية و كتب أخر كما ترى في المتن.

الرابع: اختصاص الحرمة بخصوص المجسّم من ذوات الأرواح فقط، اختاره الأستاذ «ره» و قال: هو المتيقّن من معقد الإجماع المحكيّ. هذا.

و يظهر من الشيخ الطوسي «ره» في التبيان و الطبرسي «ره» في مجمع البيان عدم الحرمة أصلا بل الكراهة فقط بعنوان التصوير. فراجع كلامهما في ذيل الآية الحادية و الخمسين من سورة البقرة في قصّة عجل السامريّ، و سيأتي نقل كلامهما. «2»

و على هذا فالأقوال في المسألة تصير خمسة و ليست الحرمة متّفقا عليها عند الأصحاب، بل تكون المسألة خلافيّة.

المقدّمة الخامسة: [النقش و التصوير و التمثال]
اشارة

لا يخفى أنّ المذكور في الأخبار و الفتاوى في المقام عناوين النقش و التصوير و التمثال.

أمّا النقش

فظهوره في غير المجسّم ظاهر، نعم يمكن القول بشموله لمثل الحكّ أيضا إذ نقش الحيوان أو الطير المذكور في بعض الأخبار «3» لعلّه ينصرف إلى حكّهما فيه.

______________________________

(1) المختلف 1/ 341، كتاب المتاجر، الفصل الأول فيما يحرم الاكتساب به.

(2) راجع التبيان 1/ 85 (- ط. أخرى 1/ 236)؛ و مجمع البيان 1/ 109؛ و راجع ص 557 من الكتاب.

(3) الوسائل 3/ 322، الباب 46 من أبواب لباس المصلّي.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 549

[و أما التمثال]

______________________________

و أمّا التصوير و التمثال فهل يعمّان المنقوش و المجسّم أو ينصرفان إلى خصوص المجسّم و إن جاز استعمالهما في المنقوش أيضا مسامحة؟ وجهان. فلنذكر بعض كلمات أهل اللغة في معناهما:

1- قال الخليل بن أحمد في العين في لغة مثل: «و المثل: شبه الشي ء في المثال و القدر و نحوه حتّى في المعنى. و يقال: ما لهذا مثيل ... و المثول: الانتصاب قائما ... و التمثيل: تصوير الشي ء كأنّه تنظر إليه. و التمثال: اسم للشي ء الممثّل المصوّر على خلقة غيره.» «1»

أقول: ظاهر كلامه أنّ لهذه المادّة معنيين: الأوّل: الشبه أعني شباهة شي ء بشي ء. الثاني: الانتصاب قائما.

و ظهور الثاني في خصوص المجسّم ظاهر. و هل يمكن جعل المعنى الثاني قرينة على إشراب التجسّم في المعنى الأوّل أيضا؟ مشكل، إلّا أن يقال: إنّ المتبادر من مماثلة شي ء لشي ء و مشابهته به مماثلته له من كلّ جهة، و صورة الشي ء المجسّم لا تكون شبيهة به من كلّ جهة إلّا إذا كانت جسما مثله.

2- و قال الراغب في المفردات: «أصل المثول: الانتصاب. و الممثّل: المصوّر على مثال غيره. يقال: مثل الشي ء أي انتصب و تصوّر، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من أحبّ

أن يمثّل له الرجال فليتبوّأ مقعده من النار.» و التمثال: الشي ء المصوّر، و تمثّل كذا: تصوّر، قال اللّه- تعالى-: فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا.» «2»

أقول: ظاهره إرجاع المعنيين إلى معنى واحد و إشراب التجسّم فيه.

3- و في نهاية ابن الأثير في لغة مثل: «فيه: «من سرّه أن يمثل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار.» أي يقومون له قياما و هو جالس. يقال: مثل الرجل يمثل مثولا: إذا انتصب قائما ... و فيه: «أشدّ الناس عذابا ممثّل من الممثلين» أي

______________________________

(1) كتاب العين 8/ 228.

(2) المفردات/ 482.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 550

..........

______________________________

مصوّر. يقال: مثلت بالتثقيل و التخفيف: إذا صوّرت مثالا. و التمثال: الاسم منه، و ظلّ كلّ شي ء: تمثاله. و مثّل الشي ء بالشي ء: سوّاه و شبّهه به و جعله مثله و على مثاله.» «1»

4- و في لغة مثل من الصحاح: «و التمثال: الصور، و الجمع التماثيل، و مثل بين يديه مثولا: انتصب قائما، و منه قيل لمنارة المسرجة: ماثلة.» «2» هذه بعض كلماتهم في لغة مثل.

و أمّا التصوير:

1- ففي المفردات في لغة صور: «الصورة: ما ينتقش به الأعيان و يتميّز بها غيرها (عن غيرها- ظ.)» «3»

2- و في النهاية: «الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها، و على معنى حقيقة الشي ء و هيئته و على معنى صفته.» «4»

3- و في لغة صور من معجم مقاييس اللغة: «من ذلك الصورة صورة كل مخلوق، و الجمع صور، و هي هيئة خلقته.» «5»

4- و في لغة صور من الصحاح: «و التصاوير: التماثيل.» «6»

أقول: قد ترى الصحاح أنّه فسّر التمثال بالصور و التصاوير بالتماثيل، و ظاهره تساوي اللفظين صدقا و إن تغايرا مفهوما. و في مكان المصلّي من كشف

اللثام: «المعروف- كما في اللغة- ترادف التماثيل و التصاوير.» «7» و على هذا

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 4/ 294.

(2) الصحاح للجوهري 5/ 1816.

(3) المفردات/ 297.

(4) النهاية لابن الأثير 3/ 58.

(5) معجم مقاييس اللغة 3/ 320.

(6) الصحاح للجوهري 2/ 717.

(7) كشف اللثام 1/ 198.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 551

..........

______________________________

فيقال لصورة الشي ء: الصورة بلحاظ كونها بهيئته، و التمثال بلحاظ كونها شبيهة به. و قد أشرنا إلى أنّ الظاهر من كون شي ء مثلا لشي ء أو على هيئته: كونه كذلك من جميع الجهات لا من جهة واحدة، فيكون صورة الجسم و مثاله لا محالة جسما إذ لو لم يكن جسما لم يكن شبيها به و على هيئته إلّا في جهة واحدة.

قال الأستاذ الإمام «ره» في هذا المجال ما ملخّصه: «لا يبعد أن يكون الظاهر من تمثال الشي ء و صورته- بقول مطلق-: هو المشابه له في الهيئة مطلقا أي من جميع الجوانب لا من جانب واحد. و تمثال الوجه أو مقاديم البدن: تمثاله بوجه لا مطلقا، كما أنّ تمثال خلفه كذلك، و إطلاق التمثال على تمثال الوجه أو المقاديم بنحو من المسامحة. و أمّا الصورة فهي بمعنى الشكل الذي هو الهيئة، و هيئة الشي ء كتمثاله: ما يكون شبيهه في جميع الجوانب. و إطلاقه على النقوش و العكوس بنحو من المسامحة. و الإطلاق الشائع على النقش و الرسم في الروايات كان لأجل القرائن. و لهذا لو سئل العرف أن هذه الصورة أو المثال صورته من جميع الوجوه لأجاب بالنفي، و لا أقلّ من كون الصدق الحقيقي محلا للشكّ.» «1»

أقول: فظاهر كلامه تساوي التمثال و الصورة صدقا و تبادر خصوص المجسم منهما.

و لكن يظهر من المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية

كون الصورة أعمّ، فإنّه بعد ما قوّى في المسألة حرمة المجسّم من ذي الروح فقط و قسّم أخبار الباب إلى طوائف قال: «أمّا ما اشتمل من الأخبار على لفظ المثال و التمثال فالظاهر منها هي المجسّمة، فإنّ ظاهر لفظ المثال هو هذا، إذ المثال الحقيقي ما كان مثالا للشي ء من

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 168 (- ط. الجديدة 1/ 256).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 552

..........

______________________________

كلّ الجهات و الجوانب لا ما كان مثالا له من جانب واحد، و هذا لا يكون إلّا في المجسّمة فإنّ فيها يفرض مثال الجهات الستّ، فكانت الصورة أعمّ من المثال. نعم قد يطلق المثال على الصورة، و قد أطلق في الأخبار أيضا، لكن الكلام فعلا فيما هو ظاهر لفظه مع التجرّد عن القرينة.

و يشهد للتغاير التعبير في بعض الأخبار بتصوير التماثيل أو رجل صوّر تماثيل.

و يشهد له أيضا عدّة من الأخبار:

منها: خبر عليّ بن جعفر: سألت أخي موسى عليه السّلام عن مسجد يكون فيه تصاوير و تماثيل يصلّى فيه؟ فقال: «تكسر رءوس التماثيل و تلطخ رءوس التصاوير و تصلّي فيه و لا بأس.» «1»

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك فلا أقل من عدم ثبوت عموم لفظ المثال لما عدا المجسّمة فيؤخذ بالمتيقّن منه و لا تكون روايات المثال و التمثال حجّة على ما عدا المجسّمة.» «2»

أقول: ظاهر ما ذكره من رواية عليّ بن جعفر تغاير التصوير و التمثال مفهوما و صدقا، و أمّا ما ذكره من التعبير بتصوير التماثيل أو رجل صوّر تماثيل فلا يدلّان على ذلك إذ لعلّ المراد منهما تمثيل التماثيل أو رجل مثّل تماثيل، و التعبير بالتصوير من قبيل التفنّن في التعبير و اللفظ، و هو أمر

شائع في المحاورات.

هذا كلّه في بيان أنّ المتفاهم من اللفظين خصوص المجسّم أو الأعم.

و هل يعمّ اللفظان ما كان من غير الحيوان أيضا أو يتبادر منهما خصوص الحيوان أو يتفاوتان في ذلك كما قيل؟ نسب في البحار إلى أكثر أهل اللغة أنّهم فسّروا الصورة و المثال و التمثال بما يعمّ و يشمل غير الحيوان أيضا (إلى أن قال): «قال المطرزي في المغرب: التمثال ما تصنعه و تصوّره مشبّها بخلق اللّه من ذوات

______________________________

(1) الوسائل 3/ 463، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 10.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 20.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 553

..........

______________________________

الروح، و الصورة عامّ ...» «1»

و في الجواهر حكى كلام المطرزي أيضا و لكنّه قال: «لا يخلو بعض كلامه من النظر خصوصا دعواه عموم الصورة بل هي أولى من التمثال بدعوى الاختصاص، كما أنّ التمثال أولى بدعوى العموم منها كما يؤيّد ذلك إطلاق الصورة مرادا بها ذات الروح في أخبار كثيرة على وجه إن لم يظهر منه كونها حقيقة في ذلك فلا ريب في ظهوره في أنّه المراد عند الإطلاق ...» «2»

أقول: قد عرفت من كلمات أهل اللغة أنّ المثل بمعنى الشبه، و الصورة بمعنى الشكل و الهيئة، فهما بحسب المفهوم عامّان. و على هذا فلو سلّم ظهورهما- بمقتضى ما مرّ بيانه- في خصوص المجسّم فلا نسلّم ظهورهما في خصوص الحيوان. و قد كثر استعمالهما في العموم أيضا، نعم يمكن أن يراد بهما في بعض الروايات و الإطلاقات الخصوص بمقتضى القرائن الداخليّة أو الخارجيّة و لكن لا يوجب هذا حملهما على ذلك أو إجمالهما فيما إذا لم يكن قرينة على إرادة الخصوص.

المقدّمة السادسة: في ذكر بعض كلمات الفقهاء من الفريقين في المسألة:

1- قال المفيد في مكاسب المقنعة: «و عمل

الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك حرام، و بيعه و ابتياعه حرام.» «3»

2- و في المراسم في عداد المكاسب المحرّمة: «و عمل الأصنام و الصلبان و كلّ آلة تظنّ الكفّار أنّها آلة عبادة لهم و التماثيل المجسّمة ... و بيعه و ابتياعه ...» «4»

أقول: ظاهرهما اختصاص الحرمة بالمجسّمة و عمومها لما لغير الحيوان أيضا لما مرّ

______________________________

(1) بحار الأنوار 83/ 243- 245 (- ط. بيروت 80/ 243- 245)، كتاب الصلاة، الباب 18، الحديث 4.

(2) الجواهر 8/ 383، كتاب الصلاة، في كراهة أن يكون بين يدي المصلّي تصاوير.

(3) المقنعة/ 587.

(4) المراسم/ 170؛ و الجوامع الفقهية/ 585 (- طبعة أخرى/ 647).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 554

..........

______________________________

من شمول لفظ التماثيل بحسب المفهوم لذلك، و ظاهر كلامهما حرمة بيعها أيضا.

و يمكن أن يختلج بالبال أنّهم أرادوا بالتماثيل المجسّمة- بقرينة السياق- خصوص ما كان منها معرضا للتقديس و العبادة و إن لم يطلق عليه لفظ الصنم، فتأمّل.

3- و في المكاسب المحرّمة من النهاية: «و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار حتّى لعب الصبيان بالجوز، فالتجارة فيها و التصرّف و التكسّب بها حرام محظور.» «1»

أقول: أضاف الشيخ الصور أيضا، و الظاهر منها- بقرينة العطف الدالّ على المغايرة- إرادة غير المجسّم منها.

فيصير مقتضى إطلاق كلام النهاية حرمة التماثيل و الصور بأقسامها: مجسّمة كانت أو غير مجسّمة، لذي روح أو لغيره، يحرم كلّ فعل يتعلّق بها من العمل و التجارة و الكسب و التصرّف.

و هذا الإطلاق ممّا لا يظنّ بمثل الشيخ الالتزام به بعد دلالة أخبار كثيرة معتبرة على الجواز فيما ليس

له روح.

و ظنّي أن المنصرف إليه من اللفظين عند القدماء و المصنّفين كان خصوص ما له روح، إذ كان هو مورد الابتلاء و البحث عندهم، فكلّ من عبّر منهم بالتماثيل المجسّمة و هم الأكثر أراد بها خصوص المجسّمة من ذوات الأرواح، و الشيخ أضاف إليها غير المجسّمة منها أيضا، و ما لم تكن من ذوات الأرواح كانت خارجة عن حريم بحثهم.

و هذا لا ينافي ما مرّ منا من عموم مفهوم اللفظين إذ لعلّهم اصطلحوا على إرادة خصوص ذوات الأرواح، و لا مشاحّة في الاصطلاح. و إن شئت قلت: إنّ اللفظ كان عندهم من قبيل العنوان المشير إلى ما تسالموا على حرمتها، فتدبّر.

______________________________

(1) النهاية لشيخ الطائفة/ 363.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 555

..........

______________________________

4- و في المكاسب المحرّمة من مهذّب ابن البراج: «و سائر التماثيل، مجسّمة كانت أو غير مجسّمة.» «1»

5- و في الكافي لأبي الصلاح الحلبي في عداد ما يحرم فعله: «و عمل الصلبان و الأصنام و التماثيل.» «2»

6- و قال أيضا: «كلّ شي ء ثبت تحريمه ... فثمنه و أجر عمله و حمله و إبقاؤه و حفظه و المعونة عليه بقول أو فعل أو رأى، و التعوّض عنه محرّم.» «3»

أقول: هذان العلمان من معاصري الشيخ الطوسي، و ظاهر عبارتيهما أيضا حرمة التماثيل بأقسامها الأربعة، و لعلّ نظرهما أيضا كان إلى خصوص ما لذوات الأرواح، كما قلنا في عبارة النهاية.

7- و في المكاسب المحرّمة من السرائر: «و سائر التماثيل و الصور ذوات الأرواح، مجسّمة كانت أو غير مجسّمة.» «4»

8- و في المكاسب المحرّمة من الشرائع قال: «الرابع: ما هو محرّم في نفسه كعمل الصور المجسّمة.» «5»

9- و ذيّله في الجواهر بقوله: «لذوات الأرواح، و لعلّ ترك

التقييد بذلك لظهور لفظ الصور في ذلك. و على كلّ حال فلا خلاف في حرمة عملها، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المنقول منه مستفيض كالنصوص.» «6»

10- و في جامع المقاصد في ذيل قول المصنّف: «كعمل الصور المجسّمة» قال:

«المتبادر من المجسّمة ما يكون لها جسم يحصل له ظلّ إذا وقع عليه ضوء، و لا ريب

______________________________

(1) المهذّب 1/ 344، باب ضروب المكاسب.

(2) الكافي لأبي الصلاح الحلبي/ 281.

(3) نفس المصدر/ 383.

(4) السرائر 2/ 215.

(5) الشرائع/ 264 (- ط. أخرى 2/ 10).

(6) الجواهر 22/ 41، كتاب التجارة، في حرمة عمل الصور المجسّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 556

..........

______________________________

في تحريم هذا القسم إذا كان من صور ذوات الأرواح، و إن كانت عبارة الكتاب مطلقة. و هل يحرم غير المجسّمة كالمنقوشة على الجدار و الورق؟ عمّم التحريم بعض الأصحاب، و في بعض الأخبار ما يؤذن بالكراهية و لا ريب أنّ التحريم أحوط ... فتكون الأقسام أربعة: أحدها محرّم إجماعا و باقي الأقسام مختلف فيها.» «1»

11- و في مجمع الفائدة و البرهان: «و الظاهر أنّ للنقش أقساما خمسة: النقش المطلق من غير تصوير صورة شي ء و هو جائز بالإجماع، و تصوير الحيوان ذي الظل بحيث إذا وقع عليه ضوء يحصل له ظلّ، و هو محرّم بالإجماع. و الثلاثة الباقية: و هو الحيوان غير المذكور، و غيره ذي ظل و غيره مختلف فيه.» «2»

أقول: عدّ المجسمة من أقسام النقش، و إطلاقه عليها لا يخلو من مسامحة.

12- و في الرياض في ذيل قول المصنّف: «كعمل الصور المجسّمة» قال:

«ذوات الأرواح إجماعا في الظاهر و صرّح به بعض الأجلّة و هو الحجّة». «3»

13- و في المستند في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و منها عمل

الصور، و هي أقسام لأنّها إمّا صورة ذي روح أو غيره و على التقديرين إمّا مجسّمة أو منقوشة، فالأولى حرام عمله مطلقا بلا خلاف أجده، و ادّعى الأردبيلي الإجماع عليه و كذا الكركي و نفى الريب عنه. و في المختلف نفى العلم بالخلاف فيه ... و أمّا البواقي فقد وقع الخلاف فيها، فالثانية محرّمة عند الحلّي و القاضي و شيخنا الشهيد الثاني و بعض آخر، و جوّزها جماعة بل قيل: إنّه الأشهر، و الأوّل هو الأظهر لإطلاق النصوص المتقدّمة.» «4»

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 23، أقسام المتاجر.

(2) مجمع الفائدة 8/ 54، كتاب المتاجر، أقسام التجارة.

(3) رياض المسائل 1/ 501.

(4) مستند الشيعة 2/ 337 و 338.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 557

..........

______________________________

14- و في مفتاح الكرامة في ذيل قول المصنّف: «كعمل الصور المجسّمة» قال:

«و قد حكى على تحريم عمل تلك، الإجماع في جامع المقاصد و مجمع البرهان و الرياض. و في التنقيح و إيضاح النافع نسبته إلى الشيخين و سائر المتأخّرين، و في الكفاية: لا أعلم فيه مخالفا. قلت: الإجماع على التحريم معلوم لأنّ القاضي و التقيّ و ابن إدريس و غيرهم يقولون بذلك و زيادة، و يبقى الكلام في الاختصاص ...» «1»

أقول: قد نقلنا كلمات المتأخّرين من الأصحاب من جهة دعواهم الإجماع في المسألة، و أوّل من ادعاه منهم المحقّق الكركي في جامع المقاصد. و لم نعثر على دعواه في كلمات القدماء من أصحابنا، و هل يكون مثل هذه الدعوى حجّة مستقلة في مثل هذه المسألة التي ورد فيها أخبار كثيرة من طرق الفريقين يحدس كونها مدركا للفتاوى؟ هذا.

و يظهر من التبيان و مجمع البيان إنكار أصل الحرمة حتّى في المجسّمة من ذوات الأرواح:

15- ففي

التبيان في تفسير الآية الحادية و الخمسين من سورة البقرة قال:

«و معنى قوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ أي اتخذتموه إلها لأنّ بنفس فعلهم لصورة العجل لا يكونون ظالمين لأنّ فعل ذلك ليس بمحظور و إنما هو مكروه. و ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه لعن المصوّرين معناه: من شبّه اللّه بخلقه أو اعتقد فيه أنّه صورة، فلذلك قدّر الحذف في الآية كأنّه قال: اتخذتموه إلها.» «2»

و نحو ذلك في المجمع أيضا، و كأنّه تبعه في ذلك. «3»

و العبرة بما ذكره الشيخ في التبيان لتأخّره عن نهايته، قال في أوّل المبسوط:

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 48، كتاب المتاجر، في الصور المجسّمة.

(2) التبيان 1/ 85 (- ط. أخرى 1/ 236).

(3) راجع مجمع البيان 1/ 109.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 558

..........

______________________________

«و كنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية.» «1» يظهر من ذلك أنّ النهاية ممّا صنّفه الشيخ في أوائل عمره الشريف.

و في السرائر في مسألة ولاية الأب و الجدّ على البنت في النكاح قال: «و أيضا فشيخنا أبو جعفر الطوسي قد رجع و سلّم المذهب بالكليّة في كتابه كتاب التبيان و رجع عمّا ذكره في نهايته و سائر كتبه لأنّ كتاب التبيان صنّفه بعد كتبه جميعها و استحكام علمه و سبره للأشياء و وقوفه عليها و تحقيقه لها.» «2»

و على هذا فلعلّ كلامه في النهاية صدر عنه على أساس كلمات الأصحاب و الاحتياط في المسألة، و بعد التحقيق ثبت له الجواز مع الكراهة.

16- و في كتاب الوليمة من المغني لابن قدّامة: «و صنعة التصاوير محرّمة على فاعلها، لما روى ابن عمر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه

قال: «الذين يصنعون هذه الصورة يعذّبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم.» و عن مسروق قال: دخلنا مع عبد اللّه بيتا فيه تماثيل، فقال التمثال منها: تمثال من هذا؟ قالوا: تمثال مريم. قال عبد اللّه: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون.»

متّفق عليهما، و الأمر بعمله محرّم كعمله.» «3»

أقول: ما ذكره من العنوان عامّ يشمل الأقسام الأربعة و كذا الرواية الثانية و إن كان موردها خاصا، و المراد بعبد اللّه فيها عبد اللّه بن مسعود كما يظهر ممّا رواه البيهقي عن مسروق. «4» و أما الرواية الأولى فهي خاصّة بذوات الأرواح كما لا يخفى.

17- و في متن الفقه على المذاهب الأربعة قال: «الصورة إمّا أن تكون صورة لغير حيوان كشمس و قمر و شجر و مسجد، أو تكون صورة حيوان عاقل أو غير

______________________________

(1) المبسوط 1/ 2.

(2) السرائر 2/ 563.

(3) المغني لابن قدّامة 8/ 112، حرمة صنعة التصاوير ....

(4) سنن البيهقي 7/ 268، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 559

..........

______________________________

عاقل، و القسم الأوّل جائز لا كلام فيه. و أما القسم الثاني فإنّ فيه تفصيل المذاهب.» ثم ذكر في الذيل ما ملخّصه:

«المالكيّة قالوا: إنّما يحرم التصوير بشروط أربعة: أحدها: أن تكون الصورة لحيوان سواء كان عاقلا أو غير عاقل. ثانيها: أن تكون مجسّدة، أمّا إذا لم تكن مجسّدة كصورة الحيوان و الإنسان التي ترسم على الورق و الثياب و الحيطان و السقف و نحو ذلك ففيها خلاف. ثالثها: أن تكون كاملة الأعضاء التي لا يمكن أن يعيش الحيوان أو الإنسان بدونها. رابعها: أن يكون لها ظلّ.

الشافعية قالوا: يجوز

تصوير غير الحيوان كالأشجار و السفن و الشمس و القمر، أما الحيوان فإنّه لا يحلّ تصويره سواء كان عاقلا أو غير عاقل.

الحنابلة قالوا: يجوز تصوير غير الحيوان، أمّا تصوير الحيوان فإنّه لا يحلّ إلّا إذا كان موضوعا على ثوب يفرش و يدوس عليه أو موضوعا على مخدّة يتكأ عليها، فإذا كان مجسّدا و لكن أزيل منه ما لا تبقى معه الحياة كالرأس و نحوه فإنّه مباح.

الحنفيّة قالوا: تصوير غير الحيوان جائز. و أمّا تصوير الحيوان فإن كان على بساط أو وسادة أو ثوب مفروش أو ورق فإنّه جائز. و كذلك إذا كانت الصورة ناقصة عضوا لا يمكن أن يعيش بدونه، أمّا إذا كانت موضوعة في مكان محترم و كانت كاملة الأعضاء فإنّها لا تحلّ.» «1»

[الأقوال في المسألة أربعة بل خمسة]

إذا عرفت المقدّمات الستّ التي طرحناها فاعلم أنّه قد مرّ في المقدّمة الرابعة إنهاء الأقوال في المسألة إلى أربعة بل خمسة.

و لكن لا يخفى أنّه كان ذلك بحسب النظر البدوي إلى ظاهر بعض الكلمات و الإطلاقات، و إلّا فلم نجد من صرّح بحرمة عمل التماثيل و التصاوير بأقسامها الأربعة. و قد عرفت من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة تصريح فقهاء المذاهب الأربعة على عدم حرمة ما لغير ذوات الأرواح، و قد دلّت أخبارنا أيضا على عدم

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 40 و 41.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 560

..........

______________________________

حرمتها و يبعد جدّا إفتاء أصحابنا على خلافها بعد استفاضتها و اعتبار أسناد بعضها كما يأتي.

مضافا إلى استقرار السيرة إلى عصر المعصومين عليهم السّلام على تصوير الأشجار و الأوراد و الجبال و البحار و الشطوط و الأنهار و سائر المناظر الحسنة المبهجة و لا سيّما بنحو النقش على الأوراق

و الفروش و الثياب، و قد شاع في جميع الأعصار أيضا في مرحلة التعليم و التعلّم نقش الأشياء الطبيعية لتفهيم المتعلّمين.

و على هذا فتحمل إطلاقات الفتاوى و كذا الأخبار على خصوص ما كان محطّا للنظر عند الفقهاء من الفريقين أعني صور ذوات الأرواح فقط، و هي التي كانت في جميع الأعصار معرضا للتقديس و العبادة عند بعض الفرق و ناسبت لذلك النهي عنها و حذفها عن مظاهر حياة البشر.

و على هذا فما يوجد من الأخبار المطلقة في هذا الباب يجب رفع اليد عن إطلاقها و حملها على خصوص ذوات الأرواح. و إنّما الذي يجب البحث فيه هو أنّه هل تختصّ الحرمة على القول بها بخصوص المجسّم من ذوات الأرواح و هي التي كانت معرضا لتقديس الأمم و العبادة لها أو تعمّ المنقوش منها أيضا؟

و بالجملة فالأخبار في المقام على ثلاث طوائف:

الأولى: ما تكون ظاهرة في حرمة التماثيل و التصاوير مطلقا.

الثانية: ما تكون ظاهرة في حرمة خصوص ما لذوات الأرواح فقط و لا تعمّ غيرها.

الثالثة: ما تدلّ على عدم حرمة ما لغير ذوات الأرواح و إن دلّ بعضها على نحو تزهيد و تنزيه منها أيضا و لا سيّما في الصلاة.

و مقتضى الجمع بين الطوائف الثلاث تخصيص الحرمة- على القول بها- بذوات الأرواح إمّا مطلقا أو خصوص المجسّم منها. هذا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 561

الأخبار الظاهرة في حرمة كلّ تصوير

______________________________

و لنشر إجمالا إلى بعض الأخبار المطلقة و نحيل شرحها إلى زمان الاستدلال بها لحرمة ما لذوات الأرواح:

1- خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أتاني جبرئيل و قال: يا محمّد إن ربك يقرئك السلام و ينهى عن تزويق

البيوت.» قال أبو بصير: فقلت: ما تزويق البيوت؟ فقال: «تصاوير التماثيل.» «1»

أقول: زوّق البيت: نقّشه و زيّنه، و في السند: القاسم بن محمّد الجوهريّ و عليّ بن أبي حمزة البطائني و هما واقفيان. نعم رواه في المحاسن أيضا عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير، «2» فيصير السند موثوقا به.

ثمّ إنّ الرواية لا تدلّ على المنع عن مطلق التصاوير إذ لعل للبيع خصوصيّة من جهة السكونة فيه و كون نقوشه بالمرأى و المنظر دائما حتّى في حال الصلاة و العبادة، كما أنّ المنع عن نقش المساجد التي وضعت للصلاة و التوجّه إلى اللّه- تعالى- أيضا لا يقتضي المنع عن النقوش بإطلاقها.

2- خبر آخر لأبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

أتاني جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ ربّك ينهى عن التماثيل.» «3»

أقول: ليس في الرواية اسم من عمل التصوير فيحتمل كون السؤال فيها عن حكم إبقاء التماثيل، و لكن الظاهر كونها تلخيصا للرواية الأولى و متّحدة معها لاتحاد السند و الراوي و المرويّ عنه و المضمون.

______________________________

(1) الكافي 6/ 526، كتاب الزيّ و التجمّل، باب تزويق البيوت، الحديث 1؛ و عنه في الوسائل 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 1.

(2) المحاسن 2/ 614، كتاب المرافق، الحديث 37.

(3) الوسائل 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 562

..........

______________________________

3- خبر جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا تبنوا على القبور و لا تصوّروا سقوف البيوت فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كره ذلك.» «1»

و في السند: القاسم بن سليمان و

لم يوثق هو و لا جرّاح، و يناقش في الدلالة أيضا باحتمال الخصوصيّة للبيوت كما مرّ و بأنّ الكراهة أعمّ من الحرمة و الكراهة المصطلحة إلّا أن يقال: إنّ ظاهر النهي الحرمة.

4- خبر محمّد بن أحمد بن يحيى بإسناده رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام، قال:

«نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يسلّم على أربعة: على السكران في سكره، و على من يعمل التماثيل، و على من يلعب بالنرد، و على من يلعب بالأربعة عشر، و أنا أزيدكم الخامسة، أنهاكم أن تسلّموا على أصحاب الشطرنج.» «2»

5- خبر الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج من الإسلام.» «3»

و في السند محمّد بن سنان و أبو الجارود و ضعّفهما علماء الرجال. و في معنى الرواية احتمالات يأتي التعرّض لها عند استدلال المصنّف بها. و على بعض المعاني لا ترتبط الرواية بالمقام.

6- خبر أبي بصير و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إيّاكم و عمل الصور فإنّكم تسألون عنها يوم القيامة.» «4»

و في السند: القاسم بن يحيى و هو مختلف فيه، و الأكثر على تضعيفه.

7- خبر عبد اللّه بن طلحة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من أكل السحت سبعة (إلى أن قال): و الذين يصوّرون التماثيل.» «5»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 9.

(2) نفس المصدر 8/ 431، الباب 28 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(3) نفس المصدر 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 10.

(4) مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به،

الحديث 1.

(5) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 563

..........

______________________________

و عبد اللّه بن طلحة مجهول الحال، و الخبر من كتاب جعفر بن محمّد بن شريح و لم يثبت اعتبار الكتاب. مضافا إلى أنّ السّحت أعمّ من الحرمة لإطلاقه في بعض الأخبار على ما لا يحرم قطعا كأجر الحجّام. و قد فسّروه بما يلزم صاحبه العار و يتأبّى عنه النفوس الكريمة.

و قال ابن الأثير في النهاية: «إنّه يرد في الكلام على الحرام مرّة و على المكروه أخرى و يستدلّ عليه بالقرائن.» «1»

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ظاهره الحرمة، و حمله على الكراهة يحتاج إلى القرينة.

8- ما عن القطب الراوندي في لبّ اللّباب: «روي أنّه يخرج عنق من النار فيقول: أين من كذب على اللّه؟ و أين من ضادّ اللّه؟ و أين من استخفّ باللّه؟

فيقولون: و من هذه الأصناف الثلاثة؟ فيقول: من سحر فقد كذب على اللّه، و من صوّر التماثيل فقد ضادّ اللّه، و من تراءى في عمله فقد استخفّ باللّه.» «2»

و الرواية كما ترى مرسلة لا اعتبار بها من جهة السند. و هل يراد أنّ نفس عمل التصوير مضادّة له- تعالى- في الخلّاقية أو المصوريّة، أو أنّ الصورة لصيرورتها في معرض العبادة تصير ضدّا للّه- تعالى-؟

9- ما عن الشهيد في منية المريد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيّا أو قتله نبيّ، و رجل يضلّ الناس بغير علم، أو مصوّر يصوّر التماثيل.» «3» و الرواية مرسلة.

10- ما رواه البيهقي بسنده عن عبد اللّه بن مسعود، يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «إنّ أشدّ الناس عذابا (عند

اللّه) يوم القيامة المصوّرون.» «4»

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 2/ 345.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(4) سنن البيهقي 7/ 268، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 564

..........

______________________________

و السند عامّي. و قد مرّ من التبيان تفسير المصوّرون بمن شبّه اللّه بخلقه و اعتقد فيه أنّه صورة. «1» و على هذا فلا يرتبط بالمقام.

11- و فيه أيضا بسنده عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد استترت بقرام فيه تماثيل، فلمّا رآه تلوّن وجهه و هتكه بيده و قال: «أشدّ الناس يوم القيامة عذابا الذين يشبّهون بخلق اللّه.» «2»

12- و فيه أيضا بسنده عن عائشة تقول: قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من سفر و قد سترت بقرام على سهوة لي فيه تماثيل فلمّا رآه هتكه و قال: «إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق اللّه.» «3»

و الظاهر أن المراد: الذين يشبهون ما صنعوه و خلقوه بما خلق اللّه. و القرام بكسر القاف: الستر الأحمر و الثوب الرقيق. و السّهوة: الطاق و الرفّ يوضع فيه الأشياء. و مورد الروايتين من قبيل النقوش.

13- و فيه أيضا بسنده عن أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة دار مروان فرأى فيها تصاوير فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «و من أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرّة أو ليخلقوا حبّة أو ليخلقوا شعيرة.» «4»

14- و في آخر البيوع من البخاري بسنده عن عون بن أبي جحيفة قال: رأيت أبي اشترى حجّاما (فأمر بالمحاجم فكسرت،

قال: فسألته عن ذلك) فقال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن ثمن الدم و ثمن الكلب و كسب الأمة (البغيّ) و لعن الواشمة و المستوشمة و آكل الربا و موكله و لعن المصوّر.» و رواه أحمد أيضا. «5»

______________________________

(1) راجع ص 557 من الكتاب؛ و التبيان 1/ 85 (- ط. أخرى 1/ 236).

(2) سنن البيهقي 7/ 267، كتاب الصداق، باب المدعو يرى ... فلا يدخل.

(3) نفس المصدر 7/ 269. كتاب الصداق، باب الرخصة فيما يوطأ من الصور ....

(4) نفس المصدر 7/ 268، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

(5) صحيح البخاري 2/ 29، الباب 112، (الباب الأخير من كتاب البيوع)؛ و مسند أحمد 4/ 308، حديث أبي جحيفة عنه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 565

..........

______________________________

فهذه أخبار يمكن أن يتمسّك بها على حرمة مطلق عمل التصوير بأقسامه الأربعة.

و لكن لا يخفى أنّ هذه الأخبار من جهة السند ضعاف إلّا الرواية الأولى بنقل المحاسن كما مرّ. و يحتمل في بعضها معان أخر لا ترتبط بباب التصوير، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

مضافا إلى أنّ الصورة و إن كانت بحسب اللغة شاملة لمطلق التصوير لكنّ المتفاهم ممّا ورد في الأخبار و كلمات الأصحاب خصوص ما كانت لذوات الأرواح.

و يشهد بذلك الأخبار المستفيضة الحاكمة بأنّ من صوّر صورة كلّفه اللّه يوم القيامة أن ينفخ فيها، إذ صورة غير الحيوان غير قابلة لنفخ الروح فيها، فتأمّل.

و قد مرّ أيضا اشتمال بعض هذه الأخبار على التهديدات و التشديدات التي لا تناسب مطلق التصوير حتّى الحيوانية منها أيضا، فيناسب حملها- على فرض صحّتها- على صورة جعل التصاوير محلّا للعبادة و التقديس أو كونها معرضا لذلك.

أضعف إلى ذلك

كلّه أنّ في قبال هذه المطلقات أخبارا معتبرة تدلّ على عدم حرمة ما ليست لذوات الأرواح، فلا محيص عن تخصيص المطلقات و حملها على خصوص ما لذوات الأرواح، أو حمل النهي فيها على مطلق المرجوحيّة و الحزازة، فلنتعرّض لهذه الأخبار:

الأخبار الظاهرة في عدم حرمة ما ليست لذوات الأرواح

1- موثقة أبي العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه- عزّ و جلّ-: يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ. فقال: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها الشجر و شبهه.» «1»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 566

..........

______________________________

و الرواية موثقة بأبان بن عثمان. يظهر من الرواية أنّ تماثيل الرجال و النساء كانت لا تناسب قداسة مقام النبوّة إمّا للحرمة أو للكراهة الشديدة و أنّ تماثيل الشجر و نحوه ليست بهذه المثابة، و على هذا فدلالة الرواية على حرمة تماثيل الرجال و النساء ليست واضحة إذ الكراهة الشديدة أيضا لا تناسب مقام النبوّة.

و الظاهر من الآية الشريفة أنّ عملهم لها كان بأمر من سليمان، و النبي لا يأمر بأمر حرام و لا مكروه شديد.

2- صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «لا بأس بتماثيل الشجر.» «1»

3- صحيحة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر، فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان.» «2»

و الصحيحتان و إن كان يحتمل فيهما إرادة اشتراء التماثيل و حفظها لا عملها و صنعها، لكن يمكن أن يقال: إنّ الذي كان مطرحا للبحث هو عملها فتنصرف الصحيحتان إليه، مضافا إلى شمول إطلاقهما لكلّ ما يرتبط بالتماثيل من العمل و الشراء

و الحفظ.

4- رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قد أهديت إليّ طنفسة من الشام عليها تماثيل طائر فأمرت به فغيّر رأسه فجعل كهيئة الشجر.» «3»

يظهر من الحديث عدم المنع في عمل الشجر و إلّا لما أمر الإمام عليه السّلام بتغيير صورة الطائر إليه.

5- و في رواية تحف العقول في عداد الصنائع المحلّلة قال: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحانيّ.» «4»

6- و في باب الصناعات من فقه الرضا عدّ من المحلّلة منها: «التصاوير ما لم يكن

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

(3) نفس المصدر 3/ 565، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 7.

(4) تحف العقول/ 335.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 567

للروايات المستفيضة مثل قوله عليه السّلام: «نهى أن ينقش شي ء من الحيوان على الخاتم.» (1)

______________________________

فيه مثال الروحانيين.» «1»

7- و في سنن البيهقي بسنده: أنّ رجلا أتى ابن عباس فقال: يا أبا عباس إنّي إنسان إنّما معيشتي من صنعة يدي، إنّي أصنع هذه التصاوير، فقال له ابن عبّاس ادنه ادنه! إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: «من صوّر صورة في الدنيا كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح و ليس بنافخ» قال: فربا لها الرجل ربوة شديدة، و قال:

و يحك إن أبيت إلّا أن تصنع فعليك بالشجر و ما ليس فيه روح.» «2»

أقول: فهذه أخبار يستفاد منها جواز عمل التصاوير لما ليس له روح، و لعل المتتبع يعثر على أكثر من ذلك، فتتبع.

نعم لو فرض وقوع تصوير ما ليس له روح معرضا للتقديس نظير الصليب الذي يقدّسه النصارى فلا إشكال حينئذ في تحريم عمله و بيعه و

حفظه و لكن لا بعنوان التصوير بل بلحاظ صيرورته من هياكل العبادة المبتدعة و قد دلّ على ذلك الأخبار و الفتاوى كما مرّ في محلّه. و كذلك لو فرض صيرورة شجر مثلا معرضا للعبادة.

و كيف كان فاللازم عطف عنان البحث إلى حكم عمل التصاوير لما فيه روح من الإنسان و الحيوان، فهل هو محرّم مطلقا، أو مكروه كذلك، أو يفصّل بين المجسّم و غيره و نخصّ الحرمة بخصوص المجسّم فقط؟ في المسألة أقوال ثلاثة كما مرّ.

ما يستدلّ به لحرمة مطلق تصوير ذوات الأرواح و الجواب عنها
اشارة

(1) قد عرفت أنّ ظاهر عبارة المصنّف عدم الخلاف في حرمة المجسّم من تصوير ذوات الأرواح و وضوحها عنده، فساق البحث إلى حرمة غير المجسّم منه و استدلّ لذلك بما تراه من الأدلّة.

______________________________

(1) فقه الرضا/ 301.

(2) سنن البيهقي 7/ 270، كتاب الصداق، باب الرخصة فيما يوطأ من الصور ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 568

..........

______________________________

و لكنّ الأولى طرح كلتا المسألتين معا لاشتراكهما في أكثر الأدلّة و لو سلّم حرمة غير المجسّم فحرمة المجسّم تثبت بطريق أولى كما لا يخفى.

الدليل الأوّل: الإجماع المدّعى في كلمات البعض

كما في جامع المقاصد و مجمع الفائدة و الرياض بالنسبة إلى خصوص المجسّم، و قد مرّت عباراتهم فراجع. «1»

و فيه: أنّ الإجماع و إن كان عند العامّة دليلا مستقلا في قبال الكتاب و السنة، و بقول الشيخ الأنصاري «ره» في الرسائل: «هم الأصل له و هو الأصل لهم.» «2»،

إلّا أنّه ليس عندنا دليلا مستقلا، و إنّما يعتبر إذا انكشف به قول المعصوم عليه السّلام إمّا لدخوله في المجمعين أو بمقتضى قاعدة اللطف كما قيل بهما، أو لكونه سببا لحدس قول المعصوم عليه السّلام حدسا قطعيّا، و الحقّ هو الأخير، و إنّما يثبت الحدس القطعيّ فيما إذا فرض اتفاق أصحابنا الذين لا يفتون في المسائل إلّا بالنص على حكم من الأحكام مع عدم وجود دليل ظاهر عقليّ أو شرعي، فلا محالة يحدس قطعا بتلقّيهم ذلك من المعصومين عليهم السّلام يدا بيد، و لا أقل من وصول رواية معتبرة إليهم.

و أمّا في مسألة التصوير التي كثرت فيه أخبار الفريقين فمن المحتمل جدّا بل المظنون كون مدرك الفتاوى هذه الأخبار التي بأيدينا، فلا يعتمد على الإجماع إلّا بعنوان المؤيّد.

الدليل الثاني: ما أشار إليه المصنّف من حديث مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

ففي الفقيه قال: روى عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصّادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السّلام، قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الأكل على الجنابة ... و نهى عن التصاوير و قال:

من صوّر صورة كلّفه اللّه يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ ... و نهى عن

______________________________

(1) راجع ص 555 و 556 من الكتاب.

(2) فرائد الأصول/ 48 (- ط. الجديدة 1/ 79)، الإجماع المنقول بخبر الواحد.

دراسات في المكاسب المحرمة،

ج 2، ص: 569

..........

______________________________

التختم بخاتم صفر أو حديد، و نهى أن ينقش شي ء من الحيوان على الخاتم.» و رواه عنه في الوسائل. «1» و طريق الصدوق إلى شعيب بن واقد هكذا: حمزة بن محمّد العلوي، عن عبد العزيز بن محمّد بن عيسى الأبهري، عن محمّد بن زكريّا الجوهري، عن شعيب بن واقد. و حمزة بن محمّد و عبد العزيز مهملان و كذا شعيب، لم يذكروا في الرجال بمدح و لا قدح. نعم محمّد بن زكريّا و الحسين بن زيد موثّقان. و الحسين هو ابن زيد بن عليّ بن الحسين عليه السّلام الملقّب بذي الدمعة لكثرة بكائه على أبيه و أخيه يحيى، و قد تبنّاه الإمام الصادق عليه السّلام و ربّاه و زوّجه بنت الأرقط. و كيف كان فالرواية من جهة السند ضعيفة.

و استدلّ المصنّف- كما ترى- بالفقرة الأخيرة على حرمة غير المجسّم من صور ذوات الأرواح.

و الظاهر أنّ نقش الحيوان على الخاتم ليس نقشا محضا بل من قبيل الحكّ في فصّه. و لا يخفى أنّ المنع عن النقش في الخاتم- على القول به- لا يقتضي المنع عن مطلق التصوير حتى المجسّمة أيضا، إذ للخاتم خصوصية واضحة من جهة كونه ملازما للإنسان غالبا حتّى في حال الصلاة، فيكون المنع فيه من قبيل المنع في لباس المصلّي.

ثمّ على فرض اعتبار حديث المناهي يشكل الاستدلال به للحرمة، إذ أكثر ما ذكر فيه من المناهي أمور مكروهة لا يلتزم أحد بحرمتها.

لا نقول: إنّ السياق مانع من الحمل على الحرمة حتّى يجاب أوّلا بمنع مانعية السياق عن الأخذ بظهور النهي في الحرمة. و ثانيا بأنّ هذه المناهي لم يجتمع في كلام واحد للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتى يلاحظ

سياق كلامه، بل صدر كلّ منها في زمان خاصّ و مورد خاصّ و إنّما جمعها الإمام الصادق عليه السّلام في مرحلة النقل و الإخبار عنها.

______________________________

(1) كتاب من لا يحضره الفقيه 4/ 3، 5 و 10، باب ذكر جمل من مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، الحديث 4968؛ و الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 570

و قوله عليه السّلام: «نهى عن تزويق البيوت.» قلت: و ما تزويق البيوت؟

قال: «تصاوير التماثيل.» (1)

______________________________

بل نقول: إنّ الناظر في الحديث بطوله يظهر له أنّ غرض الإمام عليه السّلام كان سرد مطلق ما تعلّق به نهي ما من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الأزمنة و الموارد المختلفة سواء كان محرّما أو مكروها، و لم يتعرّض الإمام عليه السّلام للألفاظ الصادرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كل مورد من الموارد المذكورة و أنّه كان بصيغة النهي أو بمادّته أو بلفظ آخر.

و بالجملة لم ينقل اللفظ الصادر عنه صلّى اللّه عليه و آله في كلّ مورد حتّى يلاحظ ظهوره في الحرمة أو في مطلق المرجوحيّة.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الإمام عليه السّلام عبّر عمّا صدر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كلّ مورد من الموارد المذكورة بلفظ النهي و أخبر عن نهيه صلّى اللّه عليه و آله، و قد تقرّر في الأصول ظهور مادّة النهي- كصيغته- في الحرمة سواء وقع التلفظ به في مقام الإنشاء أو الإخبار، إلا أن يثبت خلافه بالدليل و لم يكن غرض الإمام عليه السّلام من نقل مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مجرد القصّة و الإخبار بل

بيان مناهي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليتبعها الأمّة، فظواهر ألفاظه حجّة في مقام العمل، فتأمّل.

[الدليل الثالث: رواية أبي بصير]

(1) الدليل الثالث: ما أشار إليه المصنّف من رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاني جبرئيل و قال: يا محمّد إنّ ربّك يقرئك السلام و ينهى عن تزويق البيوت.» قال أبو بصير: فقلت: و ما تزويق البيوت؟ فقال: «تصاوير التماثيل.» «1»

رواه الكليني، «2» و في سنده القاسم بن محمّد الجوهري و عليّ بن أبي حمزة البطائني و هما واقفيّان. و رواه البرقيّ أيضا في المحاسن عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير «3»، و السند بنقله موثوق به و لكن الاعتماد

______________________________

(1) الوسائل 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 1.

(2) الكافي 6/ 526، كتاب الزيّ و التجمّل، باب تزويق البيوت، الحديث 1.

(3) المحاسن 2/ 614، كتاب المرافق، الحديث 37.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 571

..........

______________________________

على غير الكتب الأربعة التي كانت تقرأ في جميع الأعصار على الأساتذة لا يخلو من إشكال. و قد مرّ أنّ التزويق بمعنى النقش و التزيين.

أقول: يرد على ذلك أوّلا: أنّ الظاهر من الرواية النهي عن مطلق النقش و التزيين و لو بصور غير ذوات الأرواح. و قد مرّت دلالة الأخبار المعتبرة على الجواز فيها و لو كانت مجسّمة، فيدور الأمر بين تخصيص الرواية و حملها على خصوص ذوات الأرواح، و بين حمل النهي فيها على الكراهة، و لا دليل على تعيّن الأوّل.

و ثانيا: منع ظهور الرواية في عمل الصور و إحداثها إذ من الممكن تزيين البيوت بالمنقوشات و الصور الموجدة من قبل مجسّمة كانت

أو غير مجسّمة و لعلّه كان رائجا في تلك الأعصار كما راجت في عصرنا أيضا، و حيث إنّ الأدلّة دلّت على جواز إبقاء الصور بعد ما أوجدت و عدم وجوب إفنائها- كما يأتي بيانه- كان مقتضى ذلك حمل النهي على الكراهة.

و ثالثا: ما مرّت الإشارة إليه من أنّ المنع عن عمل الصور في البيوت لا يقتضي المنع عن عملها بإطلاقها حتّى المجسّمة منها فضلا عن غيرها، إذ لعلّ للبيوت خصوصية من جهة كون الصور فيها بالمرأى و المنظر دائما حتّى في حال الصلاة و العبادة و توجب التوجه إلى مظاهر الدنيا و الغفلة عن اللّه- تعالى- و عن الآخرة.

فالمنع عن تزويقها نظير المنع عن تزيين المساجد و اتّخاذ الصور فيها لا يتعدّى منها إلى غيرها.

و بذلك يظهر الجواب عن الاستدلال للمقام بخبر جراح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «لا تبنوا على القبور و لا تصوّروا سقوف البيوت، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كره ذلك.» «1» مضافا إلى أنّ لفظ الكراهة أعمّ من الحرمة، و البناء على القبور لا يكون حراما قطعا، فالسياق سياق الكراهة، فتأمّل.

______________________________

(1) الوسائل 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 9.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 572

[الدليل الرابع، رواية تحف العقول]

و المتقدم عن تحف العقول: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني.» (1)

______________________________

(1) هذا هو الدليل الرابع، و نحوه ما مر من عبارة فقه الرضا في باب الصناعات حيث عدّ فيها من الصناعات المحلّلة «التصاوير ما لم يكن فيه مثال الروحانيين.» «1»

و قد مرّ أنّ رواية تحف العقول- مضافا إلى إرسالها- مضطربة المتن يشكل صدورها بهذا المتن عن الإمام عليه السّلام. و فقه الرضا

أيضا لم يثبت اعتباره، فلا يصلحان للاستدلال بهما على حكم شرعيّ إلّا بعنوان التأييد. و العبارتان- كما ترى- متقاربتان يظنّ كون إحداهما مأخوذة من الأخرى أو كون كلتيهما مأخوذتين من مأخذ ثالث و لا يوجد فيما بأيدينا من الأخبار هذا المضمون.

ثمّ لا يخفى أنّ استدلال المصنّف بهذه الجملة على حرمة غير المجسّم من صور ذوات الأرواح مبنيّ على تسليم أمور:

الأوّل: إرادة العموم في المستثنى. الثاني: عموم لفظ المثال لغير المجسّم أيضا.

الثالث: كون المراد بالروحاني ما له روح من الإنسان و الحيوان.

و جميع هذه الأمور قابل للمناقشة:

أمّا الأوّل: فلأنّ الكلام المشتمل على الاستثناء مسوق غالبا لبيان الحكم في المستثنى منه، و المستثنى يذكر بنحو الإجمال للإشارة إلى أصل وجود الاستثناء فلا يجري فيه مقدّمات الحكمة و لا يحكم بالإطلاق فيه. و على هذا فيكفي في صحّة الاستثناء في المقام كون بعض مصاديق الروحاني كالمجسّم منه مطلقا أو خصوص ما يقع منه معرضا للعبادة و التقديس محرّما.

فإن قلت: إنّ إجمال المستثنى يسري قهرا إلى المستثنى منه أيضا، فإذا فرض إرادة العموم في المستثنى منه كما هو ظاهر اللفظ في المقام فلا محالة يتعيّن حمل

______________________________

(1) فقه الرضا/ 301؛ و راجع ص 566 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 573

..........

______________________________

المستثنى أيضا على عموم مفاده ليتبين مفاد المستثنى منه أيضا.

قلت: لا نسلّم السراية، إذ عدم الإطلاق في المستثنى بحسب أفراده و أحواله لا يضرّ بإطلاق المستثنى منه بالنسبة إلى غير عنوان المستثنى.

و أمّا الثاني: فلفظ المثال- كما مرّ في المقدّمة الخامسة- يطلق غالبا على خصوص المجسّم و ينصرف إطلاقه إليه إذ هو- كما مرّ من أهل اللغة- بمعنى الشبيه، و المشابهة التامّة للجسم إنما تتحقّق بالمشابهة له

في جميع الجهات و الجوانب الست.

و أمّا الثالث: فيرد عليه: أنّ استعمال لفظ الروحاني في مطلق ما له روح من الإنسان و الحيوان لم يعهد في أخبارنا بل الظاهر- كما في كلام الأستاذ «ره» «1»-:

خروج الإنسان و الحيوانات منه فإنّ الروحاني ظاهر في موجود غلبت فيه جهة الروح، فالروحاني في مقابل الجسماني. و إنّما يطلق على علماء الشرائع بدعوى غلبة الجهات الروحية فيهم كأنّهم ليسوا من عالم الأجسام و لم يتوجّهوا إليه.

ففي كتاب العقل و الجهل من الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ اللّه- عزّ و جلّ- خلق العقل و هو أوّل خلق من الروحانيّين عن يمين العرش من نوره.» «2»

و قال المجلسي «ره» في شرح الحديث: «يطلق الروحاني على الأجسام اللطيفة و على الجواهر المجردة- إن قيل بها- قال في النهاية: في الحديث: «الملائكة الروحانيّون» يروى بضمّ الراء و فتحها كأنّه نسب إلى الروح و الروح، و هو نسيم الريح، و الألف و النون من زيادات النسب و يريد به أنهم أجسام لطيفة لا يدركها البصر.» «3» و في مجمع البحرين أيضا نحو ما في النهاية.

و في الصحاح: «و يسمّى القرآن روحا و كذلك جبرئيل و عيسى عليه السّلام. و زعم

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 179 (- ط. الجديدة 1/ 273).

(2) الكافي 1/ 21، كتاب العقل و الجهل، الحديث 14.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 573

(3) مرآة العقول 1/ 66، كتاب العقل و الجهل، ذيل الحديث 14.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 574

و قوله عليه السّلام- في عدّة أخبار-: «من صوّر صورة

كلّفه اللّه يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ.» (1)

______________________________

أبو الخطاب: أنّه سمع من العرب من يقول في النسبة إلى الملائكة و الجنّ: روحاني بضمّ الراء، و الجمع روحانيون. و زعم أبو عبيدة: أنّ العرب تقوله لكلّ شي ء فيه روح.» «1»

و على هذا فالمتبادر من الرواية المنع عن تصوير أمثال الجنّ و الملائكة و القوّات الغيبيّة بصور خياليّة. و قد شاع في جميع الأعصار تصوير الملائكة و القدّيسين الذين غلبت عليهم الجهات الروحيّة و لو عند بعض الطوائف. و الظاهر أنّ تصويرهم في الأعصار السّابقة كان غالبا بداعي التقديس و التبرك بهم و صارت عندهم- بمرور الزمان- من هياكل العبادة.

و كيف كان فالاستدلال بالرواية- على فرض صحّتها- لحرمة تصوير كلّ ما فيه روح و لو أمثال الحيوانات الخبيثة و الحشرات مشكل جدّا.

نعم يمكن الاستدلال بها على حرمة تصوير الملائكة و القدّيسين و لا سيّما إذا وقعت معرضا للتقديس و العبادة و لا سيّما و أنّ الظاهر من الرواية تقسيم الصناعات إلى ما فيه الصلاح محضا أو الفساد محضا أو ما يوجد فيه الجهتان معا، و صرّحت بأنّ الحرام منها ما يجي ء منها الفساد محضا كآلات القمار و اللهو و الصلبان و الأصنام و أمثال ذلك ممّا يكون منه و فيه الفساد محضا و لا يكون منه و لا فيه شي ء من وجوه الصلاح. و مجرّد التصوير بما هو تصوير لم يثبت كونه ممّا فيه الفساد محضا.

[الدليل الخامس: الأخبار التي تضمّنت أنّ المصوّر للصور يكلّف يوم القيامة بنفخ الروح فيها]

(1) الدليل الخامس: الأخبار التي تضمّنت أنّ المصوّر للصور يكلّف يوم القيامة بنفخ الروح فيها.

و الظاهر أنّ نقل هذا المضمون مستفيض في أخبار الفريقين، بل يمكن القول بتواتره إجمالا بمعنى العلم إجمالا بصدور بعضها و لا أقلّ من

الاطمينان و الوثوق

______________________________

(1) الصحاح للجوهري 1/ 367.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 575

..........

______________________________

بذلك، فلنتعرّض لما عثرنا عليها فعلا:

1- قد مرّ في حديث المناهي قوله عليه السّلام: «و نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن التصاوير و قال: من صوّر صورة كلّفه اللّه- تعالى- يوم القيامة أن ينفخ فيها و ليس بنافخ.» «1» و قد مرّ أنّ الحديث من جهة السند ضعيف.

2- ما عن الخصال بسنده عن محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

سمعته يقول: «ثلاثة يعذّبون يوم القيامة: من صوّر صورة من الحيوان يعذّب حتّى ينفخ فيها و ليس بنافخ فيها، و المكذّب في منامه يعذّب حتى يعقد بين شعيرتين و ليس بعاقد بينهما، و المستمع إلى حديث قوم و هم له كارهون يصبّ في أذنه الآنك و هو الأسرب.» و عن عقاب الأعمال أيضا نحوه. «2»

و محمّد بن مروان لم يثبت وثاقته و لكن الراوي عنه عبد اللّه بن مسكان و هو من أصحاب الإجماع، و في المسالك عدّ الرواية صحيحة، فراجع. «3»

3- و عن الخصال أيضا بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من صوّر صورة عذّب و كلّف أن ينفخ فيها و ليس بفاعل. و من كذب في حلمه عذّب و كلّف أن يعقد بين شعيرتين و ليس بفاعل. و من استمع إلى حديث قوم و هم له كارهون يصبّ في أذنه الآنك يوم القيامة.» قال سفيان: الآنك: الرصاص «4».

و السند عامّي.

و روى هذه الرواية البيهقي في السنن بسنده عن عكرمة عن ابن عباس «5»، و لعلّ الصدوق أخذها من كتبهم.

4- و في الوسائل عن الكافي بسنده عن الحسين

بن المنذر قال: قال

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) نفس المصدر و الباب 12/ 221، الحديث 7.

(3) المسالك 1/ 165 (- ط. الجديدة 3/ 126)، الفصل الأوّل من كتاب التجارة.

(4) الوسائل 12/ 221، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.

(5) سنن البيهقي 7/ 269، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 576

..........

______________________________

أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ثلاثة معذّبون يوم القيامة: رجل كذب في رؤياه يكلّف أن يعقد بين شعيرتين و ليس بعاقد بينهما، و رجل صوّر تماثيل يكلّف أن ينفخ فيها و ليس بنافخ ...» و رواه عن المحاسن أيضا. «1» و الرجال إلى الحسين كلّهم ثقات، و الحسين و إن لم يوثق لكنّه لا يخلو من مدح.

5- ما عن الكافي بسنده عن ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «من مثّل تمثالا كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح.» و عن المحاسن أيضا مثله. «2»

و السند لا بأس به على القول بحجّية مراسيل ابن أبي عمير كما قال الشيخ في العدّة.

6- ما عن المحاسن بسنده عن سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ هم المصوّرون يكلّفون يوم القيامة أن ينفخوا فيها الروح.» «3»

و السند إلى سعد ضعيف، و سعد مختلف فيه.

7- و عن عوالي اللآلي عن خالد الحذّاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال (في حديث): «و من صوّر صورة عذّب حتّى ينفخ فيه الروح و ليس بنافخ.» «4»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 561، الباب 3 من أبواب

أحكام المساكن، الحديث 5؛ و الكافي 6/ 528، كتاب الزّي و التجمّل، باب تزويق البيوت، الحديث 10؛ و المحاسن 2/ 616، كتاب المرافق، الحديث 44.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 560، الحديث 2؛ و الكافي 6/ 527، كتاب الزيّ و التجمّل، باب تزويق البيوت، الحديث 5؛ و المحاسن 2/ 615، كتاب المرافق، الحديث 42.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 562، الحديث 12؛ و المحاسن 2/ 616، كتاب المرافق، الحديث 43.

(4) مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 577

..........

______________________________

و قد روى البيهقي ثلاث روايات بإسناده عن النضر و عكرمة و سعيد عن ابن عباس متضمّنة لهذا المضمون، فراجع البيهقي. «1»

8- و عن العوالي أيضا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ أهل هذه الصور يعذّبون يوم القيامة يقال: أحيوا ما خلقتم.» «2»

9- و في البيهقي بسنده عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إنّ الذين يصنعون هذه الصورة (الصور خ. ل) يعذّبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم.» «3»

10- و فيه أيضا بسنده عن عائشة أنّها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلمّا رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية فقلت: يا رسول اللّه، أتوب إلى اللّه و إلى رسوله ما ذا أذنبت؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما بال هذه النمرقة؟» فقلت: اشتريتها لك لتقعد عليها و توسّدها. فقال: «إنّ أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذّبون يقال لهم: أحيوا ما خلقتم.» و قال: «إنّ البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة.» «4»

أقول: و ما تضمّنه

خبر سعد بن طريف روي من طرق السنة أيضا إجمالا:

ففي الدر المنثور في ذيل الآية في سورة الأحزاب قال: «و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ قال: أصحاب التصاوير.» «5»

و هل التفسير من عكرمة أو سمعه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله؟ كلّ محتمل.

و فيه أيضا في رواية لقتادة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «و أمّا من آذى اللّه فالذين يصوّرون

______________________________

(1) سنن البيهقي 7/ 269 و 270، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير، و باب الرخصة فيما يوطأ من الصور ....

(2) مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(3) سنن البيهقي 7/ 268، كتاب الصداق، باب التشديد في المنع من التصوير.

(4) نفس المصدر 7/ 267، باب المدعو يرى ... صورا ... فلا يدخل.

(5) الدر المنثور 5/ 220.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 578

..........

______________________________

و لا يحيون.» «1» هذا.

و ظاهر النفخ المذكور في أكثر هذه الروايات كون الصورة مجسّمة، إذ النفخ لا يقع إلّا في الجسم، و لكن الأمر بالإحياء يمكن أن يتعلق بالنقش أيضا بأن يجسّم ثم يحيي، فتأمّل.

و مورد رواية عائشة- كما ترى- هو النقش على النمرقة لا الصورة المجسّمة.

و يحتمل أنّ أحد التعبيرين وقع من الرواة من باب النقل بالمعنى فلم يكن صدر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في هذا المجال إلّا أحد التعبيرين، و النتيجة تابعة لأخصّهما مفهوما، فتأمّل. هذا.

و لم يظهر لي سرّ استحقاق المصوّر بما هو مصوّر للعذاب و أمره بالنفخ أو الإحياء تعجيزا و تعنّتا، و أيّ مفسدة في التصوير إذا لم يقع بقصد التقديس

و العبادة أو بقصد المعارضة و المضادّة للّه- تعالى- في المصوّرية أو الخالقيّة بحيث يتصوّر المصوّر نفسه شريكا له في هذه الصنعة؟!

و مجرّد التصوير إذا كان لغرض علمي أو عقلائي لا يعدّ شركا له- تعالى- و إلّا لعدّ عيسى عليه السّلام حينما كان يخلق من الطين كهيئة الطير و ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه شريكا له- تعالى-. و الشرك قبيح ذاتا حتّى من الأنبياء بل هو منهم أقبح لا يصحّ الإذن فيه من اللّه- تعالى-.

كيف؟! و الإنسان في العصر الحاضر يخترع اختراعات عجيبة و يصنع صنائع بديعة أدقّ و أهمّ بمراتب من تصوير الحيوانات، و هل يعدّ بذلك شريكا و معارضا للّه- تعالى- في الخالقيّة و يحرم توغّله في الصنعة و الاختراع؟! و أيّ فرق بين تصوير الحيوانات و تصوير سائر الموجودات مع كون الخالق للجميع هو اللّه- تعالى- لا يشركه فيها أحد؟

______________________________

(1) نفس المصدر 5/ 220.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 579

و قد يستظهر اختصاصها بالمجسّمة من حيث إنّ نفخ الروح لا يكون إلّا في الجسم. (1) و إرادة تجسيم النقش مقدّمة للنفخ ثمّ النفخ فيه خلاف الظاهر.

______________________________

ثم كيف يكون مجرّد التصوير بدون القصدين المشار إليهما و بدون المعرضيّة للعبادة إيذاء للّه و لرسوله؟ و في المجمع في ذيل قوله- تعالى- في سورة الأحزاب:

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ قال: «قيل: هم المنافقون و الكافرون و الذين وصفوا اللّه بما لا يليق به و كذبوا رسله و كذبوا عليه.» «1»

و في نور الثقلين: «نزلت فيمن غصب أمير المؤمنين عليه السّلام حقّه و أخذ حقّ فاطمة عليها السّلام و آذاها.» «2»

و كيف كان فهذه الروايات- مع قطع النظر عمّا ذكرناه من

المناقشة في معناها- قد كثرت من طرق الفريقين بحيث يطمئنّ النفس بصدور بعضها و لو واحدة منها، فتكون حجّة إجمالا و ظاهر الجميع هي الحرمة، فما في مصباح الفقاهة من قوله:

«و لكنّها مع كثرتها ضعيفة السند و غير منجبرة بشي ء فلا تكون صالحة للاستناد إليها في الحكم الشرعي» «3» قابل للمناقشة، و المصنّف استدل بهذه الأخبار لحرمة التصوير لذوات الأرواح مطلقا و إن كان بنحو النقش.

(1) في الجواهر بعد الإشارة إلى أخبار النفخ في المقام قال: «هي ظاهرة في كون الصورة حيوانا لا ينقص منه شي ء سوى الروح، بل قد يظهر من مقابلة النقش للصورة في خبر المناهي ذلك أيضا، و من ذلك كلّه يقوى القول بالجواز في غير المجسّمة.» «4»

أقول: توضيح الكلام أنّ كلّ حيوان سواء كان إنسانا أو غيره فهو جسم مشتمل

______________________________

(1) مجمع البيان 4/ 370 (الجزء الثامن).

(2) نور الثقلين 4/ 305، في تفسير سورة الأحزاب.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 225، حرمة التصوير.

(4) الجواهر 22/ 42، كتاب التجارة، في عمل الصور المجسّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 580

و فيه: أنّ النفخ يمكن تصوّره في النقش بملاحظة محلّه، بل بدونها كما في أمر الإمام عليه السّلام الأسد المنقوش على البساط بأخذ السّاحر في مجلس الخليفة، أو بملاحظة لون النقش الذي هو في الحقيقة أجزاء لطيفة من الصبغ. (1) و الحاصل أنّ مثل هذا لا يعدّ قرينة عرفا على تخصيص الصورة بالمجسّم.

______________________________

على الأبعاد الثلاثة و الجهات الست قد صوّر بصورة بديعة معجبة من قبل اللّه- تعالى- ثم نفخ فيه الروح بإذنه. و ظاهر هذه الأخبار المتعرّضة لنفخ الروح: أنّ ما صنعه المصوّر لا ينقص من الحيوانيّة إلّا نفخ الروح فيه فيكلّف يوم القيامة بذلك

تعجيزا و تعنّتا، و النقش عرض لا يقبل النفخ فلا إطلاق في هذه الأخبار بالنسبة إلى النقوش.

(1) أقول: أجاب المصنّف عن هذا الإشكال بثلاثة وجوه: الأوّل: أن نفخ الروح يتصوّر في النقش أيضا بملاحظة محلّه حيث إنّ النقش حالّ في الجسم.

الثاني: أنّه يمكن في نفس النقش أيضا و لو كان عرضا، إذ أدلّ الأشياء على إمكان الشي ء وقوعه، و قد وقع في أمر الإمام عليه السّلام الأسد المنقوش بأخذ الساحر في مجلس الخليفة. الثالث: أنّ النقش ليس عرضا بل هو في الحقيقة أجزاء لطيفة من الصبغ فيكون جسما.

و أضاف السيّد الطباطبائي «ره» في الحاشية إلى هذه الوجوه وجها رابعا فقال:

«و أيضا أنّ التكليف المذكور إنّما هو للتعجيز فلا يلزم أن يكون ممكنا فلا يتفاوت بين المجسّمة و غيرها بل التعجيز في الثاني أظهر.» «1»

و أجاب المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية عمّا ذكره المصنّف بما ملخّصه: «أنّ المقصود من الأمر بالنفخ إحياء الصورة لا إحياء الأسطوانة أو الحجر المنقوش عليها الصورة، و لون النقش و الأجزاء الصبغية التي إذا جمعت صارت بقدر

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمرحوم السيّد محمّد كاظم الطباطبائي/ 17.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 581

..........

______________________________

حمصة إن أريد إحياؤها و هي على هيئتها المرسومة مقلوعة عن المحلّ فهو غريب، و إن أريد إحياؤها بعد جمعها و جعلها في صورة صغيرة فذلك أغرب. و أمّا أمر الإمام عليه السّلام الأسد المنقوش فذلك غير معلوم لنا كيفيّته، فلعلّه جسّم النقش ابتداء ثمّ نفخ فيه الروح- و قد اعترف المصنّف بأنّ هذا خلاف الظاهر من الأخبار- أو لعلّه أحضر أسدا من البادية و غيّب النقش عن أهل المجلس فحسبوا أنّ هذا هو النقش.» «1»

و قال الأستاذ الإمام

«ره»: «إنّ الأمر بالنفخ ليس لمطلق التعجيز بلا تناسب، بل كأنّه لم يبق من صورة الحيوان شي ء سوى النفخ فإذا نفخ فيه صار حيوانا و هو ظاهر في المجسّمة ذات الروح، و ليس مراد من يدّعي أنّها ظاهرة فيها أنّ نفخ غير المجسمة أي الأعراض محال حتّى يقال في جوابه تارة بأنّه للتعجيز و هو مع الاستحالة أوقع، و أخرى ... فإنّها أجنبية عن المدّعى لأنّ المراد أنّ الظاهر المتفاهم منها أنّ ما صنعه إذا نفخ فيه صار حيوانا معهودا و هو لا يكون إلّا في المجسّمات.

و يؤيّده: أنّ المظنون بل الظاهر من بعض الروايات: أنّ سرّ التحريم إنّما هو اختصاص المصوّرية باللّه- تعالى-، و هو الذي يصوّر ما في الأرحام، و هو اللّه الخالق البارئ المصوّر، فإذا صوّر إنسان صورة ذي روح يقال له: انفخ فيها كما نفخ اللّه فيما صوّر، إرغاما لأنفه و تعجيزا، و هو أيضا يناسب المجسّمة كما تشعر به أو تدلّ عليه الرواية المرسلة المحكيّة عن لبّ اللباب للراوندي، و فيها: «و من صوّر التماثيل فقد ضادّ اللّه.» بناء على كون المضادّة في مصوريته فلا يكون في غيرها مضادّة له لأنّه- تعالى- لم ينفخ روحا في غير المجسّمات.» «2»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره هذان العلمان تبعا لصاحب الجواهر من ظهور

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 21.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 171 و 172 (- ط. الجديدة 1/ 261)؛ و مستدرك الوسائل 2/ 457، الباب 75 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 582

..........

______________________________

الأخبار في المجسّم، و صاحب الجواهر لم يقل بامتناع النفخ و الإحياء في النقوش بل قال: إنّ الأخبار ظاهرة في كون الصورة حيوانا

لا ينقص منه شي ء سوى الروح. و لكن قد مرّ أن مورد رواية عائشة هي النمرقة، و الصورة فيها تكون لا محالة منقوشة.

و قد مرّ منّا أيضا أنّ مجرد خلق الصورة لا يعدّ مضادّة و معارضة للّه- تعالى- و إلّا لعدّ تصوير غير الحيوان أيضا مضادّة له، فإنّه- تعالى- كما يكون مصوّرا للحيوانات يكون مصوّرا لسائر الموجودات أيضا. هذا.

و في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لكلام الشيخ أشار إلى الجواب الأخير أعني النفخ بملاحظة لون النقش، قال: ما ملخّصه: «و هذا الجواب متين، بيان ذلك:

أنّه إذا كان المقصود من النفخ النفخ في النقوش الخالية عن الجسمية التي ليست إلّا أعراضا صرفة فلا مناص عن الإشكال المذكور. و أمّا إذا كان المقصود النفخ فيها بملاحظة لون الصبغ و الأجزاء اللطيفة منه فهو متين إذ لا ريب في قابليتها للنفخ لتكون حيوانا، و لا يلزم منه انقلاب العرض إلى الجوهر بل من قبيل تبدّل جوهر بجوهر آخر. و من هنا يعلم أنّه لا استحالة في صيرورة الصورة الأسديّة المنقوشة على البساط أسدا حقيقيا بأمر الإمام عليه السّلام غاية الأمر أنّه من الأمور الخارقة للعادة لكونه إعجازا منه، و قد حقّقنا في مقدّمة التفسير أنّ الإعجاز لا بدّ و أن يكون خارجا عن النواميس الطبيعيّة و خارقا للعادة.» «1»

أقول: ما ذكره «ره» من أمر الإعجاز متين لتوجيه ما صنعه الإمام عليه السّلام من إحياء الأسد المنقوش. و أمّا بالنسبة إلى المصوّرين فيشكل الالتزام به، إذ مقتضى ذلك أنّ المصوّر يكلّف أوّلا بالإعجاز بأن يبدّل النقش المتكوّن من الأجزاء اللطيفة الصبغيّة إلى جسم كبير مناسب للحيوان المصوّر ثمّ يكلّف ثانيا بنفخ الروح فيه، و هذا خلاف الظاهر من الأخبار.

______________________________

(1) مصباح

الفقاهة 1/ 226، ما استدلّ به على اختصاص الحرمة بالصور المجسّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 583

..........

______________________________

و أمّا قصّة الأسد التي أشار إليها المصنّف ففي البحار عن الأمالي بسند صحيح عن عليّ بن يقطين قال: استدعى الرشيد رجلا يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام و يقطعه و يخجله في المجلس، فانتدب له رجل معزّم، فلمّا أحضرت المائدة عمل ناموسا على الخبز، فكان كلّما رام خادم أبي الحسن عليه السّلام تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه و استفزّ هارون الفرح و الضحك لذلك، فلم يلبث أبو الحسن عليه السّلام أن رفع رأسه إلى أسد مصوّر على بعض الستور فقال له: «يا أسد اللّه خذ عدوّ اللّه.»

قال: فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع، فافترست ذلك المعزّم، فخرّ هارون و ندماؤه على وجوههم مغشيا عليهم، و طارت عقولهم خوفا من هول ما رأوه، فلمّا أفاقوا من ذلك بعد حين، قال هارون لأبي الحسن عليه السّلام: «أسألك بحقّي عليك لمّا سألت الصورة أن تردّ الرجل، فقال عليه السّلام: «إن كانت عصا موسى ردّت ما ابتلعته من حبال القوم و عصيّهم فإنّ هذه الصورة تردّ ما ابتلعته من هذا الرجل.» «1»

أقول: معنى يقطعه: يسكته عن حجّته و يبطلها. و المعزم بالزاء المعجمة: الرجل الذي عنده العزيمة و الرقى، و الناموس: المكر و الخداع، و استفزّه الضحك:

استخفّه و غلب عليه.

و اتفق نظير هذه الواقعة للإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام في المحاجّة مع الحاجب في مجلس المأمون، حيث صاح عليه السّلام بالأسدين المصوّرين على مسند المأمون و قال: «دونكما الفاجر! فافترساه و لا تبقيا له عينا و لا أثرا.» فوثبت

الصورتان و قد عادتا أسدين فتناولا الحاجب و أكلاه و لحسا دمه، فراجع البحار، رواها عن العيون. «2»

______________________________

(1) بحار الأنوار 48/ 41، تاريخ الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام (الباب 38) باب معجزاته ...، الحديث 17.

(2) بحار الأنوار 49/ 184، تاريخ الإمام أبي الحسن الرضا عليه السّلام (الباب 14)، الحديث 16؛ و عيون أخبار الرضا 2/ 171، افتراس الصورتين للحاجب بمعجزة الرضا عليه السّلام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 584

[الدليل السّادس: صحيحة محمّد بن مسلم]

و أظهر من الكلّ صحيحة محمّد بن مسلم: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر، قال: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان.» فإنّ ذكر الشمس و القمر قرينة على إرادة مجرّد النقش. (1)

______________________________

(1) الدليل السّادس: صحيحة محمّد بن مسلم، رواها في الوسائل بسنده عن البرقي في المحاسن «1».

و أجاب الأستاذ الإمام «ره» عنها بما ملخّصه: «أوّلا: أنّ محلّ البحث هو حكم عمل التصوير، و ليس وجه السؤال في الصحيحة معلوما لاحتمال أن يكون السؤال عن اللعب بها أو عن اقتنائها أو عن تزويق البيوت بها أو عن الصلاة في قبالها. و دعوى الانصراف إلى تصويرها ممنوعة، بل يمكن أن يقال: إنّ السؤال عن التماثيل بعد الفراغ عن وجودها.

و ثانيا: منع ظهورها في الحرمة، و ما يقال: إنّ البأس هو الشدّة و العذاب المناسبان للحرمة كما ترى، فإنّ استعمال «لا بأس» في نفي المرجوحيّة و الكراهة شائع.

و ثالثا: منع الإطلاق في ذيلها، لكون الكلام مسوقا لبيان عقد المستثنى منه لا المستثنى. و دعوى اختصاص السؤال بالنقوش بمناسبة عدم تعارف تجسيم الشجر و تالييه، غير وجيهة لإمكان أن يقال: إنّ المتعارف في تلك الأزمنة هو العمل الحجّاري و

تصوير الأشياء بنحو التجسيم. و أمّا النقش و الرسم فتعارفهما غير معلوم.» «2»

أقول: و يزاد على ما ذكره هنا من الوجوه الثلاثة وجه رابع مبنيّ على ما حكيناه عنه في المقدمة الخامسة، و هو أنّ الظاهر من تمثال الشي ء و صورته- بقول مطلق- هو المشابه له في الهيئة مطلقا أي من جميع الجوانب لا من جانب واحد،

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3؛ و المحاسن 2/ 619، كتاب المرافق، الحديث 54.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 172 و 173 (- ط. الجديدة 1/ 262 و 263).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 585

..........

______________________________

و أنّ إطلاقهما على المشابه من جانب واحد بنحو من المسامحة، و على هذا فلا مجال للاستدلال بالصحيحة لحرمة غير المجسّم. هذا.

و يمكن أن يناقش فيما ذكره أوّلا: بأنّه لا مانع من الأخذ بإطلاق السؤال و الجواب، إذ المفروض تعلّق السؤال بالذوات و هي لا يتعلق بها حكم شرعي إلّا بلحاظ الأفعال المتعلقة بها، فإذا فرض هنا أفعال مختلفة متعلّقة بها و كان الجميع محلا للابتلاء و الحاجة و مطرحا للبحث فلأيّ وجه نحمل السؤال على فعل خاصّ منها؟ و ترك استفصال الإمام عليه السّلام دليل العموم. نعم لو كان واحد منها من أظهر الآثار أو معرضا للابتلاء بحسب الغالب بحيث ينصرف إليه الإطلاق فلا محالة يتعيّن الحمل عليه و لا أقلّ من كونه القدر المتيقّن سؤالا و جوابا.

و الظاهر أنّ التماثيل كانت موردا للابتلاء و الحاجة من حيث أصل العمل و من حيث الإبقاء و الانتفاع بها و المعاملة عليها و الصلاة معها و نحو ذلك فلا وجه لحمل السؤال و الجواب المتعلّقين بها على الإجمال المستلزم لعدم

كون جواب الإمام عليه السّلام رافعا لشبهة السائل، بل يؤخذ بإطلاقهما، فتدبّر.

فإن قلت: على فرض كون الصحيحة ناظرة إلى بيان حكم الاقتناء لزم من الحكم بحرمته حرمة العمل أيضا، إذ لا يحتمل حرمة اقتناء التصوير و جواز عمله.

قلت: لو فرض كونها ناظرة إلى حكم الاقتناء وجب حمل النهي فيها على الكراهة، لما يأتي من الأخبار الدالّة على جواز الاقتناء، فتأمّل.

و أمّا ما ذكره ثانيا: من أنّ استعمال «لا بأس» في نفي المرجوحيّة و الكراهة شائع، فالظاهر صحّته. و من هذا القبيل رواية أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل و نفترشها؟ فقال: «لا بأس بما يبسط منها و يفترش و يوطأ، إنّما يكره منها ما نصب على الحائط و السرير.» «1»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 586

[الدليل السابع قوله عليه السّلام: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام.»]

و مثل قوله عليه السّلام: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج عن الإسلام.» (1) فإنّ المثال و التصوير مترادفان على ما حكاه كاشف اللثام عن أهل اللغة. مع أنّ الشائع من التصوير و المطلوب منه هي الصور المنقوشة على أشكال الرجال و النساء و الطيور و السباع دون الأجسام المصنوعة على تلك الأشكال.

______________________________

و أمّا ما ذكره ثالثا: من منع الإطلاق في الذيل فهذا ما كنّا نصرّ عليه أيضا من كون الغالب في الجمل المشتملة على الاستثناء كون غرض المتكلّم بيان الحكم في ناحية المستثنى منه، و الاستثناء يقع بنحو الإجمال إلّا أن يوجد هنا قرينة على كونه في مقام البيان بالنسبة إلى كلتا الجملتين. و كذلك يصحّ ما ذكره أخيرا من أنّ المتعارف في تلك

الأزمنة كان عمل المجسّمات، إذ التقديس و العبادة كانا في قبال المجسّمات لا النقوش، و لم يعهد عبادة النقوش المحضة. و قد مرّ أنّه كان لعبدة الشمس و السيّارات في عصر إبراهيم الخليل عليه السّلام بيوت عبادة فيها هياكل للسيّارات السبع كانوا يعظّمونها و يعبدونها بتوهّم أنّها مظاهر للسيّارات و السيّارات مظاهر للعقول المجرّدة المدبّرة لها.

فما في كلام المصنّف من أنّ ذكر الشمس و القمر قرينة على إرادة مجرد النقش لا يمكن المساعدة عليه، فتدبّر.

(1) هذا هو الدليل السابع، و قد حكم المصنّف بدلالة الرواية على حرمة النقش أيضا بتقريب «أنّ المثال و الصورة مترادفان، على ما حكاه كاشف اللثام، حيث قال في مبحث مكان المصلّي: «المعروف- كما في اللغة- ترادف التماثيل و التصاوير.» «1» و على هذا فإذا فرض شمول الصورة للنقش فالمثال أيضا يشمله، مع أنّ الشائع من التصوير و المطلوب منه هي الصور المنقوشة دون الأجسام.

فحمل الرواية على المجسّمات حمل على الفرد النادر.»

______________________________

(1) كشف اللثام 1/ 198.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 587

..........

______________________________

أقول: الرواية رواها في الوسائل عن التهذيب و الفقيه و المحاسن: «1»

ففي التهذيب: أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن سنان، عن أبي الجارود، عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج من الإسلام.» «2»

قال المحقّق في أحكام الأموات من المعتبر بعد نقل الرواية: «و قد اختلف الأصحاب في رواية هذه اللفظة: فقال سعد بن عبد اللّه: هي بالحاء المهملة و عنى تسنيمها. و قال المفيد «ره»: بالخاء و عنى شقّها، من خددت الأرض أي شققتها، فيكون النهي على هذا للتحريم. و قال محمّد بن الحسن الصفّار:

بالجيم و عنى تجديدها أي تجديد بنائها أو تطيينها، و حكي أنّه لم يكره رمّها. و قال البرقي: بالجيم و الثاء و لم يفسّره، و قال الشيخ «ره»: المعنى أن يجعل القبر جدثا دفعة أخرى.

قلت: و هذا الخبر رواه محمّد بن سنان، عن أبي الجارود، عن الأصبغ عن عليّ عليه السّلام. و محمّد بن سنان ضعيف و كذا أبو الجارود، فإذن الرواية ساقطة فلا ضرورة إلى التشاغل بتحقيق نقلها.» «3»

و لكنّ الشهيد «ره» في الذكرى بعد نقل اختلاف الأصحاب في نقل اللفظة قال: «قلت: اشتغال هؤلاء الأفاضل بتحقيق هذه اللقطة مؤذن بصحّة الحديث عندهم و إن كان طريقا ضعيفا كما في أحاديث كثيرة اشتهرت و علم موردها و إن ضعف أسنادها، فلا يرد ما ذكره في المعتبر من ضعف محمّد بن سنان و أبي الجارود.» «4»

______________________________

(1) الوسائل 2/ 868، الباب 43 من أبواب الدفن، الحديث 1؛ و 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 10؛ و كتاب من لا يحضره الفقيه 1/ 189 (أحكام الأموات)، الحديث 579؛ و المحاسن 2/ 612، كتاب المرافق، الحديث 33.

(2) التهذيب 1/ 459، باب تلقين المحتضرين، الحديث 142.

(3) المعتبر 1/ 304 (- ط. القديمة/ 82).

(4) الذكرى/ 69، كتاب الصلاة، المطلب الثالث، المسألة الثالثة من المبحث الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 588

..........

______________________________

أقول: أمّا محمّد بن سنان فهو مختلف فيه، نعم الأشهر تضعيفه و لكن عمدة ما اتّهموه به هو الغلوّ مع أنّ كثيرا ممّا كان القدماء من أصحابنا يعدّونه غلوّا يعدّ في أعصارنا من معتقدات الشيعة الإماميّة. و المفيد «ره» و كثير من المتأخّرين وثّقوه، و كان له كتب كثيرة ملاء من أخبار أهل البيت عليهم السّلام

و علومهم.

و أمّا أبو الجارود فهو زياد بن المنذر العبدي الأعمى، كان من الزيديّة و ضعّفه الجميع، و نقل ابن النديم عن الصادق عليه السّلام أنّه لعنه و قال: إنّه أعمى القلب أعمى البصر. فالخبر ضعيف من جهة السند.

و أمّا ذكره في الذكرى من أنّ اشتغال الأفاضل بتحقيق لفظ الحديث مؤذن بصحّته عندهم فهو عجيب، فإن بناء العلماء و الأفاضل في جميع الأعصار كان على التحقيق في ألفاظ الأخبار الواردة و مفادها مع قطع النظر عن ضعفها و عدم اعتمادهم عليها. و كأنّه توهّم أنّ اشتغالهم بتحقيق مفادها من قبيل الشهرة العمليّة الجابرة لضعف الأخبار عند الأكثر. و هو ممنوع. هذا.

و في الفقيه بعد ذكر الخبر مرسلا بقوله: «قال أمير المؤمنين ...» قال ما ملخّصه: «و اختلف مشايخنا في معنى هذا الخبر، فقال محمّد بن الحسن الصفّار «ره»: هو جدّد بالجيم، و كان شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد يحكى عنه أنّه قال: لا يجوز تجديد القبر و لا تطيين جميعه بعد مرور الأيّام عليه.

و عن سعد بن عبد اللّه أنّه كان يقول: إنّما هو من حدّد قبرا بالحاء غير المعجمة يعني به من سنّم قبرا. و عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي: إنّما هو من جدث قبرا.

و تفسير الجدث القبر فلا ندري ما عنى به. و الذي أذهب إليه: أنّه جدد بالجيم و معناه نبش قبرا لأنّ من نبش قبرا فقد جدّده و أحوج إلى تجديده. و أقول: إنّ التجديد على المعنى الذي ذهب إليه الصفّار و التحديد الذى ذهب إليه سعد بن عبد اللّه، و الذي قاله البرقي من أنّه جدث، كلّه داخل في معنى الحديث، و أنّ من

دراسات

في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 589

..........

______________________________

خالف الإمام في التجديد و التسنيم و النبش و استحلّ شيئا من ذلك فقد خرج من الإسلام. و الذي أقوله في قوله عليه السّلام: «من مثّل مثالا» يعني به أنّه من أبدع بدعة و دعا إليها أو وضع دينا فقد خرج من الإسلام.» «1»

أقول: ما يظهر منه من دخول المعاني الثلاثة في معنى الحديث لم يظهر لنا مفاده. ثمّ لا يخفى أنّ إسناد الصدوق الخبر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام بنحو الجزم يدلّ على ثبوته عنده و إن ضعف سنده. و هل يكفي ذلك في اعتمادنا على الخبر؟

و في حاشية الفقيه المطبوع من ناحية جماعة المدرّسين: «قال بعض الشرّاح:

المعاني المذكورة ليست من ضروريّات الدين حتّى يخرج مستحلّوها بسبب استحلالها عن الإسلام مع أنّ الاستحلال ليس في الرواية. و الذي يدور في خلدي: أنّ معنى الرواية على التمثيل و الاستعارة، حيث شبّه بدن الجاهل بالقبر و روحه بالميّت، لأنّ حياة الروح بالعلم، و ترويج أفعاله و أقواله بالتجديد، و مقصوده- و اللّه أعلم-: أنّ من اتّخذ جاهلا إماما يقتدي به و يروّج أقواله و أفعاله فقد خرج عن الدين. و قوله عليه السّلام: «مثّل مثالا» يعني أبدع في الدين بدعة كما فسّره الصدوق «ره».» «2»

و في البحار: «و يحتمل أن يكون المراد بالمثال: الصنم للعبادة ... و ربّما يقال:

المراد به إقامة رجل بحذاه كما يفعله المتكبّرون.» «3»

أقول: و يمكن أن يستأنس للاحتمال الأخير بالحديث الذي مرّ عن نهاية ابن الأثير في لغة مثل، حيث قال: «فيه: من سرّه أن يمثل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار.» «4»

______________________________

(1) كتاب من لا يحضره الفقيه 1/ 189، (أحكام الأموات)، ذيل الحديث 579.

(2)

كتاب من لا يحضره الفقيه 1/ 190 (أحكام الأموات)، ذيل الحديث 579.

(3) بحار الأنوار 82/ 18 (- ط. بيروت 79/ 18)، كتاب الطهارة، الباب 55، الحديث 3.

(4) النهاية لابن الأثير 4/ 294.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 590

..........

______________________________

و روى الصدوق في معاني الأخبار بسند مرفوع إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من مثّل مثالا أو اقتنى كلبا فقد خرج من الإسلام.» فقيل له: هلك إذا كثير من الناس، فقال عليه السّلام: «ليس حيث ذهبتم، إنّما عنيت بقولي: «من مثّل مثالا»:

من نصب دينا غير دين اللّه و دعا الناس إليه، و بقولي: «من اقتنى كلبا» (عنيت):

مبغضا لنا أهل البيت اقتناه فأطعمه و سقاه، من فعل ذلك فقد خرج من الإسلام.» «1» هذا.

و راجع لشرح القسمة الأولى من رواية الأصبغ التهذيب أيضا. «2»

أقول: هذه بعض ما قيل أو ورد في المقام. و لا يخفى أنّ هذه التأويلات في معنى الرواية خلاف ظاهر اللفظ، و المتبادر من المثال: التصوير، و قد مرّ في رواية ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من مثّل تمثالا كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح.» «3» و إرادة التصوير فيها ظاهرة، إلّا أن يفرق بين المثال و التمثال.

و على فرض قبول التأويلات في قوله: «من مثل مثالا» فما ذكر في حاشية الفقيه من التأويل لتجديد القبر بعيد عن الأذهان جدّا و لم يكن الأئمة عليهم السّلام في مقام ذكر اللغز و الأحجية، فاللازم- مع قطع النظر عن مرفوعة المعاني- حمل الرواية على نحو من التأكيد و المبالغة لبيان قبح الأمرين، و الإسلام و الكفر لهما مراتب و هذا النحو من التأكيدات شائع في أخبارنا

حتّى بالنسبة إلى بعض المكروهات.

و كيف كان فالرواية من جهة السند ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها إلّا للتأييد.

و قد مرّ في المقدّمة الخامسة انصراف لفظ المثل و المثال و التمثال إلى المجسّمات، فالاستدلال بها على حرمة تصوير الحيوان و إن كان بنحو النقش محلّ إشكال.

______________________________

(1) معاني الأخبار/ 181.

(2) التهذيب 1/ 459، باب تلقين المحتضرين، ذيل الحديث 142.

(3) راجع ص 576 من الكتاب؛ و الوسائل 3/ 560، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 591

[الدليل الثامن الحكمة في التحريم هي التشبّه بالخالق]

و يؤيّده أنّ الظاهر أنّ الحكمة في التحريم هي حرمة التشبّه بالخالق في إبداع الحيوانات و أعضائها على الأشكال المطبوعة التي يعجز البشر عن نقشها على ما هي عليه فضلا عن اختراعها. (1) و لذا منع بعض الأساطين عن تمكين غير المكلّف من ذلك. و من المعلوم أنّ المادّة لا دخل لها في هذه الاختراعات العجيبة. فالتشبّه إنّما يحصل بالنقش و التشكيل لا غير.

______________________________

(1) هذا كأنّه دليل ثامن للمسألة، بتقريب أنّ الحكمة في التحريم هو التشبّه بالخالق في المصوّريّة. و المادّة لا دخل لها في ذلك، و إذا فرض كون فعل بإطلاقه مشتملا على المفسدة من أيّ فاعل صدر لم يجز تمكين غير المكلّف منه أيضا.

أقول: كون الحكمة في حرمة تصوير الحيوانات التشبّه باللّه- تعالى- في المصوّريّة أو الخالقيّة غير واضح، و إن ظهر من بعض الأخبار. و ليس مجرّد التصوير مضادّة له- تعالى- إلّا أن يقصد المصوّر المعارضة له في هذا العمل أو صيرورة الصورة معرضا للتقديس و العبادة في قباله- تعالى-. و لو سلّم فأيّ فرق بين الحيوان و غيره، و اللّه- تعالى- مصوّر و خالق لكلّ شي ء؟ و لو سلّم فهذه

الحكمة توجد في المجسّمات لا في النقوش، إذ ما صوّر اللّه- تعالى- كلّها من قبيل الأجسام المشتملة على وسائل الحياة. و قد مرّ عن الأستاذ الإمام «ره» قوله:

«أنّ المظنون بل الظاهر من بعض الروايات: أنّ سرّ التحريم إنّما هو اختصاص المصوّريّة باللّه- تعالى- و هو الذي يصوّر ما في الأرحام ... و هو أيضا يناسب المجسّمة كما تشعر به أو تدلّ عليه الرواية المرسلة المحكيّة عن لبّ اللباب للراوندي و فيها: و من صوّر التصاوير فقد ضادّ اللّه.» «1» انتهى.

و على هذا فقول المصنّف: «و من المعلوم أنّ المادة لا دخل لها» واضح الضعف، إذ التشبّه بالباري لا يتحقّق إلا بإبداع ما يشابه ما أبدعه و لا يكون إلّا جسما قابلا للحياة و هو الذي يكلّف المصوّر يوم القيامة بنفخ الروح فيه. هذا.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 172 (- ط. الجديدة 1/ 261)؛ و راجع أيضا ص 581 من الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 592

..........

______________________________

و صيرورة الإنسان مظهرا لصفات الباري- تعالى- من دون أن يعجب بنفسه أو يقصد بذلك المعارضة له- تعالى- مما يحكم بحسنه العقل و الشرع. كيف؟! و لو كان مجرّد التشبّه في التصوير أو الخالقيّة حراما لحرمت جميع الصناعات و الاختراعات البديعة المنتجة من رقاء البشر في العلم و التمدّن. و لعلّ كثيرا منها صنعت على أشكال بعض الحيوانات.

و يقرب إلى الذهن: أنّ هذا القبيل من الروايات مع هذه التعبيرات و التشديدات صدرت في أعصار بقي بعض مراتب العلاقات بالأصنام و التصاوير و قبور الأموات، و الاعتقاد بقداستها في نفوس السّاذجين بل المتوسّطين من أفراد المسلمين، صدرت بداعي إبعادهم عنها و تطهيرهم من الخصلة الفاسدة المنحرفة التي ورثوها من أسلافهم و

أشرب بها قلوبهم. و قد مرّ بعض الكلام في هذا المجال في المقدّمة الثانية، فراجع.

و الزمان و المكان و الجوّ و الشرائط و الحالات لها نقش و أثر أساسيّ في بعض الأحكام، كما يظهر لمن تتّبع الروايات.

1- و روى الصدوق في كتاب كمال الدين بسنده عن محمّد بن جعفر الأسدي قال: كان فيما ورد عليّ من الشيخ محمّد بن عثمان في جواب مسائلي إلى صاحب الزمان عليه السّلام: «و أمّا ما سألت عنه من أمر المصلّي و النار و الصورة و السراج بين يديه هل تجوز صلاته؟ فإنّ الناس اختلفوا في ذلك قبلك، فإنّه جائز لمن لم يكن من أولاد عبدة الأصنام و النيران أن يصلّي و النار و الصورة و السراج بين يديه، و لا يجوز ذلك لمن كان من أولاد عبدة الأصنام و النيران.» و رواه في أواخر الاحتجاج و الوسائل. «1»

2- و في الفقيه عن عمر بن أذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته

______________________________

(1) كمال الدين 2/ 521 (الباب 45)، ذكر التوقيعات، الحديث 49؛ و الوسائل 3/ 460، الباب 30 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 5؛ و الاحتجاج 2/ 559، الرقم 351.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 593

..........

______________________________

عن المريض كيف يسجد؟ فقال: «على خمرة أو على مروحة أو على سواك يرفع إليه، و هو أفضل من الإيماء، إنّما كره من كره السجود على المروحة من أجل الأوثان التي كانت تعبد من دون اللّه، و إنّا لم نعبد غير اللّه قطّ، فاسجدوا على المروحة و على السواك و على عود.» و رواه في الوسائل عنه و عن التهذيب أيضا. «1»

أقول: في نهاية ابن الأثير: «في حديث أمّ سلمة:

قال لها و هي حائض:

«ناوليني الخمرة.» هي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خوص و نحوه من النبات.» «2»

و هل كانت الشبهة في السجدة على المروحة و أمثالها من جهة توهّم الناس أنّ نفس السجدة على الأشياء المذكورة كانت نحو احترام و عبادة لها، كما يحكم الوهابيّة في عصرنا بكون السجدة على التربة الحسينيّة عليه السّلام شركا، فيكون ذكر المروحة من باب المثال، أو من جهة كون المروحة مصوّرة بصور بعض الحيوانات؟

كلّ منهما محتمل، و على الثاني تكون الرواية مرتبطة بالمقام.

قال في روضة المتّقين في شرح الرواية: «فإنّ العامّة يكرهون السجود على أمثالها و يقولون: إنّه بمنزلة السجود على الصنم، مع أنهم رووا حديث الخمرة بطرق متكثّرة في صحاحهم ... و يمكن أن يكون الكراهة في المروحة و أمثالها باعتبار النقوش المنسوجة فيها كالطاووس و غيره، فالسجود عليه يشبه أن يسجد الصور المنقوشة، فقال عليه السّلام: «إنّا لم نعبد غير اللّه» فالسجود عليها لا يضرّ و إن كانت الصور منقوشة عليها، و الأوّل أظهر.» «3» انتهى.

______________________________

(1) كتاب من لا يحضره الفقيه 1/ 362، باب صلاة المريض و المغمى عليه ...، الحديث 1039؛ و الوسائل 3/ 606، الباب 15 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

(2) النهاية لابن الأثير 2/ 77.

(3) روضة المتّقين 2/ 457، كتاب الصلاة، صلاة المريض و المغمى عليه ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 594

..........

______________________________

3- و في صحيحة عبد اللّه بن المغيرة قال: سمعت الرضا عليه السّلام يقول: «قال قائل لأبي جعفر عليه السّلام: يجلس الرجل على بساط فيه تماثيل؟ فقال عليه السّلام: الأعاجم تعظّمه و إنّا لنمتهنه.» «1»

4- و عن أبي الحسن عليه السّلام

قال: «دخل قوم على أبي جعفر عليه السّلام و هو على بساط فيه تماثيل فسألوه فقال: أردت أن أهينه.» «2»

5- و في رواية أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل و نفترشها؟ فقال: «لا بأس بما يبسط منها و يفترش و يوطأ، إنما يكره منها ما نصب على الحائط و السرير.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها أنّ المنع عن التصوير و عن الاقتناء كان بلحاظ ما ورثوا من أسلافهم من توهّم القداسة للصور، فإذا فرض عدم الاحترام و التقديس فلا منع، و الأمر بالكسر و تغيير الصورة أيضا كان لدفع ما يمكن أن يقع في النسل الآتي من توهّم القداسة.

و بالجملة فالمنع في هذه الأخبار موسميّ بحسب الجوّ الموجود في تلك الأعصار، فتدبّر.

و إذا قيل بكون الأخبار ناظرة إلى الجوّ الموجود في تلك الأعصار و كون الحكم فيها موسميّا لا حكما دائميّا أشكل حملها على الكراهة أيضا و إن ظهر ذلك من الشيخ في التبيان و الطبرسي في مجمع البيان كما مرّ. و كيف تحمل التهديدات و التشديدات الواردة في أخبار الباب على الكراهة؟! فتأمّل.

فذلكة و تتميم

قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ المصنّف أفتى بحرمة التصوير لذوات الأرواح سواء كان

______________________________

(1) الوسائل 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 565، الحديث 8.

(3) نفس المصدر 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 595

..........

______________________________

بنحو التجسيم أو بنحو النقش، و حكم بعدم الخلاف في المجسّم نصّا و فتوى و ذكر سبعة أدلّة على حرمة النقش أيضا. و نحن ناقشنا في أدلّته

بما مرّ تفصيله. و لكن قد مرّ منّا أنّ أخبار الأمر بالنفخ و إن ضعّفوها لكنّها لكثرتها و ورودها من طرق الفريقين ربما يطمئن النفس بصدور بعضها لا محالة، و مقتضى الجميع حرمة المجسّمة من ذوات الأرواح.

ثمّ إنّ الأخبار المطلقة الظاهرة في حرمة مطلق التصوير- و قد مرّ ذكرها- قد كثرت أيضا و يمكن القول بتواترها إجمالا و لا أقلّ من الاطمينان بصدور بعضها و لو واحد منها، فلا يمكن رفع اليد عن جميعها، و قد خصّصناها بسبب ما دلّت على عدم الحرمة بالنسبة إلى غير ذوات الأرواح، فيبقى إطلاقها حجّة بالنسبة إلى صور ذوات الأرواح مطلقا مجسّمة كانت أو غير مجسّمة.

و اختصاص أخبار الأمر بالنفخ بالمجسّمات- على ما بيّناه- لا يقتضي حمل الأخبار المطلقة أيضا على المجسّمات، إذ لعلّ ذكر المجسّمات من باب ذكر المصاديق الظاهرة أو لكون الحكم فيها آكد فيحرم مطلق التصوير و هي في المجسّمات أقوى و آكد.

نعم قد استبعدنا كون مجرّد التصوير و لا سيّما النقش مناسبا للتهديدات و التشديدات الواردة في أكثر أخبار المنع، و لذا احتملنا اختصاصها بما إذا وقع التصوير في مقام المعارضة و المضادّة للّه- تعالى-، أو كانت الصور في تلك الأعصار معرضا للتقديس و العبادة حيث إنّه بقي في نفوسهم بعض ما ورثوه من الأسلاف من الاحترام للتماثيل و الصور و طلب الحاجات منها و من قبور أكابرهم، فكان هذا الجوّ بمنزلة القرينة المتّصلة مانعة من انعقاد الإطلاق لهذه الروايات. فإن قلنا بذلك و جعلنا ما مرّ من الروايتين عن الصدوق و غيرهما من الأخبار شاهدا على ذلك فهو- كما لا يبعد- و إلّا فالأحوط الاجتناب و لا سيّما مع التجسيم و إن لم يظهر

لنا حكمة هذا الحكم. هذا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 596

..........

______________________________

و ربّما يستدلّ للحرمة في المجسّمات- مضافا إلى ما مرّ من الأخبار- بما ورد من بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السّلام لكسر الصور:

ففي خبر ابن القدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هدم القبور و كسر الصّور.»

و في خبر السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلّا محوتها و لا قبرا إلّا سوّيته و لا كلبا إلّا قتلته.» «1»

بتقريب أنّ حرمة الإبقاء دليل على حرمة الإيجاد قطعا- و إن لم نلتزم بعكس ذلك- فإنّ حرمة الإبقاء تدلّ على كون الوجود ذا مفسدة ملزمة، و إذا كان كذلك فلا محالة حرم الإيجاد أيضا كما في الأصنام و آلات اللهو و القمار و نحوها.

أقول: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا- على ما ورد- وقع في عصر كانوا يقدّسون الصور و يعبدونها، و الظاهر أنّ الصور كانت مجسّمة إذ لم يعهد عبادة النقوش في عصر من الأعصار. و لعلّ القبور أيضا كانت مما تعبد و تقدّس. و الكلاب كانت كلابا خاصّة مضرّة بالمجتمع، بداهة أنّ كلّ قبر لا يجب هدمه كما أنّ كلّ كلب لا يجب قتله بل جعل الشارع لبعضها دية. و على هذا فلا دلالة للروايتين على حرمة مجرّد التصوير إذا لم يترتّب على وجود الصور مفسدة.

قال الأستاذ الإمام «ره» بعد ذكر الروايتين: «و الظاهر أنّ الصور كانت صور الهياكل

و الأصنام و من بقايا آثار الكفر و الجاهلية، و لا يبعد أن يكون الكلب في الرواية الثانية بكسر اللام و هو الكلب الذي عرضه داء الكلب، و هو داء يشبه الجنون يعرضه، فإذا عقر إنسانا عرضه ذلك الداء ... و لعلّ أمره صلّى اللّه عليه و آله بهدم القبور لأجل تعظيم الناس إيّاها بنحو العبادة للأصنام و كانوا يسجدون عليها، كما يشعر به بعض الروايات الناهية عن اتخاذ قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قبلة و مسجدا: فعن الصدوق «ره»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديثان 7 و 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 597

..........

______________________________

قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «لا تتّخذوا قبري قبلة و لا مسجدا فإنّ اللّه- عزّ و جلّ- لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.» «1» و يشهد له بعد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمير المؤمنين عليه السّلام لهدم القبور و كسر الصور لكراهة بقائهما.» «2» هذا.

كلام صاحب الجواهر في المسألة

و صاحب الجواهر فصّل بين المجسّمة من ذوات الأرواح و غيرها، فحكم بحرمة المجسّمة منها فقط فقال: «لكن قد يقال: ما في بعض النصوص التي تقدّمت في كتاب الصلاة من أنّه لا بأس إذا غيّرت رءوسها، و في آخر: قطعت، و في ثالث:

كسرت، نوع إشعار بالتجسيم، كالتعليل بالنفخ في الأخبار الأخر، و نحوها ممّا هي ظاهرة في كون الصورة حيوانا لا ينقص منه شي ء سوى الروح. بل قد يظهر من مقابلة النقش للصورة في خبر المناهي ذلك أيضا. و من ذلك كلّه يقوى حينئذ القول بالجواز في غير المجسّمة الموافق للأصل.» «3»

أقول: محصّل كلامه الاستدلال على اختصاص الحرمة بالمجسّمة بوجوه

ثلاثة:

الأوّل: النصوص التي تقدمت في كتاب الصلاة. الثاني: أخبار الأمر بالنفخ.

الثالث: مقابلة النقش للصورة في خبر المناهي.

و أجاب عن الأوّل في مصباح الفقاهة بقوله: «و فيه أوّلا: أنّه لا إشعار في شي ء من هذه الروايات بكون الصّور المنهي عنها مجسّمة إلّا في رواية قرب الإسناد: «تكسر رءوس التماثيل و تلطخ رءوس التصاوير.» «4» و هي ضعيفة السند، و الوجه في عدم إشعار غيرها بذلك هو أنّ قطع الرأس أو تغييره كما يصدق في الصور المجسّمة فكذلك يصدق في غيرها. و ثانيا: أنّ الكلام في عمل الصور

______________________________

(1) الوسائل 3/ 455، الباب 26 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 3.

(2) المكاسب المحرّمة 1/ 170 و 171 (- ط. الجديدة 1/ 259 و 260).

(3) الجواهر 22/ 42، كتاب التجارة، في عمل الصور المجسّمة.

(4) الوسائل 3/ 463، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 10.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 598

..........

______________________________

و هو لا يرتبط بالصلاة في بيت فيه تماثيل بل الصلاة فيه كالصلاة في الموارد المكروهة.» «1»

و يجاب عن الوجه الثاني: بأنّ أخبار الحرمة لا تنحصر في أخبار الأمر بالنفخ، إذ هنا أخبار يستفاد منها حرمة تصوير الحيوان بنحو الإطلاق، و أخبار أخر يستفاد منها حرمة مطلق التصوير خرج منها ما كانت لغير الحيوان فيبقى فيها ما للحيوان بإطلاقها، فتأمّل.

و يجاب عن الوجه الثالث- مضافا إلى ضعف خبر المناهي سندا كما مرّ-: بما أجاب به السيّد الطباطبائي «ره» في الحاشية، قال: «و فيه مضافا إلى أنّه جعل النقش أيضا حراما: أنّ ذلك خبر آخر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نقله الإمام عليه السّلام، فلا مقابلة في كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. و الإمام عليه

السّلام أراد أن ينقل اللفظ الصادر عنه عليه السّلام. هذا مع أنّه يمكن أن يكون من باب التفنّن في العبارة.» «2»

أقول: لأحد أن يقول: إنّ المنسبق إلى الأذهان من أخبار حرمة التماثيل و الصور كون الملاك و الحكمة فيها صيرورة الصور بمرور الزمان معرضا للعبادة و التقديس، و على هذا الأساس أيضا كان بدء ظهور الأصنام و العبادة لها في القرون السّالفة. كما مرّ بيانه في المقدّمة الثانية. و هذا الملاك إنّما يوجد في المجسّمات دون النقوش، إذ لم يعهد عبادتها في عصر من الأعصار و إن كانوا يحترمونها نحو احترام فهذا هو الفارق بين الصور المجسّمة و النقوش.

اللّهم إلّا أن يمنع كون الملاك و الحكمة ذلك بل المضادّة للّه- تعالى- و التشبّه به في المصوّرية و الخالقيّة كما يظهر من بعض الأخبار. هذا، و لكن الظاهر أنّ المضادّة و التشبّه أيضا في المجسّمات أقوى، إذ مخلوقات اللّه- تعالى- كلّها من قبيل الأجسام لا النقوش. هذا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 228، ما استدلّ به على اختصاص الحرمة بالصور المجسّمة.

(2) حاشية المكاسب للمرحوم السيّد محمد كاظم الطباطبائي/ 17.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 599

ما يستأنس من كلام المحقق الأردبيلي

______________________________

و ربّما يستأنس لعدم الحرمة في المسألة: بأنّه على فرض الحرمة و كون وجود الصورة ذات مفسدة و مبغوضة للمولى كان مقتضاه الحكم بحرمة إبقائها و المعاملة عليها أيضا كما هو الحكم في الأصنام و آلات اللهو و القمار و نحو ذلك. و لذا ترى القدماء من أصحابنا حكموا بحرمة الحفظ و التصرّف و المعاملة عليها أيضا، فراجع ما مرّ في المقدّمة السّادسة عن المقنعة و النهاية و المراسم و الكافي لأبي الصلاح الحلبي.

و قد دلّت الأخبار الكثيرة على جواز إبقائها و

عدم وجوب إفنائها كما يأتي ذكرها، و على هذا فلا وجه لحرمة إيجادها أيضا. فتأمّل. إذ لقائل أن يقول: إنّ علّة الحرمة أصل التشبّه بالخالق في المصوّرية و الخالقيّة و لكن بعد تحقّقها لا دليل على حرمة إبقائها.

و ممّن يظهر منه هذا الاستيناس المحقّق الأردبيلي «ره» في مجمع الفائدة، حيث جعل جواز إبقائها مشعرا بجواز إيجادها، قال: «ثمّ إنّه تدلّ روايات كثيرة على جواز إبقاء الصور مطلقا، و هو يشعر بجوازه و قد نقلنا من قبل روايات صحيحة دالّة عليه. و تؤيّده رواية أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل و نفترشها؟ قال عليه السّلام: «لا بأس بما يبسط منها و يفترش و يوطأ، إنّما يكره منها ما نصب على الحائط و السّرير.» «1» و بعد ثبوت التحريم فيما ثبت يشكل جواز الإبقاء، لأنّ الظاهر أنّ الغرض من التحريم عدم خلق شي ء يشبه بخلق اللّه و بقائه لا مجرّد التصوير، فيحمل ما يدلّ على جواز الإبقاء من الروايات الكثيرة الصحيحة و غيرها على ما يجوز منها، فهي من أدلّة جواز التصوير في الجملة على البسط و الستر و الحيطان و الثياب، و هي التي تدلّ الأخبار على جواز إبقائها فيها لا ذو الروح التي لها ظلّ على حدته التي هي حرام بالإجماع.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) مجمع الفائدة 8/ 56، كتاب المتاجر، أقسام التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 600

و من هنا يمكن استظهار اختصاص الحكم بذوات الأرواح، فإنّ صور غيرها كثيرا ما يحصل بفعل الإنسان للدواعي الأخر غير قصد التصوير، و لا يحصل به تشبّه بحضرة

المبدع تعالى عن الشبيه. (1) بل كلّ ما يصنعه الإنسان من التصرّف في الأجسام فيقع على شكل واحد من مخلوقات اللّه- تعالى-. و لذا قال كاشف اللثام (2) على ما حكي عنه في مسألة كراهة الصلاة في الثوب المشتمل على التماثيل: إنّه لو عمّت الكراهة لتماثيل ذي الروح و غيرها كرهت الثياب ذوات الأعلام لشبه الأعلام بالأخشاب و القصبات و نحوها، و الثياب المحشوّة لشبه طرائقها المخيطة بها، بل الثياب قاطبة لشبه خيوطها بالأخشاب و نحوها. انتهى،

______________________________

أقول: فمقتضى كلامه التفصيل بين المجسّم و غيره و أنّ أخبار جواز الإبقاء واردة في غير المجسّم و أنّ جواز إبقائه دليل على جواز صنعه و إيجاده، و المجسّم من الحيوان حيث لا يجوز إيجاده فيحرم إبقاؤه أيضا. فتأمّل.

ما ذكره المصنّف أخيرا في اختصاص الحرمة بذوات الأرواح

(1) مقتضى كلامه هذا حرمة تصوير غير الحيوان أيضا على فرض إتيانه بقصد التصوير و الحكاية، و يشكل الالتزام به لإطلاق الروايات الدالّة على الجواز في تماثيل الشجر و شبهه.

(2) في كشف اللثام في المسألة المذكورة في المتن قال: «ثمّ إنّ ابن إدريس خصّص الكراهية بصور الحيوانات. قال في المختلف: و باقي أصحابنا أطلقوا القول و هو الوجه، لنا عموم النهي ... و قول ابن إدريس عندي أقوى إذ لو عمّت الكراهية لكرهت الثياب ذوات الأعلام ...» «1»

______________________________

(1) كشف اللثام 1/ 193.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 601

و إن كان ما ذكره لا يخلو عن نظر كما سيجي ء. (1) هذا.

و لكن العمدة في اختصاص الحكم بذوات الأرواح أصالة الإباحة. (2)

مضافا إلى ما دلّ على الرخصة، مثل صحيحة ابن مسلم السابقة و رواية التحف المتقدّمة و ما ورد في تفسير قوله- تعالى-: يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ

من قوله عليه السّلام: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها تماثيل الشجر و شبهه.» (3) و الظاهر شمولها للمجسّم و غيره، فبها يقيّد بعض ما مرّ من الإطلاق.

خلافا لظاهر جماعة، حيث إنّهم بين من يحكى عنه تعميمه الحكم لغير ذي الروح و لو لم يكن مجسّما، (4) لبعض الإطلاقات اللازم تقييدها

______________________________

(1) من أنّ محلّ البحث صورة قصد الحكاية و التمثيل، و في هذه الأمثلة لم يقصد ذلك.

(2) قد مرّ وجود الإطلاقات الشاملة لغير ذوات الأرواح أيضا و تخصيصها بالروايات الدالّة على الجواز، و مع وجود الدليل لا مجال للأصل.

(3) راجع الوسائل. و قد مرّ منّا بيان المسألة و ذكر هذه الروايات «1»، فلا نعيد.

و إطلاق التماثيل فيها يشمل المجسّم و غيره، بل يمكن القول بكون المجسّم هو القدر المتيقّن منها كما مرّ وجهه في المقدّمة الخامسة.

(4) في المختلف: «قال ابن البراج: يحرم التماثيل المجسّمة و غير المجسّمة ...

و أبو الصلاح قال: يحرم التماثيل و أطلق، و قال الشيخان: يحرم عمل التماثيل المجسّمة، و كذا قال سلّار.» «2»

أقول: قد مرّ في المقدّمة السّادسة نقل كلمات الأصحاب «3»، و قلنا: إنّ ظاهر

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ و راجع ص 565 و ما بعدها من الكتاب.

(2) المختلف/ 341، كتاب المتاجر، الفصل الأوّل.

(3) راجع ص 553 و ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 602

بما تقدّم مثل قوله عليه السّلام: «نهى عن تزويق البيوت» و قوله عليه السّلام: «من مثّل مثالا الخ»، (1) و بين من عبّر بالتماثيل المجسّمة، (2) بناء على شمول التمثال لغير الحيوان كما هو كذلك، فخصّ الحكم بالمجسّم، لأنّ المتيقّن من

المقيّدات للإطلاقات و الظاهر منها بحكم غلبة الاستعمال و الوجود: النقوش لا غير. (3)

و فيه: أنّ هذا الظهور لو اعتبر لسقط الإطلاقات عن نهوضها لإثبات حرمة المجسّم، فتعيّن حملها على الكراهة دون التخصيص بالمجسّم. (4)

______________________________

كلمات أكثر الأصحاب و إن كان يشمل لغير ذوات الأرواح أيضا لكن الظاهر إرادتهم خصوص ما لذوات الأرواح، فإنّها كانت مطرحا للبحث بين الفريقين، و لا يظنّ بهم أنّهم طرحوا الأخبار الصريحة في جواز التصوير لغير ذوات الأرواح و كانت هذه الأخبار بمرآهم، و فقهاء العامّة أيضا صرّحوا بجوازه، و قد مرّ نقل كلماتهم في المقدّمة السّادسة. «1»

(1) الروايتان من أمثلة المطلقات لا المقيّدات.

(2) و هم أكثر الأصحاب كالشيخين و سلّار و المحقّق و العلّامة و غيرهم، فراجع كلماتهم. «2»

(3) كون النقوش غالبة في الوجود في تلك الأعصار ممنوع، لما مرّ من كثرة التماثيل المجسّمة فيها و أنّهم كانوا يقدّسونها و يعبدونها و لم يعهد عبادتهم للنقوش المحضة و إن كانت الأعاجم يعظّمونها نحو تعظيم.

(4) محصّل كلام المصنّف أنّ غلبة الاستعمال و الوجود لو صارت سببا لانصراف المقيّدات إلى خصوص النقوش صارت سببا لانصراف المطلقات المانعة أيضا إليها، و لازم ذلك حمل أخبار المنع على الكراهة لما ورد من الرخصة في غير

______________________________

(1) راجع ص 558.

(2) راجع ص 553 و ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 603

و بالجملة التمثال في الإطلاقات المانعة مثل قوله عليه السّلام: «من مثّل مثالا» إن كان ظاهرا في شمول الحكم للمجسّم كان كذلك في الأدلّة المرخّصة لما عدا الحيوان كرواية تحف العقول و صحيحة ابن مسلم و ما في تفسير الآية. فدعوى ظهور الإطلاقات المانعة في العموم و اختصاص المقيّدات المجوزة بالنقوش تحكّم.

______________________________

ذوات الأرواح،

و على هذا فلا يبقى دليل على حرمة المجسّمة لا في الحيوان و لا في غيره.

أقول: يمكن أن يقال على هذا المبنى: إنّه بعد ما انصرفت الطائفتان إلى النقوش تحمل المطلقات على ظاهرها و هو التحريم و تخصّص بسبب ما دلّ على جواز ما ليست لذوات الأرواح فيصير مقتضاهما حرمة نقوش الحيوانات و جواز نقوش غيرها، و حرمة نقوش الحيوانات تستلزم حرمة مجسّماتها أيضا بالأولوية القطعية، و يبقى المجسّمات من غير ذوات الأرواح مسكوتا عنها، فيحكم فيها بالجواز بمقتضى الأصل. هذا.

و لكن أصل الانصراف المدّعى ممنوع، بل المجسّمات هي القدر المتيقّن من مفهوم التماثيل و الصور كما مرّ.

و على هذا فمقتضى المطلقات المانعة حرمة التماثيل بأقسامها الأربعة، و مقتضى إطلاق أخبار الجواز جواز ما ليست لذوات الأرواح، مجسّمة أو غير مجسّمة، فيقدم على إطلاق أخبار المنع لتقدم إطلاق المخصص على إطلاق العامّ، فيبقى ما للحيوان بإطلاقها باقية تحت المطلقات المانعة كما مرّ بيان ذلك سابقا، فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 604

البحث في فروع مسألة التصوير
اشارة

______________________________

أقول: بعد ما تعرّضنا لحكم عمل التصوير و الأقوال فيه و أخبار المسألة ينبغي التعرّض لفروع تعرّض لبعضها المصنّف أيضا:

[الفرع الأوّل:] حكم الأصنام يخالف حكم الصور

الفرع الأوّل: قال الأستاذ الإمام «ره» ما ملخّصه: «لا شبهة في حرمة تصوير الأصنام للعبادة أو لإبقاء آثار السّلف الفاجر، من غير فرق بين المجسّمة و غيرها و ما كان بصورة الحيوان أو غيره بنحو المباشرة أو بنحو التسبيب أو بالشركة، و لا يجوز إبقاؤها و اقتناؤها أيضا، و ذلك لما يعلم من مذاق الشارع المقدس أنّه لا يرضى ببقاء آثار الكفر و الشرك للتعظيم أو للفخر بها، و قد حملنا الأخبار المشتملة على التهديدات و التشديدات- بمناسبة الحكم و الموضوع- على هذا القسم من التصوير.

فالفروع الآتية إنّما هي في غير تلك الصور الخبيثة.

و لا ينافي ذلك ما قدّمناه سابقا من تجويز بيع الصنم الذي انقرض عصر عابديه، لأنّ المنظور في ذلك المقام جواز المعاوضة عليه بلحاظ حفظ الآثار العتيقة التاريخية لا لحفظ شعار الأجداد و احترامه كما في المقام.

كما لا ينافيه بعض الروايات الواردة في الوسائد المنقوشة بالنقوش التي كانت

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 605

ثمّ إنّه لو عمّمنا الحكم لغير الحيوان مطلقا أو مع التجسّم فالظاهر أنّ المراد به ما كان مخلوقا للّه- سبحانه- على هيئة خاصّة معجبة للناظر على وجه يميل النفس إلى مشاهدة صورتها المجرّدة عن المادّة أو معها. (1)

______________________________

الأعاجم تعظّمها بعد ما لم يكن الحفظ للتعظيم بل للتحقير و الإهانة كما في بعض الأخبار أو لمجرد التوسّد و الافتراش، فإنّ الأحكام تختلف بالجهات و الحيثيات.» «1»

أقول: ففي رواية عبد اللّه بن المغيرة قال: سمعت الرضا عليه السّلام يقول: قال قائل لأبي جعفر عليه السّلام: يجلس الرجل على بساط

فيه تماثيل؟ فقال عليه السّلام: «الأعاجم تعظّمه و إنّا لنمتهنه.» «2»

و في رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الوسادة و البساط يكون فيه التماثيل؟ فقال: «لا بأس به يكون في البيت.» قلت: التماثيل؟ فقال:

«كل شي ء يوطأ فلا بأس به.» «3»

و عن أبي الحسن عليه السّلام قال: دخل قوم على أبي جعفر عليه السّلام و هو على بساط فيه تماثيل، فسألوه، فقال: «أردت أن أهينه.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، فراجع. و يأتي البحث الواسع في مسألة اقتناء الصور.

[الفرع الثاني:] هل يعتبر في الحرمة كون الصورة معجبة؟

(1) الفرع الثاني: يظهر من المصنّف أنّه لو عمّمنا الحرمة لغير الحيوان فالظاهر اختصاصها بما إذا كانت الصورة من مخلوقات اللّه- تعالى- على هيئة معجبة للناظر،

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 176 (- ط. أخرى 1/ 268)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) الوسائل 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 565، الحديث 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 606

فمثل تمثال السيف و الرمح و القصور و الأبنية و السفن ممّا هو مصنوع للعباد و إن كانت في هيئة حسنة معجبة خارج. و كذا مثل تمثال القصبات و الأخشاب و الجبال و الشطوط ممّا خلقه اللّه لا على هيئة معجبة للناظر بحيث تميل النفس إلى مشاهدتها و لو بالصور الحاكية لها، لعدم شمول الأدلّة لذلك. (1)

______________________________

و فرّع على ذلك عدم حرمة تمثال ما كان مصنوعا للعباد و إن كانت على هيئة معجبة، و كذا عدم حرمة ما ليست بمعجبة من مخلوقات اللّه- تعالى- كتمثال القصبات و الأخشاب.

قال السيّد الطباطبائي «ره» في الحاشية: «مقتضى

ما ذكره أنّه لو خصّصنا بالحيوان أيضا نقتصر على ما كان كذلك، فلا يشمل مثل الديدان و الخنافس و الحيّات و نحوها ممّا ليس على شكل غريب و مثال عجيب كما لا يخفى.» «1»

و في حاشية المحقّق الإيرواني «ره»: «لا يعتبر الإعجاب في موضوع الحرام، مع أنّ كل صورة هي معجبة في بدو النظر إليها و إنّما يزول الإعجاب شيئا فشيئا، مع أنّ الإعجاب الحاصل عند مشاهدة الصورة إنّما هو من نفس الصورة لكشفها عن كمال مهارة النقّاش و لو كانت صورة نمل أو دود، و لذا لا يحصل ذلك الإعجاب من مشاهدة ذي الصورة.» «2»

و ما ذكره متين كما لا يخفى و لا دليل على اعتبار وصف الإعجاب.

(1) في حاشية الإيرواني «ره»: «دعوى انصراف الأدلّة إلى تصوير صور مصنوعات اللّه- تعالى- و لو بمعدّات من العباد من زراعة و نتاجة، قريبة جدّا، فإنّ إيجاد نفس ذي الصورة في غير هذا جائز كصنعة غريبة أو بناء قصر فكيف لا يجوز نقش صورته؟!» «3»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 19، ذيل قول المصنّف: ثمّ إنّه لو عمّمنا.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني/ 21، ذيل قول المصنّف: على هيئة خاصّة معجبة.

(3) نفس المصدر و الصفحة، ذيل قول المصنّف: لعدم شمول الأدلّة لذلك.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 607

هذا كلّه مع قصد الحكاية و التمثيل، فلو دعت الحاجة إلى عمل شي ء يكون شبيها بشي ء من خلق اللّه و لو كان حيوانا من غير قصد الحكاية فلا بأس قطعا. (1)

______________________________

أقول: هذا كلّه على فرض سراية الحرمة- على القول بها- إلى ما ليست لذوات الأرواح أيضا، و قد مرّ منع ذلك لدلالة الروايات المستفيضة و كذا السيرة على الجواز فيها مطلقا.

[الفرع الثالث:] هل يعتبر قصد الحكاية في حرمة التصوير؟

(1) الفرع الثالث: هل يعتبر قصد الحكاية في حرمة التصوير أو يكفي في ذلك العلم بتحققه و إن لم يقصد الحكاية؟

فالمصنّف- كما ترى- اعتبر قصد الحكاية.

و أوضح ذلك في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «أنّه لا شبهة في اعتبار قصد حكاية ذي الصورة في حرمة التصوير، لأنّ المذكور في الروايات النهي عن التصوير و التمثيل، و لا يصدق ذلك إذا حصل التشابه بالمصادفة و الاتفاق من غير قصد الحكاية. و هذا نظير اعتبار قصد الحكاية في صحة استعمال الألفاظ في معانيها.

و عليه فإذا احتاج أحد إلى عمل شي ء من المكائن أو آلاتها على صورة حيوان فلا يكون ذلك حراما لعدم صدق التصوير عليه. و المثال الواضح لذلك الطائرات المصنوعة في زماننا، فإنّها شبيهة بالطيور و مع ذلك لم يفعل صانعها فعلا محرما.

و لا يتوهم أحد حتى الصبيان أنّ صانع الطائرة يصوّر صورة الطير، بل إنّما غرضه صنع شي ء آخر للمصلحة العامّة، و كونه على صورة الطير اتفاقي.

و توهم بعضهم أنّ مراد المصنّف من كلامه هو أن يكون الداعي إلى التصوير هو الاكتساب دون التمثيل، بأن يكون غرض المصوّر نظر الناس إلى الصور و التماثيل و إعطاء شي ء بإزاء ذلك.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 608

..........

______________________________

و فيه: أنّه من العجائب لكونه غريبا من كلام المصنّف، على أنّه من أوضح أفراد التصوير المحرّم فكيف يحمل كلام المصنّف عليه؟» «1»

و علّق المحقّق الإيرواني «ره» على كلام المصنّف بقوله: «إن أراد اعتبار القصد لعنوان التصوير في وقوعه على صفة المعصية فذلك ممّا لا إشكال فيه، فإنّ حصول عنوان الحرام قهرا ليس بمعصية و إن تعلق القصد بذات الحرام، كما إذا قصده بعنوان أنّه ماء فظهر أنّه خمر. و إن

أراد اعتبار ما يزيد على ذلك كما هو ظاهر العبارة بأن يكون الغرض من التصوير حكاية ذي الصورة و انتقال الناظر إلى الصورة إلى ذيها فذاك ممّا لا دليل عليه بل إطلاقات الأدلّة تردّه.» «2»

و علّق السيّد الطباطبائي «ره» على كلام المصنّف بقوله: «ظاهره أنّ المناط في عدم الحرمة عدم قصد الحكاية و لو كان عالما بأنه يصير على شكل الحيوان، و لازمه جواز ذلك مع عدم قضاء الحاجة أيضا و هو مشكل، إذ مع العلم بأن هذا الموجود صورة الحيوان يكون الفعل حراما و إن لم يكن غرضه الحكاية. و السرّ أنّ القصد القهري حاصل مع العلم غاية الأمر عدم كونه غرضا له، و حمله على إرادة صورة عدم العلم و اتفاق ذلك بعيد فإنّه واضح لا يحتاج إلى البيان. كما أنّ صورة النسيان و الغفلة كذلك.

فإن قلت: لعلّ المناط هو الحاجة و الضرورة لا عدم قصد الحكاية.

قلت: مع أنّه خلاف ظاهر العبارة يرد عليه: أنّه لا يكفي في التسويغ مجرد الحاجة بل لا بدّ من الوصول إلى حدّ يسوغ معه سائر المحرّمات أيضا، إذ لا خصوصية للمقام، و كون المناط المجموع أيضا لا يفيد كما لا يخفى. فالأولى أن يقال: إنّ الوجه في الجواز كون الصورة حينئذ مشتركة بين الحيوان و غيره فيكون تميزه بالقصد، و لعلّه مراده «قدّه» و إن كانت العبارة قاصرة عن إفادته.» «3»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 231، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني/ 21.

(3) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 19، ذيل قول المصنّف: فلو دعت الحاجة ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 609

و منه يظهر النظر فيما تقدّم عن كاشف اللثام. (1)

______________________________

أقول: هل المصنّف

أراد أنّ التصوير و كذا التمثيل من العناوين الاعتبارية المتقوّمة بالقصد نظير عنوان التعظيم و عناوين العقود و الإيقاعات، أو أراد أن وقوعه عصيانا للنهي يتوقف على إتيان العمل بقصد العنوان المنهي عنه كما في كلام المحقّق الإيرواني «ره»؟ كلّ منهما محتمل و إن كان الأقوى هو الثاني.

و كيف كان فالعنوانان من العناوين الإضافية المنتزعة من شي ء بإضافته إلى شي ء آخر نظير الفوقية و التحتية، فيقال: هذه صورة ذاك أو مثاله، و قد عبّر المصنّف عن هذا المعنى بقصد الحكاية و التمثيل.

و المحقّق الإيرواني حيث سلّم اعتبار قصد عنوان التصوير في حرمته فلا محالة يرجع كلامه إلى كلام المصنّف في اعتبار قصد الحكاية.

و لكن الظاهر من كلام السيّد عدم اعتبار قصد العنوان الحرام بل يكفي في الحرمة و وقوع العمل معصية قصد ذات العمل مع العلم بانطباق العنوان عليه قهرا، و لا يعتبر قصد العنوان و إن كان يحصل تبعا مع العلم. نعم لو كان ذات العمل مشتركا بين الحرام و الحلال فحينئذ يكون امتياز كل منهما بقصده بعنوانه، فتدبّر.

(1) أقول: يرد على ما ذكره كاشف اللثام: أوّلا: ما مرّ من أنّه يعتبر في حرمة التصوير قصد الحكاية، و النسّاج و الخيّاط لا يريدان بعملهما شباهة الثوب أو خيوطه بشي ء من ذوات الأرواح أو غيرها و إن صادف وقوع الشباهة قهرا، إلّا أن يقال بما مرّ من السيّد «ره» من كفاية العلم.

و ثانيا: ما في حاشية الإيرواني، قال: «محلّ الكلام ليس مطلق الشباهة المصححة للتشبيه بل كون هذا صورة ذاك، و من المعلوم أن ليست الأعلام و الطرائق و الخيوط على صورة الأخشاب و القصبات و مثالها. و مجرّد اشتراكهما في الطول لا يوجب أن

تكون هذه صورة ذاك بل لا يصحح التشبيه أيضا. مع أنّ الملازمة في الشرطية التي ذكرها لا تختص بما إذا عمّت الكراهة لتماثيل غير ذوات

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 610

ثمّ إنّ المرجع في الصورة إلى العرف، فلا يقدح في الحرمة نقص بعض الأجزاء. (1)

______________________________

الأرواح بل تأتي على التخصيص بذوات الأرواح أيضا لشبه الأعلام و الطرائق بالحيّات و الديدان.» «1»

و ذكر نحو ذلك في مصباح الفقاهة أخذا منه، فراجع. «2»

[الفرع الرابع:] هل المحرّم تصوير مجموع الأجزاء أو يكفي تصوير المعظم؟

(1) الفرع الرابع: على القول بحرمة تصوير الحيوان كما هو المشهور فهل المحرم تصوير مجموع الحيوان الملتئم من جميع الأجزاء بحيث يكون الحرام الفعل التدريجي المتعلق بجميع الأجزاء و يكون المصوّر من أوّل اشتغاله بفعل التصوير مشتغلا بفعل الحرام، أو تصوير الملتئم من معظم الأجزاء فلا يقدح في الحرمة نقص بعض الأجزاء كما يظهر من المصنّف اختياره، أو إيجاد الهيئة الاجتماعية للأجزاء، أو تصوير الأعمّ من مجموع الأجزاء و من كل جزء جزء فيكون تصوير كل جزء من الحيوان محرما نفسيا كما يظهر من المحقّق الإيرواني احتماله؟

في المسألة وجوه قال المحقّق الإيرواني بعد الإشارة إلى الهيئة الاجتماعية: «و الفرق بين هذا و بين اختصاص الحرمة بالمجموع يظهر فيما إذا بدأ بالتصوير واحد و تمّمه آخر، فعلى الاختصاص بالمجموع لم يفعل واحد منهما حراما، و على الاختصاص بالهيئة الاجتماعية كان الأخير منهما هو الفاعل للمحرّم لتحصّل الهيئة الاجتماعية بفعله.» «3»

و ببيان آخر: هل المحرم هو فعل التصوير بما أنّه فعل مركّب تدريجي الحصول، أو إيجاد الصورة بما أنّه أمر بسيط متّحد مع وجودها و يكون الفعل التدريجي الخارجي

______________________________

(1) حاشية المحقق الإيرواني/ 21، ذيل قول المصنّف: لشبه الأعلام.

(2) راجع مصباح الفقاهة 1/ 230، في

النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(3) حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني/ 21، ذيل قول المصنّف: ثمّ إنّ المرجع ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 611

و ليس فيما ورد من رجحان تغيير الصورة بقلع عينها، أو كسر رأسها دلالة على جواز تصوير الناقص. (1)

______________________________

محققا و محصّلا له و يتحقّق بتحقق آخر جزء من الفعل. فعلى الأوّل يكون حرمة الفعل التدريجي المركب حرمة نفسية، و على الثاني حرمة مقدمية. و سيأتي ترتب فوائد على هذين الاحتمالين.

أقول: أمّا احتمال حرمة تصوير كلّ جزء جزء من الحيوان فلا مجال له إلّا إذا فرض كون متعلق الحرمة تصوير كلّ شي ء لا تصوير الحيوان فقط، بداهة أنّ جزء الحيوان ليس حيوانا.

و أمّا احتمال كون المحرّم الهيئة الاجتماعية فالظاهر أنّه احتمال مدرسي لا ينقدح في أذهان من راجع أخبار المسألة، إذ الحكم فيها مترتب على عنوان تصوير الحيوان و هو فعل تدريجي مركّب بحسب تركّب الحيوان من الأجزاء، و لو فرض كون حكمة حرمة التصوير المضادّة و المعارضة للّه- تعالى- في المصوّرية كما هو الظاهر من بعض الأخبار فالمعارضة تنتزع من أوّل الشروع في الفعل بقصد إتمامه. نعم لو كانت حكمة الحرمة المفسدة المترتبة أحيانا على وجود الصورة خارجا فهو أمر يتحقق بتحقق آخر جزء من العمل، فتدبّر.

و ظاهر كلام المصنّف أنّ المرجع في تشخيص موضوع الحرمة في المقام كسائر المقامات هو العرف لا العقل الدقّي الفلسفي، و العرف يحكم بتحقق الموضوع المركب بتحقق معظم أجزائه، فيطلق الإنسان مثلا على إنسان فقد العين أو الأذن بل اليد أو الرجل أيضا.

(1) لما حكم المصنّف بأنّ موضوع الحرمة هو معظم الأجزاء توجّه إلى ما يمكن أن يورد عليه بأنّ المستفاد مما ورد من رجحان

تغيير الصورة بقلع عينها أو كسر رأسها جواز تصوير الناقص و أنّ الموضوع للحرمة مجموع الأجزاء برمّتها، فأشار إلى دفع هذا الإيراد.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 612

و لو صوّر بعض أجزاء الحيوان ففي حرمته نظر بل منع، و عليه فلو صوّر نصف الحيوان من رأسه إلى وسطه فإنّ قدّر الباقي موجودا بأن فرضه إنسانا جالسا لا يتبيّن ما دون وسطه حرم، و إن قصد النصف لا غير لم يحرم إلّا مع صدق الحيوان على هذا النصف. (1) و لو بدا له في إتمامه حرم الإتمام لصدق التصوير بإكمال الصورة لأنّه إيجاد لها. (2)

______________________________

و محصّل الدفع أنّ محل البحث هنا حرمة عمل التصوير، و الرجحان المذكور- مضافا إلى كونه حكما استحبابيا- مورده اقتناء الصورة و كراهة الصلاة في مقابلها، فلا يرتبط بمسألتنا.

(1) في حاشية المحقّق الإيرواني: «تقدير المصور و قصده مما لا أثر له، إنّما المدار صدق كون الصورة صورة حيوان تامّ أو إنسان تام، على قيام أو قعود أو اضطجاع عاريا أو لابسا للباس أو ملتفّا بالرداء أو مغطّى باللحاف، فربما لا يكون منقوشا من أجزاء بدنه سوى وجهه الخ.»

و قال أيضا: «صدق حيوان تامّ على النصف غير معقول، و صدق حيوان ناقص لا يجدي الخ.» «1»

أقول: ما ذكره في المقامين وجيه.

(2) قال الإيرواني: «أمّا إذا أتمّه غيره لم يحرم فإن المتمم كالبادئ آت بجزء من الحرام و جزء الحرام ليس بحرام.» «2»

أقول: المصنّف في كلامه في المقام عبّر تارة بلفظ التصوير و أخرى بإيجاد الصورة، و قد مرّ الفرق بينهما و أنّ الظاهر من لفظ التصوير العمل المركب التدريجي، و من الإيجاد المساوق للوجود تحقق الصورة خارجا المتحقق بإيجاد

______________________________

(1) حاشية

المكاسب للمحقق الإيرواني/ 21 و 22، ذيل قول المصنّف: فإن قدّر الباقي ...، و قوله: إلّا مع صدق الحيوان.

(2) نفس المصدر/ 22، ذيل قول المصنّف: و لو بدا له في إتمامه ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 613

..........

______________________________

الجزء الأخير منها و قد عبّر عنه الإيرواني بإيجاد الهيئة الاجتماعية، فالمصنّف جمع في كلامه هنا بين أمرين مختلفين.

و يظهر منه في الكلام الذي بعد هذا الكلام أنّ متعلق الحرمة عنده هو الفعل المركب التدريجي. و الظاهر من الإيرواني أنه حمل لفظ الإيجاد في كلام المصنّف على عمل التصوير المتحقق تدريجا، إذ لو أراد به الإيجاد الآني المتحقق بإيجاد الجزء الأخير لم يكن فرق بين أن يكون المتمم نفس البادئ أو غيره كما يأتي في كلام السيّد «ره».

قال السيّد «ره» في حاشيته في المقام ما ملخّصه: «أقول: لازم ذلك الحكم بالحرمة أيضا فيما إذا كان القدر الموجود بفعل غيره، لأنه يصدق عليه أنّه أوجد الصورة لأنّ ما كان موجودا لم يكن صورة بل بعضها، سواء كان ذلك الموجود بفعل مكلّف آخر أو غيره كالصبيّ و المجنون. بل و لو لم يكن قصد الفاعل له إيجاد الصورة أيضا لأن المناط هو صدق الإيجاد بالنسبة إلى هذا المتمم، و لا يخفى أنّ الالتزام به مشكل.

و المسألة مبنية على أنّ المحرّم هو فعل التصوير أو إيجاد الصورة. و بعبارة أخرى: المحرم عنوان فعل مركب أو عنوان بسيط يكون الفعل الخارج المركب محقّقا و محصّلا له. و على الأوّل يكون حرمة الفعل نفسيا و على الثاني مقدميا.

فلو قلنا بالأوّل لا يكون الإتمام حراما لعدم كونه تصويرا إذ إيجاد البعض لا يكون إيجادا للصورة التي هي مركبة بالفرض سواء كان البعض الأوّل

من فعله أو من فعل غيره.

و إن قلنا بالثاني يكون الإتمام حراما في الجميع. هذا، و الظاهر من الأخبار هو المعنى الأوّل كما لا يخفى. و لا يمكن أن يراد من الأخبار الأمران معا لأنّه مستلزم للاستعمال في أكثر من معنى. نعم يمكن أن يدّعى أن الظاهر من الأخبار و إن كان حرمة نفس الفعل، لكن يستفاد من فحواها حرمة الإيجاد أيضا و مقتضاه حرمة الإتمام

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 614

و لو اشتغل بتصوير حيوان فعل حراما حتّى لو بدا له في إتمامه. (1)

و هل يكون ما فعل حراما من حيث التصوير أو لا يحرم إلّا من حيث التجرّي؟ وجهان: من أنّه لم يقع إلا بعض مقدّمات الحرام بقصد تحقّقه، و من أنّ معنى حرمة الفعل عرفا ليس إلّا حرمة الاشتغال به عمدا، فلا يراعى الحرمة بإتمام العمل. و الفرق بين فعل الواجب المتوقّف استحقاق الثواب على إتمامه و بين الحرام هو قضاء العرف، فتأمّل.

______________________________

أيضا في الصورة المذكورة.» «1»

أقول: البحث في حكم اشتراك اثنين أو أكثر في إيجاد صورة واحدة يأتي بأقسامه في الفرع التالي، فانتظر.

(1) هذا الكلام من المصنّف مبني على كون المحرم عنوان التصوير بما أنه فعل تدريجي مركب حسب تركب ذي الصورة، و عليه يكون نفس الفعل محرما نفسيا و الاشتغال به اشتغالا بفعل محرم.

و لكن الظاهر أنّ الفعل بوجوده التدريجي محرم واحد، فلو بدا له في إتمامه ينكشف عدم تحقق الحرام خارجا و لا محالة ينطبق على ما تحقق منه عنوان التجري فقط. و قضاء العرف بالفرق بين فعل الواجب و فعل الحرام في هذه الجهة ممنوع، و لعلّ أمره بالتأمّل إشارة إلى ذلك.

قال الأستاذ الإمام «ره» في

هذا المجال: «ثمّ إنّ الظاهر من حرمة تصوير الصور و تمثيل المثال حرمة الاشتغال بها إذا انتهى إلى تحقق الصورة كما هو الظاهر من مثل قوله: لا تكتب سطرا و لا تقل شعرا، فإذا اشتغل بالكتابة و الإنشاء فعل حراما و اشتغل به مع إتمام السطر و الشعر، فلو بدا له فلم يتمّها أو منعه مانع لم يفعل الحرام و إن كان متجريا على المولى. و بالجملة ليس المحرم تصوير الأجزاء لأنّ الحكم متعلق بعنوان تصوير الصورة، و تصوير بعض الأعضاء و لو بقصد الإتمام

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 19، ذيل قول المصنّف: لصدق التصوير بإكمال الصورة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 615

..........

______________________________

ليس تصوير الصورة، و ليس المحرّم هو الجزء الأخير فقط أو حصول الهيئة، فإنّ الحكم لم يتعلق بإحداث الهيئة حتى يقال: إنّ الجزء الأخير محققها على تأمّل فيه أيضا. بل الحكم متعلق بالتصوير المنطبق على تمام الأجزاء إلى حصول الصورة، كما أنّ المحرم في كتابة السطر تمام الأجزاء، و إن شئت قلت: إنّ المحرم هو العنوان الذي لا ينطبق إلّا على تمام الأجزاء، تأمّل.» «1»

[الفرع الخامس:] حكم التصوير الحاصل بالشركة

الفرع الخامس: لو حصل التصوير بالشركة فإمّا أن يحصل العمل منهما بنحو التعاون من أوّل العمل إلى آخره، و إمّا أن يوجد أحدهما جميع أجزاء الصورة متفرقات ثم يجمعها الآخر و يضمّ بعضها إلى بعض فتحصل الصورة بفعله، و إمّا أن يوجد أحدهما بعض الصورة بقصد الصورة أو بقصد أمر آخر و بقصد الإتمام أو بدون قصده فأتمّها الآخر. فهل يحرم جميع هذه الأقسام أو لا يحرم شي ء منها أو يفصّل بين الأقسام؟ و ربما يبتني الحكم فيها على أنّ المحرّم هل هو عنوان التصوير بما أنّه عمل

مركّب تدريجي الحصول أو إيجاد الصورة بما أنّه عمل آني بسيط؟

و قد تعرض للمسألة السيّد الطباطبائي «ره» في الحاشية، قال ما ملخّصه: «لو اشترك اثنان أو أزيد في عمل صورة كان محرما و يعاقب كل منهما على ما فعله، لصدق التصوير المحرّم.

و دعوى أنّ الصادر من كل منهما ليس إلّا البعض و قد مرّ أنّ بعض الصورة ليس بمحرم مدفوعة بأنّ ذلك فيما لم يكن في ضمن الكل، و إلّا فمع حصول الكل يكون كل جزء منه محرما بناء على كون المحرم نفس الفعل المركّب، و بناء على الوجه الآخر أيضا يكون الكل حراما مقدميا.

فإن قلت: فرق بين أن يكون الكل صادرا من واحد أو اثنين ففي الثاني نمنع

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 187 (- ط. أخرى 1/ 283)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 616

..........

______________________________

حرمة جميع الأجزاء لأنّ كلّ واحد منهما مكلّف مستقل و لا يصدق أنّه صوّر صورة فلا يكون الكل حراما حتى يكون كل جزء منه حراما.

قلت: نمنع عدم حرمة الكل حينئذ، فإنّه صورة صادرة من الفاعل القاصد المختار و هو مجموع الاثنين و إذا كانت محرّمة فيحرم أجزاؤها.

فإن قلت: إنّ قوله عليه السّلام: «من صوّر صورة، أو مثّل مثالا، أو نحو ذلك لا يشمل إلّا الأشخاص، و المفروض أنّ كل شخص لم يصدر منه الصورة بل بعضها.

قلت: نمنع أنّ المراد الأشخاص الخارجيّة، بل المراد أشخاص الفاعلين و في المفروض شخص الفاعل مجموع الاثنين، فهما فاعل واحد و مصوّر واحد، و ذلك كما في قوله عليه السّلام: من قتل نفسا، فإنّ المراد منه أشخاص القاتلين فيشمل ما إذا كان القتل بالاشتراك فإنّ الشريكين قاتل واحد.

و دعوى عدم شمول اللفظ و إنّما هو من جهة المناط كما ترى.

لا يقال: فعلى هذا يلزم استعمال اللفظ في معنيين.

لأنّا نقول: المراد كل شخص فعل كذا، و الفاعل يصدق على الاثنين و الواحد، بمعنى أنّ الاثنين فاعل واحد فلا يكون مستعملا في الوحدات و الاثنينات.

إلّا أن يقال: الظاهر من اللفظ إرادة الأشخاص الحقيقية لا الأشخاص الاعتبارية فلا يبقى إلّا أن يكون هناك مناط يستفاد منه التعميم.

لكن نقول: إنّ المناط موجود فيما نحن فيه أيضا. مع أنّ شمول أخبار المقام لا يحتاج إلى البيان المذكور كقوله: نهى عن تزويق البيوت، فإنّه أعمّ من أن يكون صادرا عن الواحد أو الاثنين. و كذا قوله عليه السّلام: و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني، و قوله عليه السّلام: ما لم يكن شيئا من الحيوان و ما ورد في تفسير

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 617

..........

______________________________

قوله- تعالى-: يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ من قوله عليه السّلام: و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء، فإنّ ظاهره حرمة عملهم لها و لو كان بالاشتراك.

و الظاهر أنّه لا فرق في ذلك بينما لو أوجدا معا أو أوجد أحدهما البعض ثمّ أتمّه الآخر إذا كان من قصدهما الإيجاد بالاشتراك.

و قد يقال بعدم الحرمة في هذه الصورة إلّا بالنسبة إلى الأخير، فإنّه المتمم للصورة و الموجد لها.

و لا يخفى ما فيه، إذ يصدق أنّ مجموعهما مصوّر في هذه الصورة أيضا كما في الصورة الأولى. كيف؟ و إلّا لزم عدم الحرمة بالنسبة إلى الآخر أيضا بناء على كون المحرّم الصورة المركبة لا العنوان البسيط لأن المجموع من حيث المجموع إذا لم يكن محرما فلا يحرم جزؤه

أيضا لأنه لا يصدق عليه الصورة و ليس جزء من المجموع المحرّم.» «1» انتهى.

و تعرّض الأستاذ الإمام «ره» لهذا الفرع ناظرا فيما ذكره إلى كلام السيّد «ره»، قال ما ملخّصه: «الثالث: لو اشترك اثنان أو أكثر في عمل صورة فالظاهر قصور الأدلّة عن إثبات الحرمة لفعل كل من الفاعلين أو أكثر بعد عدم صدق عنوان:

صوّر الصور أو مثّل المثال على واحد منهما بلا ريب، ضرورة أنّ التمثال و الصورة عبارة عن مجموع الصورة الخارجية، و الأجزاء لا تكون تمثالا لحيوان و لا صورة له، من غير فرق بين اشتغالهما بتصويره من الأوّل إلى الآخر أو تصوير أحدهما نصفه و الآخر نصفه الآخر أو عمل واحد منهما للأجزاء و تركيب الآخر بينها، فإنّ الظاهر من قوله: من صوّر صورة كون صدور الصورة أي هذا الموجود الخارجي من فاعل، فهو نظير قوله: من قال شعرا أو من كتب سطرا. و احتمال أن يكون المراد بهما من أوجد هيئة الصورة أو هيئة المثال و هو صادق على من أتمهما بعيد عن ظاهر اللفظ و مخالف للمتفاهم من الأخبار.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 20، في الأمر الثالث مما تعرّض له.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 618

..........

______________________________

فإن قلت: إنّ المراد من قوله: من صوّر صورة أو مثل مثالا ليس الأشخاص الخارجية، بل المراد أشخاص الفاعلين، و في المفروض الصورة صادرة من فاعل مختار قاصد و هو مجموع الاثنين فهما فاعل واحد و مصوّر واحد كما في قوله:

من قتل نفسا و من ردّ عبدي فله كذا، فإنّه صادق على الواحد و الاثنين، و لا يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى لأنّ المراد كل شخص فاعل، و الفاعل يصدق

على الاثنين و الواحد بمعنى أنّ الاثنين فاعل واحد فلا يكون مستعملا في الوحدات و الاثنينات.

قلت: إنّ الجمع بين العامّ الاستغراقي و المجموعي في كلام واحد و حكم واحد لا يمكن، فإنّ الاستغراق الملازم للانحلال يتقوّم بعدم لحاظ الوحدة بين الأشخاص، و العام المجموعي متقوّم بلحاظها. ففي قوله: أكرم العلماء إن لم يعتبر المجموع واحدا ينحلّ إلى أحكام عديدة حسب تعدّد الأفراد، و إن لو حظت الوحدة و الاجتماع يكون حكم واحد لموضوع واحد، و لا يعقل الجمع بينهما في لحاظ واحد. و كذا الحال في المكلّف، ففي قوله: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إمّا أن لا يلاحظ كون المؤمنين نفسا واحدة فيكون كل مؤمن مكلّفا بالوفاء و إمّا أن يلاحظ ذلك، فلا يمكن الانحلال إلى أحكام كثيرة لأنّ المكلّف حينئذ يكون عنوانا واحدا هو مجموع المؤمنين. و المقام أيضا من هذا القبيل، و لا يمكن الجمع بين اللحاظين المتنافيين، و مجرّد توهّم جعل الحكم على عنوان الفاعل لا يصحح ذلك.

و يمكن أن يناقش فيما ذكرناه و يقال: إنّ «من» في قوله: «من صوّر صورة» منطبق على الأفراد و الوحدات الحقيقية قهرا، و إذا لو حظ الاجتماع في الوحدات ينطبق على الوحدات الاعتبارية أيضا كما في إطلاق لفظ الأسد على الفرد الحقيقي و الاعتباري معا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 619

..........

______________________________

ففي المقام لا يحتاج الانطباق على الأفراد الحقيقية إلى لحاظ و إنما تحتاج إليه الأفراد الاعتبارية و لا يضرّ لحاظ الاجتماع بالانحلال، ففي الحقيقة يكون اللحاظ موجبا لتوسعة دائرة الانحلال لا للجمع بين اللحاظين المتنافيين.

لكنه على فرض صحّته ثبوتا يحتاج إلى تكلف و قيام قرينة و هي مفقودة في المقام.

نعم يمكن جعل الحكم

للعنوان و إيجاد أفراد اعتبارية له في التشريع بنحو الحكومة، لكنه يحتاج إلى اعتبار مستأنف زائدا على مفاد الأدلّة، و هو غير ثابت، ضرورة أنّ الظاهر من قوله: من صوّر و من مثّل، هو الأشخاص الحقيقية لا الأعمّ منها و من الاعتبارية كما اعترف به صاحب المقالة المتقدمة لكنه قال: إنّ المناط موجود فيما نحن فيه، و هو كما ترى، لأن المناط غير معلوم، و ما يستشعر من الروايات من أنه مضادّ للّه- تعالى- في مصوّريته فيمكن أن يقال: إنّ كل واحد منهما لم يفعل ما يضادّ اللّه.

و الإنصاف عدم نهوض الأدلّة لإثبات الحكم، و إن كان الاحتياط في الدين يقتضي التجنّب عنه و لو بالاشتراك لذهاب بعض الأساطين إلى حرمته، و مظنونية تحقق المناط و عدم رضى اللّه- تعالى- بكون الشخصين أيضا مشابها له في مصوّريته، و احتمال مساعدة العرف للتعدي و إلقاء الخصوصية.» «1» انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

أقول: الظاهر صحة ما ذكره أخيرا، و هو المقصود للسيّد الطباطبائي «ره»، و ما مرّ منّا من عدم شمول الأدلّة لمن صوّر الجزء لعدم كونه حيوانا يراد به الجزء بشرط لا، و أمّا الجزء في ضمن الكلّ فمحرّم بعين حرمة الكل.

و المتفاهم من الأدلّة- على فرض دلالتها على الحرمة- كون وجود الكل ذا مفسدة ملزمة و مبغوضا للمولى، فيحرم إيجاده بأيّ نحو كان، نظير حرمة القتل

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 183 (- ط. أخرى 1/ 278)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 620

..........

______________________________

و إتلاف مال الغير و إيجاد هياكل العبادة و آلات اللهو و القمار و نحو ذلك.

و لو سلّم عدم حرمة فعل من أوجد الجزء بعنوان

التصوير بما أنّه فعل تدريجيّ مركب فلا أقلّ من حرمته بعنوان التعاون على الإثم. كيف؟! و المتعارف في إيجاد التصاوير و التماثيل وقوعه بنحو المشاركة و التعاون، فلو لم يكن هذا حراما صار هذا طريقا و وسيلة إلى ارتكاب المحرّمات بنحو الشركة فرارا عن وقوع الحرام و هذا أمر لا يقبله ذوق من اطّلع على مذاق الشارع المقدّس، فتدبّر.

[الفرع السّادس:] حكم إيجاد الصورة بالتسبيب

الفرع السّادس: قال السيّد «ره» في الحاشية ما ملخّصه: «الظاهر أنه لا فرق في التصوير بين المباشرة و التسبيب كما لو أكره غيره أو بعثه عليه من غير إكراه فيما لو كان المباشر ضعيفا بحيث يسند الفعل إليه. و ذلك لأن قوله عليه السّلام: «من صوّر صورة» و نحوه أعمّ من الأمرين و إن كانت الأفعال ظاهرة في المباشرة إلّا أنه يمكن استفادة التعميم من القرينة، كما في قوله: من أتلف، و قوله: من قتل نفسا، و هي في مثل المقام ملاحظة مناط الحكم.

و الظاهر أنّ هذه الاستفادة مختصّة بالأفعال المتعدّية دون اللازمة، و السرّ أنّ معنى قوله: من قتل نفسا- مثلا-: من أوجد القتل، فيمكن أن يراد به الأعمّ، بخلاف مثل قوله: من جلس أو ذهب، فإنّ المراد به من قام به الجلوس أو الذهاب فلا يقبل أن يكون أعمّ إذ جلوس الغير قائم بذلك الغير بخلاف القتل الصادر منه فإنه يمكن نسبته إلى السبب.» «1»

أقول: فهو «ره» سلّم ظهور الفعل في المباشرة و لكنه جعل المناط المستنبط علما أو حدسا قرينة على التعميم.

و قال الأستاذ الإمام «ره» في هذا الفرع ما ملخّصه: «الظاهر من الأدلّة هو

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 20، في الأمر الأوّل مما تعرّض له.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 621

..........

______________________________

حرمة تصوير

الصّور و تمثيل المثال و هما لا يشملان إلّا للمصنوع بيد الفاعل مباشرة كما كانت صنعة الصور كذلك في عصر صدور الروايات، فلا يشملان لإيجاد الصور كيف ما كان، فلو فرضت مكينة صنعت لإيجاد المجسّمات و باشر أحد لاتصال القوة الكهربائية بها فخرجت لأجلها الصور المجسّمة منها لم يفعل حراما لعدم صدق العنوانين عليه إلّا بضرب من التأويل و التجوّز، فإنّ ظاهر من صوّر صورا أو مثّل مثالا لا سيما في تلك الأعصار صدورهما من قوّته الفاعلة. فكما أنّ قوله: من كتب كتابا لا يشمل من أوجد الكتابة بالمطابع المتعارفة أو أخذ العكس منه، كذلك صاحب المكينة العاملة للصور و كذا العكّاس ليسا مصوّرين و ممثّلين للصور و المثل.

نعم لو كان وجود شي ء مبغوضا في الخارج كان إيجاده بأيّ نحو كذلك لاتحاد الإيجاد و الوجود ذاتا و اختلافهما بالاعتبار و لكن لم يحرز في المقام ذلك بل سيأتي أنّ الأقوى جواز اقتناء الصور و عدم وجوب كسرها، فعليه لا دليل على حرمة إيجادها بأيّ نحو كان، إلّا أن يدّعى إلقاء الخصوصية عرفا، و هو محلّ إشكال و منع فإنّ هيئة الفعل ظاهرة في الإيجاد المباشري. بل الظاهر من قوله: من مثّل صورة أو مثالا هو تصوير الصورة بقدرته و علمه بذلك الصنع، و المباشر لاتصال القوة بالمكينة ربما لا يكون مصوّرا و عالما بالتصوير و لا قادرا، و لكن الاحتياط بتركه مطلقا لا ينبغي أن يترك.» «1»

أقول: الظاهر أنّ الملاك في الحرمة صحّة إسناد الفعل عرفا بحيث يشمله إطلاق الدّليل عند العرف و إن لم يصحّ الإسناد بحسب العقل الفلسفي. فإذا كان المباشر مكرها أو ضعيفا مسلوب الاختيار عرفا يسند الفعل قهرا إلى المكره و

السبب و لو من جهة إحرازهم تحقق المناط المستنبط أو المصرّح به في أخبار المسألة فيكون تحقق

______________________________

(1) المكاسب المحرمة 1/ 177 (- ط. أخرى 1/ 269)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 622

..........

______________________________

المناط قرينة عامّة على وجود الحكم مع التسبيب أيضا.

و أولى بذلك صورة إيقاع الفعل بالآلات غير الشاعرة كالمكائن التي لا يسند الفعل إليها عرفا بل إلى من استخدمها و أوجد الفعل بسببها. و عدم وجود هذه الآلات في عصر صدور الروايات لا يوجب انصراف الروايات عن الموضوعات و الأفعال الصادرة باستخدامها.

و السرّ في ذلك أنّ الخطابات الشرعية كالعرفية يجب أن تفسّر على أساس المفاهمات العرفية لا الدّقّية الفلسفية. و لا فرق فيما ذكرناه من التعميم بين كون المحرّم عنوان التصوير الذي هو فعل تدريجي مركّب أو إيجاد الصورة البسيط المنتزع منه.

و مقتضى ما ذكره الأستاذ «ره» أخيرا من احتمال دخل العلم و قدرة العامل شخصا انصراف أدلّة الأحكام الشرعية عن الموضوعات و الأفعال الصادرة على أساس الصنائع و التكنيكات الحادثة في أعصارنا، فلا يحرم- مثلا- الخمر المصنوعة بالوسائل الحديثة و أواني الذهب و الفضة المصنوعة بالمكائن، اللّهم إلّا مع إحراز الملاك بنحو القطع، و هذا مما لا يمكن الالتزام به كما هو ظاهر.

هذا.

و قال في مصباح الفقاهة في هذا الفرع: «قد عرفت في البحث عن حرمة تغرير الجاهل: أن إلقاء الغير في الحرام الواقعي حرام، و عليه فلا فرق في حرمة التصوير بين المباشرة و التسبيب. بل قد عرفت في المبحث المذكور: أنّ نفس الأدلّة الأوّلية تقتضي عدم الفرق بين المباشرة و التسبيب في إيجاد المحرمات، و على هذا فلا نحتاج في استفادة التعميم إلى

القرينة و ملاحظة المناط كما في حاشية السيّد «ره».» «1»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 233، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 623

[الفرع السّابع:] هل يجب منع غير المكلّف إذا باشر التصوير؟

______________________________

الفرع السّابع: لا يخفى أنّ الأفعال المحرّمة على قسمين: قسم منها يعلم من مذاق الشارع و من ناحية العقل اهتمام الشارع بها و أنّه لا يرضى بوجودها أصلا بأيّ نحو كان و يكون وجودها مبغوضا من أيّ فاعل صدر حتّى من ناحية البهائم، كقتل النفوس و هتك أعراض المسلمين و تقوية الكفار و المشركين و تسليطهم على بلاد المسلمين. و قسم منها يعلم بحرمة صدورها ممّن جمع شرائط التكليف من البلوغ و العقل و القدرة و لم يحرز الاهتمام بها بحدّ يوجد مناط الحرمة حتّى إذا صدرت من ناحية غير المكلّفين.

ففي القسم الأوّل يجب دفع تحققها بأيّ نحو كان، بل يجب الاحتياط أيضا في موارد الشك فيها تحفظا من وقوعها عن جهل.

و أمّا القسم الثاني فلا دليل على وجوب المنع و الردع عنها بالنسبة إلى من لم يجتمع فيه شرائط التكليف. و يجري في موارد الشك فيها أيضا البراءة بالنسبة إلى المكلّفين. نعم يجب فيها إرشاد الجاهل بالحكم و نهي من يرتكبها عصيانا. هذا.

و لم يثبت كون حرمة التصوير- على القول بها- من قبيل القسم الأوّل فلا يجب ردع غير المكلّف عنه، بل يمكن القول بجواز تمكينه منه و تحصيل المقدمات له إلّا أن يوجب استناد الفعل عرفا إلى الممكّن له.

نعم الظاهر عدم جواز تمكين المكلّف الغافل أو الجاهل بالموضوع و إن لم يتنجز التكليف بالنسبة إليه، لثبوت الحرمة في حقه فيكون تمكينه منه تمكينا من إيجاد ما هو محرّم في حقه واقعا، فتدبّر. و قد تعرّض

للمسألة السيّد «ره» في الحاشية فراجع. «1»

______________________________

(1) راجع حاشية المكاسب/ 20، في الأمر الثاني مما تعرّض له.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 624

[الفرع الثامن:] حكم الصورة المسمّاة عندنا بالعكس

______________________________

الفرع الثامن: قال السيّد «ره» في الحاشية: «لا فرق بين أنحاء إيجاد الصورة من النقش بالتخطيط و بالحكّ و بغير ذلك، فيشمل العكس المتداول في زماننا، فإنّه أيضا تصوير كما لا يخفى.» «1»

و لكن في مصباح الفقاهة في هذا المجال ما ملخّصه: «الظاهر من الأدلّة هو النهي عن إيجاد الصورة، كما أنّ النهي عن سائر المحرّمات نهي عن إيجادها في الخارج، و عليه فلا يفرّق في حرمة التصوير بين أن يكون باليد أو بالطبع أو بالصياغة أو بالنسج، و سواء كان ذلك دفعيّا بالآلة الطابعة أو تدريجيّا.

و على هذا المنهج فلا يحرم أخذ العكس المتعارف في زماننا، لعدم كونه إيجادا للصورة المحرّمة و إنما هو أخذ للظلّ و إبقاء له بواسطة الدواء، فإنّ الإنسان إذا وقف في مقابل المكينة العكّاسة كان حائلا بينها و بين النور فيقع ظلّه على المكينة و يثبت فيها لأجل الدواء، فيكون صورة لذي ظلّ، و أين هذا من التصوير المحرّم؟

و هذا من قبيل وضع شي ء من الأدوية على الجدران أو الاجسام الصيقلية لتثبت فيها الأظلال و الصور المرتسمة، فهل يتوهم أحد حرمته من جهة حرمة التصوير؟

و إلّا لزمه القول بحرمة النظر إلى المرآة، إذ لا يفرّق في حرمة التصوير بين بقاء الصورة مدّة قليلة أو مدّة مديدة. و قد اشتهر انطباع صور الأشياء في شجرة الجوز أحيانا و لا نحتمل أن يتفوه أحد بحرمة الوقوف في مقابلها في ذلك الوقت.» «2»

أقول: بعد ما عمّم أوّلا التصوير المحرّم بالنسبة إلى جميع أقسامه لا نرى وجها لاستثناء العكس

المتعارف منها، إذ يصدق عليه الصورة و على فاعله المصوّر بلا إشكال و قد حصل بمباشرة العكّاس و استخدام الآلة و أبقيت بالدواء كما

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 19، في الأمر السادس مما تعرّض له.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 233، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 625

..........

______________________________

قال «ره». و عدم توهم أحد حرمة ذلك أو حرمة المواجهة للمرآة مثلا لا يقتضي عدم صدق التصوير، بل لعلّ ذلك من جهة انصراف التصوير المحرّم إلى ما كان في مقام المعارضة و المضادّة للّه- تعالى- أو في معرض التقديس و العبادة، و ليست العكوس المتعارفة أو الصور المنعكسة في المرآة أو الأشجار من هذا القبيل، فتدبّر.

[الفرع التاسع:] تصوير الحيوان الخيالي

الفرع التاسع: بناء على اختصاص الحرمة بالحيوان فالظاهر عدم الفرق بين كونه موجودا في الخارج أو موجودا خياليا كالعنقاء مثلا أو فرس ذي أجنحة و لا سيما إذا كانت بنحو التجسيم لإطلاق الأدلّة و شمول روايات الأمر بالنفخ و نحوها. و انصرافه إلى الحيوان الخارجي الموجود انصراف بدوي فلا يضرّ.

[الفرع العاشر:] حكم تصوير الجنّ و الملك

الفرع العاشر: على فرض القول بحرمة التصوير و اختصاصها بتصوير الحيوان فهل يعمّ الجنّ و الملك أيضا أم لا؟

قال السيّد «ره» في الحاشية ما ملخّصه بتوضيح منّا: «هل يلحق الجنّ و الملك بالحيوان فيحرم تصويرهما أو بغيره فلا؟ قولان: فعن بعض الأساطين في شرحه على القواعد الأوّل، و كذا في الجواهر حيث قال: الظاهر إلحاق الملك و الجنّ بذلك. و قيل بالثاني.

و مبنى المسألة شمول العمومات، و كون الدليل المرخّص مختلفا، فإنّ في صحيحة ابن مسلم: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان.» «1» و في خبر تحف العقول: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(2) تحف العقول/ 335.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 626

..........

______________________________

فمقتضى الأولى الجواز بناء على عدم كونهما من الحيوان. و مقتضى الثاني المنع لصدق الروحاني عليهما.

و دعوى عدم التنافي بين المرخّصين غاية الأمر كون أحدهما أعمّ من الآخر و مقتضى القاعدة العمل بهما و تخصيص العمومات بهما في عرض واحد و لازمه الجواز، مدفوعة بأنّ كلّا منهما مشتمل على عقدين: عقد ترخيصي و عقد تحريمي فلا يكونان من الأعمّ و الأخصّ المطلقين غير المتنافيين. و بعبارة أخرى: يتعارض منطوق الصحيحة و مفهوم الخبر بالعموم من وجه، فمقتضى منطوق الصحيحة جواز تصويرهما و مقتضى مفهوم

رواية التحف حرمة تصويرهما.

لا يقال: إنّه لا مفهوم لهما لعدم حجية مفهوم اللقب.

لأنّا نقول: الخبران في مقام التحديد فلا بدّ من اعتبار المفهوم فيهما فيتعارض مفهوم الخبر و منطوق الصحيحة في الجنّ و الملك. و لكن الأقوى تقديم المنطوق لا لأنه منطوق لأن مفهوم الحدّ لا يقصر في الظهور عنه، بل لأنّ مقتضى التحديد وجود أصل المفهوم، و أمّا كونه عاما فلا فإنّه يكفي ثبوت البأس في الروحاني في الجملة. هذا.

و لكن الإنصاف أنه لو كان في مقام تحديد التصاوير من حيث الجواز و المنع فلا بد من كون المفهوم عاما.

فالأولى أن يقال في مقام التقديم: إنّ الصحيحة أقوى من جهة السّند فلا بد من ترجيحها، مع أنه على فرض التكافؤ فالحكم التخيير و لازمه الجواز أيضا. هذا.

و لكن يمكن تقوية المنع بوجهين:

أحدهما: أن المتعارف من تصوير الجنّ و الملك ما هو بشكل واحد من الحيوانات، فيحرم من هذه الجهة بناء على عدم اعتبار قصد كونه حيوانا مع فرض العلم بكونه صورة له.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 627

..........

______________________________

الثاني: دعوى أنّ المراد من الحيوان المعنى اللغوي و هو مطلق الحيّ لا العرفي، أو دعوى أنه مثال لمطلق ذي الروح، و لا يبعد الحكم بظهور إحدى الدعويين، فالأقوى الحكم بالحرمة خصوصا إذا كان على الوجه المتعارف الآن.» «1»

أقول: فهو في آخر الأمر أفتى بالحرمة.

و في مصباح الفقاهة أيضا قطع بعدم الجواز و قال في هذا المجال ما ملخّصه:

«المراد من الحيوان هنا ما هو المعروف في مصطلح أهل المعقول من كونه جسما حسّاسا متحركا بالإرادة، و هذا المفهوم يصدق على كل مادّة ذات روح سواء كانت من عالم العناصر أم من عالم آخر فوقه، و عليه

فلا قصور في شمول صحيحة محمد بن مسلم للملك و الجنّ و الشيطان فيحكم بحرمة تصويرهم.

و دعوى أن الملك من عالم المجردات فليس له مادّة كما في ألسنة الفلاسفة دعوى جزافية، فإنّه مع الخدشة في أدلّة القول بعالم المجردات ما سوى اللّه: إنّه مخالف لظاهر الشرع، و من هنا حكم المجلسي «ره» في اعتقاداته بكفر من أنكر جسمية الملك.

و إن أبيت إلّا إرادة المفهوم العرفي من الحيوان فاللازم هو القول بانصرافه عن الإنسان أيضا كانصرافه عن الجنّ و الملك، و لذا قلنا: إنّ العمومات الدالّة على حرمة الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه منصرفة عن الإنسان قطعا، مع أنه لم يقل أحد هنا بالانصراف.»

ثم نقل ما ذكره السيّد «ره» من معارضة منطوق الصحيحة و مفهوم رواية تحف العقول و ترجيح الصحيحة من جهة السند، و ناقش ذلك بما ملخّصه: «و فيه أوّلا: أنّ خبر تحف العقول ضعيف السند و مضطرب الدلالة، فلا يجوز العمل به في نفسه فضلا عمّا إذا كان معارضا لخبر صحيح. و ثانيا: سلّمنا جواز العمل به و لكنا حققنا في باب التعادل و التراجيح أنّ أقوائية السند لا تكون مرجحة في التعارض

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 18، في الأمر الخامس مما تعرّض له.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 628

..........

______________________________

بالعموم من وجه بل لا بدّ من الرجوع إلى المرجحات الأخر، و حيث لا ترجيح فيحكم بالتساقط و يرجع إلى المطلقات الدالّة على حرمة التصوير مطلقا. و عليه فيحرم تصوير الملك و الجنّ، إلّا أنك قد عرفت أنّ المطلقات بأجمعها ضعيفة السند فلا تكون مرجعا في المقام، فلا بدّ أن يرجع إلى البراءة. نعم يمكن استفادة الحرمة من صحيحة البقباق المتقدمة

بدعوى أنّ الظاهر من قوله: «و اللّه ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنها الشجر و شبهه» هو المقابلة بين ذي الروح و غيره من حيث جواز التصوير و عدمه، و ذكر الأمور المذكورة فيها إنما هو من باب المثال.» «1»

أقول: أمّا ما ذكره من عدم كون أقوائية السند مرجحة في التعارض بالعموم من وجه فذكروا في وجهه أن الأخذ بمرجح الصدور يقتضي الحكم بعدم صدور الآخر و طرحه من رأس حتّى في محل الافتراق أو الحكم بالتبعيض في الصدور بأن صدر عام واحد بالنسبة إلى محل الافتراق فقط، و شي ء منهما لا يمكن الالتزام به. و هو «ره» في البحث الأصولي فصّل بين كون العموم فيهما مستفادا من الإطلاق أو من الوضع و حكم في القسم الأوّل كما في المقام بالتساقط. و إن شئت تفصيل كلامه فراجع مصباح الأصول. «2» و لنا فيما ذكره هناك كلام ليس المقام مقام ذكره.

و أمّا خدشته في وجود المجردات سوى اللّه- تعالى- فلا يمكن المساعدة عليه بعد دلالة البراهين المذكورة في محلّها على وجودها. نعم المجردات لها مراتب و من مراتبها ماله تجرّد برزخي، فيكون جسما ذا أبعاد ثلاثة و مع ذلك لا يكون من عالم المادة و الطبيعة، نظير ما يشاهده الإنسان في عالم الرؤيا. و الملك من هذا القبيل، فكون الملك جسما ذا أجنحة لا ينافي عدم كونه من عالم المادّة و الطبيعة. و تحقيق المسألة يطلب من محلّه.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 228، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) راجع مصباح الأصول 3/ 427، في التعارض بين العامّين من وجه.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 629

..........

______________________________

و أمّا ما ذكره من ضعف المطلقات الدالّة

على الحرمة بأجمعها فقد مرّ منّا أن كثرتها و استفاضتها توجب الوثوق و الاطمينان بصدور بعضها لا محالة و لو واحد منها، فيثبت مفاد أخصّها مضمونا، و قد عبّرنا عن ذلك بالتواتر الإجمالي.

و كيف كان فقد ظهر من السيّد «ره» في الحاشية و كذا من مصباح الفقاهة تقوية الحرمة في المقام.

و لكن الأستاذ الإمام «ره» قوّى عدم الحرمة. قال في هذا المجال ما ملخّصه: «هل تلحق صورة الجنّ و الشيطان و الملك بالصورة الحيوانية أولا؟ قد يقال: إنّ مقتضى إطلاق الأدلّة ذلك. و لكن يمكن أن يقال: إنّ العمدة في الأدلّة أخبار النفخ، و أمّا غيرها فقد تقدّم أنّ جملة منها مربوطة بعمل هياكل العبادة و جملة أخرى منها لا إطلاق لها، و لو وجد فيها ما له إطلاق فضعيف سندا.

و أمّا أخبار النفخ فالظاهر منها أن المحرّم هو تمثال موجود يكون نحو إيجاده بالتصوير و النفخ كالإنسان و سائر الحيوانات، و أمّا مثل الجنّ و الشيطان و الملك ممّا تكون كيفية إيجادها بغير التصوير و التخليق التدريجيين و بغير التسوية و النفخ بل بدعيّة دفعية، سواء قيل بكونها مجرّدة أم لا، فخارج عن مساق تلك الأخبار. هذا.

مضافا إلى أنّ المظنون بل الظاهر من مجموع الروايات أنّ وجه التحريم هو التشبّه بالخالق في المصورية و التصوير الخيالي من المذكورات ليس تشبّها به- تعالى- لأنه لم يصوّرها كذلك حتى يكون التصوير تشبيها به.

نعم يمكن التمسك برواية التحف لحرمة صور الروحانيين من الملائكة و غيرها، بدعوى أنّ الظاهر منها حرمة مطلق مثل الروحانيين، بل الظاهر منها خروج الإنسان و الحيوانات، فإن الروحاني ظاهر في موجود غلبت فيه جهة الروح:

ففي رواية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ

اللّه خلق العقل و هو أوّل خلق من الروحانيين.»

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 630

..........

______________________________

قال المجلسي «ره» [في شرحه]: «يطلق الروحاني على الأجسام اللطيفة و على الجواهر المجردة إن قيل بها. قال في النهاية: في الحديث: الملائكة الروحانيون، يروى بضم الراء و فتحها كأنّه نسب إلى الروح و الروح و هو نسيم الريح، و الألف و النون من زيادات النسب، و يريد به أنّهم أجسام لطيفة لا يدركها البصر.» «1»

و في المجمع نحو ما عن النهاية. «2» و عن الجوهري: «زعم أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقول في النسبة إلى الملائكة و الجنّ روحاني بضمّ الراء و الجمع:

روحانيون. و زعم أبو عبيدة: أنّ العرب تقوله لكل شي ء فيه الروح.» «3» انتهى.

و كيف كان فالمتفاهم منه و لو انصرافا غير الحيوانات بل و الإنسان.

فعليه تدلّ الرواية على حرمة تصوير الروحانيين الغائبين عن الحواسّ مطلقا.

لكن يمكن المناقشة فيه بعد الغضّ عن سندها و اغتشاش متنها بأنّ الظاهر من مجموعها صدرا و ذيلا في تفسير الصناعات: أنّ المراد بمثل الروحاني مثل هياكل العبادة، لأن المذكور في جميع فقرات الرواية من ملاك الحلّية و الحرمة هو كون الشي ء صلاحا للعباد أو كان فيه وجه من وجوه الصلاح أو كون الشي ء فسادا محضا أو فيه جهة فساد، و أن ما فيه جهة صلاح و جهة فساد لا يحرم إلّا إذا صرف في الفساد.

فيستفاد منها أنّ مثل الروحانيين التي فيها الفساد من جهة عبادة الناس إيّاها و تعظيمها المنافية للتوحيد و التنزيه محرّم صنعتها. و أمّا ما ينتفع الناس بها و لو في التزيين و سائر الأغراض العقلائية كانت روحانيين أم لا فهي محلّلة. و إن شئت

قلت: إنّ سائر فقرات الرواية حاكمة على هذه الفقرة.

______________________________

(1) راجع مرآة العقول 1/ 66، كتاب العقل و الجهل، ذيل الحديث 14؛ و راجع أيضا النهاية لابن الأثير 2/ 272.

(2) راجع مجمع البحرين/ 170 (- ط. أخرى 2/ 364).

(3) الصحاح 1/ 367.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 631

..........

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 2، ص: 631

______________________________

و يؤيد هذا الاحتمال ذكر الأصنام و الصلبان في الضابطة التي ذكرت مقابلة ضابط الحلية فقال «إنّما حرم اللّه الصناعة التي حرام هي كلّها التي يجي ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كل ملهوّ به و الصلبان و الأصنام و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام و ما يكون منه و فيه الفساد محضا. الخ».

و الإنصاف أنّها قاصرة عن إثبات الحرمة لمطلق صور الروحانيين. ثم على فرض تسليم دلالتها على حرمة مطلق مثل الروحاني فلا شبهة في عدم شمولها للحيوان و الإنسان كما تقدم.

و أمّا ما قال السيّد من أن المتعارف من تصوير الجنّ و الملائكة ما هو بشكل واحد من الحيوانات فيحرم من هذه الجهة بناء على عدم اعتبار قصد كونه حيوانا مع فرض العلم بكونه صورة له، ففيه- مضافا إلى ما اختاره من اعتبار القصد في صور المشتركات، و ليس ببعيد-: أنّ الصور المتعارفة من تصويرهما ممتازة عرفا عن صور الحيوانات و إن كانت شبيهة من بعض الوجوه بالإنسان لكن العرف يراها غير صورة الإنسان.

فالأقوى عدم الحرمة و إن كان الاحتياط لا ينبغي أن يترك لاحتمال إطلاق بعض الأخبار أو فهم المناط منها أو إلقاء الخصوصية

أو كون المراد من الحيوان مطلق ذي الروح و لو لمناسبات أو غير ذلك.» «1» انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

أقول: على فرض القول بحرمة التصوير لكلّ ما له شرف الحياة فالظاهر أنّ الملك و أمثاله من أظهر مصاديق هذا الموضوع. و خصوصية وقوع الحياة فيه بعد التطوّرات المادّية ملقاة عند العرف. مضافا إلى أن الظاهر كون الجنّ أيضا مثل الحيوانات غاية الأمر كون مادته ألطف منها.

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 178 (- ط. أخرى 1/ 271)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 632

بقي الكلام في جواز اقتناء ما حرم عمله من الصور و عدمه. (1)

______________________________

و انصراف أخبار الأمر بالنفخ إلى خصوص ما كان تصويره بنحو التكوين التدريجي قابل للمنع بعد اشتراكهما في كمال الحياة، و النفخ فيه كناية عن إعطاء الحياة له.

كيف؟ و لو كانت الحكمة في الحرمة المعارضة و المضادّة له- تعالى- في المصورية فكلاهما واجدان للصورة المعجبة الدقيقة الكاشفة عن إتقان الصنع. و لو كانت الحكمة فيها احتمال صيرورتها معرضا للعبادة و التقديس فصور الروحانيين أقرب إلى هذه المعرضية، و قد كان كثير من أصنام العرب عندهم هياكل للملائكة و القديسين. و إطلاقات حرمة التصوير تشمل لصورهم، و المرخّص فيه في منطوق صحيحة محمد بن مسلم تماثيل الشجر و الشمس و القمر فلا يشمل صور الجن و الملائكة، و مفهوم رواية تحف العقول يشملها و يعضدها عبارة فقه الرضا كما مرّ.

و قد أشار إلى بعض ما ذكرنا الأستاذ أيضا في آخر ما حكينا عنه.

فالأقوى إلحاق ما ذكر بالحيوان لو لم نقل بكون الحرمة ثابتة فيها بطريق أولى، فتدبّر.

[الفرع العاشر:] حكم اقتناء الصور و المعاملة عليها
اشارة

(1) الفرع الحادى عشر: على فرض حرمة التصوير

الحيوان فهل يجوز اقتناء الصورة بعد ما وجدت نسيانا أو عصيانا أو يكون وزانها وزان الأصنام و آلات اللهو و القمار مما لا يجوز إبقاؤها بل يجب محوها و إفناؤها؟ في المسألة قولان.

[الحكمة في الحرمة]

لا يخفى أن الحكمة في الحرمة إن كانت هي المعارضة و المضادّة في مقام العمل للّه- تعالى- كما هو الظاهر من بعض الأخبار من جهة أن تصوير الحيوانات من أدقّ أفعال اللّه- تعالى- و أعجبها فيكون عمل المصوّر مضادّة له في المصوّرية و لذا يؤمر يوم القيامة تعجيزا بالنفخ فيها، فلا محالة يكون المبغوض للّه- تعالى- نفس الفعل بما أنّه صادر عن الفاعل، و أمّا بعد صدوره فلا دليل على مبغوضية نتيجة العمل الحاصلة منه.

لا يقال: إذا كان الإيجاد حراما كان الوجود أيضا حراما لاتحادهما ذاتا و اختلافهما

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 633

فالمحكيّ عن شرح الإرشاد للمحقّق الأردبيلي «ره» أنّ المستفاد من الأخبار الصحيحة و أقوال الأصحاب عدم حرمة إبقاء الصور. انتهى.

و قرّره الحاكي على هذه الاستفادة. (1)

______________________________

بالاعتبار فقط فبالإضافة إلى الفاعل يسمى إيجادا و بالإضافة إلى القابل وجودا له.

فإنّه يقال: نعم و لكن المتّحد مع الإيجاد حدوث الوجود لا بقاؤه، فيمكن أن لا يحرم البقاء لعدم ترتّب المفسدة عليه. فيكون المقام- بوجه ما- نظير حرمة عمل الزنا و حرمة إيجاد الولد به و لكن لا يترتب عليها حرمة بقائه بل يحرم إتلافه.

و إن كانت الحكمة في الحرمة احتمال صيرورة الصورة و لو بمرور الزمان معرضا للتقديس و العبادة كما كان كذلك في الأعصار السّالفة فكان تحريم الشارع للتصوير بداعي قلع مادة الأصنام و الأوثان من صفحة عالم الوجود، فلا محالة يكون المحرّم وجود الصورة حدوثا و بقاء.

و بالجملة

فبحسب مقام الثبوت في المسألة احتمالان، و لو فرض عدم إحراز ما هي الحكمة و عدم دلالة أخبار الباب أيضا على أحد المحتملين كان مقتضى الأصل في المسألة الإباحة.

ثم على فرض جواز اقتنائها و صيرورتها مرغوبا فيها من جهة إمكان التزيّن بها أو الانتفاع بها في مرحلة التعليم و التعلّم أو نحو ذلك فلا محالة تصير مالا فيجوز المعاملة عليها أيضا و يشملها عمومات أدلة البيع و نحوه من المعاملات، بخلاف ما إذا قيل بحرمة إبقائها شرعا و وجوب محوها لإسقاط الشارع ماليتها على هذا الفرض و يشملها قوله عليه السّلام: «إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و غيره من الروايات الواردة في هذا المجال.

(1) في مفتاح الكرامة بعد الإشارة إلى ما دلّ على جواز الجلوس على ما فيه الصّور و التماثيل قال: «و ممّا يدلّ على عدم الملازمة بين جواز الجلوس و جواز الفعل الأخبار الصحيحة و غيرها، و هو المستفاد من كلام الأصحاب في

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 634

..........

______________________________

مكان المصلّي و لباسه. قال في مجمع البرهان في باب لباس المصلّي: «المستفاد من الأخبار الصحيحة و أقوال الأصحاب عدم حرمة بقاء الصورة.» قلت: و الأمر كما قال، كما بيّنا الحال في باب لباس المصلّي و مكانه.» «1» هكذا في مفتاح الكرامة.

و لكن في باب لباس المصلّي من مجمع البرهان قال: «و يفهم من الأخبار الصحيحة عدم تحريم إبقاء الصورة و كذا الصورة في الخاتم.» «2» و في مكان المصلّي منه بعد ذكر صحيحة محمد بن مسلم قال: «و فيها دلالة على جواز إبقاء صورة التماثيل و لو كانت صورة حيوان.» «3»

أقول: فليس فيما عندنا من نسخ مجمع البرهان ذكر من

أقوال الأصحاب، و لعلّ صاحب مفتاح الكرامة عثر على نسخة أخرى منه.

و كيف كان فصاحب مفتاح الكرامة لا يرى الملازمة بين حرمة التصوير و حرمة الإبقاء و استظهر ذلك من مجمع البرهان أيضا.

و لكن في متاجر مجمع البرهان قال: «و بعد ثبوت التحريم فيما ثبت يشكل جواز الإبقاء لأن الظاهر أن الغرض من التحريم عدم خلق شي ء يشبه بخلق اللّه و بقائه لا مجرّد التصوير، فيحمل ما يدلّ على جواز الإبقاء من الروايات الصحيحة و غيرها على ما يجوز منها، فهي من أدلّة جواز التصوير في الجملة على البسط و الستر و الحيطان و الثياب، و هي التي تدلّ الأخبار على جواز إبقائها فيها لا ذو الروح التي لها ظلّ على حدته التي هي حرام بالإجماع، و الاجتناب مطلقا من الإحداث و الإبقاء من جميع أنواعه أحوط.» «4»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 49، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الرابع من المحرم.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 2/ 93، كتاب الصلاة، المقصد الرابع، المطلب الأوّل.

(3) نفس المصدر 2/ 138، كتاب الصلاة، المقصد الرابع، المطلب الثاني.

(4) نفس المصدر 8/ 56، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، المطلب الأوّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 635

[كلام الأستاذ الإمام «ره» في المقام]

______________________________

قال الأستاذ الإمام «ره» بعد نقل هذا الكلام من مجمع البرهان ما ملخّصه:

«يرجع كلامه إلى دعويين: إحداهما: أنّ ما دلّت على تحريم الصور تدلّ على تحريم الإبقاء. و الثانية: أنّ ما دلّت على جواز الإبقاء يشعر بجواز التصوير، فتحمل الأخبار المجوزة للإبقاء على ما يجوز تصويره كتصوير غير ذي الظلّ من ذوات الأرواح على البسط و نحوها، و الأخبار المانعة عن التصوير على غيرها مما يحرم إبقاؤها أيضا.

و تقريب دعواه الأولى: أن ما يتعلق به الأمر أو

النهي إن لم تكن من الماهيات التي لها بقاء فلا محالة يكون النهي عن وجودها و إيجادها بالمعنى المصدري و هما متحدان خارجا مختلفان اعتبارا. و إن كانت من الماهيات التي لها بقاء و ثبات في الخارج فلا ينتقل ذهن العرف و العقلاء من النواهي مثلا إلى أنّ المبغوض مجرّد هذا المعنى المصدري، بل المتفاهم العرفي من الأوامر و النواهي المتعلقة بها أنّ تلك الماهية القارة الذات محبوبة أو مبغوضة له، و إنما أمر بإيجادها لمحبوبيتها بوجودها المستقر المستمرّ و نهى عنها لمبغوضيتها كذلك. و لا تنتقل الأذهان إلى الإيجاد و الوجود بنحو الاستقلال، كما لا تتوجه إلى احتمال أن يكون في نفس الأمر أو النهي مصلحة إلّا مع قيام قرينة أو مع لابديّة.

فلو أمر المولى بإيجاد شي ء له البقاء كبناء الأبنية و غرس الأشجار و كتابة الكتب و نحوها لا ينقدح في الأذهان منه أنّ نفس الإيجاد المصدري مطلوبة لا الماهية المستقرة الوجود. و كذا لو نهى عن ماهية كذائية كعمل الأصنام و الصور و آلات اللهو و القمار.

و عليه يكون المدّعى هو التفاهم العرفي لا الملازمة العقلية حتى ينتقض ببعض الموارد كما توهم الفاضل الإيرواني نقضه بمثل الزنا و النتيجة الحاصلة منه.

و لكن يرد عليه بأن المقام مما قامت القرينة على أنّ المحرّم و المبغوض هذا المعنى

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 636

..........

______________________________

المصدري لا الماهية بوجودها البقائي. و ذلك أن عمدة المستند في المسألة روايات الأمر بالنفخ، و الظاهر منها- بمناسبة الحكم و الموضوع- أنّ الأمر به لأجل تعجيزه عن تتميم ما خلق. و كأنه يقال له: إذا كنت مصوّرا فكن نافخا كما كان اللّه كذلك، فيفهم منها أنّ الممنوع و

المبغوض هو التشبه به- تعالى- في مصوّريته، فهذا المعنى المصدري هو المنظور إليه.

و بما ذكرنا يظهر النظر في دعواه الأخرى، و هي أنّ جواز الإبقاء مشعر بجواز التصوير، فإنّها أيضا موجّهة لو لا القرينة على خلافها.

ثمّ إنّه على فرض تسليم ما ذكره المحقق الأردبيلي «ره» لو دلّ دليل و لو بعمومه أو إطلاقه على جواز إبقاء المجسمات لا يكون معارضا للروايات الدالّة على حرمة التصوير المستفاد منها حرمة الإبقاء، ضرورة أنّ حرمة الإبقاء المستفاد منها ليست بدلالة لفظية أو ملازمة عقلية حتى ينافيها، بل لانتقال ذهن العرف من النهي عن إيجاد تلك الماهية إلى أن الماهية بوجودها القارّ مبغوضية.

لكن لو ورد ما دلّ على جواز الإبقاء انعطفت الأذهان إلى أنّ المبغوض و المنهي عنه هو العنوان المصدري. و إن شئت قلت: إنّ بين الأدلّة جمعا عقلائيا، أو قلت:

إنّ تلك الاستفادة إنما هي في صورة سكوت القائل فلا تنافي بين الأدلّة.» «1»

انتهى.

أقول: فالأستاذ «ره» وجّه كلام المحقق الأردبيلي بتقريب أنّ المتفاهم عرفا من النهي المتعلق بما له بقاء هو مبغوضية البقاء أيضا، و لكن قال: إنّ في المقام قرينة على كون المبغوض نفس الإيجاد المصدري، فلا دليل على حرمة الإبقاء و إن كانت الصورة مجسمة بل يشملها إطلاق روايات جواز الإبقاء.

______________________________

(1) المكاسب المحرمة 1/ 188 (- ط. أخرى 1/ 285)، في القسم الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 637

[الدليل على عدم الحرمة]

و ممّن اعترف بعدم الدليل على الحرمة، المحقّق الثاني في جامع المقاصد (1) مفرّعا على ذلك جواز بيع الصور المعمولة و عدم لحوقها بآلات اللهو و القمار و أواني النقدين. و صرّح في حاشية الإرشاد بجواز النظر إليها. (2)

______________________________

(1) قال في ذيل

تعرّض المصنف لحرمة بيع آلات اللهو و القمار و نحوهما:

«و هل الصور المعمولة من هذا القبيل؟ ألحقها به بعض العامّة و لم أجد مثله في كلام أصحابنا. و يمكن عدم اللحاق نظرا إلى أنّ الصّور و إن حرم عملها فلا دليل يدلّ على تحريم اقتنائها إذ ليس المقصود منها محض التحريم، و لو حرم الاقتناء لحرم حفظ ما هي فيه من ستر و نحوه و لم يجز بيعه. و في بعض الأخبار ما يدل على خلافه. نعم لو كانت تعبد فهي أصنام.» «1»

(2) يعني يجوز النظر إلى صورة الأجنبية، إذ المحرّم هو النظر إلى نفس الأجنبية لا صورتها و تمثالها.

و لكن يمكن الإشكال فيما إذا جعلت الصورة مرآة لذيها، و لا سيّما مع احتمال الريبة أو وجود التلذذ الجنسي و التهييج. هذا.

و في مفتاح الكرامة: «فقد تحصّل أنّه يجوز اقتناء ذي الصورة و بيعه و الانتفاع به على كراهية إذ ليس هو ممّا صنع للحرام حتى يلزم إتلافه بل هو من الصنع الحرام.» «2»

و في المستند: «و هل يحرم إبقاء ما يحرم عمله فيجب إزالته أم لا؟ الظاهر هو الثاني، لا سيّما فيما يوجب إزالته الضرر، للأصل، و عدم استلزام حرمة العمل حرمة الإبقاء، و الروايات المطلقة الدالّة على استحباب تغطّي التماثيل الواقعة تجاه القبلة و نافية البأس عن الواقعة يمينا و شمالا الخ.» «3»

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 16، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل، الثاني مما يحرم الاكتساب به.

(2) مفتاح الكرامة 4/ 49، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الرابع من المحرم.

(3) مستند الشيعة 2/ 338، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المقصد الثالث، الفصل الثاني.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 638

لكن ظاهر كلام بعض القدماء

حرمة بيع التماثيل و ابتياعها:

ففي المقنعة- بعد أن ذكر فيما يحرم الاكتساب به الخمر و صناعتها و بيعها- قال: «و عمل الأصنام و الصّلبان و التماثيل المجسّمة و الشطرنج و النرد و ما أشبه ذلك حرام، و بيعه و ابتياعه حرام.» انتهى.

و في النهاية: «و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار- حتّى لعب الصبيان بالجوز- و التجارة فيها و التصرّف فيها و التكسّب بها محظور.» انتهى. و نحوها ظاهر السرائر. (1)

______________________________

و في الجواهر: «و أمّا بيعها و اقتناؤها و استعمالها و الانتفاع بها و النظر إليها و نحو ذلك فالأصل و العمومات و الإطلاقات تقتضي جوازه، و ما يشعر به بعض النصوص من حرمة الإبقاء كأخبار عدم نزول الملائكة و نحوها محمول على الكراهة أو غير ذلك، خصوصا مع أنّا لم نجد من أفتى بذلك عدا ما يحكى عن الأردبيلي من حرمة الإبقاء، و يمكن دعوى الإجماع على خلافه.» «1»

أقول: حيث إنّ ظاهر كلمات أكثر القدماء من أصحابنا- كما يأتي- حرمة بيعها و ابتياعها و التصرف فيها كان مقتضى ذلك حرمة اقتنائها أيضا و إن لم يصرّحوا بذلك إذ يشكل القول بجواز اقتنائها و حرمة جميع التصرفات فيها.

(1) راجع المقنعة، باب المكاسب؛ و النهاية، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة؛ و السرائر، باب ضروب المكاسب. «2»

و قد مرّ عن المراسم في عداد المكاسب المحرمة قوله: «و عمل الأصنام و الصلبان و كل آلة تظنّ الكفّار أنّها آلة عبادة لهم و التماثيل المجسمة ... و بيعه و ابتياعه الخ.» «3»

و مرّ عن أبي الصلاح الحلبي في الكافي قوله: «كل شي ء ثبت تحريمه ... فثمنه

______________________________

(1) الجواهر 22/ 44، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) راجع المقنعة/ 587؛ و النهاية لشيخ الطائفة/ 363، و السرائر 2/ 215.

(3) المراسم/ 170، كتاب المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 639

و يمكن أن يستدلّ للحرمة- مضافا إلى أنّ الظاهر من تحريم عمل الشي ء مبغوضيّة وجود المعمول ابتداء و استدامة (1)- بما تقدّم في صحيحة ابن مسلم من قوله عليه السّلام: «لا بأس ما لم يكن حيوانا.» (2) بناء على أنّ الظاهر من سؤال الراوي عن التماثيل سؤاله عن حكم الفعل المتعارف

______________________________

و أجر عمله و حمله و إبقاؤه و حفظه و المعونة عليه بقول أو فعل أو رأي، و التعوّض عنه محرّم.» «1» و قد تعرضنا لكلماتهم في المقدمة السادسة. «2»

(1) أقول: قد سرد المصنف الأمور التي يمكن أن يستدلّ بها لمنع الاقتناء المستلزم لا محالة لمنع المعاملة عليها أيضا كما مرّ بيانه، ثم أجاب عن هذه الأمور و عقّبها بذكر الأخبار الدالّة على جواز الاقتناء، و نحن نقتفي أثر المصنّف:

ما يمكن أن يستدلّ به لحرمة اقتناء الصور
الأمر الأوّل مما استدلّ به للمنع:

أنّ النهي و إن تعلّق بإيجاد التصوير لكن قد تقرّر في محلّه أنّ الإيجاد و الوجود متحدان ذاتا و مختلفان بالاعتبار، ففي المقام ما هو المنهي عنه و المبغوض للمولى حقيقة هو وجود الصورة ابتداء و استدامة و هو المشتمل على المفسدة لا محالة، و التفاهم العرفي أيضا يشهد بذلك.

[الأمر الثاني: صحيحة محمد بن مسلم]

(2) الأمر الثاني: صحيحة محمد بن مسلم السابقة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر، فقال عليه السّلام: «لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان.» «3»

و تقريب الاستدلال- على ما ذكره المصنّف- هو أنّ السؤال يقع غالبا عما يكون موردا لابتلاء السائل و أمثاله، و في المقام هو اقتناء الصور و التصرفات فيها، إذ عمل

______________________________

(1) الكافي لأبي الصلاح/ 283، فصل فيما يحرم من المكاسب.

(2) راجع 553 و ما بعدها.

(3) الوسائل 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 640

المتعلّق بها العامّ البلوى و هو الاقتناء. و أمّا نفس الإيجاد فهو عمل مختصّ بالنقّاش. ألا ترى أنه لو سئل عن الخمر فأجاب بالحرمة، أو عن العصير فأجاب بالإباحة انصرف الذهن إلى شربهما دون صنعتهما.

بل ما نحن فيه أولى بالانصراف لأنّ صنعة العصير و الخمر يقع من كلّ أحد بخلاف صنعة التماثيل.

و بما تقدّم من الحصر في قوله عليه السّلام في رواية تحف العقول: «إنّما حرّم اللّه الصناعة التي يجي ء منها الفساد محضا و لا يكون منه و فيه شي ء من وجوه الصلاح.» (1) فإنّ ظاهره أنّ كل ما يحرم صنعته و منها التصاوير يجي ء منها الفساد محضا فيحرم جميع التقلّب فيه بمقتضى ما ذكر في الرواية بعد هذه

الفقرة.

______________________________

الصور أمر تخصّصي يختصّ بالنقاشين و يبعد سؤال السائل عن العمل الخارج عن ابتلاء نفسه و أمثاله.

و إن شئت قلت: إنّ مورد السؤال ليس هو عمل التصوير بما أنه فعل المصوّر بل عنوان التماثيل، و هي ظاهرة في التماثيل الموجودة في الخارج، فيجب أن يحمل السؤال على الأفعال المناسبة لها بعد ما وجدت من قبيل الاقتناء و التزين بها و البيع و الشراء و سائر التصرفات كما أنّ السؤال عن سائر الذوات الخارجية تحمل على الأفعال المناسبة لها.

[الأمر الثالث: الحصر في رواية تحف العقول]

(1) الأمر الثالث: ما تقدم من الحصر في رواية تحف العقول: «إنما حرّم اللّه الصناعة التي حرام هي كلّها التي يجي ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير ... و ما يكون منه و فيه الفساد محضا، و لا يكون فيه و لا منه شي ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها.» «1»

______________________________

(1) تحف العقول/ 335.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 641

و بالنبويّ: «لا تدع صورة إلّا محوتها و لا كلبا إلّا قتلته.» (1) بناء على إرادة الكلب الهراش الموذي الذي يحرم اقتناؤه.

______________________________

و الاستدلال بالرواية بوجهين:

الأوّل: أنّ المفروض حرمة التصوير لذوات الأرواح، و المستفاد من الحصر المذكور في الرواية أنّه لا يحرم من الصناعات إلّا ما يكون فيه الفساد محضا و لا يكون فيه شي ء من وجوه الصلاح، و لازم ذلك حرمة اقتناء الصورة و الانتفاع بها و المعاملة عليها إذ لو لم تكن هذه محرّمة لم يصدق أنّ فيها الفساد محضا.

الثانى: التصريح في الرواية- بعد الحصر المذكور- بقوله: «فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه

و جميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها.» و فيها أيضا قبل ذلك: «فكلّ أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه ... فهو حرام محرّم حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته و جميع التقلّب فيه.»

[الأمر الرابع: النبوي المروي]

(1) الأمر الرابع: النبوي المروي بسند معتبر عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلّا محوتها و لا قبرا إلّا سوّيته و لا كلبا إلّا قتلته.» «1»

و حيث أمكن المناقشة في الاستدلال بأن السياق مانع من الحمل على الحرمة لعدم وجوب قتل الكلب أجاب المصنف بإرادة الكلب الهراش الموذي، و قد مرّ عن الأستاذ «ره» احتمال أن يكون الكلب بكسر اللام و يراد به المصاب بداء الكلب و هو مرض يسري. و القبر في الرواية أيضا يحمل على القبور التي كانت تعبد و تقدّس. هذا.

و في رواية ابن القدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في هدم القبور و كسر الصور.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 8.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 642

و ما عن قرب الإسناد بسنده عن عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام، قال:

سألته عن التماثيل هل يصلح أن يلعب بها؟ قال: «لا.» (1)

و بما ورد في إنكار أن المعمول لسليمان- على نبيّنا و آله و عليه السّلام- هي تماثيل الرجال و النساء، (2) فإن الإنكار إنّما يرجع إلى مشيّة

سليمان للمعمول كما هو ظاهر الآية دون أصل العمل، فدلّ على كون مشيّة وجود التمثال من المنكرات التي لا يليق بمنصب النبوّة.

______________________________

(1) الأمر الخامس: رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام، راجع الوسائل. «1»

و في السند عبد اللّه بن الحسن و هو مجهول. و لكن عن البرقي في المحاسن عن موسى بن قاسم، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السّلام أنه سأل أباه عن التماثيل فقال: «لا يصلح أن يلعب بها.» و نحوه مرفوعة المثنى. «2» و موسى بن القاسم بن معاوية بن وهب ثقة ثقة جليل.

و الاستدلال بالرواية للمقام متوقف على أمور ثلاثة:

الأوّل: أن يراد بالتماثيل فيها مطلق الصور لا التماثيل التي يلعب بها في استعمال الشطرنج، و لعلّ لفظ اللعب يشهد بإرادة ذلك كما قيل.

الثاني: ظهور «لا يصلح» في الحرمة.

الثالث: عدم خصوصية للّعب و أنّ حرمة اللعب تدلّ على حرمة جميع التقلبات و التصرفات حتّى الاقتناء الصرف.

[الأمر السّادس: موثقة أبي العباس البقباق]

(2) الأمر السّادس: موثقة أبي العباس البقباق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في تفسير قوله- تعالى-: يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ. «3» بدعوى أنّ الظاهر منها أن الإمام عليه السّلام أنكر مشيّة سليمان عليه السّلام للصور المعمولة لا عمل الصور فقط، و أنّ عدم مشيته لها يكشف عن حرمتها و كونها منكرة. و كلاهما قابلان للمناقشة.

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 12/ 221، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.

(2) نفس المصدر 3/ 563، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديثان 15 و 16.

(3) راجع نفس المصدر 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 643

و بمفهوم صحيحة زرارة عن

أبي جعفر عليه السّلام: «لا بأس بأن يكون التماثيل في البيوت إذا غيّرت رءوسها و ترك ما سوى ذلك.» (1)

و رواية المثنى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ عليّا عليه السّلام يكره الصور في البيوت.» (2) بضميمة ما ورد في رواية أخرى مرويّة في باب الربا: «أنّ عليّا عليه السّلام لم يكن يكره الحلال.» (3)

[الأمر السابع: مفهوم صحيحة زرارة]

______________________________

(1) الأمر السابع: مفهوم صحيحة زرارة، رواها في الوسائل «1» عن الكافي و المحاسن.

و الاستدلال بها على حرمة الاقتناء مطلقا مبني على عدم خصوصية للبيت- الذي يصلّى فيه غالبا- و كون البأس ظاهرا في الحرمة. و كلاهما قابلان للمناقشة.

(2) الأمر الثامن: رواية المثنى، رواها في الوسائل عن الكافي و المحاسن، و المتن هكذا: «إنّ عليا عليه السّلام كره الصور في البيوت.» «2»

و في الوسائل أيضا عن المحاسن عن ابن العرزمي، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه عليه السّلام: «أنّ عليا عليه السّلام كان يكره الصورة في البيوت.» «3»

و فيه أيضا عن المحاسن بسنده عن يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه كره الصور في البيوت.» «4»

و الاستدلال بهذه الأخبار للمقام مبني على عدم خصوصية للبيت و كون الكراهة ظاهرة في الحرمة أو مرادة بها هنا، و كلاهما قابلان للمناقشة.

(3) رواها في الوسائل في ذيل رواية عن الكافي بسند صحيح. و المتن هكذا:

«و لم يكن عليّ عليه السّلام يكره الحلال.» «5»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 3.

(2) نفس المصدر 3/ 561، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 563، الحديث 14.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 13.

(5) نفس المصدر 12/ 447، الباب 15

من أبواب الربا، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 644

و رواية الحلبي المحكيّة عن مكارم الأخلاق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«أهدي إليّ طنفسة (قطيفة خ. ل) من الشام فيها تماثيل طائر فأمرت به فغيّر فجعل كهيئة الشجر.» (1) هذا.

و في الجميع نظر: أمّا الأوّل فلأنّ الممنوع هو إيجاد الصورة و ليس وجودها مبغوضا حتّى يجب رفعه. (2) نعم قد يفهم الملازمة من سياق الدليل أو من خارج، كما أنّ حرمة إيجاد النجاسة في المسجد يستلزم مبغوضية وجودها فيه المستلزم لوجوب رفعها.

______________________________

و الاستشهاد بها هنا مبني على كون الحلال في الرواية في مقابل الحرام، و هو قابل للمناقشة، إذ من المحتمل إرادة المباح في مقابل الحرام و المكروه معا و عليّ عليه السّلام كان يكره كليهما.

[الأمر التاسع: رواية الحلبي]

(1) الأمر التاسع: رواية الحلبي، رواها في الوسائل عن مكارم الأخلاق، و متنها هكذا: قال: «ربما قمت أصلّي و بين يديّ و سادة فيها تماثيل طائر فجعلت عليه ثوبا.» و قال: «و قد أهديت إليّ طنفسة من الشام عليها تماثيل طائر فأمرت به فغيّر رأسه فجعل كهيئة الشجر.» «1»

و الاستدلال بها مبني على دلالة فعله عليه السّلام على حرمة الاقتناء مطلقا، و هو قابل للمناقشة، إذ لعلّه عليه السّلام فعل ذلك لكراهة الاقتناء إمّا مطلقا أو في البيت فقط بملاحظة أنّه يصلّى فيه كما يشهد بذلك صدر الرواية.

فهذه تسعة أمور يمكن أن يستدلّ بها لحرمة الاقتناء.

الجواب عما يستدلّ به لحرمة اقتناء الصور
[الجواب عن الأمر الأوّل]
اشارة

(2) أجاب المصنّف «ره» عن الأمر الأوّل بما محصّله: «أنّ النهي تعلّق بإيجاد الصورة بما أنه عمل للمصوّر و لا دليل على كون وجودها مبغوضا. نعم قد تقوم في بعض النواهي قرينة على الملازمة بين حرمة الإيجاد و مبغوضية الوجود حدوثا

______________________________

(1) نفس المصدر 3/ 565، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 645

..........

______________________________

و بقاء و لكن لا دليل على كون المقام من هذا القبيل.»

و مرّ عن الأستاذ الإمام «ره» ما حاصله: «أنّ المتفاهم عرفا من النهي المتعلّق بالماهيات القارّة و إن كان مبغوضية وجودها لكن هذا فيما إذا لم يكن قرينة على خلاف ذلك. و قد قامت القرينة في المقام على أنّ المبغوض هو العنوان المصدري لا الماهية بوجودها البقائي. و نفس إطلاق الروايات الدالّة على جواز الاقتناء الشامل للمجسمة و غيرها كاف في رفع اليد عن مقتضى هذا التفاهم العرفي.» «1»

و محصّل كلامه «ره» أنّ نسبة حكم العرف إلى إطلاق روايات الجواز نسبة الأصل إلى الدليل، حيث إنّ الدليل

وارد على الأصل.

أقول: إن كان الفهم العرفي المذكور ممّا يوجب ظهور اللفظ الصادر عن المولى فرفع اليد عنه بمجرد الظهور الإطلاقي على الخلاف مشكل.

اللّهم إلّا أن يدّعى أنّ مورد حكم العرف هو صورة عدم الدليل على الخلاف فلا يكون حكما جزميّا بل حكما لولائيا، فتأمّل.

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الأمر الأوّل بما ملخّصه: «أنّ حرمة الإيجاد و إن كان ملازما لحرمة الوجود لاتحادهما ذاتا، إلّا أنّ الكلام في المقام ليس في الوجود الأوّلي الحدوثي بل في الوجود البقائي، و من البديهي أنه لا ملازمة بين الحدوث و البقاء. و عليه فما يدلّ على حرمة الإيجاد لا يدلّ على حرمة الوجود بقاء إلّا إذا قامت قرينة على ذلك كدلالة حرمة تنجيس المسجد على وجوب إزالة النجاسة عنه.

لا يقال: إنّ النهي عن الإيجاد كاشف عن مبغوضية الوجود المستمر كما أن النهي عن بيع العبد المسلم من الكافر حدوثا يكشف عن حرمة ملكيته له بقاء.

فإنه يقال: النهي عن بيع العبد المسلم من الكافر يدلّ على وجوب إزالة علاقة الكافر عنه حدوثا و بقاء بخلاف ما نحن فيه، إذ قد عرفت أن مجرّد الدليل على حرمة

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة 1/ 188 و ما بعدها (- ط. أخرى 1/ 285 و ما بعدها).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 646

و أمّا الروايات فالصحيحة الأولى (1) غير ظاهرة في السؤال عن الاقتناء، لأنّ عمل الصور ممّا هو مركوز في الأذهان حتّى إنّ السؤال عن حكم اقتنائها بعد معرفة حرمة عملها، إذ لا يحتمل حرمة اقتناء ما لا يحرم عمله.

______________________________

الإيجاد لا يدلّ على حرمة البقاء.

على أنّا إذا سلّمنا الملازمة بين مبغوضية الإيجاد و مبغوضية الوجود فإنّما يتم بالنسبة إلى الفاعل فقط

فيجب عليه إتلافه دون غيره، مع أنّ المدّعى وجوب إتلافه على كل أحد فالدليل أخصّ منه.» «1»

أقول: ما ذكره أخيرا قابل للمناقشة إذ مع فرض كشف النهي عن شي ء عن مبغوضية وجود الشي ء حدوثا و بقاء كان على كل أحد مع التمكن رفعه و إتلافه نظير المنع عن تنجيس المسجد الدالّ على مبغوضية نجاسته، فلو نجّسه أحد كان على كل أحد علم به و تمكن أن يطهّره، و لا يختصّ ذلك بخصوص من نجّسه.

[الجواب عن الأمر الثاني]

(1) أجاب المصنف عن الأمر الثاني أعني صحيحة محمد بن مسلّم بأن المركوز في الأذهان كان مسألة عمل الصور و أنّ السؤال عن حكم الاقتناء إنما يفرض بعد العلم بحرمة عملها إذ لا يحتمل حرمة اقتناء ما لا يحرم عمله.

أقول: يمكن أن يناقش فيما ذكره بأنه من الممكن أن لا يعلم السّائل حكم العمل و مع ذلك يسأل عن الاقتناء من جهة أنه مورد لابتلائه أو لعلّه علم حرمة العمل و لكنه احتمل عدم حرمة الاقتناء فسأل عنه. و مع العلم بعدم حرمة العمل و إن لم يحتمل حرمة الاقتناء كما في كلام المصنف لكن مع العلم بحرمة العمل يتمشّى احتمال عدم حرمة الاقتناء فيصحّ السؤال عنه. و حيث إنّ الظاهر من لفظ التماثيل المسؤول عنها التماثيل الموجودة كما قيل فلا محالة ينصرف السؤال إلى الأفعال المناسبة لها بعد وجودها.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 234، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 647

و أمّا الحصر في رواية تحف العقول (1) فهو- بقرينة الفقرة السّابقة منها الواردة في تقسيم الصناعات إلى ما يترتّب عليه الحلال و الحرام و ما لا يترتّب عليه إلّا الحرام- إضافي بالنسبة إلى

هذين القسمين، يعني لم تحرم من القسمين إلّا ما ينحصر فائدته في الحرام و لا يترتّب عليه إلّا الفساد.

______________________________

نعم قد مرّ منا سابقا احتمال حمل إطلاق السؤال و الجواب على العمل و الاقتناء معا بعد كون كليهما محلا للابتلاء، و لا قرينة على حملهما على خصوص العمل أو الاقتناء، فتدبّر. هذا.

و أجاب المحقق الإيرواني «ره» في الحاشية عن الصحيحة فقال: «بعد تسليم أنّ السؤال فيها عن حكم الاقتناء و كون اقتنائها من منافعها: إن غاية ما يستفاد منها ثبوت البأس، و هو أعمّ من التحريم. مع أنّها معارضة بأخبار أخر صريحة في الجواز ذكر المصنف جملة منها، فتعين حملها على الكراهة.» «1»

و ناقشه في مصباح الفقاهة فقال: «و فيه أنّ كلمة البأس ظاهرة في المنع ما لم يثبت الترخيص من القرائن الحالية أو المقالية، كما أنّ مقابلها أعني كلمة: «لا بأس» ظاهر في الجواز المطلق.

فالإنصاف أنّها ظاهرة في التحريم إلّا أنّها معارضة بما دلّ على جواز اقتناء الصور فلا بدّ من حملها على الكراهة.» «2»

[الجواب عن الأمر الثالث]

(1) أقول: محصّل جواب المصنّف عن الأمر الثالث أعني الحصر في رواية تحف العقول بتوضيح منّا هو: «أنه قسّم في الرواية الصناعات بلحاظ ما يترتب عليها من المنافع و الغايات إلى قسمين: قسم يترتب عليه الصلاح و الفساد معا، و قسم لا يترتب عليه إلّا الفساد، فأراد هنا بيان أنّ المحرّم من هذين القسمين هو القسم الثاني الذي يحرم جميع منافعه دون القسم الأوّل الذي يشتمل على المنافع

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 22، ذيل قول المصنّف: بقي الكلام في جواز اقتناء ....

(2) مصباح الفقاهة 1/ 238، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 648

نعم يمكن

أن يقال: إنّ الحصر وارد في مساق التعليل و إعطاء الضابطة للفرق بين الصنائع، لا لبيان حرمة خصوص القسم المذكور.

______________________________

المحلّلة أيضا. فالحصر إضافي بالنسبة إلى هذين القسمين الملحوظين بلحاظ ما يترتب عليهما من المنافع و الغايات فلا ينافي وجود قسم ثالث للصناعة يكون نفس عملها حراما لا بلحاظ ما يترتب عليها من المنافع، و التصوير من هذا القبيل لوجود المفسدة في نفس العمل من جهة كونه مضادّة للّه- تعالى- من دون لحاظ لما يترتب عليه من المنافع.»

و لكن المصنّف استدرك و ناقش هذا الجواب بأنّ هذا خلاف ظاهر الحصر، إذ الظاهر منه كونه حقيقيا واردا في مساق التعليل للحرمة و إعطاء الضابطة الكلية للفرق بين الصنائع المحرمة و المحلّلة. هذا.

و قال المحقق الإيرواني «ره»: «و أمّا عن رواية التحف فبأنّ اقتناء الشي ء لا يعدّ من منافعه، فمن حرمة التصوير لا يستنتج حرمة الاقتناء. نعم لو كانت للصورة منفعة عرفية حكمنا بحرمتها قضاء لحقّ الملازمة.

و بعبارة أخرى: الحصر في رواية التحف وارد في موضوع الصنائع ذوات المنافع.

أمّا الصنائع العارية عنها- و منها عمل التصاوير- فهي خارجة عن المقسم في تلك الرواية و لا يستفاد حكمها منها بوجه.» «1»

أقول: ما ذكره عجيب، إذ يترتب على اقتناء الصورة منفعة التزيّن و اللعب و التعليم و نحو ذلك و تكون مرغوبا فيها لذلك بحيث يبذل بإزائها أموال كثيرة، فكيف حكم بعرائها عن المنافع؟!

و الأولى أن يقال- مضافا إلى ضعف الرواية و اضطرابها كما مرّ-: إنّ التصوير بما أنه عمل صادر عن الفاعل المختار أمر، و الصورة الحاصلة بسببه أمر آخر مستقل في الوجود ثابت قارّ الذات، فهما موضوعان مختلفان. فإذا فرض دلالة الأدلّة على

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 22،

ذيل قول المصنّف: بقي الكلام في جواز اقتناء ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 649

و أمّا النبويّ (1) فسياقه ظاهر في الكراهة كما يدلّ عليه عموم الأمر بقتل الكلاب و قوله عليه السّلام في بعض من الروايات: «و لا قبرا إلّا سوّيته».

______________________________

كون نفس التصوير أمرا محرّما يكون فيه الفساد محضا من جهة كونه تشبّها به- تعالى- و معارضة له في المصوّرية- على ما يظهر من بعض الأخبار- و حرم لأجل ذلك تعليمه و تعلمه و أخذ الأجر عليه، فلا وجه لإسراء حكمه إلى اقتناء الصورة و الانتفاع بها بانتفاعات عقلائية بعد فرض وجودها و تحققها في الخارج، و الأصل يقتضي الإباحة، مضافا إلى الأخبار الكثيرة الدالّة على جواز الاقتناء كما يأتي.

و قد أشار إلى ذلك الأستاذ أيضا، فراجع. «1»

و إذا فرض اشتمالها على منافع عقلائية جازت المعاملة عليها أيضا لذلك بمقتضى عمومات العقود و البيع و التجارة، فتدبّر.

[الجواب عن الأمر الرابع]

(1) هذا جواب عن الأمر الرابع، أعني ما دلّ على بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام إلى المدينة لمحو الصور.

أقول: يرد على ما ذكره المصنّف أنّ بعثه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام يدلّ على اهتمامه بالأمور المذكورة و كونها من الأمور المهمة. و يبعد جدّا بعثه صلّى اللّه عليه و آله لمحو بعض المكروهات، مضافا إلى أن كراهة تسنيم القبور لا تجوّز التصرف في أموال الناس بغير إذنهم.

و العمدة: أنّ مفاد الروايتين قضية في واقعة خاصّة مجهولة الخصوصيات، فلا مجال للاستدلال بها لحكم كلّي.

و لعلّ المراد بالصور صور الأصنام التي كانت تعبد و تقدّس في تلك الأعصار و كانت البلاد و البيوت منها ملاء.

و بالقبور قبور الأعاظم و الأشراف

التي كانت تقدّس و يلتجأ إليها لقضاء الحاجات.

و بالكلب الكلب الهراش الموذي أو الذي به داء الكلب و هو مرض يسري، بداهة عدم جواز إرادة العموم منه، و الإسلام اعتبر المالية لبعضها مثل كلب الماشية و الحائط و البستان و جعل لها دية كما قرّر في محلّه.

______________________________

(1) راجع المكاسب المحرّمة للإمام الخميني «قده» 1/ 194 (- ط. أخرى 1/ 293).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 650

و أمّا رواية عليّ بن جعفر عليه السّلام (1) فلا تدلّ إلّا على كراهة اللعب بالصورة و لا نمنعها بل و لا الحرمة إذا كان اللعب على وجه اللهو.

[الجواب عن الأمر الخامس]

______________________________

(1) هذا جواب عن الأمر الخامس، و ملخّص جوابه أنّ مفاد الرواية كراهة اللعب بالصور أو حرمته و هذا لا يستلزم حرمة الاقتناء و الانتفاعات الأخر. و مراده باللهو ما يغلب على عقل الإنسان و يشغله بالكلّية بحيث يغفل جدّا عما يجب الاهتمام به في أمر المعاش و المعاد نظير ما يصنع الخمر و آلات اللهو بعقل الإنسان و فكره و قواه.

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الرواية بما ملخّصه: «أوّلا: بأنّها ضعيفة السند.

و ثانيا: أنّ عدم الصلاحية أعمّ من الحرمة فلا يدل عليها. و ثالثا: لا ملازمة بين حرمة اللعب و حرمة الاقتناء. و رابعا: أنه من المحتمل أن يراد بالتماثيل في هذه الطائفة من الروايات الشطرنج. و الوجه في ذلك أنّ القطع التي يلعب بها في الشطرنج على ستة أصناف و كل صنف منها على صورة كالشاه و الفرزان و الفيل و الفرس و الرخّ و البيذق. و المراد بالفرزان: الملكة، و بالرخ: طائر همي كبير.

و بالبيذق: الماشي راجلا، فراجع المنجد. و يؤيّد ما ذكرناه من إرادة الشطرنج:

أنّا لا نتصور معنى لحرمة اللعب بالتصاوير المتعارفة كما هو واضح. و عليه فما دلّ على حرمة اللعب بها إنما هو من أدلّة حرمة اللعب بالشطرنج، و لا أقلّ من الاحتمال.» «1»

أقول: الرواية التي ذكرها المصنف و إن كانت ضعيفة كما مرّ لكن رواها في الوسائل «2» عن المحاسن بسند صحيح عن عليّ بن جعفر كما مرّ في ذيل نقل المصنف الرواية. هذا.

و في الوسائل أيضا عن المحاسن بسند صحيح عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن البيت فيه صورة سمكة أو طير أو شبهها يعبث به أهل البيت هل تصلح الصلاة فيه؟ فقال: «لا، حتّى يقطع رأسه منه و يفسد، و إن كان صلّى فليست

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 235، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

(2) راجع الوسائل 3/ 563، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 15. و قد مرّ في ص 642.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 651

و أمّا ما في تفسير الآية (1) فظاهره رجوع الإنكار إلى مشيّة سليمان- على نبيّنا و آله و عليه السّلام- لعملهم، بمعنى إذنه فيه أو إلى تقريره لهم في العمل.

و أمّا الصحيحة (2) فالبأس فيها محمول على الكراهة لأجل الصلاة أو مطلقا مع دلالته على جواز الاقتناء و عدم وجوب المحو.

______________________________

عليه إعادة.» «1»

و هي تدلّ على تعارف اللعب بالتماثيل في غير الشطرنج أيضا، و الراوي لها علي بن جعفر أيضا.

[الجواب عن الأمر السادس]

(1) هذا جواب عن الأمر السادس، و محصّله رجوع الإنكار إلى مشيّة سليمان لعمل الصور لا اقتناء الصّور المعمولة.

و في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «رجوع الإنكار إلى كون التصاوير المعمولة لسليمان تصاوير الرجال و النساء، فلا تدل الرواية على

مبغوضية العمل فضلا عن مبغوضية المعمول. و الوجه فيه أن عمل تصاوير الرجال و النساء و اقتناءها من الأمور اللاهية غير اللائقة بمنصب الأعاظم من العلماء فضلا عن مقام النبوة بخلاف تصاوير الشجر و شبهه فإنّها غير منافية لذلك. و قد يقال: إنّ الصانعين للتماثيل هم الجنّ و حرمته عليهم أوّل الكلام. و فيه أنّ الكلام ليس في عمل الصور بل في اقتنائها، و من الواضح أنه يعود إلى سليمان عليه السّلام.» «2»

[الجواب عن الأمر السّابع]

(2) هذا جواب عن الأمر السّابع، أعني التمسك بمفهوم صحيحة زرارة، و قد حمل المصنف البأس فيها على الكراهة و حكم بدلالتها على جواز الاقتناء.

أقول: قد مرّ في الجواب عن صحيحة محمد بن مسلم (الأمر الثاني) عن مصباح الفقاهة أن البأس ظاهر في المنع ما لم يثبت الترخيص من القرائن، و لم يبين المصنّف

______________________________

(1) نفس المصدر 3/ 463، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 12.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 236، في النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 652

و أمّا ما ورد من «أنّ عليّا عليه السّلام لم يكن يكره الحلال» (1) فمحمول على المباح المتساوي طرفاه، لأنّه عليه السّلام كان يكره المكروه قطعا.

و أمّا رواية الحلبي (2) فلا دلالة لها على الوجوب أصلا.

و لو سلّم الظهور في الجميع فهي معارضة بما هو أظهر و أكثر، مثل

______________________________

وجه دلالة الصحيحة على جواز الاقتناء. و جواز اقتناء التمثال بلا رأس أمر واضح لخروجه بتغير الرأس عن صدق تمثال الحيوان.

و الأولى أن يقال: إنّ موضوع الحكم في الصحيحة التماثيل في البيوت، و حيث إنّ البيوت ممّا يصلّى فيها غالبا فلعلّ المنع فيها- حرمة أو كراهة- كان بلحاظ الصلاة، فيكون

للبيت خصوصية، نظير المنع عن جعلها في المسجد، فلا دلالة لها على منع الاقتناء مطلقا.

[الجواب عن الأمر الثامن]

(1) رواها في الوسائل. «1» و هذا جواب عن الأمر الثامن، أعني ما دلّ على «أن عليا عليه السّلام كان يكره الصورة في البيوت.» و قد مرّ أن لفظ الكراهة في الكتاب و السنة أعم من الحرمة، و أن عليّا عليه السّلام كان يكره المكروه أيضا. و مورد الرواية البيوت و لعلّ لها خصوصية حيث يصلّى فيها غالبا فلا دلالة لها على المنع في غيرها لا حرمة و لا كراهة.

[الجواب عن الأمر التاسع]

(2) هذا جواب عن الأمر التاسع، أعني التمسك برواية الحلبي و فيها الأمر بتغيير تماثيل الطائر، و من الواضح أنّ الفعل في مورد خاصّ لا يدلّ على الوجوب، و لعله كانت الطنفسة في البيت و كان أمره بذلك بلحاظ الصلاة فيه كما يشهد بذلك صدر الرواية، هذا مضافا إلى كون الرواية مرسلة.

الأخبار الدالّة على جواز اقتناء الصور

فهذه تسعة أدلّة يمكن إقامتها على حرمة الاقتناء و قد أجبنا عنها، و لو سلّم الظهور فيها فهي معارضة بما هي أظهر و أكثر فلا بدّ من حملها على الكراهة.

______________________________

(1) راجع الوسائل 12/ 447، الباب 15 من أبواب الربا، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 653

صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ربما قمت أصلّي و بين يديّ الوسادة فيها تماثيل طير فجعلت عليها ثوبا.» (1)

و رواية علي بن جعفر عن أخيه عليهما السّلام: عن الخاتم يكون فيه نقش تماثيل طير أو سبع أ يصلّى فيه؟ قال: «لا بأس.» (2)

و عنه عن أخيه عليه السّلام: عن البيت فيه صورة سمكة أو طير يعبث به أهل البيت هل يصلّى فيه؟ قال: «لا حتى يقطع رأسه و يفسد.» (3)

و رواية أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الوسادة و البساط يكون فيه التماثيل؟ قال: «لا بأس به يكون في البيت.» قلت: التماثيل؟

قال: «كلّ شي ء يوطأ فلا بأس به.» (4)

______________________________

(1) راجع الوسائل، «1» و قد ذكرت في صدر المرسلة المتقدمة أيضا.

(2) راجع الوسائل، «2» و السند ضعيف بعبد اللّه بن الحسن المجهول حاله.

(3) راجع الوسائل، «3» مع اختلاف لما في المتن، و قد مرّ نقله في جواب الأمر الخامس.

و استدلال المصنف به لجواز الاقتناء من جهة استظهار تقرير الإمام عليه

السّلام لأصل كون الصورة في البيت و لعب أهل البيت بها و إنما حكم بقطع رأسها بلحاظ الصلاة. و الحديث مروي عن المحاسن عن موسى بن القاسم، عن علي بن جعفر، عن أخيه عليه السّلام. فالسند معتبر، و ظاهره كون الصورة مجسّمة لظهوره في وقوع اللعب و العبث بنفس الصورة لا بشي ء نقشت الصورة فيه.

(4) راجع الوسائل، «4» و في السند عثمان بن عيسى الواقفي و لكن الظاهر كونه موثوقا به.

______________________________

(1) راجع الوسائل 3/ 461، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 2.

(2) راجع نفس المصدر و الباب، ص 463، الحديث 10.

(3) راجع نفس المصدر و الباب، ص 463، الحديث 12.

(4) راجع نفس المصدر 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 654

و سياق السؤال مع عموم الجواب يأبى عن تقييد الحكم بما يجوز عمله كما لا يخفى.

و رواية أخرى لأبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل و نفترشها؟ قال: «لا بأس منها بما يبسط و يفترش و يوطأ، و إنّما يكره منها ما نصب على الحائط و على السرير.» (1)

و عن قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن رجل كان في بيته تماثيل أو في ستر و لم يعلم بها و هو يصلّي في ذلك البيت ثم علم، ما عليه؟ قال عليه السّلام: «ليس عليه فيما لم يعلم شي ء فإذا علم فلينزع الستر و ليكسر رءوس التماثيل.» (2)

______________________________

و إطلاقها سؤالا و جوابا يشمل تماثيل الحيوانات أيضا و لكن موردها غير المجسمات.

(1) راجع الوسائل، «1» و في السند علي بن أبي حمزة البطائني

من عمد الواقفة.

و لعلّ الكراهة فيما نصب على الحائط أو السّرير بلحاظ كونها في قبلة المصلّي أو في مرآه في الصلاة أو بلحاظ وجود شائبة التعظيم لها.

(2) راجع الوسائل، «2» و في السند عبد اللّه بن الحسن و هو مجهول.

و إطلاقها يشمل تماثيل الحيوانات أيضا. و الظاهر من التماثيل فيها بقرينة جعلها قسيما لما في الستر و حكمه بكسر رءوسها هو كونها مجسّمة.

و الاستدلال بها لجواز الاقتناء من جهة استظهار تقرير الامام عليه السّلام لأصل وجودها في البيت و إنما حكم بالكسر بلحاظ الصلاة في البيت كما في كلام المصنّف.

و حمل ثبوت البأس في صحيحة زرارة أيضا على ذلك.

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 12/ 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) راجع نفس المصدر 3/ 321، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 20.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 655

فإنّ ظاهره أنّ الأمر بالكسر لأجل كون البيت ممّا يصلّى فيه و لذلك لم يأمر عليه السّلام بتغيير ما على الستر و اكتفى بنزعه.

و منه يظهر أنّ ثبوت البأس في صحيحة زرارة السّابقة مع عدم تغيير الرؤوس إنما هو لأجل الصلاة.

و كيف كان فالمستفاد من جميع ما ورد من الأخبار الكثيرة في كراهة الصلاة في البيت الذي فيه التماثيل إلّا إذا غيّرت أو كانت بعين واحدة أو ألقي عليها ثوب: جواز اتخاذها، و عمومها يشمل المجسمة و غيرها. (1)

______________________________

(1) راجع الوسائل. «1»

أقول: و حيث إن مسألة اقتناء الصور و الانتفاع بها و المعاملة عليها من المسائل المبتلى بها جدّا، و أكثر ما ذكره المصنف من الروايات الضعاف فالمناسب ذكر بعض الأخبار الأخر أيضا ليطمئن القلب بالجواز:

1- صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألت أحدهما

عليه السّلام عن التماثيل في البيت فقال: «لا بأس إذا كانت عن يمينك و عن شمالك و عن خلفك أو تحت رجليك.

و إن كانت في القبلة فألق عليها ثوبا.» «2»

2- صحيحة أخرى له، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أصلّي و التماثيل قدّامي و أنا أنظر إليها؟ قال: «لا، اطرح عليها ثوبا. و لا بأس بها إذا كانت عن يمينك أو شمالك أو خلفك أو تحت رجلك أو فوق رأسك، و إن كانت في القبلة فألق عليها ثوبا و صلّ.» «3»

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 3/ 317، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي؛ و ص 461، الباب 32 من أبواب مكان المصلّي.

(2) نفس المصدر 3/ 317، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 318، الحديث 6.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 656

..........

______________________________

و الظاهر اتّحاد الروايتين و كون إحداهما أو كلتيهما نقلا بالمضمون. فالسؤال في الأولى أيضا لم يكن عن حكم اقتناء التماثيل مطلقا بل عن اقتنائها في البيت بلحاظ وقوع الصلاة فيه غالبا، و على هذا الأساس أيضا وقع الجواب حيث فصّل بين الجوانب و أمر عليه السّلام بإلقاء الثوب عليها إن كانت في القبلة. و يبعد جدّا سؤال محمد بن مسلم تارة عن حكم اقتناء التماثيل في البيت مع قطع النظر عن وقوع الصلاة فيه، و أخرى عن حكم الصلاة في محلّ يوجد فيه التماثيل، و إن أصرّ على ذلك الأستاذ الإمام «ره»، فراجع. «1» و كون المسؤول في إحداهما أبا جعفر عليه السّلام و في الأخرى أحدهما عليه السّلام لا ينافي الاتحاد كما لا يخفي.

و كيف كان فإطلاق الروايتين سؤالا و جوابا يشمل تماثيل الحيوانات أيضا مجسّمة

كانت أو غير مجسّمة. و كون ما يجعل تحت الرجل غير مجسّمة لا يدلّ على كون المراد في جميع الفقرات ذلك بعد كون طبيعة التماثيل شاملة لكلا الصنفين.

و توهّم أنّ التماثيل في عصر الأئمة عليهم السّلام كانت غير مجسّمة غالبا مدفوع، بل قرب عصرهم بعصر رواج الأصنام و شيوعها يشهد بتعارف المجسّمات أيضا.

كيف؟! و الفن و الثقافة لا يختصّان بعصر دون عصر كما يشهد بذلك تعارف صنع المجسمات و التزين بها في أعصارنا أيضا مع إفتاء الأكثر بحرمة صنعها.

فإن قلت: على ما ذكرت من اتحاد الروايتين و كون النظر في كلتيهما إلى جهة الصلاة لا دلالة لهما على جواز اقتناء التماثيل، إذ المفروض كون السؤال و الجواب فيهما ناظرين إلى حكم آخر أعني حكم الصلاة في محلّ التماثيل، فيكون وزانهما و زان ما إذا سئل الإمام عليه السّلام عن الصلاة في محلّ يوجد فيه آلات اللهو و القمار و الأصنام فأجاب الإمام عليه السّلام بصحتها، فهل ترى من نفسك

______________________________

(1) راجع المكاسب المحرمة 1/ 191 (- ط. أخرى 1/ 289).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 657

..........

______________________________

جواز الاستدلال بذلك على جواز اقتناء ما ذكر؟!

قلت: كما أنّ قول المعصوم عليه السّلام حجة شرعية فكذلك تقريره و لذا قسّموا السنة المعتبرة إلى قول المعصوم عليه السّلام و فعله و تقريره. ففي مثل هذا النحو من السؤال لو كان أصل الاقتناء محرما و وجب محوها كان على الإمام عليه السّلام الإشارة إلى ذلك و عدم تقرير السائل على ما هو ظاهر سؤاله من جواز أصل الاقتناء، فتدبّر.

3- و في المحاسن بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«لا بأس بالتماثيل أن تكون عن يمينك

و عن شمالك و خلفك و تحت رجليك، فإن كانت في القبلة فألق عليها ثوبا إذا صلّيت.» «1»

أقول: و الظاهر اتحادها مع السابقتين.

4- صحيحة رابعة لمحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «لا بأس أن تصلّي على كلّ التماثيل إذا جعلتها تحتك.» «2»

5- صحيحة خامسة له، قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الرجل يصلّي و في ثوبه دراهم فيها تماثيل؟ فقال: «لا بأس بذلك.» «3»

أقول: عموم الصحيحة الرابعة يشمل تماثيل الحيوانات أيضا و لكن موردها غير المجسمات كما هو ظاهر، و الظاهر أنّ تماثيل الدراهم المذكورة في الخامسة كانت من الإنسان أو الحيوان، و لكن يمكن أن يقال: إنّ تماثيل الدراهم لم يكن بدّ من إبقائها لكون اختيارها بيد الملوك و الحكّام، و معيشة الناس كانت متوقفة على حفظها، و قد ورد ذكرها في أخبار أخر أيضا، فراجع. «4»

______________________________

(1) المحاسن 2/ 620، الباب 5 من كتاب المرافق، الحديث 58؛ و عنه في الوسائل 3/ 463.

(2) الوسائل 3/ 319، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 10.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 9.

(4) راجع نفس المصدر و الباب، ص 318 و 319، الأحاديث 3 و 5 و 8 و 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 658

..........

______________________________

6- خبر ليث المرادي، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الوسائد تكون في البيت فيها التماثيل عن يمين أو شمال؟ فقال عليه السّلام: «لا بأس ما لم تكن تجاه القبلة، فإن كان شي ء منها بين يديك ممّا يلي القبلة فغطّه و صلّ. و إذا كانت معك دراهم سود فيها تماثيل فلا تجعلها من بين يديك و اجعلها من خلفك.» «1»

و إطلاقه سؤالا و جوابا يشمل تماثيل

الحيوان أيضا، و لكن موردها النقوش دون المجسمات.

7- ما عن المحاسن بسند صحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال:

قال له رجل: رحمك اللّه ما هذه التماثيل التي أراها في بيوتكم؟ فقال عليه السّلام: «هذا للنساء» أو «بيوت النساء.» «2»

8- خبر جعفر بن بشير عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «كانت لعليّ بن الحسين عليهما السّلام وسائد و أنماط فيها تماثيل يجلس عليها.» «3»

أقول: مفاد كل من الخبرين قضية في واقعة خاصّة، فلا إطلاق في البين، و لعلّها كانت من غير الحيوان. و السؤال في الأوّل و نقل الواقعة في الثاني كانا من جهة توهّم عدم مناسبة التزين بالتماثيل المقام الإمام المعصوم عليه السّلام.

9- خبر ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن التماثيل تكون في البساط لها عينان و أنت تصلّي؟ فقال عليه السّلام: «إن كان لها عين واحدة فلا بأس، و إن كان لها عينان فلا.» «4»

و الظاهر أنّ ما فقد عينا واحدة يصدق عليه صورة الحيوان و تمثاله.

10- ما عن قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 319، الحديث 11.

(2) نفس المصدر 3/ 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 6.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(4) نفس المصدر 3/ 318، الباب 45 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 7.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 659

..........

______________________________

أخيه عليه السّلام قال: و سألته عن الدار و الحجرة فيها التماثيل أ يصلّى فيها؟ قال: «لا تصلّي فيها و شي ء منها مستقبلك إلّا أن لا تجد بدّا فتقطع رءوسها و

إلّا فلا تصلّي.» «1»

أقول: إطلاقه سؤالا و جوابا يشمل المجسّم أيضا، بل الظاهر من قطع الرأس ذلك. و الظاهر منه جواز الإبقاء في غير جهة القبلة، و إنما تقطع رءوسها إذا كانت في جهة القبلة بلحاظ وقوع الصلاة نحوها.

11- و روى الصدوق في كتاب كمال الدين بسنده عن محمد بن جعفر الأسدي قال: كان فيما ورد عليّ من الشيخ محمد بن عثمان في جواب مسائلي إلى صاحب الزمان عليه السّلام: «و أمّا ما سألت عنه من أمر المصلّي و النار و الصورة و السراج بين يديه هل تجوز صلاته؟ فإنّ الناس اختلفوا في ذلك قبلك، فإنّه جائز لمن لم يكن من أولاد عبدة الأصنام أو عبدة النيران أن يصلّي و النار و الصورة و السراج بين يديه، و لا يجوز ذلك لمن كان من أولاد عبدة الأصنام و النيران.» «2»

و رواه في أواخر الاحتجاج و الوسائل. «3»

و دلالتها على جواز اقتناء الصورة لمن لم يكن من أولاد عبدة الأصنام و لا يرى لها حرمة و قداسة واضحة.

12- و في مرفوعة عمرو بن إبراهيم الهمداني قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لا بأس أن يصلّي الرجل و النار و السراج و الصورة بين يديه، إنّ الذي يصلّى له أقرب إليه من الذي بين يديه.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع. و إطلاق بعضها يشمل المجسّمات أيضا.

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، ص 321، الحديث 21.

(2) كمال الدين و تمام النعمة/ 521 (الجزء 2)، الباب 45، الحديث 49.

(3) راجع الاحتجاج للطبرسي 2/ 559؛ و الوسائل 3/ 460.

(4) الوسائل 3/ 460، الباب 30 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 660

[حمل الأخبار المجوزة على الكراهة]

و يؤيّد

الكراهة: الجمع بين اقتناء الصور و التماثيل في البيت و اقتناء الكلب و الإناء المجتمع فيه البول في الأخبار الكثيرة:

مثل ما روي عنهم عليهم السّلام مستفيضا عن جبرئيل عليه السّلام: «إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة إنسان، و لا بيتا يبال فيه و لا بيتا فيه كلب.» (1)

______________________________

(1) أقول: قد تحصل مما ذكرناه في مسألة الاقتناء بطولها: أنّه على فرض حرمة عمل التصوير فلا دليل على حرمة اقتناء الصور المعمولة، فإنّه موضوع آخر غير موضوع التصوير الذي هو عمل المصوّر. و نمنع التلازم العرفي بينهما في المقام، حيث إنّ المتفاهم من الأدلة كون المبغوض نفس العمل فلا يسري حكمه إلى نتيجته بقاء، و الأصل يقتضي الإباحة.

و ما توهّم دلالتها على حرمة الاقتناء من الأمور التسعة أجاب عنها المصنف.

و لو سلّم ظهورها في ذلك وجب حملها على الكراهة بقرينة أخبار كثيرة يستفاد منها الجواز إجمالا.

و نزيد هنا على ما ذكر أنه يؤيد الكراهة الجمع بين اقتناء الصور و التماثيل في البيت و بين اقتناء الكلب و إناء البول فيه في أخبار كثيرة، و في بعضها إضافة الجنب إليها، بداهة أنّ وجود الجنب أو الكلب أو إناء البول في البيوت لا يكون حراما قطعا و إن كان في كل من ذلك حزازة و كراهة. و اتحاد السياق يقتضي كون اقتناء الصور أيضا مكروها.

فمن هذه الأخبار: خبر محمد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ جبرئيل أتاني فقال: إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب و لا تمثال جسد و لا إناء يبال فيه.» «1»

و منها: موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«إنّ جبرئيل عليه السّلام قال: إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة و لا كلب، يعني صورة إنسان، و لا بيتا فيه تماثيل.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 3/ 464، الباب 33 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 465، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 2، ص: 661

و في بعض الأخبار إضافة الجنب إليها. (1) و اللّه العالم بأحكامه.

______________________________

و منها: خبر عمرو بن خالد عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «قال جبرئيل عليه السّلام:

يا رسول اللّه إنّا لا ندخل بيتا فيه صورة إنسان و لا بيتا يبال فيه و لا بيتا فيه كلب.» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال.

(1) ففي خبر يحيى الكندي، عن أبيه، عن عليّ عليه السّلام، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله (في حديث): «إنّ جبرئيل قال: إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب و لا جنب و لا تمثال لا يوطأ.» «2» هذا.

و قد مرّ منّا أنّه إذا كان اقتناء الصور و التماثيل جائزا و الانتفاع بها في مثل التعليم و التزيّن و نحو ذلك حلالا و لو بدليل الأصل صارت لذلك مالا مرغوبا فيها فصحّت المعاملة عليها على ما هو مقتضى عمومات العقود و التجارة. هذا.

و قد طال كلامنا في مسألة التصوير فأعتذر من الإخوة الكرام.

و الحمد للّه ربّ العالمين، و صلّى اللّه على خير خلقه محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

و قد وقع الفراغ في 21 رجب 1417 ه. ق، الموافق ل 13/ 9/ 1375 ه. ش.

المفتقر إلى رحمة ربّه: حسين علي المنتظري.

***

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 3.

(2) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 6.

________________________________________

نجف آبادى، حسين

على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

الجزء الثالث

[تتمة أنواع الاكتساب المحرّم]

[تتمة النوع الرابع و هو الاكتساب بما هو حرام في نفسه]

اشارة

______________________________

بسْم اللهِ الرَّحْمٰن الرَّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على اعدائهم أجمعين.

[المسألة الخامسة: التطفيف و البخس]
اشارة

المسألة الخامسة: التطفيف حرام، ذكره في القواعد في المكاسب (1) و لعلّه استطراد، أو المراد اتّخاذه كسبا بأن ينصب نفسه كيّالا أو وزّانا فيطفّف للبائع. و كيف كان فلا إشكال في حرمته.

المسألة الخامسة: التطفيف و البخس

(1) قال العلّامة في القواعد في عداد المكاسب المحرّمة: «و التطفيف حرام في الكيل و الوزن.» «1»

و حيث إنّ البحث في المكاسب و المشاغل المحرّمة فذكر التطفيف إمّا بنحو الاستطراد، أو المراد صورة اتّخاذه كسبا و شغلا رسميّا كما في المتن. و كيف كان فالمناسب ذكر بعض كلمات أهل اللغة:

______________________________

(1) القواعد للعلّامة 1/ 121؛ جامع المقاصد 4/ 35.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 8

[بعض كلمات أهل اللغة]

______________________________

1- قال الراغب في المفردات: «الطفيف: الشي ء النزر، و منه الطفافة لما لا يعتدّ به. و طفّف الكيل: قلّل نصيب المكيل له في إيفائه و استيفائه.» «1»

2- و فيه أيضا: «البخس: نقص الشي ء على سبيل الظلم ... و البخس و الباخس: الشي ء الطفيف الناقص.» «2»

3- و في الصحاح: «الطفيف: القليل ... و التطفيف: نقص المكيال.» «3»

4- و فيه أيضا: «البخس: الناقص يقال: شروه بثمن بخس. و قد بخسه حقّه يبخسه: إذا نقصه.» «4»

5- و في لسان العرب: «الجوهرى: الطفاف و الطفافة بالضمّ: ما فوق المكيال ... و قيل: طفاف الإناء: أعلاه. و التطفيف: أن يؤخذ أعلاه و لا يتمّ كيله ... و التطفيف في المكيال: أن يقرب الإناء من الامتلاء. يقال: هذا طفّ المكيال و- طفافه و طفافه ... و طفّف على الرجل: إذا أعطاه أقلّ ممّا أخذ منه. و التطفيف: البخس في الكيل و الوزن و نقص المكيال، و هو أن لا تملأه إلى إصباره ...

فأمّا قوله- تعالى-: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. فقيل: التطفيف: نقص يخون

به صاحبه في كيل أو وزن. و قد يكون النقص ليرجع إلى مقدار الحقّ فلا يسمّى تطفيفا، و لا يسمّى بالشي ء اليسير مطفّفا على إطلاق الصفة حتّى يصير إلى حال يتفاحش.

______________________________

(1) مفردات الراغب/ 314 (ط. أخرى/ 521).

(2) نفس المصدر/ 35 (ط. أخرى/ 110).

(3) الصحاح 4/ 1395.

(4) نفس المصدر 3/ 907.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 9

..........

______________________________

قال أبو إسحاق: المطفّفون: الذين ينقصون المكيال و الميزان. قال: و إنما قيل للفاعل: مطفّف، لأنّه لا يكاد يسرق في المكيال و الميزان إلّا الشي ء الخفيف الطفيف. و إنّما أخذ من طفّ الشي ء و هو جانبه ...» «1»

6- و فيه أيضا: «البخس: النقص، بخسه يبخسه بخسا: إذا نقصه.» «2»

أقول: إن كان لفظ التطفيف مأخوذا من الطفيف بمعنى القليل كان معناه جعل الشي ء قليلا أو أخذ القليل منه مطلقا، و إنّما استعمل في نقص المكيال أو الميزان من جهة كونهما أظهر المصاديق و أشيعها، و على هذا فيشمل اللفظ النقص بالعدّ و الذرع و نحوهما أيضا. و كذا إن فسّر بالإعطاء أقلّ ممّا أخذ، أو أخذ من الطفّ بمعنى الجانب، إذ يراد به حينئذ: الأخذ من طرف الشي ء أيّ شي ء كان. و إمّا إن أخذ من طفاف الإناء بمعنى أعلاه فالمراد به الأخذ من أعلى الكيل فيكون إطلاقه على غيره بنحو من التوسعة و المسامحة.

و كيف كان فملاك الحرمة موجود في الجميع قطعا كما هو واضح. مضافا إلى أنّ لفظ البخس يشمل الجميع و هو بنفسه منهي عنه في الكتاب و السنّة كما سيأتي.

و أمّا ما في اللسان من أنّه لا يسمّى بالشي ء اليسير مطفّفا حتى يصير إلى حال يتفاحش فلا دليل عليه، بل يردّه ما حكاه عن أبي إسحاق

كما لا يخفى.

7- و في تفسير سورة المطفّفين من التبيان: «المطفّف: المقلّل حقّ صاحبه بنقصانه عن الحقّ في كيل أو وزن. و الطفيف: النزر القليل. و هو مأخوذ من طفّ الشي ء و هو جانبه. و التطفيف: التنقيص على وجه الخيانة في الكيل أو

______________________________

(1) لسان العرب 9/ 221 و 222.

(2) نفس المصدر 6/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 10

[أدلّة حرمة التطفيف]
اشارة

و يدلّ عليه الأدلّة الأربعة. (1) ثمّ إنّ البخس في العدّ و الذرع يلحق به حكما و إن خرج عن موضوعه.

______________________________

الوزن.» «1» هذا.

و المذكور في أدلّة المسألة من الآيات و الروايات عناوين التطفيف و البخس و النقص و الإخسار و نحو ذلك كما يأتي.

أدلّة حرمة التطفيف

[من الكتاب آيات]

(1) فمن الكتاب العزيز آيات كثيرة:

1- قوله- تعالى- في سورة المطفّفين: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَى النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَ لٰا يَظُنُّ أُولٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. «2»

2- و في سورة الرحمن: ... وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ* أَلّٰا تَطْغَوْا فِي الْمِيزٰانِ* وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تُخْسِرُوا الْمِيزٰانَ. «3»

3- و في سورة الشعراء- نقلا عن شعيب النبيّ عليه السّلام: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لٰا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَ زِنُوا بِالْقِسْطٰاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ «4»

4- و في سورة هود- نقلا عن شعيب عليه السّلام-: وَ لٰا تَنْقُصُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ إِنِّي أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ ... وَ يٰا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ

______________________________

(1) التبيان 10/ 295.

(2) سورة المطفّفين (83)، الآيات 1- 5.

(3) سورة الرحمن (55)، الآيات 7- 9.

(4) سورة الشعراء (26)، الآيات 181- 183.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 11

..........

______________________________

أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.* «1» إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

و من السنّة أخبار كثيرة

غاية الكثرة تبلغ حدّ التواتر إجمالا نذكر بعضها:

1- خبر محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه لمّا أذن لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الخروج من مكّة إلى المدينة أنزل عليه الحدود ... و أنزل في الكيل: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» و لم يجعل الويل لأحد حتّى يسمّيه كافرا قال اللّه- تعالى-: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. «2»

2- خبر صفوان بن مهران الجمّال قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ فيكم خصلتين هلك بهما من قبلكم من الأمم. قالوا: و ما هما يا بن رسول اللّه؟ قال:

المكيال

و الميزان.» «3»

3- خبر أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: وجدنا في كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة. و إذا طفّف الميزان و المكيال أخذهم اللّه بالسنين و النقص.» «4»

4- خبر الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون في عداد الكبائر: «و البخس في المكيال و الميزان.» «5»

______________________________

(1) سورة هود (11)، الآيتان 84 و 85.

(2) الوسائل 1/ 23، كتاب الطهارة، الباب 2 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 14.

(3) الوسائل 12/ 291، كتاب التجارة، الباب 7 من أبواب آداب التجارة، الحديث 7.

(4) الوسائل 11/ 513، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الباب 41 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(5) الوسائل 11/ 260، كتاب الجهاد، الباب 46 من أبواب جهاد النفس ...، الحديث 33.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 12

..........

______________________________

5- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس قال: لمّا قدم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل اللّه- عزّ و جلّ-: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك.» «1» إلى غير ذلك من الأخبار من طرق الفريقين.

و أمّا الإجماع

فوجوده إجمالا ممّا لا إشكال فيه و لكن يمكن أن يقال: إن أريد به الإجماع التحقيقي أمكن منع ذلك إذ هو فرع عنوان المسألة في كتب القدماء من أصحابنا بحيث يحدس به حدسا قطعيّا تلقّيهم المسألة عن المعصومين عليهم السّلام و الظاهر عدم عنوان المسألة في كثير من الكتب. و لو سلّم فليس إجماعا تعبديّا و دليلا مستقلا في المقام، إذ من المظنون جدّا كون مدرك المفتين الآيات و الروايات الواردة في

المسألة.

و إن أريد به الإجماع التقديري بمعنى أنّ المسألة بحدّ من الوضوح يعلم بذلك إفتاء الجميع بالحرمة لو سئلوا عنها فيرد عليه أنّ التقدير على فرض تحقّقه لا يدلّ على تلقي المسألة عن المعصومين عليهم السّلام لما مرّ من أنّ المظنون كونه مدركيّا.

و أمّا العقل

فلكون التطفيف بالمعنى الأعمّ ظلما في حقّ الغير و الظلم قبيح بحكم العقل، و ما حكم به العقل حكم به الشرع. هذا و مع ذلك كلّه يظهر من المحقّق الإيرواني «ره» المناقشة في المسألة قال في الحاشية ما هذا لفظه:

«اعلم أنّ الظاهر بل المقطوع به أنّ التطفيف بنفسه ليس عنوانا من العناوين المحرّمة أعني الكيل بالمكيال الناقص و كذا البخس في الميزان مع وفاء الحقّ كاملا كما إذا كان ذلك لنفسه أو تمّم حق المشتري من الخارج أو أراد المقاصّة منه أو نحو ذلك، كما أنّ إعطاء الناقص أيضا ليس حراما بل قد يتّصف بالوجوب، و إنّما

______________________________

(1) سنن البيهقي 6/ 32، كتاب البيوع، باب ترك التطفيف في الكيل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 13

و لو وازن الربوي بجنسه فطفّف في أحدهما (1) فإن جرت المعاوضة على الوزن المعلوم الكلّي فيدفع الموزون على أنّه بذلك الوزن، اشتغلت ذمّته بما نقص.

______________________________

المحرّم عدم دفع بقيّة الحقّ إذا لم يكن الحقّ مؤجّلا و إلّا لم يكن ذلك أيضا بمحرّم بل يكون التعجيل فيما أعطاه تفضّلا و إحسانا.

نعم إن أظهر و لو بفعله أنّ ما دفعه تمام الحقّ مع أنّه ليس بتمام الحقّ كان محرّما من حيث الكذب و إن لم يظهر لم يحرم من هذا الحيث أيضا.» «1»

و أجاب عن ذلك في مصباح الفقاهة بقوله: «إنّ التطفيف قد أخذ فيه عدم الوفاء بالحقّ. و

البخس هو نقص الشي ء على سبيل الظلم، و هما بنفسهما من المحرّمات الشرعيّة و العقليّة. على أنّه قد ثبت الذمّ في الآية الشريفة على نفس عنوان التطفيف، فإنّ الويل كلمة موضوعة للوعيد و التهديد و يقال لمن وقع في هلاك و عقاب. و كذلك نهى في الآيات المتعدّدة عن البخس كما عرفت آنفا.

و ظاهر ذلك كون التطفيف و البخس بنفسهما من المحرّمات الإلهيّة.» «2»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره. و أمّا ما ذكره المحقّق المذكور من جواز البخس إذا أراد المقاصّة فلا يخفى أنّه من باب تزاحم الحقّين و تغليب حقّ من ظلم في حقّه.

هل تكون المعاملة المطفّف فيها صحيحة أو فاسدة؟

(1) بعد ما ثبت حرمة عمل التطفيف يقع الكلام تارة في حكم الأجرة عليه، و أخرى في حكم المعاملة المطفّف فيها: فنقول: أمّا الأجرة فحرام قطعا لبطلان

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 22.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 243.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 14

و إن جرت على الموزون المعيّن باعتقاد المشتري أنّه بذلك الوزن فسدت المعاوضة في الجميع للزوم الربا.

و لو جرت عليه على أنّه بذلك الوزن بجعل ذلك عنوانا للعوض فحصل الاختلاف بين العنوان و المشار إليه لم يبعد الصحّة. و يمكن ابتناؤه على أنّ لاشتراط المقدار مع تخلّفه قسطا من العوض أم لا، فعلى الأوّل يصحّ دون الثاني.

______________________________

الإجارة على العمل المحرّم.

و أمّا حكم المعاملة فلا يخفى أنّ العوضين إمّا أن يكونا من جنس واحد فيتطرّق فيهما الربا مع التفاوت و إمّا أن لا يكونا كذلك. و المصنّف تعرّض لخصوص القسم الأوّل فقسّمه إلى ثلاث صور.

و محصّل كلامه أنّ المبيع في الصورة الأولى هو الوزن الكلّي و المفروض مساواته لوزن الثمن فالمعاملة صحيحة بلا إشكال، غاية الأمر أنّ ذمّة المطفّف

مشغولة بما نقص.

و المبيع في الصورة الثانية الموزون المعيّن الخارجي، و المفروض كونه أنقص من الثمن فتفسد المعاملة في الجميع، للزوم الربا. و اعتقاد المشتري مساواته للثمن لا يصحّحها، إذ الملاك مصبّ المعاملة لا اعتقاد المشتري.

و في الصورة الثالثة المبيع هو الموزون الخارجي بعنوان أنّه بوزن خاصّ فحصل الاختلاف بين العنوان و المشار إليه الخارجي، فيمكن القول فيها بالصحّة، إذ المعاملة وقعت على العنوان و المفروض مساواته للثمن، فحكمها حكم الصورة الأولى.

و يمكن أن يقال: إنّ المعاملة وقعت على الخارج، و الوزن الخاصّ بمنزلة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 15

..........

______________________________

الشرط، فإن قلنا بأنّ للشرط مطلقا أو لشرط المقدار قسطا من الثمن صحّت المعاملة و ثبت خيار تخلّف الشرط. و إن قلنا بأنّ جميع الثمن في مقابل الذات بطلت للزوم الربا. هذا ما ذكره المصنّف في المقام.

و لكن المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية تعرّض للمسألة بنحو أعمّ من أن يكون العوضان من جنس واحد أم لا. و محصّل ما ذكره صحّة المعاملة في الصورة الأولى أعني فيما إذا وقعت المعاملة على الكلّي مطلقا سواء كان العوضان من جنس واحد أو من جنسين، غاية الأمر اشتغال ذمّة المطفّف بما نقص. و فصّل في الصورة الثانية بين كون العوضين من جنس واحد و عدمه ففي الأوّل تبطل المعاملة للزوم الربا و في الثاني تصحّ، غاية الأمر خيار المشتري سواء ذكر الوزن بنحو الاشتراط في العقد أو وقع العقد مبنيّا عليه. و حكم في الصورة الثالثة ببطلان المعاملة مطلقا، ربوية كانت أم لا، قال ما ملخّصه:

«فإنّ المبيع العنوان المتحقّق في هذا المشاهد، و لا عنوان متحقّق في هذا المشاهد، و ليس المبيع هذا المشاهد بأيّ عنوان كان

و لا العنوان في أيّ مصداق كان، إذ لا وجه لإلغاء الإشارة أو الوصف بل اللازم الأخذ بكليهما. و هذا الحكم سيّال في كلّ مشاهد بيع تحت عنوان من العناوين كما إذا بيع هذا الذهب فظهر أنّه مذهّب أو هذا البغل فظهر أنّه حمار أو هذه الجارية فظهر أنّه عبد.

و ربّما يفرّق بين الأوصاف الذاتيّة و العرضيّة فيحكم بالصحّة مع الخيار في الثاني كما إذا باع هذا الروميّ فبان أنّه زنجيّ، أو هذا الكاتب فبان أنّه أمي. و كأنّه لاستظهار الشرطيّة في الأوصاف العرضيّة، و ليكن المقام من ذلك، و المسألة مشكلة فإنّ الظاهر دخل العنوان و إن كان عرضيّا.» «1» انتهى.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 16

..........

______________________________

و ناقشه في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «لا وجه للبطلان إذا تخلّف العنوان فإنّه ليس من العناوين المقوّمة للصورة النوعيّة، بل إمّا أن يكون مأخوذا على نحو الشرطيّة أو على نحو الجزئيّة.

و لا يقاس ذلك بتخلّف العناوين التي تعدّ من الصور النوعيّة عند العرف كما إذا باع صندوقا فظهر أنّه طبل أو ذهبا فظهر أنّه مذهّب أو بغلا فظهر أنّه حمار فإنّ البطلان في أمثالها ليس من جهة انفكاك العنوان عن الإشارة بل من جهة عدم وجود المبيع أصلا.

و ربّما يقال: إنّ المورد من صغريات تعارض الإشارة و العنوان.

و فيه: أنّ الكبرى و إن كانت مذكورة في كتب الشيعة و السنّة إلّا أنّها لا تنطبق على ما نحن فيه فإنّ البيع من الأمور القصديّة فلا معنى لتردّد المتبايعين فيما قصداه. نعم قد يقع التردّد منهما في مقام الإثبات من جهة اشتباه ما هو المقصود بالذات.

و الذي ينبغي أن يقال: إنّ الصور في

المقام ثلاث:

الأولى: أن يكون إنشاء البيع معلقا على كون المبيع بوزن خاصّ. و هذا لا إشكال في بطلانه لا من جهة التطفيف و لا من جهة تخلّف الوصف، بل لقيام الإجماع على بطلان التعليق في الإنشاء.

الثانية: أن ينشأ البيع منجّزا على المتاع الخارجي بشرط كونه كذا مقدارا ثمّ ظهر الخلاف. و هذا لا إشكال في صحّته فإنّ تخلّف الأوصاف غير المقوّمة لا يوجب بطلان المعاملة غاية الأمر أنّه يوجب خيار المشتري.

الثالثة: أن يكون مقصود البائع بيع الموجود الخارجي فقط و كان غرضه من الاشتراط الإشارة إلى تعيين مقدار العوضين و وقوع كلّ منهما في مقابل الآخر

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 17

..........

______________________________

بحيث يقسّط الثمن على أجزاء المثمن. و عليه فإذا ظهر الخلاف صحّ البيع في المقدار الموجود و بطل في غيره نظير بيع ما يملك و ما لا يملك كالخنزير مع الشاة، و الظاهر هي الصورة الأخيرة فإنّ مقصود البائع من الاشتراط المذكور ليس إلّا بيان مقدار المبيع. هذا كلّه إذا لم يكن البيع ربويّا، و أمّا إذا كان ربويّا فإن كان من قبيل الصورة الأولى بطل البيع للتعليق مع قطع النظر عن التخلّف و كون المعاملة ربويّة. و إن كان من قبيل الصورة الثانية بطل البيع لكونه ربويّا مع قطع النظر عن تخلّف الشرط. و إن كان من قبيل الصورة الثالثة قسّط الثمن على الأجزاء و صحّ في المقدار الموجود و بطل في غيره.» «1» انتهى.

أقول: ما ذكره المصنّف أخيرا من أنّ لاشتراط المقدار قسطا من العوض إن أريد به أن يكون للشرط مطلقا قسط منه فهو مخالف لما تسالم الأصحاب عليه من وقوع الثمن بتمامه في قبال الذات و إن أوجب

الشرط زيادة الرغبة فيها. و إن أريد به أنّ شرط المقدار يخالف سائر الشروط، لرجوعه إلى جعل الثمن في قبال أجزاء المثمن و تقسيطه عليها و رجوع تخلّفه إلى تخلّف الجزء فالظاهر صحّة ذلك، لأنّه المتفاهم منه عند العرف. و قد استظهر ذلك في مصباح الفقاهة أيضا كما مرّ في كلامه. و إن شئت تفصيل المسألة من المصنّف فراجع المسألة السّابعة من مسائل شرط الفعل من باب الشروط. «2»

و مثّل المصنّف هناك لذلك بما إذا باع أرضا على أنّها جربان معيّنة أو صبرة على أنّها أصوع معينة فظهر خلاف ذلك. و بذلك يظهر المناقشة فيما ذكره الإيرواني «ره» من أنّ الظاهر دخل العنوان و إن كان عرضيّا فتأمّل.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 244.

(2) راجع كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري/ 286.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 18

..........

______________________________

و الحاصل: أنّ الشرط على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون من العناوين المقوّمة الذاتيّة و الصورة النوعيّة فإن تخلّف بطلت المعاملة، لفقدان موضوعها و إن فرض التعبير عنه بلفظ الشرط مثل أن يقول: بعتك هذا على أن يكون ذهبا فظهر أنّه فضّة مثلا.

الثاني: أن يكون من قبيل الكلّ ذي الأجزاء بحيث يقسط الثمن عليها عرفا، فإن تخلّف صحّت المعاملة بالنسبة إلى ما وجد منها و قسّط الثمن نظير بيع ما يملك و ما لا يملك. نعم يكون للمشتري خيار تبعّض الصّفقة.

الثالث: أن يكون من قبيل الحالات العرضيّة ككتابة العبد مثلا فإن تخلّفت صحّت المعاملة و وقع تمام الثمن بإزاء الذات و إن كان للمشتري خيار تخلّف الشرط، و الظاهر أنّ العنوان المشتمل عليها أيضا بمنزلة الشرط عند العرف.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ العرف يفرّق بين الحالات العرضيّة و ربّما تكون الحالة العرضيّة

ركنا عند المتعاملين و تكون هي المقصودة للمشتري دون أصل الذات فوقوع تمام الثمن بإزاء نفس الذات تحميل على المشتري بأمر لم يقصده و العقود تابعة للقصود. و ماهية العقود و حدودها و شرائطها تؤخذ من العرف ما لم يرد من الشرع خلافها، و التفصيل موكول إلى باب الشروط.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 19

[المسألة السادسة: التنجيم]
اشارة

المسألة السادسة: التنجيم حرام و هو كما في جامع المقاصد: الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكيّة و الاتّصالات الكوكبيّة. (1)

______________________________

المسألة السادسة: التنجيم

(1) أقول: لم يفسّر المصنّف بنفسه التنجيم و انّما ذكر صدر كلام جامع المقاصد، و ليس فيما ذكر اسم من تأثير أوضاع النجوم في الحوادث إلّا أن يقال:

إنّ التعبير بالأحكام يشعر بنحو من التأثير و المدخليّة، و كيف كان فلنذكر بعض الكلمات لزيادة البصيرة في المسألة و إن تعرّض المصنّف لبعضها:

نقل بعض الكلمات في المسألة و بيان تمايزه من الهيئة
اشارة

1- قال العلّامة في القواعد: «و التنجيم حرام، و كذا تعلّم النجوم مع اعتقاد تأثيرها بالاستقلال أو لها مدخل فيه [و أنّ لها مدخلا فيه. خ]» «1»

أقول: سيأتي أنّ للشمس و القمر و النجوم بأنوارها نحو مدخليّة طبيعيّة في بعض حوادث الأرض فليس الاعتقاد بكلّ مدخليّة حراما. و ليعلم أنّ هنا علمين

______________________________

(1) القواعد للعلّامة 1/ 121، كتاب المتاجر؛ جامع المقاصد 4/ 31.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 20

..........

______________________________

مرتبطين بالنجوم و الأفلاك.

الأول: علم الهيئة، و هو علم يبحث فيه عن نظام العالم العلوي و حركات النجوم و أوضاعها بقياس بعضها إلى بعض: من الطلوع و الغروب و المدار و القرب و البعد و الاقتران و الكسوف و الخسوف و الاحتراق و الارتفاع و الحضيض و نحو ذلك.

الثاني: علم النجوم، و هو علم يبحث فيه عن ارتباط حوادث الكون و العالم السفلي بأوضاع النجوم و كيفيّة تأثيرها فيها كارتباط المواليد و الأعمار و الوفيات و الرخص و الغلاء و السعد و النحس و القتال و الصلح و نحو ذلك من حوادث الكون بأوضاع النجوم و حالاتها.

و لا يخفى أنّ علم الهيئة بذاته علم شريف يوجب الاطلاع عليه زيادة معرفة بالنسبة إلى الحقّ-

تعالى- و صفاته و أفعاله. و إنّما البحث في المقام في علم النجوم.

2- و ذيّل كلام القواعد في جامع القاصد بقوله: «و المراد من التنجيم:

الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكيّة و الاتّصالات الكوكبيّة التي مرجعها إلى القياس و التخمين؛ فإنّ كون الحركة المعيّنة و الاتصال المعيّن سببا لوجود ذلك (كذا. خ) إنّما يرجع المنجّمون فيه إلى مشاهدتهم وجود مثله عند وجود مثلهما، و ذلك لا يوجب العلم بسببيتهما له، لجواز وجود أمور أخرى لها مدخل في سببيّته لم تحصل الإحاطة بها ... إذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ التنجيم- مع اعتقاد أن للنجوم تأثيرا في الموجودات السفليّة و لو على جهة المدخليّة- حرام و كذا تعلّم النجوم على هذا الوجه، بل هذا الاعتقاد كفر في نفسه، نعوذ باللّه منه.

أمّا التنجيم لا على هذا الوجه مع التحرّز من الكذب فإنّه جائز، فقد ثبت كراهة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 21

..........

______________________________

التزوّج و سفر الحج و القمر في العقرب و نحو ذلك من هذا القبيل.» «1»

أقول: في كلامه نحو مسامحة فإنّ التنجيم نفس استنباط أحكام النجوم لا الإخبار بها، إلّا أن يريد بيان موضوع الحرمة و أنّ المحرّم هو ترتيب الآثار عليه و الإخبار به بنحو الجزم لا نفس الاستنباط، و لكنّه في أثناء كلامه حمل الحرمة على نفس التنجيم مع اعتقاد تأثير النجوم.

ثمّ إنّه يرد عليه أمران آخران:

الأوّل: أنّه حكم بكفر اعتقاد المدخليّة أيضا. و هو بإطلاقه ممنوع كما مرّ في المناقشة على القواعد.

الثاني: أنّ الحكم بكون القمر في العقرب مربوط بعلم الهيئة لا النجوم، و كراهة التزوّج و السفر حينئذ من أحكام الشارع لا المنجّم.

3- و في مكاسب الدروس: «و يحرم اعتقاد تأثير النجوم

مستقلّة أو بالشركة و الإخبار عن الكائنات بسببها. أمّا لو أخبر بجريان العادة أنّ اللّه يفعل كذا عند كذا لم يحرم و إن كره، على أنّ العادة فيها لا تطرّد إلّا فيما قلّ. أمّا علم النجوم فقد حرّمه بعض الأصحاب، و لعلّه لما فيه من التعرّض للمحظور و اعتقاد التأثير أو لأنّ أحكامه تخمينيّة. و أمّا علم هيئة الأفلاك فليس حراما، بل ربّما كان مستحبّا لما فيه من الاطلاع على حكم اللّه- تعالى- و عظم قدرته.» «2»

4- و قال في القواعد و الفوائد: «كلّ من اعتقد في الكواكب أنّها مدبّرة لهذا العالم و موجدة ما فيه فلا ريب أنّه كافر. و إن اعتقد أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها و اللّه سبحانه هو المؤثّر الأعظم- كما يقوله أهل العدل- فهو مخطئ، إذ لا حياة

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 31، كتاب المتاجر، أقسام المتاجر.

(2) الدروس للشهيد/ 327.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 22

..........

______________________________

لهذه الكواكب ثابتة بدليل عقليّ و لا نقليّ. و بعض الأشعريّة يكفّرون هذا كما يكفّرون الأوّل ... أمّا ما يقال: بأنّ استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النار و غيرها من العاديّات بمعنى أنّ اللّه- تعالى- أجرى عادته أنّها إذا كانت على شكل مخصوص أو وضع مخصوص تفعل ما ينسب إليها و يكون ربط المسبّبات بها كربط مسبّبات الأدوية و الأغذية بها مجازا باعتبار الربط العادي لا الفعل الحقيقي، فهذا لا يكفر معتقده و لكنّه مخطئ أيضا و إن كان أقلّ خطأ من الأوّل، لأنّ وقوع هذه الآثار عندها ليس بدائم و لا أكثريّ.» «1»

أقول: ظاهر كلامه أنّ ارتباط حوادث الأرض بالكواكب يجري فيه ثلاثة احتمالات:

[الاحتمالات في ارتباط حوادث الأرض بالكواكب في كلام الشهيد]
الأوّل: أن تكون الكواكب موجدة و مدبرة لها

مختارة في فاعليّتها عاقلة شاعرة بأفعالها مع إنكار

الحقّ تعالى من رأس. و كفر هذا ممّا لا إشكال فيه.

الثاني: هذا الفرض أيضا مع عدم إنكار الحقّ- تعالى

- بل هو المؤثّر الأعظم، إمّا بأن يكون خلق الكواكب ثمّ فوّض إليها خلق ما في الأرض و تدبيرها بنحو صار نفسه منعزلا عن الفاعليّة بالكلّية، أو بأن تكون الكواكب و الحوادث الأرضيّة المرتبطة بها بمراتبها متقوّمة بإرادته و مشيّته حدوثا و بقاء، غاية الأمر أنّ الكواكب وسائط فيضه- تعالى- كما أنّ الإنسان فاعل مختار تستند أفعاله إليه حقيقة و مع ذلك يكون هو بذاته و مشيّته و أفعاله مسخّرة دائما تحت مشيّة اللّه- تعالى-.

و مرجع الشقّ الأوّل إلى التفويض الذي يقول به المعتزلة في جميع نظام الوجود. و مرجع الشقّ الثاني إلى الأمر بين الأمرين المرويّ عن أهل البيت عليهم السّلام.

و كلام المعتزلة يؤول إلى الشرك في الفاعليّة كما لا يخفى، و لذلك كفّرهم بعض

______________________________

(1) القواعد و الفوائد 2/ 35.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 23

..........

______________________________

الأشعريّة و أراد الشهيد بأهل العدل المعتزلة أو المعتزلة و الإماميّة معا فإنّهما قائلان بالحسن و القبح و عدالة اللّه- تعالى- في قبال الأشاعرة. و ظاهر كثير من الفلاسفة الموحّدين اختيار الشقّ الثاني من الاحتمال الثاني، فتكون الكواكب و النظام العلويّ عندهم ذوات عقول و نفوس درّاكة فاعلة بالاختيار مؤثّرة في العالم السفليّ و إن كان الكلّ مسخّرة تحت مشيّة الحقّ- تعالى- و هذه العقيدة موروثة من حكماء يونان و الفرس كما لا يخفى على من تتبّع كتبهم. و لا يصحّ إطلاق الكفر عليها إلّا أن يثبت بالضرورة من الدين خلافها بحيث يرجع الاعتقاد بها إلى إنكار بعض ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الراجع إلى إنكار بعض النبوّة.

الثالث: أن يكون استناد حوادث الأرض إليها من قبيل استناد آثار العلل الماديّة إلى عللها

نظير استناد الإحراق إلى النار و الإضاءة إلى الشمس، إمّا بنحو العليّة التامّة

أو بنحو الاقتضاء فقط بحيث يمكن أن يمنع من تأثيرها بعض الموانع و لو مثل الصدقة أو الدعاء أو نحوهما. و لا يخفى أنّ في تعبير الشهيد «ره» عن هذا الاحتمال بالربط العادي لا الفعل الحقيقي نحو مسامحة، إذا الآثار في عالم الطبيعة آثار لنفس الطبائع و هي علل لها موجبة أو مقتضية في طول إرادة اللّه و مشيّته، و اللّه- تعالى- علّة العلل و مسبّب الأسباب حيث إنّ نظام الوجود من الصدر إلى الذيل نظام الأسباب و المسبّبات و لكنّ اللّه- تعالى- من ورائها محيط، فهي بمراتبها تعلّقي الذات به- تعالى- حدوثا و بقاء و ليس إسناد الآثار إلى عللها الطبيعيّة إسنادا مجازيّا. و التعبير بأنّ اللّه- تعالى- فاعل لهذه الآثار حقيقة جرت عادته على إيجادها عند وجود هذه الطبائع يناسب اعتقاد الأشاعرة المنكرين لفاعليّة غير الحقّ- تعالى- إلّا أن يكون مراد الشهيد بيان عقيدة الأشاعرة في المسألة. و الاعتقاد بالاحتمال الثالث ليس كفرا كما صرّح به الشهيد. بل تأثير

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 24

..........

______________________________

الأجرام العلويّة في الحوادث السفليّة بنحو من التأثير إجمالا ممّا لا ينكر نظير تأثير قرب الشمس من خطّ الاستواء و بعدها عنه في اختلاف الفصول و تأثيرها في تكوّن السحاب و الأمطار و تأثير نورها في نموّ الأشجار و النباتات و سلامة الإنسان و الحيوان و غير ذلك ممّا حرّر في محلّه.

نعم كون جميع الحوادث الأرضيّة من آثار أوضاع الكواكب و حالاتها ممّا لا دليل عليه.

و بالجملة ظاهر كلام الشهيد أنّ المحتمل في ارتباط الحوادث بأوضاع الكواكب ثلاثة، و لكنّ الظاهر أنّ

هنا احتمالات أخر:
الأوّل: أن يعتقد كونها شريكة للّه- تعالى- في الفاعليّة

في عرض واحد إمّا بأن يشتركا في جميع الأفعال، أو بأن ينتسب بعضها إليها

نظير ما عن الثنويّة من نسبة الخيرات إلى: «يزدان» و الشرور إلى: «أهرمن»، و قد مرّ أنّ قول المعتزلة بالتفويض يرجع إلى ذلك.

الثاني: أن يعتقد كون النجوم ذوات أرواح شريفة مقدّسة

من دون أن تكون موجدة للحوادث و لكن يستشفع بها إلى اللّه- تعالى- في قضاء الحاجات كما يستشفع بالأنبياء و الائمّة عليهم السّلام.

الثالث: أن يعتقد الموافاة الوجوديّة بين حوادث الأرض و بين أوضاع الكواكب و حالاتها

من دون تأثير منها فيها فتكون أوضاع الكواكب علائم على حوادث الأرض و كواشف عنها و إن كان وجودها بمشيّة اللّه- تعالى- و قدرته و هذا المعنى هو المدّعى للأشاعرة في جميع الأسباب و المسبّبات و منها أفعال الإنسان حيث يعتقدون أن لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه- تعالى-.

و لا يخفى أنّ الاحتمال الأوّل شرك و كفر. و الثاني جزاف لا دليل عليه. و

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 25

..........

______________________________

الثالث على فرض ثبوته إجمالا لم يثبت كليّته. هذا.

5- و قال العلّامة في المنتهى: «التنجيم حرام، و كذا تعلّم النجوم مع اعتقاد أنّها مؤثّرة أو أنّ لها مدخلا في التأثير بالنفع و الضّرر. و بالجملة من يعتقد ربط الحركات النفسانيّة و الطبيعيّة بالحركات الفلكيّة و الاتّصالات الكوكبيّة كافر، و أخذ الأجرة على ذلك حرام. أمّا من يتعلّم النجوم ليعرف قدر سير الكواكب و بعدها و أحوالها من الربيع و الخريف و غيرهما فإنّه لا بأس به.» «1»

أقول: قد ظهر بما ذكرناه أنّ مطلق الاعتقاد بربط الحوادث الكونيّة بالحركات الفلكيّة لا يوجب الكفر، و إنّما يوجبه ما يرجع إلى إنكار اللّه- تعالى- أو توحيده أو رسوله أو ضروريّ من ضروريّات الدين بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار النبوّة و لو ببعضها.

6- و علم الهدى السيّد المرتضى «ره» تعرّض لمسألة التنجيم في الغرر و الدرر و ادّعى إجماع المسلمين على تكذيب المنجّمين و الشهادة بفساد مذاهبهم و بطلان أحكامهم. و قد حكى كلامه في البحار و رسائل الشريف المرتضى المطبوع أخيرا «2» و حيث

إنّ المصنّف في المتن يذكر ما هو المهمّ من كلامه- كما يأتي- لا نرى حاجة إلى نقله هنا.

7- و في البحار عن الشيخ البهائي «ره» ما ملخّصه: «ما يدّعيه المنجّمون من ارتباط بعض الحوادث السفليّة بالأجرام العلويّة، إن زعموا أنّ تلك الأجرام هي العلّة المؤثّرة في تلك الحوادث بالاستقلال أو أنّها شريكة في التأثير فهذا لا يحلّ للمسلم اعتقاده. و علم النجوم المبتنى على هذا كفر، و على هذا حمل ما ورد

______________________________

(1) منتهى المطلب 2/ 1014.

(2) بحار الأنوار 55/ 281 (ط. بيروت)؛ رسائل الشريف المرتضى 2/ 301.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 26

..........

______________________________

من التحذير عن علم النجوم، و إن قالوا: إنّ اتصالات تلك الأجرام و ما يعرض لها من الأوضاع علامات على بعض حوادث هذا العالم ممّا يوجده اللّه- سبحانه- بقدرته و إرادته، كما أنّ حركات النبض و اختلافات أوضاعه يستدلّ بها الطبيب على ما يعرض للبدن من قرب الصحّة أو اشتداد المرض و نحو ذلك فهذا لا مانع منه و لا حرج في اعتقاده، و ما روي من صحّة علم النجوم محمول على هذا المعنى.» «1»

8- و في كفاية السبزواري: «و علم النجوم حرّمه بعض الأصحاب. و الأقرب الجواز، لظاهر بعض الروايات المعتبرة. و صنّف ابن طاوس رسالة أكثر فيها من الاستشهاد على صحّته و جوازه.» «2»

9- و في مفتاح الكرامة في ذيل ما مرّ من قواعد العلّامة قال: «اختلف العلماء- على قديم الدهر في هذه المسألة اختلافا شديدا و هي عامّة البلوى فوجب تحريرها و تنقيحها فنقول: ذهب السيّد عليّ بن طاوس إلى أنّ التنجيم من العلوم المباحات، و أنّ للنّجوم علامات و دلالات على الحادثات لكن يجوز للقادر الحكيم أن

يغيّرها بالبرّ و الصدقة و الدعاء و غير ذلك من الأسباب. و جوّز تعليم علم النجوم و تعلّمه و النظر فيه و العمل به إذا لم يعتقد أنّها مؤثّرة، و حمل أخبار النهي و الذمّ على ما إذا اعتقد ذلك، و أنكر على علم الهدى تحريم ذلك، ثمّ ذكر لتأييد هذا العلم أسماء جماعة من الشيعة كانوا عارفين به. و الذي يعرف من كتب الرجال و كلام السيّد المذكور و كتاب أبي معشر الخراساني صاحب كتاب المدخل و غيرهم: أنّ من العلماء العاملين بالنجوم.»

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 291، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم ...

(2) الكفاية/ 87، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 27

..........

______________________________

ثمّ ذكر هذه الأسماء: «عبد الرحمن بن سيّابة، و الحسن بن موسى النوبختي، و أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، و محمّد بن أبي عمير، و أبا خالد السّجستاني، و حسن بن أحمد بن محمّد العاصمي، و الشيخ إبراهيم النوبختي، و موسى بن الحسن بن عباس بن نوبخت، و الفضل بن أبي سهل بن نوبخت، و محمد بن مسعود العياشي، و عليّ بن الحسين المسعوديّ، و أبا القاسم بن نافع الشيعي، و إبراهيم الفزاري، و أحمد بن يوسف المصري، و محمّد بن عبد اللّه بن عمر البازيار القميّ، و أبا الحسين بن أبي الخصيب القمي، و أبا جعفر السقاء المنجّم، و محمود بن الحسين السندي، و أبا الحسين الصوفي و أبا نصر بن على القمي، و أحمد بن محمّد بن السنجري، و عليّ بن أحمد العمراني، و إسحاق بن يعقوب الكندى» إلى آخر ما حكاه في مفتاح الكرامة فراجع «1» و إن شئت العثور على الروايات و كلمات

القوم في هذا المجال فراجع البحار و مرآة العقول. «2»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 74، كتاب المتاجر.

(2) بحار الأنوار 55/ 217 و ما بعدها (ط. بيروت)، مرآة العقول 26/ 458، كتاب الروضة، هل يجوز النظر في علم النجوم، الحديث 508.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 28

[أربع مقامات في إيضاح المسألة]
اشارة

و توضيح المطلب يتوقّف على الكلام في مقامات:

[الاوّل: الإخبار عن الأوضاع الفلكيّه]

الأوّل: الظاهر أنّه لا يحرم الإخبار عن الأوضاع الفلكيّة المبتنية على سير الكواكب- كالخسوف الناشئ عن حيلولة الأرض بين النيّرين، و الكسوف الناشئ عن حيلولة القمر أو غيره- بل يجوز الإخبار بذلك إمّا جزما إذا استند إلى ما يعتقده برهانا، أو ظنّا إذا استند إلى الأمارات. (1)

و قد اعترف بذلك جملة ممّن أنكر التنجيم، منهم السيّد المرتضى و الشيخ أبو الفتح الكراجكي فيما حكي عنهما. [حيث حكي عنهما]- في ردّ الاستدلال على إصابتهم في الأحكام بإصابتهم في الأوضاع- ما حاصله: «أنّ الكسوفات و اقتران الكواكب و انفصالها من باب الحساب و سير الكواكب، و له أصول صحيحة و قواعد سديدة و ليس

______________________________

(1) أقول: إن كانت الأمارات من الحجج الشرعيّة جاز الإخبار بمؤدّاها بنحو

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 29

كذلك ما يدّعونه من تأثير الكواكب في الخير و الشرّ و النفع و الضرر. و لو لم يكن الفرق بين الأمرين إلّا الإصابة الدائمة المتّصلة في الكسوفات و ما يجري مجراها فلا يكاد يبين فيها خطأ، و إنّ الخطأ الدائم المعهود إنّما هو في الأحكام، حتى أنّ الصواب فيها عزيز، و ما يتّفق فيها من الإصابة قد يتّفق من المخمّن أكثر منه فحمل أحد الأمرين على الآخر بهت و قلّة دين». انتهى المحكي من كلام السيّد- رحمه اللّه- «1»

و قد أشار إلى جواز ذلك في جامع المقاصد مؤيّدا ذلك بما ورد من كراهة السفر و التزويج في برج العقرب.

لكن ما ذكره السيّد- رحمه اللّه- من الإصابة الدائمة في الإخبار عن الأوضاع، محلّ نظر، لأن خطأهم في الحساب في غاية الكثرة. و لذلك لا يجوز الاعتماد في ذلك

على عدولهم فضلا عن فسّاقهم، لأنّ حسابهم مبتنية على أمور نظرية مبتنية على نظريّات أخر إلّا فيما هو كالبديهي- مثل إخبارهم بكون القمر في هذا اليوم في برج العقرب، و انتقال الشمس من برج إلى برج في هذا اليوم- و إن كان يقع الاختلاف

______________________________

الإطلاق و إلّا وجب أن يصرّح المخبر بكون خبره عن ظنّ. ثمّ لا يخفى أنّ المقام الأوّل الذي ذكره المصنّف يرتبط بعلم الهيئة الذي مرّ عدم حرمته قطعا بل صرّح في الدروس باستحبابه كما مرّ. «2»

______________________________

(1) راجع رسائل الشريف المرتضى 2/ 311؛ مفتاح الكرامة 4/ 80، كتاب المتاجر.

(2) راجع الدروس/ 327، كتاب المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 30

بينهم فيما يرجع إلى تفاوت يسير، و يمكن الاعتماد في مثل ذلك على شهادة عدلين منهم إذا احتاج الحاكم لتعيين أجل دين أو نحوه. (1)

______________________________

(1) يمكن أن يقال: إنّ بناء العقلاء على الاعتماد بقول أهل خبرة كلّ فنّ فيما يرتبط بفنّه و تخصّصه إذا كان ثقة و لم يردع عن ذلك الشارع. و بهذا الملاك أيضا يرجعون إلى الفقهاء في المسائل الدينيّة و يعتمدون عليهم فلا يحتاج إلى التعدّد. و إن أبيت ذلك فيمكن منع حجيّة قول العدلين أيضا، لعدم كون المخبر به من الأمور الحسّية. نعم لو حصل الاطمينان كان حجّة قطعا، لأنّه علم عاديّ يعتمد عليه العقلاء في جميع الأمور.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 31

[الثاني: الإخبار بحدوث الأحكام عند الاتصالات و الحركات المذكورة]

الثاني: يجوز الإخبار بحدوث الأحكام عند الاتصالات و الحركات المذكورة- بأن يحكم بوجود كذا في المستقبل عند الوضع المعيّن: من القرب و البعد و المقابلة و الاقتران بين الكوكبين- إذا كان على وجه الظنّ. (1) المستند إلى تجربة محصّلة أو منقولة في وقوع تلك

الحادثة بإرادة اللّه عند الوضع الخاصّ من دون اعتقاد ربط بينهما أصلا. بل الظاهر حينئذ جواز الإخبار على وجه القطع إذا استند إلى تجربة قطعيّة، إذ لا حرج على من حكم قطعا بالمطر في هذه الليلة نظرا إلى ما جرّبه من نزول كلبه من السطح إلى داخل البيت مثلا، كما حكي أنّه اتفق ذلك لمروّج هذا العلم بل محييه «نصير الملّة و الدين» حيث نزل في بعض أسفاره على طحّان له طاحونة خارج البلد فلمّا دخل منزله صعد السطح لحرارة الهواء فقال له صاحب المنزل: انزل و نم في البيت تحفّظا من المطر، فنظر المحقّق إلى الأوضاع الفلكيّة فلم ير شيئا فيما هو مظنّة للتأثير في المطر، فقال صاحب المنزل: إنّ لي كلبا ينزل في كلّ ليلة يحسّ المطر

______________________________

(1) و لكن يجب أن يصرّح في إخباره بكونه عن ظنّ إلّا أن يكون هنا أمارة شرعيّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 32

فيها إلى البيت فلم يقبل منه المحقّق ذلك و بات فوق السطح فجائه المطر في الليل و تعجّب المحقّق.

ثمّ إنّ ما سيجي ء في عدم جواز تصديق المنجّم يراد به غير هذا أو ينصرف إلى غيره لما عرفت من معنى التنجيم. (1)

______________________________

(1) لم يفسّر المصنّف فيما مضى لفظ التنجيم، و إنما حكى عن جامع المقاصد تفسيره بالإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكيّة و الاتصالات الكوكبيّة، و ليس في هذه العبارة اسم من تأثير أوضاع النجوم في الحوادث إلّا أن يستظهر ذلك من لفظ الأحكام.

ثمّ إنّ في تفسيره بالإخبار نحو مسامحة كما مرّ، إذ المتبادر منه نفس استخراج الأحكام بالنظر فيها و الاعتقاد بارتباطها بها و إن لم يخبر بذلك و بعبارة أخرى هنا ثلاثة

أمور: استخراج الأحكام و الاعتقاد الجازم بها و الإخبار عنها، و كل واحد منها قابل للبحث و لكن الظاهر من اللفظ نفس الاستخراج كما لا يخفى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 33

[الثالث: الإخبار عن الحادثات و الحكم بها مستندا إلى تأثير الاتصالات]

الثالث: الإخبار عن الحادثات و الحكم بها مستندا إلى تأثير الاتصالات المذكورة فيها بالاستقلال أو بالمدخليّة و هو المصطلح عليه بالتنجيم (1) فظاهر الفتاوى و النصوص حرمته مؤكّدة:

فقد أرسل المحقّق في المعتبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه: «من صدّق منجّما أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.» (2) و هو يدلّ على حرمة حكم التنجيم بابلغ وجه.

______________________________

(1) دعوى اختصاص التنجيم اصطلاحا بصورة اعتقاد تأثير الأوضاع و الاتصالات في الحوادث أو انصرافه إلى خصوص ذلك قابلة للمنع، و إطلاق اللفظ يشمل ما إذا اعتقد بالموافاة الوجوديّة و المقارنة دائما كما لا يخفى.

(2) راجع الوسائل «1» و الرواية- كما ترى- مرسلة لا اعتبار بها.

أقول: قال ابن الأثير في النهاية: «الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان و يدّعي معرفة الأسرار و قد كان في العرب كهنة الخ.» «2» و دلالة الرواية على حرمة تصديق المنجّم و الكاهن واضحة.

و ظاهر كلام المصنّف دلالتها على حرمة حكمهما و إخبارهما بطريق أولى.

و ناقش في ذلك المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية قال: «فإنّه يحرم تصديق الفاسق في الأحكام الشرعيّة و لا يحرم إخباره عنها، و لئن استفيد من حرمة

______________________________

(1) الوسائل 12/ 104، كتاب التجارة، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 104.

(2) النهاية لابن الأثير 4/ 214.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 34

و في رواية نصر بن قابوس عن الصادق

عليه السّلام: أنّ «المنجّم ملعون،

______________________________

تصديقه حرمة إخباره لا يستفاد إلّا حرمة إخباره بوقوع الحوادث سواء كان مع اعتقاد التأثير أو لا، و لعلّ الكفر من جهة استلزام تصديقه إنكار تأثير الدعاء و الصدقة في دفع ذلك.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ لفظ المنجّم في هذه الرواية و ما بعدها مطلق و ليس فيها اسم من اعتقاد التأثير. و كون المصطلح عليه بهذا اللفظ- حتى في الأخبار الواردة- خصوص من اعتقد ذلك غير واضح. و على هذا فيعمّ اللفظ صورة اعتقاد الموافاة الوجوديّة بنحو الإطلاق و الدوام أيضا. و لعلّ الشارع الحكيم أراد نهي الناس عن تنظيم الأعمال و الحركات و النشاطات الاجتماعية على أساس إخبار المنجّمين و الكهنة الموجب ذلك الاختلال في النظم الاجتماعى و تعطيل كثير من الأسفار و النشاطات، و تكذيب ما ورد في التوكّل على اللّه و طلب الخير منه و التصدّق للأسفار و دفع البلايا و الدعاء، و التضرّع إلى اللّه- تعالى- و المراد بتصديق المنجّم و الكاهن تصديقهما عملا بترتيب الآثار على إخبارهما و ترك النشاطات اليوميّة لذلك.

و يشهد لذلك كثير من الروايات الواردة، و من ذلك قوله عليه السّلام في رواية عبد الملك بن أعين الآتية في المتن: «تقضي» قلت: نعم، قال: «أحرق كتبك» حيث يظهر منها أنّ المنهي عنه ترتيب الأثر على ما استخرجه من النجوم، و ليس فيها «إنّك تعتقد التأثير؟»، و حمل أخبار المنع على صورة اعتقاد التأثير و أخبار الجواز على صورة عدم اعتقاده جمع تبرّعي لا شاهد له فتأمّل.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 35

و الكاهن ملعون، و السّاحر ملعون.» (1)

و في نهج البلاغة: إنّه عليه السّلام لمّا أراد المسير إلى

بعض أسفاره فقال له بعض أصحابه: إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك- من طريق علم النجوم- فقال عليه السّلام له: «أ تزعم أنّك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها انصرف عنه السوء؟ و تخوّف السّاعة التي من سار فيها حاق به الضرّ؟ فمن صدّقك بهذا القول فقد كذّب القرآن و استغنى عن الاستعانة باللّه- تعالى- في نيل المحبوب و دفع المكروه- إلى أن قال-:

أيّها الناس إيّاكم و تعلّم النجوم إلّا ما يهتدي به في برّ أو بحر فإنّها تدعو إلى الكهانة [و المنجّم كالكاهن] و الكاهن كالسّاحر و السّاحر كالكافر و الكافر في النار الخ.» (2)

______________________________

(1) راجع الوسائل «1»- و نصر بن قابوس ثقة «2» و السند إليه لا يخلو من حسن. و الملعون: المطرود عن رحمة اللّه، و ظاهره الحرمة، و ليس في الرواية اسم من الإخبار و لا اعتقاد التأثير، بل يظهر منها أنّ من يستخرج الحوادث من أوضاع النجوم مطرود عن رحمة اللّه- تعالى- و إن لم يعتقد بكونها مؤثّرة فيها فيشمل من اعتقد الموافاة الوجوديّة أيضا و يرتّب الأثر عليه.

(2) راجع نهج البلاغة «3»، و الظاهر من قوله: «فمن صدّقك» تصديقه عملا من جهة الاعتقاد بإصابته و وقوع ما يخبر به لا محالة و لو من جهة الموافاة

______________________________

(1) الوسائل 12/ 103، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

(2) راجع تنقيح المقال 3/ 269.

(3) نهج البلاغة، فيض 1/ 177؛ عبده 1/ 124؛ لح/ 105، الخطبة 79.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 36

و قريب منه ما وقع بينه عليه السّلام و بين منجّم آخر نهاه عن المسير أيضا، فقال عليه السّلام له: «أ تدري

ما في بطن هذه الدابّة أذكر أم أنثى؟» قال: إن حسبت علمت، قال عليه السّلام: «فمن صدّقك بهذا القول فقد كذّب بالقرآن، قال اللّه: إِنَّ اللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّٰاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي الْأَرْحٰامِ ... الآية، ما كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدّعي ما ادّعيت. أ تزعم أنّك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء، و السّاعة التي من سار فيها حاق به الضرّ؟ من صدّقك بهذا استغنى بقولك عن الاستعانة باللّه في ذلك الوجه، و أحوج إلى الرغبة إليك في دفع المكروه عنه.» (1)

______________________________

الوجوديّة التي لا تتخلّف بحيث لا يدفعها الاستعانة باللّه- تعالى-.

(1) هذه قطعة ممّا رواه في الوسائل عن أمالي الصدوق بسنده عن عبد اللّه ابن عوف أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا أراد المسير إلى أهل النهروان أتاه منجّم فنهاه عنه فقال عليه السّلام: «و لم؟ ...» «1»

و ليس فيه و كذا فيما قبله اسم من اعتقاد المنجّم تأثير الأوضاع الفلكيّة في الحوادث السفليّة و لم يسأله الإمام عليه السّلام عن أنّه يعتقد التأثير أم لا، فلعلّه كان معتقدا بالموافاة الوجوديّة القطعيّة الدائمة بحيث لا تتخلّف و كون الربط بينهما من قبيل ربط الكاشف بالمكشوف. و غرضه عليه السّلام نفي الاعتماد القطعيّ على إخبار

______________________________

(1) الوسائل 8/ 269، كتاب الحجّ، الباب 14 من أبواب آداب السفر الى الحجّ و غيره، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 37

و في رواية عبد الملك بن أعين- المروية عن الفقيه-: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي قد ابتليت بهذا العلم فأريد الحاجة فإذا نظرت إلى الطالع و رأيت الطالع الشرّ جلست و لم

أذهب فيها، و إذا رأيت الطالع الخير ذهبت في الحاجة؟ فقال لي: «تقضي؟» قلت: نعم، قال: «أحرق كتبك.» (1)

______________________________

المنجّم عملا لعدم اطلاعهم على خفايا الأمور المستقبلة و أنّ علم الغيب يختصّ باللّه- تعالى- فعلى الإنسان أن يتوكّل عليه و يستعين به و يأتي بما يراه خيرا ذا مصلحة.

(1) راجع الفقيه و الوسائل «1»، و ليس في الرواية إنّ عبد الملك كان يعتقد تأثير الطوالع في الحوادث بنحو الاستقلال أو بالمدخليّة، و لكن يظهر منها أنّه كان يعتقد الموافاة الدائمة بين الطوالع و بين الحوادث و بنى نشاطاته اليوميّة على أساس ما يراه من الطوالع، فقوله عليه السّلام: «تقضي؟» سؤال عن الحكم على و فقها و العمل على طبقها فلمّا أقرّ بذلك أمره الإمام عليه السّلام بإحراق كتبه فغرضه عليه السّلام النهي عن هذا البناء العملي.

و محصّل الكلام: أن الظاهر أنّ هذه الروايات ليست ناظرة إلى بيان أمر اعتقادي و أنّ الاعتقاد بكون العلويّات مؤثّرات في السفليّات بنحو الاستقلال أو بنحو المدخليّة خطأ أو كفر، بل ليست ناظرة إلى نفي تأثيرها بالكليّة أيضا. و إنّما

______________________________

(1) راجع الفقيه 2/ 267، كتاب الحجّ، الحديث 2402؛ الوسائل 8/ 268، كتاب الحج، الباب السابق، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 38

..........

______________________________

هي بصدد النهي عن تنظيم النشاطات اليوميّة و الاجتماعيّة على أساس أقوال المنجّمين أو الكهنة و التوجّه إليهم و الاستعانة منهم، لأنّ المؤثّر في العالم هو اللّه- تعالى- و نظام الوجود بعلويّاته و سفليّاته مسخّرة له و هو الفاعل لما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت فيجب التوجّه إليه و الاستعانة منه و التضرّع إلى ساحته و الإقدام في كلّ ما يراه الإنسان خيرا و صلاحا.

و

هذا لا ينافي نحو ارتباط بين العلويّات و الحوادث إمّا بنحو الموافاة و المقارنة الوجوديّة أو بنحو من الاقتضاء أيضا نظير اقتضاء سائر العوامل الطبيعيّة فإنّ النظام نظام الأسباب و المسبّبات. و لكن على فرض اقتضاء بعض العلويّات للحوادث فلا كليّة لذلك و ليس بنحو العليّة التامة أيضا و لا إحاطة للمنجّمين بجميعها و خطأهم في ذلك كثير فلا وجه لربط النشاطات و الأعمال بإخبارهم. و بما ذكرنا يظهر أنّ ما يستفاد من ظاهر كلام المصنّف و غيره من نفي المدخليّة بنحو الإطلاق قابل للمناقشة فتدبّر. هذا.

و للمجلسي الأوّل «ره» في ذيل رواية عبد الملك كلام يناسب ذكره في المقام قال في روضة المتقين: «اعلم أنّه قد ورد الأخبار الكثيرة في الكافي و غيره بأنّ للنجوم تأثيرا، و روي في الأخبار الكثيرة تهديدات شديدة في تعليمها و تعلّمها، و لا أعلم خلافا بين أصحابنا في حرمتها. و الذي يظهر من الأخبار الكثيرة أنّ النهي إمّا لسدّ باب الاعتقاد فإنّه يفضي إلى القول بأنّها مستبدّة في التأثير و هي المؤثّرة كما قاله كفرة المنجّمين و هم طائفتان: فطائفة لا يقولون بالواجب بالذات، بل يقولون: إنّها الواجب، و طائفة يقولون بهما و هم مشركون. فلمّا كان هذا العلم يفضي إلى مثل هذه الاعتقادات الفاسدة نهى الشارع عن تعلّمها و تعليمها لئلا يفضي إليها. و إمّا بالنظر إلى الموحّدين الذين يقولون بحدوثها و أنّ لها تأثيرا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 39

..........

______________________________

مثل تأثير السّقمونيا و الفلفل لا شعور لها، أو قيل بشعورها و تأثيرها لكنّها مسخّرات بتسخير الواجب بالذات فالظاهر أنّ هذا الاعتقاد على سبيل الإجمال لا يضرّ. و إمّا بالتفصيل الذي يقوله المنجّمون فإنّه و

هم محض و قول بما لا يعلم، لأنّه لا يمكن الإحاطة به إلّا من علّمه اللّه- تعالى- من الأنبياء و الأئمّة- صلوات اللّه عليهم أجمعين-، و لهذا ورد عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إنّكم تنظرون في شي ء (منها) كثيره لا يدرك و قليله لا ينفع» و قال أمير المؤمنين عليه السّلام للمنجّم الذي نهاه عن الخروج: «إنّك تنهاني عن الخروج لذلك الكوكب أنّه في الهبوط فهل تدري الكوكب الفلاني و الكوكب الفلاني؟» فقال: لا، فقال: «إنّهما في الصعود، كذب المنجّمون و ربّ الكعبة سيروا على اسم اللّه.» و الخبر طويل. و في القويّ عن الصادق عليه السّلام: «إنّ أصل الحساب حقّ و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم.» و أقل مراتبه الكذب الذي ورد في الآيات و الأخبار التهديدات العظيمة فيه و نعم ما قال الشيخ أبو عليّ في كتبه: إنّ القول بالنجوم و هم ... مع ما ورد من الآيات و الأخبار في النهي عن القول بالظنّ فكيف الوهم، على أنّه لو كان الجميع صادقا لا يحصل منه إلّا الغمّ و الهمّ، لأنّه لا يمكن تغييرها و الاجتناب عنها بحسب معتقدهم، و لو لم يكن فيه إلّا ترك الإقبال على اللّه- تعالى- و التفويض إليه و التوكّل عليه و الاعتصام بحبله لكفى في قبحه.

فالأنسب بالنسبة الى المؤمن الموحّد أن لا ينظر إليها و أن يتوكّل على اللّه- تعالى- في جميع أموره، و يدفع البلايا بالدعوات و الصدقات كما ورد الآيات و الروايات.» «1» انتهى كلام المجلسي- عليه الرحمة- هذا.

و احتمل المحقّق الإيرواني «ره» في رواية عبد الملك احتمالا آخر: قال: «لا يبعد

______________________________

(1) روضة المتقين 4/ 197 و 198،

كتاب الحجّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 40

و في رواية مفضّل بن عمر- المرويّة عن معاني الأخبار- في قوله- تعالى-: وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ قال: «و أمّا الكلمات فمنها ما ذكرناه، و منها المعرفة بقدم بارئه و توحيده و تنزيهه عن الشبيه حتّى نظر إلى الكواكب و القمر و الشمس، و استدلّ بأفول كلّ منها على حدوثه و بحدوثه على محدثه، ثمّ اعلم أنّ الحكم بالنجوم خطأ.» (1)

ثمّ إنّ مقتضى الاستفصال في رواية عبد الملك المتقدّمة بين القضاء بالنجوم بعد النظر و عدمه: أنّه لا بأس بالنظر إذا لم يقض به، بل أريد به مجرّد التفؤل إن فهم الخير و التحذّر بالصدقة إن فهم الشرّ. كما يدلّ عليه ما عن المحاسن عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن سفيان بن عمر قال: كنت أنظر في النجوم و أعرفها و أعرف الطالع

______________________________

أن تكون كلمة: «تقضي» بصيغة المجهول يعني إن كانت حاجتك تقضى فأحرق كتبك، لدخول الكتب حينئذ في كتب الضلال فإنّها تورث قطع التوكّل من اللّه- تعالى- و الاعتماد على ما يعتقده من الكتب فإن كان خيرا مضى أو شرّا جلس و استغنى بذلك عن الدعاء و الصدقة. و هذا بخلاف ما إذا كانت تقضى تارة و لا تقضى أخرى فإنّه يكون حينئذ غير معتمد على ما يفهمه فيدعو اللّه و يتضرّع في دفع المكروه عنه.» «1»

(1) راجع المعاني و الوسائل و الرواية في المعاني طويلة جدّا. «2»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 23.

(2) معاني الأخبار/ 126؛ الوسائل 8/ 270، كتاب الحجّ، الباب 14 من أبواب آداب السفر ...، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 41

فيدخلني من ذلك

شي ء فشكوت ذلك إلى أبي الحسن عليه السّلام فقال: «إذا وقع في نفسك من ذلك شي ء فتصدّق على أوّل مسكين ثمّ امض فإن اللّه- تعالى- يدفع عنك.» (1)

و لو حكم بالنجوم على جهة أنّ مقتضى الاتّصال الفلاني و الحركة الفلانية الحادثة الواقعيّة، و إن كان اللّه يمحو ما يشاء و يثبت، لم يدخل أيضا في الأخبار الناهية، لأنّها ظاهرة في الحكم على سبيل البتّ.

______________________________

و من المظنون أنّها من قوله: «و لقول اللّه- تعالى-: وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ وجه آخر» من كلام الصدوق فلا يكون ما في المتن من كلام الإمام عليه السّلام فراجع.

(1) راجع المحاسن و الوسائل و المذكور في المحاسن أبو عبد اللّه بدل أبي الحسن عليه السّلام «1». و في الوسائل عن الفقيه «2» بإسناده عن ابن أبي عمير أنّه قال:

كنت أنظر في النجوم الحديث كما في المتن.

و قد تحصّل ممّا ذكرناه أنّ المنظور في هذه الروايات النهي عن الاعتماد على قول المنجّم و ترتيب الأثر عليه عملا إذا كان إخباره بنحو البتّ و الجزم، سواء اعتقد تأثير الكواكب في الحوادث أو اعتقد دلالتها عليها بنحو الكاشف و المكشوف، و لا دلالة في ذلك على حرمة نفس الإخبار إذا كان قاطعا، فيكون نظير إخبار

______________________________

(1) المحاسن 2/ 349؛ الوسائل 8/ 273، كتاب الحج، الباب 15 من أبواب آداب السفر ...، الحديث 4.

(2) الوسائل نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 42

كما يظهر من قوله عليه السّلام: «فمن صدّقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة باللّه في دفع المكروه» (1) بالصدقة و الدعاء و غيرهما من الأسباب نظير تأثير نحوسة الأيّام الواردة في الروايات و ردّ نحوستها

بالصدقة.

إلّا أنّ جوازه مبنيّ على جواز اعتقاد الاقتضاء في العلويّات للحوادث السفليّة (2) و سيجي ء إنكار المشهور لذلك و إن كان يظهر ذلك من المحدّث الكاشاني. (3)

و لو أخبر بالحوادث بطريق جريان العادة على وقوع الحادثة عند الحركة الفلانيّة من دون اقتضاء لها أصلا فهو أسلم. (4) قال في

______________________________

الفاسق بما يقطع به و إن لم يكن إخباره حجّة لمن سمعه منه. نعم بناء على ظهور اللعن في الحرمة يكون قوله: «المنجّم ملعون» دالّا على حرمة نفس التنجيم.

(1) قد مرّ هذا المضمون عن نهج البلاغة.

(2) قد مرّ أنّ اقتضاء بعضها لبعضها إجمالا ممّا لا ينكر نظير تأثير قرب الشمس و بعدها في اختلاف الفصول و تأثيرها في تكوّن السحاب و نزول الأمطار و نموّ النبات و الحيوان و الإنسان و نحو ذلك.

(3) يأتي في المتن نقل كلامه في الوافي في توجيه البداء.

(4) و لكن لو كان إخباره بنحو الجزم و البتّ و اعتقاد عدم التخلّف لم يجز التصديق له عملا و ترتيب الآثار عليه، إذ الأخبار الدالّة على حرمة تصديقه يشمل هذا أيضا كما مرّ بيانه. و قد مرّ منّا منع استلزام حرمة التصديق لحرمة الإخبار كما في إخبار الفاسق.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 43

الدروس: «و لو أخبر بأنّ اللّه- تعالى- يفعل كذا عند كذا لم يحرم و إن كره.» انتهى. (1)

______________________________

(1) مرّ كلام الدروس في أوائل المسألة، «1» و يشكل إفتائه بالكراهة، إذ لو شمله إخبار المنع كان الظاهر منها الحرمة. و إلّا فلا دليل على كراهته حيث إنّ الكراهة و الاستحباب مثل الحرمة و الوجوب في الاحتياج إلى دليل معتبر يجوز الإفتاء بمؤدّاه. إلّا أن يقال: إنّ ملاك الكراهة حسن الاحتياط و

الوقوف عند الشبهة، إذ من يرتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

______________________________

(1) الدروس/ 327، كتاب المكاسب و راجع ص 21 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 44

[الرابع: اعتقاد ربط الحركات الفلكيّة بالكائنات]
اشارة

الرابع: اعتقاد ربط الحركات الفلكيّة بالكائنات.

و الربط يتصوّر على وجوه:

[الأوّل: الاستقلال في التأثير]
اشارة

الأوّل: الاستقلال في التأثير بحيث يمتنع التخلّف عنها امتناع تخلّف المعلول عن العلّة العقليّة. (1) و ظاهر كثير من العبارات كون هذا كفرا:

[ذكر بعض من العبارات]

قال السيّد المرتضى- رحمه اللّه- فيما حكي عنه-: «و كيف يشتبه على مسلم بطلان أحكام النجوم؟. و قد أجمع المسلمون قديما و حديثا على تكذيب المنجّمين و الشهادة بفساد مذهبهم و بطلان أحكامهم. و معلوم من دين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضرورة تكذيب ما يدّعيه المنجّمون و الإزراء عليهم و التعجيز لهم. و في الروايات عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [من ذلك] ما لا يحصى كثرة، و كذا من علماء أهل بيته و خيار أصحابه.

______________________________

اعتقاد ربط الكائنات السفليّة بالحركات الفلكيّة

(1) أقول: قد مرّ منّا أنّ هنا علمين مرتبطين بالنجوم و الأفلاك:

الأوّل: علم الهيئة الباحث عن نظام العالم العلويّ و حركات النجوم و أوضاعها بقياس بعضها إلى بعض: من الطلوع و الغروب و القرب و البعد و الاقتران و الكسوف و الخسوف و الأوج و الحضيض و نحو ذلك.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 45

..........

______________________________

الثاني: علم النجوم الباحث عن ارتباط حوادث العالم السفليّ و الكائنات فيه بأوضاع النجوم و كيفيّة تأثيرها فيها كارتباط المواليد و الوفيات و الرخص و الغلاء و القتال و الصلح و نحو ذلك من حوادث الكون بأوضاع النجوم و حركاتها.

ففي الحقيقة حوادث الكون و العالم السفليّ عندهم أحكام و آثار لنظام العالم العلويّ و قد مرّ منّا أيضا نقل كثير من كلمات الأصحاب في المسألة.

و المصنّف تعرّض للمسألة في أربع مقامات: أشار في المقام الأوّل منها إلى علم الهيئة و أنّه لا يحرم الإخبار عن الأوضاع الفلكيّة المبتنية على سير الكواكب،

و حكم في المقام الثاني بجواز الإخبار علما أو ظنّا بحدوث الأحكام عند الاتصالات و الحركات المذكورة من دون الاعتقاد بتأثيرها فيها، بل بمجرّد الموافاة الوجودية بينهما و ارتباط الكاشف بالمكشوف، و في المقام الثالث تعرّض لحكم الإخبار عن الحادثات مستندا إلى الاتصالات المذكورة فيها بالاستقلال أو بالمدخليّة قال: «و هو المصطلح عليه بالتنجيم» ثمّ حكم بأنّ ظاهر النصوص و الفتاوى حرمته و استدلّ لذلك بما مرّ من الأخبار.

و كيف كان فالمبحوث عنه في المقامات الثلاثة الماضية حكم الإخبار عن الأوضاع الفلكيّة أو عن الحادثات الكونيّة بلحاظها.

و أمّا المقام الرابع المذكور هنا فمحطّ البحث فيه اعتقاد ربط الكائنات السفليّة بالحركات الفلكيّة و أوضاعها فالبحث فيه بحث اعتقادي و أنّه يوجب الكفر أم لا؟.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 46

و ما اشتهر بهذه الشهرة في دين الإسلام كيف يفتى بخلافه منتسب إلى الملّة و مصلّ إلى القبلة؟!.» انتهى (1)

و قال العلّامة في المنتهى- بعد ما أفتى بتحريم التنجيم و تعلّم

______________________________

وجوه الربط أربعة: فقسّم المصنف الربط إلى أربعة وجوه:

الأوّل: أن يكون بنحو الاستقلال في التأثير بحيث يمتنع التخلّف عنها و ظاهره كون تأثيرها فيها من قبيل تأثير الفاعل القادر المختار في أفعاله، و مآله إلى إنكار الصانع بالكلّية.

الثاني: أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها بالاختيار و لكن اللّه- تعالى- هو المؤثّر الأعظم من فوقها نظير الإنسان الفاعل بالاختيار مع الاعتراف بكونه مسخّرا لإرادة الحقّ- تعالى-.

الثالث: استناد الحوادث إليها استنادا طبيعيّا كاستناد الإحراق إلى النار.

الرابع: أن يكون ربط الحركات الفلكيّة بالحوادث السفليّة من قبيل ربط الكاشف بالمكشوف فقط. فهذه خلاصة مشي المصنّف في المسألة.

(1) راجع المجلّد الثاني من رسائل الشريف المرتضى و البحار، «1» و دلالة هذه العبارة

على كون اعتقادهم كفرا من جهة ظهورها في كونه على خلاف المعلوم من دين الرسول، و ليست عبارته صريحة في اعتقادهم استقلالها في التأثير نعم هو

______________________________

(1) رسائل الشريف المرتضى 2/ 310؛ بحار الأنوار 55/ 288 (ط. بيروت)، كتاب السماء و العالم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 47

النجوم مع اعتقاد أنّها مؤثّرة أو أنّ لها مدخلا في التأثير في الضرّ و النفع- قال: «و بالجملة كلّ من اعتقد ربط الحركات النفسانيّة و الطبيعيّة بالحركات الفلكيّة و الاتصالات الكوكبيّة كافر.» انتهى. (1)

و قال الشهيد في قواعده: «كلّ من اعتقد في الكواكب أنّها مدبّرة لهذا العالم و موجدة له فلا ريب أنّه كافر.» (2)

و قال في جامع المقاصد: «و اعلم أنّ التنجيم مع اعتقاد أنّ للنجوم تأثيرا في الموجودات السفليّة- و لو على جهة المدخليّة- حرام، و كذا تعلّم النجوم على هذا النحو، بل هذا الاعتقاد في نفسه كفر نعوذ باللّه منه.» انتهى (3)

______________________________

القدر المتيقّن من ذلك.

(1) راجع المنتهى «1» و قد مرّ منا نقل كلامه و ناقشناه بأنّ مطلق الاعتقاد بربط الحوادث الكونيّة بالحركات الفلكيّة لا يوجب كفرا إلّا أن يرجع إلى إنكار اللّه- تعالى- أو التوحيد أو الرسالة أو ضروريّ من ضروريّات الدين.

(2) راجع القواعد و الفوائد و قد مرّ نقل كلامه بالتفصيل و بيانه و المناقشات فيه فراجع. «2»

(3) راجع جامع المقاصد و قد مرّ كلامه في أوّل المسألة و ناقشناه بأنّ كفر الاعتقاد بالمدخليّة بإطلاقه ممنوع. «3» كيف؟. و المدخليّة الطبيعيّة للشمس و القمر في بعض الحوادث كالأمطار أو رشد النبات و الحيوان و الإنسان ممّا لا ينكر كما هو واضح.

______________________________

(1) المنتهى 2/ 1014، كتاب التجارة.

(2) القواعد و الفوائد 2/ 35؛ و

راجع ص 22 من هذا الكتاب.

(3) جامع المقاصد 4/ 32، أقسام المتاجر، و راجع ص 21 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 48

و قال شيخنا البهائي: «ما زعمه المنجمون من ارتباط بعض الحوادث السفليّة بالأجرام العلويّة إن زعموا أنّها هي العلّة المؤثّرة في تلك الحوادث بالاستقلال أو أنّها شريكة في التأثير فهذا لا يحلّ للمسلم اعتقاده. و علم النجوم المبتنى على هذا كفر. و على هذا حمل ما ورد من التحذير عن علم النجوم و النهي عن اعتقاد صحّته.» انتهى (1)

و قال في البحار: «لا نزاع بين الأمّة في أنّ من اعتقد أنّ الكواكب هي المدبّرة لهذا العالم و هي الخالقة لما فيه من الحوادث و الخيرات و الشرور فإنّه يكون كافرا على الإطلاق.» انتهى. «1»

و عنه في موضع آخر: «إنّ القول بأنّها علّة فاعليّة بالإرادة و الاختيار- و إن توقّف تأثيرها على شرائط آخر- كفر.» انتهى. (2)

______________________________

(1) البحار و قد مرّ منا نقل كلامه بالتفصيل فراجع. «2»

(2) البحار و عبارته هكذا: «لا يخفى عليك أنّ القول باستقلال النجوم في تأثيرها بل القول بكونها علّة فاعليّة بالإرادة و الاختيار و إن توقّف تأثيرها على شرائط، كفر و مخالفة لضرورة الدين.» «3»

______________________________

(1) بحار الأنوار 56/ 299 (ط. ايران 59/ 299)، كتاب السماء و العالم، باب عصمة الملائكة ...

(2) بحار الأنوار 55/ 291 (ط. إيران 58/ 291)، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

(3) بحار الأنوار 55/ 308، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 49

بل ظاهر الوسائل نسبة دعوى ضرورة الدين على بطلان التنجيم و القول بكفر معتقده إلى جميع علمائنا حيث قال:

«قد صرّح علماؤنا بتحريم [تعلّم] علم النجوم و العمل به و بكفر من اعتقد تأثيرها أو مدخليّتها في التأثير، و ذكروا أنّ بطلان ذلك من ضروريّات الدين.»

انتهى. (1)

بل يظهر من المحكي عن ابن أبي الحديد: أنّ الحكم كذلك عند علماء العامّة أيضا حيث قال في شرح نهج البلاغة: «إنّ المعلوم ضرورة من الدين إبطال حكم النجوم و تحريم الاعتقاد بها و النهي و الزجر عن تصديق المنجّمين، و هذا معنى قول أمير المؤمنين عليه السّلام: فمن صدّقك بهذا فقد كذّب القرآن و استغنى عن الاستعانة باللّه.» انتهى. «1»

[رجوع الاعتقاد المذكور إلى إنكار الصانع أو تعطيله عن التصرّف]

ثمّ لا فرق في أكثر العبارات المذكورة بين رجوع الاعتقاد المذكور إلى إنكار الصانع- جلّ ذكره- كما هو مذهب بعض المنجّمين- و بين تعطيله- تعالى- عن التصرّف في الحوادث السفليّة بعد خلق الأجرام العلويّة على وجه تتحرّك على النحو المخصوص، سواء قيل بقدمها- كما

______________________________

(1) راجع الوسائل في هامش الباب 24 من أبواب ما يكتسب به. «2»

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/ 212.

(2) الوسائل 12/ 101، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 50

هو مذهب بعض آخر- أم قيل بحدوثها و تفويض التدبير إليها- كما هو المحكيّ عن ثالث منهم- و بين أن لا يرجع إلى شي ء من ذلك بأن يعتقد أنّ حركة الأفلاك تابعة لإرادة اللّه، فهي مظاهر لإرادة الخالق- تعالى- و مجبولة على الحركة على طبق اختيار الصانع- جلّ ذكره- كالآلة او بزيادة أنّها مختارة باختيار هو عين اختياره- تعالى- عمّا يقول الظالمون. (1)

______________________________

(1) احتمل المصنّف- كما ترى- في العبارات التي نقلها خمسة احتمالات. و لا يخفى أنّ مآل الأخيرين منها إلى الوجه الثاني و الثالث من الوجوه

الأربعة التي تصوّرها المصنّف للربط فراجع الوجهين الآتيين في كلامه. هذا.

و ظاهر كلامه تطرّق الاحتمالات الخمسة في العبارات المنقولة. و لكن بالتأمّل فيها يظهر أنّ مؤدّى أكثرها لا يتجاوز عن صورة اعتقاد التأثير إمّا مستقلا أو على وجه الجزئيّة في عرض الخالق، أو على وجه التفويض المطلق، و يشكل إرادتهم للصورتين الأخيرتين إذ التأثير بنحو الوساطة و الآليّة أمر يبتنى عليه نظام الوجود عندنا و لا يتوهّم كون الاعتقاد به كفرا سواء كانت بنحو الإرادة و الاختيار كسببيّة الإنسان لأفعاله الاختياريّة، أو بدون ذلك كسببيّة العلل الطبيعيّة لآثارها كالنار للإحراق مثلا فالعالم عالم الأسباب و المسبّبات و الأسباب عندنا مؤثّرات بلا إشكال، و الأدعية و الصدقات و التوجّهات الغيبيّة أيضا من جملتها، و اللّه- تعالى- من ورائها محيط. فهو علة العلل و مسبّب الأسباب، و الكلّ مسخّرات لأمره حدوثا و بقاء و يمحو ما يشاء و يثبت و عنده أمّ الكتاب، و لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين كما نصّ على ذلك أئمّتنا الهداة عليهم السّلام في قبال

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 51

لكن ظاهر ما تقدّم في بعض الأخبار- من أنّ المنجّم بمنزلة الكاهن الذي هو بمنزلة السّاحر الذي هو بمنزلة الكافر. (1)-: من عدا الفرق الثلاث الأول: إذ الظاهر عدم الإشكال في كون الفرق الثلاث من أكفر الكفّار لا بمنزلتهم.

و منه يظهر أنّ ما رتّبه عليه السّلام على تصديق المنجّم من كونه تكذيبا للقرآن و كونه موجبا للاستغناء عن الاستعانة باللّه في جلب الخير و دفع الشرّ يراد منه إبطال قوله بكونه مستلزما لما هو في الواقع مخالف للضرورة من كذب القرآن و للاستغناء عن اللّه- كما هو

طريقة كلّ مستدلّ-

______________________________

الأشاعرة القائلين بالجبر و المعتزلة القائلين بالتفويض. و لا فرق في ذلك كلّه بين النظام العلويّ و النظام السفليّ و العلل الاختياريّة و الطبيعيّة، و ليس الاعتقاد بذلك منافيا للتوحيد بل هو عين التوحيد فتدبّر. نعم لا دليل على كون جميع الحوادث في العالم السفليّ من آثار النظام العلويّ، و لو سلّم فالإحاطة بها لغير المعصومين عليهم السّلام ممنوعة. هذا. بل الاعتقاد بالتفويض المطلق أيضا لا يكون كفرا و إن كان باطلا، اللّهم إلّا مع الالتفات إلى كونه خلاف ضرورة الدين. كيف؟! و إلّا لزم الحكم بكفر المعتزلة القائلين بالتفويض في نظام الوجود و القائلين بعدم احتياج المعلول في بقائه إلى العلّة كما نسب إلى بعض المتكلّمين، فعدّ المصنّف الفرق الثلاث من أكفر الكفّار لا يمكن المساعدة عليه.

(1) راجع نهج البلاغة و قد مرّ نقله في المقام الثالث. «1»

______________________________

(1) راجع نهج البلاغة، فيض 1/ 177؛ عبده 1/ 124؛ لح/ 105، الخطبة 79.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 52

من إنهاء بطلان التالي إلى ما هو بديهي البطلان عقلا أو شرعا أو حسّا أو عادة (1) و لا يلزم من مجرّد ذلك الكفر. و إنّما يلزم ممّن التفت إلى الملازمة و اعترف باللازم. و إلّا فكلّ من أفتى بما هو مخالف لقول اللّه واقعا- إمّا لعدم تفطّنه لقول اللّه أو لدلالته- يكون مكذّبا للقرآن.

و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من صدّق منجّما أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.» (2) فلا يدلّ أيضا على كفر المنجّم و إنّما يدلّ على كذبه فيكون تصديقه تكذيبا للشارع المكذّب له. (3) و يدلّ عليه عطف

الكاهن عليه.

[لم يظهر من الروايات تكفير المنجّم]

و بالجملة فلم يظهر من الروايات تكفير المنجّم بالمعنى الذي تقدّم للتنجيم في صدر عنوان المسألة (4) كفرا حقيقيّا. فالواجب الرجوع

______________________________

(1) أراد أنّ كلامه عليه السّلام يرجع إلى قياس استثنائي مركّب من قضية شرطيّة و حمليّة تتضمّن رفع التالي فينتج رفع المقدّم و صورته هكذا: لو كان المنجّم صادقا في إسناد الحوادث إلى أوضاع النجوم لزم منه كذب القرآن و الاستغناء عن الاستعانة باللّه- تعالى- لكن التالي باطل فالمقدّم مثله.

(2) راجع الوسائل و قد مرّ في المقام الثالث نقله عن المعتبر. «1»

(3) قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «إذا كان تصديقه تكذيبا للشارع كان إخباره أيضا تكذيبا للشارع الحاكم بكذبه، و تكذيب الشارع كفر، إلّا أن يكون مراده الكذب المخبريّ لا الخبريّ.» «2»

(4) يعنى ما حكاه عن جامع المقاصد في تعريفه أعني: «الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكيّة و الاتصالات الكوكبيّة.» و ليس في كلامه هذا

______________________________

(1) الوسائل 12/ 104، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 53

فيما يعتقده المنجّم إلى ملاحظة مطابقته لأحد [لإحدى] موجبات الكفر من إنكار الصانع أو غيره ممّا علم من الدين بديهة. و لعلّه لذا اقتصر الشهيد- فيما تقدّم من القواعد- في تكفير المنجّم، على من يعتقد في الكواكب أنّها مدبّرة لهذا العالم و موجدة له، و لم يكفّر غير هذا الصنف- كما سيجي ء تتمة كلامه السّابق- و لا شكّ أنّ هذا الاعتقاد إنكار إمّا للصانع، و إمّا لما هو ضروريّ الدين من فعله- تعالى- و هو إيجاد العالم و تدبيره (1)

______________________________

تعرّض للتأثير لا بنحو الاستقلال و لا بنحو المدخليّة. و لكن المصنّف ذكر

في المقام الثالث- كما مرّ-: «الإخبار عن الحادثات و الحكم بها مستندا إلى تأثير الاتصالات المذكورة فيها بالاستقلال أو بالمدخليّة.»، ثمّ قال: «و هو المصطلح عليه بالتنجيم، فظاهر الفتاوى و النصوص حرمته مؤكّدة.»، ثمّ ذكر النصوص المذكورة بعنوان الدليل. فكأنّه «ره» هنا نسي ما ذكره هناك و مشى عليه.

أقول: و قد مرّ منّا أنّ تعريف التنجيم- في كلامهما- بالإخبار لا يخلو من مسامحة، و لم يثبت لنا اصطلاح الفقهاء على ذلك. و الظاهر من اللفظ نفس استخراج الأحكام و ارتباط الحوادث الكونيّة بالأوضاع الفلكيّة. اللّهم إلّا أن يقال: إنّ نفس الاستخراج لا وجه لحرمته، بل هو بنفسه من مصاديق التدبّر و التفكّر في ملكوت السماء و الأرض و هو أمر مرغوب فيه موجب لمعرفة الحقّ- تعالى- و قدرته و إنّما المحرّم ترتيب الأثر القطعيّ على ذلك إمّا بالإخبار أو بالاعتقاد، فهذا يصير قرينة على إرادة أحدهما فتدبّر.

(1) لا يخفى أنّ الإسلام عبارة عن الشهادة بالتوحيد و برسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 54

بل الظاهر من كلام بعض اصطلاح لفظ التنجيم في الأوّل:

قال السيّد شارح النخبة: «إنّ المنجّم من يقول بقدم الأفلاك و النجوم، و لا يقولون بمفلّك و لا خالق، و هم فرقة من الطبعيين يستمطرون بالأنواء (1) معدودون من فرق الكفر في مسفورات الخاصّة و العامّة، يعتقدون في الإنسان أنّه كسائر الحيوانات يأكل و يشرب و ينكح ما دام حيّا، فإذا مات بطل و اضمحلّ، و ينكرون جميع الأصول الخمسة.» انتهى.

______________________________

التصديق بهما، و التصديق بالرسالة تتضمّن لا محالة التصديق بكلّ ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الكتاب

و السنة بسعتهما، فإن أنكر أحد واحدا ممّا جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع الالتفات إلى كونه ممّا جاء به و العلم بذلك فمآل ذلك إلى إنكار الرسالة ببعضها فيصير كافرا لذلك، و أمّا بدون الالتفات إلى ذلك فلا يحكم عليه بالكفر بعد ما أقرّ بالشهادتين و لا فرق في ذلك بين كون هذا الأمر من ضروريّات الدين أم لا، و لا دليل على كون إنكار الضروريّ بعنوانه من موجبات الكفر. نعم كون الشي ء ضروريّا أمارة غالبيّة على كون المنكر ملتفتا إلى كونه ممّا جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فإذا كان الشخص المنكر ممّن يحتمل في حقّه عدم الالتفات إلى ذلك فلا يحكم بكفره.

(1) في لسان العرب: «و النوء: النجم إذا مال للمغيب، و الجمع أنواء و نوءان حكاه ابن جنّي ... و قيل: معنى النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر و طلوع رقيبه- و هو نجم آخر يقابله- من ساعته في المشرق في كلّ ليلة إلى ثلاثة عشر يوما ... قال: و إنّما سمي نوءا، لأنّه إذا سقط الغارب ناء الطالع و ذلك الطلوع هو النوء، و بعضهم يجعل النوء السقوط، كأنّه من الأضداد ... و

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 55

ثمّ قال «ره»: «و أمّا هؤلاء الذين يستخرجون بعض أوضاع السيّارات و ربّما يتخرّصون عليها بأحكام مبهمة متشابهة ينقلونها تقليدا لبعض ما وصل إليهم من كلمات الحكماء الأقدمين- مع صحّة عقائدهم الإسلاميّة- فغير معلوم دخولهم في المنجّمين الذين ورد فيهم من المطاعن ما ورد.» انتهى. (1)

______________________________

كانت العرب تضيف الأمطار و الرياح و الحرّ و البرد إلى السّاقط منها،

و قال الأصمعيّ: إلى الطالع منها في سلطانه فتقول: مطرنا بنوء كذا ... و في الحديث:

«ثلاث من أمر الجاهليّة: الطعن في الأنساب و النياحة و الأنواء.» قال أبو عبيد:

الأنواء ثمانية و عشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلّها من الصيف و الشتاء و الربيع و الخريف ... قال: و إنّما سمّي نوءا، لأنّه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءا أي نهض و طلع ... قال شمر: هذه الثمانية و عشرون التي أراد أبو عبيد هي منازل القمر و هي معروفة عند العرب و غيرهم من الفرس و الروم و الهند لم يختلفوا في أنّها ثمانية و عشرون ينزل القمر كلّ ليلة في منزلة منها، و منه قوله- تعالى-: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْنٰاهُ مَنٰازِلَ ... و قال الزجّاج في بعض أماليه و ذكر قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قال: سقينا بالنجم فقد آمن بالنجم و كفر باللّه، و من قال: سقانا اللّه فقد آمن باللّه و كفر بالنجم.» قال: و معنى مطرنا بنوء كذا أي مطرنا بطلوع نجم و سقوط آخر الخ.» «1» و راجع في هذا المجال نهاية ابن الأثير و مجمع البحرين أيضا. «2»

(1) شرح النخبة للسيّد عبد اللّه حفيد السيّد نعمة اللّه الجزائري- رحمهما اللّه-.

______________________________

(1) لسان العرب 1/ 175- 177.

(2) النهاية لابن الأثير 5/ 122؛ مجمع البحرين 1/ 422.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 56

أقول: فيه- مضافا إلى عدم انحصار الكفّار من المنجّمين في من ذكر، بل هم على فرق ثلاث، كما أشرنا إليه و سيجي ء التصريح به من البحار في مسألة السّحر-: إنّ النزاع المشهور بين المسلمين في صحّة التنجيم و بطلانه

هو المعنى الذي ذكره أخيرا.- كما عرفت من جامع المقاصد- و المطاعن الواردة في الأخبار المتقدّمة و غيرها- كلّها أو جلّها- على هؤلاء دون المنجّم بالمعنى الذي ذكره أوّلا.

و ملخّص الكلام: أنّ ما ورد فيهم من المطاعن لا صراحة فيها بكفرهم، بل ظاهر ما عرفت خلافه. و يؤيّده ما رواه في البحار عن محمّد و هارون- ابني سهل النوبختي- أنّها كتبا إلى أبى عبد اللّه عليه السّلام:

«نحن ولد نوبخت المنجّم. و قد كنّا كتبنا إليك هل يحلّ النظر فيها؟.

فكتبت: نعم، و المنجّمون يختلفون في صفة الفلك: فبعضهم يقولون: إنّ الفلك فيه النجوم و الشمس و القمر- إلى أن قال-: فكتب عليه السّلام: نعم، ما لم يخرج من التوحيد.» (1)

______________________________

(1) البحار و تتمة الرواية بعد قوله: «و القمر» هكذا: «معلّق بالسماء و هو دون السماء، و هو الذي يدور بالنجوم و الشمس و القمر، و السماء فإنّها لا تتحرّك و لا تدور، و يقولون: دوران الفلك تحت الأرض و إنّ الشمس تدور مع الفلك تحت الأرض و تغيب في المغرب تحت الأرض و تطلع بالغداة من المشرق، فكتب عليه السّلام: «نعم ما لم يخرج من التوحيد.» قال المجلسي: بيان «معلّق بالسماء» أي الفلك معلّق بالسماء، و لعلّ مرادهم بالسّماء: الفلك التاسع، و بعدم حركتها: أنّها لا تتحرّك بالحركات الخاصّة للكواكب. و قولهم: «دوران

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 57

..........

______________________________

الفلك تحت الأرض» يحتمل الخاصّة و اليوميّة و الأعمّ. و غرضهم: أنّ الكواكب كما تتحرّك تبعا للأفلاك فوق الأرض فكذا تتحرّك تحتها. و قولهم: «و إنّ الشمس تدور مع الفلك» أي بالحركة اليوميّة، هذا ما خطر بالبال في تأويله. و ظاهره أنّ الأفلاك غير السماوات، و

لعلّه كان ذلك مذهبا لجماعة كما ذهب إليه الكراجكي حيث قال في كنز الفوائد:

«اعلم أنّ الأرض على هيئة الكرة» [و ذكر هيئة الأرض و الماء و الهواء و الأفلاك التسعة على النحو المشهور، ثم قال]:

«ثمّ السماوات السبع تحيط بالأفلاك، و هي مساكن الأملاك و من رفعه اللّه- تعالى- إلى سمائه من أنبيائه و حججه عليهم السّلام.» انتهى. و هذا قول غريب لم أر به قائلا غيره. و مخالفته لظاهر الآية أكثر من القول المشهور.

فكتب: «نعم» أي تحلّ النظر فيها. «ما لم يخرج من التوحيد» أي ما لم ينته إلى القول بتأثير الكواكب و أنّها شريكة في الخلق و التدبير للربّ سبحانه. و الظاهر أنّ المراد بالنظر في النجوم هنا علم الهيئة و التفكّر في كيفية دوران الكواكب و الأفلاك و قدر حركاتها و أشباه ذلك، لا استخراج الأحكام و الإخبار عن الحوادث.» انتهى كلام المجلسيّ في البحار. «1»

أقول: ما ذكره في مقام التأويل من حمل السّماء على الفلك التاسع و حمل عدم حركتها على عدم الحركة الخاصّة للكواكب بعيد جدّا مخالف للظاهر، إذ ظاهر الحديث كون الأفلاك غير السماء كما في كلام الكراجكي «ره».

و لعلّ المراد بالأفلاك: المدارات التي تدور فيها النجوم و الكواكب لا ما فرضه

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 250- 252 (ط. إيران، ج 58)، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 58

[الثانى: أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها و اللّه- سبحانه- هو المؤثّر الأعظم]
اشارة

الثانى: أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها و اللّه- سبحانه- هو المؤثّر الأعظم كما يقوله بعضهم على ما ذكره العلّامة و غيره. (1)

______________________________

المشهور من الأجسام الكرويّة المحيطة بالأرض المركوز في ثخنها الشمس و القمر و النجوم، و المراد بالسّماء الفضاء و الجوّ

المحيط بالأرض و سائر الكرات، و المراد بتعلّقها بها كونها سابحات في هذا الجوّ. و إنّما فسّر المجلسي السّماء بالفلك التاسع لما رسخ في ذهنه من وجود الأفلاك التسعة و أنّ فوقها لا خلأ و لا ملأ من جهة اشتهار ذلك في المحيط العلميّ السابق. هذا.

و قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «ظاهر الرواية أو صريحها هو اختصاص المطاعن على المنجّمين بما إذا كان موجبا للخروج عن التوحيد مع عدم البأس في غيره فكان التنجيم بين مباح و بين كفر صريح فهي تشهد على صدق ما تقدّم من شارح النخبة.» «1»

(1) أقول: الظاهر من الوجه الثاني فاعليّة الأفلاك للحوادث بنحو الاختيار و لكن تحت مشية اللّه- تعالى- و من الوجه الثالث الآتي التأثير الطبيعيّ كتأثير النار في الإحراق فاحتمال إرادة الفاعليّة الاختياريّة و الاضطراريّة معا من الوجه الثاني بلا وجه.

و في حاشية الإيرواني «ره»: «الظاهر أنّ مراده من التأثير، التأثير على وجه الآليّة كان ذلك بالاختيار أو بالاضطرار. و صور التأثير بالاستقلال إمّا على وجه تمام المؤثّر أو على وجه جزء المؤثّر تندرج في القسم الأوّل، و إن كان ظاهر عنوان المصنّف هناك هو تمام المؤثّر فكان صورة التأثير على وجه الجزئيّة خارجا من هذا و

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 59

[كلمات العلماء في المقام]

قال العلّامة في محكيّ شرح فصّ الياقوت (1): «اختلف قول المنجّمين على قولين أحدهما: قول من يقول: إنّها حيّة مختارة.

الثاني: قول من يقول: إنّها موجبة، و القولان باطلان.»

______________________________

ذاك. و يحتمل أن يكون مراده من هذا الآليّة الاختياريّة كما يشهده بعض عبائره، و من القسم الثالث الآليّة القهرية و إن لم تساعده عبائره هناك لظهورها بل صراحتها

في التلازم الاتفاقي. لكن إفراد التلازم الاتّفاقي قسما برأسه صريح فيما قلناه.» «1»

أقول: مراده بالتلازم الاتفاقي كون الربط بنحو الكاشف و المكشوف المذكور في الوجه الرابع الآتي و التمثيل للوجه الثالث بالنار و الإحراق دليل على إرادة التأثير الطبيعي لا التلازم الاتفاقي و إن أوهم ما يأتي من القواعد من التعبير: «بأنّ اللّه أجرى عادته» عدم إرادة التأثير. و سيجي ء منّا المناقشة في ذلك.

(1) قال العلّامة في مقدّمة شرحه المسمّى: «أنوار الملكوت في شرح الياقوت»: «و قد صنّف شيخنا الأقدم و إمامنا الأعظم أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت «قده» مختصرا سمّاه الياقوت ...» و على هذا فكتاب العلّامة شرح للياقوت لا لفصّ الياقوت. و راجع في هذا المجال الذريعة إلى تصانيف الشيعة في لغة ياقوت «2». هذا.

و العلّامة بعد حكمه ببطلان القولين- كما في عبارة المصنّف- قال: «أمّا الأوّل فلأنّها أجسام محدثة فلا تكون آلهة، و لأنّها محتاجة إلى محدث غير جسم فلا بدّ من القول بالصانع. و أمّا الثاني فلأنّ الكواكب المعيّن (المعنى لها. خ) كالمريخ مثلا

______________________________

(1) نفس المصدر السابق/ 24.

(2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 25/ 271.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 60

[هل قائل هذا القول كافر أم لا؟]

و قد تقدّم عن المجلسي «ره» أنّ القول بكونها فاعلة بالإرادة و الاختيار- و إن توقّف تأثيرها على شرائط أخر- كفر.» (1) و هو ظاهر أكثر العبارات المتقدّمة. و لعلّ وجهه: أنّ نسبة الأفعال التي دلّت ضرورة الدين على استنادها إلى اللّه تعالى- كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و غيرها- إلى غيره- تعالى- مخالف لضرورة الدين.

لكن ظاهر شيخنا الشهيد- في القواعد- العدم، فإنّه بعد ما ذكر الكلام الذي نقلناه منه سابقا قال: «و إن اعتقد أنّها تفعل

الآثار المنسوبة إليها و اللّه- سبحانه- هو المؤثّر الأعظم فهو مخطئ، إذ لا حياة لهذه

______________________________

إذا كان مقتضيا للحرب لزم دوام وقوع الهرج و المرج في العالم و أن لا تستقر أفعالهم على حال من الأحوال و لمّا كان ذلك باطلا كان ما ذكروه باطلا.

و أمّا القائلون بالطبائع الذين يستندون الأفعال إلى مجرّد الطبيعة فيبطل قولهم بمثل ذلك أيضا فإنّ الطبيعة قوّة جسمانية و كلّ جسم محدث و كلّ قوّة حالّة فيه فهي محدثة تفتقر إلى محدث غير طبيعيّة و إلّا لزم التسلسل فلا بدّ من القول بالصانع- سبحانه و تعالى-» «1» و على هذا فكلام العلّامة مناسب لما مرّ من الوجه الأوّل و لا يرتبط بالوجه الثاني.

(1) في حاشية الإيرواني: «ظاهر المجلسي التأثير و لو بالتفويض من خالقها دون مجرّد الآليّة، و نحوه سائر ما تقدّمت من العبائر فصورة اعتقاد الآليّة حتى مع ثبوت الاختيار خارج عن مورد حكمهم بالكفر، نعم إذا اعتقد الملازمة على وجه لا يقبل التفكيك و لو بالدعاء و الصدقة يرجع ذلك إلى إنكار ضروريّ من

______________________________

(1) أنوار الملكوت/ 199، المسألة 16 من مبحث النبوّة في الردّ على المنجّمين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 61

الكواكب ثابتة بدليل عقليّ و لا نقلىّ.» انتهى. (1) و ظاهره أنّ عدم القول بذلك لعدم المقتضي له و هو الدليل لا لوجود المانع منه، و هو انعقاد الضرورة على خلافه، فهو ممكن غير معلوم الوقوع.

و لعلّ وجهه: أنّ الضروريّ عدم نسبة تلك الأفعال إلى فاعل مختار باختيار مستقلّ مغاير لاختيار اللّه- كما هو ظاهر قول المفوّضة- أمّا استنادها إلى الفاعل بإرادة اللّه المختار بعين مشيّته و اختياره حتى يكون كالآلة بزيادة الشعور و قيام الاختيار

به- بحيث يصدق أنّه فعله و فعل اللّه (2)- فلا؛ إذ المخالف للضرورة إنكار نسبة الفعل إلى اللّه- تعالى- على وجه الحقيقة. لا إثباته لغيره أيضا بحيث يصدق أنّه فعله.

______________________________

ضروريّات الدين.» «1»

(1) القواعد و الفوائد و قد مرّ نقل كلامه بتمامه مع توضيحه و شرحه. «2»

(2) لا بنحو المشاركة في الفعل و أن يكون كلّ منهما جزءا من العلّة، بل بنحو الطوليّة في الفاعليّة نظير فاعليّة الإنسان باختياره و مشيّته في طول فاعليّة اللّه- تعالى- لكلّ شي ء، فالإنسان- بوحدته- موجد لفعله بمشيّته، و هو و مشيّته و فعله كلّها من نظام الوجود المتقوّم بمشية اللّه- تعالى- حدوثا و بقاء.

قال اللّه- تعالى- في سورة التكوير: لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلّٰا أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ رَبُّ الْعٰالَمِينَ. «3»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

(2) القواعد و الفوائد 2/ 35؛ و راجع ص 22 من هذا الكتاب.

(3) سورة التكوير (81)، الآيتان 28 و 29.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 62

نعم ما ذكره الشهيد «ره» من عدم الدليل عليه حقّ، فالقول به تخرّص و نسبة فعل اللّه إلى غيره بلا دليل و هو قبيح.

و ما ذكره- قدّس سرّه- كان مأخذه ما في الاحتجاج عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق أبا عبد اللّه عليه السّلام فقال: ما تقول في من يزعم أنّ هذا التدبير الذي يظهر في هذا العالم تدبير النجوم السبعة؟. قال عليه السّلام:

«يحتاجون إلى دليل أنّ هذا العالم الأكبر و العالم الأصغر من تدبير النجوم التي تسبح في الفلك و تدور حيث دارت متعبة لا تفتر و سائرة لا تقف.»- ثمّ قال: «و إنّ لكلّ نجم منها موكّل مدبّر، فهي بمنزلة العبيد المأمورين المنهيّين.

فلو كانت قديمة أزليّة لم تتغيّر من حال إلى حال ... الخبر.» (1)

______________________________

و قال: اللّٰهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنٰامِهٰا «1»

و قال: قُلْ يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «2» فتارة أسند التوفّي إلى نفسه و أخرى إلى ملك الموت. و كلاهما صحيح، إذ ملك الموت متقوّم حدوثا و بقاء بمشيّة اللّه- تعالى-.

و من هذا القبيل أيضا قوله تعالى: وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ رَمىٰ. «3» و هذا هو الأمر بين الأمرين الذي نصّ عليه أئمّتنا عليهم السّلام كما مرّ.

(1) الاحتجاج «4» و قال الإيرواني «ره» في الحاشية: «ما في الاحتجاج

______________________________

(1) سورة الزمر (39)، الآية 42.

(2) سورة السجدة (32)، الآية 11.

(3) سورة الأنفال (8)، الآية 17.

(4) الاحتجاج/ 190 طبعة النجف (2/ 93)، و 2/ 240 طبعة قم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 63

و الظاهر أنّ قوله: «بمنزلة العبيد المأمورين المنهيّين» يعني في حركاتهم، لا أنّهم مأمورون بتدبير العالم بحركاتهم فهي مدبّرة باختيارها المنبعث عن أمر اللّه- تعالى-. (1)

نعم، ذكر المحدّث الكاشاني- في الوافي- في توجيه البداء كلاما ربّما يظهر منه مخالفة المشهور حيث قال: «فاعلم أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة، لعدم تناهي تلك الأمور بل إنّما تنقش فيها الحوادث شيئا فشيئا، فإنّ ما يحدث في عالم الكون و الفساد إنّما هو من لوازم حركات الأفلاك و نتائج بركاتها فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا كان كذا.» (2) انتهى موضع الحاجة. و ظاهره أنّها فاعلة بالاختيار لملزومات الحوادث.

______________________________

صريح في آليّة الأنجم السبعة و قد نفى عنها التدبير بالاستقلال ردّا على من زعمه بعدم الدليل على الاستقلال فكان ذلك

دليلا على الآليّة التي أنكر الشهيد قيام الدليل عليها، بل في تشبيهها بالعبيد إيماء إلى ثبوت الاختيار لها في أفعالها. و في عبارة الشهيد إشعار بعدم إنكاره للآلية الاضطرارية حيث نفى الدليل على حياتها.» «1»

(1) الظاهر أنّ الجملة عطف على المنفي يعني ليس المراد أنّها مأمورة بتدبير العالم حتّى يكون تدبيرها له باختيارها المنبعث عن أمر اللّه- تعالى-.

(2) أقول: حيث إنّ المصنّف نقل كلام صاحب الوافي ناقصا غير واف ببيان مقصوده كان المناسب نقله وافيا فنقول: قال في شرح روايات باب البداء من

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 64

و بالجملة فكفر المعتقد بالربط على هذا الوجه الثاني لم يظهر من الأخبار، و مخالفته لضرورة الدين لم يثبت أيضا إذ ليس المراد العليّة التامّة كيف؟! و قد حاول المحدّث الكاشاني بهذه المقدّمات إثبات البداء.

______________________________

أصول الكافي المذكور في كتاب التوحيد منه: «فان قيل: كيف يصحّ نسبة البداء إلى اللّه- تعالى- مع إحاطة علمه بكلّ شي ء أزلا و أبدا على ما هو عليه في نفس الأمر و تقدّسه عمّا يوجب التغيّر و السنوح و نحوهما، فاعلم أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة لعدم تناهي تلك الأمور، بل إنّما ينتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا و جملة فجملة مع أسبابها و عللها على نهج مستمرّ و نظام مستقرّ، فإنّ ما يحدث في عالم الكون و الفساد إنّما هو من لوازم حركات الأفلاك و نتائج بركاتها فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا كان كذا، فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه فينتقش فيها ذلك الحكم، و ربّما تأخّر بعض الأسباب

الموجب لوقوع الحادث على خلاف ما يوجبه بقيّة الأسباب لو لا ذلك السبب و لم يحصل لها العلم بذلك بعد، لعدم اطّلاعها على سبب ذلك السبب، ثمّ لمّا جاء أوانه و اطّلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأوّل فيمحى عنها نقش الحكم السابق و يثبت الحكم الآخر.

مثلا لمّا حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا لأسباب تقتضي ذلك و لم يحصل لها العلم بتصدّقه، الذي سيأتي به قبيل ذلك الوقت، لعدم اطلاعها على أسباب التصدّق بعد ثمّ علمت به و كان موته بتلك الأسباب مشروطا بأن لا يتصدّق فتحكم أوّلا بالموت و ثانيا بالبرء ... فهذا هو السبب في البداء و المحو و الإثبات و التردّد و أمثال ذلك في أمور العالم. و أمّا نسبة ذلك كلّه إلى اللّه-

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 65

..........

______________________________

تعالى- فلأنّ كلّ ما يجري في هذا العالم الملكوتي إنّما يجري بإرادة اللّه- تعالى-، بل فعلهم بعينه فعل اللّه- سبحانه- حيث إنّهم لٰا يَعْصُونَ اللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ إذ لا داعي لهم على الفعل إلّا إرادة اللّه- عزّ و جلّ- لاستهلاك إرادتهم في إرادته- تعالى- ...» «1» انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

أقول: هذا بالنسبة إلى حكم النفوس الفلكيّة، و أمّا بالنسبة إلى النفوس النبويّة، و الولويّة فلعلّه يقول إنّهم كانوا ربّما يرتبطون بالنفوس الفلكيّة فيشاهدون فيها ما انتقش من الأحكام فيخبرون بها ثمّ يتغير الحكم الأوّل بمثل الصدقة و الدعاء و نحوهما كما في قصّة إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بموت اليهودي عن قريب ثمّ تبيّن نجاته بالتصدّق. «2» و للأستاذ الحكيم المتألّه آية اللّه الطباطبائي- قدّس سرّه- حاشية و

زينة في ذيل الصحيحة المرويّة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من قوله: «ما عظّم اللّه بمثل البداء» من أراد الاطّلاع عليها فليراجع أصول الكافي. «3»

______________________________

(1) الوافي/ 112 من الجزء الأوّل، المطبوع سابقا.

(2) الكافي 4/ 5، كتاب الزكاة، باب الصدقة تدفع البلاء، الحديث 3.

(3) الكافي 1/ 146، كتاب التوحيد، باب البداء.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 66

[الثالث: استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النّار]

الثالث: استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النّار (1)

______________________________

(1) في حاشية المحقّق الإيرواني في ذيل التمثيل بالنار و الإحراق قال: «يعني من باب التلازم الاتفاقي بلا تأثير و لا آلية.» «1» و فيه أيضا في ذيل ما سيجي ء من المصنّف من قوله: «ثمّ على تقديره فليس فيه دلالة ...» قال: «هذه العبارة إلى آخرها أجنبيّة عن المقام، إذ لم يكن الكلام في ثبوت التأثير و لو على نحو الآليّة، بل في التلازم و قد اعترف به في العبارة.» «2»

أقول: ما ذكره عجيب، إذ المفروض في الوجه الثالث ليس هو التلازم الاتّفاقي بل التأثير الطبيعيّ، و النار مقتضية للإحراق و مؤثّرة فيه حقيقة و إن لم يكن بنحو العلّيّة التامّة و ليس إسناده إليها مجازيّا، و هكذا الكلام في الأغذية و الأدوية و نحوهما.

و ما مرّ منّا في بيان الأمر بين الأمرين لا ينحصر في الفواعل الاختياريّة كالإنسان مثلا بل يجري في جميع المقتضيات و الفواعل حتى المؤثّرات الطبيعيّة. و المصنّف أيضا لا ينكر السببيّة و التأثير و لم يعترف بالتلازم الاتّفاقي.

نعم كلام الشهيد في القواعد يوهم ما عليه الأشاعرة من استناد جميع الآثار إلى اللّه- تعالى- حقيقة و أنّ الوسائط ليس بعلل و أسباب. بل هي موضوعات لأفعال اللّه- تعالى- و أنّه جرى عادته عل إيجاد الإحراق

مثلا عند وجود النار من دون تأثير لوجود النار في ذلك و لا سيّما إن كان المذكور في كلامه كلمة: «يفعل» مذكرا، لا كلمة: «تفعل»، و هذا مضافا إلى كونه مخالفا للوجدان مخالف لما نصّ عليه أئمّتنا عليهم السّلام من الأمر بين الأمرين فتدبّر.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

(2) نفس المصدر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 67

و ظاهر كلمات كثير ممّن تقدّم كون هذا الاعتقاد كفرا. (1) إلّا أنّه قال شيخنا المتقدّم في القواعد بعد الوجهين الأوّلين: «و أمّا ما يقال من استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النار و غيرها من العاديّات- بمعنى أنّ اللّه- تعالى- أجرى عادته أنّها إذا كانت على شكل مخصوص أو وضع مخصوص يفعل [تفعل- القواعد] ما ينسب إليها و يكون ربط المسبّبات بها كربط مسبّبات الأدوية و الأغذية بها مجازا باعتبار الربط العاديّ لا الربط العقليّ الحقيقيّ [لا الفعل الحقيقيّ- القواعد]- فهذا لا يكفر معتقده لكنّه مخطئ و إن كان أقلّ خطأ من الأوّل لأنّ وقوع هذه الآثار عندها ليس بدائم و لا أكثريّ.» «1» انتهى.

و غرضه من التعليل المذكور، الإشارة إلى عدم ثبوت الربط العاديّ لعدم ثبوته بالحسّ- كالحرارة الحاصلة بسبب النار و الشمس و برودة القمر- و لا بالعادة الدائمة و لا الغالبة لعدم العلم بتكرّر الدفعات كثيرا حتى يحصل العلم أو الظنّ.

ثمّ على تقديره فليس فيه دلالة على تأثير تلك الحركات في الحوادث فلعلّ الأمر بالعكس أو كلتاهما مستندتان إلى مؤثّر ثالث فتكونان من المتلازمين في الوجود.

______________________________

(1) حيث إنّهم حكموا بكون القول بالتأثير كفرا و لو على نحو المدخليّة.

______________________________

(1) القواعد و الفوائد 2/ 35.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 68

و بالجملة فمقتضى ما ورد

من أنّه: «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسبابها [إلّا بالأسباب- الكافي].» «1» كون كلّ حادث مسبّبا. و أمّا أنّ السبب هي الحركة الفلكيّة أو غيرها فلم يثبت، و لم يثبت أيضا كونه مخالفا لضرورة الدين.

بل في بعض الأخبار ما يدلّ بظاهره على ثبوت التأثير للكواكب مثل ما في الاحتجاج عن أبان بن تغلب- في حديث اليماني الذي دخل على أبي عبد اللّه عليه السّلام و سمّاه باسمه الذي لم يعلمه أحد، و هو سعد- فقال له: «يا سعد و ما صناعتك؟. قال: أنا أهل بيت ننظر في النجوم- إلى أن قال عليه السّلام-: ما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الإبل؟ قال:

لا أدري، قال: صدقت. قال: ما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت البقر؟. قال: لا أدري، قال: صدقت. فقال: ما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الكلاب؟. قال: لا أدري، قال: صدقت في قولك لا أدري، فما زحل عندكم في النجوم؟. فقال سعد: نجم نحس!. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا تقل هذا، فانّه نجم أمير المؤمنين عليه السّلام و هو نجم الأوصياء، و هو النجم الثاقب الذي قال اللّه- تعالى- في كتابه.» (1)

______________________________

(1) راجع الاحتجاج «2» و الرواية مرسلة. و يمكن منع ظهورها في التأثير، إذ يكفي في صدق الشرط مجرّد الموافاة الوجوديّة بين الشرط و الجزاء.

______________________________

(1) الكافى 1/ 183، كتاب الحجة، باب معرفة الإمام و الرد إليه، الحديث 7.

(2) الاحتجاج/ 193 طبعة النجف (2/ 100)، و 2/ 250 طبعة قم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 69

و في رواية المدائني- المرويّة عن الكافي- عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إنّ اللّه خلق نجما في الفلك السّابع فخلقه من ماء بارد،

و خلق سائر النجوم الجاريات من ماء حارّ، و هو نجم الأنبياء و الأوصياء، و هو نجم أمير المؤمنين عليه السّلام يأمر بالخروج من الدنيا و الزهد فيها و يأمر بافتراش التراب و توسّد اللبن و لباس الخشن و أكل الجشب. و ما خلق اللّه نجما أقرب إلى اللّه تعالى منه.» (1)

و الظاهر أنّ أمر النجم بما ذكر من المحاسن كناية عن اقتضائه لها.

______________________________

(1) راجع الكافي «1» و في السند سهل بن زياد عن الحسن بن عليّ بن عثمان عن أبي عبد اللّه المدائني، و الأمر في سهل سهل و لكنّ الأخيرين مجهولان.

و استدلال المصنّف بهذه الرواية مبنيّ على ما استظهره من كون المراد بأمر النجم بما ذكر اقتضائه له تكوينا. و لكن المجلسي «ره» في مرآة العقول حمل الأمر فيها على معنى آخر فقال: «لعلّ المراد أنّ من ينسب إليه هكذا حاله، أو أنّ من كان هذا الكوكب طالع ولادته يكون كذلك، أو المنسوبون إلى هذا الكوكب يأمرون بذلك.» «2»

______________________________

(1) الكافي 8/ 257، كتاب الروضة، خطبة أمير المؤمنين «ع» بعد الجمل، الحديث 369.

(2) مرآة العقول 26/ 243، كتاب الروضة، باب إنّ اللّه يقبل التوبة ...، الحديث 369.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 70

[الرابع: أن يكون ربط الحركات بالحوادث من قبيل ربط الكاشف بالمكشوف]
اشارة

الرابع: أن يكون ربط الحركات بالحوادث من قبيل ربط الكاشف بالمكشوف (1) و الظاهر أنّ هذا الاعتقاد لم يقل أحد بكونه كفرا.

[هذا الاعتقاد ليس بكفر]

قال شيخنا البهائي «ره»- بعد كلامه المتقدّم الظاهر في تكفير من قال بتأثير الكواكب أو مدخليّتها- ما هذا لفظه: «و إن قالوا: إنّ اتصالات تلك الأجرام و ما يعرض لها من الأوضاع علامات على بعض حوادث هذا العالم ممّا يوجده اللّه- سبحانه- بقدرته و إرادته، كما أنّ حركات النبض و اختلافات أوضاعه علامات يستدلّ بها الطبيب على ما يعرض للبدن من قرب الصحّة و اشتداد المرض و نحوه، و كما يستدلّ باختلاج بعض الأعضاء على بعض الأحوال المستقبلة، فهذا لا مانع منه و لا حرج في اعتقاده. و ما روي في صحّة علم النجوم و جواز تعلّمه محمول على هذا المعنى.» «1» انتهى.

______________________________

(1) في حاشية الإيرواني: «عدّ هذا قسما برأسه في غير محلّه فإنّ الربط بين الكاشف و المنكشف ليس إلّا التلازم الوجوديّ إمّا لعلاقة أو من باب الاتفاق و قد تقدّمت صورتا التأثير استقلالا و على وجه الآلية كما تقدّمت صورة التلازم الاتفاقيّ فلم يبق ما يكون رابع الأقسام.» «2»

أقول: قد مرّ منّا أنّ الوجه الثالث ليس هو التلازم الاتفاقيّ بل من قبيل التأثير الطبيعي كالنار في الإحراق فيكون الوجه الرابع مغايرا للوجوه الثلاثة الماضية.

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 291 (ط. بيروت)، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

(2) حاشية المكاسب للمحقّ الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 71

و ممّا يظهر منه خروج هذا عن مورد طعن العلماء على المنجّمين ما تقدّم من قول العلّامة «ره»: «إنّ المنجّمين بين قائل بحياة الكواكب و كونها فاعلة مختارة، و بين

من قال: إنّها موجبة.» (1)

و يظهر ذلك من السيّد «ره» حيث قال- بعد إطالة الكلام في التشنيع عليهم- ما هذا لفظه المحكيّ: «و ما فيهم أحد يذهب إلى أنّ اللّه- تعالى- أجرى العادة بأن يفعل عند قرب بعضها من بعض أو بعده أفعلا من غير أن يكون للكواكب أنفسها تأثير في ذلك.» قال: «و من ادّعى منهم هذا المذهب الآن فهو قائل بخلاف ما ذهب إليه القدماء و متجمّل بهذا المذهب عند أهل الإسلام.» (2) انتهى.

لكن ظاهر المحكيّ عن ابن طاوس: إنكار السيّد «ره» لذلك أيضا حيث إنّه بعد ما ذكر أنّ للنجوم علامات و دلالات على الحادثات لكن يجوز للقادر الحكيم- تعالى- أن يغيرها بالبرّ و الصدقة و الدعاء، و غير ذلك من الأسباب و جوّز تعلّم علم النجوم و النظر فيه و العمل به إذا لم يعتقد أنّها مؤثّرة و حمل أخبار النهي على ما إذا اعتقد أنّها

______________________________

(1) راجع أنوار الملكوت و قد مرّ نقل كلامه. «1»

(2) راجع رسائل الشريف المرتضى «2» و هذه العبارة منه في أوّل مسألة التنجيم، لا بعد إطالة الكلام في التشنيع على المنجّمين.

______________________________

(1) أنوار الملكوت/ 199، المسألة 16 من مبحث النبوّة في الردّ على المنجّمين.

(2) رسائل الشريف المرتضى 2/ 302، مسألة في الردّ على المنجّمين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 72

كذلك، أنكر على علم الهدى تحريم ذلك ثمّ ذكر لتأييد ذلك أسماء جماعة من الشيعة كانوا عارفين به.» انتهى. (1) و ما ذكره «ره» حقّ إلّا أنّ مجرّد كون النجوم دلالات و علامات لا يجدي مع عدم الإحاطة بتلك العلامات و معارضاتها و الحكم مع عدم الإحاطة لا يكون قطعيّا، بل و لا ظنيّا.

[ما ينكر على المنجّم أمران]

و السيّد علم

الهدى إنّما أنكر من المنجّم أمرين: أحدهما: اعتقاد التأثير و قد اعترف به ابن طاوس. و الثاني: غلبة الإصابة في أحكامهم- كما تقدّم منه ذلك في صدر المسألة (2)- و هذا أمر معلوم

______________________________

(1) أقول: قال ابن طاوس في فرج المهموم: «فصل: و من أعظم من يعتقد فيه أنّه ينكر دلالة النجوم على الحادثات من أصحابنا المتكلّمين- تغمّدهم اللّه بالرحمات- السيّد المرتضى- رضي اللّه عنه- و أبلغ ما وقفت عليه من كلماته في ذلك في جملة مسائل سأله عنها تلميذه سلّار «ره» و إذا اعتبر الناظر فيها ما ذكره في آخر جوابه عنها وجده يقول: إنّ اتصال الكواكب و انفصالها و تسييرها لها أصول صحيحة و قواعد سديدة، و هذا من أعظم الموافقة على ما ذكرناه من صحّة دلالة النجوم، و إنما ينكر- رحمه اللّه- أنّ النجوم فاعلة، و ذلك منكر و كفر كما دللنا على فساده، و منكر أن تكون النجوم مؤثّرة في أجسامنا و نحن على اعتقاده.» «1»

أقول: يظهر من هذا الفصل أنّ السيّد لا يعتقد في حقّ السيّد أنّه ينكر دلالة النجوم على الحادثات بنحو الإطلاق.

(2) راجع ما حكاه عنه المصنّف في المقام الأوّل و رسائل الشريف

______________________________

(1) فرج المهموم/ 41.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 73

بعد فرض عدم الإحاطة بالعلامات و معارضاتها.

و لقد أجاد شيخنا البهائي أيضا حيث أنكر الأمرين و قال- بعد كلامه المتقدّم في إنكار التأثير و الاعتراف بالأمارة و العلامة-: «اعلم أنّ الأمور التي يحكم بها المنجّمون من الحوادث الاستقباليّة أصول:

بعضها مأخوذة من أصحاب الوحي- سلام اللّه عليهم-، و بعضها يدّعون لها التجربة، و بعضها مبتن على أمور متشعبة لا تفي القوة البشرية بضبطها و الإحاطة بها كما

يؤمي إليه قول الصادق عليه السّلام: «كثيره لا يدرك و قليله لا ينتج.» (1) و لذلك وجد الاختلاف في كلامهم و تطرق الخطأ إلى بعض أحكامهم، و من اتّفق له الجري على الأصول الصحيحة صحّ كلامه و صدقت أحكامه لا محالة كما نطق به الصادق عليه السّلام و لكن هذا أمر عزيز المنال لا يظفر به إلّا القليل، و اللّه الهادي إلى سواء السبيل.» «1» انتهى.

______________________________

المرتضى. «2»

(1) راجع الوسائل في رواية عبد الرحمن بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إنّكم تنظرون في شي ء منها كثيره لا يدرك و قليله لا ينتفع به.» «3»

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 292، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

(2) رسائل الشريف المرتضى 2/ 311.

(3) الوسائل 12/ 102، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 74

و ما أفاده «ره» أوّلا من الاعتراف بعدم بطلان كون الحركات الفلكيّة أمارات و علامات، و آخرا من عدم النفع في علم النجوم إلّا مع الإحاطة التامّة، هو الذي صرّح به الصادق عليه السّلام في رواية هشام الآتية بقوله عليه السّلام: «إنّ أصل الحساب حقّ و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق.» «1»

و يدلّ أيضا على كلّ من الأمرين الأخبار المتكثّرة. فما يدلّ على الأوّل و هو ثبوت الدلالة و العلامة في الجملة- مضافا إلى ما تقدّم من رواية سعد المنجّم المحمولة بعد الصرف عن ظاهرها الدالّ على سببيّة طلوع الكواكب لهيجان الإبل و البقر و الكلاب، على كونه أمارة و علامة عليه (1)- المرويّ في الاحتجاج عن [من. ظ] رواية الدهقان المنجّم الذي استقبل أمير المؤمنين عليه السّلام حين

خروجه إلى نهروان فقال له عليه السّلام: يومك هذا يوم صعب قد انقلب منه كوكب [قد اتصلت فيه كوكبان. الاحتجاج] و انقدح من برجك النيران و ليس لك الحرب بمكان، فقال عليه السّلام له: «أيّها الدهقان المنبئ عن الآثار المحذّر عن الأقدار.»

______________________________

(1) في حاشية المحقّق الإيرواني: «بل القضيّة الشرطيّة غير ظاهرة في ثبوت التأثير بين طرفيها، و إنّما تؤدي التلازم الوجوديّ بين المقدّم و التالي بالأعمّ ممّا كان لعلاقة لزوميّة أو من باب محض الاتفاق.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 102، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) حاشية المحقّق الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 75

ثمّ سأله عن مسائل كثيرة من النجوم فاعترف الدهقان بجهلها- إلى أن قال عليه السّلام له-: «أمّا قولك: انقدح من برجك النيران فكان الواجب أن تحكم به لي لا عليّ، أمّا نوره و ضياؤه فعندي، و أمّا حريقه و لهبه فذهب عنّي فهذه مسألة عميقة فاحسبها إن كنت حاسبا.» «1» و في رواية أخرى: أنّه عليه السّلام قال له: «احسبها إن كنت عالما بالأكوار و الأدوار، قال:

لو علمت هذا لعلمت أنّك تحصي عقود القصب في هذه الأجمة.» «2»

و في الرواية الآتية لعبد الرحمن بن سيّابة: «هذا حساب إذا حسبه الرجل و وقف عليه عرف القصبة التي في وسط الأجمة و عدد ما عن يمينها، و عدد ما عن يسارها، و عدد ما خلفها، و عدد ما أمامها حتى لا يخفى عليه شي ء من قصب الأجمة.» «3»

[سابقة النجوم و أصله]

و في البحار: وجد في كتاب عتيق عن عطاء قال: قيل لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: هل كان للنجوم أصل؟. قال عليه السّلام: «نعم نبيّ من الأنبياء قال له قومه:

إنّا لا نؤمن بك حتّى تعلّمنا بدأ الخلق و آجالهم، فأوحى اللّه- عزّ و جلّ- إلى غمامة فأمطرتهم (و استنقع حول الجبل) ماء صاف ثمّ أوحى اللّه إلى الشمس و القمر و النجوم أن تجري في ذلك الماء. ثمّ أوحى اللّه إلى ذلك النبيّ أن يرتقي هو و قومه على الجبل فارتقوا الجبل فقاموا على الماء حتّى عرفوا بدأ الخلق و آجالهم بمجاري الشمس و القمر و النجوم و ساعات الليل و النهار، و كان أحدهم يعرف متى يموت و

______________________________

(1) راجع الاحتجاج/ 125 طبعة النجف (1/ 355)، و 1/ 558 طبعة قم.

(2) راجع فرج المهموم 104؛ و بحار الأنوار 55/ 231، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

(3) راجع الكافي 8/ 195، كتاب الروضة، الحديث 233.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 3، ص: 76

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 76

متى يمرض و من ذا الذي يولد له، و من ذا الذي لا يولد له فبقوا كذلك برهة من دهرهم.

ثمّ إن داود عليه السّلام قاتلهم على الكفر فأخرجوا إلى داود عليه السّلام في القتال من لم يحضر أجله، و من حضر أجله خلّفوه في بيوتهم فكان يقتل من أصحاب داود و لا يقتل من هؤلاء أحد. فقال داود: ربّ أقاتل على طاعتك و يقاتل هؤلاء على معصيتك يقتل أصحابي و لا يقتل من هؤلاء أحد. فأوحى اللّه- عزّ و جلّ- إليه: إني علّمتهم بدء الخلق و آجاله، و إنّما أخرجوا إليك من لم يحضره أجله، و من حضر أجله خلّفوه في بيوتهم: فمن ثمّ يقتل

أصحابك و لا يقتل منهم أحد. قال داود عليه السّلام:

ربّ على ما ذا علّمتهم؟ .. قال على مجاري الشمس و القمر و النجوم و ساعات الليل و النهار. قال: فدعا اللّه- عزّ و جلّ- فحبس الشمس عليهم فزاد النهار و اختلطت الزيادة بالليل و النهار فلم يعرفوا قدر الزيادة فاختلط حسابهم. قال عليّ عليه السّلام: فمن ثمّ كره النظر في علم النجوم.» (1)

______________________________

(1) راجع البحار نقلا عن النجوم و أراد به فرج المهموم لابن طاوس. قال المجلسي في مقام البيان: «أن تجري في ذلك الماء» يمكن أن يكون المراد جريان عكس الكواكب فيها فيكون الماء كالزيج لهم لاستعلام مقدار الحركات، أو خلق اللّه للكواكب أمثالا فأجراها في الماء على قدر حركة أصلها في السماء أو صغّرها و أنزلها و أجراها فيه.» «1»

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 236 و 237، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 77

و في البحار أيضا عن الكافي بالإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن النجوم، فقال: «لا يعلمها إلّا أهل بيت من العرب و أهل بيت من الهند.» «1» و بالإسناد عن محمد بن سالم قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«قوم يقولون: النجوم أصحّ من الرؤيا و كان ذلك صحيحا حين لم يرد الشمس على يوشع بن نون و امير المؤمنين عليه السّلام فلمّا ردّ اللّه الشمس عليهما ضلّ فيها علماء النجوم.» (1)

و خبر يونس قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام جعلت فداك أخبرني عن علم النجوم ما هو.؟ قال: علم من علوم الأنبياء.» قال: فقلت: كان

______________________________

أقول: الظاهر هو الاحتمال الأوّل و يبعد الأخيران.

(1) راجع البحار و

فرج المهموم «2» و ظاهر عبارة المصنّف أنّ هذه الرواية كسابقتها رواها في البحار عن الكافي، و ليس كذلك بل رواها عن فرج المهموم و هو رواها عن الكليني في كتاب تفسير الرؤيا. و الراوي في البحار محمد بن سام و في فرج المهموم محمد بن غانم.

و في حاشية الإيرواني في ذيل قوله: «و كان ذلك صحيحا حين لم يردّ الشمس» قال: «هذا لا ينافي ما تقدّم من اختلاط الحساب في زمان داود عليه السّلام بدعائه، فلعلّ المطابقة التامّة و الإصابة الدائميّة سلبت في زمانه و بقيت مطابقة غالبيّة فسلبت هذه أيضا عند ردّ الشمس على يوشع و على مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام فصارت الإصابة نادرة.» «3»

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 243؛ الوسائل 12/ 103، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) بحار الأنوار 55/ 242؛ فرج المهموم/ 87.

(3) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 78

علي بن أبي طالب عليه السّلام يعلمه؟ قال: «كان أعلم الناس به ... الخبر» (1)

و خبر الريّان بن الصلت قال: حضر عند أبي الحسن الرضا عليه السّلام الصباح بن نصر الهندي و سأله عن علم النجوم فقال عليه السّلام: «هو علم في أصله حقّ [هو علم في أصل صحيح. البحار] و ذكروا أنّ أوّل من تكلّم به إدريس عليه السّلام و كان ذو القرنين به ماهرا، و أصل هذا العلم من اللّه- عزّ و جلّ-.» (2)

و عن معلّى بن خنيس قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن النجوم أحقّ هي.؟ فقال: «نعم، إنّ اللّه- عزّ و جلّ- بعث المشتري إلى الأرض في صورة رجل فأتى رجلا من العجم فعلّمه (3) فلم يستكلموا

ذلك فأتى

______________________________

أقول: يظهر من كلامه أنّ داود عليه السّلام كان قبل يوشع، مع وضوح أنّ يوشع كان وصيّا بلا فصل لموسى عليه السّلام و داود كان متأخّرا عنه بكثير.

(1) راجع البحار و فرج المهموم «1» و الظاهر زيادة لفظ الخبر في آخر الحديث، إذ هو مذكور في المتن بتمامه.

(2) راجع البحار و فرج المهموم، و في فرج المهموم: «الصباح بن النضر الهندى». «2»

(3) إلى هنا رواية المعلّى نعم لها ذيل لم ينقله المصنّف فراجع الكافي و الوسائل «3» و أمّا من قوله: «فلم يستكملوا» فمن رواية الريّان، ففيها بعد العبارة

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 235؛ فرج المهموم/ 23.

(2) بحار الأنوار 55/ 245؛ فرج المهموم/ 94.

(3) الكافي 8/ 330 كتاب الروضة، الحديث 507؛ و الوسائل 12/ 102، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 79

بلد الهند فعلّم رجلا منهم. فمن هناك صار علم النجوم بها، و قد قال قوم: هو علم من علوم الأنبياء خصّوا به لأسباب شتّى فلم يستدرك المنجّمون الدقيق منها، فشاب الحقّ بالكذب.» إلى غير ذلك ممّا يدلّ على صحّة علم النجوم في نفسه. (1)

[ما دلّ على كثرة الخطأ و الغلط في حساب المنجّمين]

و أمّا ما دلّ على كثرة الخطأ و الغلط في حساب المنجّمين فهي كثيرة:

منها: ما تقدّم في الروايات السّابقة: مثل قوله عليه السّلام في الرواية الأخيرة: «فشاب الحقّ بالكذب».

و قوله عليه السّلام: «ضلّ فيها علماء النجوم.» (2)

______________________________

السّابقة: «و يقال: إنّ اللّه- تعالى- بعث النجم الذي هو المشتري إلى الأرض في صورة رجل فأتى بلد العجم فعلّمهم- في حديث طويل- فلم يستكملوا ذلك فأتى بلد الهند ...» فالمصنّف خلط بين الروايتين.

و في حاشية الإيرواني في ذيل: «إنّ اللّه بعث المشتري» قال:

«هذا لا ينافي ما تقدّم في كيفيّة التعليم فلعلّ التعليم، وقع في وقائع متعدّدة لطوائف متعدّدين.» «1»

(1) في تفسير العيّاشي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق روح القدس فلم يخلق خلقا أقرب إلى اللّه منها و ليست بأكرم خلقه عليه فإذا أراد أمرا ألقاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به.» «2»

(2) راجع ما مرّ من رواية محمّد بن سالم آنفا. «3»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

(2) تفسير العياشي 2/ 270، في تفسير سورة النحل، الحديث 70.

(3) بحار الأنوار 55/ 242؛ و راجع ص 77 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 80

و قوله عليه السّلام- في تخطئة ما ادّعاه المنجّم من أنّ زحل عندنا كوكب نحس: «أنّه كوكب أمير المؤمنين و الأوصياء عليهم السّلام.» (1)

و تخطئة أمير المؤمنين عليه السّلام للدهقان الذي حكم بالنجوم بنحوسة اليوم الذي خرج فيه أمير المؤمنين عليه السّلام.» (2)

و منها: خبر عبد الرحمن بن سيّابة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

جعلت فداك إنّ الناس يقولون: إنّ النجوم لا يحلّ النظر فيها و هي تعجبني، فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شي ء يضرّ بديني، و إن كانت لا تضرّ بديني فو اللّه إنّي لأشتهيها و أشتهي النظر فيها؟.

فقال عليه السّلام: «ليس كما يقولون، لا تضرّ بدينك.» ثمّ قال عليه السّلام: «إنّكم تنظرون في شي ء كثيره لا يدرك و قليله لا ينفع ... الخبر» «1»

و منها: خبر هشام قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كيف بصرك بالنجوم؟» قلت: ما خلفت بالعراق أبصر بالنجوم منّي. ثم سأله عن أشياء لم يعرفها، ثمّ قال عليه السّلام: «ما بال العسكرين يلتقيان

في هذا حاسب و في ذلك حاسب فيحسب هذا لصاحبه بالظفر و يحسب هذا لصاحبه بالظفر فليتقيان فيهزم أحدهما الآخر فأين كانت النجوم؟.»

______________________________

(1) راجع ما مرّ من رواية سعد اليماني المروية عن الاحتجاج. «2»

(2) راجع ما مرّ من رواية الدهقان المروية عن الاحتجاج. «3»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 101، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) راجع ص 68 من هذا الكتاب.

(3) راجع ص 74 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 81

قال فقلت: (لا) و اللّه ما أعلم ذلك قال: فقال عليه السّلام: «صدقت، إنّ أصل الحساب حقّ و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم.» «1»

و منها: المرويّ في الاحتجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث-: إنّ زنديقا قال له: ما تقول في علم النجوم؟ قال عليه السّلام: «هو علم قلّت منافعه و كثرت مضارّه (لأنّه) لا يدفع به المقدور و لا يتّقى به المحذور، إن خبّر المنجّم بالبلاء لم ينجه التحرّز عن القضاء، و إن خبّر هو بخير لم يستطع تعجيله، و إن حدث به سوء لم يمكنه صرفه، و المنجّم يضادّ اللّه في علمه بزعمه أنّه يردّ قضاء اللّه عن خلقه ... الخبر» (1)

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على أنّ ما وصل إليه المنجّمون أقلّ قليل من أمارات الحوادث من دون وصول إلى معارضاتها. و من تتبّع هذه الأخبار لم يحصل له ظنّ بالأحكام المستخرجة عنها فضلا عن القطع.

______________________________

(1) راجع الوسائل رواه عن الاحتجاج. «2»

و قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «المحصّل من مجموع الأحاديث و جهان لعدم الفائدة في تعلّم علم النجوم: أحدهما: كثرة الخطأ فيما هو في أيدي المنجمين من الحساب.

الثاني: أنّه لا يؤثّر إلّا الألم و الحزن لما يرى في الطالع من الشرّ. و أمّا الدعاء و الصدقة لدفعه فهو لا يتوقّف على معرفة تفاصيل

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث.

(2) الوسائل 12/ 104، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10؛ الاحتجاج/ 191 طبعة النجف (2/ 95)، و 2/ 242 طبعة قم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 82

[الحكم على ما يحصل بالتجربة]

نعم قد يحصل من التجربة المنقولة خلفا عن سلف الظنّ- بل العلم- بمقارنة حادث من الحوادث لبعض الأوضاع الفلكيّة. فالأولى التجنّب عن الحكم بها و مع الارتكاب فالأولى الحكم على سبيل التقريب و أنّه لا يبعد أن يقع كذا عند كذا، و اللّه المسدّد.

______________________________

مقتضيات الكواكب، بل يدعو اللّه- تعالى- على كلّ حال لدفع قضاء السوء. و لعلّ حكمة النهي عن النظر دوام المواظبة على الدعاء و التصدّق لكون الإنسان دائما بين الخوف و الرجاء بخلاف ما لو نظر إلى الطالع فرآه خيرا فإنّه يستريح إلى ما يراه و لا يدعو و لا يتصدّق، فلعلّ لنفس المواظبة مدخلا تامّا في دفع الشرور.» «1»

أقول: مقتضى رواية عبد الرحمن بن سيّابة الماضية جواز النظر في النجوم و عدم النهي عنه.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 25.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 83

فذلكة البحث:

______________________________

قد فسّر المصنّف التنجيم- كما مرّ تبعا لجامع المقاصد- بالإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكيّة و الاتصالات الكوكبيّة.

ثمّ تعرّض لأربع مسائل في أربعة مقامات:

الأوّل: جواز الإخبار بحركات الكواكب و أوضاعها و اتصالاتها المبحوث عنها في علم الهيئة إمّا بنحو الجزم إن استند إلى البرهان أو ظنّا إن استند إلى الأمارات المفيدة له.

الثاني: جواز الإخبار بحدوث الحوادث السفليّة عند تحقّق الاتصالات و الحركات المذكورة ظنّا بل بنحو الجزم أيضا إن استند إلى تجربة قطعيّة من دون اعتقاد ربط سببيّ بينهما لا بنحو الاقتضاء و لا بنحو العليّة التامّة بل بنحو الموافاة الوجوديّة فقط.

الثالث: حرمة الإخبار عن الحادثات و الحكم بها باعتقاد تأثير الاتصالات المذكورة فيها مستقلا أو بنحو المدخليّة، قال: «و هو المصطلح عليه بالتنجيم.»

الرابع: اعتقاد ربط الحركات الفلكيّة بالحوادث السفليّة.

ثمّ قسّم الربط المذكور إلى

أربعة أقسام كما مرّ بيانه. فيكون المبحوث عنه في المقامات الثلاث الأول جواز الإخبار و عدمه و هو بحث فقهيّ. و في المقام الرابع بحث اعتقاديّ و أنّ أيّ قسم من أقسام الربط يكون الاعتقاد به كفرا موجبا للخروج من الدين، و أيّ قسم منها لا يكون كفرا و إن أمكن كونه خطأ أو دعوى بلا دليل. هذا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 84

..........

______________________________

و نحن ناقشنا أوّلا بأنّ التنجيم ليس هو الإخبار بل نفس استخراجات المنجّم.

و ثانيا بمنع كون المصطلح عليه خصوص صورة اعتقاد التأثير إلّا أن يراد بيان موضوع الحرمة عندهم.

و ثالثا بمنع كون مطلق الاعتقاد بالمدخليّة كفرا أو باطلا، بل أصل التأثير الطبيعيّ إجمالا ممّا لا ريب فيه كتأثير نور النّيرين في نزول الأمطار و نموّ الأشجار و النباتات و سلامة الحيوان و الإنسان و نحو ذلك.

و رابعا بمنع حمل النهي على خصوص ما إذا اعتقد التأثير.

و بعبارة أخرى: أنّ روايات النهي ليست ناظرة إلى بيان أمر اعتقاديّ و أنّ الاعتقاد بتأثير العلويّات كفرأ و خطأ، و ليست ناظرة أيضا إلى نفي التأثير مطلقا و لو بنحو الاقتضاء الطبيعيّ. بل الظاهر أنّها بصدد النهي عن تنظيم النشاطات اليوميّة و الاجتماعيّة على أساس آراء المنجّمين بلا توجّه إلى اللّه- تعالى- و الاستعانة منه و التوسّل إليه بالدعاء و التصدّق. إذ المؤثّر في العالم هو اللّه- تعالى- و نظام الوجود بعلويّاته و سفليّاته قائمة به حدوثا و بقاء و مسخّرة لأمره يمحو ما يشاء و يثبت و عنده أمّ الكتاب فيجب التوجّه إليه و الاستعانة منه و التوكّل عليه. و هذا لا ينافي وجود نحو ارتباط بين العلويّات و الحوادث السفليّة إمّا بنحو التقارن

الوجوديّ أو بنحو الاقتضاء الطبيعيّ نظير سائر العلل الطبيعيّة. و إن كانت الإحاطة بجزئيّاتها خارجة عن حيطة علمنا و قدرتنا. هذا.

و المبحوث عنه تارة حكم نفس الاستخراجات. و ثانيا حكم الإخبار بها و ترتيب الأثر عليه عملا. و ثالثا حكم الاعتقاد بمؤثّريّتها.

فالأوّل، لا دليل على حرمته بل لعلّه يكون مرغوبا فيه إن أوجب تقوية الاعتقادات الدينية و التوجّه إلى قدرة اللّه و عظمته و حكمته.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 85

..........

______________________________

و الثاني، أعني الإخبار أيضا لا مانع منه في نفسه جزما إن استند إلى برهان أو ظنا إن استند إلى الأمارات المفيدة له.

نعم لا يجوز ترتيب الأثر القطعيّ عليه و تصديقه عملا بأن يجعل أساس نشاطاته إخبار المنجّمين و يعرض بالكليّة عن التوجّه إلى اللّه- تعالى- و الاستعانة منه، و إن فرض أنّ المنجّم لم يخبر إلّا عن مجرّد التقارن الوجودي.

و الثالث، أيضا جائز إن استند إلى برهان قطعيّ و لم يرجع إلى إنكار الصانع أو توحيده أو سعة قدرته أو إنكار النبوّة أو ضروريّ من ضروريّات الدين بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار البنوّة و لو ببعضها، فتدبّر و اللّه العالم بحقائق الأمور.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 87

[المسألة السابعة: حفظ كتب الضلال]
اشارة

المسألة السابعة: حفظ كتب الضلال حرام في الجملة بلا خلاف، كما في التذكرة و عن المنتهى. (1)

______________________________

المسألة السابعة: حفظ كتب الضلال

(1) قال السيّد في الحاشية: «لا يخفى أنّ مقتضى الوجوه المذكورة وجوب تفويت جميع ما يكون موجبا للضلال، و لا خصوصيّة للكتب في ذلك فيحرم حفظ غيرها أيضا ممّا من شأنه الإضلال كالمزار و المقبرة و المدرسة و نحو ذلك فكان الأولى تعميم العنوان و لعلّ غرضهم المثال لكون الكتب من الأفراد الغالبة لهذا

العنوان. نعم يمكن الاستدلال على الخصوصيّة برواية الحذّاء: «من علّم باب ضلال كان عليه مثل وزر من عمل به.» «1»

و قال المحقّق الإيرواني: «مقتضى دليله وجوب العمد إلى إتلاف كتب الضلال فيكون المراد من الحفظ عدم التعرّض للإتلاف، لكنّه بعيد من العبارة. و يحتمل أن يكون المراد من الحفظ إثبات اليد عليها و اقتناؤها. و ثالث الاحتمالات الذي هو ظاهر لفظ الحفظ، حفظه عن التلف فيختصّ بما إذا كان في عرضة التلف و متوجّها إليه غرق أو حرق فيحفظه عن ذلك ... لكن الأدلّة إن تمّت قضت بوجوب

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 88

..........

______________________________

الإتلاف و العمد إلى المحو و الإعدام في أيّة مكتبة كانت.» «1» هذا.

نقل بعض كلمات الأصحاب في المسألة

و الأولى نقل بعض كلمات الأصحاب في المسألة ليكون القارئ على بصيرة.

1- قال في مكاسب المقنعة: «و الأجر على كتب المصاحف و جميع علوم الدين و الدنيا جائز، و لا يحلّ كتب الكفر و تجليد الصحف إلّا لإثبات الحجج في فساده. و التكسّب بحفظ كتب الضلال و كتبه على غير ما ذكرناه حرام.» «2»

2- و في النهاية: «و التكسّب بحفظ كتب الضلال و نسخه حرام محظور.» «3» و يأتي في المتن كلامه في المبسوط.

أقول: دلالة كلامهما على حرمة نفس الحفظ من جهة أنّه لا وجه لحرمة التكسّب بالفعل إلّا حرمة نفسه كما هو ظاهر.

3- و في الشرائع في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و حفظ كتب الضلال و نسخها لغير النقض.» «4»

4- و في المنتهي: «و يحرم حفظ كتب الضلال و نسخها لغير النقض و الحجّة عليهم بلا خلاف، و كذا يحرم نسخ التوراة و الإنجيل و تعليمهما و أخذ الأجرة على ذلك

كلّه، لأنّ في ذلك مساعدة على الحقّ و تقوية الباطل و لا خلاف فيه.» «5»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 25.

(2) المقنعة/ 588.

(3) النهاية لشيخ الطائفة/ 356.

(4) الشرائع/ 264، كتاب التجارة.

(5) المنتهى 2/ 1013، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 89

..........

______________________________

و ذكر نحو ذلك في التذكرة أيضا فراجع «1»، فالعلّامة في الكتابين ادّعى عدم الخلاف في المسألة. و ذكر النقض في مقام الاستثناء من باب المثال، فالظاهر أنّ مرادهم جواز الحفظ لكلّ مصلحة عقلائيّة شرعيّة أهمّ من احتمال الفساد في إبقائها.

5- و في مجمع الفائدة و البرهان في ذيل قول المصنّف: «و حفظ كتب الضلال و نسخها لغير النقض و الحجّة.» قال: «من المحرّم حفظ كتب الضلال، كأنّ المراد أعمّ من حفظها عن التلف أو على الصّدر، و الأوّل أظهر. و كأنّ نسخها أيضا كذلك بل هو أولى. و لعلّ المراد بها أعمّ من كتب الأديان المنسوخة و الكتب المخالفة للحقّ أصولا و فروعا و الأحاديث المعلوم كونها موضوعة، لا الأحاديث التي رواها الضعفاء لمذهبهم و لفسقهم مع احتمال الصدور فحينئذ يجوز حفظ الصّحاح الستّة مثلا- غير الموضوع المعلوم- كالأحاديث التي في كتبنا مع ضعف رواتها لكونها زيديّة و فطحيّة و واقفيّة. فلا ينبغي الإعراض عن الأخبار النبويّة التي رواها العامّة فإنّها ليست إلّا مثل ما ذكرناها.

و لعلّ دليل التحريم أنّه قد يؤول إلى ما هو المحرّم و هو العمل به، و أنّ حفظها و نسخها ينبئ عن الرضا بالعمل بما فيه و هو ممنوع، و أنّها مشتملة على البدعة و يجب دفعها من باب النهي عن المنكر و هما ينافيانه. و قد يكون إجماعيا أيضا يفهم من المنتهى.» «2»

أقول: المستفاد من كلامه «ره»

الاستدلال للحرمة بوجوه أربعة:

الأوّل: كون حفظها مقدّمة للعمل بما فيها.

______________________________

(1) التذكرة 1/ 582، كتاب البيع، بيان ما هو حرام من التجارة.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 75، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 90

..........

______________________________

الثاني: كونها منبئا عن الرضا بالعمل بما فيها.

الثالث: وجوب دفع المنكر كرفعه.

الرابع: الإجماع المفهوم من دعوى عدم الخلاف في المنتهى.

و لا يخفى ما في هذه الوجوه من المناقشة كما ستظهر ممّا يأتي. هذا.

6- و في الحدائق قال: «و عندي في الحكم من أصله توقّف لعدم النصّ، و التحريم و الوجوب و نحوهما أحكام شرعيّة يتوقّف القول بها على الدليل الشرعي. و مجرد هذه التعليلات الشائعة في كلامهم لا تصلح عندي لتأسيس الأحكام الشرعيّة.» «1»

إذا وقفت على ما حكيناه من كلماتهم في المقام فنقول: لا بدّ للبحث في مقامات:

الأوّل: ما هو معنى الحفظ؟.

الثاني: ما هو المراد من كتب الضلال و ما معنى الضلال؟.

الثالث: ما هو الدليل على الحرمة في المسألة؟.

ما هو معنى الحفظ؟

أمّا الحفظ فقد مرّ عن المحقّق الإيرواني «ره» فيه ثلاثة احتمالات و أنّ الظاهر من الأدلّة حرمة الحفظ في مقابل الإتلاف فيجب عليه محو كتب الضلال و إتلافها أينما كانت. و يضاف إليها احتمال رابع و هو حفظها بظهر القلب.

و أمّا الضلال فيأتي من المصنّف معناه.

فلنتعرض فعلا لما يمكن أن يستدلّ به على الحرمة:

______________________________

(1) الحدائق 18/ 141. المسألة 5، حفظ كتب الضلال.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 91

[ما استدلّ به على حرمة الحفظ]
اشارة

و يدلّ عليه- مضافا إلى حكم العقل بوجوب قطع مادّة الفساد، (1)

______________________________

ما استدلّ به على حرمة الحفظ

الأوّل: عدم الخلاف

المدّعى في التذكرة و المنتهي. و قد مرّ عن مجمع الفائدة فهم الإجماع منه، و يأتي من المصنّف أنّه لا يقصر عن نقل الإجماع.

و فيه أوّلا: عدم ثبوت الإجماع.

و ثانيا: أنّ الإجماع عندنا ليس حجّة مستقلّة، و إنّما يحتجّ به بلحاظ الكشف عن قول المعصوم عليه السّلام بدعوى ظهور أنّ المفتين تلقّوا المسألة يدا بيد عن المعصومين عليهم السّلام. و هذا إذا لم يحتمل كون الفتاوى مستندة إلى ما يأتي من أدلّة العقل و النقل.

و ثالثا: أنّ المتيقّن منه صورة كون الحفظ بداعي إضلال الناس حيث إنّ حرمة الإضلال ممّا لا ريب فيها.

[الثاني وجوب قطع مادّة الفساد]

(1) الثاني من الأدلّة ما ذكره المصنّف من حكم العقل بوجوب قطع مادّة الفساد.

و أجاب عن ذلك المحقّق الإيرواني بقوله: «العقل لو حكم بذلك لحكم بوجوب قتل الكافر بل مطلق من يضلّ عن سبيل اللّه بعين ذلك الملاك، و لحكم أيضا بوجوب حفظ مال الغير عن التلف، لكن حكمه بذلك ممنوع.» «1»

و في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّ مدرك حكم العقل إن كان حسن العدل و قبح الظلم بدعوى أنّ قطع مادّة الفساد حسن و حفظها ظلم و هتك للشارع، فيرد عليه: أنّه لا دليل على وجوب دفع الظلم في جميع الموارد و إلّا لوجب على

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 25.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 92

..........

______________________________

اللّه- تعالى- و على الأنبياء و الأوصياء الممانعة عن الظلم تكوينا، مع أنّه- تعالى- هو الذي أقدر الإنسان على فعل الخير و الشرّ. و إن كان مدرك حكمه وجوب الإطاعة و حرمة المعصية لأمره- تعالى- بقطع مادّة الفساد فلا دليل على ذلك إلّا في موارد خاصّة كما في كسر الأصنام و الصلبان و سائر

هياكل العبادة. نعم إذا كان الفساد موجبا لوهن الحقّ و إحياء الباطل وجب دفعه لأهمّية حفظ الشريعة المقدّسة، و لكنّه وجوب شرعي في مورد خاصّ و لا يرتبط بحكم العقل.» «1»

أقول: أحكام العقل على قسمين:

القسم الأوّل: ما يحكم به بلحاظ إدراك المصالح و المفاسد النفس الأمرية ملزمة كانت أو غير ملزمة كحكمه بحسن العدل و الإحسان و أداء الحقوق و قبح الظلم و العدوان و نحو ذلك.

و هذا القسم يستتبع قهرا أحكام الشرع على طبقها و لو إمضاء حيث إنّه ما من موضوع إلّا و له حكم شرعيّ تابع للمصالح و المفاسد، لعدم كون أحكامه جزافيّة. و قد عبّروا عن هذا الاستتباع بالملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع.

القسم الثاني: ما يحكم به العقل في المرتبة المتأخّرة عن الأحكام الشرعيّة كحكمه بوجوب إطاعة أوامر الشارع و نواهيه و قبح معصيتها.

و هذا القسم لا تجري فيها قاعدة الملازمة و لا يستتبع حكما شرعيّا، لعدم تحقّق الملاك فيها وراء الملاكات الأوّليّة التي استتبعت الأحكام الأوّليّة، و لاستلزام التسلسل بتحقّق إطاعات غير متناهية و وجوبات كذلك كما فصّل في محلّه.

و حيث إنّ المصنّف هنا في مقام الاستدلال على الحرمة الشرعيّة فلا محالة يكون حكم العقل به المستدلّ به من قبيل القسم الأوّل كما لا يخفى.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 254.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 93

[الثالث حرمة كلّ ما يقع في طريق الإضلال]

و الذمّ المستفاد من قوله- تعالى-: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ. (1)

______________________________

(1) هذا هو الدليل الثالث بتقريب أنّ المستفاد من هذه الآية حرمة كلّ ما يقع في طريق الإضلال و منه حفظ كتب الضلال و الآية في سورة لقمان. قال في مجمع البيان: «نزل قوله: وَ

مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ في النضر بن الحارث ... كان يتّجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم و يحدّث بها قريشا و يقول لهم: إنّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد و ثمود و أنا أحدّثكم بحديث رستم و إسفنديار و أخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه و يتركون استماع القرآن، عن الكلبي.» «1»

و أجاب المحقّق الإيرواني عن هذا الاستدلال بقوله: «الظاهر أنّ المراد من الاشتراء هو التعاطي و هو كناية عن التحدّث به و هذا داخل في الإضلال عن سبيل اللّه بسبب التحدّث بلهو الحديث، و لا إشكال في حرمة الإضلال و ذلك غير ما نحن فيه من إعدام ما يوجب الإضلال.» «2»

أقول: حمل لفظ الاشتراء على التحديث و التحدّث مخالف للظاهر جدّا فالأولى حمله على ظاهره كما ورد في شأن النزول. و مورده كان اشتراء كتب الأباطيل و نشرها بقصد صدّ الناس عن استماع القرآن و متابعته.

و أجاب في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «أوّلا: أنّ المذموم في ظاهر الآية اشتراء لهو الحديث للإضلال و هذا المعنى أجنبي عن حفظ كتب الضلال، لعدم العلم بترتّب الغاية المحرّمة عليه. و ثانيا: سلّمنا ذلك فالمستفاد من الآية حرمة

______________________________

(1) مجمع البيان 7/ 313 (ط. أخرى 4/ 313)، و الآية في سورة لقمان (31)، الآية 6.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 25.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 94

[الرابع اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ]

و الأمر بالاجتناب عن قول الزور. (1)- قوله عليه السّلام فيما تقدّم من رواية تحف العقول: «إنّما حرّم اللّه- تعالى- الصناعة التي يجي ء منها الفساد

______________________________

اشتراء كتب الضلال، و لا دلالة فيها على حرمة إبقائها و حفظها بعد الاشتراء، كما أنّ التصوير حرام و ليس اقتناؤه بحرام، و الزنا حرام و تربية

أولاد الزنا ليست بحرام.» «1»

(1) إشارة إلى قوله- تعالى- في سورة الحجّ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. «2»

و هذا هو الدليل الرابع للمسألة.

و يرد عليه: أنّ المراد من الزور الكذب و الباطل، و المنهيّ عنه هو التقوّل بهما، و أين هذا من حفظ كتب الضلال؟.

فإن قلت: يمكن إلغاء خصوصيّة القول فيعمّ المنهيّ عنه الكتابة أيضا، كما ربّما يستفاد ممّا دلّ على حجيّة قول العادل حجيّة كتابته أيضا.

قال المحقّق الشيرازي في حاشيته: «و حاصله: أنّ المستفاد من أمثال تلك العبارات الاجتناب عن مطلق ما يدلّ على الباطل قولا كان أو كتابة، و كذا حجيّة كلّ صادر من العادل ممّا يحكى عن الواقع قولا كان أو فعلا.» «3»

قلت: لو سلّم ذلك نقول: إنّ حرمة إيجاد القول أو الكتابة لا تدلّ على وجوب إتلاف الصورة الموجودة كما أنّ حرمة عمل التصوير لا يستلزم وجوب إتلاف الصور الموجودة، و لذا لم يلتزم أحد بوجوب إعدام الأكاذيب المكتوبة أو حرمة إثبات اليد عليها مع اتفاقهم على حرمة ايجاد الكذب قولا و كتابة. هذا.

و لكن في حاشية السيّد الطباطبائي: «يمكن دعوى شمول الآية و عمومها،

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 255.

(2) سورة الحج (22)، الآية 30.

(3) حاشية المكاسب للمحقّق الشيرازي/ 72.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 95

محضا. الخ»

[الخامس رواية تحف العقول]

بل قوله عليه السّلام قبل ذلك: «أو ما يقوى به الكفر في جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحقّ، إلى آخره (1)

[السادس رواية عبد الملك]

و قوله عليه السّلام في رواية عبد الملك المتقدّمة- حيث شكا إلى الصادق عليه السّلام إني ابتليت بالنظر في النجوم- فقال عليه السّلام: «أ تقضي؟» قلت: نعم. قال:

«أحرق كتبك.» (2)

______________________________

فإنّ مقتضى إطلاق الاجتناب عن القول الزور الاجتناب عنه بجميع الأنحاء الذي منها ما نحن فيه.» «1»

(1) و كذا قوله عليه السّلام و ما يكون منه و فيه الفساد محضا و لا يكون فيه و لا منه شي ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها.» «2»

و هذا هو الدليل الخامس في المسألة.

و يرد على ذلك- مضافا إلى ضعف الرواية و اضطرابها متنا كما مرّ في أوائل الكتاب- أنّ حرمة الصناعة لا تلازم وجوب إتلاف المصنوع، و الحفظ لا يصدق عليه عنوان التقلّب، و كتب الضلال لا تتمحّض غالبا في الفساد المحض، و بين حفظ كتب الضلال و تقوية الكفر عموم من وجه، فليس كلّ حفظ لها تقوية للكفر إلّا أن يكون حفظها بهذا الداعي أو يعلم بترتّبه عليه قهرا فيحرم حفظه و إمساكه كما صرّح به في الرواية فتدبّر.

(2) هذا دليل سادس للتحريم بناء على كون الأمر في الرواية للوجوب و

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 23.

(2) تحف العقول/ 333 و 335.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 96

بناء على أنّ الأمر للوجوب دون الإرشاد، للخلاص من الابتلاء بالحكم بالنجوم.

و مقتضى الاستفصال في هذه الرواية أنّه إذا لم يترتّب على إبقاء كتب الضلال مفسدة لم يحرم.

و هذا

أيضا مقتضى ما تقدّم من إناطة التحريم بما يجي ء منه الفساد محضا. (1)

______________________________

عدم احتمال خصوصيّة لكتب النجوم.

و يرد عليه: أنّ المأمور به في الرواية هو إحراق كتبه إن كان يقضى بها و يرتّب الأثر عليها لا مطلقا فلا يصحّ الاستدلال بالرواية لحرمة الحفظ مطلقا، و قد أشار إلى ذلك المصنّف أيضا كما ترى.

(1) أقول: ناقش في ذلك المحقّق الشيرازي «ره» في حاشيته فقال ما ملخّصه:

«لا يخفى أنّه قد تقدّم الاستدلال بمثل هذه الأدلّة على حرمة بيع الأعيان التي لا يقصد منها إلّا الحرام كهياكل العبادات المخترعة و آلات اللهو و القمار و نحوها و لم يعتبروا في ذلك ترتّب الفساد فعلا عليها في حرمة بيعها و إلّا دخل في الأقسام التي ذكروها بعد ذلك للبيع المحرّم من اشتراط ترتّب الحرام أو القصد إلى وقوعه أو العلم بترتّبه عليه فلا يكون بيع الأعيان المذكورة بنفسها قسما محرّما مقابلا للأقسام المذكورة.

و الحاصل: أنّ مقتضى كلماتهم هناك أنّ المحرّم بمقتضى تلك الأدلّة هو ما لا يكون له فائدة إلّا الحرام و إن لم يترتّب على هذا البيع تلك الفائدة بأن يعلم أنّ هذا الصنم الذي يبيعه لا يقع عليه عبادة في الخارج، و مقتضى كلامهم في هذا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 97

..........

______________________________

المقام عدم ثبوت الحرمة إلّا مع العلم بترتّب الضلال عليه أو احتمال معتدّ به. و لعلّ الأظهر ما ذكروه هناك بقرينة إطلاق الأمثلة المذكورة في الرواية من هياكل العبادة المخترعة و البرابط و المزامير و غيرها من الأمثلة المذكورة. بل عمومها المانع من دعوى انصرافها إلى ما يترتّب عليه الحرام و الفساد فعلا.» «1»

أقول: يمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بالفرق بين المقامين فإنّ

البحث في السّابق كان في البيع، و هو يتوقّف على كون المبيع مالا بحسب العرف و الشرع، و ماليّة الشي ء تتوقّف على اشتماله على المنافع المقصودة المحلّلة فإذا لم يكن كذلك لم يكن مالا، و إن لم يترتّب عليه الفساد فعلا، و أمّا في المقام فالبحث في جواز الحفظ، و جوازه لا يتوقّف على ماليّة الشي ء المحفوظ. بل يكفي فيه عدم ترتّب الفساد عليه خارجا، و لو فرض الشكّ في ذلك أيضا فالأصل يقتضي عدم ترتّبه فيجوز حفظه. و أمّا ما ذكر المصنّف من أنّ المصلحة الموهومة أو المحقّقة النادرة لا اعتبار بها فغرضه أنّ مع فرض ترتّب المفسدة لا يكفي المصلحة الموهومة أو النادرة لجبرانها و رفع المنع، إذ مع عدم ترتّب المفسدة خارجا لا نحتاج في الحكم بجواز الحفظ إلى وجود المصلحة.

نعم يمكن أن يقال في مثل هياكل العبادة و أمثالها، إنّه يفهم من مذاق الشارع كون نفس وجودها مبغوضا للشارع و إن لم يترتّب عليها الفساد خارجا فيجب إتلافها، و أمّا كتب الضلال فلا دليل على كونها من هذا القبيل، و إنّما يحرم حفظها بلحاظ ما يترتّب عليها من الفساد خارجا و يقصد بحفظها ذلك، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ضرر كتب الضلال ليس بأقلّ من ضرر هياكل العبادة و نحوها فتدبّر.

السّابع من الأدلّة: ما مرّ من مجمع الفائدة من أنّها مشتملة على البدعة

و يجب

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الشيرازي/ 72.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 98

نعم المصلحة الموهومة أو المحقّقة النادرة لا اعتبار بها فلا يجوز الإبقاء بمجرد احتمال ترتّب مصلحة على ذلك مع كون الغالب ترتّب المفسدة، و كذلك المصلحة النادرة الغير المعتدّ بها.

[حفظ كتب الضلال لا يحرم إلّا من حيث ترتّب مفسدة الضلالة قطعا أو احتمالا قريبا]

و قد تحصّل من ذلك أنّ حفظ كتب الضلال لا يحرم إلّا من حيث ترتّب مفسدة الضلالة قطعا أو احتمالا قريبا فإن لم يكن كذلك أو كانت المفسدة المحقّقة معارضة بمصلحة أقوى، أو عارضت المفسدة المتوقعة مصلحة أقوى أو أقرب وقوعا منها فلا دليل على الحرمة إلّا أن يثبت إجماع أو يلتزم بإطلاق عنوان معقد نفي الخلاف الذي لا يقصر عن نقل الإجماع. (1)

______________________________

دفعها من باب النهي عن المنكر.

و يرد على ذلك أنّا و إن سلّمنا أنّ دفع المنكر كرفعه واجب بل رفعه في الحقيقة يرجع إلى دفعه بقاء، و لكن الظاهر أنّ المراد بالمنكر في المقام هو الفعل المحرّم الذي يصدر من الشخص، لا الأباطيل و الأكاذيب المكتوبة في الكتب فلا دليل على وجوب إتلافها.

نعم لو فرض ترتّب الفعل الحرام عليها وجب إتلافها لذلك.

فهذه إلى هنا سبعة أدلّة أقاموها على الحكم بالتحريم في المسألة، و قد مرّ أنّ المتيقّن من ذلك صورة كون الحفظ بداعي الإضلال بها أو فرض العلم بترتّب الضلال بها خارجا، بل يمكن المنع في هاتين الصورتين أيضا، لمنع حرمة مقدّمة الحرام و لا سيّما إذا لم يكن إيصالها إلى ذيها بنحو القطع.

(1) أقول: عدم قصور نفي الخلاف عن الإجماع المصطلح ممنوع، إذ يمكن

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 99

[ما هو المراد بالضلال؟]

و حينئذ فلا بدّ من تنقيح هذا العنوان و أنّ المراد بالضلال ما يكون باطلا في نفسه فالمراد الكتب المشتملة على المطالب الباطلة، أو أنّ المراد به مقابل الهداية؟ فيحتمل أن يراد بكتبه ما وضع لحصول الضلال، و أن يراد ما أوجب الضلال و إن كان مطالبها حقة كبعض كتب العرفاء و الحكماء المشتملة على ظواهر منكرة يدّعون أنّ

المراد غير ظاهرها، فهذه أيضا كتب ضلال على تقدير حقيّتها. (1)

______________________________

عدم عنوان المسألة إلّا من قبل جمع قليل لا يكشف اتّفاقهم و عدم خلافهم عن تلقّي المسألة عن المعصومين عليهم السّلام.

ما هو المراد بالضلال؟

(1) احتمل المصنّف- كما ترى- في معنى الضلال ثلاثة احتمالات، و لعلّ أظهرها هو الاحتمال الثالث و لكن لا بمعنى إيجابه الضلال و لو لفرد ما أحيانا، لجهله و سذاجته و إلّا لزم كون جميع الكتب حتى مثل القرآن الكريم و كتب الحديث كتب ضلال، بل بمعنى إيجابه الضلال لكثير ممّن يراجعه من المتوسّطين خالي الذهن، لاشتماله على مطالب باطلة مشابهة للحقّ من دون نفع في وجوده.

و قال المحقّق الشيرازي «ره» في الحاشية: «المنصرف من الضلال هو الضلال عن الدين بالإنكار أو الشكّ في أحد المعارف الخمس و ما يتبعها، و يحتمل أن يراد به في المقام أعمّ من ذلك و ممّا يوجب الإقدام على المعاصي كالكتب المصنّفة في علم السّحر و الشعبذة و الكهانة و نحوها. و يدلّ عليه عموم بعض

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 100

[الكتب السماويّة المنسوخة]

ثمّ الكتب السماويّة المنسوخة غير المحرّفة لا تدخل في كتب الضلال. و أمّا المحرّفة كالتوراة و الإنجيل- على ما صرّح به جماعة- فهي داخلة في كتب الضلال بالمعنى الأوّل بالنسبة إلينا حيث إنّها لا توجب للمسلمين بعد بداهة نسخها ضلالة. (1)

نعم توجب الضلالة لليهود و النصارى قبل نسخ دينهما. (2) فالأدلّة المتقدّمة لا تدلّ على حرمة حفظهما.

______________________________

الأدلّة الآتية.» «1»

أقول: ما ذكره من الاحتمال هو الأظهر و الأوفق بالأدلّة كما صرّح به.

بحث حول كتب السماوية المحرّفة

(1) قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «نعم لا يوجب للمسلمين ضلالة لكن بالنسبة إلى الفروع دون الأصول

فإنّها لا يعتريها النسخ. و أمّا التحريف فإنّه غير مانع من الضلالة بمعنى حصول الشكّ و الريبة و التزلزل في الاعتقاد، لاحتمال أن لا يكون ما اشتمل على الجبر و التجسيم و غير ذلك من الكفر محرّفا.» «2»

(2) لعلّ التقييد بذلك من جهة أنّهما بعد نسخ دينهما في ضلال قطعا حيث اعتقدا عدم نسخ دينهما فلا يوجب التحريف لهما ضلالا آخر و كان الأولى التعبير بفعل الماضي فيقول: أوجبت الضلالة.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الشيرازي/ 71.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 25.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 101

قال في المبسوط- في باب الغنيمة من الجهاد-: «فإن كان في المغنم كتب نظر فإن كانت مباحة يجوز إقرار اليد عليها- مثل كتب الطبّ و الشعر و اللغة و المكاتبات- فجميع ذلك غنيمة، و كذلك المصاحف و علوم الشريعة: الفقه و الحديث، لأنّ هذا مال يباع و يشترى. و إن كانت كتبا لا يحلّ إمساكها- كالكفر و الزندقة و ما أشبه ذلك- فكلّ ذلك لا يجوز بيعه، فإن كان ينتفع بأوعيته إذا غسل- كالجلود و نحوها- فإنّها غنيمة، و إن كان ممّا لا ينتفع بأوعيته- كالكاغذ- فإنّه يمزّق و لا يحرق إذ ما من كاغذ إلّا و له قيمة و حكم التوراة و الإنجيل هكذا كالكاغذ فإنّه يمزّق، لأنّه كتاب مغيّر مبدّل.» انتهى (1)

و كيف كان فلم يظهر من معقد نفي الخلاف إلّا حرمة ما كان موجبا للضلال و هو الذي دلّ عليه الأدلّة المتقدّمة.

نعم ما كان من الكتب جامعا للباطل في نفسه من دون أن يترتّب عليه ضلالة، لا يدخل تحت الأموال فلا يقابل بالمال، لعدم المنفعة

______________________________

(1) راجع المبسوط «1» و ظاهر سياق الكلام كون عبارة المبسوط موافقة

لما ذكره المصنّف، و ليس كذلك، إذ صريح المبسوط وجوب تمزيق التوراة و الإنجيل فيحرم حفظهما، و قوله: «ما من كاغذ إلّا و له قيمة» أراد بذلك أنّه من غنائم المسلمين فلا يجوز إحراقه من أصله.

______________________________

(1) المبسوط 2/ 30.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 102

المحلّلة المقصودة فيه (1) مضافا إلى آيتي لهو الحديث و قول الزور، أمّا وجوب إتلافها فلا دليل عليه.

______________________________

(1) أقول: مجرّد بطلان مطالب الكتاب لا يوجب خروجه عن الماليّة عرفا و لا شرعا، إذ ربّما ينتفع بها في التعليم و التربية كقصص كليلة و دمنة و نحو ذلك من كتب الأمثال و الأشعار الأدبيّة، أو لتفريج الهموم و إيجاد النشاط الروحي و لا سيّما في الصبيان و البسطاء، فهذه كلّها منافع و فوائد عقلائيّة توجب الرغبة فيها و بذل المال بإزائها. و آية لهو الحديث أيضا لا تشملها، إذ المذموم فيها هو الاشتراء بداعي الإضلال، و المفروض في المقام عدم ترتّب الضلال و عدم قصده. و المنهيّ عنه في آية قول الزور هو التقوّل بالقول الباطل و ترتيب الأثر عليه فلا يشمل قراءة القصص الكاذبة لغرض عقلائي.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 103

[حكم تصانيف المخالفين في الأصول و الفروع و الحديث و التفسير]

و ممّا ذكرنا ظهر حكم تصانيف المخالفين في الأصول و الفروع و الحديث و التفسير و أصول الفقه و ما دونها من العلوم فإنّ المناط في وجوب الإتلاف جريان الأدلّة المتقدّمة فإنّ الظاهر عدم جريانها في حفظ شي ء من تلك الكتب إلّا القليل ممّا ألّف في خصوص إثبات الجبر و نحوه و إثبات تفضيل الخلفاء أو فضائلهم و شبه ذلك.

و ممّا ذكرنا أيضا يعرف وجه ما استثنوه في المسألة من الحفظ للنقض و الاحتجاج على أهلها أو

الاطلاع على مطالبهم ليحصل به التقيّة أو غير ذلك. (1)

و لقد أحسن جامع المقاصد حيث قال: «إنّ فوائد الحفظ كثيرة.» (2)

و ممّا ذكرنا أيضا يعرف حكم ما لو كان بعض الكتاب موجبا للضلال فإنّ الواجب رفعه و لو بمحو جميع الكتاب إلّا أن يزاحم مصلحة وجوده لمفسدة وجود الضلال.

______________________________

(1) من المصالح العقلائيّة المشروعة التي تكون أقوى بالنسبة إلى المفسدة المظنونة أو مساوية لها، دون المصالح الموهومة أو النادرة الغير المعتنى بها عرفا، و قد صرّح المصنّف بذلك فيما سبق.

(2) في جامع المقاصد في ذيل قول المصنّف: «و حفظ كتب الضلال و نسخها لغير النقض أو الحجّة.» قال: «أي نقض مسائل الضلال أو الحجّة على مسائل الحقّ من كتب الضلال، و ظاهره حصر جواز الحفظ و النسخ في الأمرين و الحقّ أنّ فوائد الحفظ كثيرة ...» «1»

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 26، أوائل كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 104

و لو كان باطلا في نفسه كان خارجا عن الماليّة فلو قوبل بجزء من العوض المبذول يبطل المعاوضة بالنسبة إليه. (1)

[الحفظ المحرّم أعمّ من الحفظ بظهر القلب و النسخ و المذاكرة]

ثمّ الحفظ المحرّم يراد به الأعمّ من الحفظ بظهر القلب و النسخ و المذاكرة و جميع ما له دخل في بقاء المطالب المضلّة.

______________________________

أقول: و في هذه الأعصار التي تكثّرت وسائل الطبع و النشر ربّما لا يكون إتلاف نسخة أو نسخ من كتاب ضلال موجبا لمحوه و محو آثاره بل ربّما يصير ذلك موجبا لتوجّه الناس إليه و كثرة الرغبات فيه- و الإنسان حريص على ما منع- و بالعكس يكون حفظه و نشره بما فيه من الأباطيل و الخرافات و الأحكام الواهية موجبا لوضوح بطلانه و ضلاله، فيكون نشره و تكثيره من أسهل الطرق لرفع إضراره

فلا يكون الحفظ حينئذ حراما كما لا يخفى.

(1) أقول: تبعيض المعاملة و الثمن بالنسبة إلى أجزاء شي ء واحد نظير الكتاب مثلا مشكل. و إنّما يحكم بالتبعيض في المعاملة الواقعة على شيئين كالشاة و الخنزير مثلا أو ما يشبه ذلك و يتكثّر عرفا. و على هذا فإن فرض ترتّب المفسدة على بعض الكتاب كانت النتيجة تابعة للأخسّ فيحكم على الكلّ بحرمة حفظه و بيعه، و إن فرض عدم ترتّب المفسدة و لكن كان بعضه باطلا في نفسه و بعضه غير باطل صدق على الكتاب بلحاظ بعضه الحقّ المفيد أنّه مال مشتمل على الفائدة فتصحّ المعاملة عليه فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 105

حكم حلق اللحية
[أكثر الفقهاء من أصحابنا أهملوا المسألة]

______________________________

كان من المناسب أن يتعرّض المصنّف (قده) في المقام لمسألة حلق اللحية، فإنّها من المسائل المبتلى بها في عصرنا، و ربما يكتسب به أيضا، فإن قيل بحرمته كان الاكتساب به من المكاسب المحرمة.

و العجب أنّ أكثر الفقهاء و لا سيما المتقدمين من أصحابنا أهملوا المسألة و لم يتعرّضوا لها، و على فرض كون المنع فيها واضحا عندهم بلحاظ استقرار سيرة المتشرعة في تلك الأعصار على عدم الحلق كان المترقب منهم أيضا التعرّض لها كما كانوا يتعرضون لكثير من الأحكام الواضحة.

و كيف كان فالمناسب أن نتعرض لها هنا فنقول:

قال في مجمع البحرين: «اللّحي- كفلس-: عظم الحنك، و اللحيان- بفتح اللام-: العظمان اللذان تنبت اللحية على بشرتهما، و يقال لملتقاهما: الذقن ...

و اللحية- كسدرة-: الشعر النازل عن الذقن و جمعها: لحى- كسدر- و قد تضمّ اللام فيهما كحلية و حلى.» «1»

أقول: ربما ينسبق من تفسيره للّحيين عدم انحصار مفهوم اللحية في خصوص

______________________________

(1) مجمع البحرين 1/ 373 (ط. أخرى/ 75).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3،

ص: 106

..........

______________________________

الشعر النازل عن الذقن، بل يعمّ ما ينبت على الطرفين أيضا، و لعلّ العرف أيضا يساعد على ذلك فيطلق اللفظ على المجموع، و يشبه أن يكون وزن فعلة- بكسر العين- هنا استعمل لبيان هيئة اللحيين بحسب الظاهر. و في لسان العرب عن ابن سيدة: «اللحية اسم يجمع، من الشعر ما نبت على الخدّين و الذقن.» «1»

و على هذا فلو فرض المنع من حلق اللحية حسب ما يأتي من الأدلّة، يشكل حلق ما على الطرفين أيضا على ما شاع بين المثقفين في عصرنا، و يكون مرتبة من حلق اللحية. هذا.

و اللحية في الرجال ممّا ميّزهم اللّه- تعالى- بها عن النساء و زيّنهم بها و جعلها جمالا لهم:

ففي البحار عن العلل- في حديث-: «إنّ جبرئيل عليه السّلام خاطب آدم عليه السّلام فقال:

«إني رسول اللّه إليك و هو يقرئك السّلام و يقول: يا آدم حيّاك اللّه و بيّاك.» قال:

أمّا حيّاك اللّه فأعرفه، فما بيّاك؟ قال: أضحكك. قال: فسجد آدم فرفع رأسه إلى السماء و قال: يا ربّ زدني جمالا، فأصبح و له لحية سوداء كالحمم، فضرب بيده إليها فقال: يا ربّ ما هذه؟ فقال: هذه اللحية زيّنتك بها أنت و ذكور ولدك إلى يوم القيامة.» «2»

أقول: في معنى قوله: «حيّاك» أقوال: منها أنّه من الحياة، يعني أبقاك اللّه، و منها أنّه من التحية، يعني سلام عليك. و في معنى بيّاك أيضا أقوال: منها أنه اتباع لحيّاك، و منها أنّه بمعنى أضحكك كما في الحديث، و منها أنّ أصله بوّأك أي

______________________________

(1) لسان العرب 15/ 234.

(2) بحار الأنوار 11/ 172، كتاب النبوة، باب ارتكاب ترك الأولى و معناه، الحديث 18.

و الأقوال في معنى الكلمتين نقلها في البحار

عن الجوهري.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 107

..........

______________________________

أسكنك منزلا في الجنّة، إلى غير ذلك من الأقوال فيهما. و الحمم- كصرد-:

الفحم.

و المستفاد من الحديث مطلوبية وجود اللحية في الرجال و مرجوحية حلقها و إزالتها بالكليّة، نعم دلالته على الحرمة غير واضحة بل ممنوعة.

نقل الكلمات في مسألة حلق اللحية

و كيف كان ففي مصباح الفقاهة: «المشهور بل المجمع عليه بين الشيعة و السنّة هو حرمة حلق اللحية.» «1»

أقول: لا يخفى ما في هذا التعبير، لما مرّت الإشارة إليه من عدم تعرّض الأكثر و لا سيّما القدماء منّا لأصل المسألة فلا مجال لدعوى الشهرة أو الإجماع فيها، اللّهم إلّا أن يريد بهما استقرار السيرة العملية بين المتشرعة على إبقاء اللحية و استنكارهم لحلقها بناء على ثبوت استمرارها إلى عصر المعصومين عليهم السّلام، نعم تعرّض للمسألة المتأخرون من أصحابنا فلنتعرض لبعض الكلمات:

1- قال العلّامة في التذكرة: «الفصل الثالث في أمور تتعلق بالفطرة ...

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حفّوا الشوارب و أعفوا اللحى و لا تشبّهوا باليهود.» و نظر إلى رجل طويل اللحية فقال: «ما كان على هذا لو هيّأ من لحيته؟» فبلغ الرجل ذلك فهيّأ لحيته بين لحيتين ثم دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما رآه قال: هكذا فافعلوا.» «2»

2- و قال ابن سعيد في جامع الشرائع: «و يكره القزع، و قال عليه السّلام: «أعفوا اللحى و حفّوا الشوارب.» و ينبغي أن يؤخذ من اللحية ما جاوز القبضة، و يكره

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 257، حرمة حلق اللحية.

(2) التذكرة 1/ 70، كتاب الطهارة، الباب السابع، الفصل الثالث.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 108

..........

______________________________

نتف الشيب.» «1»

أقول: القزع- بفتحتين- و الواحدة قزعة: أخذ بعض الشعر

و ترك بعضه.

و دلالة العبارتين على إفتائهما بالحرمة غير واضحة، و سيأتي البحث في الأخبار المنقولة.

3- و في كتاب «المنية في حكم الشارب و اللحية» للمرحوم آية اللّه الطبسي نقلا عن كتاب الاعتقادات للشيخ البهائي- رحمهما اللّه تعالى- أنه قال: «إنّ حلق اللحية كبقية المآثم الكبيرة من قبيل القمار و السّحر و الرشوة، و لم يخدش واحد من العلماء الأعلام في حرمته.» «2»

4- و فيه أيضا عن السّيد الداماد في رسالة شارع النجاة: «إنّ حلق اللحية حرام بالإجماع.» «3»

أقول: قد مرّ منا المناقشة في دعوى الإجماع مع عدم تعرض الأكثر للمسألة.

5- و في الجزء الرابع من الوافي بعد نقل أخبار الباب قال: «و قد أفتى جماعة من فقهائنا بتحريم حلق اللحية، و ربما يستشهد لهم بقوله سبحانه حكاية عن إبليس اللعين: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّٰهِ.» «4»

6- و في المفتاح الخامس و الستين و الأربعمائة من مفاتيح الشرائع في عدّ المعاصي قال: «و حلق اللحية، لأنّه خلاف السنّة التي هى إعفاؤها، و لمسخ طائفة

______________________________

(1) الجامع للشرائع/ 30، كتاب الطهارة، باب الاستطابة و سنن الحمام.

(2) المنية في حكم الشارب و اللحية/ 55، الأمر الخامس.

(3) نفس المصدر و الصفحة. هذا. و لكن ليس في عبارة الرسالة- ص 103- المطبوعة في مجموعة من رسائل السّيد «رض» دعوى الإجماع، فراجع.

(4) الوافي 1/ 99 من الجزء الرابع (ط. أخرى 6/ 658)، كتاب الطهارة و التزين، أبواب قضاء التفث و التزين، باب جزّ اللحية ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 109

..........

______________________________

بسببه.» «1»

7- و في الحدائق: «الظاهر- كما استظهره جملة من الأصحاب كما عرفت- تحريم حلق اللحية لخبر المسخ المرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام، فإنه لا يقع إلّا على

ارتكاب أمر محرّم بالغ في التحريم، و أمّا الاستدلال بآية وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّٰهِ ففيه أنّه قد ورد عنهم عليهم السّلام: أن المراد دين اللّه، فيشكل الاستدلال بها على ذلك و إن كان ظاهر اللفظ يساعده.» «2»

أقول: ربما استظهر من تعبيره بالظاهر دعواه الإجماع في المسألة، و لا يخفى ما في ذلك.

8- و المجلسي الأوّل «ره» في روضة المتقين في ذيل ما يأتي عن أمير المؤمنين عليه السّلام من قوله: «إنّ أقواما حلقوا اللحى و فتلوا الشوارب فمسخوا.» قال: «و يظهر من الأوامر بإعفاء اللحى و هذا الخبر و من أنّه زيّ اليهود و جزّه زيّ المجوس، الحرمة، و لم يذكره فيما رأينا منهم غير الشهيد «ره» فإنّه ذكر حرمة الحلق بلا ذكر خلاف، و المسموع من المشايخ أيضا حرمته، و يؤيّده أنّه لم ينقل تجويزه من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام، و لو كان جائزا لفعلوه مرّة لبيان الجواز كما في كثير من المكروهات، أو وقع منهم الرخصة لأحد ...» «3»

9- و قال المجلسي الثاني «ره» في مرآة العقول في ذيل هذا الخبر: «و استدلّ به

______________________________

(1) مفاتيح الشرائع 2/ 20، كتاب مفاتيح النذور و العهود، الباب الثاني في أصناف المعاصي ....

(2) الحدائق الناضرة 5/ 561، في خاتمة كتاب الطهارة. و الآية من سورة النساء، رقمها 119.

(3) روضة المتقين 1/ 333، كتاب الطهارة، باب غسل الجمعة ... و ما جاء في التنظيف و الزينة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 110

..........

______________________________

على حرمة حلق اللحية بل تطويل الشارب، و يرد عليه أنّه إنّما يدلّ على حرمتهما أو أحدهما في شرع من قبلنا لا في شرعنا.

فإن قيل: ذكره

عليه السّلام ذلك في مقام الذمّ يدلّ على حرمتهما في هذه الشريعة أيضا.

قلنا: ليس الإمام عليه السّلام في مقام ذمّ هذين الفعلين، بل في مقام ذمّ بيع المسوخ بهذا السبب، كما أنّ مسوخ بني إسرائيل مسخوا لصيد السبت و ذكرهم هنا لا يدلّ على تحريمه، نعم يدلّ بعض الأخبار على التحريم، و في سندها أو دلالتها كلام ليس هذا المقام محلّ إيراده.» «1»

10- و في آداب الحمام من كشف الغطاء: «و يحرم حلقها و يستحبّ توفيرها قدر قبضة من يد صاحبها.» «2»

11- و في حج الجواهر في ذيل قول المصنّف في مناسك منى: «و ليس على النساء حلق.» قال: «بل يحرم عليهن ذلك بلا خلاف أجده فيه أيضا بل عن المختلف الإجماع عليه و هو الحجة بعد المرتضوي: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن تحلق المرأة رأسها» إي في الإحلال لا مطلقا، فإنّ الظاهر عدم حرمته عليها في غير المصاب المقتضي للجزع، للأصل السّالم عن معارضة دليل معتبر، اللّهم إلّا أن يكون هناك شهرة بين الأصحاب تصلح جابرا لنحو المرسل المزبور بناء على إرادة الإطلاق فيكون كحلق اللحية للرجال.» «3»

______________________________

(1) مرآة العقول 4/ 79، كتاب الحجة، باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ و المبطل في أمر الإمامة.

(2) كشف الغطاء/ 190، في آداب الحمام، في الموضع الثاني من أحكام التوابع.

(3) الجواهر 19/ 236، كتاب الحج.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 111

..........

______________________________

أقول: ظاهره كون حرمة حلق اللحية للرجال مشتهرة بين الأصحاب بحيث يجبر بها ضعف رواياتها لو فرض ضعفها.

12- و في كتاب الحظر و الإباحة من الفقه على المذاهب الأربعة عن الشافعيّة:

«أمّا اللحية فإنّه يكره حلقها و المبالغة في قصّها،

فإذا زادت على القبضة فإن الأمر فيه سهل خصوصا إذا ترتب عليه تشويه للخلقة أو تعريض به أو نحو ذلك ...»

و عن الحنفية: «يحرم حلق لحية الرجل، و يسنّ أن لا تزيد في طولها على القبضة، فما زاد على القبضة تقصّ، و لا بأس بأخذ أطراف اللحية و حلق الشعر الذي تحت الإبطين، و نتف الشيب، و تسنّ المبالغة في قصّ الشارب ...»

و عن المالكية: «يحرم حلق اللحية و يسنّ حلق الشارب ...»

و عن الحنابلة: «يحرم حلق اللحية و لا بأس بأخذ ما زاد على القبضة منها فلا يكره قصّه كما لا يكره تركه. و كذا لا يكره أخذ ما تحت حلقة الدبر من الشعر، و يكره نتف الشيب، و يسن المبالغة في قصّ الشارب ...» «1»

أقول: ظاهر مقابلة كلام الشافعية لما عن غيرهم إرادة الشافعية الكراهة المصطلحة و إن استعمل لفظ الكراهة في الكتاب و السنة كثيرا في الحرمة أيضا.

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 44، كتاب الحظر و الإباحة، حكم إزالة الشعر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 112

ما استدلّ بها على الحرمة و المناقشات فيها
اشارة

______________________________

إذا وقفت على ما عثرنا عليه عاجلا من كلماتهم في المقام فلنتعرض لما استدلّوا بها على الحرمة و هي أمور:

الأمر الأوّل: الإجماع المدّعى في بعض الكلمات

و فيه ما مرّ من عدم تعرّض الأكثر للمسألة و لا سيّما القدماء من أصحابنا في كتبهم المعدّة لنقل المسائل المأثورة، فكيف يدّعى فيها الإجماع؟! و لو سلّم فلا يكون دليلا مع احتمال استناد المفتين إلى ما يأتي من الآيات و الروايات كما يشاهد استدلالهم بها في كلماتهم.

الأمر الثاني: قوله تعالى حكاية عن إبليس اللعين:

وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذٰانَ الْأَنْعٰامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّٰهِ الآية. «1»

بتقريب أن حلق اللحية تغيير لخلق اللّه و ظاهر الآية حرمته مطلقا فيجب الأخذ به إلّا فيما خرج بالدليل.

و فيه: أن ظهور الآية في الحرمة إجمالا مما لا ريب فيه و لكن لا مجال للقول بحرمة مطلق التغيير في خلق اللّه تعالى، إذ من الواضح جواز حلق الرأس و العانة و الإبطين و قصّ الأظفار و التصرف في مخلوقاته تعالى بإجراء الأنهار و حفر الآبار و كسر الأحجار و قطع الأشجار و نحو ذلك فيجب حمل الآية على ما لا يشمل هذا

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 119.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 113

..........

______________________________

القبيل من التغييرات. و على هذا فشمولها لمثل حلق اللحية غير واضح. و حملها على الإطلاق و تخصيصها فيما ثبت جوازه بدليل آخر مشكل، إذ مضافا إلى كون سياقها آبيا عن التخصيص يلزم من ذلك تخصيص الأكثر المستهجن. و المفسّرون من الفريقين ذكروا في الآية أقوالا و احتمالات و لم نعثر على من يفسّرها بحلق اللحية:

قال الشيخ في التبيان: «اختلفوا في معناه فقال ابن عباس و الربيع بن أنس عن أنس إنّه الإخصاء و كرهوا الإخصاء في البهائم، و به قال سفيان و شهر بن حوشب و عكرمة و أبو صالح. و في رواية أخرى عن ابن عباس:

فليغيرنّ دين اللّه، و به قال إبراهيم و مجاهد و روي ذلك عن أبي جعفر و أبى عبد اللّه عليهما السّلام قال مجاهد:

كذب العبد يعني عكرمة في قوله: إنه الإخصاء و إنّما هو تغيير دين اللّه الذي فطر الناس عليه في قوله: فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، و هو قول قتادة و الحسن و السدّي و الضحاك و ابن زيد. و قال قوم هو الوشم، روي ذلك عن الحسن و الضحاك و إبراهيم أيضا و عبد اللّه، و قال عبد اللّه:

لعن اللّه الواشمات و الموتشمات و المتفلجات المغيّرات خلق اللّه، و قال الزجّاج:

خلق اللّه تعالى الأنعام ليأكلوها فحرّموها على أنفسهم، و خلق الشمس و القمر و الحجارة مسخّرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون. و أقوى الأقوال قول من قال: فليغيّرنّ خلق اللّه بمعنى دين اللّه، بدلالة قوله فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، و يدخل في ذلك جميع ما قاله المفسّرون لأنّه إذا كان ذلك خلاف الدين فالآية تتناوله.» «1»

أقول: المتفلجات بمعنى الواشرات، و الوشر: تحديد الأسنان و ترقيقها، و قد مرّ

______________________________

(1) التبيان 1/ 471 (ط. أخرى 3/ 334).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 114

..........

______________________________

في مسألة تدليس الماشطة أنّه لا مجال للقول بحرمة الوشم و الوشر و نحوهما إلّا لغرض التدليس أو تهييج الرجال الأجانب، فراجع. «1»

و في تفسير الميزان: «و لآمرنّهم بتغيير خلق اللّه، و ينطبق على مثل الإخصاء و أنواع المثلة و اللواط و السحق، و ليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق اللّه الخروج عن حكم الفطرة و ترك الدين الحنيف، قال تعالى: فَأَقِمْ

وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ.» «2»

و في الدرّ المنثور «3» ذكر روايات كثيرة عن الصحابة و التابعين في تفسير الآية، و في الأكثر تفسيرها بالإخصاء أو إخصاء البهائم، و في بعضها تفسيرها بتغيير دين اللّه.

و كيف كان فلم نعثر في كلمات المفسرين على تفسيرها بحلق اللحية. هذا.

و لكن صاحب المنية مصرّ على جواز الاستدلال بالآية للمقام و ردّ احتمال كون المراد بخلق اللّه فيها دين اللّه و الأمر المعنوي. قال ما ملخصه: «و توهم كون المراد من التغيير في الآية الأمر المعنوي مدفوع بقرينة صدر الآية و ذيلها: أمّا الصدر فقوله: «فليبتكن» فإنّه ظاهر في الأمور الخارجية التي هي موارد لأمر الشيطان، و ذلك أنّ الإبل عند ما تلد خمسة بطون عملوا ذلك الفعل فيها و حرّموها على أنفسهم. و أما قرينة الذيل فكلمة: «خلق»، فإنّها ظاهرة في التغيير الحسّي التكويني لا المعنوي التشريعي على معنى تغيير خصوص أحكام الدين. و لو سلّم فهذا أيضا من الدين فيتم الاستدلال بالآية على حرمته.» «4»

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 2/ 472.

(2) الميزان 5/ 85 (ط. أخرى 5/ 87). و الآية من سورة الروم (30)، رقمها 30.

(3) راجع الدرّ المنثور 2/ 223.

(4) المنية في حكم الشارب و اللحية/ 34، الأمر الأول.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 115

..........

______________________________

أقول: يرد عليه أوّلا: أنّ مجموع فقرات الآية ترجع إلى أمور معنوية: من إضلالهم، و تقوية أمنياتهم الدنيوية في قبال التوجه إلى الآخرة، و قطعهم آذان الأنعام و تحريمها بذلك افتراء على اللّه تعالى، و تغيير فطرة التوحيد فيهم إلى الشرك.

و ثانيا: أنّ الخلق أعمّ من الخلق المادي و المعنوي كما يشهد

بذلك قوله تعالى:

فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ.

و ثالثا: أنّ ما ذكره أخيرا من قوله: «و لو سلّم فهذا أيضا من الدين» مصادرة على المطلوب، إذ نفس حلق اللحية ليس من الدين بل حرمته على فرض ثبوتها و هي أوّل الكلام.

الأمر الثالث: قوله تعالى في سورة النحل:

ثُمَّ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. «1»

بتقريب أنّه تعالى أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم باتباع ملّة إبراهيم حنيفا، و يجب على أمّته أيضا التأسّى به، و قد فسّرت الحنفية بعشر خصال و منها إعفاء اللحى:

ففي تفسير علي بن إبراهيم في ذيل هذه الآية: «و هي الحنفية العشرة التي جاء بها إبراهيم عليه السّلام: خمسة في البدن و خمسة في الرأس، فأمّا التي في البدن فالغسل من الجنابة، و الطهور بالماء، و تقليم الأظفار، و حلق الشعر من البدن، و الختان.

و أمّا التي في الرأس فطمّ الشعر، و أخذ الشارب، و إعفاء اللحى، و السواك، و الخلال. فهذه لم تنسخ إلى يوم القيامة.» «2»

______________________________

(1) سورة النحل (16)، الآية 123.

(2) تفسير علي بن إبراهيم القمي/ 367 (ط. أخرى 1/ 391).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 116

..........

______________________________

و ذكر نحو ذلك في ذيل قوله تعالى في سورة البقرة: وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ الآية. «1»

و الظاهر منه في الموضعين كون هذا التفسير من كلام نفسه، إلّا أن يقال:

هو «ره» أجلّ من أن يفسّر القرآن برأيه. فلا محالة اقتبس ذلك من المعصومين عليهم السّلام.

و يظهر من نقل مجمع البيان عنه أنّه روى ذلك عن الصادق عليه السّلام:

ففي الوسائل عن مجمع البيان نقلا من تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام

في قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. قال: «إنّه ما ابتلاه اللّه به في نومه من ذبح ولده إسماعيل فأتمّها إبراهيم و عزم عليها و سلّم لأمر اللّه فلما عزم قال اللّه تعالى له ثوابا (له لما صدّق و عمل بما أمره اللّه): إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً. ثم أنزل عليه الحنيفية و هي عشرة أشياء: خمسة منها في الرأس و خمسة منها في البدن، فأمّا التي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طمّ الشعر و السّواك و الخلال. و أمّا التي في البدن فحلق الشعر من البدن و الختان و تقليم الأظفار و الغسل من الجنابة و الطهور بالماء، فهذه الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم عليه السّلام فلم تنسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة، و هو قوله: اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً.* «2»» و راجع مجمع البيان أيضا. «3»

أقول: ليس فيما عندي من تفسير علي بن إبراهيم ذكر الصادق عليه السّلام و نسبته إليه و لعلّه كان مذكورا في نسخة الطبرسي «ره». و على فرض ثبوت ذلك فالرواية

______________________________

(1) راجع نفس المصدر/ 50 (ط. أخرى 1/ 59). و الآية رقمها 124.

(2) الوسائل 1/ 423، كتاب الطهارة، الباب 67 من أبواب آداب الحمام، الحديث 5.

(3) راجع مجمع البيان 1/ 200، ذيل آية: وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 117

..........

______________________________

مرسلة فيشكل الاعتماد عليها.

و قوله: «الحنيفية الظاهرة» لعلّه إشارة إلى إرادة الحنيفية القلبيّة أيضا و هي تطهير القلب من الشرك و غرس شجرة التوحيد فيه، و يشهد بذلك قوله: حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» و قوله: حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* «2» فراجع.

و

الرواية مروية بطرق العامة أيضا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتفاوت ما: ففي الوضوء من سنن البيهقي بسنده عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عشر من الفطرة:

قصّ الشارب و إعفاء اللحية و السّواك و الاستنشاق بالماء و قصّ الأظفار و غسل البراجم و نتف الإبط و حلق العانة و انتقاص الماء- يعني الاستنجاء بالماء-.» قال زكريّا: قال مصعب: نسيت العاشرة إلّا أن تكون المضمضة. رواه مسلم في الصحيح. «3»

أقول: في النهاية: «فيه: «من الفطرة غسل البراجم» هي العقد التي في ظهور الأصابع يجتمع فيها الوسخ، الواحدة برجمة بالضمّ.» «4»

و ربما يناقش في الاستدلال بالرواية بأنّ اشتمالها على الأمور المندوبة مع وحدة السياق يقتضي حملها على الندب إلّا فيما ثبت بالدليل وجوبه كغسل الجنابة و الختان.

و يجاب عن ذلك بأنّ ظاهر الأمر الوجوب فيجب حمله على ذلك إلّا فيما ثبت خلافه، لا نقول: إنّ الصيغة وضعت للوجوب بحيث يكون إرادة الندب منها

______________________________

(1) سورة النحل (16)، الآية 120.

(2) نفس السورة، الآية 123.

(3) سنن البيهقى 1/ 52، كتاب الطهارة، باب سنّة المضمضة و ... رواه المسلم في صحيحه 1/ 223.

(4) النهاية لابن الأثير 1/ 113.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 118

..........

______________________________

مجازا، بل نقول: إنّها وضعت للبعث، و العقل يحكم بلزوم إتيان العبد لما أمر به المولى و استحقاقه للذمّ و العقاب على فرض المخالفة إلّا فيما ثبت الترخيص فيها، فالوجوب حكم العقل و موضوعه أمر المولى ما لم يرخص في خلافه. و التفكيك في فقرات الرواية بحمل البعض على الوجوب و البعض الآخر على الاستحباب ليس بعزيز في أخبارنا. هذا.

و يأتي البحث في معنى

إعفاء اللحى عند ذكر أخبار الباب، فانتظر.

الأمر الرابع: ما ورد في أخبار مستفيضة من طرق الفريقين من الأمر بإعفاء اللحى،

و ظاهر الأمر الوجوب:

1- ما في الوسائل عن الصدوق «ره» في الفقيه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«حفّوا الشوارب و أعفوا اللحى و لا تشبّهوا باليهود.» «1»

و الرواية مرسلة، و لكن يظهر من تعبير الصدوق «ره» اعتماده عليها، حيث أسندها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صريحا.

و يحتمل كونها عين الرواية التالية المروية عن المعاني و إن كان المذكور في إحداهما اليهود و في الأخرى المجوس فيكون أحدهما مصحّفا عن الآخر، و قد شاع من الصدوق أن يرسل في الفقيه ما أسنده في سائر كتبه.

قال في الوافي في بيان الرواية: «الحفّ: الإحفاء و هو الاستقصاء في الأمر و المبالغة فيه. و إحفاء الشارب: المبالغة في جزّه. و الإعفاء: الترك، و إعفاء اللحى أن يوفّر شعرها من عفى الشي ء: إذا كثر و زاد. قوله عليه السّلام: «و أعفوا عن اللحى» أي لا تستأصلوها بل اتركوا منها و وفّروا. و قوله عليه السّلام: «و لا تتشبهوا باليهود» أي

______________________________

(1) الوسائل 1/ 423، الباب 67 من ابواب آداب الحمام، الحديث 1؛ عن الفقيه 1/ 130.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 119

..........

______________________________

لا تطيلوها جدّا و ذلك لأنّ اليهود لا يأخذون من لحاهم بل يطيلونها.» «1»

أقول: في الفقيه و الوسائل: «أعفوا اللحى» و في الوافي: «أعفوا عن اللحى» و الظاهر أنّ الصحيح هو الأوّل.

2- ما في الوسائل أيضا عن معاني الأخبار بسنده عن علي بن غراب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حفّوا الشوارب و اعفوا اللحى و

لا تشبّهوا بالمجوس.» «2»

و في السند رجال لم يثبت وثاقتهم و منهم علي بن غراب.

3- و في الوسائل أيضا عن الفقيه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ المجوس جزّوا لحاهم و وفّروا شواربهم، و إنّا نحن نجزّ الشوارب و نعفي اللحى و هي الفطرة.» «3»

4- و في البيهقى بسنده عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أعفوا اللحى و أحفوا الشوارب.» «4»

5- و فيه أيضا بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خالفوا المشركين:

وفّروا اللحى و أحفوا الشوارب.» «5»

6- و فيه أيضا بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «جزّوا الشوارب و أرخوا اللحى و خالفوا المجوس.» «6»

______________________________

(1) الوافي 1/ 99 من الجزء الرابع (ط. أخرى 6/ 657)، أبواب قضاء التفث و التزيّن، باب جزّ اللحية ....

(2) الوسائل 1/ 423، الباب 67 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(4) سنن البيهقي 1/ 149، كتاب الطهارة، باب السنّة في الأخذ من الأظفار و الشارب.

(5) نفس المصدر و الباب ص 150.

(6) نفس المصدر و الباب ص 150.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 120

..........

______________________________

أقول: يحتمل أن يكون المراد بالمشركين في رواية ابن عمر أيضا المجوس لأنّهم كانوا يقولون باليزدان و الأهرمن.

7- و في الكامل لابن الأثير: أنّ رجلين قدما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قبل كسرى و قد حلقا لحاهما و أعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما و قال: «ويلكما من أمركما بهذا؟» قالا: ربّنا- يعنيان الملك-، فقال صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم: «لكن ربّي أمرني أن أعفي لحيتي و أقصّ شاربي.» «1»

و رواه في المستدرك «2» أيضا عن الكازروني في المنتقى.

أقول: يمكن أن يناقش في الاستدلال بهذه الروايات:

أوّلا: بضعفها سندا، إلّا أن يقال بأنّ استفاضة نقل هذا المضمون عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بطرق الفريقين، و إسناد الصدوق «ره» ما نقله إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صريحا مما يوجبان الوثوق و الاطمينان بصدوره إجمالا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و ثانيا: بأنّ إعفاء اللحية- كما مرّ عن الوافي- بمعنى تركها و توفيرها، و هذا ليس بواجب قطعا، و إنّما الواجب- على القول به- أصل إبقاء اللحية بحيث يصدق عرفا أنّه ذو لحية، و على هذا فيحمل الأمر بالإعفاء على الندب كما يحمل الأمر بحف الشوارب عليه، و كما يحمل النهى عن التشبه باليهود على الكراهة، حيث إنّهم كانوا يطيلونها، فيكون مفاد الروايات استحباب توفيرها و لكن لا بحدّ تتجاوز القبضة، و يشهد لذلك وحدة السياق أيضا، فتأمّل. هذا.

و لكن لأحد أن يقول: حيث إنّ توفير الشعر مستلزم لإبقائه و عدم حلقه فلعلّ

______________________________

(1) الكامل في التاريخ 2/ 214، في أحداث سنة ستّ من الهجرة.

(2) راجع مستدرك الوسائل 1/ 59 (ط. أخرى 1/ 407)، الباب 40 من أبواب آداب الحمام، ذيل الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 121

..........

______________________________

مقصود المتكلم من الأمر بالتوفير الأمر بإبقائه في أظهر مصاديقه و أفضلها فينحلّ الأمر إلى واجب و مستحب: أصل الإبقاء و توفيره.

و بعبارة أخرى: قصد المتكلم بيان اللازم و الملزوم معا بعبارة واحدة، و لعلّه إلى ذلك أشار صاحب الوافي

حيث قال: «فذكر الإعفاء عقيب الإحفاء ثم النهي عن التشبه باليهود دليل على أنّ المراد بالإعفاء أن لا يستأصل و يؤخذ منها من دون استقصاء بل مع توفير و إبقاء بحيث لا تتجاوز القبضة فتستحقّ النار.» «1»

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ مجرد احتمال قصد الأمرين معا لا يصير حجة يستدلّ بها.

و ثالثا: بأنّه من المحتمل أن تكون الروايات ناظرة إلى النهي عمّا شاع عملا بين المجوس من فتل الشوارب و حلق اللحى كما يشهد بذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في رواية علي ابن غراب: «و لا تشبّهوا بالمجوس» و في رواية أبي هريرة: «و خالفوا المجوس.»

و على هذا فالمأمور به- في الحقيقة- مخالفة المجوس، و المحرّم هو التشبه بهم في زيّهم و قيافتهم فلا تدلّ الروايات على حرمة حلقهما معا. بل يمكن أن يقال: إنّه إذا فرض كون الحرمة بلحاظ صدق عنوان التشبّه بالمجوس كانت- بحسب الحقيقة- حكما ثانويا دائرا مدار صدق هذا العنوان فإذا زال هذا العنوان الثانوي- كما في أعصارنا- لم يكن محرما، فتدبّر.

الأمر الخامس: ما عن الكافي بسنده عن حبابة الوالبية،

قالت: رأيت أمير المؤمنين عليه السّلام في شرطة الخميس و معه درة لها سبابتان يضرب بها بيّاعي الجرّي

______________________________

(1) الوافي 1/ 99 من الجزء الرابع (ط. أخرى 6/ 658)، أبواب قضاء التفث و التزين، باب جزّ اللحية ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 122

..........

______________________________

و المارماهي و الزمّار و يقول لهم: «يا بيّاعي مسوخ بني إسرائيل و جند بني مروان.»

فقام إليه فرات بن أحنف فقال: يا أمير المؤمنين و ما جند بني مروان؟ قال: فقال له: «أقوام حلقوا اللحى و فتلوا الشوارب فمسخوا.» «1»

قال المجلسي «ره» في مرآة العقول في ذيل الرواية: «حبابة-

بفتح الحاء و تخفيف الباء- و منهم من يشدّه و لعلّه تصحيف. و الوالبية نسبة إلى والبة: موضع بالبادية من اليمن.» و في النهاية: الشرطة: أوّل الطائفة من الجيش تشهد الواقعة.

و الخميس: الجيش سمّي به لأنّه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة و الساقة و الميمنة و الميسرة و القلب. و قيل: لأنه تخمس فيه الغنائم. انتهى. و الدرّة- بكسر الدال و تشديد الراء-: السوط، و السبابة- بالتخفيف-: رأس السوط، و الجرّيّ- بكسر الجيم و تشديد الرّاء و الياء-: نوع من السمك لا فلوس له، و كذا المارماهي- بفتح الراء- و كذا الزمّار- بكسر الزاء و تشديد الميم-.» «2» انتهى ما حكيناه عن مرآة العقول.

و تقريب الاستدلال بهذه الرواية أنّه عليه السّلام فرّع على حلقهم اللحى و فتلهم الشوارب مسخهم، و مثل هذه العقوبة الشديدة لا تترتب إلّا على ارتكاب أمر محرّم، فيكون حلق اللحية حراما.

و يرد على هذا الاستدلال أوّلا: ضعف الرواية و اشتمال سندها على مجاهيل.

و قول الكليني في ديباجة الكافي: «بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام و السنن

______________________________

(1) الوسائل 1/ 423، الباب 67 من أبواب آداب الحمام، الحديث 4؛ عن الكافي 1/ 346.

(2) مرآة العقول 4/ 78، كتاب الحجة، باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ و المبطل في أمر الإمامة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 123

..........

______________________________

القائمة التي عليها العمل» لا يجوّز الحكم بصحّة جميع ما فيه من الروايات، إذ المتتبع فيه يعثر كثيرا على أخبار يقطع بكذب مضامينها أو إعراض الأصحاب عنه عملا، و اعتقاد الكليني بصحّة الرواية ليس من الحجج الشرعية، إذ ليس هو معصوما عندنا، و إن كان أصل قداسته و خلوصه و عظم خدمته بالإسلام و التشيع إجمالا

مما لا مجال لإنكارها. كما أنّ كونه في عصر النوّاب الأربعة لا يوجب الحكم بصحة كلّ ما رواه، بل الظاهر عدم خلطته معهم و إلّا لروى في كتابه من أخبارهم و التوقيعات الواردة عليهم كثيرا، و لم يظهر لنا وجه عدم خلطته معهم و عدم نقله منهم.

و ثانيا: أنّ كون حلق اللحية موجبا للمسخ يقتضي كونه من الكبائر، إذ هو عقاب و عذاب شديد يناسب الذنوب الكبار و يشكل الالتزام بكونه منها، و لأجل ذلك ربما يتوهم أنّ المراد بالمسخ هنا كون نفس هذه القيافة الحاصلة بحلق اللحية و فتل الشارب نحو مسخ، و لكن هذا مضافا إلى كونه خلاف الظاهر مخالف لمفاد الرواية، إذ الظاهر منها أنّهم مسخوا بصورة الحيتان المذكورة.

و ثالثا: لم يظهر لنا معنى جند بني مروان، حيث إنّ هذا الاسم يشابه اسماء الرجال المعاصرين لأمير المؤمنين عليه السّلام لا أسماء الأمم السالفة.

و رابعا: يمكن أن يقال: إنّ الظاهر من الرواية كون مسخهم متفرعا على حلق اللحى و فتل الشوارب معا، فالمتيقن من الحرمة صورة تحققهما معا كما في فعل المجوس فلا تدلّ على حرمة حلق اللحية فقط، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الإجماع قائم على عدم حرمة فتل الشوارب فلا محالة يكون المسخ عقوبة على خصوص حلق اللحية، أو يقال: إنّ الظاهر من الرواية كون كلّ واحد من الفعلين مرجوحا لا أنّ المرجوح هو اجتماعهما معا بحيث يعدّان معا موضوعا واحدا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 124

..........

______________________________

و خامسا: أنّ حرمة حلق اللحية في الأديان السالفة لا تقتضي حرمته في شرعنا أيضا. فإن قلت: ذكره عليه السّلام ذلك في مقام الذمّ يدلّ على حرمتهما في هذه الشريعة أيضا، قلت: ليس الإمام

عليه السّلام في مقام ذمّ هذين الفعلين بل في مقام ذمّ بيع المسوخ بهذا السبب، كما أنّ مسوخ بني إسرائيل مسخوا لصيد السبت و ذكرهم لا يدلّ على تحريمه علينا. و قد تعرّض لهذا السؤال و الجواب المجلسي «ره» في مرآة العقول في ذيل هذا الحديث، فراجع. «1» و قد نقلنا كلامه في أوائل المسألة.

الأمر السادس: ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر

نقلا من جامع البزنطي صاحب الرضا عليه السّلام قال: و سألته عن الرجل هل يصلح له أن يأخذ من لحيته؟

قال: «أمّا من عارضيه فلا بأس و أمّا من مقدّمها فلا.»

و رواه الحميري في قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه مثله.

و رواه علي بن جعفر في كتابه إلّا أنّه قال في آخره: «فلا يأخذ.» «2»

قال في الوسائل بعد نقله: «هذا محمول على عدم الزيادة على قبضة لما يأتي إن شاء اللّه.»

أقول: ليس في السرائر المطبوع كلمة «يصلح» بل فيه بطبعيه: «هل له».

و كيف كان فسند ابن إدريس إلى البزنطي غير واضح لنا، و لكن لصاحب الوسائل إلى كتاب علي بن جعفر سند صحيح، و على هذا فالرواية صحيحة، و لذا اعتمد

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 4/ 79.

(2) الوسائل 1/ 419، الباب 63 من أبواب آداب الحمام، الحديث 5؛ عن السرائر/ 477 (ط. أخرى 3/ 574)؛ و عن قرب الإسناد/ 122.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 125

..........

______________________________

عليها في مصباح الفقاهة «1» و حكم بأنّها العمدة في الدلالة على حرمة حلق اللحية و أخذها و لو بالنتف و نحوه. هذا.

و لكن الاستدلال بالرواية على حرمة الحلق مبني على كون المراد من الأخذ من لحيته أو من مقدّمها هو الحلق و هو غير واضح،

بل الظاهر منه تقصيرها و إصلاحها، و حمل الأخذ من العارض على الإصلاح و من مقدمها على الحلق مخالف للظاهر جدا.

و ظاهر الرواية عدم جواز الأخذ من مقدمها مطلقا و لا يلتزم بذلك أحد و لا سيما فيما إذا جاوزت عن القبضة كما أشار إلى ذلك صاحب الوسائل.

فالأولى حملها على الندب و يراد بها ما مرّ في أخبار مستفيضة من الأمر بإعفاء اللحية و توفيرها، غاية الأمر أنّه فصّل هنا بين العارضين و بين المقدم لكون ذلك أجمل و أزين.

و يشهد لذلك ما رواه سدير الصيرفي، قال: رأيت أبا جعفر عليه السّلام يأخذ عارضيه و يبطّن لحيته. «2» و من الواضح أنّه عليه السّلام لم يكن يحلق عارضيه بالكليّة.

و في رواية محمد بن مسلم قال: رأيت أبا جعفر عليه السّلام و الحجّام يأخذ من لحيته فقال: «دوّرها.» «3»

و في رواية درست عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: مرّ بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجل طويل اللحية فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما كان على هذا لو هيّأ من لحيته؟» فبلغ ذلك الرجل فهيّأ بلحيته بين اللحيتين ثم دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما رآه قال: «هكذا فافعلوا.» «4»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 261، حرمة حلق اللحية.

(2) الوسائل 1/ 419، الباب 63 من أبواب آداب الحمام، الحديث 4.

(3) نفس المصدر، الحديث 1.

(4) نفس المصدر، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 126

..........

______________________________

يظهر من كلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ الأولى و الراجح هو اللحية بين اللحيتين يعني بين القصيرة و الطويلة و إن كان يصدق على الجميع عنوان اللحية.

و بما ذكرنا

يظهر عدم جواز الاستدلال برواية البزنطي على جواز ما شاع في عصرنا من حلق العارضين و إبقاء ما على الذقن. لما مرّ من عدم كون المراد من الأخذ منها حلقها بالكلية. و قد مرّ في صدر المسألة أنّ اللحية اسم لمجموع ما تنبت على الطرفين و على الذقن.

الأمر السابع: ما رواه في الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد،

عن أبيه، عن جدّه علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حلق اللحية من المثلة، و من مثّل فعليه لعنة اللّه.» «1» و رواه عنه في المستدرك. «2»

بتقريب أنّ المثلة و هو قطع الأعضاء حرام قطعا كما يشهد بذلك لعنه من قبل اللّه تعالى، و مقتضى الرواية كون حلق اللحية بحكمها.

أقول: يرد على ذلك أوّلا: أنّه لم يظهر لنا حجية الكتاب حتى يعتمد عليه في إثبات حكم شرعي.

و محصّل الكلام أنّ كتاب الجعفريات- و يقال له: الأشعثيات أيضا لكون الراوي له محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي- جاء به بعض السّادة الأجلّة من الهند إلى مشهد أمير المؤمنين عليه السّلام في السنة 1279 ه. ق على ما هو المذكور في

______________________________

(1) الجعفريات/ 157، باب السنّة في حلق الشعر ....

(2) راجع مستدرك الوسائل 1/ 59 (ط. أخرى 1/ 406)، الباب 40 من أبواب آداب الحمام ...، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 127

..........

______________________________

أوّل المطبوع منه. «1»

و ابن الأشعث المذكور روى رواياته عن موسى بن إسماعيل بن موسى ابن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام.

و في تنقيح المقال في إسماعيل بن موسى بن جعفر عليه السّلام ما ملخصه: «قال النجاشي في حقّه: سكن مصر و ولده بها. و له كتب

يرويها عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام و مثله في الفهرست بتفاوت يسير. و بالجملة فلا ينبغي الشبهة في كون الرجل صحيح العقيدة فإن لم نعدّ رواياته في الصّحاح فلا أقلّ من كونها من أعلى الحسان.» «2»

و لكن قال في ولده موسى بن إسماعيل ما ملخّصه: «يستفاد ممّا ذكره الشيخ في الفهرست و النجاشي في رجاله كونه من علماء الإمامية، لكن في كفاية هذا المقدار في إدراجه في الحسان تأمّلا.» «3»

و على هذا فلم يثبت كون موسى بن إسماعيل موثوقا به، مضافا إلى أنّ الكتاب- على ما مرّ- جي ء به أخيرا من الهند و لم يعلم كونه مسندا مقروّا على المشايخ في جميع الطبقات، فيشكل الوثوق بكون ذلك عين الكتاب الذي رواه موسى ابن إسماعيل عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام بلا تصحيف أو تحريف فيه، و بالجملة يشكل الحكم بصحّة الرواية سندا.

و ثانيا: على فرض صحّتها سندا لا مجال للاستدلال بها في المقام، إذ المثلة- على ما يظهر من أهل اللغة و موارد استعماله- عبارة عن قطع أعضاء الغير تنكيلا و

______________________________

(1) راجع الجعفريات/ 2.

(2) تنقيح المقال 1/ 145.

(3) نفس المصدر 3/ 252.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 128

..........

______________________________

عقوبة له، فيكون مفاد الرواية أنّ حلق لحية الغير أيضا جبرا عليه و بدون اختياره نحو عقوبة و تنكيل له، فلا تشمل حلق الرجل لحية نفسه أو لحية غيره برضاه.

قال ابن الأثير في النهاية: «فيه: أنه نهى عن المثلة، يقال: مثلت بالحيوان أمثل به مثلا: إذا قطعت أطرافه و شوّهت به، و مثلت بالقتيل: إذا جدعت أنفه، أو أذنه، أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه، و الاسم: المثلة. فأمّا مثّل بالتشديد فهو للمبالغة، و منه

الحديث: «نهى أن يمثّل بالدوابّ» أي تنصب فترمى أو تقطع أطرافها و هي حيّة.» «1»

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الاستدلال بهذه الرواية بما ملخصه: «أوّلا:

أنّها مجهولة السند. و ثانيا: أنّ المثلة هو التنكيل بالغير بقصد هتكه و إهانته، و ثالثا: بأنّ اللعن كما يجتمع مع الحرمة فكذلك يجتمع مع الكراهة أيضا. و يدلّ على هذا ورود اللعن على فعل المكروه في موارد عديدة، و من تلك الموارد ما في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام، قال: يا علي لعن اللّه ثلاثة: آكل زاده وحده و راكب الفلاة وحده و النائم في بيت وحده.» «2»

الأمر الثامن: أنّ في حلق اللحية تشبّها بالمجوس و سائر الكفار

و مشاكلة لهم، و يظهر من بعض الأخبار حرمة مشاكلة أعداء اللّه و السّلوك في مسالكهم:

1- فعن التهذيب بإسناده عن الصفّار، عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، عن السّكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام، قال: «أوحى اللّه إلى نبيّ من الأنبياء أن قل لقومك: لا تلبسوا لباس أعدائي و لا تطعموا مطاعم أعدائي

______________________________

(1) النهاية 4/ 294.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 259، حرمة حلق اللحية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 129

..........

______________________________

و لا تشاكلوا بما شاكل أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي.» «1»

و السند ممّا لا بأس به، إذ قد أفتى الأصحاب في الأبواب المختلفة بما رواه النوفلي عن السكوني و إن كان لعلماء الرجال فيهما كلاما، فراجع. و اسم السكوني إسماعيل بن مسلم و كنية أبيه أبو زياد، و له روايات كثيرة عن الصادق عليه السّلام.

2- و عن الفقيه بإسناده عن إسماعيل بن مسلم، عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّه أوحى اللّه إلى نبيّ من أنبيائه: قل للمؤمنين، لا تلبسوا لباس

أعدائي و لا تطعموا مطاعم أعدائي و لا تسلكوا مسالك أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي.»

و رواه في العلل عن محمد بن الحسن، عن الصفار، عن العباس بن معروف، عن النوفلي، عن السكوني.

و رواه في عيون الأخبار، عن تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشي، عن أبيه، عن أحمد بن علي الأنصاري، عن عبد السّلام بن صالح الهروي، عن الرضا عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تلبسوا» و ذكر مثله. «2»

أقول: الظاهر حمل النهي في هذه الروايات على الحرمة- كما هي ظاهره- و لا محالة يراد بها صورة رفض المسلم هويّة نفسه و استقلاله و جعل نفسه تابعا محضا لأعداء اللّه بحيث يعدّ من مواليهم، و ذلك بأن يكون لهم لباس أو زيّ أو شكل أو طعام أو عمل خاصّ يعدّ من خصائصهم و من شعاراتهم الخاصّة فأراد قوم من المسلمين التشبه بهم في ذلك و التبعية المحضة لهم بنحو يوجب تقوية جبهة الكفر في قبال الإسلام.

______________________________

(1) الوسائل 11/ 111، الباب 64 من أبواب جهاد العدوّ و ما يناسبه.

(2) نفس المصدر 3/ 279، الباب 19 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 130

..........

______________________________

و أمّا مجرّد الاتصاف بوصف من أوصافهم أو اتخاذ زيّ من أزيائهم من دون أن يقصد التشبه بهم أو متابعتهم فلا مجال للقول بحرمته و لا سيّما إذا صار الوصف أو الزيّ أو اللباس الخاصّ عامّا شائعا بين جميع الأمم و لا يرى من خصائص الكفار و شعاراتهم الخاصة.

و يشهد لذلك ما في نهج البلاغة: و سئل عليه السّلام عن قول رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم: «غيّروا الشيب و لا تشبّهوا باليهود.» فقال عليه السّلام: «إنما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك و الدين قلّ فأمّا الآن و قد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فامرؤ و ما اختار.» «1» و رواه عنه في أبواب آداب الحمام من الوسائل. «2»

فصدق التشبه يختلف بحسب اختلاف الأزمنة.

الأمر التاسع: إطلاق ما دلّ على حرمة تشبّه الرجال بالنساء و النساء بالرجال،

مثل ما عن الكافي بسند فيه ضعف عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- في حديث-: «لعن اللّه المحلّل و المحلّل له ... و المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال. الحديث.» «3»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 3، ص: 130

بتقريب أنّ حلق اللحية من أظهر مصاديق تشبّه الرجال بالنساء، و اللعن على فعل دليل على حرمته.

و قد مرّ في أوّل المسألة أنّ اللحية في الرجال ممّا ميّزهم اللّه تعالى بها عن النساء و جعلها زينة و جمالا لهم.

______________________________

(1) نهج البلاغة فيض/ 1094؛ عبده 3/ 154؛ لح/ 471، الحكمة 17.

(2) راجع الوسائل 1/ 403، الباب 44 من أبواب آداب الحمام، الحديث 2.

(3) نفس المصدر 12/ 211، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 131

..........

______________________________

و مرّ عن البحار حديث تزيين آدم باللحية، فراجع.

و فيه أيضا نقلا عن توحيد المفضّل عن الصادق عليه السّلام في خلقة الإنسان قال:

«فإذا أدرك و كان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر و عزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبا و شبه النساء. و

إن كانت أنثى يبقى وجهها نقيّا من الشعر لتبقى لها البهجة و النضارة ... و لو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته أ لم يكن سيبقى في هيئة الصبيان و النساء، فلا ترى له جلالة و لا وقارا؟

الحديث.» «1»

فيظهر من الحديث أنّ اللحية توجب عزّ الرجل و جلاله و وقاره، و أنّ حلقها بنحو تشبه قيافته قيافة النساء أمر مرجوح.

أقول: أمّا حديث تشبّه الرجال بالنساء فقد مرّ البحث فيه في مسألة تزيّن كلّ من الرجل و المرأة بما يختصّ بالآخر. «2» و قال الشيخ هناك: «إنّ الظاهر من التشبه تأنّث الذكر و تذكّر الأنثى.» قال: «و يؤيده المحكي عن العلل أنّ عليّا عليه السّلام رأى رجلا به تأنيث في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال له: اخرج من مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: لعن اللّه ... «3» و في رواية يعقوب بن جعفر- الواردة في المساحقة-: أنّ فيهن قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لعن اللّه المتشبهات بالرجال من النساء ...» «4» إلى آخر ما مرّ في متن المكاسب، «5» حيث يظهر من جميع ذلك عدم إرادة الإطلاق في حديث التشبّه، فراجع.

______________________________

(1) بحار الأنوار 3/ 62 و 63، كتاب التوحيد، الباب 4.

(2) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 2/ 502.

(3) راجع الوسائل 12/ 211، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(4) نفس المصدر 14/ 262، الباب 24 من أبواب النكاح المحرّم، الحديث 5.

(5) راجع مكاسب الشيخ الأعظم الأنصاري/ 22؛ و دراسات في المكاسب المحرّمة 2/ 504 و

ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 132

..........

______________________________

و كون حلق الرجل لحيته موجبا لصدق عنوان التأنّث عليه واضح المنع، اللّهم إلّا أن يكون حلقها بهذا الداعي.

و أمّا رواية تزيين آدم عليه السّلام باللحية و رواية المفضل فهما و إن دلّتا على مرجوحية حلق اللحية و كونه مرغوبا عنها لكن كونها في حدّ حرمة الفعل شرعا غير واضح، فتدبّر.

الأمر العاشر: استقرار سيرة المتشرعة

من جميع فرق المسلمين في جميع الأعصار إلى عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حيث إنّهم كانوا يلتزمون عملا بإبقاء اللحية و ينكرون حلقها و يذمّون حالقها بل يعاملون معه معاملة الفسّاق.

قال آية اللّه الطبسي- طاب ثراه- في المنية في بيان هذا الدليل ما ملخّصه:

«السّادس: السيرة القطعية في جميع الأدوار و الأعصار قولا و عملا من زمان آدم عليه السّلام إلى زمان خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى زماننا هذا من جميع الطبقات على اختلافها: من الأنبياء و الأوصياء، و الأولياء و الصالحين على حفظ هذه الهيئة الخاصّة. و لا يوجد في أيّ تاريخ من تواريخ الأمم أنّ واحدا من الموحّدين و الأولياء و الخلفاء الراشدين و الأئمة الطاهرين سلام اللّه عليهم أجمعين صدر عنه هذا العمل و لو مرّة واحدة في عمره، و لو أنت أمعنت النظر في طبقات الناس طبقة بعد أخرى من رؤساء المذاهب و مراجع الإسلام من العامّة و الخاصّة بل القسيسين و الرهبان و علماء اليهود و غيرهما من الملل و الأديان كالصابئة لرأيت بأمّ عينك اهتمام الكلّ في حفظ هذه الهيئة- إلى أن قال:- و خلاصة القول أنّ اهتمام سائر الطبقات من أيّ ملة و دين في حفظ هذه الهيئة في جميع العصور

و الأزمان

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 133

..........

______________________________

كاشف قطعي عن محبوبيتها و مبغوضية خلافها عند اللّه و رسوله.» «1» انتهى.

أقول: ربما يناقش في السيرة المذكورة بعدم إحراز انتهائها إلى عصر المعصومين عليهم السّلام حتّى يستدلّ بتقريرهم لها فلعلّها حدثت في الأعصار المتأخرة بلحاظ فتاوى المتأخرين بالحرمة و شيوع آرائهم بين المتشرعة و لعلّ اهتمام الجميع لحفظ الهيئة كان من جهة استحبابها المؤكّد، و الاستمرار العملي لا يدلّ على وجوب العمل. و ممّا يؤيد ذلك عدم تعرّض القدماء من أصحابنا للمسألة فيما بأيدينا من كتبهم كما مرّ بيان ذلك في مقام الجواب عن الإجماع المدّعى فيها.

هذا.

فهذه إلى هنا عشرة أمور أقيمت على حرمة حلق اللحية، و قد تعرّضنا للمناقشات فيها، و الأصل الأوّلي يقتضي الجواز. و لكن بعد اللّتيا و الّتي يشكل الجرأة على الإفتاء بالجواز، و لا سيّما بلحاظ ما مرّ من استفاضة الأمر بإعفاء اللحى و الاطمينان بصدور هذا المضمون عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تعبيره عن ذلك بأنها الفطرة، و ما مرّ من النهي عن الأخذ من مقدمها، و استقرار سيرة المتشرّعة على إبقاء اللحية و ارتكاز الحرمة و المذمومية في أذهانهم، فلا يترك الاحتياط بالاجتناب.

و لكن لا يخفى أنّ حرمته- على القول بها- تكون كسائر الحرمات التي تسقط عند الاضطرار أو الإكراه أو المزاحمة بما هو مساو أو أهمّ، فتدبّر.

و لا يخفى أيضا أنّ المستفاد مما مرّ من الأخبار و من سيرة المتشرعة- على فرض تسليم ذلك- هو وجوب إبقاء اللحية بحيث يصدق على الشخص أنّه ذو لحية.

فلا فرق في المنع بين حلقها أو نتفها أو جزّها أو غير ذلك مما يوجب إزالة الشعر.

______________________________

(1) المنية

في حكم الشارب و اللحية/ 55.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 134

..........

______________________________

و قد مرّ في أوّل البحث أنّ اللحية عبارة عما ينبت على اللحيين من غير فرق بين ما ينبت على الذقن أو على الطرفين. فيشكل جواز ما شاع في عصرنا من حلق الطرفين بالكلية و إبقاء ما على الذقن فقط.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 135

تذنيبان:
التذنيب الأوّل: حكم ما زاد عن القبضة من اللحية

______________________________

يستفاد من بعض الأخبار المنع عن تجاوز اللحية عن القبضة، و قد عنون المسألة في الوسائل هكذا: «باب استحباب قصّ ما زاد عن قبضة من اللحية.» «1»

1- رواية معلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «ما زاد من اللحية عن القبضة فهو في النار.» «2»

2- رواية محمد بن أبي حمزة، عمن أخبره، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «ما زاد على القبضة ففي النار.» يعنى اللحية. «3»

3- رواية يونس، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «تقبض بيدك على اللحية و تجزّ ما فضل.» «4»

قال في الوافي: «قيل: المراد بالقبض على لحيته أن يضع يده على ذقنه فيأخذه بطرفيه فيجزّ ما فضل من مسترسل اللحية طولا، لا القبض مما تحت الذقن.» «5»

______________________________

(1) راجع الوسائل 1/ 420، كتاب الطهارة، الباب 65 من أبواب آداب الحمام.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(3) نفس المصدر، الحديث 1.

(4) نفس المصدر، الحديث 3.

(5) الوافي 1/ 99 من الجزء الرابع (ط. أخرى 6/ 656)، كتاب الطهارة و التزين، أبواب قضاء التفث و التزين، باب جزّ اللحية ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 136

..........

______________________________

أقول: لا ندري من هو القائل بهذا القول و ما هو الدليل عليه «1» و إن كان ما ذكره أقرب إلى الاعتبار.

4-

و قد مرّ في هذا المجال أيضا رواية درست عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: مرّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجل طويل اللحية فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما كان على هذا لو هيّأ من لحيته؟» فبلغ ذلك الرجل فهيأ بلحيته بين اللحيتين، ثم دخل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما رآه قال:

«هكذا فافعلوا.» «2»

5- رواية الحسن الزيات، قال: رأيت أبا جعفر عليه السّلام قد خفّف لحيته. «3»

أقول: عمل أبي جعفر عليه السّلام لا يدلّ على وجوب ما عمله و لا على استحبابه و لكن يدلّ على جواز التخفيف بأخذ بعض اللحية.

6- و في الجعفريات بسنده عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنّه كان يقول: «خذوا من شعر الصدغين و من عارضي اللحية، و ما جاوز القبضة من مقدم اللحية فجزّوه.» «4»

7- و عن الترمذي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأخذ من لحيته من عرضها و طولها. «5»

8- و عن ابن عمر أنّه كان يقبض على لحيته ثم يقص ما تحت القبضة. «6»

______________________________

(1) الظاهر أنّ القائل به هو السيّد الداماد «ره». قاله في شارع النجاة/ 107 و استدلّ له بكلمات أهل اللغة في معنى اللحية و اللحى.

(2) الوسائل 1/ 419، الباب 63 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(4) الجعفريات/ 157، باب السنّة في حلق الشعر ....

(5) راجع «الرسائل الأربعة عشرة» من منشورات مؤسسة النشر الإسلامي- رسالة حرمة حلق اللحية لآية اللّه البلاغي «ره»، ص 157.

(6) نفس المصدر و الصفحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3،

ص: 137

..........

______________________________

9- و عن أبي هريرة أنّه كان يقبض على لحيته فيأخذ ما فضل عن القبضة. «1»

10- و في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يعتبر عقل الرجل في ثلاث: في طول لحيته و في نقش خاتمه و في كنيته.» «2»

أقول: فبلحاظ هذه الأخبار المستفيضة يكون أصل جواز التخفيف و الأخذ لما زاد على القبضة بل استحباب ذلك مما لا إشكال فيه و بها يقيّد إطلاق أخبار الإعفاء، و لكن الظاهر مما دلّ على كون الزائد في النار هو حرمة إبقائه و لم نر من يفتي بذلك. و لعلّ النظر في هذه الروايات إلى من كان يريد بذلك التشبّه باليهود أو رئاء الناس و تغريرهم بلحيته كما قد يرى في أعصارنا من بعض من يتكلّف لإدخال نفسه في عداد أهل الفضل بهذه الوسيلة.

التذنيب الثاني: حكم الشارب

لا يخفى أن من السنن المؤكّدة الأخذ من الشارب و إحفائه، و قد ورد بذلك أخبار مستفيضة بل متواترة معنى أو إجمالا بحيث يعلم بصدور بعضها لا محالة، فإعفاؤها ناسبا ذلك إلى الشرع المبين أو بعض المعصومين عليهم السّلام تشريع محرّم أو افتراء بيّن:

1- ففى صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن قصّ الشارب

______________________________

(1) نفس المصدر و الصفحة.

(2) الوسائل 1/ 421، الباب 65 من أبواب آداب الحمام، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 138

..........

______________________________

أمن السنّة؟ قال: «نعم.» «1»

2- و روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من السنة أن تأخذ من الشارب حتى يبلغ الإطار.» «2»

أقول: في النهاية: «و في حديث عمر بن عبد العزيز: «يقصّ الشارب حتى

يبدو الإطار.» يعني حرف الشفة الأعلى الذي يحول بين منابت الشعر و الشفة و كلّ شي ء أحاط بشي ء فهو إطار له.» «3»

3- و روى السكوني أيضا، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يطوّلنّ أحدكم شاربه فإنّ الشيطان يتخذه مخبأ يستتر به.» «4»

4- و عن العلل بسنده عن إسماعيل بن مسلم، عن جعفر بن محمد، عن آبائه عليهم السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لا يطوّلنّ أحدكم شاربه و لا شعر إبطيه و لا عانته فإن الشيطان يتخذها مخبأ يستتر بها.» «5»

و قد مرّ أنّ السكوني اسمه إسماعيل بن مسلم، فالروايتان ترجعان إلى رواية واحدة و الأولى قطعة من الثانية.

5- و عن الكافي بسنده عن عبد اللّه بن عثمان أنّه رأى أبا عبد اللّه عليه السّلام أحفى شاربه حتى ألصقه بالعسيب.» «6»

قال في مجمع البحرين: «و في الحديث: أحفى شاربه حتى ألصقه بالعسيب،

______________________________

(1) الوسائل 1/ 421، الباب 66 من أبواب آداب الحمام، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(3) النهاية لابن الأثير 1/ 54.

(4) الوسائل 1/ 421، الباب 66 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

(5) نفس المصدر و الباب، ص 422، الحديث 6.

(6) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 139

..........

______________________________

و هو منبت الشعر.» «1»

6- و عن مكارم الأخلاق عن الصادق عليه السّلام قال: «كان شريعة إبراهيم التوحيد و الإخلاص ... و زاده في الحنيفية: الختان و قصّ الشارب و نتف الإبط و تقليم الأظفار و حلق العانة. الحديث.» «2»

7- و فيه أيضا عنه عليه السّلام قال: «قال اللّه عزّ و جلّ لإبراهيم عليه السّلام: «تطهّر.» فأخذ

شاربه، ثم قال: «تطهّر.» فنتف من إبطيه: ثم قال: «تطهّر.» فقلم أظفاره، ثم قال: «تطهّر.» فحلق عانته، ثم قال: «تطهّر.» فاختتن.» «3»

8- و عن الخصال بسند معتبر عن الحسن بن الجهم قال: قال أبو الحسن موسى عليه السّلام: خمس من السنن في الرأس و خمس في الجسد. فأمّا التي في الرأس فالسواك و أخذ الشارب و فرق الشعر و المضمضة و الاستنشاق. الحديث.» «4»

9- و عن قرب الإسناد عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر، عن أبيه عليه السّلام: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ليأخذ أحدكم من شاربه و الشعر الذي من أنفه و ليتعاهد نفسه فإن ذلك يزيد في جماله.» «5»

10- و قد مرّ عن الصدوق في الفقيه أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حفّوا الشوارب و أعفوا اللحى و لا تشبهوا باليهود.» «6»

و إسناده الكلام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صريحا يدلّ على ثبوت الرواية عنده، و قد

______________________________

(1) مجمع البحرين/ 123 (ط. أخرى 2/ 121).

(2) الوسائل 1/ 422، الباب 66 من أبواب آداب الحمام، الحديث 7.

(3) نفس المصدر، الحديث 8 من الباب.

(4) نفس المصدر 1/ 350، الباب 1 من أبواب السواك، الحديث 23.

(5) نفس المصدر 1/ 424، الباب 68 من أبواب آداب الحمام، الحديث 2.

(6) نفس المصدر 1/ 423، الباب 67 منها. الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 140

..........

______________________________

مرّ منا أنّ كثرة نقل هذا المضمون عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوجب الوثوق بصدوره عنه.

و في الوافي في بيان الرواية قال: «الحفّ: الإحفاء، و هو الاستقصاء في الأمر و

المبالغة فيه، و إحفاء الشارب: المبالغة في جزّه.» «1»

11- و مرّ في رواية عليّ بن غراب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حفّوا الشوارب و أعفوا اللحى و لا تشبّهوا بالمجوس.» «2»

12- و مرّ عن الفقيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ المجوس جزّوا لحاهم و وفّروا شواربهم، و إنّا نحن نجزّ الشوارب و نعفي اللحى و هي الفطرة.» «3»

13- و مرّ فيما رواه في مجمع البيان عن تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام في بيان حنيفية إبراهيم عليه السّلام قوله: «فأمّا التي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى. الحديث.» «4»

14- و مرّ في رواية حبابة الوالبية عن أمير المؤمنين عليه السّلام: فقام إليه فرات ابن أحنف فقال: يا أمير المؤمنين و ما جند بني مروان؟ قال: فقال له: «أقوام حلقوا اللحى و فتلوا الشوارب فمسخوا.» «5»

15- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عمر، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أعفوا اللحى

______________________________

(1) الوافي 1/ 99 من الجزء الرابع (ط. أخرى 6/ 657)، أبواب قضاء التفث و التزين، باب جزّ اللحية ....

(2) الوسائل 1/ 423، الباب 67 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الصفحة، الحديث 2 من الباب.

(4) نفس المصدر، الحديث 5.

(5) نفس المصدر، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 141

..........

______________________________

و أحفوا الشوارب.» «1»

16- و فيه أيضا بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خالفوا المشركين: وفّروا اللحى و أحفوا الشوارب.» «2»

17- و

فيه أيضا بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «جزّوا الشوارب و أرخوا اللحى و خالفوا المجوس.» «3»

أقول: قد مرّ منا احتمال أن يكون المراد بالمشركين في رواية ابن عمر أيضا المجوس لقولهم باليزدان و الأهرمن. و لم يعهد من مشركي مكة حلق اللحية و إعفاء الشارب.

18- و فيه أيضا بسنده عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عشر من الفطرة: قصّ الشارب و إعفاء اللحية. الحديث.» «4»

19- و في سنن النسائي بسنده عن زيد بن أرقم قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «من لم يأخذ شاربه فليس منّا.» «5»

20- و مرّ عن الكامل: أنّ رجلين قدما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قبل كسرى و قد حلقا لحاهما و أعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما و قال: «ويلكما من أمركما بهذا؟» قالا: ربّنا- يعنيان الملك-، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لكن ربّي أمرني أن أعفي لحيتي و أقصّ شاربي.» «6»

______________________________

(1) سنن البيهقي 1/ 149، كتاب الطهارة، باب السنّة في أخذ من الأظفار و الشارب ....

(2) نفس المصدر و الباب، ص 150.

(3) نفس المصدر و الباب و الصفحة.

(4) نفس المصدر 1/ 52، كتاب الطهارة، باب سنّة المضمضة ....

(5) سنن النسائي 8/ 129، كتاب الزينة- إحفاء الشارب.

(6) الكامل في التاريخ 2/ 214، في أحداث سنة ستّ من الهجرة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 142

..........

______________________________

و رواه في المستدرك «1» أيضا عن الكازروني في المنتقى.

21- و في رسالة حرمة حلق اللحية للمرحوم آية اللّه البلاغي- طاب ثراه- عن الطبراني عن

الحكيم بن عمر (الحكم بن عمير) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قصّوا الشوارب مع الشفاه.» «2»

22- و فيه عن المغيرة بن شعبة قال: ضفت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان شاربي وفاء فقصّه على سواك. و في رواية فوضع صلّى اللّه عليه و آله و سلّم السواك تحت الشارب و قصّ عليه. «3»

23- و فيه أيضا: أخرج البزاز عن عائشة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبصر رجلا و شاربه طويل فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ايتوني بمقصّ و سواك.» فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه. «4»

24- و فيه أيضا عن أحمد عن أبي هريرة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أعفوا اللحى و جزّوا الشوارب و غيّروا شيبكم و لا تشبّهوا باليهود و النصارى.» «5»

25- و فيه أيضا عن البيهقي عن أبي أمامة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «وفّروا غثانينكم و قصّوا سبالكم.» «6»

26- و فيه أيضا عن أحمد و الطبراني و غيرهما عن أبي أمامة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قصّوا

______________________________

(1) راجع مستدرك الوسائل 1/ 59 (ط. أخرى 1/ 407)، الباب 40 من أبواب آداب الحمام، ذيل الحديث 2.

(2) راجع «الرسائل الأربعة عشرة»- رسالة حرمة حلق اللحية لآية اللّه البلاغي، ص 140.

(3) نفس المصدر و الصفحة.

(4) نفس المصدر و الصفحة.

(5) نفس المصدر، ص 142.

(6) نفس المصدر، ص 143.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 143

..........

______________________________

سبالكم و وفّروا غثانينكم و خالفوا أهل الكتاب.» ثم قال: «و السبال جمع سبلة- بفتح الباء- و هي الشّارب، و الغثنون: اللحية، و لعلّ

المراد من مخالفة أهل الكتاب مخالفة اليهود في إرسال لحاهم بلا إصلاح، و مخالفة النصارى في حلق لحاهم أو جزّها من أصولها، فيكون المراد من التوفير مصداقه الذي يخالف الأمرين.» «1»

أقول: و قد روي هذا المضمون بألفاظ أخر أيضا في كتب الحديث من الفريقين بحيث يحصل العلم بصدوره عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إجمالا و إن اختلف الألفاظ في ذلك، و حيث إنّ المسألة كانت مبتلى بها دائما فلعلّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كرّر ذكرها بألفاظ مختلفة.

و إنّما أطلنا الكلام في المقام لما نراه في عصرنا من التزام بعض طوائف الصوفية عملا- مع ادعائهم بالتزام الشرع- بإعفاء الشارب، و ينسبون ذلك إلى المعصوم عليه السّلام، و هذا من أظهر مصاديق التشريع المحرّم أو الافتراء.

و قد تمّ البحث في مسألة حلق اللحية و ملحقاتها في 3 صفر 1418 ه. ق، الموافق ل 19/ 3/ 1376 ه. ش. و الحمد للّه ربّ العالمين.

______________________________

(1) نفس المصدر، ص 144.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 145

[المسألة الثامنة: الرشوة]
اشارة

المسألة الثامنة: الرشوة حرام، و في جامع المقاصد و المسالك: أنّ على تحريمها إجماع المسلمين. (1)

______________________________

المسألة الثامنة: الرشوة

(1) أقول: يتعرّض المصنّف في هذه المسألة لحكم أجور القضاة و ارتزاقهم من بيت المال و حكم الهدايا للقضاة أيضا، و هل تختصّ الرشوة بباب القضاء و الحكم أو تشمل مطلق ما يعطى لحمل الغير على ما يريده المعطي؟. و هل تختصّ ببذل الأموال أو تعمّ الأعمال بل و الأقوال أيضا كمدح القاضي و الثناء عليه و كذا المعاملة المحاباتية معه و إعارته الأموال الثمينة و الوقف عليه و نحو ذلك ممّا يعود نفعه إليه؟. كلّ ذلك ممّا ينبغي البحث

فيه.

نقل بعض كلمات الأعلام في حرمة الرشوة

1- قال المحقّق في الشرائع: «الرشا حرام سواء حكم لباذله أو عليه بحقّ أو باطل.» «1»

أقول: لم يرد بذلك تعميم معنى الرشوة، و إنّما أراد بيان أنّ حرمتها- بأيّ

______________________________

(1) الشرائع 1/ 266، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 146

..........

______________________________

معنى فسّرت- لا تختصّ بما إذا أثّرت في روح القاضي و عمله، بل تحرم عليه و إن لم تؤثّر فيه بل حكم بالحقّ و بضرر المعطي أيضا. و حيث إنّ البحث في المكاسب المحرّمة فالغرض بيان حرمتها للآخذ، و أكثر الأخبار أيضا ناظرة إلى ذلك. و أمّا حرمة إعطائها فمضافا إلى كونه إعانة للإثم يدلّ عليها الآية الشريفة كما يأتي بيانها و ما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من لعن الراشي و المرتشي.

2- و في المسالك ذيّل عبارة الشرائع بقوله: «الرشا- بضمّ أوّله و كسره مقصورا- جمع رشوة- بهما- و هو أخذ الحاكم مالا لأجل الحكم، و على تحريمه إجماع المسلمين. و عن الباقر عليه السّلام: «أنّه الكفر باللّه- تعالى- و رسوله» و كما يحرم على المرتشي يحرم على المعطي لإعانته على الإثم و العدوان إلّا أن يتوقّف عليه تحصيل حقّه فيحرم على المرتشي خاصّة.» «1»

أقول: ظاهر تفسيره للرشا عمومه لما يعطى للحاكم أجرا لحكمه و لو بالحقّ مع أنّ الظاهر- كما يأتي- اختصاصه بما يعطى للحكم بنفع المعطي، و على فرض كون كلمة الرشا جمعا كما قال فإرجاع الضمير المفرد المذكّر إليه يحتاج إلى تأويل.

3- و في الجواهر ذيّل عبارة الشرائع بقوله: «إجماعا بقسميه و نصوصا مستفيضة أو متواترة.» «2»

4- و قال العلّامة في القواعد: «و يحرم الرشا في الحكم و إن حكم على باذله بحقّ أو باطل.»

«3»

5- و ذيّله في جامع المقاصد بقوله: «أجمع أهل الإسلام على تحريم الرشا في

______________________________

(1) المسالك 3/ 136، فيما يكتسب به.

(2) الجواهر 22/ 145.

(3) قواعد الأحكام للعلّامة 1/ 121، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 147

..........

______________________________

الحكم سواء حكم بحقّ أو باطل للباذل أو عليه.» «1»

6- و في قضاء المستند: «الثالثة: يحرم على القاضي أخذ الرشوة- مثلثة الراء- إجماعا من المسلمين.» «2»

أقول: حيث إنّ حرمة الرشوة ممّا يدلّ عليها الكتاب و السنّة المستفيضة بل المتواترة كما يأتي فمن المحتمل بل الظاهر كون مدرك الفتاوى الكتاب و السنّة و ليس الإجماع دليلا مستقلا في المسألة بعد هذا الاحتمال و لا يثبت به تلقّيهم المسألة يدا بيد عن المعصومين عليهم السّلام مع قطع النظر عن الآية و الأخبار الواردة. هذا.

ما هو معنى الرشوة؟

و أخبار المسألة لم تتعرّض لمعنى الرشوة و مفهومها فلنتعرّض لبعض كلمات أهل اللغة و غيرهم في هذا المجال:

1- قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «مجموع محتملات معنى الرشوة خمسة: مطلق الجعل المندرج فيه أجرة الأجراء، و الجعل على القضاء و تصدي فصل الخصومة، و الجعل على الحكم بالواقع لنفسه كان أو لغيره، و الجعل على الحكم لنفسه حقّا كان أو باطلا، و الجعل على الحكم بالباطل. و الأوّل ممّا ينبغي القطع ببطلانه ... و المتيقّن من بين بقية المعاني إن لم يكن هو الظاهر هو الأخير.» «3»

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 35، أوائل كتاب المتاجر.

(2) مستند الشيعة 2/ 526.

(3) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 26.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 148

..........

______________________________

أقول: الفرق بين المعاني الخمسة بالعموم و الخصوص إلّا في الثالث و الأخير أخصّها. و المعنى الأوّل يعمّ باب القضاء و غيره، و هو بإطلاقه غير

مراد قطعا، و الثاني و الثالث يرتبطان بباب أجور القضاة و هي غير الرشوة فيبقى للرشوة الرابع و الخامس و كلّ منهما محتمل، و يحتمل إلغاء خصوصيّة القضاء أيضا.

2- و في القاموس: «الرشوة- مثلثة-: الجعل ج رشى ... و الرشاء ككساء:

الحبل كالرشاء بالكسر.» «1»

أقول: الظاهر أنّ تفسيرها بالجعل من باب التعريف بالأعمّ نظير قولنا: «سعدانة نبت» و يحتمل أن يكون اللام للعهد إشارة إلى الجعل المخصوص المعهود في باب القضاء، و يشهد بذلك ما في الصحاح.

3- و في الصحاح: «الرشاء: الحبل و الجمع أرشية، و الرشوة معروفة، و الرشوة بالضم مثله و الجمع رشا و رشا.» «2»

4- و في المصباح المنير: «الرشوة بالكسر: ما يعطيه الشخص الحاكم و غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد ... و الرشاء: الحبل و الجمع أرشية مثل كساء و أكسية.» «3»

أقول: قوله: «أو يحمله على ما يريد» يحتمل أن يراد به حمل المعطي غير الحاكم على ما يريده فتشمل العبارة غير باب الحكم أيضا و يحتمل أن يراد به حمل الغير الحاكم على ما يريده المعطي فتختصّ بباب الحكم.

5- و قال ابن الأثير في النهاية: رشا- س- فيه: «لعن اللّه الراشي و المرتشي

______________________________

(1) قاموس اللغة/ 878.

(2) صحاح اللغة 6/ 2357.

(3) المصباح المنير 1/ 310.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 149

..........

______________________________

و الرائش.» الرشوة و الرشوة: الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، و أصله من الرشاء الذي يتوصّل به إلى الماء. فالراشي: من يعطي الذي يعينه على الباطل. و المرتشي: الآخذ. و الرائش: الذي يسعى بينهما يزيد لهذا و يستنقص لهذا. فأمّا ما يعطى توصّلا إلى أخذ حقّ أو دفع ظلم فغير داخل فيه. روي أنّ ابن مسعود أخذ بأرض

الحبشة في شي ء فأعطى دينارين حتّى خلّى سبيله، و روي عن جماعة من أئمّة التابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه و ماله إذا خاف الظلم.» «1»

أقول: ما استثناه أخيرا ليس خارجا من الرشوة موضوعا و إنّما يخرج منها حكما في ناحية المعطي فقط كما هو واضح. و قد خصّ الرشوة المحرّمة بما يعين على الباطل مع أنّ الظاهر شمولها لكلّ ما يعطى في قبال الحكم بنفع المعطي و إن فرض كون ادّعائه حقّا.

6- و في مجمع البحرين: «و الرشوة- بالكسر-: ما يعطيه الشخص الحاكم و غيره فيحكم له أو يحمله على ما يريد و الجمع رشى مثل سدرة و سدر، و الضم لغة، و أصلها من الرشاء: الحبل الذي يتوصّل به إلى الماء و جمعه أرشية ككساء و أكسية ... و الرشوة قلّ ما تستعمل إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل.» «2»

7- و في المنجد: «الرشوة و الرشوة و الرشوة ج رشى و رشى: ما يعطى لإبطال حقّ أو إحقاق باطل ... الرشاء جمع أرشية: الحبل عموما أو حبل

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 2/ 226.

(2) مجمع البحرين 1/ 184.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 150

..........

______________________________

الدلو.» «1»

8- و في قضاء المستند- بعد الحكم بحرمة الرشوة- قال: «لا كلام في أنّ الرشوة للقاضي هي المال المأخوذ من أحد الخصمين أو منهما أو من غيرهما للحكم على الآخر أو إهدائه أو إرشاده في الجملة. إنّما الكلام في أنّ الحكم أو الإرشاد المأخوذين في ماهيّته هل هو مطلق شامل للحقّ أو الباطل أو يختصّ بالحكم بالباطل؟ مقتضى إطلاق الأكثر و تصريح والدي العلّامة في «المعتمد» و المتفاهم في العرف هو الأوّل

و هو الظاهر من القاموس و الكنز و مجمع البحرين، و يدلّ عليه استعمالها فيما أعطى للحقّ في الصحيح عن رجل يرشو الرجل على أن يتحوّل من منزله فيسكنه، قال: «لا بأس» فإنّ الأصل في الاستعمال إذا لم يعلم الاستعمال في غيره الحقيقة.» «2»

أقول: ما اختاره في المستند في معنى الرشوة يقرب لما مرّ عن المصباح المنير بناء على تعميم عبارته لغير باب الحكم فيراد بالرشوة ما يعطى للغير- الحاكم أو غيره- ليحمله على ما يريده و ينفعه حقّا كان أو باطلا و تعمّ باب القضاء و غيره مثل ما يعطى لسائر الولاة لاستمالتهم إلى ما يريده. و المراد بالمنزل في الصحيحة إمّا أحد الأمكنة المشتركة أو المنزل الشخصي المغصوب من المعطي فيعطي الرشوة لرفع يده.

9- و في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «و المتحصّل من كلمات الفقهاء و من أهل العرف و اللغة: أنّ الرشوة ما يعطيه أحد الشخصين للآخر لإحقاق حقّ أو تمشية باطل، أو للتملّق، أو الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، أو في عمل لا يقابل بالأجرة و الجعل عند العرف و العقلاء بل يفعلون ذلك العمل للتعاون و التعاضد

______________________________

(1) المنجد/ 262.

(2) مستند الشيعة 2/ 526، و الرواية في الوسائل 12/ 207، الباب 85 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 151

و يدلّ عليه الكتاب. (1)

______________________________

بينهم كإحقاق الحقّ و إبطال الباطل و ترك الظلم أو دفعه و تسليم الأوقاف- من المدارس و المساجد و المعابد و نحوها- إلى غيره كأن يرشو الرجل على أن يتحوّل عن منزله فيسكنه غيره، إلى غير ذلك من الموارد التي لم يتعارف أخذ الأجرة عليها.» «1»

أقول: أراد بما ذكره أخيرا كون إطلاقها

على ما لم يتعارف على نحو الحقيقة كما في مثال الأوقاف المشتركة و عدم صحّة إطلاقها على الجعل و الأجرة فيما تعارف، و لا يخفى أنّه لو صحّ ما ذكره في معنى الرشوة من التعميم فالظاهر أنّ المتيقّن حرمتها هو خصوص ما يعطى لإحقاق الحق أو تمشية الباطل سواء أعطى للقاضي أو لغيره من العمال كما يشهد بذلك الصحيح الذي ذكره في المستند حيث نفى فيه البأس عمّا أخذ للتحوّل من المنزل ليسكنه غيره، و لأجل ذلك قيّدت في أكثر أخبار الباب بما في الحكم فإنّه الذي يغلب فيه إبطال الحقّ أو تمشية الباطل، و سيأتي لذلك مزيد توضيح.

أدلّة حرمة الرشوة:
اشارة

(1) أقول: يستدلّ لحرمة الرشوة بأمور:

الأوّل: أنّ الحكم بالباطل محرّم قطعا فما يقع بإزائه أعني الرشوة يكون حراما

لا محالة، إذ لا ماليّة شرعا لما يتمحّض في الحرمة من الذوات و الأعمال، و يشهد لذلك ما مرّ في أوّل المكاسب من الأخبار العامّة كخبر تحف العقول و غيره فراجع.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 262.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 152

..........

______________________________

و بالجملة فالرشوة في باب القضاء عبارة عمّا يدفع بإزاء الحكم بالباطل أو بنفع المعطي حقّا كان أو باطلا و هما محرّمان فيحرم ما يقع بإزائهما تكليفا و وضعا، و تطلق أيضا على ما يعطى لإحقاق الحقّ و دفع الباطل، و كيف كان فهي غير أجرة القضاء كما يأتي.

الثاني: الإجماع

المدّعى في كلماتهم كما مرّ.

و يرد على ذلك احتمال كون مدرك المفتين ما يأتي من الكتاب و السنّة فلا يكون دليلا مستقلا كاشفا عن تلقّي الحكم يدا بيد عن المعصومين عليهم السّلام.

الثالث: قوله- تعالى- في سورة البقرة:

وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. «1»

أقول: الأكل في الآية و نظائرها كناية عن مطلق الاستمتاعات و التصرّفات، و إنّما خصّ بالذكر، لأنّه أوّل حاجة طبيعيّة توجّه إليها البشر و أهمّها عنده.

قال في مجمع البيان في تفسير الآية ما ملخّصه: «قيل فيه أقوال: أحدها: أنّه الودائع و ما لا يقوم عليه بيّنة، و ثانيها: أنّه مال اليتيم في يد الأوصياء، و ثالثها:

أنّه ما يؤخذ بشهادة الزور، و الأولى أن يحمل على الجميع.» «2»

أقول: ما ذكره صحيح فتشمل الآية كلّ مورد تعطى الرشوة للحاكم لاستمالته و استخراج رأيه بنفع المعطي. و موردها و إن كان خصوص الأموال و

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 188.

(2) مجمع البيان 2/ 282 (ط. أخرى 1/ 282).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 153

..........

______________________________

لكن يمكن إلغاء الخصوصيّة عرفا فتشمل إعطاء الرشوة بإزاء الحكم بالباطل أو بنفع المعطي و لو في غير المنازعات الماليّة. هذا.

و قد مرّ منّا مرارا أنّ الباء في قوله: «بالباطل» للسببيّة لا للمقابلة فيراد النهي عن أخذ مال الغير بالأسباب الباطلة. و يشهد لذلك استثناء التجارة عن تراض التي هي من الأسباب الناقلة في نظير الآية في سورة النساء «1» و قوله: تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ يحتمل أن يكون معطوفا على «تأكلوا» و مدخولا لحرف النهي فيكون من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ حيث إنّ الإرشاء أحد من الأسباب الباطلة لأكل مال

الغير، كما يحتمل أن يكون معطوفا على «الباطل» عطفا تفسيريّا و مدخولا للباء فيصرف الجملة الأولى عن إطلاقها، و كيف كان فالمدلول المطابقي للآية حرمة الإرشاء و يستلزم حرمة الرشوة قهرا، فتدبّر.

قال في تفسير الميزان: «الإدلاء هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء، كنّى به عن مطلق تقريب المال إلى الحكّام ليحكموا كما يريده الراشي و هو كناية لطيفه تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثّل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده.» «2»

أقول: و يشهد لما ذكره ما مرّ من بعض أهل اللغة من كون الرشاء بمعنى الحبل و استظهار أخذ كلمة الرشوة من الرشاء فالمقصود إعطاء الرشوة للحاكم، ليستخرج بها رأيه كما يستخرج الماء من البئر بالدلو و الرشاء.

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 29.

(2) الميزان 2/ 52، في ذيل الآية 188 من سورة البقرة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 154

[الرابع الأخبار]
اشارة

و السنّة، و في المستفيضة: إنّها كفر باللّه العظيم أو شرك. (1)

ففي رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «أيّما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه عنه يوم القيامة و عن حوائجه، و إن أخذ هدية كان غلولا، و إن أخذ رشوة فهو مشرك.» (2)

و عن الخصال- في الصحيح- عن عمّار بن مروان قال: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت و السحت أنواع كثيرة، منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة، و منها أجور القضاة، و أجور الفواجر، و ثمن الخمر و النبيذ المسكر، و الربا بعد البيّنة. و أمّا الرشا في الأحكام- يا عمّار- فهو الكفر باللّه العظيم.» (3)

______________________________

و بذلك يدفع ما احتمله بعض من إرادة إعطاء جميع المال المتنازع فيه للحاكم ليردّ بعضه

إلى المعطي.

(1) الأمر الرابع: السنّة المستفيضة بل المتواترة إجمالا من طرق الفريقين.

و معنى التواتر الإجمالي ورود روايات كثيرة دالّة على حكم بحيث يقطع إجمالا بصدور بعضها و لو واحدة منها.

(2) راجع الوسائل «1»، و سندها ضعيف، و الغلول: الخيانة و الانحراف عن الصواب. و الوالي معنى عامّ يشمل القاضي أيضا فإنّ القضاء أيضا من شئون الولاة.

(3) راجع الوسائل و فيه: «فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم و برسوله» «2» و المرويّ عنه أبو عبد اللّه عليه السّلام.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 12.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 155

..........

______________________________

و روى نحو هذه الرواية عن الكافي و التهذيب أيضا عن عمّار بن مروان عن أبي جعفر عليه السّلام «1» و لكن ليس فيها أجور القضاة و يحتمل اتّحاد الروايتين و تصحيف المرويّ عنه في إحداهما.

و كيف كان فالسند صحيح، و عمّار بن مروان و أخوه عمرو ثقتان. و الدلالة واضحة.

معنى السحت لغة

قال الخليل في العين: «السحت: كلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار نحو ثمن الكلب و الخمر و الخنزير.» «2»

و في معجم مقائيس اللغة: «المال السحت: كلّ حرام يلزم أكله العار، و سمّي سحتا لأنّه لا بقاء له ...» «3»

و في المفردات: «السحت: القشر الذي يستأصل، قال- تعالى-: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذٰابٍ و قرئ: «فتسحتكم» يقال: سحته و أسحته، و منه السحت المحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنّه يسحت دينه و مروّته. قال تعالى: أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ أي ما يسحت دينهم.» «4»

و في النهاية: «يقال: مال فلان سحت أي لا شي ء على من استهلكه، و دمه سحت أي لا شي ء على من سفكه، و اشتقاقه من السحت

و هو الإهلاك و الاستيصال، و السحت: الحرام الذي لا يحلّ كسبه.» «5»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 1.

(2) العين 3/ 132.

(3) معجم مقائيس اللغة 3/ 143.

(4) المفردات/ 231 (ط. أخرى/ 400).

(5) النهاية لابن الأثير 2/ 345.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 156

و مثلها رواية سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. (1)

______________________________

أقول: و قد يطلق السحت على بعض المكروهات الملازمة للعار عرفا مثل كسب الحجّام مثلا. و كيف كان فاللفظ ظاهر في حرام خاصّ يتنفّر عنه طباع الكرام، و يذهب بالدين و المروّة و لا بركة و لا بقاء له نوعا، و من أظهر مصاديقه الرشوة.

(1) راجع الوسائل «1» هذا. و الأخبار في حرمة الرشوة- مضافا إلى ما ذكرها المصنّف- من طرق الفريقين كثيرة نتعرّض لبعضها:

بعض ما لم يذكره المصنّف من أخبار الباب

1- رواية يزيد بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن السحت فقال:

«الرشا في الحكم.» «2»

2- معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغي و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.» «3»

و في تقييد الرشوة في أكثر أخبار الباب بما في الحكم نحو إشعار بخصوصيّة لما في الحكم فلا يحرم غيره أو لا تشتدّ حرمته.

3- و عن الفقيه قال: قال عليه السّلام: «أجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت و أجر الكاهن سحت، و ثمن

______________________________

(1) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2؛ و 18/ 162، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 3.

(2) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(3) نفس المصدر

و الباب، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 157

..........

______________________________

الميتة سحت، فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم.» «1»

أقول: و إسناد الصدوق الرواية بنحو الجزم إلى الإمام عليه السّلام دليل على ثبوتها عنده و صحّتها لديه لما ثبت من حرمة القول بغير علم.

4- و في حديث وصايا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام قال: «يا عليّ من السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب، و ثمن الخمر و مهر الزانية و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن.» «2»

5- و عن مجمع البيان قال: روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ السحت هو الرشوة في الحكم و هو المرويّ عن عليّ عليه السّلام.» «3»

6- و في سنن البيهقي بسنده عن عبد اللّه بن عمرو قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الراشي و المرتشي.» «4»

أقول: و الراوي عبد اللّه بن عمرو بن العاص رجل كثير الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان أصغر من أبيه بإحدى عشرة سنة.

7- و في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى- في شأن اليهود- «أكّالون للسحت» في سورة المائدة عن أحمد و البيهقي عن ثوبان قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الراشي و المرتشي و الرائش» يعني الذي يمشي بينهما. «5»

8- و فيه أيضا عن ابن عبّاس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «رشوة الحكّام حرام و

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 8.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 9.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 15.

(4) سنن البيهقي 10/ 139، كتاب آداب القاضي،

باب التشديد في أخذ الرشوة ...

(5) الدر المنثور 2/ 284.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 158

..........

______________________________

هي السحت الذي ذكر اللّه- تعالى- في كتابه.» «1»

9- و فيه أيضا عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنّه سئل عن السحت فقال:

ا «لرشا» فقيل له: في الحكم؟ قال: «ذلك الكفر.» «2»

10- و فيه أيضا عن عليّ عليه السّلام قال: «أبواب السحت ثمانية: رأس السحت رشوة الحاكم و كسب البغيّ و عسب الفحل و ثمن الميتة و ثمن الخمر و ثمن الكلب و كسب الحجّام و أجر الكاهن.» «3»

11- و فيه أيضا عن ابن مسعود قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمته أو يردّ عليه حقّا فأهدى له هديّه فقبلها فذلك السحت، فقيل: يا أبا عبد الرحمن إنّا كنّا نعدّ السحت الرشوة في الحكم فقال عبد اللّه: ذلك الكفر: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ. «4»

12- و فيه أيضا عن ابن عبّاس أنّه سئل عن السّحت فقال: الرشا، فقيل: في الحكم؟ قال: ذلك الكفر ثمّ قرأ: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ. «5»

أقول: يظهر من هذا القبيل من الروايات حرمة كلّ رشوة و أنّ حرمتها في الحكم أشدّ من غيره بحيث تساوق الكفر.

إلى غير ذلك من أخبار الفريقين في هذا المجال، و الظاهر تواترها إجمالا كما

______________________________

(1) نفس المصدر و الصفحة.

(2) الدر المنثور 2/ 284.

(3) نفس المصدر و الصفحة.

(4) نفس المصدر 2/ 283.

(5) نفس المصدر و الصفحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 159

و في رواية يوسف بن جابر: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له، و رجلا خان

أخاه في امرأته و رجلا احتاج الناس اليه لفقه فسألهم الرشوة.» (1)

و ظاهر هذه الرواية سؤال الرشوة لبذل فقهه، فتكون ظاهرة في حرمة أخذ الرشوة للحكم بالحقّ أو للنظر في أمر المترافعين ليحكم بعد ذلك بينهما بالحقّ من غير أجرة. (2)

______________________________

مرّ بمعنى العلم الإجمالى بصدور بعضها لا محالّة.

(1) راجع الوسائل «1» و السند ضعيف بمجاهيل منهم يوسف بن جابر.

هل تشمل الرشوة الأجر و الجعل على الحكم و القضاء؟

(2) أقول: احتياج الناس إلى الشخص لفقهه لا ينحصر فيما ذكره المصنّف من حكمه أو نظره في أمر المترافعين بل ربّما يحتاجون إليه لتدريس الفقه أو تعليم المسائل الفقهيّة أو التصدّي للأمور الحسبيّة مثلا و نحو ذلك من شئون الفقيه في عصر الغيبة، فلو أخذ بإطلاق ذلك و جعل قرينة على عموم معنى الرشوة صار مقتضى ذلك صدق الرشوة على الجعل للتدريس أو تعليم المسائل و نحوهما أيضا، و لا نظنّ أن يلتزم المصنّف بذلك.

فالظاهر عدم دلالة الرواية على تعميم معنى الرشوة، و إنّما تدلّ على أنّ الاحتياج إلى الشخص لفقهه ربّما يصير موجبا لطمعه و طلبه الرشوة كما إذا احتاجوا إليه للقضاء مثلا و انحصر القاضي فيه فطلب من أحدهم الرشوة ليحكم بنفعه.

______________________________

(1) الوسائل 18/ 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 160

و هذا المعنى هو ظاهر تفسير الرشوة في القاموس بالجعل (1) و إليه نظر المحقّق الثاني حيث فسّر في حاشية الإرشاد: الرشوة بما يبذله المتحاكمان. (2) و ذكر في جامع القاصد «1»: أنّ الجعل من المتحاكمين رشوة. و هو صريح الحلّي أيضا في مسألة تحريم أخذ الرشوة مطلقا و إعطائها إلّا إذا كان على إجراء حكم صحيح فلا يحرم على المعطي. (3)

هذا.

______________________________

و إلى ذلك أشار

المحقّق الإيرواني أيضا في الحاشية حيث قال: «الرواية لا تفيد أزيد من حرمة أخذ الرشوة، و قد عرفت أنّ المتيقّن من مدلول الرشوة هو المال المبذول في قبال الحكم بالباطل.» «2»

(1) قد مرّ أنّ عبارة القاموس من قبيل التعريف بالأعمّ، و هذا أمر شائع بين أهل اللغة كقولهم: «سعدانة نبت» أو اللام فيه للإشارة إلى الجعل الخاصّ المعهود، و ذلك لبداهة عدم كون كلّ جعل و لو في قبال الأعمال العادّية المحلّلة رشوة.

(2) حاشية الإرشاد مخطوطة، و في ذيل المكاسب المطبوع أخيرا هكذا: «ما يبذله أحد المتخاصمين» «3»

(3) أقول: ليس صريح الحلّي و لا ظاهره: أنّ كلّ جعل من المتحاكمين للحاكم و لو كان بعنوان أصل القضاء رشوة فراجع كلامه:

قال في السرائر: «و القاضي بين المسلمين و الحاكم و العامل عليهم يحرم على

______________________________

(1) راجع جامع المقاصد 4/ 37، كتاب المتاجر.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 26.

(3) المكاسب 1/ 241.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 161

و لكن عن مجمع البحرين: قلّما تستعمل الرشوة إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل.

و عن المصباح: هي ما يعطيه الشخص للحاكم أو غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد. (1)

و عن النهاية: أنّها الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، و الراشي: الذي يعطي ما يعينه على الباطل، و المرتشي: الآخذ، و الرائش: هو الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا و يستنقص لهذا.

______________________________

كلّ واحد منهم الرشوة لما روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لعن اللّه الراشي و المرتشي في الحكم» و هو حرام على المرتشي بكلّ حال، و أمّا الراشي فإن كان قد رشاه على تغيير حكم أو إيقافه فهو حرام، و إن كان

على إجرائه على واجبه لم يحرم عليه أن يرشوه لذلك، لأنّه يستنقذ ماله فيحلّ ذلك له و يحرم على الحاكم أخذه». «1»

أقول: الظاهر من عبارته الأخيرة إعطاء الرشوة بداعي حكم الحاكم بالحقّ و دفعه عن الحكم بالباطل فلا نظر له إلى حكم الجعل على أصل القضاء.

(1) قوله: «أو يحمله على ما يريد» بنحو اللفّ و النشر المرتّب و فيه احتمالان:

الأوّل: أن يراد حمل المعطي غير الحاكم على ما يريده فتشمل عبارته غير باب الحكم أيضا.

الثاني: أن يراد حمل الغير الحاكم على ما يريده المعطي فتختصّ بباب الحكم.

و محصّل الكلام في المقام: أنّ الرشوة ليست عبارة عن مطلق الجعل، و لا مطلق الجعل للقاضي أو القضاء. بل المتيقّن منها الجعل في قبال إبطال حقّ أو

______________________________

(1) السرائر 2/ 166، كتاب القضايا و الأحكام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 162

..........

______________________________

تمشية باطل، أو إحقاق حقّ يتوقّف عليها فيحرم على المرتشي فقط. و بعبارة أخرى: نظام الحكم و البرامج الاجتماعيّة و الإداريّة كلّها أسّست و شرّعت على أساس حفظ الحقوق و تأمين العدالة الاجتماعيّة فيجب على المسؤولين من القضاة و غيرهم رعاية ذلك فكلّما أعطي بداعي تحريفها عن مسيرها الحقّ و سوء الاستفادة منها أو دفع سوء الاستفادة منها يسمّى رشوة من غير فرق بين باب القضاء و غيره.

و على هذا فتشمل ما يعطى بداعي إحقاق الحقّ إذا توقّف على ذلك كما يظهر من عبارة السرائر و حينئذ فتحرم على الآخذ دون المعطي بعد توقّف استنقاذ حقّه على ذلك فتدبّر.

و حيث إنّ غالب سوء الاستفادة و أبرزها كان في نظام الحكم و القضاء ذكر في أخبار الباب: «الرشوة في الحكم».

و أمّا إطلاقها على ما يعطى للتحوّل من مكان

ليسكنه غيره كما وقع في صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه؟ قال: «لا بأس به»، «1» فأوّلا: وقع هذا التعبير في كلام الراوي لا في كلام الإمام، و ثانيا: الاستعمال أعمّ من الحقيقة فلعلّه وقع مجازا لتبيين حزازة العمل و كونه شبيها بالرشوة، و ثالثا: الإمام عليه السّلام حكم بحلّيته فليس من قبيل الرشوة المحرّمة بل ينصرف عنه ما مرّ من أدلّة حرمة الرشوة المقيّدة بالحكم.

فاعتماد صاحبى المستند و مصباح الفقاهة على هذه الصحيحة لتعميم معنى

______________________________

(1) الوسائل 12/ 207، الباب 85 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 163

و ممّا يدلّ على عدم عموم الرشا لمطلق الجعل على الحكم ما تقدّم في رواية عمّار بن مروان من جعل الرشا في الحكم مقابلا لأجور القضاة خصوصا بكلمة: «أمّا»

نعم لا يختصّ بما يبذل على خصوص الباطل، بل يعمّ ما يبذل لحصول غرضه، و هو الحكم له حقّا كان أو باطلا و هو ظاهر ما تقدّم عن المصباح و النهاية. و يمكن حمل رواية يوسف بن جابر على سؤال الرشوة للحكم للراشي حقّا أو باطلا، أو يقال: إنّ المراد الجعل فاطلق عليه الرشوة تأكيدا للحرمة.

______________________________

الرشوة لا يخلو من إشكال فراجع كلامهما في أوائل البحث.

و في صحيحة عمّار بن مروان جعل أجور القضاة قسيما للرشوة فهما متفاوتان. و يحتمل أن يكون مورد صحيحة محمّد بن مسلم صورة غصب منزل الشخص فيعطي صاحبه المال للغاصب لرفع غصبه و على هذا فتسميته بالرشوة من باب الحقيقة و يكون جوازها للمعطي لا للآخذ فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص:

164

[حرمة أخذ الأجرة من المتحاكمين]

و منه (1) يظهر حرمة أخذ الحاكم للجعل من المتحاكمين مع تعيّن الحكومة عليه كما يدلّ عليه قوله عليه السّلام: «احتاج الناس إليه لفقهه.» و المشهور المنع مطلقا.

______________________________

حرمة أخذ الأجرة من المتحاكمين

(1) أقول: بعد ما فرغ المصنّف من بيان حكم الرشوة للقاضي شرع في بيان حكم الأجرة للقضاة. و الضمير في قوله: «منه» يرجع إلى ما احتمله أخيرا في رواية يوسف بن جابر من إرادة الجعل من لفظ الرشوة و لا أدرى أنّ مجرّد احتمال ضعيف مخالف للظاهر في رواية ضعيفة، كيف يظهر منه الحكم بالحرمة في مسألة مهمّة؟

و كيف كان فالجعل إمّا أن يؤخذ من المتحاكمين أو من الإمام و بيت المال، و في كلّ منهما إمّا أن يتعيّن عليه القضاء لعدم وجود غيره أو لا يتعيّن، و في كلّ منها إمّا أن يكون للقاضي كفاية ماليّة فلا يحتاج إلى الجعل و إمّا أن يحتاج.

و في المسألة أقوال: جواز الأخذ مطلقا، و عدمه كذلك، و التفصيل بين صورة احتياجه و عدم احتياجه. و التفصيل بين صورة عدم التعيّن عليه و بين غيرها، و التفصيل بين ما إذا احتاج و لم يتعيّن و بين غيره.

و يمكن أن يفصّل أيضا بين الأخذ من بيت المال أو من نفس المتحاكمين فيحكم بالجواز في الشقّ الأوّل من هذه التفاصيل. و المصنّف تعرّض لهذه المسألة و مسألة ارتزاق القاضي من بيت المال فيما ألّفه في القضاء فراجع. «1»

و حيث إنّ المسألة مبتلى بها فالأولى التعرّض لبعض كلمات الأصحاب فيها لزيادة البصيرة:

______________________________

(1) كتاب القضاء للشيخ الأنصاري/ 97.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 165

..........

______________________________

1- قال الشيخ في قضاء الخلاف (المسألة 31): «لا يجوز للحاكم أن يأخذ الأجرة على

الحكم من الخصمين أو من أحدهما سواء كان له رزق من بيت المال أو لم يكن. و قال الشافعي: إن كان له رزق من بيت المال لم يجز كما قلنا و إن لم يكن له زرق من بيت المال جاز له أخذ الأجرة على ذلك. دليلنا عموم الأخبار الواردة في أنّه يحرم على القاضي أخذ الرشا و الهدايا، و هذا داخل في ذلك، و أيضا طريقة الاحتياط تقتضي ذلك، و أيضا إجماع الفرقة على ذلك فإنّهم لا يختلفون في أنّ ذلك حرام.» «1»

أقول: محطّ كلامه صورة أخذ الجعل من المتحاكمين و على ذلك ادّعى إجماع الفرقة فلا ينافي القول بالجواز في غيرها و يظهر منه تعميم الرشوة المحرّمة للجعل و الأجرة أيضا. و قد منعنا ذلك. و لعلّه أراد بالإجماع الذي ادّعاه الإجماع على حرمة الرشوة.

2- و قال في مكاسب النهاية: «و لا بأس بأخذ الأجر و الرزق على الحكم و القضاء بين الناس من جهة السلطان العادل حسب ما قدّمناه، فأمّا من جهة سلطان الجور فلا يجوز إلّا عند الضرورة أو الخوف على ما قدّمناه، و التنزّه عن أخذ الرزق على ذلك في جميع الأحوال أفضل.» «2»

3- و في مكاسب المقنعة: «و لا بأس بالأجر على الحكم و القضاء بين الناس، و التبرّع بذلك أفضل و أقرب إلى اللّه تعالى.» «3»

أقول: إطلاق كلامه يقتضي جواز الأخذ من الإمام و من المتحاكمين، و لعلّ

______________________________

(1) الخلاف 6/ 233 (ط. أخرى 3/ 319)

(2) النهاية لشيخ الطائفة/ 367.

(3) المقنعة/ 588.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 166

..........

______________________________

الشيخ الطوسي «ره» حيث ادّعى في الخلاف إجماع الفرقة على عدم جواز الأخذ من المتحاكمين حمل كلام استاذه في المقنعة على

جواز الأخذ من خصوص الإمام.

4- و في مكاسب المراسم: «فأمّا المكروه فهو الكسب بالنوح على أهل الدين بالحقّ و كسب الحجّام و الأجر على القضاء بين الناس.» «1»

5- و في المهذّب لابن البرّاج في عداد المكاسب المكروهة قال: «و كسب الحجّام و الأجر على القضاء و تنفيذ الأحكام من قبل الإمام العادل.» «2»

أقول: قوله: «من قبل الإمام العادل» يحتمل رجوعه إلى الأجر، و يحتمل رجوعه إلى التنفيذ.

6- و في الكافي لأبي الصلاح الحلبي في عداد المكاسب المحرّمة: «أجر تنفيذ الأحكام» «3»

7- و في مكاسب السرائر في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و الارتشاء على الأحكام و القضاء بين الناس و أخذ الأجرة على ذلك، و لا بأس بأخذ الرزق على القضاء من جهة السلطان العادل و يكون ذلك من بيت المال دون الأجرة على كراهة فيه.» «4»

8- و في قضاء الشرائع- بعد التعرّض لرزقه من بيت المال- قال: «أمّا لو أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف. و الوجه التفصيل فمع عدم التعيين و حصول

______________________________

(1) المراسم/ 169.

(2) المهذّب لابن البرّاج 1/ 346، كتاب المكاسب.

(3) الكافي لأبي الصلاح الحلبي 283.

(4) السرائر 2/ 217.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 167

بل في جامع المقاصد (1) دعوى النصّ و الإجماع.

______________________________

الضرورة قيل: يجوز، و الأولى المنع، و لو اختلّ أحد الشرطين لم يجز.» «1» و يأتي في هذا المجال كلام العلّامة في المختلف أيضا عند تعرّض المصنّف له.

ثمّ لا يخفى أنّ مقتضى عمومات أدلّة العقود و الإجارة و الجعالة الصحّة و جواز جعل الأجر و الجعل و أخذهما سواء كان من قبل الإمام العادل أو من قبل المتحاكمين، لأنّ القضاء عمل مشروع، و عمل المسلم محترم، سواء كان الاستيجار للقضاء

بنحو الإطلاق أو للقضاء في واقعة خاصّة.

و ليس القضاء أمرا عباديّا متوقّفا على قصد القربة حتى يقال بمنافاة الجعل لقصد القربة، و على هذا فالقول بعدم الجواز يحتاج إلى دليل متقن. و يحتمل جدّا حمل عبارة أكثر المانعين على صورة الأخذ من المتحاكمين بتوهّم أنّه من مصاديق الرشوة أو لكونه في معرض طمع الرشوة و استدعائها بعد ما شاهد القاضي إقدامهما على إعطاء المال.

(1) قال العلّامة في القواعد: «و تحرم الأجرة على الأذان و على القضاء، و يجوز أخذ الرزق عليهما من بيت المال.» «2» و علّق على ذلك في جامع المقاصد بقوله: «... و أمّا القضاء فللنّصّ و الإجماع، و لا فرق بين أخذ الأجرة من المتحاكمين أو من السلطان أو أهل البلد، عادلا كان أو جائرا، سواء كان المأخوذ بالإجارة أو الجعالة أو الصلح. و أطلق بعض الأصحاب جواز الأخذ، و المصنّف

______________________________

(1) الشرائع/ 862.

(2) قواعد الأحكام 1/ 121، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 168

..........

______________________________

في المختلف قال: إنّ تعيّن القضاء عليه إمّا بتعيين الإمام عليه السّلام أو بفقد غيره، أو بكونه الأفضل و كان متمكّنا لم يجز الأجر عليه، و إن لم يتعيّن أو كان محتاجا فالأقرب الكراهة.» «1»

أقول: دعواه الإجماع على حرمة الأخذ سواء كان من المتحاكمين أو من السلطان- مع تصريحه بإطلاق بعض الأصحاب جواز الأخذ و مع ما عرفت من الفتوى بالجواز في المقنعة و النهاية و المراسم و المهذّب- عجيب. و لعلّ منشأ دعواه ذلك دعوى الشيخ له في الخلاف، و قد عرفت أنّ محطّ البحث في الخلاف هو الأخذ من المتحاكمين لا الإمام، و مرّ احتمال أن يكون معقد إجماعه حرمة الرشوة.

أدلّة حرمة الأجر و الجعل على القضاء:
اشارة

و كيف كان

فقد استدل على حرمة أخذ القاضي للأجر بوجوه:

الأوّل: الإجماع المدّعى في كلماتهم.

و فيه ما عرفت من وجود الخلاف في المسألة، و لو سلّم فهو مدركيّ، لاحتمال كونه على أساس ما يأتي من الأدلّة.

الثاني: كونه من الرشوة إن أخذ من المتحاكمين،

و قد مرّ التصريح بذلك في الخلاف و هو الظاهر من المستند و مصباح الفقاهة أيضا. و مرّ من المصنّف أيضا استفادة هذا المعنى من رواية يوسف بن جابر بحمل قوله: «احتاج الناس إليه

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 36، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 169

و لعلّه لحمل الاحتياج في الرواية على الاحتياج إلى نوعه. (1) و لإطلاق ما تقدّم في رواية عمّار بن مروان: من جعل أجور القضاة من السّحت، بناء على أنّ الأجر في العرف يشمل الجعل و إن كان بينهما فرق عند المتشرعة. (2)

______________________________

لفقهه» على إطلاقه أو كون المراد من لفظ الرشوة فيها هو الجعل أطلقت عليه للمبالغة في تحريمه.

و فيه: منع كون الجعل من الرشوة لما عرفت من كونها بمعنى تحريف نظام الحكم أو سائر الأنظمة الإداريّة و الاجتماعيّة عن مسيرها الحقّ و سوء الاستفادة منها بوسيلة المال، و ما ذكره المصنّف في رواية يوسف بن جابر قد مرّ الجواب عنه. و قد جعلت الرشوة في صحيحة عمّار بن مروان قسيما لأجور القضاة فيتفاوتان.

(1) حمل الاحتياج في رواية يوسف بن جابر على الاحتياج إلى نوعه لا إلى شخصه غير بعيد و لكن استناد المشهور و جامع المقاصد لإطلاق المنع إلى هذه الرواية غير واضح بل ممنوع، إذ المذكور فيها هي الرشوة و قد منعنا إرادة الجعل منها.

[الثالث: صحيحة عمّار بن مروان]

(2) الثالث من أدلّة الحرمة: صحيحة عمّار بن مروان حيث عدّ فيها من السحت أجور القضاة، و المذكور فيها و إن كان لفظ الأجور و الأجر و الجعل متفاوتان في لسان المتشرّعة لاصطلاح الأوّل في باب الإجارات و الثاني في باب الجعالات و لكنّ الظاهر اتحاد حكمهما في محطّ البحث و عدم

القول بالفصل بينهما.

و فيه: احتمال كون المراد بأجور القضاة فيها أجور قضاة الجور، لأنّها الغالبة و

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 170

[الرابع صحيحة ابن سنان]

و ربّما يستدلّ على المنع بصحيحة ابن سنان قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قاض بين فريقين [قريتين. خ] يأخذ على القضاء الرزق من السلطان؟. قال عليه السّلام: «ذلك السحت.» (1)

و فيه: أنّ ظاهر الرواية كون القاضي منصوبا من قبل السلطان الظاهر- بل الصريح- في سلطان الجور، إذ ما يؤخذ من العادل لا يكون سحتا قطعا. و لا شكّ أنّ هذا المنصوب غير قابل للقضاء فما يأخذه سحت من هذا الوجه.

______________________________

المبتلى بها في أعصار أئمّتنا عليهم السّلام بل من المحتمل رجوع الضمير في قوله: «و منها» إلى ما قبله أعني: «ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة» فإنّ القضاة قسم من الولاة.

(1) أقول: هذا رابع أدلّة الحرمة في المقام: راجع الوسائل «1» و المذكور في الصحيحة الرزق لا الأجر، و المصنّف حمله على الرزق المأخوذ من سلطان الجور، لعدم كون الرزق المأخوذ من العادل سحتا قطعا. و في مرآة العقول حمله على الأجرة قال: «و حمل على الأجرة، و المشهور جواز الارتزاق من بيت المال.» «2»

أقول: كلام المصنّف أقرب إلى القبول، إذ حمل الرزق على الأجرة خلاف الظاهر، و قد مرّ أنّ القضاة في تلك الأعصار كانوا منصوبين من قبل سلاطين الجور و من عمّالهم، و على هذا فالصحيحة لا ترتبط بالمقام.

______________________________

(1) الوسائل 18/ 162، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(2) مرآة العقول 24/ 270، كتاب القضاء، باب أخذ الأجرة و الرشا على الحكم، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 171

و لو فرض كونه قابلا للقضاء

لم يكن رزقه من بيت المال أو من جائزة السلطان محرّما قطعا فيجب إخراجه عن العموم. إلّا أن يقال: إنّ المراد الرزق من غير بيت المال (1) و جعله على القضاء بمعنى المقابلة قرينة على إرادة العوض. و كيف كان فالأولى في الاستدلال على المنع ما ذكرناه.

______________________________

(1) أقول: المذكور في الصحيحة أخذ الرزق من السلطان، و الغالب فيما بأيدي السلاطين كونه من بيت المال و الأموال العامّة.

الخامس من الأدلّة على الحرمة: كون القضاء أمرا واجبا

إمّا كفاية أو عينا مع التعيّن، و لا يجوز أخذ الأجرة على ما وجب من قبل اللّه.

و سيأتي التعرّض لذلك في كلام المصنّف عند نقل كلام العلّامة و يأتي الجواب عنه.

فهذه خمسة أدلّة أقيمت على حرمة الأجرة للقاضي.

و قد تحصّل ممّا بيّناه عدم وجود دليل معتبر على حرمة أخذ الأجرة على أصل القضاء إذا لم تكن بنحو الرشوة و قصد سوء الاستفادة من قبل القاضي و كان القاضي واجدا لشرائط القضاء عندنا.

نعم يمكن القول بحرمته إذا وجب عينا و سيأتي البحث فيه.

و أمّا ما في مصباح الفقاهة من: «أنّ الأمور التي يكون وضعها على المجانيّة فإنّ أخذ الأجرة عليها يعدّ رشوة في نظر العرف، و من هذا القبيل القضاوة و الإفتاء.» «1» فالظاهر أنّه ادّعاء بلا دليل.

و نظير ذلك ما في الجواهر حيث قال: «و التحقيق عدم جواز أخذ العوض عنه مطلقا عينيّا كان عليه أو كفائيّا، أو مستحبّا مع الحاجة و عدمها، من المتحاكمين أو

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 266.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 172

خلافا لظاهر المقنعة و المحكيّ عن القاضي (1) من الجواز، و لعلّه للأصل (2) و ظاهر رواية حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «من استأكل بعلمه

افتقر.» قلت: إنّ في شيعتك قوما يتحمّلون علومكم و يبثّونها في شيعتكم فلا يعدمون منهم البرّ و الصلة و الإكرام؟

فقال عليه السّلام: «ليس أولئك بمستأكلين. إنّما ذاك الذي يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا الخبر.» (3)

______________________________

أحدهما أو أجنبيّ أو أهل البلد أو بيت المال أو غير ذلك سواء كان ذا كفاية أو لا، لأنّه من مناصب السلطان الذي أمر اللّه- تعالى- بأن يقول: قُلْ لٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً* و أوجب التأسّي به.» «1»

أقول: «الظاهر أنّ مورد الآية منصب الرسالة و هي غير منصب الولاية و القضاء، إذ هي من مختصّاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ليس موردا للتأسّي.

(1) قد مرّ كلام المقنعة و المهذّب فراجع. «2»

(2) أقول: الأصل في الأفعال و إن كان هو الحلّية، و لكن الأصل في المعاملات هو الفساد، لاستصحاب عدم ترتّب الأثر إلّا أن يراد بالأصل عمومات أدلّة العقود.

(3) رواها في الوسائل عن معاني الأخبار، و الخبر بتمامه مذكور في المتن فراجع المعاني. «3»

______________________________

(1) الجواهر 22/ 122، كتاب التجارة.

(2) المقنعة/ 588؛ و المهذّب لابن البرّاج 1/ 346.

(3) الوسائل 18/ 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12؛ و راجع معاني الأخبار/ 181.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 173

و اللام في قوله: «ليبطل به الحقوق.» إمّا للغاية أو للعاقبة، و على الأوّل فيدلّ على حرمة أخذ المال في مقابل الحكم بالباطل. و على الثاني فيدلّ على حرمة الانتصاب للفتوى من غير علم طمعا في الدنيا.

و على كلّ تقدير فظاهرها حصر الاستيكال المذموم فيما كان لأجل الحكم بالباطل، أو مع عدم معرفة الحقّ، فيجوز الاستيكال مع الحكم بالحقّ و

دعوى كون الحصر إضافيّا بالنسبة إلى الفرد الذي ذكره السائل فلا يدلّ إلّا على عدم الذمّ على هذا الفرد دون كلّ من كان غير المحصور فيه، خلاف الظاهر. (1)

و فصّل في المختلف فجوّز أخذ الجعل و الأجرة مع حاجة القاضي و عدم تعيّن القضاء عليه، و منعه مع غناه أو عدم الغنى عنه. (2)

______________________________

و على هذا فكلمة: «الخبر» في العبارة زائدة، و في السند ضعف فيشكل الاعتماد عليه.

(1) الظاهر أنّ مورد الرواية أهل العلم الناشرون لأحاديث أهل البيت عليه السّلام و أحكام الشريعة الإسلاميّة. فالصدر ناظر إلى من يحدّث و يفتي عن علم، و الذيل ناظر إلى من يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه- تعالى-. و لا نظر فيها إلى من يحكم و يقضي بين الناس في خصوماتهم حقّا كان أو باطلا، لأنّ منصب القضاء غير أمر الإرشاد و تبليغ الأحكام. فالاستدلال بالرواية لجواز أخذ الأجرة على القضاء مشكل فتدبّر.

(2) في متاجر المختلف بعد نقل كلمات الأصحاب في المسألة قال: «و الأقرب أن نقول: إن تعيّن القضاء عليه إمّا بتعيين الإمام عليه السّلام أو بفقد غيره أو

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 174

و لعلّ اعتبار عدم تعيّن القضاء لما تقرّر عندهم من حرمة الأجرة على الواجبات العينيّة، و حاجته لا تسوّغ أخذ الأجرة عليها، و إنّما يجب على القاضي و غيره رفع حاجته من وجوه أخر.

و أما اعتبار الحاجة فلظهور اختصاص أدلّة المنع بصورة الاستغناء، كما يظهر بالتأمّل في روايتي يوسف و عمّار المتقدّمتين. (1) و لا مانع من التكسّب بالقضاء من جهة وجوبه الكفائي، كما هو أحد الأقوال في المسألة الآتية في محلّها إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

بكونه الأفضل و كان

متمكّنا لم يجز الأجر عليه، و إن لم يتعيّن أو كان محتاجا فالأقرب الكراهة. لنا الأصل الإباحة على التقدير الثاني، و لأنّه فعل لا يجب عليه فجاز أخذ الأجر عليه، أمّا مع التعيين فلأنّه يؤدي واجبا فلا يجوز أخذ الأجرة عليه كغيره من العبادات الواجبة.» «1»

أقول: ظاهر عبارته كون القضاء من العبادات الواجبة، و من الواضح عدم صحّة ذلك، لعدم توقّف صحّته على قصد القربة.

ثمّ إنّ مقتضى ما ذكره من التعليل: أنّه يشترط في جواز أخذ الأجرة أمران:

عدم التعيّن و وجود الحاجة معا، و هو الذي فهمه المصنّف أيضا من كلامه، و على هذا ففي عبارة المختلف اشتباه، صحيحها تبديل الواو في قوله: «و كان متمكنا» ب «أو» و تبديل: «أو» في قوله: «أو كان محتاجا» بالواو فتدبّر.

(1) أقول: ما ذكر من أدلّة المنع مطلقة لم يفصل فيها بين صورة الاستغناء و غيرها، و لم يظهر لنا بالتأمّل في الروايتين وجه اختصاصهما بصورة الغنى، و توهّم

______________________________

(1) المختلف 5/ 48، الفصل الأوّل في وجوه الاكتساب، المسألة 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 175

..........

______________________________

أنّ القضاة في تلك الأعصار كانوا منصوبين من قبل الولاة، و المنصوب من قبلهم لم يكن يبقى له حاجة و المحتاج إلى فقهه في رواية يوسف لم يكن يبقى محتاجا بعد رجوع الناس إليه، مدفوع باحتمال الحاجة في بعض المنصوبين أيضا لكثرة طرق الاحتياج، و ليس كلّ من رجع إليه الناس لفقهه مستغنيا بعد احتمال كون المراجعين من طبقة الفقراء و المتوسّطين.

و بالجملة فانصراف الروايتين إلى خصوص صورة الاستغناء غير واضح.

و كيف كان فيظهر من عبارة المصنّف أنّ من أدلّة حرمة الأجرة على القضاء إجمالا كونه من الواجبات، و المصنّف يتعرّض لمسألة

حرمة التكسّب بالواجب و أدلّتها و مناقشاتها تفصيلا في النوع الخامس من أنواع المكاسب المحرّمة فلنبحث عنها هنا إجمالا بقدر يرتبط بالمقام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 176

حرمة التكسّب بالواجبات
[كلمات الأصحاب في المقام]

______________________________

1- قال المحقّق في الشرائع: «الخامس: ما يجب على الإنسان فعله كتغسيل الموتى و تكفينهم و تدفينهم.» «1»

2- و ذيّله في المسالك بقوله: «هذا هو المشهور بين الأصحاب و عليه الفتوى.» «2»

3- و في مجمع البرهان: «الظاهر أنّه لا خلاف في عدم جواز أخذ الأجرة على فعل واجب على الأجير سواء كان عينيا أم كفائيا، فكأنّ الإجماع دليله.» «3»

أقول: أنت ترى أنّ محلّ البحث في كلماتهم أخذ الأجرة على الواجب- بما هو واجب- و إن كان كفائيا بل الأمثلة المذكورة تكون من الواجبات الكفائيّة، و قد اشتهر التمثيل بهذه الأمثلة في كلمات القدماء أيضا:

4- قال المفيد في مكاسب المقنعة: «و التكسّب بتغسيل الأموات و حملهم و دفنهم حرام، لأنّ ذلك فرض على الكفاية أوجبه اللّه- تعالى- على أهل الإسلام.» «4»

أقول: الظاهر أنّ كون الوجوب بنحو الكفاية لا دخل له في حرمة التكسّب، و على هذا فمقتضى تعليله حرمة التكسّب بكلّ ما أوجبه اللّه- تعالى- و لكنّه «ره» قال- بعد سطرين-: «و لا بأس بالأجر على الحكم و القضاء بين الناس و التبرّع

______________________________

(1) الشرائع/ 264، كتاب التجارة.

(2) المسالك 3/ 130، فيما يكتسب به.

(3) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 89. كتاب المتاجر.

(4) المقنعة/ 588

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 177

..........

______________________________

بذلك أفضل و أقرب إلى اللّه- تعالى-.» «1»، مع وضوح أنّ القضاء واجب أيضا و لو كفاية ففي كلامه نحو تهافت إلّا أن يريد استثناء القضاء ممّا قبله أو يريد بالأجر الرزق من بيت المال.

و هل التعليل

المذكور أمر انتهى إليه اجتهاده على طبق القواعد أو أنّه حكم كلّي تلقّاه عن المعصومين عليهم السّلام يدا بيد؟.

5- و نظير كلام المفيد ما ذكر تلميذه في النهاية قال: «و أخذ الأجرة على غسل الأموات و حملهم و مواراتهم حرام، لأنّ ذلك فرض على الكفاية على أهل الإسلام.» «2» ثمّ قال- بعد صفحتين-: «و لا بأس بأخذ الأجر و الرزق على الحكم و القضاء بين الناس من جهة السلطان العادل حسب ما قدّمناه ...» «3»

6- و في المراسم أيضا عدّ من المكاسب المحرّمة: «أجر تغسيل الأموات و دفنهم و حملهم.» و من المكروهة: «الأجر على القضاء بين الناس.» «4»

7- و في المهذّب لابن البرّاج ذكر في عداد المكاسب المحرّمة: «و تغسيل الموتى و تكفينهم و حملهم و الصلاة عليهم و دفنهم.» ثمّ ذكر في عداد المكروهة منها:

«و الأجر على القضاء و تنفيذ الأحكام من قبل الإمام العادل.» «5»

أقول: عدّ تغسيل الموتى و تجهيزهم و الصلاة عليهم و دفنهم من المكاسب المحرّمة بمعنى عدم جواز أخذ الأجرة عليها قد اشتهر بين القدماء من أصحابنا و المتأخّرين منهم و أفتوا بها بعبارات مشابهة و لم يصل إلينا من ناحية الأئمّة عليهم السّلام

______________________________

(1) نفس المصدر.

(2) النهاية لشيخ الطائفة/ 365، كتاب المكاسب.

(3) نفس المصدر/ 367.

(4) المراسم/ 169 و 170.

(5) المهذّب 1/ 345 و 346.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 178

..........

______________________________

دليل معتبر على ذلك فيمكن أن يقال: إنّ هذه الشهرة كاشفة عن تلقّيهم ذلك عن الأئمّة عليهم السّلام بعد ما نعلم إجمالا بأنّهم أهل حديث و نصّ و لم يكونوا يفتون بالاعتبارات و الاستحسانات الظنّيّة.

و لكن لا دليل على تسرية هذا الحكم إلى كلّ ما وجب من قبل

اللّه- تعالى- و التعليل الذي مرّ من المقنعة و النهاية يحتمل أن يكون تعليلا استحسانيا من قبلهما، لتقريب الحكم إلى الذهن لا حكما كلّيا تلقياه عنهم عليهم السّلام.

و يحتمل أن يكونا ناظرين إلى ردّ ما حكي عن السيّد المرتضى من عدم وجوب تجهيز الميّت إلّا على أوليائه. «1»

و لعلّ وجوب هذه الأمور ليس بنحو التكليف المحض بل تكون من الحقوق التي اعتبرها الشارع و شرّعها لأموات المسلمين بعد ما انقطعت أيديهم من الدنيا لئلّا تهتك جنائزهم، و من الواضح أنّه لا يجوز أخذ الأجرة لإعطاء حقّ الغير. و لعلّ المفيد و الشيخ أيضا أرادا بكلمة: «الفرض» في كلامهما معنى الحقّ، و بذلك يرتفع التهافت الذي أشرنا إليه.

و بالجملة فلا مجال لأن ينسب إلى القدماء من أصحابنا الإجماع أو الشهرة على عدم جواز الأجرة في قبال كلّ ما وجب من قبل اللّه- تعالى- بسبب إفتائهم بعدم جواز أخذها في قبال الواجبات المرتبطة بالموتى.

ما استدلّ به على حرمة اخذ الأجرة على الواجبات
اشارة

إذا عرفت ما ذكرنا فلنتعرّض إجمالا لما يستدلّ به لعدم جواز أخذ الأجرة على

______________________________

(1) راجع المكاسب للشيخ الأنصاري/ 61؛ مجمع الفائدة و البرهان 8/ 90، أقسام التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 179

..........

______________________________

الواجب و نحيل التفصيل إلى محلّه فانتظر:

الأوّل: الإجماع

المدّعى في بعض الكلمات. «1»

و فيه ما مرّ آنفا من أنّ المسلّم إفتاء الأصحاب بحرمة أخذ الأجرة على الواجبات المرتبطة بتجهيز الموتى، و لم يثبت الإجماع بالنسبة إلى كلّ واجب.

الثاني: أنّه يشترط في الإجارة أن تكون للعمل المستأجر عليه منفعة

عائدة إلى المستأجر و إلّا كان أخذ الأجرة في قباله أكلا للمال بالباطل، نظير بيع المتاع بثمن لا قيمة له.

و فيه- مضافا إلى ما مرّ مرارا من أنّ الظاهر كون الباء في قوله: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ للسببيّة لا للمقابلة فيراد النهي عن أكل مال الغير بالأسباب الباطلة من القمار و الرشا و نحوهما- أنّا نفرض واجبا يعود نفعه إلى المستأجر كالقضاء العائد نفعه إلى المتحاكمين، و كالإتيان بالواجبات الكفائيّة الموجب لسقوط التكليف بها عن المستأجر.

و بعبارة أخرى: محلّ البحث هو أنّ مجرّد وجوب الشي ء من قبل اللّه- تعالى- هل يكون مانعا من أخذ الأجرة عليه أم لا؟ و هذا بعد فرض تحقّق سائر الشرائط المعتبرة في العمل المستأجر عليه.

الثالث: أنّ أخذ الأجرة مناف للإخلاص

المعتبر في الواجبات العباديّة.

و فيه أوّلا: انتقاض ذلك طردا و عكسا بالمندوبات العباديّة و الواجبات التوصّليّة.

و ثانيا: أنّ مقتضى القاعدة في كلّ عمل مشروع له منفعة محلّلة مقصودة جواز

______________________________

(1) نفس المصدر؛ مجمع الفائدة و البرهان 8/ 89؛ رياض المسائل 1/ 505، كتاب التجارة، السادس من أنواع المكاسب المحرّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 180

..........

______________________________

أخذ الأجرة عليه و إن كان داخلا في أحد العناوين الواجبة. ثمّ إن صلح ذلك الفعل المأتي به لامتثال الإيجاب المذكور و إسقاط أمره سقط الوجوب أيضا، و إن لم يصلح استحقّ الأجرة و بقي الواجب في ذمّته إن بقي وقته و إلّا عوقب على تركه، مثلا إذا استأجر أحدا ليصلّي صلاته في حضور أولاد المستأجر ليتعلّموا كيفية الصلاة و آدابها فهذه منفعة محلّلة مقصودة، فإن صلحت هذه الصلاة لإسقاط الأمر المتعلّق بها فهي و إلّا وجب عليه إعادة صلاته امتثالا للأمر المتعلّق بها.

الرابع: ما عن كشف الغطاء في شرحه على القواعد، و هو أنّ التنافي بين صفة الوجوب و التملّك ذاتي،

لأنّ المملوك لا يملك ثانيا. «1»

توضيح ذلك: أنّ العمل إنّما يقابل بالمال إذا كان ممّا يملكه الموجر، فإذا فرض كونه واجبا للّه- تعالى- و لم يكن للمكلّف تركه صار العمل مملوكا له- تعالى- فلا يصلح لأن يملّك ثانيا للغير، ألا ترى أنّه إذا آجر نفسه لعمل خاصّ لزيد مثلا لم يصحّ أن يؤجر نفسه ثانيا من شخص آخر لعين ذلك العمل الخاصّ.

و فيه: أنّ اعتبار الوجوب و طلب الفعل مغاير لاعتبار الملكيّة و الاستحقاق، و ليس الوجوب من قبل الآمر تملّكا منه للعمل حتى ينافي تملّك الآخر له، و لذلك ترى العرف و العقلاء لا يرون تنافيا في كون عمل واحد متعلّقا للطلب من قبل شخصين أو أشخاص في آن واحد، مع بداهة وجود التنافي قطعا

في اجتماع مالكين مستقلّين في آن واحد بالنسبة إلى تمام ملك واحد.

الخامس: ما يأتى من المصنّف في محلّه بالنسبة إلى الواجب العيني

قال: «فإن كان العمل واجبا عينيّا تعينيّا لم يجز أخذ الأجرة لأنّ أخذ الأجرة عليه مع كونه

______________________________

(1) راجع المكاسب للشيخ الأنصاري/ 62.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 181

..........

______________________________

واجبا مقهورا من قبل الشارع على فعله أكل للمال بالباطل، لأنّ عمله هذا لا يكون محترما، لأنّ استيفائه منه لا يتوقّف على طيب نفسه لأنّه يقهر عليه مع عدم طيب النفس و الامتناع.» «1»

و فيه: أنّ الوجوب الشرعي لا يخرج العمل عن كونه اختياريّا للمكلّف و لا يصيّره ضروريّ الحصول نظير الأعمال الاضطراريّة الصادرة من غير إرادة و اختيار كالتنفّس و حركة القلب و أعمال غدد البدن و جهازاته فلا يكون جعل المال بازائه جعلا للمال بإزاء الباطل، لإمكان أن تصير الأجرة داعية للمكلّف نحو العمل بحيث لو لا الأجرة لتركه أو احتمل تركه.

السادس: ما في منية الطالب قال ما ملخّصه:

«يعتبر أن يكون العمل ملكا للمؤجر بأن لا يكون مسلوب الاختيار بايجاب أو تحريم شرعي، لأنّه إن كان واجبا عليه فلا يقدر على تركه، و إن كان محرّما فلا يقدر على فعله و يعتبر في صحّة المعاملة على العمل كون فعله و تركه تحت اختياره.» «2»

و فيه: أنّ بطلان الاستيجار للعمل المحرّم ليس لكونه غير مملوك للأجير و عدم كونه تحت اختياره، لمنع ذلك بحسب الوجدان، بل لكون صحّة العقد عند الشارع بمعنى تنفيذه له و إيجابه الوفاء به و هذا لا يجتمع مع تحريمه للعمل.

و أمّا في الواجب فلا يلزم محذور لما مرّ من أنّ طلب الفعل من المكلّف مغاير لعنوان تملّك الآمر له، و أنّ وجوبه على المكلّف لا يستلزم خروجه عن تحت اختياره و لا يصيّره ضروريّ الحصول خارجا فتدبّر.

و بالجملة فلم نجد دليلا يعتمد عليه في حرمة أخذ

الأجرة على الواجب بنحو

______________________________

(1) نفس المصدر/ 63، في جواز أخذ الأجرة على الواجبات و عدمه.

(2) منية الطالب 1/ 15 (ط. مؤسسة النشر الإسلامي 1/ 45).

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 3، ص: 182

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 182

..........

______________________________

الإطلاق.

ثمّ إنّ الفقهاء أوردوا على القول بحرمة الأجرة على كلّ واجب نقوضا لا بأس بالإشارة إليها:

موارد نقض حرمة الأجرة على الواجبات
الأوّل: الحرف و الصناعات

التي يتوقّف عليها حفظ نظام الاجتماع و يعبّر عنها بالواجبات النظاميّة فإنّها واجبة كفاية بل عينا مع الانحصار، مع جواز أخذ الأجرة عليها بالضرورة، بل بدونه يختلّ النظام كما لا يخفى.

الثاني: إرضاع المرأة اللبأ لمولودها الجديد

حيث يتوقّف عليه حياته و سلامته مع جواز مطالبتها الأجرة لذلك.

الثالث: إعلاف الملتقط للضالّة

مع جواز رجوعه في قيمة العلف إلى صاحبها.

بل و أجرة الإعلاف أيضا.

الرابع: إطعام المضطرّ

المتوقّف عليه حياته مع جواز أخذ العوض منه إن تمكن بل يقهر على ذلك إن امتنع.

الخامس: جواز مطالبة الطبيب للأجرة

مع وجوب الطبابة عليه في بعض الأحيان.

السادس: جواز مطالبة الوصيّ لحقّ الوصاية

مع وجوب العمل بالوصيّة.

السابع: ما مرّ من جماعة من جواز أخذ الأجرة على القضاء مع وجوبه كفاية بل عينا مع الانحصار.

الثامن: جواز أخذ الأجرة للعبادات الاستيجاريّة

من الحجّ و الصلاة و الصيام مع وجوبها على المنوب عنه. هذا.

و أجيب عن الإشكال الأوّل في الواجبات النظاميّة بوجوه منها: أنّ الواجب

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 183

..........

______________________________

أوّلا و بالذات هو حفظ النظام و حفظ النفوس لا أسبابهما. و لا يتوقّف ذلك على التبرّع بأسبابها بل على أصل إيجادها و لو بنحو المعاوضة عليها فلا يجبر العامل على إيجادها مجّانا. و بذلك يظهر الجواب عن سائر النقوض أيضا غير النقض الأخير.

و أمّا في الأخير فالعبادات الاستيجاريّة ليست بواجبة على العامل بل على المنوب عنه، و عمل العامل ليست إلّا النيابة عنه و هي ليست بواجبة فكما يجوز له النيابة عنه مجّانا يجوز له النيابة بعوض. هذا.

و التحقيق في المسألة و بيان أدلّتها و المناقشة فيها تفصيلا يأتي في النوع الخامس من المكاسب المحرّمة فانتظر.

و كيف كان فقد مرّ منّا المناقشة في أصل المسألة و أدلّتها إلّا فيما ثبت كونها واجبة بنحو الحقّ كما هو المحتمل فيما يرتبط بتجهيز الموتى و دفنهم. و على هذا فالظاهر جواز استيجار القضاة و لا سيّما من قبل إمام المسلمين على عهدة بيت المال، و إذا فرض استيجاره من قبله فلا يجوز استيجاره ثانيا من قبل المتحاكمين لعمل كان مشمولا لاستيجار الإمام، لعدم جواز أن يؤجر نفسه من شخصين مستقلّين لعمل واحد بأن يأخذ في قباله أجرتين فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 184

[ارتزاق القاضي من بيت المال]
اشارة

و أمّا الارتزاق من بيت المال فلا إشكال في جوازه للقاضي مع حاجته، بل مطلقا إذا رأى الإمام المصلحة فيه. (1)

______________________________

ارتزاق القاضي من بيت المال

(1) أقول: الفرق بين الأجرة و الجعل و بين الارتزاق أنّ في الأجرة و الجعل يقدّر العمل و

العوض و المدّة في ضمن عقد الإجارة أو الجعالة، و أمّا الارتزاق من بيت المال فمنوط بنظر الحاكم من غير أن يقدّر بقدر خاصّ و عقد بينهما. و لنذكر بعض كلمات الأصحاب في المقام لزيادة البصيرة:

[بعض كلمات الأصحاب في المقام]

1- قال الشيخ في مكاسب النهاية: «و متى ما تولّى شيئا من أمور السّلطان من الإمارة و الجباية و القضاء و غير ذلك من أنواع الولايات فلا بأس أن يقبل على ذلك الأرزاق و الجوائز و الصّلات فإن كان ذلك من جهة سلطان عادل كان ذلك حلالا له طلقا، و إن كان من جهة سلطان الجور فقد رخّص له في قبول ذلك من جهتهم، لأنّ له حظّا في بيت المال.» «1»

أقول: أراد هو لا محالة صورة جواز قبول العمل و الولاية من قبلهم، و كون القاضي واجدا لشرائط القضاء. و إطلاق كلامه يشمل صورة عدم احتياج القاضي أيضا.

2- و للشيخ «ره» في آداب القضاء من المبسوط كلام تعرّض فيه لضابطة موارد أخذ الأجرة و موارد أخذ الرزق و موارد عدم جواز أخذهما يعجبني ذكره و إن كان لا يخلو بعضه من المناقشة قال: «و أمّا ما يجوز أن يستأجر عليه و ما لا يجوز فقد ذكرناه في غير موضع: و جملته أنّ كلّ عمل جاز أن يفعله الغير عن

______________________________

(1) النهاية لشيخ الطائفة/ 357.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 185

..........

______________________________

الغير تبرّعا جاز أن يفعله بعقد إجارة كالخياطة و البناء، و كلّ عمل لا يفعله الغير عن الغير و إذا فعله عن نفسه عاد نفعه إلى الغير جاز أخذ الرزق عليه دون الأجرة كالقضاء و الخلافة و الإمامة و الإقامة و الأذان و الجهاد.

و قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة

عليه، و أجاز أصحابنا ذلك، و أجاز قوم أخذ الأجرة على القضاء، و هو فاسد عندنا. و كلّ ما لا يفعله الغير عن الغير و إذا فعله عن نفسه لم يعد نفعه إلى الغير لم يجز أخذ الأجرة عليه و لا أخذ الرزق كالصلوات المفروضات و التطوّع، و كذلك الصيام. فإذا ثبت أنّه يأخذ الرزق فإنّه يأخذه من بيت المال، لأنّه معدّ للمصالح، و هذا منها.» «1»

أقول: وجه حصره صحّة الإجارة على صورة النيابة عن الغير و حكمه بعدم الصحّة فيما يفعله عن نفسه و يعود نفعه إلى الغير غير واضح إلّا أن يريد أنّه حينئذ أكل للمال بلا عوض و كأنّ الأجير جمع بين المعوّض و العوض.

و الظاهر أنّ قوله: «و قالوا» أراد بذلك أنّ أهل السنّة قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على الجهاد و قوله: «و أجاز أصحابنا ذلك» إشارة إلى إفتائهم بالجواز لرواية أبي البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه السّلام أنّ عليّا سئل عن إجعال الغزو فقال عليه السّلام: «لا بأس به أن يغزو الرجل عن الرجل و يأخذ منه الجعل.» «2» هذا.

و لكن مورد الرواية الغزو نيابة عن الغير لا عن نفسه كما هو واضح.

و قوله: «و هو فاسد عندنا» يشعر بإجماعنا على عدم جواز أخذ الأجرة على القضاء، و هذا ينافي ما مرّ من الجواز عن المقنعة و النهاية و المهذّب إلّا أن يريد الأجرة من قبل المتحاكمين لا الإمام فيوافق ما مرّ منه في الخلاف و يحمل كلمات

______________________________

(1) المبسوط 8/ 160.

(2) الوسائل 11/ 22، كتاب الجهاد، الباب 8 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 186

..........

______________________________

المجوّزين على الأخذ من الإمام.

3-

و في آداب القضاء من المبسوط أيضا ما ملخّصه: «و أمّا من يحلّ له أخذ الرزق عليه و من لا يحلّ فجملته أنّ القاضي إمّا أن يكون ممّن تعيّن عليه القضاء أو لم يتعيّن عليه، فإن كان ممّن يجوز له القضاء و لم يتعيّن عليه فإمّا أن يكون له كفاية أو لا كفاية له، فإن لم يكن له كفاية جاز له أخذ الرزق، و إن كانت له كفاية فالمستحبّ أن لا يأخذ فإن أخذ جاز، و جواز أخذ الرزق للقضاء إجماع، و لأنّ بيت المال للمصالح و هذا منها. فأمّا إن تعيّن عليه القضاء، فإمّا أن يكون له كفاية أو لا كفاية له، فإن كانت له كفاية حرم عليه أخذ الرزق، لأنّه يؤدي فرضا قد تعيّن عليه، و إن لم يكن له كفاية حلّ ذلك له، لأنّ عليه فرض النفقة على عياله و فرضا آخر و هو القضاء. و إذا أخذ الرزق جمع بين الفرضين، و الجمع بين الفرضين أولى من إسقاط أحدهما، هذا عندنا و عندهم.» «1»

أقول: على فرض عدم جواز أخذ الأجرة في قبال الواجب العيني فإسراء حكمه إلى أخذ الرزق مشكل، إذ ليس الرزق في قبال العمل و إنّما هو أمر يعطيه الحاكم بلحاظ ما يراه صلاحا، اللّهم إلّا أن يمنع وجود المصلحة في الإعطاء لمن لا يحتاج.

ثمّ على فرض عدم الجواز بلحاظ تعيّن الواجب فحاجته لا تحلّل الحرام، اللّهم إلّا أن يكون ملاك الجواز أقوى و أهمّ أو مساويا لملاك الحرمة.

4- و في قضاء الشرائع: «الخامسة: إذا ولّى من لا يتعيّن عليه القضاء فإن كانت له كفاية من ماله فالأفضل أن لا يطلب الرزق من بيت المال، و لو طلب جاز،

لأنّه من المصالح. و إن تعيّن للقضاء و لم يكن له كفاية جاز له أخذ الرزق،

______________________________

(1) المبسوط 8/ 84.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 187

[الدليل على الجواز]

لما سيجي ء من الأخبار الواردة في مصارف الأراضي الخراجيّة. (1)

و يدلّ عليه ما كتبه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى مالك الأشتر من قوله:

______________________________

و إن كان له كفاية قيل: لا يجوز له أخذ الرزق لأنّه يؤدي فرضا.» «1»

أقول: نسبة الحكم الأخير إلى القول يشعر بمناقشته فيه، لما مرّ من الفرق بين الأجرة المبتنية على المعاوضة و بين الرزق المنوط بنظر الحاكم، و لو كان وجوب العمل عينا مانعا من أخذ الرزق فإطلاق دليله يقتضي عدم الفرق بين صورة الحاجة و غيرها.

(1) كقوله عليه السّلام في مرسلة حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا- التي تقرب من الصحيحة كما لا يخفى- عن العبد الصالح عليه السّلام: «و الأرضون التي أخذت عنوة بخيل و رجال ... فإذا أخرج منها ما أخرج بدأ فأخرج منه العشر ... و يؤخذ بعد ما بقي من العشر فيقسّم بين الوالي و بين شركائه الذين هم عمّال الأرض و أكرتها فيدفع إليهم أنصباؤهم على ما صالحهم عليه. و يؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة.» «2»

و من الواضح أنّ القضاء و تأمين معيشة القاضي الصالح و رفع حاجاته و تشويقه من أهمّ المصالح العامّة، و المصلحة لا تدور مدار الحاجة و لو سلّم فللحاجة مراتب تختلف بحسب شرائط المحيط و أسباب التعيّش في كلّ عصر و شئون القاضي و عائلته.

______________________________

(1) الشرائع/ 862.

(2) الكافي 1/

541، كتاب الحجّة، باب الفي ء و الأنفال ...، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 188

«و افسح له- أي للقاضي- في البذل ما يزيح علّته و تقلّ معه حاجته إلى الناس.» (1)

[لا فرق بين أن يأخذ من السلطان العادل أو من الجائر]

و لا فرق بين أن يأخذ الرزق من السلطان العادل أو من الجائر لما سيجي ء

______________________________

(1) قال عليه السّلام- بعد ذكر الأوصاف و الشرائط لمن ينتخب للقضاء-: «ثمّ أكثر تعاهد قضائه و افسح له في البدل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته إلى الناس، و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.» «1»

فحيث إنّ انسجام النظام و سلامة الملك يتوقّف على سلامة أمر القضاء، و لا يحصل ذلك إلّا باستقلال القاضي و قوّته في الاقتصاد و السياسة أمر أمير المؤمنين عليه السّلام مالكا برعاية ذلك حتّى لا يطمع الخواصّ فضلا عن الأجانب في إجبار القاضي و إخضاعه أو استمالته و إطماعه.

و قد تعرّضنا لسند عهده عليه السّلام إلى مالك إجمالا في آخر المجلد الرابع من الدراسات في ولاية الفقيه نقلا عن النجاشي و فهرست الشيخ فراجع «2» هذا مضافا إلى أنّ نفس مضامين العهد الشريف و محتوياته أقوى شاهد على صدوره إجمالا عن منبع العلم الإلهي و معدنه. فما في مصباح الفقاهة «3» من نقله مرسلا ممنوع إلّا أن يريد أنّ السيّد الرضي نقله مرسلا.

______________________________

(1) نهج البلاغة، فيض 5/ 1010؛ عبده 3/ 105؛ لح/ 435؛ الكتاب 53.

(2) راجع دراسات في ولاية الفقيه 4/ 304.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 268.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 189

من حليّة بيت المال لأهله و لو خرج من يد الجائر. (1)

و أمّا ما تقدم في صحيحة ابن

سنان من المنع من أخذ الرزق من السلطان فقد عرفت الحال فيه. (2)

و أمّا الهدية و هي ما يبذله على وجه الهبة ليورث المودّة الموجبة للحكم له حقّا كان أو باطلا و إن لم يقصد المبذول له الحكم إلّا بالحق إذا عرف- و لو من القرائن- أنّ الأوّل قصد الحكم له على كلّ تقدير.

______________________________

(1) لا يخفى أنّ القضاة على أقسام:

الأوّل: أن يكون القاضي جامعا لشرائط القضاء المعتبرة من قبل الشارع و منصوبا من قبل الإمام العادل.

الثاني: أن يكون جامعا للشرائط و لكنّه منصوب من قبل الجائر، و إنّما قبل ذلك رعاية لمصلحة الشيعة و مصالح الإسلام.

الثالث: أن يكون جامعا للشرائط غير العدالة منصوبا من قبل الجائر، و إنّما قبله حبّا للجاه و المقام.

الرابع: أن لا يكون جامعا للشرائط سواء لم يكن منصوبا أو يكون منصوبا من قبل الجائر.

فالقسمان الأوّلان يجوز قضائهما و كذا ارتزاقهما من بيت المال و إن فرض أخذه من يد الجائر، لما ورد عنهم عليهم السّلام من تنفيذ ذلك. و أمّا الأخيران فأخذهما منه بعنوان منصب القضاء حرام بلا إشكال.

(2) من كون المراد فيها القاضي الذي ليس أهلا للقضاء، لعدم كونه واجدا لشرائطه أو لكونه منصوبا من قبل الجائر كما كان هو الغالب و المبتلى به في تلك

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 190

[الفرق بين الهدية و الرشوة]

فيكون الفرق بينها و بين الرشوة أنّ الرشوة تبذل لأجل الحكم، و الهدية تبذل لإيراث الحبّ المحرّك له (1) على الحكم على وفق مطلبه،

______________________________

الأعصار. و فسّر بعضهم الرزق في الصحيحة بالأجرة و قد مرّ أنّه خلاف الظاهر.

(1) قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «بل الهدية تبذل لأجل إلجاء المهدى إليه إلى الحكم إلجاء عرفيّا من باب

هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ إِلَّا الْإِحْسٰانُ من غير التفات إلى الحبّ و لا غرض في الحبّ، بل في العادة لا يورث مثل هذه الهدايا التي هي لأغراض شخصيّة حبّا.» «1»

ثمّ لا يخفى أنّ الهدية إمّا أنّ تهدى قبل الحكم و إمّا أن تهدى بعده، و في كلّ منهما إمّا أن تعطى قربة إلى اللّه- تعالى- و إمّا أن تعطى لأجل الرابطة الشخصيّة بينهما، أو لأجل قضاء بعض حاجات المهدي، أو لأجل تصدّي أمر القضاء، أو لأجل الحكم بالحقّ، أو لأجل الحكم بالباطل، أو لأجل الحكم بنفع المعطي حقّا كان أو باطلا.

و ربّما يقال: إنّ القاعدة الأوّلية تقتضي الصحّة في الجميع، للفرق بينها و بين الرشوة موضوعا بلحاظ أنّ الرشوة ترجع إلى المعاملة و المقابلة بين المال و بين الحكم، و هذا بخلاف الهدية فإنّها من باب الهبة و هي عقد صحيح، و الأمور المذكورة كلّها من قبيل الداعي لها، و الداعي لا يصير قيدا في العقد حتى يبطل لأجله فالحكم بعدم صحّة الهبة و حرمة المال يحتاج إلى دليل.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 27.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 191

[أدلّة حرمة الهدية للقاضي]
اشارة

فالظاهر حرمتها، لأنّها رشوة أو بحكمها بتنقيح المناط. (1)

و عليه يحمل ما تقدّم من قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «و إن أخذ- يعني الوالي- هديّة كان غلولا.»

و ما ورد من: «أنّ هدايا العمّال غلول» و في آخر: «سحت.»

______________________________

أدلّة حرمة الهدية للقاضي:

(1) قد استدل على الحرمة بوجوه:

الأوّل: أدلّة حرمة الرشوة

بتوهّم شمولها للهدية حسب إطلاق بعض التفاسير لها مثل قوله في المصباح المنير: «الرشوة- بالكسر-: ما يعطيه الشخص الحاكم و غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد»، «1» لشمول ذلك ما إذا كان بنحو الداعي أيضا.

و فيه أوّلا: عدم جريان ذلك في بعض الأقسام التي مرّت و لا سيّما ما يهدى بعد الحكم و لا سيّما إذا أهداها له قربة إلى اللّه- تعالى- تشويقا له على دقّته في الحكم و رعايته الحقّ و العدالة في جميع المراحل.

و ثانيا: أنّ الظاهر من الرشوة خصوص صورة المصانعة و المقابلة. و في رواية الأصبغ بن نباته ذكر الهدية قسيما للرشوة فهما أمران متغايران.

الثاني: ثبوت مناط الرشوة

و إن افترقتا موضوعا، لوضوح أنّ مناط حرمة الرشوة استمالة القاضي و إخضاعه بسبب المال بحيث ينحرف بذلك عن العدالة و

______________________________

(1) المصباح المنير 1/ 310.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 192

و عن عيون الأخبار عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير قوله- تعالى-: أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ قال:

«هو الرجل يقضي لأخيه حاجته ثمّ يقبل هديّته.»

و للرواية توجيهات تكون الرواية على بعضها محمولة على ظاهرها من التحريم، و على بعضها محمولة على المبالغة في رجحان التجنّب عن قبول الهدايا من أهل الحاجة إليه لئلّا يقع في الرشوة يوما.

______________________________

الحكم بالحقّ.

و أجاب المحقّق الإيرواني «ره» عن ذلك بعدم القطع بالمناط و إلّا حرم طرح الألفة مع القاضي لأجل هذا الداعي. «1»

أقول: الظاهر ثبوت الاطمئنان بالمناط المذكور بالنسبة إلى بعض أقسام الهدايا، و الألفة مع القاضي أيضا إذا كانت لغرض استمالته إلى طرف الباطل و الجور ممّا يطمئن النفس بحرمتها.

الثالث: أنّ أكلها أكل للمال بالباطل،

إذ وقع بداعي أمر محرّم و هو الحكم بالباطل فيشملها قوله تعالى: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ. «2»

و فيه أوّلا: عدم جريان ذلك في بعض الأقسام التي مرّت.

و ثانيا: عدم كون الإهداء بنحو المقابلة بل بنحو الداعي كما مرّ.

و ثالثا: ما مرّ مرارا من أنّ الباء في قوله: «بالباطل» للسببيّة لا للمقابلة فيراد بها النهي عن أكل مال الغير بالأسباب الباطلة من السرقة و الرشوة و القمار و نحوها، و لا نظر فيها إلى وجود العوض و عدمه. هذا.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 26.

(2) سورة البقرة (2)، الآية 188.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 193

..........

______________________________

و لكن يمكن تتميم هذا الاستدلال بأنّ قوله تعالى: وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً

مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ. «1» يشمل ما يهدى بداعي الحكم بالباطل أيضا و اللام كما تستعمل للغاية تستعمل للعاقبة أيضا فتأمّل.

الرابع: الأخبار المستفيضة الواردة في المقام
اشارة

و قد تعرّض المصنّف لبعضها:

الأوّل: ما مرّ في رواية الأصبغ بن نباتة

عن أمير المؤمنين عليه السّلام من قوله: «و إن أخذ هدية كان غلولا و إن أخذ الرشوة فهو مشرك.» «2» و الغلول من غلّ يغلّ غلولا- من باب نصر-: إذا خان، فيراد أنّ أخذ الهدية خيانة بمقام الولاية.

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الرواية بما ملخّصه: «أوّلا: أنّ الرواية ضعيفة السند و ثانيا: أنّها واردة في هدايا الولاة دون القضاة، و بما أنّ الهديّة إلى الولاة جائزة فلا بدّ من حمل الرواية على بعض الوجوه الممكنة:

الأوّل: أن تحمل على الكراهة.

الثاني: أن تحمل على ظاهرها و لكن يقيّد الإعطاء بكونه لدفع الظلم أو إنقاذ الحقّ أو لأجل أن يظلم غيره فإنّها في هذه الصور محرّمة على الوالي، و في الصورة الأخيرة على المعطي أيضا.

الثالث: أن تحمل على كون ولايتهم من قبل السلطان مشروطة بعدم أخذ شي ء من الرعيّة.» «3»

أقول: لا يخفى أنّ القضاة أيضا من الولاة، و القضاء من أهمّ الولايات، و الحمل على الكراهة خلاف الظاهر. و الظاهر أن تحمل على الموارد الغالبة من

______________________________

(1) نفس الآية السابقة.

(2) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 270.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 194

..........

______________________________

كون الإهداء إلى الولاة و لا سيّما القضاة لأغراض فاسدة بحيث يوجد فيها مناط الرشوة، و يعرف ذلك بمناسبة الحكم و الموضوع.

الثاني من الأخبار: ما رواه جابر

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «هدية الأمراء غلول.» «1»

و في آداب القضاء من المبسوط قال: «روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «هدية العمّال غلول.» و في بعضها: «هدية العمّال سحت.» «2»

و في سنن البيهقي بسنده عن أبي حميد السّاعدي قال: قال

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هدايا الأمراء غلول.» «3»

و في الدر المنثور في تفسير قوله- تعالى- في سورة المائدة: أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هدايا الأمراء سحت.» «4»

أقول: الظاهر رجوع هذه الروايات إلى رواية واحدة أو روايتين، و ليس فيها ما يعتمد على سنده.

اللّهم إلّا أن يحصل بسبب استفاضة النقل الوثوق بصدور بعضها لا محالة، و لفظ السّحت و إن أطلق في بعض الأخبار على بعض المكروهات أيضا نظير كسب الحجّام مثلا و لكن ظاهره الحرمة فيحمل عليها إلّا أن يثبت خلافها. هذا.

و ظاهر تعليق الحكم على وصف دخالته فيه فيراد صورة كون الإهداء للشخص بما أنّه أمير أو عامل فلا يشمل إهداء الشخص لرحمه أو لرفيقه المعاشر له

______________________________

(1) الوسائل 18/ 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 6.

(2) المبسوط 8/ 151.

(3) سنن البيهقي 10/ 138، كتاب آداب القاضي، باب لا يقبل منه هدية.

(4) الدر المنثور 2/ 284.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 195

..........

______________________________

و إن كان من العمّال إذا لم يكن الإهداء بلحاظ عمله و إمارته. و القضاة أيضا من العمّال كما مرّ.

و الغالب في الإهداء إلى هذه الطبقات كونه لأغراض فاسدة مظنونة أو متوقّعة منهم فتكون بحكم الرشوة و تنصرف الروايات عن صورة كون الإهداء بقصد القربة تشويقا للقاضي العادل النافع للمجتمع أو لكونه من أقاربه أو جيرانه مثلا.

و ربّما احتمل أن يكون إضافة الهدايا إلى العمّال أو الأمراء من قبيل إضافة المصدر إلى فاعله فيراد بها الهدايا الواصلة من قبل عمّال السّلاطين إلى الرعية، فتكون الروايات ناظرة إلى جوائز السّلطان و عمّاله، و

حيث إنّها ممّا أذن الأئمّة عليهم السّلام في أخذها فلا محالة تحمل الروايات على صورة العلم بكون الهدايا من الأموال المحرّمة. هذا.

و لكن الاحتمال المذكور خلاف الظاهر جدّا. مضافا إلى أنّ مشابهة متن هذه الروايات لما في رواية الأصبغ قرينة على إرادة أخذ العمّال للهدية فتدبّر.

الثالث من الأخبار: ما رواه في العيون

بأسانيده عن الرضا عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله- تعالى-: أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ قال: «هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثمّ يقبل هديّته.» «1»

و حيث إنّ ظاهر الرواية ممّا لا يمكن الالتزام به، إذ لو قضى أحد حاجة أخيه المسلم قربة إلى اللّه- تعالى- أو لاقتضاء الأخوة و الرفاقة ذلك و بعد ذلك أهدى له أخوه هدية لم يكن وجه لحرمة قبولها أشار المصنّف إلى لزوم التوجيه في الرواية.

فلا بدّ أن تحمل الحاجة على حاجة لا يجوز أخذ الأجرة بإزاء قضائها ككونه

______________________________

(1) الوسائل 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 196

..........

______________________________

قاضيا أو عاملا منصوبا من قبل الإمام بشرط أن يعمل مجّانا، أو تحمل على الرشوة على الحكم إذا وعدها إجمالا قبل الحكم و إن لم يعيّن مقدارها ثمّ أعطاها بعده فقبلها كما هو المتعارف بين أهل الارتشاء، أو تحمل لفظة «ثمّ» على الترتيب الذكري، أو تحمل الرواية على المبالغة في رجحان التجنّب عن قبول الهدية لئلّا يقع يوما في الرشوة فإنّه إذا ذاق حلاوة المال المجان أمكن أن يوسوسه نفسه الأمّارة في المستقبل إلى مطالبة الرشوة و قبولها.

و لفظ السحت و إن كان ظاهرا في الحرمة إلّا أنّه ليس صريحا فيها، لما مرّ من أنّه بمعنى المال الذي يلزم صاحبه العار، و لذا أطلق في بعض الأخبار

على كسب الحجّام و نحوه ممّا يقطع بعدم حرمته.

و كيف كان فمع تمشّي هذه الاحتمالات يشكل الاستدلال بالخبر على الحرمة في المقام، مضافا إلى ضعف سندها.

الرابع من الأخبار: ما رواه في المستدرك

عن دعائم الإسلام فيما كتبه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى رفاعة لمّا استقضاه على الأهواز: «إيّاك و قبول التحف من الخصوم.» «1»

الخامس: ما رواه أبو داود في السنن

بسنده عن بريدة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول.» «2»

السادس: ما رواه أبو داود أيضا بسنده عن أبي أمامة

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3/ 195، الباب 1 من أبواب آداب القاضي.

(2) سنن أبي داود 2/ 121، كتاب الخراج و الإمارة و الفي ء، باب في أرزاق العمّال، الرقم 2943.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 197

..........

______________________________

الربا.» «1»

السابع: ما رواه الترمذي بسنده عن معاذ بن جبل قال:

بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى اليمن فلمّا سرت أرسل في أثري فرددت فقال: «أ تدري لم بعثت إليك؟ قال:

لا تصيبنّ شيئا بغير إذني فإنّه غلول، و من يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة، لهذا دعوتك فأمض لعملك.» «2»

أقول: يجاب عن هذه الأخبار- مضافا إلى ضعفها سندا- بأنّ محطّ أكثرها أن يرزق العامل من قبل الإمام و يشترط عليه عدم أخذ شي ء من الناس فيكون أخذه خيانة بالنسبة إلى منصبه و مستعمله.

الثامن: قصّة إهداء الأشعث بن قيس إلى أمير المؤمنين عليه السّلام.

ففي نهج البلاغة: «و أعجب من ذلك طارق طرقنا، بملفوفة في وعائها و معجونة شنئتها كأنّما عجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة؟

فذلك محرّم علينا أهل البيت. فقال: لا ذا و لا ذاك و لكنّها هدية، فقلت:

هبلتك الهبول أعن دين اللّه أتيتني لتخدعني أ مختبط أم ذو جنّة أم تهجر، و اللّه لو أعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت الحديث.» «3»

أقول: الظاهر من كلامه عليه السّلام: أنّ الأشعث أراد بهديّته هذه حكم الإمام عليه السّلام باطلا بنفعه، و في مثل ذلك يجري ملاك الرشوة قطعا.

التاسع: ما ورد في زجر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عمّال الصدقة عن قبول الهدية

بناء على

______________________________

(1) سنن أبي داود 2/ 261، كتاب البيوع، باب الهدية لقضاء الحاجة، الرقم 3541.

(2) سنن الترمذي 2/ 396، الباب 8 من أبواب الأحكام، الرقم 1335.

(3) نهج البلاغة، فيض 4/ 713؛ عبده 2/ 244؛ لح/ 347؛ الخطبة 224.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 198

..........

______________________________

إسرائه إلى مطلق العمّال بإلغاء الخصوصيّة.

ففي آداب القضاء من المبسوط: «روى أبو حميد السّاعدي قال: استعمل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجلا من الأسد يقال له: «أبو البنية» و في بعضها: «أبو الأبنية» على الصدقة فلمّا قدم قال: هذا لكم و هذا أهدي إليّ. فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المنبر فقال:

«ما بال العامل نبعثه على أعمالنا يقول: هذا لكم و هذا أهدي إليّ فهلّا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمّه ينظر يهدى له أم لا؟ و الذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلّا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار

أو شاة لها تنعر.» ثمّ رفع يده حتى رأينا عفرة إبطيه ثمّ قال: «اللّهم هل بلّغت اللّهم هل بلّغت.» «1»

و في صحيح مسلم بسنده عن أبي حميد السّاعدي قال: استعمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجلا من الأسد يقال له: «ابن اللتبيّة» على الصدقة فلمّا قدم قال: هذا لكم و هذا لي أهدي لي. قال: فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: «ما بال العامل أبعثه فيقول: هذا لكم و هذا أهدي لي، أ فلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمّه حتّى ينظر أ يهدى له أم لا؟ و الذي نفس محمّد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر.» ثمّ رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثمّ قال: «اللّهم هل بلّغت؟» مرتين. و روي فيه هذه الرواية بطرق مختلفة فراجع. «2»

أقول: في النهاية: «يعرت العنز تيعر بالكسر يعارا بالضم أي صاحت.» و النعير أيضا بمعنى الصوت «3» و عفرة الإبط بالضم و الفاء: بياضه، و الظاهر أنّ

______________________________

(1) المبسوط 8/ 151.

(2) صحيح مسلم 3/ 1463، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمّال، الحديث 26.

(3) النهاية لابن الأثير 5/ 297 و 80.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 199

..........

______________________________

العقرة في المبسوط غلط، و الرغاء بالضم: صوت الإبل، و الخوار: صوت البقر. و في أسد الغابة ذكر ابن اللتبيّة كما في مسلم و أشار إلى الحديث أيضا «1»

و الظاهر أنّ المبسوط أخذ الحديث من صحيح مسلم أو غيره من كتب العامّة، و

في نقله وقع التصحيف كما ترى.

و يظهر من الحديث أنّه لا يجوز للعمّال و المسئولين سوء الاستفادة من شئونهم السياسيّة و موقعيتهم الاجتماعية. هذا.

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الاستدلال بالحديث: أوّلا بأنّ الرواية ضعيفة السند، لكونها منقولة من طرق العامّة. و ثانيا: أنّها وردت في عمّال الصدقة فلا ترتبط بما نحن فيه. «2»

أقول: إلغاء الخصوصيّة في أمثال المقام قويّ جدّا، للاطمينان بعدم الخصوصيّة.

______________________________

(1) أسد الغابة 5/ 329، ابن اللتبيّة، و 3/ 250 في عبد اللّه بن اللتبيّة.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 271.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 200

[هل تحرم الرشوة في غير الحكم؟]
اشارة

و هل تحرم الرشوة في غير الحكم بناء على صدقها- كما يظهر ممّا تقدّم عن المصباح و النهاية. (1)- كأن يبذل له مالا على أن يصلح أمره عند الأمير؟. فإن كان أمره منحصرا في المحرّم، أو مشتركا بينه و بين المحلّل لكن بذل على إصلاحه حراما أو حلالا. (2) فالظاهر حرمته. لا لأجل

______________________________

هل تحرم الرشوة في غير الحكم؟

[معنى الرشوة]

(1) عبارة المصباح كانت هكذا: «الرشوة بالكسر: ما يعطيه الشخص الحاكم و غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد.» «1» و الجملة الأخيرة يحتمل أن يراد بها حمل المعطي غير الحاكم على ما يريده، و يحتمل أن يراد حمل الغير الحاكم على ما يريده المعطي. فعلى الأوّل تشمل العبارة غير باب الحكم أيضا، و على الثاني تختصّ بباب الحكم كما لا يخفى.

و عبارة النهاية كانت هكذا: «الرشوة و الرشوة: الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، و أصله من الرشاء الذي يتوصّل به إلى الماء، فالراشي: من يطعي الذي يعينه على الباطل.» فعبارته تشمل غير باب الحكم أيضا.

و قد مرّ منّا: أنّ نظام الحكم و البرامج الاجتماعية و الإدارية كلّها أسّست و شرّعت على أساس حفظ الحقوق و تأمين العدالة الاجتماعية، و على القضاة و العمّال رعاية ذلك فكلّما يعطى بداعي تحريفها عن مسيرها الحقّ و سوء الاستفادة منها أو دفع سوء استفادة المسئولين و دفع ظلمهم يسمّى رشوة من غير فرق بين القضاء و غيره فتدبّر.

(2) يعني إصلاح أمره بنفعه سواء كان حراما أو حلالا. هذا.

______________________________

(1) المصباح المنير 1/ 310.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 201

الرشوة، لعدم الدليل عليه عدا بعض الإطلاقات المنصرف إلى الرشا في الحكم، بل لأنّه أكل للمال بالباطل. فتكون الحرمة هنا لأجل

______________________________

و المصنّف

قسّم الرشوة لغير الحكم على ثلاثة أقسام، إذ الراشي إمّا أن يطلب بها إصلاح أمره الحلال و بوجه حلال أو إصلاح أمره الحرام، أو إصلاح أمره بنفعه كيفما اتفق و لو حراما و بطريق حرام.

و لا يخفى أنّ الأوّل ممّا لا إشكال في جوازه تكليفا و وضعا، إذ عمل المسلم محترم فيجوز الاستيجار له و إعطاء العوض في مقابله و يشمله قوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، بل يشكل إطلاق لفظ الرشوة حينئذ، لما عرفت من أنّ الظاهر من اللفظ هو ما يعطى لتحريف نظام الحكم أو غيره من الأنظمة عن مسيره الحقّ، أو لإحقاق الحقّ و دفع الظلم عن نفسه.

و إطلاقها على ما يعطى في قبال تفويض الغير حقّه في المنزل المشترك- كما يأتي في كلام المصنّف- لعلّه من جهة عدم توقّع أخذ العوض في مثله غالبا فأطلق مجازا.

و أمّا الثاني أعني ما يعطى في قبال الأمر الحرام فلا إشكال في حرمته تكليفا و وضعا و كذا الثالث أيضا، إذ التصريح بكون العمل واقعا بنفع المستأجر سواء وقع حلالا أو وقع حراما و بطريق حرام يخرج العمل عن كونه حلالا شرعا. و ليس الجامع بين الحلال و الحرام بحلال، نعم لو وقع العقد بنحو الإطلاق انصرف قهرا إلى المصاديق المحلّلة فتدبّر.

و المصنّف أيضا ساق القسمين على مساق واحد.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 202

و يستدلّ للحرمة فيهما بوجوه:
الأوّل: أنّه لا ماليّة شرعا لما يكون حراما من الذوات و الأعمال،

______________________________

و قد مرّ في أوّل المكاسب ما يدلّ من الأدلّة العامّة على أنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه فراجع.

الثاني: إطلاق أدلّة حرمة الرشوة

و قد مرّت، و ظاهرها الحرمة تكليفا و وضعا. و لكنّ المصنّف يناقش كما ترى في شمولها للمقام بتقريب أنّ مورد أكثر الروايات هو الرشا في الحكم، و أنّ المطلقات منها أيضا تنصرف إلى ذلك.

و لكن يمكن أن يجاب بأنّ تقييد الرشا في أكثر الأخبار بالحكم يدلّ بنفسه على أنّ مفهوم الرشا أعمّ و يساعده العرف أيضا. و الظاهر أنّ التقييد به في بعض الأخبار ليس لخصوصيّة فيه، بل من جهة الغلبة المتحقّقة في تلك الأعصار حيث إنّ المبتلى بها من الرشوة كان ما يعطى للقضاة، و هو المصرّح به في الكتاب العزيز أيضا حيث قال: وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. «1»

و لكن ينسبق إلى الذهن من ذلك أنّ كلّ مال يوجب إعطائه أكل مال الغير أو تضييع بعض حقوقه فهو بحكم الرشوة ملاكا و حكما.

و بالجملة لا خصوصيّة لمال الغير و لا لحكم القاضي، بل يسري الحكم إلى جميع الحقوق و إلى غير الحكم أيضا، و إنّما وقع الحكم مطرحا في الكتاب و السنّة لكثرة الابتلاء به في جميع الأعصار، و القيد الوارد مورد الغالب لا مفهوم له فيبقى المطلقات على إطلاقها بل يمكن إلغاء الخصوصيّة في المقيّدات منها أيضا.

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 188.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 203

الفساد. (1)

الثالث: ما ذكره المصنّف من كونه أكلا للمال بالباطل

______________________________

و هذا إشارة منه إلى الآية الشريفة.

و لكن يرد عليه: ما مرّ مرارا من أنّ الظاهر كون الباء في قوله: «بالباطل» للسببيّة لا للمقابلة التي تدخل على العوض في المعاوضات، فليست الآية ناظرة إلى وجود العوض و عدمه فضلا عن كونه حقّا أو باطلا.

(1) أقول: التقييد به «هنا» في المقام يحتمل فيه

و جهان:

الأوّل: أن يكون في قبال الرشوة في باب الحكم بأن يقال: إنّ الظاهر من التأكيدات الواردة في الرشوة في الحكم- كإطلاق الشرك و الكفر عليها- كونها محرّمة تكليفا و وضعا. و هذا بخلاف المقام فإنّ حرمتها ليست إلّا لفساد المعاملة وضعا و كون المال مال الغير.

الثاني: أن يكون في قبال ما مرّ في باب الهدية حيث قلنا: إنّها من أقسام الهبة، و مقتضى القاعده صحّتها في جميع الشقوق، و الداعي و إن كان حراما لا يقيّد مفاد العقد، و على هذا فتحمل النواهي الواردة فيها على التكليف المحض، و هذا بخلاف المقام، إذ على فرض الاستناد إلى الآية فمقتضاها حرمة الأكل و التصرّف، و مقتضاها فساد المعاملة و عدم الانتقال إلى الشخص. هذا.

و لكنّ الظاهر أنّ نظر المصنّف إلى الوجه الأوّل لا الثاني، لما يأتي في أثناء كلامه من رجوع الهدية إلى هبة مجانيّة فاسدة، و لعلّه من جهة حمل النهي عنها في أخبار الباب على الإرشاد الى الفساد على ما هو المعروف بينهم من حمل النّواهي المتعلّقة بالعبادات أو المعاملات على الإرشاد إليه، و لكن يمكن لأحد منع الإطلاق في ذلك كما في النهي عن البيع وقت النداء فتأمّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 204

فلا يحرم القبض في نفسه. (1) و إنّما يحرم التصرّف، لأنّه باق على ملك الغير.

نعم يمكن أن يستدلّ على حرمته بفحوى إطلاق ما تقدّم في هديّة الولاة و العمّال. (2)

______________________________

و يمكن أن يقال: إنّ الظاهر من مجي ء العامل يوم القيامة بما أخذه هدية حاملا إيّاه على عنقه كما مرّ في خبر السّاعدي كون ما أخذه غصبا في يده و عدم كونه ملكا له، و قد حكم في الروايات

بكون الهدية للعامل غلولا و في الكتاب العزيز: وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمٰا غَلَّ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ فيكون الإشكال في المأخوذ لا في نفس الأخذ فقط فتدبّر.

(1) في حاشية المحقّق الشيرازي: «لعلّه من غلط النسّاخ، و الظاهر: فلا يحرم العقد في نفسه لا القبض. فإنّ القبض أيضا من التصرّف الذي حكم بحرمته فالمقصود أنّ العقد ليس محرّما في نفسه يعني في ذاته بل إنّما يحرم من حيث الرشا» «1» هذا.

(2) أقول: ناقش هذا في مصباح الفقاهة فقال ما ملخّصه: «و فيه أوّلا أنّ الروايات المتقدّمة في هدية الولاة و العمّال ضعيفة السند، و ثانيا: أنّ حرمة الهدية لهما إنّما تقتضي حرمة الرشوة لهما و لا دلالة لها على حرمة الرشوة على غيرهما من الناس.» «2»

أقول: ربّما يطمئن النفس بأنّ حرمة الرشوة ليست إلّا بلحاظ كونها موجبة لتضييع الحقوق و تحريف الأنظمة الاجتماعية التي يدور عليها رحى المجتمع عن

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الشيرازي/ 75.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 272.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 205

[بذل المال على وجه الهدية الموجبة لقضاء الحاجة المباحة]

و أمّا بذل المال على وجه الهدية الموجبة لقضاء الحاجة المباحة فلا حظر فيه، كما يدلّ عليه ما ورد في أنّ الرجل يبذل الرشوة ليتحرّك من منزله ليسكنه؟ قال: «لا بأس.» (1)

و المراد: المنزل المشترك، كالمدرسة و المسجد و السّوق و نحوها.

و ممّا يدلّ على التفصيل في الرشوة بين الحاجة المحرّمة و غيرها رواية الصيرفي قال: سمعت أبا الحسن عليه السّلام و سأله حفص الأعور فقال: إنّ عمّال السلطان يشترون منّا القرب و الإداوة فيوكّلون الوكيل حتّى يستوفيه منّا فنرشوه حتى لا يظلمنا؟. فقال: «لا بأس بما تصلح به مالك» ثمّ سكت ساعة ثمّ قال: «إذا أنت رشوته يأخذ منك أقلّ

من الشرط؟» قلت: نعم، قال: «فسدت رشوتك.» (2)

______________________________

مسيرها الحقّ فيثبت الحكم أينما ثبت هذا الملاك.

(1) إشارة إلى صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه؟ قال: «لا بأس». «1»

قال في الوسائل: «الظاهر أنّ المراد المنزل المشترك بين المسلمين كالأرض المفتوحة عنوة أو الموقوفة على قبيل و هما منه.»

أقول: و يحتمل أن يراد منزل الشخص الذي سكنه الغاصب عدوانا فيعطي صاحبه الرشوة إلى الغاصب ليتحوّل منه فيسكن صاحبه. و على هذا فيجوز إعطائها للمعطي دون الآخذ و يكون استعمال لفظ الرشوة فيه على نحو الحقيقة.

(2) راجع الوسائل «2» و الراوي فيه حكيم بن حكم الصيرفي و هو مجهول.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 207، الباب 85 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل 12/ 409، الباب 37 من أحكام العقود، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 206

..........

______________________________

و في التهذيب: «حكم بن حكيم الصيرفي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام الحديث» «1» و ليس فيه لفظ العمّال. و حكم بن حكيم ثقة و الراوي عنه محمّد بن أبي حمزة و هو أيضا ثقة روى عنه إسماعيل بن أبي السمال أو أبي السمّاك و قالوا في حقّه: إنّه واقفي ثقة و على هذا فالسند لا بأس به. و القرب جمع قربة: سقاء يجعل فيه الماء أو اللبن، و الإداوة: إناء صغير من جلد يجعل فيه الماء و الجمع الأداوي. و ظاهر صدر الرواية جواز إعطاء الرشوة لدفع الظلم في مرحلة قبض الأمتعة المشتراة، و إن حرم أخذها على المرتشي. و لما كان يحتمل كون إعطائها لقبض الأقل من الشرط في المعاملة أيضا

أراد الإمام عليه السّلام بسؤاله و جوابه دفع توهّم الجواز حينئذ.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 7/ 235، باب الزيادات من كتاب التجارات، الحديث 1025.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 207

[حكم المعاملة المحاباتية مع القاضي]

و ممّا يعدّ من الرشوة- أو يلحق بها- المعاملة المشتملة على المحاباة كبيعه من القاضي ما يساوي عشرة دراهم بدرهم فإن لم يقصد من المعاملة إلّا المحاباة التي في ضمنها، أو قصد المعاملة لكن جعل المحاباة لأجل الحكم له- بأن كان الحكم له من قبيل ما تواطئا عليه من الشروط غير المصرّح بها في العقد- فهي الرشوة، و إن قصد أصل المعاملة و حابى فيها لجلب قلب القاضي فهو كالهدية ملحقة بالرشوة. (1) و في

______________________________

حكم المعاملة المحاباتية مع القاضي

(1) الظاهر أنّ الفرق بين الصور الثلاث: أنّ في الأولى لم يقصد المعاملة بل إعطاء الرشوة بإزاء الحكم بنفعه، و المعاملة صوريّة محضة. و في الثانية قصد المعاملة و لكن جعل الحكم له بمنزلة الشرط في ضمن العقد، و في الثالثة قصد المعاملة و كان الداعي له جلب محبّة القاضي قلبا لعلّه ينجرّ إلى حكمه له فتكون من قبيل الهدية له.

و مقتضى القاعدة في الأولى الحرمة تكليفا و وضعا لأنّها رشوة.

و في الثانية كون الشرط فاسدا فإن قلنا بكون الشرط الفاسد مفسدا للمعاملة فسدت المعاملة أيضا. و إن قلنا بعدم إفساده لها و تقسيط المبيع بالنسبة إليه و إلى الثمن صار حكمها حكم بيع الشي ء المملوك بمملوك و غير مملوك. و إن قلنا بعدم الإفساد و عدم التقسيط أيضا كانت المعاملة صحيحة بتمامها.

و في الثالثة حكمها حكم ما مرّ في الهدية.

و لكن يظهر من المصنّف الحكم بكون المعاملة في الأوليين رشوة و لازم ذلك بطلانها فيهما.

دراسات في المكاسب

المحرمة، ج 3، ص: 208

فساد المعاملة المحابى فيها وجه قويّ. (1)

______________________________

(1) بعد ما حكم المصنّف بكون المعاملة في الصورتين الأوليين رشوة كان الظاهر رجوع هذه العبارة إلى الصورة الثالثة فقط.

قال المحقّق الشيرازي «ره» في الحاشية ما ملخّصه: «الظاهر أنّ المراد الفساد في الصورة الأخيرة، و لعلّ وجهه أنّ الرشا بالمعنى المصدري صادق على دفع المبيع الذي حابى في معاملته فيكون الدفع حراما و هو لا يجامع صحّة المعاملة لأنّ صحّتها ملازمة لوجوب دفعه المنافي لحرمة الدفع، إلّا أن يمنع صدق الرشا على الدفع فإنّ الرشا إنّما يحصل بنفس المعاملة. و الرشوة هو الملك الحاصل له بالمعاملة، و حرمة المعاملة لأجل الاتحاد مع الرشا لا يوجب فسادها و يجب الدفع بعد ذلك لوجوب الوفاء بها على تقدير صحّتها.

و أمّا الصورة الثانية فالظاهر أنّ صحّتها و فسادها ينبئ على كون الشرط الفاسد مفسدا و عدمه لأنّ مناط فساد الشرط الفاسد المذكور في العقد جار فيه و هو تقييد رضا المشترط له بالشرط الغير السالم له، اللّهم إلّا أن يدّعى الإجماع على عدم الاعتناء بالشرط الغير المذكور في العقد. و أمّا الصورة الأولى فلا إشكال في فساد المعاملة فيها لما فرض من عدم القصد فيها إلى حقيقة المعاملة فهو رشوة محضة بصورة المعاملة.» «1»

أقول: ما ذكره من أنّ حرمة المعاملة لأجل الاتحاد مع الرشا لا يوجب فسادها لا يخلو من إشكال، لما مرّ في مسألة حرمة المعاملة لانطباق عنوان الإعانة على الإثم عليها «2» من أنّ هذا إنّما يصحّ في متعلّقات الأحكام أعني أفعال المكلّفين مع

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الشيرازي/ 75.

(2) راجع هذا الكتاب 2/ 375.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 209

..........

______________________________

وجود المندوحة في البين كالتصرف

في أرض الغير مع الصلاة مثلا حيث إنّ الحكمين لا يتزاحمان في مرحلة الجعل و التشريع، و إنّما يجمع بينهما العبد في مرحلة الامتثال بسوء اختياره فلا يسري حكم أحد العنوانين إلى الآخر.

و أمّا في موضوعات الأحكام و لا سيّما فيما إذا لو حظت بنحو العامّ الاستغراقي كالعقود في قوله- تعالى-: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فهي في مرحلة الجعل و التشريع لو حظت مفروضة الوجود، و كلّ فرد منها بعد وجوده في الخارج يصير محطّا لحكم الشارع المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة، فإذا فرض كون العقد بلحاظ وجوده الخارجي مصداقا لعنوان حرام و مبغوضا للشارع كالرشا مثلا فكيف يحكم بوجوب الوفاء به؟! و هل لا يكون هذا الحكم منه نقضا لغرض نفسه؟.

و بالجملة فصحّة المعاملة عبارة عن إمضاء الشارع لها و حكمه بوجوب الوفاء بها، و كيف يعقل إمضائه لما يكون محرّما و مبغوضا له؟!

فان قلت: بين عنوان العقد و عنوان الرشا عموم من وجه فيمكن انفكاكهما خارجا و لا يسري حكم أحدهما إلى الآخر.

قلت: الجعل في قوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و إن كان جعلا واحدا و لكن مقتضى عمومه الاستغراقي تكثّر الحكم بتكثّر أفراد الموضوع فكلّ فرد من العقد بعد تحقّقه في الخارج يصير محطّا للحكم المجعول قهرا، فإذا فرض اتحاده خارجا مع عنوان محرّم مبغوض فلا محالة يكون الحكم فيه تابعا لأقوى الملاكين و يخصّص دليل الآخر.

و العمدة وجود الفرق بين متعلّقات الأحكام أعني أفعال المكلّفين و بين موضوعاتها أعني الأمور الخارجيّة التي يتعلّق بها الأفعال كالعقود في المقام المتعلّق

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 210

..........

______________________________

بها الوفاء الواجب فإنّ المتعلّق للحكم في مرحلة الجعل و التشريع نفس طبيعة الفعل لا وجوده الخارجي، بل وجوده

الخارجي مسقط للحكم، فإذا كان بين الفعلين عموم من وجه كالصلاة و التصرّف في أرض الغير مثلا لم يكن بين الحكمين تزاحم في هذه المرحلة و المكلّف يقدر على التفكيك في مرحلة الامتثال، فلا وجه لتقييد أحدهما بعدم الآخر في مرحلة الجعل و التشريع بعد عدم تقيّد الملاك فإنّه جزاف.

و أمّا الموضوع للحكم فهو عبارة عن الموجود الخارجي الذي يتعلّق به فعل المكلّف، فالملحوظ في مرحلة الجعل و إن كان هي الطبيعة لكنّها جعلت مرآتا لوجوداتها الخارجيّة، و كلّ فرد منها بعد وجوده في الخارج يصير محطّا لحكم الشرع فإذا فرض كون وجوده متحدا مع عنوان محرّم مبغوض فلا محالة يتزاحم الملاكان و يكون الحكم تابعا لأقواهما ملاكا و لازم ذلك التخصيص في دليل الآخر لبّا. و هذا نظير قوله: «أكرم العلماء» و قوله: «لا تكرم الفسّاق» حيث يتزاحم الملاكان ثبوتا فيكون الحكم في مرحلة الجعل تابعا لأقواهما و يتصرّف في دليل الآخر فتدبّر.

هذا كلّه فيما يرتبط بكلام المحقّق الشيرازي في المقام، و قد كان محصّل كلامه نحو تفصيل في الصور الثلاث كما مرّ. و مرّ منّا أيضا ما يقتضيه القاعدة فيها.

و لكن يظهر من المصنّف الحكم بالفساد في الجميع، إذ حكم في الأوليين بكونهما رشوة و قوّى الفساد في الأخيرة أيضا. و يمكن أن يوجّه كلامه بأنّ الملاك في صدق الرشوة حكم العرف لا الدقائق الفلسفيّة، و هم لا يفرّقون في ذلك بين جعل الحكم للراشي عوضا عمّا يعطى، أو شرطا في ضمن العقد، أو كان بنحو الداعي، فكلّ مال يعطى للقاضي لأن يحكم له بحيث لا يعطى لولاه فهو عندهم رشوة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 211

..........

______________________________

و في حكم البيع محاباة بيعه

بثمن المثل مع فرض قلّة المتاع و عزّته بحيث لا يباع بثمن المثل فباعه به بشرط حكمه بنفعه أو وقع بهذا الداعي.

و في حكم بذل العين بذل المنافع مجّانا كسكنى الدار و نحوها لذلك.

قال في مصباح الفقاهة: «و أمّا ما يرجع إلى الأقوال كمدح القاضي و الثناء عليه فلا يعدّ رشوة فضلا عن كونه محرّما لذلك. نعم لو كان ذلك إعانة على الظلم كان حراما من هذه الجهة.» «1»

فائدة: قال في الجواهر: «لو توقّف تحصيل الحقّ على بذله لقضاة حكّام الجور جاز للراشي و حرم على المرتشي كما صرّح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا، لقصور أدلّة الحرمة عن تناول الفرض الذي تدلّ عليه أصول الشرع و قواعده المستفادة من الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل، ضرورة أنّ للإنسان التوصّل إلى حقّه بذلك و نحوه ممّا هو محرّم عليه في الاختيار، بل ذلك كالإكراه على الرشا الذي لا بأس به على الراشي معه عقلا و نقلا.» «2»

و في مصباح الفقاهة: «الظاهر من الأخبار المتقدّمة أنّ منزلة الرشوة منزلة الرباء فكما أنّ الرباء حرام على كلّ من المعطي و الآخذ و السّاعى بينهما، فكذلك الرشوة فإنّها محرّمة على الراشي و المرتشي و الرائش أي الساعي بينهما يستزيد لهذا و يستنقص لذاك.

نعم لا بأس بإعطائها إذا كان الراشي محقّا في دعواه و لا يمكن له الوصول إلى حقّه إلّا بالرشوة كما استحسنه في المستند لمعارضة إطلاقات تحريمها مع أدلّة نفي

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 273.

(2) الجواهر 22/ 145.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 212

..........

______________________________

الضرر فيرجع إلى الأصل لو لم يرجّح الثاني، بل يتعيّن ترجيحه لحكومة أدلة نفي الضرر على أدلّة الأحكام بعناوينها الأوّليّة.»

«1»

أقول: مفاد كلام المستند تعارض الدليلين فيرجع بعد ذلك إلى أصل الجواز، و مفاد كلام مصباح الفقاهة حكومة أدلّة نفي الضرر على أدلّة الأحكام الأوّليّة، و ما ذكره صحيح بناء على كون معنى نفي الضرر نفي الجعل للحكم الضروريّ، إذ معنى حكومة الدليل الثاني على الدليل الأوّل تعرّضه لجهة من الدليل الأوّل لم يكن هو بنفسه متعرّضا له، و من ذلك حيثيّة الجعل فالأدلّة الأوّل تعرّضت لنفس الأحكام المجعولة لا لجعلها و رتبة الجعل قبل رتبة المجعول. و هذا نظير قوله- تعالى-: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» و التفصيل يطلب من محلّه.

هذا.

و يستفاد الجواز في المقام من رواية الصيرفي السّابقة أيضا حيث قال السائل:

فنرشوه حتى لا يظلمنا، فقال عليه السّلام: «لا بأس بما تصلح به مالك» فراجع، «3» بل يدلّ عليه صحيحة محمّد بن مسلم السّابقة أيضا على ما احتملناه من إرادة المنزل الذي سكنه الغاصب عدوانا فيرشوه صاحبه ليتحوّل منه.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 274.

(2) سورة الحجّ (22)، الآية 78.

(3) الوسائل 12/ 409، الباب 37 من أحكام العقود، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 213

[وظيفة من أخذ كلّ ما حكم بحرمة أخذه من الرشوة و غيرها]
[الحكم بوجوب الرّد]

ثمّ إنّ كلّ ما حكم بحرمة أخذه وجب على الآخذ ردّه و ردّ بدله مع التلف إذا قصد مقابلته بالحكم كالجعل و الأجرة حيث حكم بتحريمهما. و كذا الرشوة، لأنّها حقيقة جعل على الباطل، و لذا فسّره في القاموس بالجعل.

و لو لم يقصد بها المقابلة بل أعطى مجّانا، ليكون داعيا على الحكم- و هو المسمّى بالهدية- فالظاهر عدم ضمانه، لأنّ مرجعه إلى هبة مجانيّة فاسدة، إذ الداعي لا يعدّ عوضا، و «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.» (1)

______________________________

وظيفة من أخذ كلّ ما حكم بحرمة

أخذه من الرشوة و غيرها

(1) بعد النبإ على حرمة أخذ الرشوة و الأجرة و الهدية على القاضي أو غيره كان اللازم بيان وظيفة من أخذها. و الكلام تارة في الجعل و الأجرة و الرشوة و أخرى في الهدية، و ثالثة في المعاملة المحاباتية التي تكون بحكم الرشوة.

و المصنّف حكم بوجوب ردّ ما أخذه و ردّ بدله مع التلف إذا كان بنحو المقابلة و المعاوضة كما في الجعل و الأجرة و كذا الرشوة، لأنّها من قبيل الجعل أيضا، و قد ثبت في محلّه أنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده. و استدلّوا لذلك بالإجماع، و حديث على اليد، و قاعدة الإقدام حيث إنّ الآخذ أقدم على ضمان ما أخذ و

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 214

..........

______________________________

عدم كونه مجّانا، و حكم في الهدية بعدم الضمان، لأنّ مرجعها إلى هبة مجانيّة فاسدة، و ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، حيث إنّه لم يقدم على الضمان بل على الأخذ مجّانا، هذا ما ذكره المصنّف في المقام.

و في قضاء المستند: «فرع: يجب على المرتشي ردّها على الراشي و إن بذلها برضى نفسه مع بقاء عينها إجماعا، و الوجه فيه ظاهر، و يجب عليه ردّ عوضها مع تلفها أيضا و إن لم يكن التلف بتفريطه وجوبا فوريّا على المصرّح به في كلام الأصحاب، بل نفي الخلاف بيننا عنه. و عن ظاهر المسالك و غيره إجماعنا عليه، و هو أيضا فيما إذا بذلها من غير رضى الباذل و طيب نفسه ظاهر، و أمّا لو بذلها بطيب نفسه سيّما إذا حكم له بالحقّ فإن ثبت الإجماع على ثبوت غرامتها عليه و ضمانه إيّاها مطلقا و إلّا فللتأمّل فيه للأصل مجال واسع.»

«1»

أقول: مقتضى إطلاق «على اليد» هو الضمان مطلقا، و رضى صاحب المال لا يقتضي جواز التصرّف فيه، لأنّ رضاه كان بعنوان التمليك له رشوة بحيث يتصرّف في ملك نفسه و قد حكم الشارع بفسادها و لم يرض المالك بتصرّفه بعنوان آخر، نعم لو فرض رضاه بذلك بنحو الإطلاق و كيف ما كان حتّى مع فساد الرشوة و عدم الانتقال إليه أمكن القول بجوازه و عدم ضمانه.

______________________________

(1) مستند الشيعة 2/ 527، كتاب القضاء و الشهادة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 215

[البحث حول حديث «على اليد»]

و كونها من السحت إنّما يدلّ على حرمة الأخذ لا على الضمان. و عموم على اليد مختصّ بغير اليد المتفرّعة على التسليط المجّاني. (1) و لذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير هذا المقام.

______________________________

البحث حول حديث «على اليد»

(1) أقول: إطلاق حديث «على اليد» يقتضي الضمان مطلقا، و لكن اتفق الأصحاب على خروج اليد الأمانيّة منه، و كذا التسليط المجّاني من قبل المالك، و لكن يمكن أن يناقش ذلك بأنّ الرضى بالتصرّف في التسليط المجّاني كان في ضمن عقد الهبة فإذا فرض حكم الشارع بفساده ارتفع التسليط المذكور و لم يثبت تحقّقه حتى مع لحاظ فساد العقد.

ثمّ لا يخفى أنّ ضمان اليد ممّا يحكم به العقلاء في روابطهم الاقتصاديّة و استقرّت عليه سيرتهم إلّا في التسليط المجّاني و كذا في اليد الأمانيّة مع عدم التعدّي و عدم التفريط في حفظه.

و أمّا حديث: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» أو «حتّى تؤدّيه» المرويّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يثبت من طرقنا بل من طرق العامّة، و راويه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمرة بن جندب المعلوم حاله. و

اشتهار الاستدلال به من ناحية أصحابنا في الأبواب المختلفة يحتمل أن يكون في المسائل الخلافية و من باب المماشاة معهم لا لإحرازهم صدوره أو وجود حجّة لهم على ذلك.

و الحديث رواه أبو داود في البيوع، باب التضمين في العارية؛ و الترمذي أيضا في البيوع، باب أنّ العارية مؤدّاة؛ و ابن ماجة في الصدقات، باب العارية؛ و أحمد في مسنده، فراجع «1». و الرواية في كتبهم مسندة.

______________________________

(1) راجع سنن أبي داود 2/ 265، الباب 88، الرقم 3561؛ و سنن الترمذي 2/ 368،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 216

..........

______________________________

و بالجملة فالرواية عامّية و راويها عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمرة بن جندب فقط. و إنّما رواها أصحابنا في كتبهم الاستدلاليّة و غيرها مرسلة أخذا منهم. هذا.

و يظهر من شيخ الطائفة «ره» جواز العمل بالأخبار المرويّة من طرق العامّة عن أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة المعصومين من ولده عليهم السّلام إذا لم يكن هنا من طرقنا أخبار تخالفها أو إجماع على خلافها. و يمكن أن يقال بوجود هذا الملاك فيما رووه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا.

قال في العدّة: «و أمّا العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر، فهو أن يكون الراوي معتقدا للحقّ، مستبصرا ثقة في دينه، متحرّجا من الكذب غير متّهم فيما يرويه.

فأمّا إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب و روى مع ذلك عن الأئمّة عليهم السّلام نظر فيما يرويه.

فإن كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه، وجب اطراح خبره.

و إن لم يكن هناك ما يوجب اطراح خبره و يكون هناك ما يوافقه وجب العمل به.

و إن لم يكن هناك من الفرقة المحقّة

خبر يوافق ذلك و لا يخالفه، و لا يعرف لهم قول فيه، وجب أيضا العمل به، لما روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إذا أنزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا إلى ما رووه عن عليّ عليه السّلام فاعملوا به.»

و لأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث و غياث بن كلّوب و

______________________________

- الباب 39، الرقم 1266؛ و سنن ابن ماجة 2/ 802، الباب 5 من كتاب الصدقات؛ و مسند أحمد، 5/ 8 و 13.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 217

..........

______________________________

نوح بن درّاج و السّكوني و غيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم السّلام فيما لم ينكروه و لم يكن عندهم خلافه.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ نوح بن درّاج، أخا جميل بن درّاج كان من الشيعة- على ما قالوا- و لكنّه كان يخفى أمره لكونه قاضيا من قبل الخلفاء. و الظاهر أنّ عمل الأصحاب بأخبار هؤلاء المذكورين كان من جهة الوثوق بصدقهم و إن كانوا من أهل الخلاف.

و لكن سمرة- مضافا إلى فسقه و عداوته لعلىّ عليه السّلام و أهل بيته- كان ممّن يضع الحديث أيضا فقد روى ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي ما ملخّصه:

«إنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مأئة ألف درهم على أن يروي أنّ قوله تعالى: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ يُشْهِدُ اللّٰهَ عَلىٰ مٰا فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصٰامِ. «2» نزل في عليّ عليه السّلام و أنّ قوله تعالى: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اللّٰهِ «3» نزل في ابن الملجم الملعون فلم يقبل منه، فبذل مأتي ألف فلم يقبل، فبذل ثلاثة مأئة

ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل.» «4»

و قتل سمرة ثمانية آلاف رجل من الشيعة في البصرة حين إمارته عليها من قبل زياد في ستّة أشهر.

و سمرة هذا هو الذي كان له عذق في حائط رجل من الأنصار و كان يدخل

______________________________

(1) العدة 1/ 379، في التعادل و التراجيح.

(2) سورة البقرة (2)، الآية 204.

(3) سورة البقرة (2)، الآية 207.

(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/ 73.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 218

[القول باحتمال عدم الضمان في الرشوة مطلقا]

و في كلام بعض المعاصرين: أنّ احتمال عدم الضمان في الرشوة مطلقا غير بعيد معلّلا بتسليط المالك عليها مجّانا. قال: و لأنّها تشبه المعاوضة و «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.» (1)

______________________________

بلا استيذان فشكاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاستدعى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منه أن يستأذن فأبى، فقال له: «خلّ عنه و لك مكانه عذق في مكان كذا» فأبى حتى بلغ عشرة أعذاق فأبى فقال له: «خلّ عنه و لك عذق في الجنّة» فأبى، فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّك رجل مضارّ و لا ضرر و لا ضرار» ثمّ أمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلعت. «1»

و بالجملة فالاعتماد على رواية سمرة مشكل، و قد مرّ أنّ استدلال الأصحاب بها في كتبهم لعلّه كان من باب المماشاة و لا سيّما في المسائل الخلافية مع العامّة.

فما في العوائد من: «أنّ اشتهارها بين الأصحاب و تداولها في كتبهم و تلقيهم لها بالقبول و استدلالهم بها في موارد عديدة يجبر ضعفها» «2» قابل للمناقشة.

و أمّا دلالتها على الضمان فالظاهر عدم الإشكال

فيها، إذ ثبوت مال الغير على اليد تشريعا بنحو الإطلاق ظاهر في ضمانه و كونه على عهدته فيترتّب جميع الآثار: منها وجوب حفظه، و منها وجوب ردّه بنفسه أو ببدله و لا وجه للتخصيص ببعضها. و التحقيق موكول إلى محلّه فتدبّر.

و كيف كان فالعمدة في ضمان اليد بناء العقلاء و استقرار سيرتهم على ذلك، و على ذلك يدور رحى الاجتماع في جميع الأمم.

(1) أقول: لم يظهر لنا المقصود من بعض معاصريه. نعم في الجواهر قال:

«نعم قد يشكل الرجوع بها مع تلفها و علم الدافع بالحرمة باعتبار تسليطه.» «3»

______________________________

(1) راجع تنقيح المقال 2/ 68.

(2) العوائد/ 109، العائدة 33.

(3) الجواهر 22/ 149.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 219

و لا يخفى ما بين تعليليه من التنافي، لأنّ شبهها بالمعاوضة يستلزم الضمان، لأنّ المعاوضة الصحيحة توجب ضمان كلّ منهما ما وصل إليه بعوضه الذي دفعه، فيكون مع الفساد مضمونا بعوضه الواقعي و هو المثل أو القيمة. و ليس في المعاوضات ما لا يضمن بالعوض بصحيحه

______________________________

و لكن هذا غير ما حكاه المصنّف.

و استشكل المصنّف على معاصره بتنافي التعليلين في كلامه، إذ مقتضى التسليط المجّاني عدم الضمان و مقتضى الشباهة بالمعاوضة هو الضمان. و ليس في المعاوضات ما لا يضمن بالعوض. هذا مضافا إلى أنّ التسليط في الرشوة ليس مجانا بل بإزاء الحكم بنفع الراشي.

و في حاشية الإيرواني في توجيه كلام المعاصر المذكور قال: «الظاهر أنّه أراد بالمعاوضة العقد المشتمل على الإيجاب و القبول دون المعاوضة المشتملة على العوضين من الجانبين، فيسلم عن اعتراض المصنّف، و يشهده أنّه ذكر هذا الكلام توطئة لأجل أن يتمسّك بقاعدة ما لا يضمن، فإنّ عنوان هذه القاعدة و موضوعه هو العقد دون المعاوضة، نعم

مبنى كلامه على أن لا تكون الرشوة مختصّة بما كان بإزاء الحكم بل كانت عامّة لما كان بداعي الحكم فالرشوة في كلامه هي عين الهبة في كلام المصنّف.» «1»

أقول: إرادة مطلق العقد بلفظ المعاوضة بعيد في الغاية، كما أنّ حمل لفظ الرشوة على خصوص ما لم يكن بإزاء الحكم أيضا بعيد.

و يحتمل أن يرجع كلام المعاصر المذكور إلى تعليل واحد، لعدم الضمان و هو أنّ المتحقّق في الرشوة حقيقة هو التسليط المجّاني، و ليست هي معاوضة حتّى

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 27.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 220

حتّى لا يضمن بفاسده.

نعم قد يتحقّق عدم الضمان في بعض المعاوضات بالنسبة إلى غير العوض، كما أنّ العين المستأجرة غير مضمونة في يد المستأجر بالإجارة، فربّما يدّعى أنّها غير مضمونة إذا قبض بالإجارة الفاسدة. لكن هذا كلام آخر (1) و الكلام فعلا في ضمان العوض بالمعاوضة الفاسدة.

و التحقيق أنّ كونها معاوضة أو شبيهة بها وجه لضمان العوض فيها، لا لعدم الضمان.

______________________________

يترتّب الضمان بل هي شبيهة بالمعاوضة و لا يجري في مشابه الشي ء حكم نفس الشي ء.

(1) أقول: في هامش بعض نسخ المكاسب هكذا: «قد ثبت فساده بما ذكرناه في باب الغصب من أنّ المراد من: «ما لا يضمن بصحيحه» أن يكون عدم الضمان مستندا إلى نفس العقد الصحيح، لمكان الباء، و عدم ضمان العين المستأجرة ليس مستندا إلى الإجارة الصحيحة، بل إلى قاعدة الأمانة المالكيّة و الشرعيّة، لكون التصرّف في العين مقدّمة لاستيفاء المنفعة مأذونا فيه شرعا، فلا يترتّب عليه الضمان، بخلاف الإجارة الفاسدة فإنّ الإذن الشرعي فيها مفقود، و الإذن المالكي غير مثمر، لكونه تبعيّا، و لكونه لمصلحة القابض فتأمّل.» هذا.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ

فيما تحقّقت المقابلة و المعاوضة كالجعل و الأجرة و كذا الرشوة الواقعة بإزاء الحكم يثبت الضمان. و في مثل الهدية لا يكون ضمان.

بقي الكلام في المعاملة المحاباتيّة بالنسبة إلى ما نقص من القيمة فنقول: قد مرّ

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 221

..........

______________________________

أنّ فيها ثلاث صور: ففي الاولى منها يثبت الضمان، لوقوع ما نقص بإزاء الحكم له، و في الثالثة لا ضمان، لأنها بمنزلة الهدية. و أمّا الثانية ففي مصباح الفقاهة عدم الضمان فيها أيضا. و محصّل ما ذكره: «أنّ غاية الأمر أنّ المعاملة كانت مشروطة بالشرط الفاسد، و قد عرفت أنّ الشرط لا يقابل بجزء من الثمن و أن الفاسد منه لا يوجب فساد المعاملة و إنّما يوجب الخيار فقط للمشروط له.» «1»

أقول: و أمّا على ما ذكره المصنّف سابقا من عدّ ذلك أيضا من الرشوة فمقتضاه الضمان، إذ ظاهر أدلّة حرمة الرشوة هو الحرمة و الفساد معا، و المفروض عدم كونها مجّانا، بل بإزاء الحكم له فيثبت الضمان فتأمّل.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقدار النقص، و أمّا بالنسبة إلى ما بإزاء الثمن فالضمان ممّا لا إشكال فيه، لكونه معاوضة و عدم كونه مجّانا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 275.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 222

[فروع في اختلاف الدافع و القابض]
اشارة

فروع في اختلاف الدافع و القابض لو ادّعى الدافع أنّها هدية ملحقة بالرشوة في الفساد و الحرمة، و ادّعى القابض أنّها هبة صحيحة لداعي القربة أو غيرها (1) احتمل تقديم

______________________________

ثلاثة فروع في اختلاف الدافع و القابض

(1) لا يخفى أنّ لاختلاف الدافع و القابض صورا مختلفة، و المصنّف تعرّض لثلاث صور:

[الفرع الأوّل يتّفقا على عنوان واحد اختلفا في كونه صحيحا أو فاسدا]

الأولى: أن يتّفقا على عنوان واحد كالهبة مثلا و اختلفا في كونه صحيحا أو فاسدا فادّعى الدافع أنّها هدية ملحقة بالرشوة في الفساد و الحرمة، و ادّعى القابض أنّها هبة صحيحة لازمة، مثل أن تكون بداعي القربة أو يكون القاضي رحما له. و لا يخفى اشتراك الأمرين في عدم الضمان مع التلف، لما مرّ من أنّ مالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.

و إنّما يظهر أثر اختلافهما في جواز استرجاع العين و عدمه، فما يظهر من المصنّف هنا من تحقّق الضمان على فرض الفساد إذا كانت الدعوى بعد التلف مخالف لما مرّ منه من عدم الضمان في الهبة المجّانية الفاسدة. هذا.

و معنى ضمان العين كونها في عهدة الضامن، و مقتضاها وجوب حفظها و ردّها إلى صاحبها مع الإمكان و ردّ مثلها أو قيمتها مع الحيلولة أو التلف فهذه أحكام الضمان و العهدة عند العقلاء، و اعتبار العهدة عندهم مغاير لاشتغال الذمّة، إذ العين مع وجودها لا تنتقل إلى الذمّة مع فرض تحقّق الضمان بالنسبة إليها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 223

الأوّل، لأنّ الدافع أعرف بنيّته (1) و لأصالة الضمان في اليد إذا كانت الدعوى بعد التلف.

و الأقوى تقديم الثاني، لأنّه يدّعي الصحّة. (2)

______________________________

(1) قال المحقّق الإيرواني: «إشارة إلى أنّ المدّعي إذا ادّعى ما لا يعلم إلّا من قبله قدّم قوله. و هو غير مرضيّ عند

المصنّف، و قد صرّح في الخيارات بعدم نهوض الدليل على ذلك عموما و إنّما ثبت في موارد خاصّة كإخبار المرأة عن الحمل و الحيض و الطّهر، و ذلك لا يوجب قياس باقي الموارد عليه بعد عدم العلم بالمناط. بل لو صحّ ذلك لزم سماع مدّعي الاجتهاد و الأعلميّة و العدالة، إلّا أن يمنع كون ذلك ممّا لا يعرف إلّا من قبله فإنّ كلّ ذلك يعرف بآثارها.» «1»

أقول: الظاهر أنّ الأخذ بقول المدّعي فيما لا يعرف إلّا من قبله أمر عقلائي استقرّ عليه سيرتهم، و إلغاء الخصوصيّة من الموارد المذكورة غير بعيد.

نعم الظاهر اختصاص ذلك عندهم بصورة عدم كون المدّعي ممّن يتّهم بالكذب و الخلاف في أقواله و أفعاله.

(2) قد تقرّر في محلّه أنّ من طرق تشخيص المنكر في المرافعات كون الشخص ممّن يطابق قوله للأصل فيقدّم قوله بعد حلفه مع فرض عدم البيّنة لصاحبه. هذا.

و في مصباح الفقاهة: «و قد يقال هنا بالضمان، لعموم قاعدة اليد، لأنّ وضع القابض يده على مال الدافع محرز بالوجدان، و عدم كونه بالهبة الصحيحة الناقلة محرز بالأصل فيلتئم الموضوع منهما و يترتّب عليه الحكم بالضمان. و لا يعارض ذلك الأصل بأصالة عدم الهبة الفاسدة، لأنّها لا أثر لها.» «2»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 27.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 276.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 224

و لو ادّعى الدافع أنّها رشوة أو أجرة على المحرّم، و ادّعى القابض كونها هبة صحيحة (1) احتمل أنّه كذلك، لأنّ الأمر يدور بين الهبة الصحيحة و الإجارة الفاسدة.

و يحتمل العدم، إذ لا عقد مشترك هنا اختلفا في صحّته و فساده، فالدافع منكر لأصل العقد الذي يدّعيه القابض لا لصحّته فيحلف على عدم وقوعه. و

ليس هذا من مورد التداعي كما لا يخفى. (2)

______________________________

أقول: المفروض في الصورة الأولى- كما عرفت- توافقهما على وقوع الهبة المجّانيّة و إنّما اختلفا في صحّتها أو فسادها فلا وجه فيها للضمان، أمّا مع الصحّة فواضح، و أمّا مع الفساد، فلما ثبت من أنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.

و بالجملة فعدم الضمان في المقام ممّا يقطع به و إنّما يثمر النزاع- كما مرّ- بالنسبة إلى جواز استرجاع العين و عدمه مع وجودها.

[الفرع الثاني ادّعى الدافع أنّها رشوة أو أجرة على المحرّم، و ادّعى القابض كونها هبة صحيحة]

(1) هذه هي الصورة الثانية من صور الاختلاف، و المصنّف احتمل فيها تقديم قول من يدّعي الصحّة. ثمّ قال: «و يحتمل العدم، إذ لا عقد مشترك هنا.»

أقول: الظاهر أنّه لا يشترط في جريان أصل الصحّة وجود عقد مشترك بينهما، نعم لا يثبت بهذا الأصل كون الواقع هبة صحيحة حتّى يترتّب عليها عدم الضمان، و على هذا فمقتضى عموم «على اليد» بضميمة أصالة عدم التسليط المجّاني هو الحكم بالضمان. إلّا أن يقال- كما قيل-: إنّ شمول العامّ للمقام يتوقّف على إحراز وقوع اليد على مال الغير. و استصحاب بقاء المال على ملك مالكه لا يثبت حال اليد الخارجيّة و أنّها وقعت على مال الغير غير مجّان حتّى يحكم بالضمان.

(2) في حاشية المحقّق الإيرواني: «لعدم معارضة هذا الأصل بأصالة عدم

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 225

و لو ادّعى الدافع أنّها رشوة، و القابض أنّها هدية فاسدة لدفع الغرم عن نفسه- بناء على ما سبق من أنّ الهدية المحرّمة لا توجب الضمان- (1)

ففي تقديم الأوّل، لأصالة الضمان في اليد، أو الآخر، لأصالة عدم سبب الضمان و منع أصالة الضمان؟ و جهان، أقواهما الأوّل. (2)

______________________________

العقد الذي يدّعيه الدافع، لأنّ الضمان لا يترتّب على

وجود ذلك العقد كي يرتفع بعدمه، بل يترتّب على اليد. نعم خرج من عموم «على اليد» يد كانت بتسليط المالك مجّانا، و الأصل عدم هذا التسليط، لكن تقدّم ما في هذا الأصل فراجع.» «1»

أقول: أراد بذلك أنّ أصالة عدم التسليط المجّاني لا تثبت حال اليد الخارجيّة و أنّها وقعت على مال الغير غير مجّان فالتمسّك فيه بعموم «على اليد» تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص فيشكل الحكم بالضمان فتأمّل.

[الفرع الثالث اتفقا على فساد العقد غير أنّ الدافع ادّعى ما يوجب فاسده الضمان]

(1) هذه هي الصورة الثالثة من صور الاختلاف في المقام اتفقا فيها على فساد العقد غير أنّ الدافع ادّعى ما يوجب فاسده الضمان كالرشوة أو الأجرة الفاسدة مثلا، و الآخذ ادّعى ما لا يوجبه كالهدية الفاسدة بناء على عدم الضمان فيها، لعدم الضمان في صحيحها.

و لا يخفى أنّ ثمرة النزاع تظهر بعد تلف المال، إذ قبله يجوز للدافع استرجاع العين كما يجب على الآخذ ردّها لاتفاقهما على فساد المعاملة.

(2) قد قوّى المصنّف في هذه الصورة الضمان، لعموم خبر «على اليد» بضميمة أصالة عدم التسليط المجّاني فيتحقّق موضوعه. و يكون هذا حاكما على

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني 27.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 226

لأنّ عموم خبر «على اليد» يقضي بالضمان إلّا مع تسليط المالك مجّانا، و الأصل عدم تحقّقه، و هذا حاكم على أصالة عدم سبب الضمان فافهم.

______________________________

أصالة عدم سبب الضمان، بل واردا عليها ورود الدليل الاجتهادي على الأصل العملي. هذا.

و لكن في حاشية المحقّق الإيرواني: «بل الأقوى الثاني حذو ما تقدّم في الفرعين، لأنّ أصالة عدم التسليط مجّانا لا تثبت أنّ اليد الخارجيّة ليست يدا مجّانيّة، كما أنّ أصالة عدم وجود الهاشمي في الدار و الكرّ في الإناء لا تثبت كون المولود غير هاشمي

و الماء الموجود غير كرّ، فإذا لم يثبت السلب الناقص بالأصل الجاري في السلب التامّ لم يسع التمسّك بعموم «على اليد» فيرجع إلى استصحاب براءة الذمّة من البدل بعد التلف.» «1»

أقول: محصّل ما ذكره أنّ إثبات السلب الناقص باستصحاب السلب التامّ من الأصول المثبتة و نحن لا نقول بها. و نفس السلب الناقص أعني عدم كون هذا التسليط الخارجي بنحو المجّان ليس له حالة سابقة، إذ من بدو وجوده وجد إمّا مجّانا أو بنحو المعاوضة، اللّهم إلّا على القول بصحّة استصحاب العدم الأزلي في السلب الناقص و لكن نحن منعنا ذلك، لعدم عرفيّته.

و لكن في مصباح الفقاهة سلك في المقام مسلكا آخر فقال في مقام الردّ على المصنّف ما ملخّصه: «يرد عليه أنّ خبر «على اليد» ضعيف السند و غير منجبر بشي ء فلا يجوز الاستناد إليه.

و التحقيق أنّه ثبت في الشريعة المقدّسة عدم جواز التصرّف في مال المسلم إلّا بطيب نفسه، و ثبت فيها أيضا أنّ وضع اليد على مال الغير بدون رضى مالكه موجب للضمان للسيرة القطعيّة، و من الواضح أنّ وضع اليد على مال الغير في

______________________________

(1) نفس المصدر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 227

..........

______________________________

المقام محرز بالوجدان، فإذا ضممنا إليه أصالة عدم رضى المالك بالتصرّف المجّاني تألّف الموضوع من الوجدان و الأصل و حكم بالضمان، و ليس المراد من الأصل المذكور استصحاب العدم الأزلي بل المراد به استصحاب العدم المحمولي و هو واضح، و إن قلنا بحجّية الأوّل أيضا.» «1»

أقول: المصطلح عليه في العدم المحمولي السلب التامّ أعني سلب الشي ء في قبال السلب الناقص أعني سلب شي ء عن شي ء و الظاهر أنّه «ره» لم يرد بها في المقام ذلك، بل أراد به

السلب الناقص بانتفاء المحمول في قبال السلب بانتفاء الموضوع المستعمل في استصحاب الأعدام الأزليّة. فأراد أنّ هذا الشي ء كان للغير سابقا بنحو القطع و أنّه لم يكن في السابق موردا لرضاه في التصرّف فيه فيستصحب هذا السلب فتدبّر. هذا.

و قد ذكر في مصباح الفقاهة في المقام صورة رابعة للاختلاف لا ترتبط بمسألة الرشوة قال: «الصورة الرابعة: أن يدّعي كلّ منهما عنوانا صحيحا غير ما يدّعيه الآخر، كأن يدّعي الباذل كونه بيعا ليتحقّق فيه الضمان، و يدّعي القابض كونه هبة مجّانيّة لكي لا يتحقّق فيه الضمان، فإن أقام أحدهما بيّنة أو حلف مع نكول الآخر حكم له، و إلّا وجب التحالف و ينفسخ العقد، و عليه فيجب على القابض ردّ العين مع البقاء أو بدلها مع التلف و هذه الصورة لا تنطبق على ما نحن فيه.» «2»

أقول: و يظهر وجه ما ذكره ممّا مرّ منه في الصورة الثالثة.

8 شعبان 1418 ه. ق- المطابق ل- 18/ 9/ 1376 ه. ش

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 276.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 277.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.